أبحاث

جوانب التربية العقلية والعلمية في الإسلام

العدد 31

إن أهمية التربية العقلية ترجع إلى تقدم المتعلمين في التعليم أولاً ثم الى تقدم في الميادين العلمية المختلفة، ذلك ان التقدم العلمي متوقف على تقدم المتعلمين في التعليم وتقدم المتعلمين في التعليم متوقف على التربية العقلية، ومن ناحية أخرى فإن الثروة العقلية لدى الامة تعتبر في نظر المربين أكبر ثروة ورأس مال للأمة وباعتبار ان التربية أن التربية العقلية تؤدي الى نمو العقول وزيادة القدرات العقلية أو الادراكية فإن التربية العقلية تؤدي من هذه الناحية الى أكبر ثروة وأكبر رأس مال في حياة الأمة.

وقبل الدخول في ماهية التربية العقلية في الإسلام يجدر بنا أن نعرف ماهية العقل لأننا ان لم نعرفه فلا نستطيع تربيته فمعرفة الشيء تسبق استخدامه والاستفادة منه.

وإذا نظرنا الى وجهات نظر الدارسين لماهية العقل وجدناهم يختلفون فيه اختلافاً كبيراً فقديما قسم ارسطو العقل الى ثلاثة أقسام:

الأول:العقل الهيولاني او العقل بالقوة وهو الجزء المستعد من النفس لقبول معاني الأشياء.

الثاني: العقل بالفعل او العقل المستفاد وهو ما يحصل للعالم حين يستطيع ان ينتقل الى الفعل بنفسه أي عند مباشرة العقل للمدركات.

الثالث: العقل الفعال وهو المرتبة التي يصل اليها العقل عندما يدرك تلك المعاني وينتزعها فعلاً عن المدركات الخارجية الحسية. (1)

وقسمة الفارابي وابن سينا تقسيماً مشابهاً لتقسيم ارسطو وتعريفه (2) . وقسمه الغزالي الى قسمين أحهما يراد به العلم بالحقائق. وثانيهما تلك اللطيفة المدركة من القلب (3).

اما رأي المحدثين من علماء النفس في العقل وقدراته فيغلب على تعبيراتهم عن العقل التعبير بالذكاء أو القدرات القلية وهم يختلفون اختلافا كبيراً في ماهيته وقدراته.

فقد عرفه سبيرمان مثلاً بأنه ” القدرة على إدراك العلاقات البسيطة كانت أم صعبة خفية” (4).

وعرفه ” ركس نايت” بأنه القدرة على اكتشاف الصفات الملائمة للأشياء او الأفكار وعلاقتها بعضها ببعض. وعرفه ثورندايك بأنه القدرة على مجرد تكوين ترابطات. واقترح ثلاثة مستويات للذكاء المجرد، والذكاء الاجتماعي والذكاء الميكانيكي، ويتضمن النوع الأول استعمال جميع الرموز اللغوية كالأرقاموغيرها. والذكاء الاجتماعي هو القدرة على تفهم الناس ومسايرتهم والفرق بينهما ان الأول موروث بينما يرجع الثاني الي الاكتساب. أما الذكاء الميكانيكي فهو السمة التي تنمو خلال ما يمنح للفرد من فرص تعليمية نتيجة لميوله وذلك على أساس من الذكاء الفطري أو الطبيعي. وعرفه فريمان بأنه القدرة على التعلم .والثالث : أنه التفكير المجرد . والرابع : انه القدرة الكلية لدى الفرد على التصرف الهادف والتفكير المنطقي والتعامل المجدي مع البيئة (5).

ويرى ادوارد كلاباريد ان الذكاء هو القدرة على المعرفة والقدرة على التكيف مع الواقع (6).

واوسع تعريف لمفهوم الذكاء تم على يدي ثيرستون على انه قدرة القدرات وموهبة المواهب والمحصلة العامة لجميع القدرات المعرفية الأولية (7).

ويمكن إجمال رأى المحدثين دون الخول في كثرة من التفصيلات التي توجد في كتب علم النفس بأن الذكاء او القدرة العقلية لها صفات منها الادراك بوجه عام واستيعاب المعلومات وحفظها والعمل بمقتضى هذا الادراك وبمقتضى تلك المعلومات وهذه الناحية الأخيرة أميل الى الحكمة لان الحكمة هي العمل بالعلم كما تقتضي الأحوال والمواقف.

أما رأي الإسلام في العقل فقد جاءت نصوص متعددة تعبر عن ان العقل قوة مدركة في الانسان خلقها الله فيه ليكون مسئولاً عن اعماله على أساس قدرته للإدراك والتمييز بين الحق والباطل والخير والشر والحسن والقبح ثم تكليفه بناء على ذلك ان يتبع طريق الباطل والشر والقبح والضلال والانحراف. وعلى الانسان بناء على هذا وذاك ان يستخدم هذه القدرة ويعمل بها كما أرشده خالقه وإلا كانت عاقبته الخسران والهلاك في الدنيا والاخرة ولهذا بين الله تعالى ان سبب الانحراف والضلال هو عدم العمل بمقتضى هدى العقل السليم فقال:

” وقالوا لو كنا نسمع او نعقل ما كنا في أصحاب السعير” (8) وقال تعالى :  يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه” (9) ” أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون” (10)  وتلك الامثال تضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون” (11) ” أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها” (12) ” إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون” وأهم ما يمكن ان نستخلصه من هذه النصوص وغيرها فيما يتعلق بالعقل هو أن العقل قوة مدركة فطرية في الانسان وانه يستعمل لثلاثة معان الأول : الأدراك، والثاني: العمل بمقتضى الادراك وهو العقل العلمي أو الحكمة. والثالث: العقل القلبي.

والفرق بين الادراك العقلي والقلبي.

والفرق بين الادراك العقلي والاراك القبلي هو أن الانسان يحس بالفرق بين الادراكين من حيث ان ما يدركه الانسان بقلبه غير ما يدركه بعقله، وما يدركه بعقله قد لا يدركه بقلبه اذ ان هناك خصوصية لإدراك كل من العقل والقلب فان الإدراك العقلي منطقي تسلسلي واستدلالي بينما إدراك القلب الهامي واضح كالعيان ولهذا عبر الله عن إدراك القلب بالرؤية فقال تعالي:

” ما كذب الفؤاد ما رأى” (14) ولهذا أيضا قال تعالى في الآية السابقة: ” أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها” وجاء في آية أخرى قال تعالى” ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون” (15).، وينبغي ان نفرق هنا بين القلب المادي الجسمي المعروف وبين القلب المعنوي الذى هو جوهر الانسان وحقيقته أوسطه الهام.

اذن رؤية القلب غير إدراك العقل ودليل وجود هذا الفرق تجريبي أكثر من أن يكون منطقياً. فالإنسان أحيانا قد يشعر بحقيقة في نفسه ولا يجد لها دليلاً منطقياً. وبالعكس قد يجد دليلاً منطقياً على فكرة ولا يطمئن اليه قلبه او يقتنع به قلبياً.

وغريب اننا نجد من رجال الفكر ممن يؤيد هذه الفكرة ويقتنع بهذا التفريق بين الادراك القلبي والادراك العقلي من هؤلاء مثلاً الفيلسوف بسكال حيث أنه فرق بين القلب والعقل كوسيلتين للمعرفة قال ” فما نعرفه بالقلب لا ندركه بالعقل وما نبرهن عليه لا نراه ولا نلمسه” (16).

ثم ان هذا التفريق امر هام في التعليم في ميدان التفريق بين ما يتعلم بالعقل وما يعلم بالقلب واخيراً فإن ذلك التمييز بين العقل والقلب امر هام كذلك في ميدان التربية من حيث ان التربية تنمية القدرات والاستعدادات الطبيعية ومنها القدرات العقلية او الادراكية ولكل هذه القدرات وسائلها التربوية الخاصة بها. كما ان لكل منهما اعراضاً مرضية فالعقل يفقد قدرته الادراكية وكذلك القلب ولهذا قال تعالى “انها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور” (17).

ثم أنه من الأمور الضرورية في ميدان التربية العقلية أو الادراكية النظر اليا على انها من الدوافع الطبيعية او الفرية في الانسان (18) مثل دافع الامومة او الوالدية او ما يعبر عنها بالحاجات الأساسية مثل الحاجة الى الغذاء والحاجة الى التناسل او التناكح والحاجة الى الانتماء والعطف. فالحاجة الى المعرفة والاستطلاع ترجع الى هذه القدرة الادراكية واعتبر بعض علماء النفس : الحاجة الى المعرفة والاستطلاع من الحاجات الأساسية الطبيعية للإنسان (19) وعدم تحقيق هذه الحاجة يؤدى الي النقص في النمو العقلي او الادراكي ثم ان اقناع المتربين بذلك له دور كبير في اندفاعهم نحو المعرفة والاستطلاع.

بعد هذه الجولة في مفهوم التربية العقلية يجدر بنا بيان أهم جوانب التربية العقلية الإسلامية. ويمكن ان نبرز اهم جوانبها في النقط الآتية:

جوانب التربية العقلية الإسلامية

أولا: تكوين عقلية علمية مؤمنة:

فكلما ان كل فلسفة أو أيديولوجية اليوم تحاول – عن طريق التربية – تكوين عقلية تفكر بمنطقها وتنظر بمنظارها الى الكون والحياة وتقوم الحياة بمعاييرها. كذلك يجب علينا اليوم ان ننشئ افراد المجتمع ونكونهم عن طريق التربية بحيث يفكرون بالعقلية الإسلامية وينظرون بمنظار الإسلام الى الكون والحياة ويقومون الحياة بمعاييره. فان التربية تكاد تكون فناً أكثر من ان تكون علماً بحتاً تهتم أكثر ما تهتم بتشكيل الافراد وصياغتهم على النحو المراد، فان الفلسفة المادية الملحدة والشيوعية اليوم تستطيع ان تشكل افراد المجتمع حسبما تريد وتشكل عقليتهم بوضع منظار فلسفتها في اعينهم بحيث لا يستطيعون رؤية الحقائق خارج نطاق منظارها وتعتبر كل شيء لا تدخل في إطار ذلك المنظار لا جود لها، وتجعلهم يتحمسون لفلسفتها ويدافعون عنها ويضحون في سبيلها المال والنفس وكل غال إذا اقتضى الأمر.

اننا كذلك يجب ان تشكل ابناءنا ونكون عقليتهم لتصبح عقلية علمية إسلامية بحيث ينظرون الى الكون وما وراه الى الحياة وما بعد الحياة بالمنظار الإسلامي فيستطيعون رؤية الحقائق العلوية المعنوية والسفلية المادية. وكلما ازدادوا نمواً من الناحية العقلية والعلمية يستطيعون رؤية الحقائق اكثر ورؤية ادلة الله على الكون اكثر ثم يزدادون ايماناً ورسوخاً في العقيدة وتحمساً لها ودفاعاً عنها وتضحية في سبيلها، عندئذ تتحقق مظاهر اهل العلم في سلوكهم وفي قدرتهم على رؤية ادلة الله في الكون اكثر وصدق الله العظيم اذ قال :“ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين” (20).

” وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون” (21)أولئك العلماء الذين ينظرون الى مخلوقات الله بالمنظار الرباني وبنور الله فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ” اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله” (22) وإلا فلماذا لا يرى تلك الآيات أولئك العلماء الملحدون لا يرونها لأنهم لا ينظرون بذلك المنظار الرباني ولا بذلك الشعاع الإلهي وانما ينظرون بالمنظار المادي الأسود. لهذا قال الله تعالى” إنما يخشى الله من عباده العلماء” (23) ولعدم تكوين هذه العقلية العلمية المؤمنة لدى المتعلمين ورجال العلم نراهم لا يزدادون ايماناً بالله وخشوعاً له كلما ازدادوا علماً بل نرى كثيراً منهم يقلون ايماناً وتمسكاً بالدين وخشوعاً من الله ومنهم من يفقد ايمانه لأنه تعلم في تلك البلاد الأجنبية التي يوضع فيها على اعين المتعلمين ذلك المنظار المادي الاسود او منظار الكفر الذي يجعل الناس لا يرون تلك الأدلة الإلهية في السماوات والأرض ولا في نفسه ولا في أقرب الأشياء اليه.

ثانياً: تكوين بصيرة

فلما انزل الله الكتاب بالحق ” وبالحق انزلناه وبالحق نزل” (24) ورسم طريقاً مستقيماً للناس دعا المعلمين والدعاة الي تبصير الناس ذلك الطريق وتبيان الحقائق المحيطة به وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خير قدوة لهم بذلك حيث قال تعالى : مخاطباً إياه ” قل هذه سبيلي ادعو الي الله على بصيرة انا ومن اتبعني” (25) وقال تعالى”وابصرهم فسوف يبصرون” (26) وقد جاء الإسلام ببصائر من ربكم فمن ابصر فلنفسه ومن عمى فعليها” (27) قال الامام الفخر الرازي في تفسير الآية والبصائر جمع بصيرة وكما ان البصر ام الادراك التام الكامل الحاصل بالعين التي في الرأي  فالبصيرة اسم للإدراك الام الحاصل في القلب قال تعالى” بل الانسان على نفسه بصيرة” (أي له من نفسه معرفة كاملة) واراد بقوله ” قد جاءكم بصائر من بكم”.

الآيات المتقدمة وهي في نفسها ليست بصائر إلا أنها لقوتها وجلالتها توجب البصائر لمن عرفها وقف على حقائقها. فلما كان هذه الآيات أسباباً لحصول البصائر سميت هذه الآيات نفسها بالبصائر والمقصود من هذه الآية دعوة الي الدين الحق وتبليغ الدلالة والبينات فيها. والمراد بالأبصار هنا العلم من العمى الجهل ونظيره في قوله تعالى ” فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور” (28).

وقال تعالى” هذه بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون” (29).

وإذا كانت البصيرة – حسب ما قال الفخر الرازي اسم للإدراك التام او المعرفة الكاملة الحاصلة في لقلب فإن على هذه التربية ان تتناول بالرعاية والتنمية مصدر هذا الإدراك كما تتناول العقل بالتربية. والمعرفة القلبية لا تقل أهمية عن المعرفة العقلية بل قد تكون الرؤية القلبية أكثر وضوحاً من الرؤية العقلية ولهذا عبر الله عن الرؤية القلبية بالبصر.

وكلما كان القلب طاهراً خالياً من الرذائل والذنوب كان أكثر انعكاسا عليه. لكنه إذا أهمل وتصدأ وران عليه ما كان يكسنه الانسان من السيئات فإنه يصبح في حالة لا تعكس الحقائق عليه ولهذا يشبه بعض الدارسين بالمرآة الصافية هي الأفضل في الأصل.

ووظيفة القلب أساساً هي معرفة الهدى والضلالة والحرام والخير والشر ويشير إلى ذلك رسول الله (ص) بقوله ” تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب اشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه بيضاء حتى تصير عل قلبين على ابيض مثل اصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربداً (ممزوجاً بياضة بسواده) كالكوز مجخيا (منكوساً) لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً الا ما أشرب من هواه” (30).

وهذه الحالة الاخرة هي عمى القلب ومما يؤكد ما نقرره هنا من روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بصدد تفسيره قوله تعالى ” ان في ذلك لآيات للمتوسمين”(31) – حيث قال اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ الآية السابقة (32) وروي عنه أنه قال ” أن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم” (33)، قال المنوي في شرح الحديث ” اتقوا فراسة المؤمن أي اطلاعه على ما في الضمائر بسواطع أنوار أشرقت على قلبه فتجلت له بها الحقائق فإنه ينظر بنور الله” أي يبصر بعين قلبه المشرق بنور الله تعالى. وأصل الفراسة ان بصر الروح متصل ببصر العقل في عين الانسان فالعين جارحة والبصر من الروح وإدراك الأشياء من بينهما فإذا تفرغ العقل والروح من اشغال النفس أبصرت الروح وأدرك العقل ما أبصرت الروح. ولما عجز العامة عن هذا شغلت ارواحهم بالنفوس واشتباك الشهوات فشغل بصر الروح عن إدراك الأشياء الباطنية ومن أكب على شهواته وتشاغل من العبودية حتى خلط على نفسه الأمور تراكمت عليه الظلمات كيف يبصر شيئاً غاب عنه. ومعنى المتوسمين في الآية السابقة قال ابن عباس للناظرين وقال مجاهد للمتفرسين (34).

إذن فعلى هذه التربية ان تحافظ على تلك القلوب الطاهرة وابعادها عن الفساد والفتن التي تجعلها مرضية، كما تحافظ على سلامة الصحة وحمايتها من إصابتها من الجراثيم. فالحماية والحفظ واجب تربوي اذ يجب علينا أيضاً حماية العقول من الامراض والمسكرات التي تضرها أو تنقص من فعاليتها. ولهذا ايضاً حرم الإسلام الخمور وكل المسكرات واعتبرت الشريعة حفظ العقل أحد الضروريات الخمسة أو مقاصد الشريعة (35).

وقد اعترف الأطباء واقروا بأن تناول المواد المخدرة احد أسباب الامراض العقلية (36) كذلك قد بين المؤتمر العلمي الدولي المنعقد في بلجيكا عام 1928م أضرار الخمور والمخدرات على عقول المدمنين وذريتهم(37) ثم لم يكتف الأطباء ببيان اضرار المخدرات على العقول بل بينوا أيضاً أضرار الأفكار والنيات السيئة على العقول فقال احدهم ” ولكي نكفل لذواتنا جهازا عصبيا صحيحا وجسيما معافي سليما يجب أن نروض عقولنا على الأفكار الصالحة البريئة من الآثام لأن الأفكار الشريرة الدنسة تضعف العقل وتفسده وتجره الي الجنون ” (38).

ومن هنا ندرك أهمية ما دعا اليه الإسلام من الاستقامة والتقوى ومن النيات والأفكار الصالحة.

وكما يجب تجنب المتربين من أسباب الامراض العقلية، يجب ان نكون عندهم أيضاً الوعى العلمي بأضرار تلك الأمور التي تؤدي الى الامراض العقلية وتعوق نمو العقل وتقدمه في الكشف عن الحقائق .

ثالثا: تعليم الحكمة والتنشئة بها:

وقبل بيان أهمية تعليم الحكمة والتنشئة بها يحسن بنا أن نحدد معنى الحكمة. فإذا نظرنا إلى معنى وجدنا اختلافاً كثيراً بين الدارسين في معناها.

فقد ذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى “يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً” (39) المعاني الآتية: الإصابة في القول والعمل. حكمة العقل في الدين. معرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له. أصل الحكمة ما يمتنع به عن السفه”

وذكر ابن كثير عند تفسير الآية السابقة المعاني الآتية: المعرفة بالقرآن. العلم والفقه والقرآن. خشية الله، العقل، وقال ابن كثير بعد ذلك وقال السدي الحكمة النبوة والصحيح كما قال الجمهور أن الحكمة لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة. (40)

وجاء في دائرة المعارف الإسلامية زيادة إلى ما ذكرنا رأي البيضاوي بأنها استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة عل قدر طاقتها. (41)

وفسرها احد علماء اللغة بأنها ” معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم” (42) وفسرها واحد آخر بأنها ” العدل في القضاء والعلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها” (43) وذكر التهانوي في كتابه كشف اصطلاحات الفنون كثيرا من المعاني لكلمة الحكمة أهمها أنها : علم الحكمة : وتشمل بيان الحكمة العلمية من الحكمة الخلقية والحكمة السياسية والمدنية وبيان الحكمة النظرية ومنها معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به والتكاليف الشرعية ثم قال : هكذا في التفسير الكبير في قوله تعالى ” ذلك بما أوحى ربك من الحكمة” .(44)

ومن تلك المعاني المهمة التي ذكرها التهانوي أيضاً، فائدة ومصلحة تترتب على الفعل ومنها اخيراً المعنى العلمي ” وهو علم بما يكون وجوده بقدراتنا واختيارنا : ومنها المعنى النظري وهو علم بما لا يكون وجوده بقدرتنا واختيارنا (45) والحقيقة ان الحكمة تتضمن معظم تلك المعاني التي ذكرها العلماء ولكن المعاني التي اخصها بالذكر هنا هي ان الحكمة علم على العلم الذى يتناول معرفة قيم الأشياء وقيم المبادئ الإسلامية ومعرفة ما هو ممكن تحقيقه بقدرتنا واختيارنا ومعرفة أسرار الموجودات والقاصد من ايجادها وخلقها على ذلك النحو دون نحو آخر.

ومعرفة ما هو أفضل في كل شيء وفي كل سلوك في الميادين المختلفة والعمل بموجب تلك المعرفة اليقينية الراسخة وتحكيم العقل والإرادة الدينية وتطبيق العلم في المشكلات والقضايا.

وتعليم الحكمة والتنشئة بها مهم في ميدان التربية العقلية، لأنها من الوسائل المهمة والعوامل الدافعة الى تكوين شخصية عاقلة حكيمة يتفاعل مع ما يتعلم من الحقائق العلمية ويندفع الى تطبيقها في حياته العلمية في المجالات المختلفة، ويسعى باستمرار إلى ما هو أفضل في كل شيء، في حق نفسه وحق أمته، ثم أنه لا يخضع في تفكيره وسيره وعلمه لنزواته وشهواته. ولا يكفي مجرد تعليم الحكمة بل لابد مع ذلك من التنشئة بها في مختلف مراحل تربية الانسان، لأن الانسان أن لم يمارسها لا يستطيع ان يكتسبها ولا يستطيع أن يقدر قيمتها حق قدرها. ثم أن التنشئة بها تكون عند المتربي الإرادة الحكيمة التي لا يمكن أن تتكون من الناحية العلمية بدون ممارستها والتنشئة بها.

فإذا ازداد الانسان علما بالحكمة وسلوكا وإرادة يستطيع أن يتصرف تصرفاً حكيما بالرغم من الظروف المختلفة والعوامل الدافعة الى الخروج عن الحكمة عندئذ يحقق مغزى قول الله تعالى :” ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً” وخاصة إذا علم الانسان حكمة المبادئ الإسلامية وقيمتها المختلفة كان اكثر اندفاعاً لها وتمسكاً بها.

ولهذه الأهمية للحكمة ذكرها تعالى مقارناً بالقرآن ومقارناً بالكتب السماوية أيضاً في قوله تعالى ” وإذا علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والأنجيل” 46

ولهذا أيضاً أرسل الرسول بهدف تعليم الكتاب وتزكية النفوس وتعليم الحكمة كما ذكر الله تعالى في قوله”كما ارسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمون الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون” 47

ثم دعا الإسلام إلى أن تكون الدعوة في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة فقال تعالى “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”48  وقد ذكرت كلمة الحكمة في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرة في أماكن مهمة في كل مكان يحمل أسراراً معينة تحتاج الاهتمام بها وأخذ العبرة منها.

ومن تلك الأماكن والمواقع ما ذر في ميدان التربية ومنها في ميدان التربية ومنها في ميدان تربية الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهي قوله تعالى: “ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة”. ومنها ما ذر أيضاً بصدد تربية لقمان الحكيم لابنه حيث قال تعالى ” ولقد آتينا لقمان الحكمة أن أشكر الله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد. وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك الى المصير. .يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ. أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ”49

فإن حكمة لقمان التربوية تظهر في هذه الآيات القليلة الموجزة، وباعتبار ان الحكمة تقتضي معرفة حقيقة  الشيء وأسراره والعمل بموجبها فإن في تربية لقمان تكتنف أسرار تربية الانسان قيادته والتحكم في مسيرته، وما لم يصل الناس إلى سر الشيء لا يعتبرون أنهم قد عرفوا معرفة حقيقية وبدون معرفة حقيقة الشيء لا يمكن الوصول إلى الهدف، ولهذا بالرغم من تقدم الدراسات التربوية في كثير من جوانبها لا يزال الناس لم يكتشفوا حكمة التربية الأساسية أو سر تربية الانسان تربية أساسية ولهذا فغن كليات التربية في العالم لم تستطيع تحقيق أهدافها الأساسية ولم توفق في قيادة الإنسانية قيادة حكيمة ولم تسطيع تلك الكليات تكوين علماء عقلاء وحكماء.

إن سر قيادة الانسان وتربيته وفقا لقمان تكمن في ادخال عقيدة قوية راسخة في قلبه أولا بحيث يؤمن بها ويتفاعل معها. ذلك ان العقيدة قوة محركة وموجهة في الوقت نفسه وهي في الوقت نفسه طاقة قوية لا تنفد تجبر الانسان على السير في طريق معين دون الطرق الأخرى لهذا نجد لقمان الحكيم يبدأ بتربية غبنه أولا بغرس تلك العقيد في نفس ابنه عقيدة التوحيد الخالية من كل شك ومن كل شرك، ويتبع ذلك بذكر أوصاف الله يصور بها عظمة الله وعلمه الدقيق وقدرته الهائلة تصويراً يرتعش له الوجدان وتقشعر له الجلود.

ومن خلال ذلك يبث في روح ابنه مراقبة الله لأفعاله وعدالته في جزائه بحيث لا يضيع عمل مهما كان صغيراً ولا يغيب عنه. وبعد الانتهاء من جانب العقيدة بدأ يعلمه العبادات وفعل الخيرات والامر بالمعروف والنهى عن المنكر والصبر على ما يصيبه في سبيل ذلك من نصب ووصب وجهد وتعب لأن ذلك من الأمور العظيمة.

ثم ينتقل بتعليمه الآداب الاجتماعية وطريقة الكلام حتى المشي في الطرقات.

ثم بعد ذلك ينتقل الى كشف اسرار مخلوقات الله وكيف أنه سخرها لعباده وكيف اسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة، لأن رية كثرة انعم الله يدفعه الى الخضوع له والحياء من عصيانه، وأخيراً ينذره من الجدال بغير علم ومن اتباع طريق بغير هدى ولا كتاب عن طريق إنذار الآخرين الذين يفعلون ذلك.

ومن كل هذا نقرر ان من مميزات التربية العقلية الإسلامي انها تربية حكيمة وهي في الوقت نفسه ميزة للشخصية الإسلامية التي يراد تكوينها عن طريق التربية الإسلامية المتكاملة.

ولهذا كله نرى الرسول (صلى الله عليه وسلم) يشجع على طلب الحكمة قائلاً ” الحكمة ضالة المؤمن انى وجدها فهو احق بها (50) وفي رواية أخرى الكلمة الحكمة ضالة المؤمن (51) وقال ” لا حسد إلا في  اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها (52) وقال أيضا… نعم المجلس مجلس ينشر فيه الحكمة (53) ثم اننا يجب ان نعلم ان من أسباب انصراف كثير من المسلمين في العالم الإسلامي عن التمسك بالمبادئ الإسلامية الجهل بحكمة الاحكام التشريعية لهذا الدين .ولهذا كله يجب الاهتمام بالتربية بالحكمة في ميدان التربية الإسلامية .

رابعا: تكوين العقلية العلمية بتعليم العلوم المختلفة:

ذلك ان تعليم العلوم يؤدى الي النمو العقلي لدى المتعلمين ثم ان العلم له دور كبير في ترقية الحياة الإنسانية وتنويرها وتحقيق الرفاهية وفهم الحياة والكون والوجود ولحقائق كما انه غذاء العقل فإن غزيرة العقل تدفع الانسان الى المعرفة (54)، كيف تدفع كل غريزة في الطبيعة الإنسانية الي ما خلقت من أجله ” وانه الوسيلة الوحيدة لكشف اسرار الكون” وأخيرا فإنه من اهم الرق للوصول الي الله سبحانه وتعالى إذا طلبه الانسان على النهج الإسلامي.

ولذلك شجع الإسلام أولا: على العلم وذلك بوسائل مختلفة منها: عن طريق رفع قيمة العلماء، فقال تعالى ” هل يستوي الذين يعملون الذين لا يعملون” (55) وقال، ” يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات” (56).

وقال الرسول: (ص) ” ان العلماء ورثة الأنبياء” (57) وقال أيضا: ” ان العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ” (58).

واذا كان هناك أمر يمكن أن يفضل به انسان على انسان آخر في نظر الإسلام إنما يكون ذلك بأحد ثلاثة أشياء أحداها بالعلم لما سبق قوله تعالى ” هل يستوى الذين يعملون والذين لا يعملون” والثاني بالأيمان ” يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات” والثالث بالأخلاق ، قال تعالى ” أم نجعل المتقين كالفجار” (59) ” ان الابرار لفي نعيم وان الفجار لفي جحيم” (60)، واذا اجتمعت هذه الصفات في الانسان فهو خير انسان على وجه الأرض بعد الأنبياء فقال تعالى “ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين” (61).

” الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار” (62).

” إنما يخشى الله من عباده العلماء” (63)” وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون” (64) ” وإذا سمعوا ما أنزل الى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين” (65).

ومن تلك الوسائل أيضا تشجيع المتعلمين الى التعليم لأن العلم لا ينال إلا بالسعي والجد في سبيله ومن هنا كان تشجيع الناس الى طلب العلم فقال الرسول (ص) ” من سلك طريقا يلب به علما سهل الله له طريقا الى الجنة” (66) وقال ” ان الملائكة لتضع أجنحتها رضاء الطالب العلم – وفى رواية – رضاء بما يصنع” (67) وطلب الإسلام أن يسعى طلاب العلم الى بلاد أخرى ان احتاجوا فقال تعالى: ” فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون” (68).

وطلب (ص) من أهل البلاد التي يفد اليها طلاب العلم أن يستهلوا لهم السبل للتعلم فقال الرسول (ص) ” ان رجالا يأتونكم من أقطار الاراضين يتفقهون في الدين فاذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا” (69) ومن جهة أخرى طلب من المعلمين أن ييسروا الطرق ولا ينفروا المتعلمين من التعلم فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ” علموا ويسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا” (70)، وقال أيضا ” علموا وبشروا ولا تعسروا واذا غضب احدكم فليسكت” (71)، أي إذا حصل من المتعلم ما يزعج فلا تشتموا ولا تذمروا لأن السكوت يجعله يسكت وهذا أسلوب من أساليب التربية الحديثة في التعليم.

ومن تلك الوسائل كذلك تشجيع المعلمين الى التعليم او تشجيع من يعلم الى ان يعلم، لأن سعي المتعلم لا يكفي إذا لم يجد معلما او ان المعلمين لا يعلمونه” ومن هنا بدأ الإسلام أولا بالتنديد بكتمان العلم، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ” من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيانة بلجام من نار” (72) وقال ” مثل علم لا ينفع كمثل كنز لا ينفق في سبيل الله” (73).

وكان تنديد الإسلام بكتمان علم الدين أشد فقال تعالى ” ان الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ” (74).

” وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينته للناس ولا تكتمونه” (75)

ولم يكتف بمنع كتمان العلم بل شجع على نشر التعلم وتعليم ما يتعلمه وليس من الضروري أن يكون المعلم موظفا في مجال التربية والتعليم بل كل من يتعلم شيئا يتبغى ان يسعى الى أن يعلم ما يتعلمه فمن حضر الى مجلس العلم وتعلم شيئا فعليه أن يبلغه الى من لم يحضر فقال الرسول (ص) ليبلغ الشاهد الغائب فان الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه” (76) وقال الرسول (ص) ” تعلموا العلم وعلموه للناس” (77). فمن يتعلم القراءة فعليه ان يعلمها لمن يجهلها وكل من يصل إلى مستوى من التعليم فعليه أن يسعى الى تعليم ما تعلمه ومن ذلك يقتضي أن يتحول أفراد المجتمع الإسلامي الى معلمين أو متعلمين وهذا خير وسيلة للقضاء على الجهل والامية ومما يؤسف له ان يكون في الأسرة متعلم وتبقى باقي الاسرة جاهلة، فالمتعلم هنا مسئول عن تعليم أسرته بل أفراد أقاربه وجيرانه” ولا ينتظر منه أجرا، لأن الله سيعطيه أجره ان لم يكن في الدنيا ففي الآخرة، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ” ان مما يلحق المؤمن من عمله علما علمه ونشره” (78) وقال أيضا ” أفضل الصدقة ان يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه لأخيه المسلم” (79).

وفي واية أخرى ” من علم علما فله أجر من عمل به لا ينقص من اجر العامل” (80)، وقال أيضا ولئن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل به خير من أن تصلى ألف ركعة” (81).

ودعا الإسلام إلى المساواة في التعليم دون تفريق بين الذكر و الأنثى وبين وضيع وشريف حتى لو كان خادما لأن الامة اذا ارادت ان ترتقى فلا ينبغي ان يترك بعض افرادها جهالا بل يجب ليسير الراكب الى التقدم العلمي ان يسير جميع افراد الامة في نفس الراكب وهذا يقتضى ان يساعد بعضهم بعضا في التعلم ولهذا فقد أوصى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ان يعلم الناس بناتهم وخادماتهم .فقال:  ثلاث لهم أجران واحدهم رجل كانت عنده امة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها” (82) وقال  من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن اليهن فله الجنة” (83).

وأمر الرسول (ص) أن يكون المعلم امينا في التعليم فلا يعلم خلاف ما يعلم ولا يعلم ما يجهله فقال تعالى ” ولا تقف ما ليس لك به علم ان السنع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ” (84) وقال الرسول (ص) ” من أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه” (85).

وخير المعلم هو ان يستفيد من علمه أولا في نفسه وان يفيد غيره. والعالم الخسران هو الذي لا يستفيد من علمه ولا يفيد غيره ولقد ضرب الرسول (صلى الله عليه وسلم) لذلك مثلا طيبا فقال ” مثل ما بعثتني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثر أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الما فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب امسكت الما فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه من دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم” (86).

خامسا: تكوين روح الالتزام بالعلم والمسئولية العلمية أمام الله

ولا يكفي تكوين العقلية العلمية المتقدمة ولا يكفي أيضا لنتقدم علميا واجتماعيا بمجرد إجادة التعلم والتعليم لأنه لن يغير من الأمر شيئا إذا لم نلتزم بما نتعلم في الحياة العلمية، إذ ما الفائدة من أن يصبح الانسان طبيبا مثلا ولا يراعي قوانين الصحة في حياته العلمية وما الفائدة من ان نتعلم مبادئ الاخلاق ثم لا نلتزم بها في حياتنا، ولهذا اذا لم نكون روح الالتزام بالعلم والأخلاق معا فلا ينبغي ان نعلمهم ولا ينبغي أن يتعلموا العلم من غير أخلاق. ولذلك أمر الإسلام بالالتزام بالعلم فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ” تعلموا العلم وانتفعوا به ولا تتعلموه لتتجملوا به”(88).

والانسان سوف يسأل يوم القيامة عن العمل به فقال الرسول (ص)” لا تزال قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما فعل به وعن ماله من اين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما ابلاه” (89) وقال ” يا حملة العلم اعملوا به فغنما العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم وتخالف سريرتهم علانيهم” (90) ثم انذر الإسلام الذين يتعلمون ولا يعلمون بعلمهم بعقاب شديد يوم القيامة فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ط يؤتي بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع اليه اهل النار فيقولون يا فلان مالك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه” (91) وقال تعالى تشنيعا بمثل هذا الأمر”يا أيها الذين آمنوا لم تقولو ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون” (92) وكل هذا مبني على أساس نظرية مهمة وهي الجمع أو الربط بين نظرية المعرفة ونظرية السلوك أو بين المعرفة والعمل بها وبين العقيدة والعمل بمقتضاها ولهذا نجد بصفة عامة في القرآن الاقتران بين الايمان والعمل الصالح أو الايمان والتقوى والمكافأة لمن يجمع بين الامرين فقال تعالى “ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم اجر غير ممنون”(93)  ” ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون”(94) “ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات” (95) لأن العمل هو الدليل على صدق الايمان وهو الذى يجعل الايمان مقبولا، فقال تعالى ” اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه” (96). وكأن الكلم الطيب وهو الايمان لا يصل الي المكان المطلوب إنما يرفعه ويوصله العمل، وقال الرسول (ص) ” لا يقبل ايمان بلا عمل ولا عمل بلا ايمان”(97) ذلك لا خير في ايمان لا يصل الى مستوى يدفعه صاحبه الى العمل بمقتضاه ولا خير في علم كذلك لا يعمل به وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ من علم لا ينفع به فيقول ” اللهم انى اعوذ بك من أربع من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع” (98).

ثم ان العمل يعد اختيارا للمعرفة ولابد من أن يختبر الانسان معارفه ليعرف صحيحها من باطلها. وأخيرا فان العمل وسيلة للتقدم العلمي لأنه يكشف عن الحقائق ويؤدي الى خبرات باعتباره اختبارا وتجربة للمعرفة والعلوم وبخاصة اللوم العلمية لأنها تتقدم بالتجربة ثم ان العمل بالعلم وسيلة لترقيه الحياة الإنسانية المادية منها والمعنوية وهى القصد من التعلم والتعليم وقصد المجتمع أيضا لأنه ينفق كل هذه الأموال في مجال التعليم لا لإيجاد وظائف للمتعلمين ولا لمجرد التعليم دون هدف .. هذا الى ان فائدة العمل في ميدان التعليم انه عامل لترسيخ المعلومات في الذهن لأنك إذا تعلمت بنية العمل فتهتم بالمعلومات وتكررها خوفا من أن يكون هناك نقص أو غموض في المعلومات فتؤدي الى نتائج خاطئة في الحياة.

ولهذا كله يجب أن يضع المتعلم في ذهنه اعتبارا من بداية التعلم العمل بما يتعلم إذا أراد من تعلمه ان ينفع نفسه وأن ينفع أمته وأن يخدم الإنسانية، وإذا أراد ان ينقذ نفسه من مسئولية العمل بالعلم عند الله وأخيرا إذا أراد ان ينال مكافأة وثوابا من الله من تعلمه وعلمه العلمي.

وإلا فليرح نفسه من عناء التعلم ولا يضيع شبابه فيه وينصرف الى عمل آخر وليرح اهله والدولة من تكاليف النفقة على تعليمه….. لأن ما ينفق على تعليمه إنما هو من الأموال العامة أو من أموال الامة عامة.

سادسا: بيان طريقة دراسة الحقائق

من أهم مميزات التوجيه التعليمي في النظرية التربوية الإسلامية انه يوجد المتعلم عند دراسة حقيقة ما إلى ان يدرسها من عدة نواح من حيث ماهية الحقيقة ومن حيث منافعها ثم من حيث دلالتها والدلالة قد تكون صناعية وقد تكون إبداعية أو جمالية.

وتوجيه الإسلام التعلم على هذا النحو له مغزى تربوي وهو أنه لا ينبغي ان يكتفى الدارس بمعرفة ماهية الحقيقة التي يدرسها بل عليه ان يقلب فيها نظراته ويدرسها من حيث مدى ما يمكن الانتفاع بها في المجالات المختلفة ومدى ما فيها من دلالات تدل على الايجاد والصنعة وما فيها من ابتكار إبداعي وجمالي ليغوص بتلك النظرات والدراسات من الظواهر الي البواطن فاذا استطاع الدارس أن ينتقل الى عالم الاسرار يستطيع عندئذ ان يبتكر ويخترع في أي ميدان من ميادين العلم والفن والادب الذى تخصص فيه.

والدراسة على هذا النحو لها مغزى آخر وهو ان التعليم لس الغرض منه مجرد حشو الاذهان وغنما هو إشباع حاجة العقل والقلب والعاطفة ، فإذا وصل المتعلم الى كل هذه الحقائق تنفتح بصيرته وينبض قلبه بالشفافية وترق مشاعره الحساسة وتنتعش حيويته فيشعر بالبهجة وجمال الحياة ومن ثم يجد نفسه في عالم جديد كان لم يكن فيه من قبل يجد فيه كل شيء يرغب فيه ويدرك عندئذ معنى قوله تعالى ” الله الذى خلق السموات والأرض وانزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الانسان لظلوم كفار” (99).

واذا وصل الدارس الى هذا المستوى من الادراك والوعي للعالم المحيط به ووعى ما وراءه من اسرار عندئذ يؤمن ايمانا يقينا ان لهذا العالم خالقا يدبره فلا يمكن ان يوجد بغير الخلق ولا يمكن أيضا ان يدوم امره على هذا النحو بغير تدبيره، وكلما تعمق في العلم وازدادت بصيرته في اسرار العالم وتأمله فيها كلما ازداد خضوعه لله، صدق الله العظيم اذ قال:” إنما يخشى الله من عباده العلماء(100) واذا سمعوا ما أنزل الى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع ان يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين”(101).

هذا هو العالم الذى يريد الإسلام ان تكونه التربية ولا يريد الإسلام ذلك العالم الذي يبتكر ليبيد الناس ولا ذلك العالم الذى يبتكر طرقا لامتصاص أموال الناس ويخترع طرقا شيطانية لإيقاع الناس أو لإزاحة موظف عن وظيفته ليتولى وظيفته، وصدق الرسول (صلى الله عليه وسلم) اذ قال : ” ألا ان شر الشر شرار العلماء وان خير الخير خيار العلماء” (102).

ولنستعرض الآن بعض الآيات القرآنية التي تشير الى لك الحقائق من الجوانب المختلفة فعندما أراد الله ان يبين للإنسان حقيقة من حقائق علم الجيولوجية الذي يقول ان الأرض كانت ميته لم تكن عليها آية ظاهرة حيوية فكانت صحراء ملساء عبارة عن تراب فقط في فترة من الفترات. ثم ظهرت فيها النباتات والحيوانات والانسان انه يثير دهشة العلماء لأنهم يعلمون ان الانسان لم يخلق هذه الحياة والنباتات والحيوانات المختلفة فقال تعالى مبينا قدرته العجيبة والغاية من خلق هذه الأشياء.

” وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمرة وما علمته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما نبتت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون” (103)،” أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون” (104)، ليسأل الانسان نفسه من الذي زرع أول مرة ان كان لابد من زارع.

ولما أراد ان يعبر عن نظام دقيق يقوم على أساسه نظام الأرض والسماء وتدور بها حركة الافلاك بتعاقب الليل والنهار وما يدل ذلك على الصنعة قال” وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فاذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك قدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حي عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون” (105). ” سبحان بل له قانتون (أي تابعون لنظامه) بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون” (106).

ولما أراد ان يعبر عن حقيقة فلكية وهي ان الأرض كوكب في الفضاء ليست مستقرة على شيء وان النظام الإلهي الدقيق هو الذي يجعلها لا تسقط وانه لا توجد هناك قوة تستطيع ان توقفها إذا أراد الله اسقاطها قال الله: ” ان الله يمسك السماوات والأرض ان تزولا (أي من أن تزولا) ولئن زالتا أن امسكهما (أي لا يستطيع أحد امساكها) من أحد من بعده” (107).

ولما أراد ان يعبر عن حقيقة من حقائق علم الاجنة وهى حقيقة خلق الانسان او كيفية تكون الجنين مشيرا الى ما يدل على يد تكونه وتصنعه صنعا عجيبا فقال تعالى “أنا خلقنا الانسان من نطفة امشاج ” (108) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر تبارك الله احسن الخالقين” (109)، ” نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون” (110).

يقول الأطباء ان الجنين يتكون اول مرة من الخلية الحية او الحيوان المنوى الآتي من الذكر ثم يلتحق هذا الحيوان بالبويضة الآتية من الانثى والخلية التي تتكون من اجتماع الخليتين الذكرية والانثوية فيها 48 كروموزوما نصفها من الذكر والنصف الآخر من الانثى وكل كروموزوم يتكون من جينات عديدة وهذه الكروموزومات والجينات الامشاج هي التي تحدد خصائص الطفل الجسمية والعقلية والنفسية الوراثية الآتية من الابوين ثم تنقسم هذه الكروموزومات الى قسمين وعن طريق النمو تصبح 96 ثم عن طريق هذا الانقسام المستمر يكبر حجم النطفة وبعد ان تصبح في اطراف الرحم تتعلق في جدار الرحم ومن هنا تنتقل من طور النطفة الى طور العلقة ومن ثم سميت علقة اشتقاقا من العلوق من معناه التعلق لا من معناه الدم الجامد كما قال المفسرون  لأن النطفة كما يقول الأطباء لا تتحول الى دم جامد كما فسر المفسرون من حقنا أن نقول ان التفسير ينبغي ان يكون متفقا مع اللغة والعلم (111).

ويعد طور العلقة يأتي طور المضغة وهكذا تتسلسل الاطوار الى ان يتكون طفل في احسن صورة وقد أشار القرآن الى تلك الاطوار لأنها مراحل بارزة وعجيبة اذ كيف يتكون الحيوان المنوي في جهاز الرجل وكيف تتكون البويضة في جهاز المرأة ثم عملية التلقيح وتكون خلية واحدة من خليتين فيها امشاج من خصائص الاب والام وتفاعل الامشاج او الكروموزومات والجينات يؤدي الي تكون طفل يتميز عن شقيقه من ان المصنع واحد والمادة واحدة نحن نعلم ان كل مصنع ينتج انتاجاً واحدا من الصناعة طالما المادة واحدة لكن مصنع الله هنا غريب جدا جدا يحير العقل. ثم يسال الله الانسان بعد ان يطلعه على هذه الحقائق وما تدل عليه هل الانسان نفسه هو الذي صع نفسه كلا ثم كلا! اذن هنا يضطر الانسان الى ان يبحث عن صانع وهل يجد غير الله لذلك صانعا ومحكما كما أخبر به عن نفسه ” صنع الله الذي اتقن كل شيء انه خبير بما يفعلون” (112).

أما دلالة الحقيقة الجمالية فلها قيمة من الناحية العافية الجمالية، والإحساس الجمالي موجود في فطرة الانسان وهو حاجة من حاجاته الأساسية وقد وضع بعض علماء النفس حاجة النفس الى الجمال في الدرجة السابعة من الحاجات الأساسية للطبيعة (113). ثم ان الجمال له قيمة فتزيد قيمة الشيء عندما يقدر ما له من جمال الصنع والابداع. فقد يكون هناك شيء مصنوع ليس فيه جمال الصنع ومكن ان يقضي الحاجة لكنا نرجح عليه صناعة أخرى أكثر جمالا وندفع ثمنا زائدا لذلك الجمال. فلو كانت المسألة مسألة مجرد قضاء الحاجة لما دفعنا ثمنا زائدا.

ولقد قدر الله للإنسان هذه العاطفة فزاد في خلقه الجمال لإشباع تلك العاطفة وليزيد تقديرنا لما في خلق الله من دلالة الصناعة والابداع وليزيد احساسنا بنعم الله على الانسان، لأنه كلما زاد إحساس الانسان بنعم الله عليه دفعه الى شكره له.

ولهذا فقد أشار الله تعالى في كثر من الآيات عندما عبر فيها عن حقائق المخلوقات التي خلقها وأبدع ما خلق وما صنع واتقن صنعه وأبدع خلق السماوات   والأرض وزين السماء وأنبت من كل زوج بهيج وما الى ذلك من الأمور التي عالجناها في بحث آخر بعنوان: التربية الإبداعية والجمالية.

سابعا: مراعاة مبادئ التربية العقلية

فإذا لم نراع تلك المبادئ لا يمكن تحقيق الهدف من هذه التربية، وأهم تلك المبادئ هي الآتية:

1) مراعاة النمو الطبيعي والثقافي.

ذلك أننا لا نستطيع ان نعلم أية معلومة أو أية فكرة في أية مرحلة فلابد من مراعاة مستوى المعلومات بالنسبة لمستوى النمو العقلي والعلمي فما لم نراع ذلك لا يستطيع الالب فهم المعلومات والأفكار التي تقدم اليه وذلك يؤدي إلى إعاقة نموه العقلي كما يؤدي الي فقدان الثقة بنفسه وبقدرته العقلية وقد يؤدي الامر أيضا الى الوقوف موقفا سلبيا إزاء تلك المعلومات والأفكار ولهذا قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): وما انت بمحدث حديثا قوما لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة” (114) وقال أيضا ” امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم” (115).

2) التأكيد من استيعاب الطالب للمعلومات واحاطته بها قبل تقديم معلومات جديدة لان عدم وضوحها في ذهنه يجعلها تبقى مشوهة بحيث لا تستطيع تميز بعضها عن بعض ولا يستطيع استخدامها في مواقعها ومواضعها عند اللزوم أو عند التطبيق.

ولهذا فإنن الله تعالى باعتباره مربيا حقيقيا كان يكف للناس الحقائق ويريهم بكل وضوح وبينة فقال تعالى مثلا ” وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ” (116) وقال تعالى “فكشفنا عنك غطاءك فبصبرك اليوم حديد”(117) ثم طلب من رسوله باعتباره رسولا مبلغا ومربيا ان يبصر الناس الحقائق فقال: “وأبصرهم فسوف يبصرون” (118) وذلك ” ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة”(119).

3)  تدريب المتعلمين على ممارسة الأفكار وطرق استخدام المعلومات في الميادين العلمية وعلى حل المشكلات لان قيمة الأفكار تظهر في الميادين العلمية كما أن الممارسة تكشف للمتعلمين مدى فهمهم ومدى استيعابهم الأفكار والمعلومات ومن ناحية أخرى فان الممارسة تنمي القدرات العقلية وتعلم كيف يستفيد الانسان من علمه وثقافته في حياته العلمية ويحل بها المشكلات التي تواجهه. وعندئذ يعرف قيمة العلم في حياة الانسان ويقدرها حق قدرها وأخيرا الممارسة تجعل المتعلم يتذوق العلم أكتر وأكتر.

ولهذا جعل الإسلام المعلم والمتعلم مسئولين عن تطبيق علومها في حياتها العلمية كما بينا.

4)   اثارة انتباه المتعلمين الى تغيرات الطبيعة وظواهرها المثيرة ذلك ان الكون كله طبيعة ميتة اذا نرنا اليه من زاوية الالفة. لكن إذا نرنا اليه واندهشنا له من زاوية نظرة جديدة وكأننا ولدنا فيه من جديد ولم نكن فيه من قبل وجدنا أنفسنا في عالم جديد ووجدنا الكل شيء صورة حية تثير انتباهنا ومشاعرنا وتدفع عقولنا الي البحث عن أسبابها القريبة والبعيدة الى تحركها وتغيرها. وذلك يحرك عقولنا ويوقظها من سباتها وغفلتها. والذين يحيون حياة عقلية نشطة ومتيقظة هم هؤلاء الذين أثارت ظواهر الطبيعة عقولهم ومشاعرهم واحساسهم وقلوبهم، والذين لم يندهشوا ولم تثير عقولهم عاشوا بلداء العقول والمشاعر.

ولهذا كله نجد الإسلام يثير انتباهنا الى الظواهر والقرآن الكريم كتاب الكون والانسان والسنن الكونية والاجتماعية، وقد رأينا أمثلة عديدة في الصفحات السابقة كيف ان هناك كثيرا من الآيات تلفت نظر الانسان الي تلك الظواهر والآيات الكونية.

5)   التوجيه الى الأبحاث العلمية والتشجيع عليها في الميادين المختلفة. لأن الأبحاث تجعل الانسان يكتشف نفسه وقدراته وتجعله يرى الحقائق بنفسه وتكون عنده الثقة عندما يصل الى الحقائق ويكتشفها ويعبر عنها، وذلك من الوسائل التي تدفع الانسان الى الاستمرار في اعمال العقل والبحث عن الحقائق والظواهر المثيرة للانتباه والدهشة. ولهذا نجد في القرآن الكريم دعوة الى النظر والتأمل في الآفاق والسير في الأرض لدراسة آثار الأمم البائدة وأخذ العبرة منها ومن تاريخها.

6)  ارشاد المتعلمين الى طرق تنمية القدرات العقلية وطرق المذاكرة العلمية والى الأغذية الضرورية أو الفيتامينات المهمة التي تساعد على نشاط العقل وحيويته وقدرته على العمل لمدة أطول وإرشاده الى طرق مقاومة النسيان وكلل الذهن وطرق تجنب الامراض العقلية المختلفة، ثم ارشادهم الى طرق التعلم التي تؤدي الى نمو القدرات العقلية والطرق التي تؤدي الى الجمود العقلي ليتبعوا الأولى وليتجنبوا الثانية.

وأخيرا يجب ارشادهم الى أفضل طرق التعلم التي تساعد على الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات في اقل وقت بأقل جهد حتى يستطيعوا ان يتقدموا عقليا وعلميا (120).

الهوامش

1-                كتاب النفس لأرسطو ص 108 ت. الدكتور احمد فؤاد الأهواني. عيسى البابي الحلبي. القاهرة 1949م.

2-                في النفس والعقل لفلاسفة الاغريق والإسلام. ص 203- 211. دكتور محمود قاسم. مكتبة الانجلو المصرية. القاهرة. الطبعة الثالثة.

3-                احياء علوم الدين ¾ مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني. القاهرة.

4-                سيكولوجية الفروق الفردية ص 102. الدكتور يوسف الشيخ – دار النهضة العربية. القاهرة 1964م.

5-                سيكولوجية الفروق الفردية ص 103 وما بعدها. الدكتور يوسف الشيخ.

6-                التربية الوظيفية. ص134. ادوارد كلابارد. ترجمة الدكتور محمود قاسم – مكتبة الانجلو المصرية. الطبعة الثانية – القاهرة.

7-                الذكاء ص 248 دكتور فؤاد البهي السيد – دار الفكر العربي القاهرة 1969.

8-                سورة الملك 10

9-                سورة البقرة 75

10-          سورة البقرة 44

11-          سورة العنكبوت 43

12-          سورة الحج 46

13-          سورة الانفال

14-          سورة النجم 11

15-          سورة الأعراف 179

16-          ” بسكال” ص 135. بقلم الدكتور نجيب بدوي. دار المعارف 2 ط. القاهرة.

17-          سورة الحج 46

18-          الاخلاق والسلوك في الحياة ص 24. وليم مكدوجل. ترجمة جبران سليم إبراهيم. مكتبة مصر 1962م).

19-          الانسان معجزة الخلق ص 93. دكتور جاد فرج جودة، مكتبة الانجلو المصرية. القاهرة 1972.

20-          سورة الروم 2

21-          سورة العنكبوت 43

22-          تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي 8/555 أبواب تفسير القرآن. وأخرجه البخاري في التاريخ وابن جرير والحكيم الترمذي مرفوعا: المكتبة السلفية بالمدينة 1967م.

23-          سورة فاطر 28

24-          سورة الاسراء 105

25-          سورة يوسف 108

26-          سورة الصافات 175

27-          سورة الانعام 104

28-          التفسير الكبير 13/133 -134. الفخر الرازي المطبعة المصرية القاهرة 1933م.

29-          سورة الأعراف 203.

30-          التاج 5/309 كتاب الفن.

31-          سورة الحجر 75.

32-          تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي 8/555 للحافظ أبي العلي محمد عبد الرحمن المبار كفوري.

33-          أخرجه البخاري في التاريخ وابن جرير وابن أبي حاتم والحكيم الترمذي، والطبراني والرازي عن أنس مرفوعا بلفظ ان الله عبادا يعرفون أناس بالتوسم ” انظر شرح الحديث السابق تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي للمبار كفوري 8/555 المكتبة السلفية بالمدينة 1967م.

34-          المرجع السابق 8/555.

35-          الموافقات في أصول الاحكام للإمام الشاطبي /4 وما بعدها. مكتبة صبيح. القاهرة1.

36-          العلاج النفسي. حامد عبد القادر ص 136 دار احياء الكتب العربية بالقاهرة.

37-          آثار الخمور في الحياة الاجتماعية ص 19 دكتور احمد غلوش. من مطبوعات جامعة الدول العربية .

38-          المرشد الطبي الحديث. ص44 ألفه مجموعة من الأطباء .المتبة الحديثة ببيروت.

39-          سورة البقرة 269 تفسير القرطبي 3/330.

40-          تفسير ابن كثير 1/ 334. مكتبة النهضة الحديثة 1 ط القاهرة.

41-          دائرة المعارف الإسلامية 80/14. وزارة الثقافة والإرشاد القومي المؤسسة المصرية العامة 1969م.

42-          لسان العرب انظر كلمة الحكمة.

43-          دائرة المعارف الإسلامية 8/14 – تاج العروس 8/253.

44-          كشاف اصطلاحات الفنون 2/132 تحقيق لطفي عبد البديع. المؤسسة المصرية العامة القاهرة 1963م.

45-          المرجع السابق انظر كلمة حكمة.

46-          المائدة 110.

47-          سورة البقرة 151.

48-          سورة النحل 125.

49-          سورة لقمان 13 – 20.

50-          المقاصد الحسنة 1/191 الامام الحافظ السخاوي. مكتبة الخانجي. القاهرة.

51-          سنن الترمذي 5/51 كتاب العلم باب 19.

52-          تفسير ابن كثير ” تفسير قوله وتعالى” ” ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً” 1/335.

53-          سنن الدرامي مقدمة 28. التاج الجامع الأصول لأحاديث الرسول 1/5 كتاب العلم. الشيخ منصور على ناصف، عيسى البابي الحلبي القاهرة 1961م.

54-          يعتبر علماء النفس غريزة القل من الغرائز الطبيعية في الانسان (انظر كتاب الانسان معجزة الخلق ص 93 للدكتور جاد فرج جودة ص 93).

55-          سورة الزمر (الآية 10).

56-          سورة المجادلة (الآية 11).

57-          التاج 1/63.

58-          المصدر السابق 1/63 كتاب العلم.

59-          سورة ص (الآية 28).

60-          سورة الانفطار (الآية 14).

61-          سورة آل عمران (الآية 114).

62-          سورة آل عمران (الآية 191).

63-          سورة العنكبوت (آية 43).

64-          سورة فاطر (الآية 28).

65-          سورة المائدة (آية 82).

66-          التاج 1/73 كتاب العلم.

67-          سنن ابن ماجه مقدمه ح 226 والتاج 1/63.

68-          سورة التوبة آية 122.

69-          التاج 1/73 كتاب العلم رواه الترمذي.

70-          مسند الامام أحمد 1/ 152 كتاب العلم باب الحث على التعليم ح 18.

71-          المصدر السابق.

72-          الجامع الصغير 2/173 مختصر سنن ابي داود 1/251.

73-          مسند الامام احمد 1/161 كتاب العلم باب في وعيد من تعليم علما فكتمه.

74-          سورة البقرة (آية 174).

75-          سورة آل العمران آية 187.

76-          صحيح البخاري (فتح الباري) 1/ 167 كتاب العلم.

77-          سنن الدرامي مقدمة 1/73 كتاب العلم.

78-          سنن ابن ماجه مقدمة ح 242.

79-          سنن ابن ماجه 1/89 ح 243.

80-          المرجع السابق 1/88

81-          المرجع السابق مقدمة حديث 219.

82-          صحيح البخاري (فتح الباري) 1/200 كتاب العلم باب تعليم الرجل أمته.

83-          سنن أبي داود 4/338 حديث 5147.

84-          سورة الاسراء آية 36.

85-          صحيح البخاري (فتح الباري) 1/169 كتاب العلم.

86-          المرجع السابق (فتح الباري) 1/185 باب فضل من علم وعلم.

87-          سنن الدرامي مقدمة 1/86 كتاب العلم.

88-          سنن الدرامي 1/87.

89-          المرجع السابق 1/110.

90-          المرجع السابق 1/89.

91-          صحيح مسلم بشرح النووي 18/118 كتاب الزهد.

92-          سورة الصف آية 3.

93-          سورة فصلت آية 8.

94-          سورة فصلت آية 18.

95-          سورة الشورى آية 26.

96-          سورة فاطر آية 10.

97-          الجامع الصغير 2/205.

98-          المستدرك على الصحيحين في الحديث 1/104.

99-          سورة إبراهيم الآية 32-34.

100-     سورة فاطر الآية 28.

101-     سورة المائدة الآية 83-84.

102-     سنن الدرامي 1/87 باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله.

103-     سورة يس آية 33- 36.

104-      سورة الواقعة آية 64.

105-     سورة يس آية 36-40.

106-     سورة البقرة الآية 16-17.

107-     سورة فاطر الآية 41.

108-     سورة الانسان الآية 2.

109-     سورة المؤمنون الآية 14.

110-     سورة الواقعة الآية 57-59.

111-     أ-القرآن والطب ص 33 الدكتور محمد وصفي – دار الكتب الحديثة القاهرة،

ب – تكوين الجنين ص 98-الدكتور صلاح الدين سلام. دار المعارف. “ط” القاهرة.

112-     سورة النمل آية 88.

113-     الانسان معجزة الخلق ص 93 للدكتور جاد فرج جودة.

114-     صحيح مسلم بشرح النووي 1/76 صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1/11.

115-     كشف الخفاء ومزيل الالباس 1/225.

116-     سورة الانعام 75.

117-     سورة ق 22.

118-     سورة صافات 175.

119-     سورة الانفال 42.

120-     عالجنا هذا الموضوع وبينا تلك الطرق بالتفصيل في كتاب توجيه المتعلم في ضوء التفكير التربوي والإسلامي. دار المريخ – الرياض 1402هـ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر