أبحاث

الوسطية الإسلامية

العدد 119/120

في الوسطية الإسلامية تتمثل السمة والقسمة التي تُعد – بحق – أخص ما يختص به المنهج الإسلامي عن مناهج أخرى لمذاهب وشرائع وفلسفات، فلقد انطبعت بها الحضارة الإسلامية في كل القيم والمعايير والأصول والمعالم والجزئيات، حتى لنستطيع أن نقول : إن هذه الوسطية، بالنسبة للمنهج الإسلامي وحضارته، هي العدسة اللاّمّة، لأشعة ضوئه وزاوية رؤيته كمنهج، وزاوية الرؤية به أيضاً.

وهي قد بلغت وتبلع هذا المقام، لأنها – بنفيها الغلو الظالم والتطرف الباطل – إنما تمثل الفطرة الإنسانية قبل أن تعرض لها وتعدو عليها عاديات الآفات وعوارضها، تمثل الفطرة الإنسانية في بساطتها، وبداهتها، وعمقها، وصدق تعبيرها عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، إنا صبغة، أراد – سبحانه وتعالى – لها أن تكون صبغة أمة الإسلام، وأخص خصوصيات منهج الإصلاح بالإٍسلام، فقال : ()(البقرة 143).. إنها الحق بين باطلين، والعدل بين ظلمين، والاعتدال بين تطرفين، والموقف العادل الجامع لأطراف الحق والعدل والاعتدال، الرافض للغلو – إفراطاً وتفريطاً – لأن الغلو، الذي يتنكب الوسطية، هو انحياز من الغلاة إلى أحد قطبي الظاهرة، ووقوف عند إحدى كفتي الميزان، يفتقر إلى توسط الوسطية الإسلامية الجامعة، وإمكانات الشهادة والشهود على الأطراف المتقابلين والمختلفين!

وهذه الوسطية الإسلامية الجامعة، ليست ما يحسبه العامة : انعدام الموقف الواضح والمحدد أمام القضايا والمشكلات، لأنها هي الموقف الأصعب، الذي لا ينحاز الانحياز الأسهل إلى أحد القطبين وفقط، فهي بريئة من المعاني السوقية التي شاعت عن دلالات مصطلحها بين العوام.

وهي – كذلك – ليست الوسطية الأرسطية، التي رأى بها أرسطو (384-322ق.م) أن الفضيلة هي وسط بين رذيلتين، فكأنها – في العرف الأرسطي – أشبه ما تكون بالنقطة الرياضية التي تفصلها عن القطبين الرذيلتين مسافة متساوية، تضمن لها التوسط والوسطية، إنها نقطة رياضية، وموقف ساكن، وشيء آخر لا علاقة له بالقطبين اللذين يتوسطهما، وليست هكذا الوسطية في اصطلاح الإسلام.

إنها – في التصور الإسلامي – : موقف ثالث حقّا، وموقف جديد حقاً، ولكن توسطه بين النقيضين المتقابلين لا يعني أنه منبت الصلة بسماتهما وقسماتهما ومكوناتهما، إنه مخالف لهما، لكن ليس في كل شيء، وإنما خلافة لهما منحصر في رفض الانحصار والانغلاق على سمات كل قطب من الأقطاب وحدها دون غيرها، منحصر في رفضه الإبصار بعين واحدة، لا ترى إلا قطباً واحداً ! منحصر في رفضه الانحياز المغالي، وغلو الانحياز ! ولذلك، فإنها – كموقف ثالث، وجديد – إنما يتمثل تميزها، وتتمثل جدتها في انه تجمع وتؤلف كل ما يمكن جمعه وتأليفه، كنسق غير متنافر ولا ملفق، من السمات والقسمات والمكونات الموجودة في القطبين النقيضين كليهما، وهي، لذلك وسطية جامعة، تتميز عن تلك التي قال بها حكيم اليونان.

إن العدل والوسطية هي العدل بين ظلمين – لا يعتدل ميزانه بتجاهل كفتيه، والانفراد دونهما، كما أنه لا يعتدل ميزانه بالانحياز إلى إحدى الكفتين، وإنما يعتدل بالوسطية الجامعة التي تجمع الحكم العادل من حقائق ووقائع وحجج وبينات الفريقين المختصمين، كفتي الميزان، ولهذا كان قول رسول الله r : (الوسط : العدل، جعلناكم امة وسطاً ) – رواه الإمام أحمد، كان التعبير عن حقيقة مفهوم الوسطية في الإٍسلام.

وفي ضوء هذا المضمون الإٍسلامي لمصطلح الوسطية، وهو المضمون الذي ميزها بوصف الجامعة – نقرأ كل الآيات القرآنية التي أشارت إلى هذه الخصيصة من خصائص المنهج الإسلامي في الإصلاح، فأمة الإسلام هم (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)(الفرقان :67) والمنهاج الوسطي في الإنفاق تشير إليه آيات من مثل (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً)(الإٍسراء:26) (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً)(الإسراء: 29) فلا الرهبانية النصرانية والنُسك الأعجمي، ولا حيوانية الشهوانية والتحلل من التكاليف.

وإذا نحن شئنا معرفة الامتياز العظيم الذي تمثله الوسطية الجامعة، وتحققه للمنهج الإٍسلامي في الإصلاح، والشمول الذي تبلغه تأثيراتها – عندما تُراعى وتوضع في الممارسة والتطبيق – فإننا نستطيع ذلك عندما ندرك كيف مثلت هذه الوسطية – وتمثل – بالنسبة للإًصلاح الإسلامي طوق النجاة من تمزق وانشطارية وثنائية المتقابلات المتناقضة، على النحو الذي حدث في حضارات أخرى، وفي الحضارة الغربية على وجه التحديد.

فبهذه الوسطية الجامعة لم يعرف المنهاج الإسلامي التناقض الذي لم يجد له حلاً بين : الروح والجسد.. الدنيا والآخرة… الدين والدولة.. الذات والموضوع.. الفرد والمجموع.. الفكر والواقع.. الأنا والآخر.. المادية والمثالية.. المقاصد والوسائل.. الثابت والمتغير.. القديم والجديد.. العقل والنقل.. الحق والقوة.. الاجتهاد والتقليد.. الدين والعلم.. التجديد والجمود.. إلى آخر الثنائيات، التي عندما افتقد منهج النظر إليها قسمة الوسطية الجامعة، حدث الانقسام الحاد والشهير في فلسفة الحضارة الغربية إلى ماديين ومثاليين، ومادية ومثالية، وعقلانيين ولاهوتيين، وعلماء ومتدينين، وفلاسفة ومؤمنين، منذ الجاهلية اليونانية لتلك الحضارة وحتى نهضتها الحديثة، وواقعها المعاصر.

لقد مثلت الوسطية الإسلامية الجامعة لحضارتنا، ولمنهاج الإصلاح الإسلامي – طوق النجاة من هذه الثنائيات وتمزقاتها وغلوها، ولذلك، كانت المعيار لإسلامية مناهج النظر الفكري، ومناهج الإصلاح بالإسلام.

ولقد تألقت الدعوة الإصلاحية للإمام محمد عبده (1265-1323هـ/1849-1905م) حول بدايات القرن الرابع عشر الهجري – النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي – في واقع حضاري تميز بسيادة الجمود والتقليد في دوائر طلاب العلم الديني – وهو غلو يحجب الدين والإصلاح الإسلامي عن أن يكون هو سبيل الأمة للنهضة والتقدم.

كما تميز هذا الواقع – في ميدان التصوف – بسيادة البدع والخرافات والشعوذات التي حجبت حقيقة التصوف كعلم للمجاهدات الروحية التي تهذب القلوب والنفوس والأرواح.

وكذلك تميز هذا الواقع الحضاري والفكري بزحف النموذج الغربي في التقدم والتحديث على الشرق الإٍسلامي، ذلك النموذج الذي وفد إلى بلادنا في ركاب الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة لعالم الإسلام. وهو نموذج قد تميز بالغلو الشديد، وذلك عندما انحاز إلى عالم الشهادة رافضاً عالم الغيب، وإلى الدنيا في مواجهة الدين، وإلى الفردية في مقابلة الجماعة، وإلى الأرض في رفضه لحاكمية السماء وشريعتها، وإلى المادية والوضعية في مقابلة الروح، وإلى القوة في مواجهة العدل، وإلى الصراع بدلاً من التدافع، وإلى العقل في مقابلة النقل والوجدان، فملأ هذا النموذج الغربي الفضاء الفلسفي والثقافي والسياسي بحشد غفير من الثنائيات المتناقضة التي عبرت وتعبر عن غلو التفريط، المقابل لغلو الإفراط الذي مثله الجمود والتقليد السائدين بين طلاب علوم الدين في شرقنا الإسلامي، بذلك التاريخ.

وإذا كان الجمود والتقليد – وكذلك الخرافة – قد تحصنت في المؤسسات التقليدية الموروثة، فلقد قامت للتغريب مؤسسات صحفية وثقافية حديثة، كان من أشهرها مجلة المقتطف (1293-1371هـ/1876-1952م) وصحيفة المقط (1306-1371هـ/1889-1952م) التي بشرت بالعامية بدلاً من الفصحى، وبالداروينية، والنشأة الذاتية للحياة بدلاً من الخلق الإلهي، وبالعلمانية بدلاً من الشريعة الإلهية، وبالتفسير المادي للنبوات والرسالات بدلاً من الاصطفاء الإلهي والإعجاز، حتى لقد وصف الثائر المجدد عبد الله النديم (1261-1313هـ/1845-1896م) رموز هذا التغريب بأنهم أعداء الله وأنبيائه، الأُجراء الذين انشأوا لهم جريدة جعلوها خزانة لترجمة كلام من لم يدينوا بدين، ممن ينسبون معجزات الأنبياء إلى الظواهر الطبيعية والتراكيب الكيماوية، ويرجعون بالمكونات إلى المادة والطبيعة منكرين وجود الإله الحق – وقد ستروا هذه الأباطيل تحت اسم فصول علمية، وما هي إلا معاول يهدمون بها عموم الأديان([1]) !

ولمجافاة كلا الموقفين – جمود طلاب علوم الدين.. وجحود طلاب العلوم الغربية – لمنهاج الوسطية الإسلامية في الإصلاح والنهوض، كان حرص الإمام محمد عبده على تمييز منهاجه في الإصلاح بسمة الوسطية الإسلامية الجامعة، فكتب عن تميز موقفه ومنهجه ودعوته بهذه الوسطية عن أهل الجمود والتقليد للموروث، وأهل الجمود والتقليد للوافد الغربي.. فقال : (..ولقد خالفتُ في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة : طلاب علوم الدين وم على شاكلتهم، وطلاب فنون العصر ومن هو في ناحيتهم )([2]).

ثم تحدث عن أن هذه الوسطية – التي انحاز إليها، والتي تميز بها منهاجه الإصلاحي – ليست خياراً ذاتيًّا، وإنما هي منهاج الإٍسلام، الذي تميز به عن الغلو الذي أصاب أهل الشرائع الأخرى. فلقد ظهر الإسلام، لا روحيًّا مجردًا، ولا جسديًّا جامداً، بل إنسانيًّا وسطًا بين ذلك، آخذًا من كلا القبيلين بنصيب، فتوافر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره، ولذلك سمي نفسه : دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم، وعدّوه المدرسة الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلّم المدنية([3]).

فالوسطية الجامعة – التي تأخذ من كلا القبيلين بنصيب – هي السمة المميزة للإسلام، وهي السبب الذي جعله دين الفطرة البشرية السوية، فكان – لذلك – سلّم الارتقاء على درب المدنية، بشهادة الخصوم قبل الأصدقاء.

وبهذه الوسطية – الذي تميّز بها الإسلام – تميّزت أمة الإسلام عن أمم الشرائع السابقة، التي حُرَّف بعضها إلى الغلو المادي، وحُرّف بعضها إلى الغلو الروحاني، وبعبارة الإمام محمد عبده : (ذلك أن الناس كانوا قبل ظهور الإٍسلام على قسمين :

قسم تقضي عليه تقاليده المادية المحضة، فلا همّ له إلا الحظوظ الجسدية، كاليهود والمشركين.

وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة، وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية، كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضيات.

وأما الأمة الإسٍلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين، حق الروح وحق الجسد، فهي روحانية جسمانية، وإن شئت قلت : إنه أعطاها جميع حقوق الإنسانية، فإن الإنسان جسم وروح، حيوان ومَلّك، فكأنه قال : جعلناكم أمة وسطاً، تعرفون الحقين وتبلغون الكمالية )([4]).

هكذا أعلن محمد عبده عن أن الوسطية الجامعة هي المنهاج المميز للإسلام وأمته وحضارته، وأعلن انحيازه لهذا المنهاج، والتزامه به في كل ميادين الإصلاح ومنها ميدان العقلانية الإسلامية.

وسطية العقلانية الإسلامية :

ولتميز العقلانية الإسلامية – تاريخيًّا – بالجمع بين صحيح المنقول، وصريح المعقول ن على حد تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية (661-728هـ/1263-1328م) والتأليف بين الحكمة والشريعة على حد تعبير فقيه الفلسفه وفيلسوف الفقه أبو الوليد ابن رشد (520-595ه،/1126-1198م) فلقد كان الإمام محمد عبده – في العقلانية الإسلامية – امتداداً متطوراً لتراث الإٍسلام في هذا الميدان.

فحجة الإسلام أبو حامد الغزالي (450-505هـ/1058-1111م) وهو من بناة الأشعرية وفلاسفتها، هو الذي صاغ قانون الوسطية الجامعة لهذه العقلانية الإسلامية تلك الصياغة النفيسة التي قال فيها : (إن أهل السُّة، اطلعوا على طريق التلفيق –(أي التوفيق) – بين مقتضيات الشرائع وموجبات العقول، وتحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، وعرفوا أن من ظن من الحشوية – (النصوصية الحرفية) – وجوب الجمود على التقليد وإتباع الظواهر، ما أُتوا إلا من ضعف العقول وقلة البصائر، وأن من تغلغل من الفلاسفة وغلاة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أُتوا إلا من خبث الضمائر، فميل أولئك إلى التفريط، وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط، بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

وأنّى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد الأثر والخبر، وينكر مناهج البحث والنظر ؟! أو لا يعلم أنه لا مُستند للشرع إلا قول سيد البشر r ؟ وبرهان العقل هو الذي عُرف به صدقه فيما أخبر ؟ وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر ؟ وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر ؟ أو لا يعلم ان خطو العقل قاصر ؟ وأن مجاله ضيق منحصر ؟ هيهات قد خاب على القطع والثبات، وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات.

فمثال العقل : البصر السليم عن الآفات والآذاء، ومثال القرآن : الشمس المنتشرة الضياء، فأخّلِق بأن يكون طالب الاهتداء، المستغنى بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء، فالمعرض عن العقل مكتفيّا بنور القرآن، مثاله : المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، لا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور، والملاحظ بالعين العور لأحدهما على الخصوص متدل بحبل غرور. وكل ما ورد الشرع به ينظر، فإن كان العقل مجوّزًا له وجب التصديق به قطعاً إن كانت الأدلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها احتمال وجب التصديق بها، وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به، ولا يتصور أن يشمل السمع على قطاع مخالف للمعقول، فإن توقف العقل في شيء من ذلك، فلم يقض فيه باستحالة ولا جواز وجب التصديق أيضاً لأدلة السمع، فيكفي في وجوب التصديق انفكاك العقل عن القضاء بالإحالة، وليس يشترط اشتماله على القضاء بالتجويز([5]).

فالعقلانية الإسلامية هي الجامعة بين نوري العقل والشرع والبريئة من الغلو النصوصي والغرور العقلاني.

وإذا كان الغزالي – وهو من كبار أئمة الأشعرية – قد قصر نقده على غلاة المعتزلة الذين صادموا بالعقل قواطع الشرع، فإن جمهور المعتزلة لم يكونوا غلاة فالجاحظ (163-255هـ/780-869م) يميز بين الشك العبثي، الذي يطال اليقينيات وبين الشك المنهجي، الذي هو السبيل إلى اليقين، ويدعوا إلى الجمع بين التوحيد الشرع وبين الطبائع، فيقول : فاعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له وتعلّم الشك في المشكوك فيه تعلماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرّف التوقف، ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه، فلم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما شك، والعوام أقل شكوكً من الخواص، لأنهم لا يتوقفون في التصديق والتكذيب، ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلا الإقدام على ا لتصديق المجرد، أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحالة الثالثة من حال الشك، التي تشتمل على طبقات الشك، وذلك على قدر سوء الظن بأسباب ذلك، وعلى قدر الأغلب([6]).

وليس يكون المتكلم جامعاً لأقطار الكلام، متمكناً من الصناعة يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة، والعالم عندنا هو الذي يجمعهما، والمصيب هو الذي يجمع تحقيق التوحيد وإعطاء الطبائع حقها من الأعمال، ومن زعم أن التوحيد لا يصلح إلا بإبطال حقائق الطبائع فقد حمل عجزه على الكلام في التوحيد، وكذلك إذا زعم أن الطبائع لا تصلح إذا قرنها بالتوحيد، ومن قال هذا فقد حمل عجزه على الكلام في الطبائع، وإنما ييأس منك الملحد إذا لم يدعك التوفر على التوحيد إلى بخس حقوق الطبائع، لأن في رفع أعمالها رفع أعيانها، وإذا كانت الأعيان هي الدالة على الله، فرفعت الدليل، فقد أبطلت المدلول عليه ! ولعمري، إن في الجمع بينهما لبعض الشدة ! وأنا أعوذ بالله تعالى أن أكون كلما غمز قناتي باب من الكلام صعب المدخل، نقضت ركناً من أركان مقالتي، ومن كان كذلك لم يُنتفع به ([7])!

وغير الجاحظ نجد من أئمة المعتزلة قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد (415هـ-1024م) يجمع بين الأدلة، ولا يقف عند العقل وحده، فيقول : إن الأدلة، أولها : دلالة العقل، لأن به يميز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة، والإجماع، وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن أن الأدلة هي : الكتاب، والسنة، والإجماع، فقط، أو يظن أن العقل إ”ذا كان يدل على أمور فهو مؤخر، وليس كذلك، لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة، والإجماع، فهو أصل في هذا الباب، وإن كنا نقول : إن الكتاب هو الأصل، من حيث أن فيه التنبيه على ما في العقول، كما أن فيه الأدلة على الأحكام، وبالعقل يميز بين أحكام الأفعال وبين أحكام الفاعلين، ولولاه لما عرفنا من يُؤاخذ بما يتركه أو بما يأتيه، ومن يُحمد ومن يُذم، ولذلك تزول المؤاخذه عمن لا عقل له، ومتى عرفنا بالعقل إلهاً منفرداً بالإلهية، وعرفناه حكيماً، نعلم في كتابه أنه دلالة، ومتى عرفناه مرسلاً للرسول، ومميزاً له بالأعلام المعجزة من الكاذبين، علما أن قول الرسول حجة، وإذا قال r : ( لا تجتمع أمتي على خطأ، وعليكم بالجماعة ) علمنا أن الإجماع حجة([8]).

هكذا تبلور في تاريخنا الحضاري تراث ضخم للعقلانية الإسلامية، التي جمعت – بالوسطية – بين الشرع والعقل، وآخت بين الحكمة والشريعة، وانطلقت من صحيح المنقول وصريح المعقول، وهو تراث شارك في بنائه أئمة وأعلام ازدانت بأسمائهم إبداعاتهم طبقات علماء المذاهب الكبرى في تاريخ حضارة الإٍسلام.

وفوق كل هذا وقبله، فإن كل هؤلاء العلماء – من أعلام مدرسة العقلانية الإسلامية – قد انطلقوا من القرآن الكريم، الذي تميّز – كمعجزة للإٍسلام – عن معجزات النبوات والرسالات السابقة على رسالة محمد r، عندما لم يأت معجزة مادية، تدهش العقل فتشله عن الفعل والفاعلية، وإنما جاء – القرآن الكريم – معجزة عقلية، تستنفر العقل كي يتعقل ويتفكر وينظر ويتدبر، وتستحثه كي ينهض بدور الهداية الإلهية التي وهبها الله – سبحانه وتعالى – للإنسان، لتزامل وتساند هداية الكتاب المنزل من لدن الحضرة الإلهية.

ففي شريعة الإسلام، التي واكبت بلوغ الإنسانية سن الرشد، تزاملت وتساندت الهدايتان، هداية الكتاب، وهداية الحكمة، فمثّل الكتاب القرآن الصواب الذي جاءت به النبوة والوحي الإلهي، ومثّل العقل الحكمة التي هي الصواب في غير النبوة.

لقد انطلق أعلام هذه المدرسة – على اختلاف مذاهبهم وعصورهم – في بلورة العقلانية الإسلامية وتنميتها وضبطها – من آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن العقل بصريح اللفظ في تسع وأربعين آية، وتحدثت عن القلب كأداة للتعقل والتفقه في مائة واثنتين وثلاثين آية، وتحدثت عن الحكمة في تسع عشرة آية وتحدثت عن التفكر في ثمانية عشر آية ن وتحدثت عن الفقه في عشرين آية، وتحدثت عن اللُب بمعنى العقل في ست عشرة آية، وتحدثت عن الاعتبار بمعنى التعقل في سبع آيات، وتحدثت عن التدبر في أربع آيات، وتحدثت عن النّهي في آيتين، فبلغت هذه الآيات التي تحدثت عن العقل ومرادفاته، بصريح الألفاظ مائتين وسبع وستين آية من آيات القرآن الكريم.

كذلك اشتمل القرآن الكريم على ما يعز على الحصر من الآيات القرآنية التي سلكت في الحجاج والقصص والاستدلال قواعد المنطق والاحتكام إلى السنن والقوانين – الكونية والاجتماعية – التي تزكي وتنمي ملكة التعقل والعقلانية لدى الذين يتفكرون ويتدبرون آيات القرآن الكريم.

نعم، لقد كان هذا التميز والامتياز للمعجزة القرآنية هو العامل الأول الذي زكى الحكمة والعقلانية في تراث الإٍسلام وإبداعات علمائه، فعلى حين تنكبت أنساق دينية أخرى طريق العقل، حتى قال قديس النصرانية وفيلسوفها أنسلم (1033-1109م) : يجب أن تعتقد أولاً بما يعرض على قلبك بدون نظر (!!)، ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت، فليس الإيمان في حاجة نظر عقل !!([9]) وجدنا من علماء الإٍسلام مثل أبو عليّ الجبائي (235-304هـ/849-916م) من يقول : إن النظر العقلي هو الواجب الأول على الإنسان([10]).

وعن هذه الحقيقة، حقيقة المرجعية القرآنية التي انطلقت منها العقلانية الإٍسلامية، يقول الإمام محمد عبده : إن مثل النوع الإنساني كله كمثل شخص منه، يخاطبه أبوه ومربيه، في كل طور من أطوار عمره بما يناسب درجة عقله وحاجة سنه، وكذلك عامل الله النوع الإنساني، فخاطب قوم كل رسول بحسب درجة عقولهم وحالتهم الاجتماعية في زمانهم، وكلما ارتقى البشر جعل الله التشريع لهم أرقى، حتى ختمه ببعث خاتم النبيين r الذي هو دين سن الرشد لنوع الإنسان([11]). ولقد كان أهل الكتاب متفقين في تقاليدهم وسيرتهم العملية على أن العقل والدين ضدان لا يجتمعان والعلم والدين خصمان لا يتفقان، وأن جميع ما يستنتجه العقل خارجاً عن نص الكتاب فهو باطل، ولذلك جاء القرآن يلح أشد الإلحاح بالنظر العقلي، والتفكر والتدبر والتذكر([12]).. فأطلق بهذا سلطان العقل من كل ما كان قيده، وخلصه من كل تقليد استعبده، ورده إلى مملكته يقضي فيها بحكمه وحكمته، مع الخضوع لله وحده، والوقوف عند شريعته([13]).. فأول أساس وُضع عليه الإٍسلام : هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجة، وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذهن “إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه ؟!([14]).. لقد دعا القرآن الناس إلى النظر فيه بعقولهم، فهو معجزة عُرضت على العقل، وعرفته القاضي فيها، والإسلام لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي، والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري، فلا يدهشك بخارج للعادة ولا يغشّى بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية([15])… كانت الأمم تطلب عقلاً في دين فوفاها، وتتطلع إلى عدل في إيمان فأتاها([16])… وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس، على لسان نبي مرسل، بتصريح لا يقبل التأويل([17]).

من هذه المرجعية القرآنية انطلقت وتبلورت العقلانية الإٍسلامية التي كان الإمام محمد عبده أبرز أعلامها في عصرنا الحديث، والتي أبدع في ميدانها إبداعاً يمكن إذا نحن ألفنا بين لبناته أن نقدم للعقل المسلم، بل وللدينا – مقالاً في العقلانية الإسلامية التي تميزت في حضارتنا الإسلامية وتميزت بها حضارتنا عن غيرها من الحضارات.

([1]) عبد الله النديم : مجلة الأستاذ، العدد التاسع والثلاثون، ص923، 924، القاهرة سنة 1310هـ -1893م.

([2]) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبد، جـ3، ص310، دراسة وتحقيق : د. محمد عمارة. القاهرة : دار الشروق، 1993م.

([3]) المصدر السابق، جـ3، ص287 ,

([4]) المصدر السابق، جـ4، ص333.

([5]) الغالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص 2، 3، 121، 122، القاهرة : مكتبة صبيح، د.ت.

([6]) الجاحظ، كتاب الحيوان، جـ6، ص35-37، تحقيق : الأستاذ عبد السلام هارون، القاهرة ط2.

([7]) القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال، ص127، تحقيق : فؤاد سيد، تونس، 1972.

([8]) القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال، ص127، تحقيق : فؤاد سيد، تونس، 1972.

([9]) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، جـ3، ص279، القاهرة 1993م.

([10]) د. علي فهمي خشيم : الجبائيان : أبو علي وأبو هاشم، ص333، طرابلس، ليبيا، 1968م.

([11]) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، جـ3، ص535،، بيروت 1972م.

([12]) المصدر السابق، جـ4، ص127، 128.

([13]) المصدر السابق، جـ3، ص443.

([14]) المصدر السابق، جـ3، ص282.

([15]) المصدر السابق، جـ3، ص 151، 279، 281.

([16]) المصدر السابق، جـ3، ص461.

([17]) المصدر السابق، جـ3، ص359، 357.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر