مستخلصات أبحاث

مستخلصات أبحاث السنة الرابعة والعشرين

العدد 96

من معالم الاقتصاد الإسلامي

د/ السيد عمر

(العدد 95)

ص. ص : 19-40

هذا البحث يدور حول ثلاثة محاور: معالم الاقتصاد الإسلامي ، تأصيل نظري. ولمحات من معالم الدور الاقتصادي للصحابة. وحاجة الواقع الإسلامي للاقتصاد الإسلامي .

ويبدأ البحث بإعطاء مفهوم مبسط للاقتصاد ، وهو : أنه علم اجتماعي يختص بدراسة إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها واستهلاكها . ثم يعرض للمعني اللغوي للفظة ، لينفذ إلي بيان معالم الاقتصاد الإسلامي ، والفوارق التي تميزه عن غيره ، وهي فوارق غير مقصورة علي تفرد الإسلام بنظام الزكاة وأحكام الربا ، بل هناك الفارق الإيماني؛ إذ ينطلق الاقتصاد الإسلامي من التوحيد الخالص كما هو محدد في القرآن والسنة، هذا التوحيد الذي يقوم علي : التسليم بأن الله خالق كل شيء ومالكه علي الحقيقة ، والإنسان مخلوق خلقه الله في أحسن تقويم ، وفطره علي الخير ، واستأمنه علي بعض ما لا قوام له في الوجود إلا به ، من أشياء خلقها الله أيضًا بقدر في كون كل ما فيه يسبح بحمد الله في تناغم وفق سنن كونية .

فالتشريع في الاقتصاد الإسلامي وقف علي الوحي ، وعلي هذا فدور العقل فيه ليس التكوين ، بل الاكتشاف مع البراءة من الهوي والغرض ،ويعالج هذا التشريع أمور المرء في كل أطواره وفي الأنساق ، من الأسرة حتي رابطة الشعوب الآدمية ، وهو يرسم معالم الكسب المشروع وطرقه وآليات حراسته ، ليس علي مستوي الأمة الإسلامية فقط ، بل في علاقتها بالبشرية جمعاء .

والاقتصاد الإسلامي جزء من كلٍِّ في تشريع الإسلام الكامل ؛ فالنشاط الاقتصادي الإسلامي تعبدي ومرتبط بالنية والسعي في سبيل الله ، مرتبط بالسعي علي الصغار والأبوين المسنين وعلي النفس ، فلا موضع لفهم الاقتصاد الإسلامي بعيدًا عن أحكام الشريعة من جهة ، ومقتضيات العقيدة من جهة أخري .

والاقتصاد الإسلامي يقوم علي التوازن بين المتطلبات الروحية والمادية ، فهو يقوم علي مفهوم الفطرة الذي يفترق عن مفهوم الطبيعة في الاقتصاد الغربي ، والفطرة ما دامت مخلوقة فإن لها بداية ونهاية ، وتتوقف بدايتها علي توافر خصائص ، ويرتبط بقاؤها ببقائها، وتزول حتمًا بزوالها ، ويبقي التوحيد بذلك صافيًا بعكس الطبيعة التي يتحايل بها دعاتها للزعم بوجود معني مطلق لا يفني ولا يتحول ، ويفتحون بذلك باب الشرك والإلحاد علي مصراعيه .

والاقتصاد الإسلامي _ أيضًا _ اقتصاد الملاك والعمال معًا، حيث يقوم علي تكافل صاحب المال (المستخلف) مع صاحب القدرة علي العمل (المرزوق بتلك القدرة) وفق منهج المالك الحقيقي الأوحد (الله سبحانه وتعالي ) فالملاك والعمال بل كل الناس _ في النظام الإسلامي _ يجمعهم الاعتبار البشري المتساوي _ ودخول الاستخلاف في الملكية فيصل فارق للاقتصاد الإسلامي عن الرأسمالي والعمالي ، فالاستخلاف يشرك أصحاب الحاجة في المال الخاص والعام ، ويلزم من ينميه بضوابط الحِلّ والحرمة ، ومنفقه بعدم العبث والإسراف والتقتير ، ويقيم ميزانه علي العدل المنبثق من التوحيد وليس علي حيازة السيطرة ولا السعي إليها .

هذا فيما يتعلق بالفارق الإيماني وعناصره، وهناك فارق مفاهيمي ، وهو من أخطر الفروق بين الاقتصاد الإسلامي وغيره ؛ لتعلقه بإشكالية دقيقة، هي الاختلاف التام لمفاهيم محورية تحمل ذات المسميات في منظوره عن منظور غيره ، فالملكية _ مثلاً _ في منظور الاقتصاد الوضعي وظيفة اجتماعية ، أي منحة من المجتمع أو القانون الطبيعي ، وهي في منظور الإسلام شيء مخالف بالكلية ، فهي القدرة الشرعية علي التصرف ابتداء إلا لمانع شرعي ، والملكية علي الحقيقة مقصورة علي الله وحده ، وما يملكه غيره هو مجرد حق التصرف وفق الشرع.

والمصلحة التي يرتبط مفهومها في الاقتصاد الوضعي بالربح أو السعادة أو بتمكين طبقة من مقاليد القوة أو بميزان قوة دولة قومية في مواجهة غيرها _ نجد لها مفهومًا خاصًّا في المنظور الإسلامي يتجه إلي ثلاثة أنواع : مصلحة معتبرة شرعًا ، ومصلحة أهدرها الشرع فصارت مفسدة ، ومصلحة مرسلة.

ومعيار المصلحة في المنظور الإسلامي هو: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، ويطلق علي حفظ الحد الأدني لها المصالح الضرورية ، وعلي الحد الأوسط: المصالح الحاجية ، وعلي الحد الأعلي : المصالح التحسينية .

وكذلك الزكاة تختلف عن الضريبة ، فهي نظام متكامل لتحويل كل أفراد المجتمع إلي مالكين لحد الكفاية علي الأقل ، إن لم يكن لتحويلهم إلي دافعين للزكاة … إن الزكاة ليست مجرد حق للمستحقين من مصارفها ، بل هي _ أيضًا _ عامل قوي في بذل الإنسان جهده لكي يكون من دافعها إلا لسبب خارج عن استطاعته .

وفي المحور الثاني يعطي البحث لمحات عن معالم الدور الاقتصادي للصحابة بوصفهم صفوة الأمة ، والجماعة المنظمة المستقيمة التي تعمل علي إقامة فرائض الاستخلاف ؛ وذلك بالتكافل في الاجتهاد لتعيين أمر الله وريادة الأمة في تنفيذه .

ومن المعالم التي ذكرها البحث لدور الصحابة في مجال الاقتصاد : إدراكهم أن الاقتصاد مجرد كلمة في الجملة الإسلامية ، فعمر يقول : (لا يصلح للوالي أمر ولا نهي ، إلا إذا تحلي بقوة علي جمع المال من أبواب حله، ووضعه في حقه، وبشدة لا جبروت فيها، ولين لا وهن فيه ،وعلم أنه لا أحد فوق أن يؤمر بتقوي الله ، ولا أحد دون أن يأمر بتقوي الله ) . ولقد حدد عمر بن الخطاب أساس طاعة الرعية للحاكم بما يلي : أخذ المال من مآخذه التي أمر الله أن يأخذه منها ووضعه في المواضع التي أمر أن يوضع فيها ، وأن يدر الرزق علي المجاهدين من المهاجرين والأنصار ، وأن يأخذ من أموال المسلمين صدقة يطهرهم بها ، ثم يردها علي فقرائهم ، وأن يوفي لأهل الذمة بعهدهم.

وقد طبقت الصفوة مبدأ التسوية في العطاء بين البشر بصرف النظر عن أي اعتبار آخر فيما هو دون حد الكفاية (المطعم والمسكن والأدوات اللازمة للحرفة التي يعمل بها الشخص ووسيلة الانتقال والتعليم وما يكفي لقضاء الديون والزواج والنزهة والسياحة ) .

قام الصحابة بمحاربة مانع الزكاة وتوظيف أموالها في الوصول بالمجتمع إلي حد الكفاية ، وأرسوا مبدأ المسئولية التضامنية بين الأجيال بعد حد الكفاية ، ووضعوا أربعة ضوابط للتوظيف السياسي للعطاء العام بعد حد الكفاية : البلاء في الإسلام ، والسابقة في الإسلام، والخدمات التي يقدمها المرء للإسلام ، ومطلق الحاجة . وربطوا العطاء بالإيجابية في المشاركة السياسية .

اعتبر الصحابة الأداء الاقتصادي الجيد عبادة ، والنشاط الاقتصادي للمجتمع هو الأصل وما عداه هو الاستثناء ،ومن ثم أكدوا علي حرمة المال الخاص في زمن الاقتتال .

وفي المحور الأخير يحاول الباحث الكشف عن حاجة الواقع الإسلامي الماسة للاقتصاد الإسلامي ؛ لأنه النموذج الذي يتوافق مع البيئة الإسلامية، بل مع كل البيئات ، فالمجتمع الإسلامي جرب كل النماذج ، وأثبتت فشلها ، فلقد أثبتت الدراسات أن المنهج الرأسمالي لا يؤدي _ حالة أخذ الدول النامية به _ إلي تحول ملموس في مستوي معيشة 80% من السكان ، بل يؤدي إلي تدهور مستمر في مستوي معيشتهم.

لقد أدت المناهج المستوردة إلي تمزيق وحدة العالم الإسلامي ، وكرست تبعيته الفكرية ، وزينت استقلاله ، وخلقت إحساسًا موهومًا بمشكلات لا وجود لها إلا بسبب الاستناد إليها ، ومن الأمثلة الصارخة علي ذلك ما يسمي بأزمة السكان في العالم العربي ، وأدت إلي : ارتفاع أعباء المديونية العربية ، وابتزاز الأموال الفائضة … الخ .

ويخلص الباحث إلي أن الاقتصاد الإسلامي فريد من نوعه ، وليس العالم الإسلامي هو المحتاج إليه بل العالم غير الإسلامي أيضًا ، خاصة وأن إرهاصات كثيرة تؤكد فشل النموذج الرأسمالي الذي هدم منظومة التوافق البيئي التي وهبها الله لهذه الكرة الأرضية التي هي ذرة في كون الله .

 

الموسيقى العربية (رؤية فلسفية)

د. بركات محمد مراد

العدد 95

ص. ص :41-86

هذا البحث رؤية فلسفية تأصيلية للموسيقي بوجه عام ،والموسيقي العربية بوجه خاص ؛ لأن الظاهرة الموسيقية ظاهرة بالغة التعقيد ، من حيث : تاريخها ونشأتها ، وآثارها الاجتماعية والتربوية ، ودلائلها الحضارية والقومية ، وتنوعها وارتباطها بغيرها من الفنون ، فالموسيقي لم تنشأ كفن مستقل بذاته كالشعر مثلاً ، ومع ذلك أصبحت أكثر الفنون استقلالاً ، فمع تطور الآلات الموسيقية أصبحت فنًّا خاصًّا قائمًا بذاته له وسائله التعبيرية الخاصة التي يستغني بها عن سائر الفنون .

والموسيقي ناشئة من العاطفة لكي تحرك العاطفة ، فهي في أساسها تعبير عن المشاعر في شكل فني قوام أسلوبه الإيقاع والنغم ، ولكن جذورها متغلغلة في تربة الواقع الفعلي ، فهي نتاج البشرية حين تعلو علي التجربة؛ إذ تتبلور المشاعر في أنغام حسية وإيقاعات متحركة ، تنقلنا إلي قمم شفافة من النشوة الوقتية .

وللموسيقي القدرة علي تخليصنا من القلق والهموم ، وهي وسيلة للاتصال تفوق فعاليتها وقدرتها علي الإثارة الانفعالية ، بل ونستطيع أن ندرك من خلال موسيقي شعب من الشعوب _ إذا كانت صادرة عن أصالة وصدق _ صورة دقيقة ترسم ملامح ودرجة رقيه ، كذلك تقوم الموسيقي بدور مهم في التقريب بين الشعوب ؛ لأنها تنفذ إلي طبائع الجماعات البشرية المختلفة ، وتستخرج منها مكنونها ، وتكشف للآخرين عن جوهرها .

ويعني مصطلح (موسيقي) عند علماء الموسيقي ذلك الفن أو العلم الذي يجمع الأصوات البشرية أو الأصوات الآلية أو كليهما ، وما يصدر عنها من نغم ؛ لكي تكون تشكيلة متنوعة من التعبيرات الجمالية أو المشبعة للعاطفة ، تنبع من نظام عقائدي كامن في أساس ثقافة معينة .

وقد انتقل هذا المصطلح من اللغة اليونانية إلي اللغة العربية علي يد المسلمين الذين عاشوا في القرن الثامن حتي القرن العاشر ، عبر التاريخ الإسلامي .

واهتمام العرب بالموسيقي قديم ؛ لارتباط الشعر العربي بالبحور والإيقاعات الموسيقية المرتبطة بهذا الشعر، ولارتباط الموسيقي باللغة العربية التي هي لغة موسيقية تعتمد علي الأذن والسماع ؛ لارتباطها بالقرآن الكريم الذي يحدث ترتيله إيقاعًا موسيقيًّا تتردد أصداؤه بين القارئ والسامع ، وهو وجه من وجوه القرآن الكريم المعجز ، ولعل  هذا هو الذي حدا برسول الله صلي الله عليه وسلم أن يقول لأبي موسي عبد الله بن قيس الأشعري ، ذلك الرجل حسن الصوت : (يا أبا موسي لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود) .

ولم يجد المسلمون غضاضة في الاهتمام بالموسيقي والغناء ، خاصة عندما تكون طريقًا إلي تهذيب النفس ، أو مصاحبة لمناسبات اجتماعية ودينية عزيزة ، وقد بلغ اهتمامهم أن أجادها الخلفاء والأمراء ، أمثال الواثق بن المعتصم الذي كان يقول عن الغناء : (إنما هو فضلة أدب وعلم مدحه الأوائل، وكثر في مكة والمدينة) يشير بذلك إلي الغناء العربي المتقن الذي كان ثمرة المجتمع الإسلامي الأول لا الغناء المنحدر المتدهور.

وهناك مستويات متدرجة للموسيقي، تأتي التلاوة القرآنية علي قمتها ؛ حيث حازت علي أعلي   درجات الأهمية والقبول … ولكن لم يحدث أن اعتبر المسلمون هذا الترتيل ضربًا من ضروب الموسيقي رغم تطابقه مع كل مواصفات التعريف التي أشرنا إليها سابقًا . ومن المستويات الموسيقية التي تقترب من الترتيل القرآني : الأذان وتهليل الحجيج وما يتغني به من مديح لله تعالي أو النبي صلي الله عليه وسلم . وهناك ثلاثة مستويات أخري تعتبر حلالاً من الناحية الشرعية : أولها : تشمل ضروب الموسيقي العائلية وموسيقي الحفلات، مثل: أهازيج النوم للأطفال وأغاني النساء وموسيقي الأعراس والاحتفالات الدينية والعائلية . وثانيهما : الموسيقي المهنية ، وتشمل أغاني القوافل ، مثل : الحداء والرجز والركبان وترانيم الرعاة . وآخرها : موسيقي الحرب الجماعية التي تستخدم لتحميس الجنود في  المعركة . وكلما التزمت هذه الموسيقي بالمثل الأخلاقية والجمالية للمجتمع زادت درجة تقبلها . ثم تأتي الموسيقي المرتبطة بأصول جاهلية غير إسلامية علي مستوي دون ذلك . وأحط المستويات الموسيقية تلك الموسيقي المثيرة للشهوات التي يرتبط أداؤها بالممارسات المنكرة ، مثل : شرب الخمر والمسكرات والفسق والفجور وغيرها ، وقد أجمع المسلمون علي رفضها .

ثم تعرض البحث لأبرز مؤلفات العرب في الموسيقي ، وهي مؤلفات للعلماء والأدباء والفقهاء ، بداية من العصر الأموي الذي ظهر فيه أول كتاب عن الأصوات والغناء عنوانه (كتاب النغم) واستمرت حركة التأليف قرونًا عديدة وحتي يومنا .

وحاول البحث أن يعرض لتجارب العلماء والفئات الإسلامية مع الموسيقي، فعرض لتجربة الغزالي الذي ألف كتابًا رائعًا عنوانه (آداب السماع والوجد) حيث رأي أن الصوت الجميل يثمر في القلب ثمرة تسمي (الوجد) وأيقن أن السبيل إلي استثارة القلوب والنفوس هو الصوت الجميل . وعرض كذلك لتجربة الصوفية الذين أغنوا الغناء والموسيقي في العالم العربي بمختلف المقامات والأنغام ؛ لأن انتشار طرقهم ومجامعهم في مصر والشام والعراق وفارس وتركيا والهند قد ساعد علي التداخل والتمازج بين ألوان الغناء والموسيقي في هذه الأقطار ، كما أنهم بحكم اتصالهم الوثيق بالعامة وتغلغلهم في مختلف الطبقات الشعبية قد أتاحوا الفرصة لظهور أصحاب الأصوات والمواهب الفنية من أبناء هذه  الطبقات في حلقات  الذكر ومحافل الإنشاد .

ويقف الباحث عند تجربة التوحيدي   في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) الذي يتحدث فيه عن الموسيقي والغناء ، ومشاهداته للمغنين والغناء ، وهيئاتهم ، وحركاتهم في التمهيد للغناء ، وفي  أثنائه ، وأثر الغناء علي السامعين … ويشير الباحث أيضًا إلي اهتمام التوحيدي بالموسيقي وتقديره لها ، وبيانه فائدتها للحياة وأثرها في تهذيب النفس واستشعار الجمال ، وسمو الإحساس والمشاعر .

ويري الباحث أن الموسيقي تعبير جمالي يتبدي في أسلوب تشكيلها ، في توافقها وتقابلها ، في تحليقها واقترابها ، وفي قوتها المتزايدة والمتلاشية . ومن ثم فالموسيقي رفيعة القدر من حيث القيمة الجمالية لا القيمة الفنية التشكيلية فحسب ، وذلك إذا كان لها صلة وثيقة بالقيمة الأخلاقية في معناها الواسع .

وينهي الباحث بحثه ببيان مميزات وخصائص الموسيقي العربية ، ليختم قائلاً : لابد أن يكون من أولويات السياسية الثقافية في عالمنا العربي والإسلامي مبدأ الحفاظ علي التراث التقليدي ، وعلي هذه الجذور الأصيلة في صور  مدروسة علميًّا ؛ لكي تظل محفوظة بصورها النقية وبنفس آلاتها وجمالياتها ،ولكي تظل المعين والمنبع الذي تستقي منه عناصر التطوير والإبداع العربي …. والإصرار علي أن يكون تعميق التراث الموسيقي من الأركان الرئيسية في الدراسات الموسيقية التخصصية في معاهد الموسيقي العربية ، علي أن يكون الاهتمام منصبًّا بشكل خاص علي مقومات التراث وإمكانات استلهامه استلهامًا يوائم بينها وبين التأثيرات الغربية الوافدة ، ويصنع من تضافرهما نسيجًا سداه التراث ، ولحمته من مخيلة المبدع ، وخبرته بالغرب وبغيره، وناتجة عن إبداع فني صادق يمكن أن يرقي حقًّا للعالمية .

 

تجديد الفكر الاجتهادي

أ.د / جمال الدين عطية

العدد 96

ص. ص :31-50

يتعرض هذا البحث لقضية تتعلق بالاجتهاد الذي يظن معظم العلماء المعاصرين أن المطلوب منه حاليًا يقتصر علي الإفتاء في المسائل المستجدة كأحكام التأمين ونقل الأعضاء ، مما تقوم به المجامع الفقهية المعاصرة .

وقد قام الباحث في سبيل عرض هذه القضية بإطلاله موجزة بحث فيها عددًا من المسائل المحورية :

الأولي : توسيع مجال الاجتهاد عن المفهوم التقليدي الفقهي ؛ لأن الاجتهاد قرين الإبداع ، أو هو نوع من أنواعه في مجال خاص ، ومن مجالات الاجتهاد التي حددها الباحث : الاجتهاد في المستجدات ، سواء عليالمستوي الجزئي كفوائد البنوك ، أو نقل الأعضاء ، أو التأمين علي الحياة…الخ ، أو علي المستوي الكلي كدور الدولة في مجال الاقتصاد . ومن مجالاته أيضًا : أن يقوم الفقيه المعاصر بالمعالجة الواقعية للأوضاع المعاصرة ، فلا يقف عند البحوث النظرية المثالية ، وإنما ينزل إلي الواقع ليبدي فيه رأي الشريعة.

ويري الباحث ضرورة إعادة النظر مجددًا في المسائل القديمة، فإنه من المقرر أن لتغيير ظروف الزمان والمكان والأشخاص أثره في تغير الاجتهاد والفتوي، ومن ثم فإن حصر دور المجتهد علي الانتقاء من بين الآراء رأيًا يكون أصلح أو أرفق ، أو أنه يختار أحدها دون أن يقول برأي ، يعتبر حجرًا علي المجتهد لا أساس له من الشريعة .

الثانية : الحاجة إلي تجديد المنهج ؛ لأن علم الفقــــــــه الإسلامي المنهجي (أصول الفقه) قد نما وتطور في القرون الأولي ثم توقف عن النمو والتطور ، ومن ثم دعت الحاجة إلي تجديده واستقصاء المسائل التي تحتاج إلي تجديد، وأولي هذه المسائل : تحويل الإجماع والاجتهاد والشوري إلي مؤسسات ، وهي فكرة قديمة ، فقد أنشئ بيت مال الزكاة والمسجد والمحتسب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

الثالثة : موقف المجتهد من النصوص في العصر الحاضر :

ويري الباحث أن يقوم المجتهد : إما بالاستنباط المباشر من النصوص العامة التي قررت العدل والإحسان والرحمة والبر والإصلاح .. الخ ، وإما إقامة نظريات من أحكام الفروع ؛ حيث إن ذلك يجمع بين التقيد بالثوابت من النصوص والمرونة في المتغيرات ، بما يحافظ علي روح الشريعة وليس علي نصها فحسب .

الرابعة : تكوين المجتهدين :

يري الباحث في هذا الشأن : أن المجتهد المعاصر لا يكفيه أن يدرس نتفًا من العلوم التي أصبحت الآن تخصصات عامة ، تشمل تخصصات دقيقة داخل كل منها ، فلابد لوجوده وقيامه بمهمته من إعداده تخصصيًّا لا في الجانب الشرعي فحسب ، وإنما في جانب التخصص الذي يتجه إليه ، سواء في الاقتصاد أو الطب أو الاجتماع أو علم النفس ، أو غير ذلك من المجالات .

الخامسة : العلة والحكمة :

وهي مسألة من مسائل التجديد في أصول الفقه تتمثل في اللجوء عند القياس إلي الحكمة من حكم الأصل لتطبيقه في الفرع إذا لم تحقق العلة الحكمة المقصودة… وهذه المسألة لم تكن ظاهرة الفائدة في البداية ؛ حيث كانت ظروف الحياة  قريبة من ظروف عصر الرسالة ، بحيث  يسهل وجود نص تقاس عليه الوقائع الجديدة ، ولكن مع تطور الحياة وجدت وقائع بعيدة كل البعد عن الاشتراك في علة حكم الأصل ، ومن هنا بدأ التفكير في صورة جديدة من صور القياس .

السادسة : الاستنباط من القواعد:

تنحصر فائدة القواعد في ضبط أحكام الفروع التي تنطبق عليها ، والقاعدة أغلبية ، بمعني أنها لا تنطبق علي جميع الفروع ، وكون القاعدة مبنية علي الأغلبية لا يفيد أكثر من كونها ظنية، ولكن هذا لا يقدح في صلاحيتها للاستدلال والاستنباط .

السابعة : تطوير مباحث مقاصد الشريعة :

فمنذ كتاب الموافقات للشاطبي الذي يعتبر قفزة في تاريخ المقاصد كتب كلٌّ من : الظاهر بن عاشور ، وعلال الفارسي في منتصف هذا القرن في الموضوع نفسه ، ثم تجدد الاهتمام فصدرت خلال السنوات العشرة الأخيرة عدة كتب وبحوث وما زال الاهتمام متواصلاً ، كما كتب الباحث في الآونة الأخيرة كتابًا تناول فيه كيفية تطوير مباحث مقاصد الشريعة.

الثامنة : الاستدلال بالمقاصد :

وهذه المسألة تتعلق بالاستدلال بالمقاصد عن طريق المصالح المرسلة ، فعلي سبيل المثال : أصل حفظ العقل بتحريم شرب الخمر الذي يمكن نقل حكمه بطريق القياس العادي إلي باقي أنواع المسكرات بجامع الإسكار بينهما ، ويمكن التوسع ، فينقل حكم التحريم إلي كل ما يؤثر في العقل _ وإن لم يسكر _ كالمخدرات … إلخ .

التاسعة : علاقة أصول الفقه بالعلوم الأخري :

ويري الباحث أن علم العقائد هو أعلي العلوم ،  يليه العلم الخاص بالقيم الأخلاقية العامة ، ثم النظرية العامة للشريعة شاملة علم أصول الفقه ، ثم تأتي باقي العلوم الشرعية وغير الشرعية، ومع ما ينتج عن هذا الترتيب من تأثير العلم الأعلي علي العلم الأدني منه مرتبة.

هذه بعض أهم النقاط التي عرض لها الباحث تدور حول ما يطلق عليه البعض تجديد أصول أو الاجتهاد في أصول الفقه، ويري الباحث أنها مسألة مشروعة ، فليس  هناك مبرر للانزعاج من بحثها ، كما يحدث لكثير من العلماء المعاصرين.

 

اتجاهات حديثة في الخدمة الاجتماعية الأمريكية

  • العوامل الروحية في الخدمة الاجتماعية

د/ إبراهيم عبد الرحمن رجب

العدد 96

ص. ص:81 – 98

يبدأ الباحث بحثه قائلاً : تتميز الخدمة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية بالدينامية والتطور المستمر ، والذي يتجلي بوضوح في سرعة استجابة المهنة للتغيرات الاجتماعية التي يموج بها المجتمع الكبير من حولها ، وسرعة متابعة ، واستيعاب المشتغلين بتعليمها لكل جديد من التطورات والبصائر العلمية التي تظهر في العلوم الاجتماعية ومهن المساعدة الاجتماعية الأخري ، كما يتجلي في سرعة استجابة ممارسيها لما تدعو إليه عمليات المراجعة المستمرة لمدي فاعلية المهنة في تحقيق أهدافها من تعديلات ؛ مما انعكس بوضوح علي الثراء العظيم للكتابات المهنية التي تسجل تلك التطورات المستمرة ، سواء في التنظير أو في الممارسة .

ثم يعرج الباحث علي قضية البحث الأساسية ألا وهي قضية العوامل الروحية والدينية في الخدمة الاجتماعية في الولايات المتحدة ، وهي ليست وليدة اليوم ؛  إذ بدأ الاهتمام بها منذ العقدين الماضيين اللذين شهدا ظهور عدد هائل من المقالات التي نشرت في الدوريات العلمية الشهيرة في محيط الخدمة الاجتماعية ، كما شهدا إجراء عدد كبير من البحوث وعقد العديد من المؤتمرات حول الموضوع ، إلا أن السنوات الخمس الماضية قد شهدت عددًا من التطورات الهامة التي تعتبر علامات بارزة علي الطريق لهذا الاتجاه الحديث ، تدل علي أن المهنة قد أدركت أن أخذ العوامل الروحية والدينية في الاعتبار في ممارسة وتعليم الخدمة الاجتماعية هو الضمان لتحقيق المهنة لفاعليتها في تحقيق الأهداف التي يتوقع المجتمع منها أن تحققها، ثم شرع الباحث في بيان أهم هذه المعالم .

وينتقل الباحث إلي بيان مراحل تطور العلاقة بين الدين والنواحي الروحية والخدمة الاجتماعية ، وهي مراحل ثلاث : مرحلة الأصول الدينية الطائفية ، ومرحلة المهنية والعلمنة ، ومرحلة عودة الاهتمام بالنواحي الروحية من جديد .

ولقد حاول كاند أن يتتبع الطرق التي يستخدم بها المشتغلون بتعليم الخدمة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية اصطلاحات النواحي الروحية والدينية ، فوجد الأخصائيين الاجتماعيين قد كانوا في الماضي أكثر استخدامًا لاصطلاح الدين من اصطلاح العوامل الروحية ؛ لأنهم كانوا ينطلقون عادة من تقاليد دينية محددة ، كالمسيحية أواليهودية ، ولكنهم منذ الستينات قد بدءوا يوسعون نطاق اهتمامهم ؛ ليمكنهم الاستجابة للتنوع الكبير في المعتقدات الدينية الأخري الموجودة في الولايات المتحدة كالبوذية والهندوسية والإسلام ، ومن هنا بدأ مفهوم العوامل الروحية يصبح أكثر في الكتابات المهنية.

وقدمت فنسنتيا جوزيف عام 1987م تعريفًا للعوامل الروحية علي أنها (البعد الكامن وراء الوعي ، الباحث عن المعني ، الباحث عن الوحدة مع هذا الكون ومع كل الأشياء ، والذي يمتد ليشمل استشعار المتعالي ذي القوة الأعلي منا) .

وبطبيعة الحال فإن العوامل الروحية معنية بالجوانب الروحية لخبرتنا ، وبهذا المعني الضيق فإن العوامل الروحية تشير إلي المكون الروحي لخبرة الفرد أو الجماعة ، فالروحية هنا تشير إلي بحث الإنسان عن الشعور ، بمعني العلاقات المشبعة أخلاقيًّا بين الإنسان  وغيره من الناس، شمولاً للكون المحيط ، وكأساس لوجودنا في هذه الحياة .. سواء فهم الفرد ذلك في إطار الإيمان بوجود الله ، أو عدم الإيمان ، أو الإلحاد ،أو أي توليفة من هذه جميعًا.

وعن ممارسة الخدمة الاجتماعية في ضوء التوجه الروحي يقول الباحث : (الممارسة الواعية بالعوامل الروحية هي علاقة مساعدة يرتبط فيها النمو الشخصي والنمو المهني للأخصائي الاجتماعي الذي يدخل في حوار مع العملاء حول الأطر الأخلاقية والمعنوية التي يتبنونها ، وحيث يدرك الأخصائي الاجتماعي قيمة مختلف التعبيرات التي يعبرون بها عن النواحي الروحية _ الدينية منها وغير الدينية ، بما يدعم التواصل إلي حلول خلاقة للأزمات الحياتية التي تواجههم ، مع الاتصال بالموارد الروحية المتنوعة المطلوبة وفق حاجة العملاء ) .

 

الهجرة السياسية في الإسلام

النظرية والواقع والأسئلة

د/ على القريشي

العدد 96

ص. ص:51-80

الهجرة _ كما يعتبرها الباحث _ ظاهرة شهدتها البشرية منذ القدم ، ولم يزل الناس أفرادًا وجماعات في حركة مستمرة يتنقلون من مكان إلي آخر ، فالبعض يترك وطنه لجفاف يحدث أو قحط أو زلزال يقع ، أو فيضان يجري ، أو أمراض فتاكة تحل ، أو نحو ذلك من الظروف والكوارث الطبيعية ، بينما يترك آخرون مواطنهم بحثًا عن مراكز الرزق أو لتحسين مستوي المعيشة . وتعد ظروف العمل التجاري ومقتضياته من أسباب الهجرة أيضًا . وثمة فئة تشد الرحال إلي بلاد أخري لأسباب علمية.. ولكن هناك أسباب أخري للهجرة تتميز بارتباطها بالمعتقد أو الرأي ، حيث يترك عدد غير قليل من الناس أوطانهم لأسباب دينية أو فكرية أو سياسية .

وهجرة المعتقد والرأي تأخذ منحيين هما: المنحني التبشيري الذي يتجلي حين يؤمن الإنسان بعقيدة أو رسالة ويسعي إلي التبشير بها. والمنحي السياسي الذي يحدث نتيجة لقهر أو ضغط تمارسه السلطة الحاكمة علي المهاجر لأسباب سياسية بصفته يحمل عقيدة ، أو تصورًا سياسيًّا مخالفًا لعقيدة أو تصور السلطة.

ولهذا المنحني من الهجرة حالتان : الأولي : طابع سلبي يتمثل في الوضع الذي يجد فيه الشخص المخالف نفسه، في وضع المطارد أو المحاصر. والثانية: ذات طابع إيجابي يتمثل في وضع الشخص الذي يري أن بلدًا ما يتجسد فيه النموذج العقيدي أو السياسي أو الحضاري الذي يؤمن به .

وتقوم الدراسة في هذا البحث علي الهجرة بمنحناها السياسي بحالتيه : السلبية والإيجابية ، فيعرض للهجرة السياسية في الإسلام _ النظرية والمضمون.

والهجرة في مدلولها السياسي الإسلامي تعني مغادرة المسلم للأرض التي يستوطنها والمجتمع الذي يعيش فيه إلي أرض ومجتمع آخرين ؛ وذلك  تعبيرًا عن رفض الاندماج بالنظام السياسي القائم ومعارضة الحالة السياسية القائمة التيتمارس في ظلها المظالم والمفاسد، وتنتهك عبرها الحقوق والحريات . كما تتجلي هذه الهجرة علي مستوي آخر في الحالة التي يُعبر من خلالها عن تحديد مركز الانتماء السياسي ، وذلك بالإسهام الفعلي والالتحام العضوي في بناء المشروع الحضاري الإسلامي  في المكان الذي تتوفر فيه شروط (دار الإسلام) .

وعلي هذا الأساس يمكن القول بأن الهجرة السياسية الإسلامية تنطوي علي النوعين : السلبي والإيجابي ، اللذين يمكن وصفهما بـ (هجرة الاستضعاف) و( الهجرة إلي دار الإسلام) .

وهجرة الاستضعاف تقع في ظل النظم التي يجد فيها المسلم الملتزم صعوبات في ممارسة الفروض والواجبات الشرعية ، أو يلقي في إطارها التعسف والاضطهاد أو المطاردة والحصار ؛ فيصير البحث عن مكان آخر لا مفر منه.

إن هجرة الاستضعاف قد تتم باتجاه موطن غير إسلامي ، كما فعل أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم في بداية الدعوة حينما هاجروا إلي الحبشة . كما يمكن أن تتم باتجاه موطن تتوفر فيه شروط دار الإسلام إذا ما وقع الاستضعاف والقهر علي المسلم في بلده. والهجرة في ظل الأوضاع السياسية ضمن هاتين الحالتين تبدو ملزمة ، ولكن في حالات قد لا تكون الهجرة مستحسنة حتي مع الاستضعاف ، إذا كانت تلك الهجرة تمنح الأعداء فرصة التمكن فوق الأرض علي النحو الذي يهدد الوجود الإسلامي : عقيدة أو جماعة .

ويحاول الباحث أن يبرز المعطيات التربوية والحركية للهجرة السياسية  في حالة الاستضعاف : المعطي التربوي الصياني ، والمعطي التربوي النمائي ، المعطي الحركي التغييري .

أما الهجرة إلي دار الإسلام فتعد مدرسة لترسيخ الهوية وتعميق الانتماء ، فضلاً عن كونها إطارًا عمليًّا لتنمية الشعور العالي بالمسئولية وتأكيد روحية النضال، والتضحية . فالمهاجر في كل ما يتركه وراءه من أهل وأرض إنما يمارس فعلاً قويًّا علي صعيد نمو الذات وترقية المسلك الإسلامي الذي يجسد الانحياز الحاسم للمشروع الحضاري ومرتكزه الكياني (دار الإسلام) .

ومن المعطيات التربوية والحركية للهجرة إلي (دار الإسلام) : أنها تعبير عن سلوك جهادي لا يلجأ إليه إلا الناس المبدئيون الذين لا يبالون بما يلحق بهم من خسائر مادية أو ما يلاقونه من مشاق ومتاعب ، وأنها تأكيد لمبدأ التآخي الذي ينطوي علي الموالاة والنصرة ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ، {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُون} .

وإذا كانت الهجرة ظاهرة وحكمًا شرعيًّا ، قد ارتبطت بحالة تاريخية هي هجرة المسلمين من مكة إلي الحبشة في مرحلة الاستضعاف ، وهجرة المسلمين من مكة إلي المدينة أثناء قيام الدولة الإسلامية ، فإن تكرار هذين الظرفين في العصر الحديث ليس بمستبعد ، بل هما حقيقة عاشها بعض المسلمين في عصور مختلفة ، كما يعيشها البعض منهم في أكثر من مكان في أيامنا ، فهناك هجرة معاصرة .

علي أنه ثمة نماذج سلبية تفرزها هذه الهجرة ، ولا يمكن التغاضي عنها ، من تلك النماذج: المهاجر التاجر ، والمهاجر المشغول بالزعامة، والمهاجر النفعي ، والمهاجر المفتون، والمهاجر السائح ، والمهاجر المنعزل ، والمهاجر المنان ، والمهاجر بالصدفة ، والمهاجر المتسول ، ويبقي النموذج الإيجابي من الهجرة المعاصرة ، وهو المهاجر في سبيل الله.

والمهاجر في سبيل الله هو المؤمن الذي يرفض التعايش مع الكفر أو الظلم، ويأبي التكيف مع حالات القهر والفساد ، ولا يسكت عن انتهاك الحرمات أو العدوان علي الحقوق والحريات ؛ لأن البقاء في ظل واقع كذلك وحالات كتلك يتطلب منه أن يكون مقاومًا أو شهيدًا ، وإلا فالهجرة إلي حين .

ويثير الباحث في نهاية البحث إشكاليات الهجرة ، أولاً : إشكاليات الاستيطان في موطن الهجرة الإسلامي ، وبخاصة في العصر الحاضر ، إذ الهجرة تنطوي علي بعض الإشكاليات التي تدفع أكثر الدول إلي الأخذ ببعض التحفظات والشروط إزاء السماح بها، فإن شمول دار الإسلام بهذا الأمر لا يلغي أصل المبدأ وما يترتب عليه من استقبال وإيواء واستيعاب وبذل وإخاء . وثانيًا : إشكاليات الاستيطان في موطن الهجرة غير الإسلامي، وهنا ينبه الباحث بأن المهاجر الذي لا يمكنه تجاوز فتنة الاغتراب ، ولا يقوي علي الالتزام التام بدينه وسلوكياته في البلدان غير المسلمة، فإن الأولي به ألا يهاجر إلي تلك البلدان ابتداء ، وعليه أن يختار بلدانًا أخري ليس فيها مثل تلك الابتلاءات الخطيرة ، بخاصة إذا كان يعيل أولادًا ذكورًا أو إناثاً ، ولا يضمن مع تلك الابتلاءات استمرار تنشئتهم علي خط التدين ، والاستقامة فمن وجد نفسه في مأزق كهذا ، لابد أن يحزم أمتعته ويهجر ذلك الموطن إلي حيث المكان الذي يأمن فيه علي دينه ودنياه .

 

الوسط: (مفهومه . مجالاته . تحديده) في الاقتصاد الإسلامي

أ.د / نعمت عبد اللطيف مشهور

العدد 96

ص. ص : 99-126

إن المدخل القيمي للمنظور الإسلامي في رسالته الحضارية للأمة يشتمل علي العديد من العناصر متتابعة الحلقات ، متراكمة المستويات ، تكون فيما بينها إطارًا معياريًّا للظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، خصت الباحثة منها بالدراسة مبدأ الوسط ؛ ذلك أن الأمة الإسلامية تنفرد بهذه القيمة التي لم تكن لأمة من قبل ، فلم يرد في الكتب المقدسة أو الشرائع السابقة  علي الإسلام أن وصفت أمة بأنها أمة وسط، وصبغت هذه الخصيصة جميع مفاهيمها الدينية والدنيوية ، وكل تصرفات أفرادها وسلوكهم .

وتحاول الباحثة في ورقتها البحثية هذه الوصول إلي معيار للوسط الإسلامي يمكن بواسطته تحديد الوسط لكل المتغيرات والعلاقات والتصرفات الاقتصادية ، وذلك من خلال التعرف علي :

1_ مفهوم الوسط الإسلامي .

2_ مجالات الوسط .

3_ تحديد معيار الوسط .

4_  تطبيق معيار الوسط في الاقتصاد الإسلامي .

1_ مفهوم الوسط الإسلامي :

أ _ الوسط في اللغة : وسط الشيء _في لغة العرب _  ما بين طرفيه وهو منه، وكل موضع صالح فيه فهو وسط ، والوسط – أيضًا – هو المعتدل من كل شيء .

ب _ الوسط في الاصطلاح : معناه الاعتدال والبعد عن الغلو ، ويأتي في معني الأفضل ؛ إذ إن الوسط بطبيعة الحال محمي من العوارض والآفات التي تأتي أطراف الشيء، وقد استعمل الوسط في الفضائل ، ثم صار وصفًا للمتصف بالفضائل .

ج_ الوسط في القرآن الكريم : جاء ذكر الوسط في القرآن الكريم بصور مختلفة في خمسة مواضع : الأول : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَـــــــاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: 143) أي متوسطين بين الغلو والتفريط .والثاني : {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْـوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (المائدة : 89) أي من خير ما تطعمون أهليكم . والثالث : {حَافِظُوا عَلَي الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَي} ، حيث إن الصلاة الوسطي هي أفضل الصلوات وأعظمها أجرًا ؛ ولذلك خصت بالتنبيه علي المحافظة  عليها ، وقيل : إنها وسط بين الصلوات . والرابع : {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} (القلم : 28) أوسطهم : أمثلهم وأعدلهم قولاً، وأصدقهم. والخامس: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (العاديات : 5) ، توسطن بهذا الوقت جموع الأعداء ، فالوسط كما ورد في القرآن بمعني التوسط في المكان والمكانة أو الترتيب ، وورد بمعني الأفضل والأمثل والأكثر خيرًا، وهو الغالب .

2_ مجالات الوسط :

أ_ مجالات الوسط في المفهوم الإسلامي ، وتتضح روح الوسط  ومفهومه في مختلف المجالات: العقيدية والعلمية والتشريعية والأخلاقية .

ب _ مجالات الوسط في الاقتصاد الإسلامي ، وتتجلي في : مجال المصالح والحريات الاقتصادية ،ومجال الحقوق والواجبات الاقتصادية ،ومجال الملكية ، ومجال الموازنة بين حق كل من البائع والمشتري، ومجال الإنفاق من حيث : عدم الإسراف أو التقتير ،  والموازنة عند الإنفاق بين مصالح الدنيا وثواب الآخرة.

3_ تحديد معيار الوسط :

الوسط الإسلامي ليس نقطة يمكن تحديدها رقميًّا، تنطبق في جميع الأحوال والأزمنة ، وإنما هو تحقيق إشباع المقاصد الشرعية داخل المساحة الممتدة ، بين كل من الحدين الأدني (الضروريات) والأعلي (التحسينات) مع محاولة توسطهما، والوصول قدر الطاقة إلي الالتزام بالمستوي الأوسط (الحاجيات الكفائية ) ،ويرتبط المدي اتساعًا وضيقًا بالظروف والإمكانيات الزمانية والمكانية للفرد والجماعة .

4_ تطبيق معيار الوسط :

إن تحديد معيار الوسط الإسلامي بمدي وليس برقم محدد أو نقطة معينة، قد يزيد من جدوي تطبيقه علي المتغيرات الاقتصادية ؛ حيث يسمح لها بالتكيف مع مختلف الظروف المكانية والزمانية بما تحمله من اختلافات في مستويات الأسعار والتكنولوجيا ، فعند تطبيق معيار الوسط علي الاستهلاك يعمل علي المحافظة علي المقاصد الشرعية من : دين ، ونفس ، ونسل ، وعقل ، ومال ، مع إشباع الحاجيات ثم التحسينات كذلك. وعند تطبيقه علي الإنتاج ، يكون الإنتاج الوسط هو الذي يوجه إلي إنتاج السلع اللازمة للمحافظة علي المقاصد الشرعية. وعند تطبيقه عتلي الإنفاق ، يتحقق الوسط في الإنفاق بتحقيق مقاصد الشريعة فيما بين مستوي الضروريات ومستوي التحسينات، حتي لا يدخل المال دائرة الاكتناز والبخل والتقتير المذمومة أو يقع في دائرة الإسراف والتبذير والسفه المذمومة .

وتخلص الباحثة إلي أن الوسط ،  ليس مجرد التوازن بين أطراف متنافرة ، وإنما هو الوضع الأمثل والأفضل لكل فكر وعمل يتمسك بهذه القيمة ، كما أنه سمة أمة الإسلام ، فتبين الآيات والأحاديث أن قيمة الوسط تحكم مختلف مجالات الفكر والعمل الإسلامي ، ويتضح ذلك بصورة خاصة في مجالات الاقتصاد الإسلامي ، بما يحقق الخير لطرفي عملية اقتصادية ما، ويعتبر معيار الوسط الإسلامي الوسيلة التي تعيننا علي التعرف علي الوسط لكل متغير اقتصادي ، فهو المدي الذي يشمل تحقيق مقاصد الشريعة بعيدًا عن التقصير الذي يهدد بالهلاك ، لعدم تحقيق الضروريات ، وبمنأي عن الإفراط والإسراف المهلكين للموارد والمجتمعات، ذلك مع محاولة الالتزام بالمستوي الأوسط للحاجيات الكفائية ، والذي يمثل جوهر الوسط الإسلامي ، ويتيح معيار الوسط في مجال الإنفاق : التعرف علي الوسط الإنفاقي بالنسبة لمن لا تجب عليهم الزكاة ، ولمن يجب عليهم هذا الإنفاق الإلزامي ، بم يحقق كفايتهم في المحافظة علي دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم ومالهم في حدود دخولهم الحلال ، وفقًا لنوعية السلع المتوافرة ومستويات الأسعار السائدة .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر