أبحاث

علم الكلام القرآني

العدد 62

مقدمة

تجديد علم الكلام الإسلامى

علم الكلام الإسلامى أنار العقول ، ووضح المفاهيم ، فكان درعاً للإسلام ، وسلاحاً بيد علمائه ضد الآراء التى تخالف وجهة نظر الإسلام فى المسائل الاعتقادية والكون والحياة .

وهذا العلم قد أدى دوره ، وأخصب الفكر الإسلامى ؛ فجعل للقضايا الشائكة حلولاً طريفة ، ونافح فى سبيل العقيدة الإسلامية ؛ فأثبت للخالق الوجود والكمال والتنزيه المطلق على كل ضرب من ضروب التشبيه والتجسيم ، كما وردت بذلك النصوص فى حجج بليغة وأدلة قوية ، وبرهن على صدق النبوة بيان المعجزة وشرف الأخلاق ، ودلل على إمكان الآخرة بحجج أخلاقية ونفسية ، وقدم بيانا لمسائل كلامية ومعضلات فلسفية ، واستلهم من المصادر الإسلامية ، واستضاء بها ، واقتبس من علوم الأوائل ، ووفق بين مفاهيمها حتى اختلطت مباحث علم الكلام بمباحث الفلسفة ..

ثم طرأ على مباحث هذا العلم ما طرأ على بعض العلوم الإسلامية من بعد عن الابتكار والتجديد ، والتردى فى مهاوى الانحدار والسقوط ؛ وصار الاجتهاد فى علم الكلام منحصراً فى ترديد مقالات السابقين وشرحها أو توضيح متن وحل مغلقاته وصارت كتب السابقين تحاور فى الألفاظ وتناظر فى الأساليب على حد تعبير الشيخ محمد عبده . وتخلف ركب هذا العلم تبعا لتخلف المسلمين العام وأصيب بالضحالة ، ولكنه لم يصب بالعقم ؛ لأن محاولات التجديد لم تغب عن الساحة إلا فى عصور الانحطاط والظلام .

وبدأ المسلمون يتحسسون طريق النهضة لمختلف قضاياهم ، وفى مقدمة ذلك الاهتمام بتجديد علومهم ، وجعلها مواكبة للعصر ، مستجيبة لأحداثه مستفيدة من تقنياته ومناهجه وأساليبه .

وعلم الكلام يتبوأ منزلة هامة فى الخطط الإسلامية ؛ لأن الأزمة التى تعانيها المجتمعات الإسلامية تتمثل فى العقيدة بالدرجة الأولى على مستوى التصور ثم السلوك . وهذه الأزمة تصيب شباب الأمة الإسلامية الذى يعانى فراغاً روحياً مرده إلى أسباب كثيرة منها إفلاس النظم التعليمية والتربوية ذات المناهج العلمانية ، والغزو الفكرى للفلسفات المادية المعاصرة والتأثيرالإعلامى للوسائل الإعلامية المتطورة التى جعلت العالم قرية صغيرة .

لذلك كان لزاماً عاى الباحثين فى شؤون علم الكلام أن يعيدوا النظر فى مناهجه وموضوعاته وطرائق طرحها وأساليب عرضها ، وليس من اليسير تجديد هذا العلم نظراً لما يتطلبه من مراجعة عامة تعود به أحيانا إلى مصدره الأصلى القرآن وتربطه أحياناً بما يجد من اكتشافات فى ميدان التقدم العلمى .

إن ما يريده المسلم المثقف عندما يتجه بالسؤال إلى المتكلم الحديث عن خالق الكون لا بد أن يكون متماشياً مع أساليب ونتائج العلوم التى توصلت إلى أسرار الذرة وغزت الفضاء ، وكشفت عن سنن الكون وأسراره وظواهره ولا تزال تكشف ما يحير العقول ، وإن السائل يريد جوابا يقوم على استخدام المنطق السليم ويدعوه إلى الإيمان بربه إيمانا يقوم على الاقتناع لا على مجرد التسليم كما تفعل بعض الأساليب الكلامية إزاء كثير من القضايا .

علم الكلام علم شرعى

من القرآن :

تأسس علم الكلام انطلاقاً من مبدأ أشار إليه القرآن الكريم ، يتمثل فى الدعوة إلى الله بالحكمة والمجادلة بالتى هى أحسن .

قال الله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } . [النحل/ 125] .

ولا سبيل إلى سلوك هذه الأساليب إلا بتأسيس علم له أصوله ومناهجه التى تؤهل إلى شرح العقيدة ومناقشة الخصوم وصد هجومهم . ثم إن القرآن الكريم شرح العقيدة فى الخالق ووصفه فأبلغ ، وبين النبوة وتحدث عن أخلاق الأنبياء ومميزاتهم ، وألمح إلى الآخرة وقدم عليها الأدلة ، وأثار قضايا تتصل بالعقيدة وأجاب عليها بإشاراته البليغة ولمحاته الوضاءة .

بيد أن القرآن لم يكتف بذلك بل عرض لأهم الأديان والمذاهب والنحل التى كانت سائدة فى عهد النبوة الخاتمة ؛ فناقش عقائدها ، وأبطل حججها ، وأظهر انحرافها ؛ فتحدث عن نحل أنكرت الأديان وآمنت بالدهر وأسندت إليه الخلق : {وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر }. [الجاثية / 24] .

وفصل كتاب الله الحديث عن الشرك فذكر من عبد الكواكب وأشركها مع الله {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الأفلين }.[الأنعام / 76] .

ورد على عبدة الأصنام فقال : {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }. [الأنبياء / 22] .

وناقش النصارى فى تأليهم لعيسى :

{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون }. [آل عمران / 59] .

وفضح عقيدة اليهود وتشبيههم ، وأظهر شذوذ فطرتهم قال الله تعالى :

{ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } [المائدة / 64 ] .

ورد على من أنكر النبوات عموماً ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم خصوصاً : قال تعالى :

{الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير } [الحج / 75] .

لذلك صار لزاما على علماء الإسلام المهتمين بهذه القضايا أن يستطلعوا القول فيما أشار إليه القرآن ، ويردوا على المخالفين ، ويتوسعوا فى الدفاع توسع المخالفين فى الهجوم ، ويجددوا الحجج فى الرد كلما جدد المخالفون الحجج فى الطعن  (1) .

– موقف أثمة المسلمين من هذا العلم :

اختلفت علماء الأمة الإسلامية حول أهمية هذا العلم : فهناك من العلماء من امتدحه ، واستحسن الخوض فيه ، وهناك من ذمه وسكت عن القول فى موضوعاته .

يأتى فى مقدمة هؤلاء الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه الذى ألف فى علم الكلام :

(الفقه الأكبر) ورسائل صغيرة (كالوصية) ليوسف بن خالد (والفقه الأبسط) و(العالم والمتعلم) وكتاب (العلم)

قال أبو حنيفة رضى الله عنه :

(( الفقه فى الدين أفضل من الفقه فى العلم ؛ لأن الفقه فى الدين أصل والفقه فى العلم فرع ، وفضل الأصل على الفرع معلوم )) (2) .

ويحدثنا القاضى عياض عن رسالة ألفها مالك بن أنس (لابن وهب فى القدر والرد على القدرية ) ، وقد وصفها عياض بأنها من (خيار الكتب الدالة على سعة علم مالك ) وقد بلور مالك اتجاه عقيدة السلف القائم على مقاومة البدع وعدم الرد عليها إلا بالنقل ، لا الاحتجاج عليها والمجادلة فيها بالعقل ؛ وكان يرفض الرد العقلى على البدع ، لأنه فى رأيه رد بدعة ببدعة ويرى ضرورة الرد عليها بالنقل .

كما ورد على الروافض فقال فيهم : (( أهل الأهواء كلهم كفار وأسوأهم الروافض )) .

وكان معاصراً للاعتزال – ومؤسسيه واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد – وقد أكد على التنزيه فى الصفات ونصح بالابتعاد عن التأويل ؛ لأن طريق النجاة ينبغى فيه إمرار النصوص كما جاءت ، وكان يقول :

(( إنما أهلك الناس تأويل ما لا يعلمون )) .

وله آراء فى الإيمان والكلام والعلم ، وآراء كلامية شائعة كرأيه فى الآية {الرحمن على العرش استوى }فقد قال قولته المشهورة :

(( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة )) . وبالرغم من هذا الموقف الحذر فقد مثل مذهب المفوضة دون أن يقع فى التشبيه أو التجسيم وقد روت بعض المراجع أنه رد على القدرية ؛ وبذلك يكون قد مثل مذهبا كلاميا متكاملا يشتمل على شرح المتشابه ، وتوضيح القضايا الشائكة ثم الرد على المخالفين كالقدرية وغيرهم .

ويعتبر الإمام أحمد بن حنبل الرافض الحقيقى لعلم الكلام على المنهج الاعتزالى ، فقد رفض الحوار مع ابن أبى داود حول قضية خلق القرآن . ولكن هناك رسالة منسوبة إليه بعنوان الرد على الجهمية ، فإذا ثبت فإنه يكون قد اشتغل بالرد على المنحرفين ، والمبتدعة من أهل الأهواء ، وفى الاضطلاع بهذه المهمة خير دليل على شرعية هذا العلم .

وأما الأشعرى فقد كتب رسالة أكد فيها : (استحسان الخوض فى الكلام ) وأثبت شرعية الأدلة العقلية فى الاستدلال على العقائد الإيمانية ، يقول فى هذا الشأن :

((أما بعد فإن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم ، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين ، ومالوا إلى التخفيف والتقليد ، وطعنو على من فتش عن أصول الدين ونسبوه إلى الضلال ، وزعموا أن الكلام فى الحركة والسكون والجسم والعرض والألوان والأكوان والجزء والطفرة وصفات البارى عز وجل بدعة وضلالة ، وقالوالو كان ذلك هدى ورشاد لتكلم فيه النبى صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه . قالوا : ولأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى تكلم فى كل ما يحتاج إليه فى أصول الدين وبينه شافيا ولم يترك لأحد مقالاً فيما للمسلمين إليه من حاجة من أمور دينهم ، وباعدهم عن سخطه ، فلما لم يرد عنه الكلام فى شئ مما ذكرنا علمنا أن الكلام فيه بدعة ، والبحث ضلالة لأنه لو كان خيراً لما فاته النبى وأصحابه ولتكلموا فيه )) (3).

وهناك مؤلفات تذم الكلام والمشتغلين به من ذلك كتاب :(ذم الكلام وأهله ) لشيخ الإسلام أبى إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصارى الهروى المتوفى (سنة 418 هجرى) .

وكتاب (إلجام العوام عن علم الكلام ) لحجة الإسلام أبى حامد الغزالى (505هجرى ) .

وكتاب (صون المنطق والكلام عن فن المنطق وثنايا الكلام) لجلال الدين السيوطى ( 911هجرى) .

وفى كتاب : (مختصر جامح بيان العلم وفضله ) لابن عبد البر (سنة  462هجرى) ذم الكلام وأهله من ذلك : (( ما روى عن مصعب بن عبد الله الزبيرى قال كان مالك ابن أنس يقول (( الكلام فى الدين أكرهه أو لم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه ، أو نحو الكلام فى رأى جهم والقدر وما أشبه ذلك ، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل ، قال أبو عمر : قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل بلده – يعنى العلماء منهم رضى الله عنهم . والذى قال مالك – رحمه الله – عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى )) .

وإنما خالف ذلك أهل البدع المعتزلة وسائر الفرق . وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل ،وصرف صاحبه عن مذهبه ، أو خشى ضلال عامة ، أو نحو هذا )) (4) .

وهذا النص واضح لا ذم فيه للكلام بإطلاق بل الذم منحصر فى الآراء المنحرفة ، ومناقشة القضايا الكلامية المعقدة التى لا طائل من وراء بحثها .

وفى النص إشارة إلى عدم السكوت عندما يجب الكلام كتقويم انحراف أو رد شبهة ، أو بيان حجة مقدمة ، أو توضيح دليل شاف كاف .

وفى عنوان الغزالى : ( إلجام العوام عن علم الكلام ) مقصد ينحصر فى منع العوام عن الخوض فى ترتيب المقدمات وتبويب النتائج التى يعجز عنها ذهن العامى وتثير شكوكه ، وتدخل الريب على نفسه أكثر من اليقين .

وأما قول ابن خلدون (( بأن علم الكلام غير ضرورى لهذا العهد على طالب العلم إذا الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا ، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا ، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا ، وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه البارى عن إبهاماته وإطلاقه )) (5) .

ورأى ابن خلدون إن صلح لعهده فلن يصلح لعهدنا لسببين :

(1) أن الملاحدة والمبتدعة قد ملأوا علينا الساحة الإسلامية وغزونا داخليا وخارجيا غزوا فكريا عاتيا ، ونحن أحوج ما نكون إلى حضانة فكرية ، ولا سبيل لنا إلى ذلك إلا بتجديد أسس علم الكلام .

(2) مدونات أهل السنة ضخمة ، وكتاباتهم جيدة بيد أن تلك الأدلة المدونة ينبغى أن تخضع إلى سنة التطور : {سنة الله فى خلقه ولن يجد لسنة الله تبديلا }؛ فمضامينها إن صلحت لعصر فلا تصلح لعصرنا .

التوفيق بين الاتجاهين :

وإذا تدبرنا الاتجاهين : الأول الذى يمدح علم الكلام ؛ ويجعله علما شرعياً للدور الذى اضطلع به من ترسيخ للعقيدة ، والدفاع عنها ، ونقص حجج أعدائها بالأدلة القاطعة والبراهين الدامغة .

والثانى الذى يذم هذا العلم ، ويعرض عن الخوض فى مسائله ، فإنه لا تناقض بين الاتجاهين ؛ لأن الأول يمدح ما صلح من علم الكلام ، والثانى يذم جانب الكلام الذى خاض فى البدع والأهواء ومال مع الانحراف وأغرق فى القضايا الشائكة التى تستعصى على أفهام العامة وعقولها التى تحتاج إلى ضرب من الهدى القرآنى والنبوى ، فذلك أجدى لها وأكثر إفادة من الإغراق فى مسائل فلسفية جدلية معقدة .

تسمية علم الكلام وتعريفاته

(1) تسميه علم الكلام :

تتعرض تسمية علم الكلام إلى الانتقاص ، ولعل بعضهم يتجاوز ذلك إلى الحط من قيمته ، والاستخفاف بأساليبه ، والاستهانة بتحصيله ، ومرد ذلك إلى الحملة التى تعرض لها قديما ، وغذتها بعض التيارات الحديثة تقليدا وجهلا بالمهمة الخطيرة التى ينبغى أن يتبوأها فى عصرنا هذا العلم الذى يدافع عن العقيدة الإسلامية بمناهج وأساليب ، نحن المسلمين فى أشد الحاجة إلى إحيائها وتطويرها وصقلها وتهذيبها حتى تكون مواكبة لعصرنا .

إن تسمية علم الكلام بهذه التسمية هى التى طغت عليه منذ نشوئه ، وقد علل التفتازانى (6) ذلك فقال : لأن مباحث هذا العلم وموضوعاته تعنون بقولهم (الكلام فى كذا) ، أو لأن مسألة (كلام الله) كانت أشهر المباحث وأكثر المسائل التى دار حولها الجدال والنزاع بين المعتزلة من جهة ، وأهل الحديث بزعامة أحمد بن حنبل من جهة أخرى .

أو لأنه سمى بهذا الاسم لما يورثه من قدرة على الكلام فى كشف الشبهات ، وإلزام الخصوم كالمنطق للفلسفة الذى يجعل الفيلسوف بارعا فى الاستدلال ، فكذلك المتكلم يبرع فى البرهنة وإقامة الحجة ودفع الشبهة .

أو لأنه أول ما يجب من العلوم التى تعلم وتتعلم بالكلام ، فأطلق اسم الكلام لذلك ثم خص به ، ولم يطلق على غيره تمييزا له .

أو لعله سمى بهذا الاسم (علم الكلام) ؛ لأنه يتحقق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين وغيره من العلوم قد يتحقق بالتأمل ومطالعة الكتب .

أو لعله سمى بهذا الاسم لشدة افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والرد عليهم أثناء الاختلاف معهم ، ولعله السلاح الأكثر استعمالا فى هذا الميدان ، ميدان المناظرة .

أو لعله سمى بهذا الاسم لقوة أدلته ووضوح حجته ، حتى صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم كما يقال للأقوى من الكلاميين هذا هو الكلام .

 

ويذهب التفتازانى (7) بعيدا فيقول :

لعله سمى بهذا الاسم الكلام المشتق من الكلم وهو الجرح فكأن أدلته القطعية وحججه الساطعة تحدث تأثيرا فى القلب وتتغلغل فيه .

ومن التسميات التى تطلق على هذا العلم تسميته ب (علم أصول الدين) أى التعلم الذى ينصرف إلى البحث فى المسائل الأصولية كالعقائد الأساسية ونحوها ، تمييزا له عن علم الفقه الذى تتجه عنايته إلى الفروع ، وعن علم أصول الفقه الذى يهتم بالنظر فى الأدلة الشرعية من حيث تستنبط منها الأحكام والتكاليف .

ومن تسماته أيضا تسميته بعلم التوحيد أو بعلم التوحيد والصفات ، وقد لازمته هذه التسمية الأخيرة لما انحسر دور هذا العلم فى الجانب التعليمى الجاف ، وتخلى عن دوره فى رد الشبهات ونقض حجج المخالفين ، وطغى عليه المنطق الإرسطى الذى نبذته المدرسة الكلامية الأولى ، وهاجمته جميع الفرق الإسلامية وسائر الطوائف من أهل النظر ، الذين عابوه لاختلاطه بالعلم الإلهى عند إرسطو الذى يتناقض أوليات العقيدة الإسلامية ومنذ طغيان المنطق الإرسطى على هذا العلم يمكن القول بأن الفكر الإسلامى لم يأت بجديد ولا مبتكر فى عالم الفكر الأصيل بل كل ما حدث هو كما قال الإمام محمد عبده ((تحاور فى الألفاظ وتناظر فى الأساليب ، على أن ذلك فى قليل من الكتب اختارها الضعف ، وفضلها العقود )) (8) .

ومن تسميات هذا العلم تسميته بعلم النر والاستدلال ، وهى تسمية تقصر مهمته الأساسية فى التأمل وابتكار الأدلة والتجديد فيها .

ومهما يكن من أمر فإن مراجعة تسمية هذا العلم لإزالة ما علق به من تراكم معرفى يحمل فى طياته بعض الانتقاص :- لأمر متحتم إن أرادنا لهذا العلم أن تجدد رسالته وأن يخصب عطاؤه ثمراً مفيداً كما عهد إبان ازدهار الحضارة الإسلامية .

2- تعريفاته :

وأقدم التعريفات التى وصلتنا لهذا العلم تعريف أبى نصر الفارابى (سنة  339هجرى) ، الذى يقول فيه :

صناعة الكلام يقتدر بها على نصرة الآراء والأفعال المحمودة التى صرح بها واضع المللة ، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل (9) .

فعلم الكلام حسب هذا التعريف صناعة تحتاج إلى معرفة وعلم ومراس ومران . ولا بد لهذه الصناعة من قدرة على إظهار حجج المخالفين وتزييف كل مناقص وحمله على وجه يوافق ما فى الدين .

وقد عرفه الغزالى (سنة 505 هجرى) بقوله : هو علم مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها من تشويش أهل البدعة ، فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عيدة هى الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار ، ثم ألقى الشياطين فى وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنة ، فنهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها ، فأنشأ الله تعالى طائفة المتكملين ، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة فمنه نشأ علم الكلام )) (10) .

وهو تعريف يؤكد على الدفاع عن عقيدة أهل السنة ؛ لأن البدع قد ازدادت فى عصر الغزالى والفرق الإسلامية وغيرها من الأديان قد ثبت انحرافاتها فشوشت العقيدة السلمية المستمدة من الأصول الإسلامية الكتاب والسنة .

ويتفق ابن خلدون مع الغزالى فى تعريفه لهذا العلم اتفاقا يكاد تاما فيقول :

((علم الكلام علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين فى الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة )) (11) .

ويعرفه العضد الإيجى (سنة 756 هجرى) بقوله : (( والكلام يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه ، والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل ، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد عليه السلام )) (12) .

وليس بعيدا عن هذا التعريف ما ذهب إليه التهانوى من أن علم الكلام أشمل إذا أصبحت أداة دفاع لكل معتقد عن عقيدته ، فدفاع لكل معتقد عن عقيدته ، فدفاع المبتدع عن عقيدته بالبراهين العقلية كلام أيضاً (14) .

وصار دور هذا العلم تثبيت العقائد الدينية والبرهنة عليها بالأدلة المناسبة لكل عصر والحجج المواتية لكل زمان .

أما دفع الشبه المثارة أو التى يتوقع أن تثار فهى أهم وظائف علم الكلام .

وهكذا فإن دور هذا العلم ينبغى أن يكون كما حدده العضد الإيجى بعلم العقيدة الإسلامية ، ويرسخها ، ويدافع عنها ويرد الشبه الوافدة عليها ويتصدى للغزو الفكرى بشتى صوره وألوانه .

وبالرغم من المنهج التعليمى الذى اتبعه الأستاذ (الإمام محمد عبده) (سنة 1905) فى رسالة التوحيد إلا أنه أغفل الجانب الدفاعى عند تعريفه لهذا العلم ، رغم الظروف السياسية والاجتماعية التى كان الاستعمار يتولى تدميرها وبث الخراب فيها ، يقول معرفا علم الكلام بأن (( التوحيد يبحث فيه وجود الله وما يجب أن يثبت من صفات ، وما يجوز أن يوصف به ، وما يجب أن ينفى عنه ، وعن الرسل لإثبات رسالتهم ، وما يجب أن يكونوا عليه ، وما يجوز أن ينسب إليهم ، وما يمتنع أن يلحق بهم )) (15) .

والاتجاه العام الذى يندرج تحته تعريفات علم الكلام يتميز بالتأكيد على أمرين :

(أ) الطابع التعليمى لهذا العلم فهو ينهض لتوضيح العقيدة انطلاقا من الكتاب والسنة ويعمل على ترسيخها وفق منهج العصر .

(ب) الطابع الدفاعى المتمثل فى الرد على الانحراف والبدع من جهة ، ودفع الشبه الوافدة بأسلوب علمى دقيق بعيد عن الخطاب الفضفاض الذى لا يستند إلى براهين وحجج مقنعة .

هاتان الوظيفتان لعلم الكلام التعليمية والدفاعية ليس بينهما توازن ؛ بل أحيانا تتغلب الوظيفة الدفاعية كما هو الشأن فى العصور الأولى ، وقد تتغلب الوظيفة التعليمية كما هو الشأن فى عصور الانحطاط .

وما زال العلماء يؤكدون على الوظيفتين معا إلى العصور المتأخرة ؛ يقول طاش كبرى زادة (سنة 962 هجرى) عند تحديده لعلم الكلام : ((هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه .

علم الكلام فى مواجهة التحديات

إن ديناً فى مستوى ما بلغه الإسلام من الانتصارات فى ظروف زمنى وجيز – :

لخليق أن تواجهه صعوبات وعراقيل ، فلقد أزال عروشا ، وقلب حكومات ، وقضى على مصالح وامتيازات لفئات وطبقات ، وخلق قيما جديدة فى التعامل على المستوى السياسى والاقتصادى والاجتماعى .

هذا الدين الذى جاء بموازين مخالفة لما عهدته البشرية ، ليس من اليسير أن يجد الطريق ممهدة بل واجه تحديات مختلفة سنقتصر على بيان التحديات التى وفدت عليه فى ميدان العقيدة .

(1) تحديات الأمس :

1- أصل الأصول فى الأديان قضية الألوهية ، وللإسلام طرحه الخاص بهذه القضية ، أساسه التوحيد الخالص ، والإعراض عما عداه من وجوه الاعتقاد .

ولهذه القضية اتجاهات معارضة للتصور الإسلامى يأتى فى الصدارة اعتقاد الثنوية من السمنية والمانوية وغيرهما فى الألوهية .

وقد عرف عن هاتين الفرقتين ترويج لآرائهما ، ونشاط كبير داخل العواصم الكبرى خاصة فى بغداد

وغيرها من حواضر العالم الإسلامى (16) .

ولليهودية تصورات خاطئة عن قضية الألوهية ؛ إذا الطابع الغالب على هذا التصور بشرى فى صفاته وأفعاله ، والنص واضح

فى التوراة ؛ فالله فى اليهودية يخزن ويبكى حتى ترمد عيناه ، ويفرح ويصارع ، بينما قدم الإسلام تصورا تنزيهيا لله سبحانه ، وعمق فكرة التوحيد الخالص فى النفس ؛ بل كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك مخالفة تامة لجميع الحوادث والمخلوقات .

وللمسيحية نشاط حثيث فى مواجهة المسلمين ، يناظر قساوستها ويؤلفون الكتب ويجادلون المسلمين وغيرهم .

ومما زاد المسألة تشعبا اختلاف طوائف المسيحية حول طبيعة المسيح .

هذه القضية تسربت إلى العالم الإسلامى عن طريق المناظرات بين آباء الكنيسة وبين المسلمين حول طبيعة المسيح فى القرآن قال تعالى :

{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون }.[آل عمران / 59] .

لم يقف الأمر عند هذا الحد بل عمد بعض المسيحين إلى دخول مع المسلمين فى جدال حول طبيعية المسيح فى القرآن ، ووظفوا على آيات الكتاب الكريم حوارا ليفسدوا اعتقاد المسلمين فى الألوهية : قال يوحنا الدمشقى : (( إذا سألك العربى ما تقول فى المسيح ؟

فقل (إنه كلمه الله) ثم يسأل النصرانى المسلم : بما سمى المسيح فى القرآن ؟ وليرفض أن يتكلم بشئ حتى يجيبه المسلم ، فإنه سيضطر إلى أن يقول : {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } .[النساء / 17] .

ثم يسأله عن كلمة الله وروحه ، أمخلوقة هى أم غير مخلوقة ؟ فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله كان ولم تكن كلمة وروح ، فإن قلت ذلك فسيفحم العربى ؛ لأن من يرى هذا الرأى زنديق فى نظر المسلمين (17) .

ويوضح توماس أرنولد الأمر إذا يقول :

(( هؤلاء الذين دخلوا كنف الدين ، وحملوا معهم ثقافة الإمبراطورية البيزنطية وثقافة اليونان .. وهذه الانشقاقات الواسعة أفزعت السلطات الكنيسة فشرعت تهاجم بالجدل والمناظرات أسس العقيدة الإسلامية : ماهى الطبيعية الإلهية ؟وما معنى قوله :

{إنه على كل شئ قدير }و{إنه بكل شئ عليم } وما هى علاقة علمه بذات نفسه )) (18) .

ويتجلى من خلال الحوار فى النص الأول والمترتب على طريقة السؤال والجواب والمتضمن لقضايا تبحث فى كنه الذات أن ذلك كان تمهيداً لمشكلة من أكبر مشكلات العقيدة التى حدثت فى العالم الإسلامى ، وهى مشكلة خلق القرآن .

وأما النص الثانى فيوضح فى غير لبس كيف شرعت الكنيسة تهاجم عقيدة الألوهية بالجدال والمناظرة لبث البلبلة فى أفكار المسلمين ؛ بل لقد أورد ابن النديم أقول قساوسة كانوا يهدفون إلى تنصير المسلمين (19) .

2- والأصل الثانى الذى وقف فيه المسلمون يواجهون التحديات قضية النبوة . وقد أشار القرآن إلى مقدمات هذه القضية تلميحا عندما قال على لسان بعضهم : { قالوا أبعثت الله بشرا رسولا }. [ الاسراء / 94] .

وهناك تحد كان قد طرحه البراهمة جحدوا فيه الرسل ، وأثبتوا التكليف من جهة العقول ، وقالوا : إن الحسن ما حسنه العقل ، والقبيح ما قبحه العقل ، وأفضل فى تشريعه من الرسل الذين أباحوا ما حظره العقل من ذبح البهائم وإيلام الحيوان بلا ذنب (20) .

ونسب اليهود إلى الأنبياء نقائص تحط من مقام النبوة فهم صفوة مختارة ، وقادة الإنسانية ، ونماذج رفيعة للخير ، فكيف تصدر عنهم قبائح لا تليق بفرد عادى ؟

كمضاجعة لوط لا بنيته بعد أن سقياه خمرا وإنجابه منهما ، وكتنازل إبراهيم عن زوجته خشية على حياته من فرعون وقوله إنها أخته .

هذه الفضائح التى ينسبها اليهود إلى أنبيائهم كانت تصك أسماع المسلمين ؛ لأن اليهود كانت تظلهم مظلة الحكومة الإسلامية وتحميهم رغم اعتقادهم المنحرفة فى النبوة وغيرها .

وكتب أبو بكر الرازى الطبيب كتاب (مخاريق الأنبياء) تهجما على النبوة ، هذه القضايا المتنوعة دفعت علماء الكلام أن يؤكدوا على عصمة الأنبياء ويفردوا لها بابا خاصا من أبحاثهم .

3- وأما الأصل الثالث الذى واجه فيه علماء الكلام التحدى فهو البعث ، ونكرانه عام فى جميع الأزمان ولم ينفرد به زمن دون آخر . ولقد أشار القرآن إلى رأى أقوام أنكروا الحشر والنشر عند قوله :

{ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر }[الجاثية / 24] .

والدهرية مذهب مادى ينكر الألوهية والنبوة والبعث وهو مذهب فارسى قديم رد عليه القرآن بمثل قوله :

{ كما بدأنا أول خلق نعيده }[الأنبياء / 104] .

وتوسع علماء الكلام فى هذه اللمحات القرآنية ليكونوا ردا متكاملا على مختلف النزعات المادية ، فى هذه القضية الشائكة التى زلت فيها أقدم كثير من المفكرين .

(2) تحديات اليوم :

إن التحديات التى تواجه العقيدة الإسلامية اليوم كثيرة وخطيرة منها ما يعود إلى فلسفات قد ظهرت فى هذا العصر ، ومنها ما يعود إلى مواقف قد وقفتها مؤسسات كالكنيسة . فالكنيسة قد وقفت مواقف من العلماء مثل جاليلى وجرادنو برنو وكوبرنيك جعلت الناس ينظرون إليها نظرة ريبة . وبدأ المفكرون يهاجمونها ، ويهاجمون من خلالها الأديان عموما ، بل ويسخرون من معتنقيها يقول فولتير فى هذا المعنى (1788) : (( إذا رأيت اثنين يتناقشان فى موضوع ولا يفهم أحداهما الآخر ، فاعلم أنهما يتناقشان فى الميتافيزيقا ..)) إلى آخر هذه الموجة من السخرية .

وبالإضافة إلى ما تعمد إليه الكنيسة من العقائد التى تشغل بها كاهل أتباعها من المسيحين ولا يخضع فيها إلى عقل ولا إلى منطق كصك الغفران ، وغيره من الأوامر التى لا يرضاها العقل ولا يقرها المنطق .

وثمة أمر آخر خطير أدى إلى فقدان الثقة فى الكنيسة هو تعاونها مع السلطة خاصة عند الاعتراف بالخطايا . إذا لم يتروع بعض القساوسة من نقل أخبار المعارضين إلى حكوماتهم فتسبب ذلك للمعارضين فيما تسبب من قتل وتشريد .

وحدثت أزمة ثقة بين الكنيسة وبين جماهيرها خاصة بينها وبين العلماء إذا لم يعودوا على ثقة بما تحدث عنه من الغيب وما تدعو إليه من عقائد عموما .

هذه التوترات أدت إلى تكوين مذاهب هدامة ، ما لبثت أن تسربت إلى العالم الإسلامى فى أشكال شتى وأساليب مختلفة : كالدعوة إلى الفصل بين الدين والدولة ، ونكران الغيب ، والمذاهب الوضعية ، والوجودية ، والشيوعية ، وكل المذاهب التى تتنظم فى سلك واحد هو الفلسفة المادية ، التى أنكرت كل ما لبس بمادة ويأتى فى مقدمة المذاهب :

المذاهب الوضعى :

مؤسس هذا المذاهب أوجست كونت (سنة 1857) أنكر كل تفكير قبلى ، واستبعد البحث فى الغايات القصوى والعلل الأولى ، ولم يعترف بغير الواقع المحسوس يعالجه بمناهج البحث التجريبى .

مراحل .. اللاهوتى والميتافيزيقى والواقعى . وهذه المراحل قد عبر عنها بقانون الأطوار الثلاثة : –    

– فى الدور الأول : كان العقل يبحث فى كنه الموجودات وأصلها ومصيرها ،وكانت تفسيرات العقل للموضوعات بعيدة عن الطبيعة ، وكان منهجه فى ذلك قائما على الخيال ، فالظواهر تحدث بفعل كائنات سامية تختفى وراء الطبييعة المرئية .

– وفى الدور الميتافيزيقى يظل العقل يبحث كنه الأشياء وأصلها ومصيرها ، ولكنه يرتقى فيتخلى عن الكائنات السامية غير المرئية ، ويرد الظواهر إلى علل مجردة خفية يتوهمها .

– وفى الدور الثالث يتجنب العقل الطريقتين السالفتين فى البحث موضوعا ومنهجا ، ويعول على البحث فى أصل الكون ومصيره وعلله ، ويهتم بمعرفة الظواهر وكشف قوانينها . وبهذا يستغنى عن العلل بوضع القوانين أى العلاقات المطردة بين الظواهر ، ويقيمها على أساس من المشاهدة لا من الخيال ولا من الاستدلال ،وبهذا يهتم بالإجابة عن السؤال : كيف حدث ؟ وليس عن السؤال : لماذا حدث ؟ بهذا رفض المذهب الوضعى البحث فى الغيب وأبى أن يقر حقائقه أو يرفضها . وتركزت جهود أتباع كونت على النزعة العلمية التجريبية وانصرفوا عن البحث فى كنه الموجودات وحقيقتها إلى دراسة الظواهر نفسها فأسسوا العلوم التجريبية على مقتضى هذا الاتجاه فتركزت كتابات رينال فى تاريخ الأديان (سنة 1892) ودور كايم (سنة 1917) فى علم الاجتماع ، وليفى يرول (سنة 1939) فى علم الأخلاق ، وجوبلو (سنة 1935) فى علم المنطق ، ورينبو (سنة 1916) فى علم النفس ، وتين (سنة 1898) فى علم الجمال .

وابتدع كل واحد من هؤلاء وغيرهم تفسيرا للدين :

– فرأى دور كايم الفيلسوف الفرنسى فى الدين أنه مؤسسة اجتماعية اختلقها المجتمع وابتدع لها نواميس وسننا .

– ورأى علماء النفس أن الدين نتاج اللاشعور الإنسانى وليس انكشافا لواقع خارجى .

– وترى الشيوعية أن العوامل الاقتصادية هى التى خلقت الدين ، والدين أفيون الشعوب ، وهى خدعة تاريخية ابتكرتها البرجوازية للاستيلاء على جهد الطبقات الكادحة وثرواتها .

– وترى الوجودية أن الإنسان هو الذى خلق الله ولم يخلق الله الإنسان . وفسرت نظرية تطور الخلق بشكل بدا للكثيرين أنه مخالف لما جاء به الدين .

هذه الفلسفات قد غزت العالم الإسلامى ، وتحدث عقيدته بالرغم من أنها لم ترق إلى مستوى الحقائق العلمية ، ولم تبلغ مستوى المقولات الفلسفية .

فقانون الأطوار الثلاثة عند (كونت) أقرب إلى التفكير الفلسفى الميتافيزيقى منه إلى باب العلم الوضعى . هذا إلى جانب خطئه الذى يشهد به استقراء التاريخ ، فالتجربة تشهد بأن الأدوار الثلاثة قد توجد فى الفرد الواحد والجماعة الواحدة مقترنة بعضها ببعض ، فقد يقبل الفرد أو الجماعة تفسيرات لاهوتية أو ميتافيزيقية فى بعض المشاكل التى تواجهه مع اعتقاده بالعلم الوضعى الواقعى ونتائجه .

والملاحظ أن الدور الأول الذى يقولون إنه يتمثل فى عصر ما قبل التاريخ وبدء التاريخ قد اخترعت فيه صناعات عن طريق المشاهدة ومعرفة طبائع الأشياء ، وفى الدور الفلسفى الذى يقال إنه شمل العصور القديمة قد وجدت فيه مشاهدات فلكية ومدنيات شرقية . وعرفت هندسة إقليدس وطب أبقراط وطبيعيات إرسطو وكيمياء المسلمين وطبهم . وفى الدور الوضعى الذى يقال إنه يتجلى فى العصور الحديثة وجد كثير من دعاة الأخلاق والدين والتأمل . وإذن فليس فى تاريخ العقل البشرى ما يثبت أن مرحلة التفكير الفلسفى تسبق مرحلة التفكير العلمى .

(3) أساليب التحدى :

يمتاز كل عصر بأساليبه وطرقه ومناهجه التى يروج بها فلسفاته ومذاهبه ويعمل على نشرها وبثها بين الناس .

فالقدامى من المتكلمين قد مهروا فى بث دعاتهم لتلقين عقائدهم قال الشاعر يصف دعاة :

دعاة لا تفل عزيمتهم

تهكم جبار ولا كيد ماكر وعقد أصحاب المذاهب المناظرات لإفحام خصومهم وألفوا المؤلفات التى تدافع عن مقولاتهم وتشرح أصولهم .

وإذا كان القدامى قد مهروا هذه الأساليب – : فإن عصرنا يشهد ثورة إعلامية لم تشهد الإنسانية مثيلا لها ؛ فلقد صار العالم قرية صغيرة بل غرفة ألكترونية .

لذلك فالغزو الفكرى مسلط على العالم الإسلامى . لتكريس التبعية الاقتصادية والثقافية ، ولتحطيم الإنسان المسلم من الداخل والخارج .

فهناك أساليب الدعاية الشيوعية تمارس داخل مجتماعتنا ،وهناك المذاهب الهدامة والدعوات الماكرة التى تطمح إلى إفراغ العالم الإسلامى وإخلائه من مثله العليا ، وإحلال بدائل بعيدة عن روح الإسلام السامية . فالصهيونية تحارب المقدسات وتدوس القيم وتروج الإلحاد .

والكنيسة تنفق بسخاء على التنصير فى كافة أرجاء المعمورة ، وخاصة داخل العالم الإسلامى . وهناك أبناء المسلمين يتمذهبون والتطورية والعلمانية ويتمسكون بها ولها يدعون .

خلاصة القضية : غزو مدمر ، وتحد صارخ فى صور شتى .

 

ثقافة المتكلم  

الإمكانات الفكرية : الاستعداد الفكرى

يحتاج المتصدى للإلمام بعلم الكلام فى ثوبه الجديد إلى مواهب تجعله قادراً على القيام بأعباء هذا العلم . أرأيت الاختصاصات العلمية الدقيقة لا يوجه إليها من الطلبة إلا من امتاز بمميزات معينة ؛ فكذلك هذا العلم من بين العلوم الشرعية لا تغُرى به من الطلبة إلا من كان له إمكانيات ذهنية ، تؤهله للقيام بأعباء هذه المهمة المنتظرة من خلال هذا العلم .

والأمثلة جليلة فى مسار هذا العلم ، فلن تجد متكلماً فى أصول الدين إلا وضرب به المثل فى الذكاء الحاد وسرعة البديهة والثقافة المعمقة وغزارة الإنتاج الفكرى .

فالإمام أبو الحسن الأشعرى ألف فى (مقالات الإسلاميين) الجلى منها والخفى ، وبرهن فى اللمع على قضايا العقيدة . والجوينى ألف فى القضايا الأصولية ، وكان كتابه (الشامل) لمختلف المسائل الاعتقادية . والغزالى فى غزارة إنتاجيه الفكرى ، والبيضاوى فى تفسيره وكتابه الطوالع ، والشهر ستانى فى الملل ونهاية الأقدم ، والعضد الإيجبى فى كتبه خاصة الواقف ؛ كل هؤلاء خير من يمثل الثقافة الإسلامية الشمولية .

وقد امتاز بهذه المميزات علماء أصول الدين فى العصر الحديث أمثال جمال الدين الأفغانى فى رسالة الرد على الدهريين ، والشيخ محمد عبده فى مؤلفاته خاصة رسالة التوحيد وشرح العقائد العضدية .

وزعماء الإصلاح فى أطوار التاريخ الإسلامى كان لهم اهتمام بعلم أصول الدين ونظرات فيه قبل أن ينطلقوا فى دعواتهم الإصلاحية ، فكان الأرضية الصلبة والمنطق الحقيقى لحركات الإصلاح .

الثقافة الموسوعية :

لا غنى لمن أراد الاشتغال بعلم العقيدة من الإلمام بثقافة موسوعية تشمل ما يسمى بعلوم المقاصد وعلوم الوسائل من العلوم الإسلامية .

القرآن :

ويتبوأ منزلة الصدارة الاهتمام بالقرآن ، وعلومه حفظاً وعلماً حتى يتمكن من الاستشهاد به عند الحاجة .

وينبغى عليه أن يفرد آيات العقيدة بالفهم والحفظ والتحليل والتبويب حتى يحسن الربط بينهما فى المحور الواحد كمبحث الألوهية ومبحث النبوة ، ومبحث البعث . كما هو الشأن فى ضبط آيات الأحكام بستمائة آية خدمة للتشريع الإسلامى للربط بين أجزائه ، ولإدراك أسراره وخفاياه ؛ فآيات التوحيد ، وآيات الخلق ، وآيات العناية ، والآيات التى تصف النبوة والأنبياء – : ينبغى استقراؤها جميعاً وتصنيفها كما ينبغى رصد آيات السنن الكونية والسنن التاريخية والاجتماعية .

وللإعجاز منزلة فى علم العقيدة بألوانه المختلفة البيانى والغيبى والعلمى . وقد كرس العلماء جهودهم لبيان النوع الأول والثانى من الإعجاز . أما النوع الثالث من الإعجاز فهو اتجاه قد ازدادت العناية به لما ازدهرت الاكتشافات العلمية وظهر جلياً للراسخين فى العلوم أن لا تعارض بين الحقيقة العلمية وبين الحقيقة الدينية ، ويمكن أن تخدم الأولى الثانية ، وقد مهر علماء هذا الفن أمثال

سعيد حوى فى (( الله جل جلاله)) ، والدكتور محمد أحمد الغمراوى فى كتابه ((الإسلام فى عصر العلم)) ، وعبد الرازق نوفل فى كتابه ((المسلمون والعلم الحديث)) ، و((الله والعلم الحديث)) ،و((القرآن والعلم)) ، وغير هؤلاء كثير ممن ولع بهذا الفن فى هذا العصر .

وأما أنواع الإعجاز البيانى والغيبى فقد ألف فيها القدامى والمحدثون أمثال الجاحظ ، والرمانى ، والخطابى ، والزملكانى ، وابن عطية ، والرازى ، والقاضى عياض ، والمراكشى ، والزركشى ، والجرجانى ،والسكاكى ، والتوحيدى ، والأصبانى ، وغيرهم . وقد طبعت بعض هذه الكتب مثل رسائل فى إعجاز القرآن للرمانى والخطابى والجرجانى ، وكتابان للزملكانى هما (البرهان الكاشف) و(التبيان) تحقيق : د . أحمد مطلوب ، وخديجة الحديشى ، و(الشفا) للقاضى عياض ، و(البرهان) للزكرشى ، كما ذكر عمر ملا حويش فى كتابه

(تطور دراسات إعجاز القرآن وأثرها فى البلاغة العربية) آراء بعض العلماء فى الإعجاز ، كما تحدث الرافعى فى (إعجاز القرآن) عن ضروب من الإعجاز ، ولفت عبد الله دراز النظر إلى ما فى القرآن من أدلة على صدقه فى (النبأ العظيم) ، وقام سيد قطب فى

(التصوير الفنى) ومحمد المبارك فى (صور أدبية من القرآن) بإظهار ما فى البيان الربانى من تصوير فنى معجز ، وفى القرآن وجوه من الإعجاز متنوعة بحسب الموضوع أحيانا وبحسب النظم والفصاحة أحيانا أخرى .

السنة :

تعتبر السنة النبوية المصدر الثانى لثقافة المتكلم فى علم العقيدة ، وهى أقوال وأفعال وتقريرات والرسول هو الحكمة العلمية للوحى وهو المثال الحى الذى ابتعثه الله معلما فى حواره وشمائله ، فلقد أرشد إلى فنون الحكمة العلمية والمصالح الدينية والدنيوية ، وهو فضلا عن ذلك خاطب العقل وحارب الجهل وساوى بين الناس ووقف مع المستضعفين وقاوم الطغاة المترفين وأخرج بشريعته وتعاليمه العالم من ظلمات التوحش والهمجية إلى نور الحضارة والمدنية .

وقد ظهرت أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم صفات ترفض فيه العقول كل ريبة ، وتدفع عنه كل شك ، كما عرف بالسخاء ، والكرم ، والشجاعة ومكارم الأخلاق ، والرحمة بالخلق والإشفاق عليهم ، والصبر على الأذى ، ورفض الرئاسة والسيادة المعروضة عليه من قبل قومه نظير رجوعه عن دعوته .

هذه الصفات فى شخص واحد معجزة ، وليست عبقرية ؛ لأن العبقرية تتفوق بصفة واحدة من الصفات ، أما إذا كانت الذات مجمع كمالات فذلك الأمر نبوة . هذه الصفات فصلت القول فيها كتب كأعلام النبوة لأبى الحسن الماوردى ، وسيرة ابن هاشم وشرحها للسهيلى المسمى (الروض الأنف) و(إمتاع الأسماع) للمقريزى ، والسيرة الحلبية ، والشفا للقاضى عياض ، و(الشمائل الحميدة) للترمذى ، و

(زاد المعاد فى هدى خير العباد) لابن القيم .

وأما السنة القولية فمصادرها كتب الصحاح والمسانيد كمسند الدرامى وموطأ مالك ، ومسند أحمد ، وغير هذه الكتب كثير ، بيد أن الإفادة من هذه الكتب يحتاج إلى مراس ودربة ينبغى على الباحث فى شؤون العقيدة أن يكون على بينة منها حتى يتمكن من تخريج الحديث تخريجاً علمياً يتفق وصناعة الحديث والعلم بمصطلحه .

والإعجاز العلمى فى الحديث النبوى قد استقطب اهتمام العلماء إذا قد حوت أحاديثه جوامع الكلم ، وجواهر الحكم ، وكنوز المعرفة ، وأسرار الدين ودقائق التوجيه ، وعميق التربية ، وآيات البلاغة ، ولا يستغنى عالم العقيدة عن الرجوع إلى هذا المنهل الثرى ليستقى بقدر ما يدلل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم دلالة عقلية تضاف إلى آيات الإعجاز الأخرى فلا تدع شكا لشكاك ولاريبة لمرتاب .

الفقه وأصوله :

يشكل الفقه وأصوله قاعدتين من أهم قواعد الثقافة الإسلامية ، فالفقه علم إسلامى محض : إنه من هذه الناحية يشكل إلى جانب علوم اللغة العطاء الخالص للثقافة الإسلامية . وعندما تبرز أهمية الفقه فى ثقافة المتكلم فليس من أجل الانخراط فى عملية التنويه الذاتى السائد فى الخطاب الإسلامى اليوم وقوفا فى وجه تحديات الغرب ؛ بل إنما نريد من وراء ذلك تأكيد الحقيقة التى تبرز قدرة الفقه على استيعاب القضايا الحضارية ، والمشاكل الإنسانية المتشبعة التى جدت على الساحة الإسلامية .

وفى هذه أدلة على قدر العقل الإسلامى على الاستجابة للمقتضيات الحضارية ، وتاريخ الفقه يزكى هذه الحقيقة تمام التزكية .

وأهم ما فى الفقه الإسلامى من أصالة وابتكار فضلا عن أنه يجسم الجانب العملى من الشريعة الإسلامية جانبه المنهجى الذى يعرف بعلم أصول الفقه ، فهو ضرورى للمتكلم بل هو يمثل قواعد المنهج التى ينبغى أن يتبعها المجتهد ليستنبط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها افجمالية اليقينية .

والمتكلم لا يحتاج إلى مستوى المجتهد ، ولكن عليه أن يلم بهذه المسالك وأن يكون عارفا بها .

 

المذاهب الهدامة والأديان المنحرفة والفرق المنشقة

(1) المذاهب الهدامة :

قضية المذاهب الهدامة قضية قديمة ولكنها متجددة فى كل عصر . لفت القرآن الكريم أنظار المسلمين إلى الدعوات الضارة ، والمذاهب الهدامة ، ووضع الأسس الثابتة لمواجهة الشبهات ، وكشف عن مخططات الأحتواء والتبعية ، وتحريف الأصول الثابتة ، ونبه المسلمين إلى الحذر من متابعة غير المسلمين والتماس ما عندهم :

{ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } [البقرة / 109]

{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين }. [آل عمران / 100]

والمذاهب الهدامة كالغنوص تقوم فى مجموعها على فهم بشرى ، يشكل نظرية مختلفة من عدة مذاهب وعقائد ، ومعارضة لمفهوم الإسلام والتوحيد القائم على أساس الفطرة . وتتألف الغنوصية من مذاهب متعددة كالمجوسية ، والزرادشتية ، والمانوية ، والديمانية ، والمزدكية ، والمرقونية .

وقد أضاف من كتب فى الرد على الدهرين فى العصور الحديثة كمجال الدين الأفغانى بعض المذاهب كالنفعين والماديين عامة القائلين بأن لا إله والوجود مادة فحسب .

والمذاهب الهدامة منها ما هو سافر الهجومات يستهدف تدمير مقومات الإسلام ، وضرب قيمة الأساسية .

ومنها ما هو يستهدف ضرب الأديان عموما كإنكار الخالق والقول بالصدفة فى وجود العالم ، ومذاهب هدامة تنكر النبوات ، وترى الوحى ضربا من الهستريا أو هوسا قد تولد عن الاشعور .

وفلسفاته ترى أن الله لم يخلق الإنسان ، وإنما الإنسان هو الذى خلق الله ، وأخرى ترى أن الأديان مؤسسة اجتماعية ابتكرها الإنسان هذا المخلوق الخاضع للمجتمع خضوعا تاما بل كل شئ فيه وليد المجتمع خاصة دينه وقيمه .

هذه المذاهب الفلسفية والتيارات الإلحادية المتنوعة ، يجب على عالم العقيدة الإلمام بأصولها ليحسن الرد عليها ومناقشة مبادئها ، ودحض أفكارها دحضا علميا متمكنا بعيدا عن الأسلوب الخطابى الذى لا يصلح لهذا المجال .

(2) الأديان المنحرفة :

إن اشتغال المسلمين بالأديان ومقارنتها كان مبكرا ، فأسسوا لذلك علم العقيدة ، وهو يشمل فى جانب منه مناقشة الأديان المخالفة من اليهودية والنصرانية وأديان الهند والصين والصابئة والمجوس عامة .

فما هى المصادر التى أوردت هذه المناظرات ؟ وما هو منهج علماء الإسلام فى هذه المناظرات ؟ إن جهداً عظيماً قد بذله المتكلمون لمواجهة التحديات الخارجية المتمثلة فى مناقشة الأديان المنحرفة .

وهؤلاء العلماء مثل النظام ، والإكسافى ، والعلاف ، والجاحظ ، والبلخى ، والكعبى والقاضى عبد الجبار ، وأبى الوليد الباجى ، والقرطبى والخزرجى ، وأبى المعالى الجوينى ، وأبى حامد الغزالى ، وأحمد بن إدريس القرافى الصنهاجى [شهاب الدين (سنة 684)] ، وأحمد ابن تيمية ، وغيرهم كلهم قد ناظروا أهل الأديان ودحضوا شبههم وفندوا افتراءتهم ، ولعلماء الإسلام منهج متميز فى الرد على اليهود والنصارى بدءا بالجاحظ فى رسالته (الرد على النصارى) مروراً بأبى يعقوب الكندى الفيلسوف فى رسالته حول إبطال التثليث النصرانى وبالحسن النوبختى فى كتابه (الآراء والديانات) الذى اقتبس منه المسعودى فى (مروج الذهب) فى هذا الموضوع ، وبالمسيحى (سنة 420) فى كتابه درك البغية فى وصف (الأديان والعبادات) وبابن حزم فى الفصل ، وبابن تيمية فى الجواب الصحيح ، وبالشهرستانى فى الملل والنحل ، وبالبيرونى (أبى الريحان) فى ( بيان ما للهند من مقولة ) انتهاء بكتب (تحفة الأريب فى الرد على أهل الصليب ) لأنسليمو تورميدا ، ونصر بن يحيى بن عيسى أبى سعيد المتطبب فى كتابه (النصيحة الإيمانية بفضح المللة النصرانية) .

ورغم أصالة هذا المنهج الذى سلكه المسلمون فى نقد الأديان واجتهادهم فى هدم الأديان المنحرفة ونقض أسسها إلا أنها لم تخل من النقد ، يقول ابن قتيبة (سنة 270) فى نقد رسالة الرد على النصارى (( ويعمل – أى الجاحظ – كتابا يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين ، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز فى الحجة كأنه إنما يريد تنبيهيم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة من المسلمين )) (21) .

وخلاصة القضية أن الإلمام بالأديان والرد من ألزم الواجبات على الذين يتصدون لتجديد علم العقيدة .

(3) الفرق المنشقة :

كالبهائية وغيرها وهى تهدف إلى إسقاط فريضة الجهاد وتدعو وحدة الأديان والأجناس والشعوب ، وقد كشفت مخططات البهائية عن منهج كامل فى هدم الإسلام .

وغير هذه الفرقة كثير ومنها ما هو أخطر على الإسلام ، لذا يجب على الباحث فى شئون العقيدة العلم بأصول هذه الفرق وبمناهجها المتعمدة ليحكم الرد عليها رداً مقنعاً .

الثقافة العلمية

المراد بالثقافة العلمية التى يجب على عالم العقيدة تحصيلها ما يتعلق منها بالعلوم الطبيعية كالكيمياء ، والفيزياء ، والرياضيات ، والفلك . وهى حقائق بينة لمن أحسن عرضها وتوظيفها لزرع العقيدة وترسيخ الإيمان .

وهذه الثقافة العلمية ينبغى أن نقتصر منها على الثقافة الشائعة ولا نغرق فيها إغراقا تنقلب فيه محاضرة العقيدة إلى محاضرة علمية متخصصة .

وعالم العقيدة كالطبيب يتخير ما يتلاءم مع كل فرد عقليا ، ونفسيا ، واجتماعيا ، ويراعى الظروف والملابسات ، ويستغل المناسبات عندما يستشهد بالحقائق العلمية .

هذه الحقائق التى أحدثت ثورة فى عصرنا ، فغيرت العقليات وعودتها على أساليب جديدة تقوم على أساس التجربة ، والملاحظة ، والتكميم والقياس ، والضبط الدقيق لكل ما يتعلق بالظاهرة .

واستدلالنا اليوم على مسائل العقيدة ينبغى أن يأخذ فى الاعتبار هذه العقلية السائدة فيستجلى حقائق الدين بالأدلة التى تطمئن الذهن الجديد ، وتوصل التعاليم الإسلامية بأحدث أساليب الاستدلال الملائمة للعقل الجديد ؛ لأن القضايا القائمة على أسس المسلمات المنطقية قد سقطت فلا شئ فى العقل الحديث بمسلم منطقيا إلا ، وله نقيض منطقى يمكن أن يتحمله العقل ؛ أما الحقائق العلمية التجربية فهى الدليل الذى لا يدفع .

ولذلك صار من الضرورى تطوير المناهج فى علم العقيدة لإشباع رغبات متجددة فى اليقين ، تريد أن تؤسس موقفها على أرض من المعرفة الجديدة التى اخترقت الآفاق ، وقاست أبعاد النجوم ، وتغلغلت فى أسرار المادة حتى حطمتها واستخرجت

منها طاقات لا حدود لها (22) .

وما يريد المثقف فى القرن العشرين عندما يسأل هذا السؤال عن خالق الكون لا بد أن يكون متمشياً مع أساليب ونتائج العلوم التى توصلت إلى أسرار الذرة وغزت القضاء وكشفت عن سنن الكون وأسراره وظواهره ، ولا تزال تكشف ما يحير العقول . إن السائل يريد جواباً يقوم على استخدام المنطق السليم ويدعوه إلى الإيمان بربه إيمانا يقوم على الاقتناع لا على المجرد التسليم . وهكذا فإن الثقافة من أوكد أنواع الثقافات التى يجب على عالم العقيدة أن يسلم بها فى مجالات المعرفة العلمية وفى مختلف أنواع العلوم .

وقد َكلف معاصرونا بمعرفة هذه الحقائق والتأليف فيها . ومن أنجح الأساليب الاعتدال فى استعمالها وأن لا نسرف فى التأويل لفائدتها وأن لا نتحكم حتى نلوى عنق اللفظ ليكون مواتيا للحقيقة العلمية ، فخير الأمور أوسطها ، وأعمق الحقائق تأثيراً ما أحسن استغلاله فى تأييد الحقيقة الدينية ، ومراعاة الزمان والمكان ومقتضيات الأحوال النفسية والاجتماعية .

مبحث الألوهية

بداية البحث فى الألوهية :

إن البحث فى وجود إله خالق مدير للكون ، وعن أدلة وجود هذا الإله الخالق ، بحث قديم مغرق فى القدم إلى آماده البعيدة النائية وإن اختلفت أشكاله على العصور ، وتفاوتت أساليبه وتغايرت أدلته وبراهينه .

والإنسان – منذ أصبح إنساناً واعياً شاعراً – مجبول على حب التطلع إلى ما وراء الغيب ، ومفطور على الرغبة فى معرفة مبادئ الأشياء وغاياتها وفهم حقائق كل شئ منها ، من أين جاء وكيف صار ؟

وإلى أين ينتهى به المطاف ؟

وتحت تأثير هذه الفطرة والجبلة تطلع الإنسان إلى الكون ولم يتوازن عن التأمل فى أسراره ، بمقدار ما يستوعبه عقله وتفكيره فى كل دور من أدواره الحضارية – على امتداد التاريخ – وكان البحث فى وجود خالق فى مقدمة الأسرار التى حاول فهمها والتأمل فيها .

ولما كان إدراك الإنسان وفهمه لحقائق الأشياء – أول ما نشأ – محدودا لا يتعدى دائرة حياته البسيطة الضيقة ، ثم تطور وتقدم على مر العصور تبعا لتطوره وتقدمه فى ميادين المعرفة ، فلا غرابة إذا ما رأينا موضوع الاعتقاد بالإله الخالق الموجد للكون متدرجا بمقدار تدرج الإنسان فى نموه العقلى والفكرى فى تاريخ تطوره البعيد والقريب .

فالحضارات الإنسانية والفلسفات عرفت الاستدالال على وجود الله تعالى .

فلليونانيين على اختلاف مشاربهم أدلة ، وللغربيين مناهج فى البرهنة متنوعة منها ما هو مغرق فى القدم ومنها ما هو حديث ولذلك  قال برغسون :(( قد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات ، ولكن لم توجد قط جماعات بدون ديانة )) ولعله من الحكمة القول :إنه لم توجد الله فى الأعم الأغلب وينفى أفراد فيها على سبيل القلة والشذوذ والانحراف هذا الوجود .

الاستدلال على وجود الله تعالى عند المتكلمين

تمهيد

إن الاستدلال على مباحث العقيدة تجرى الأدوية التى يعالج بها مرضى القلب ، فالطيب إن لم يكن حاذقا مستعملا للأدوية على قدر طاقة المريض كان إفساده بالدواء أكثر من إصطلاحه ، وحينئذ يجب أن لا يكون استعمال هذه الأدلة لجميع الناس على وتيرة واحدة . بل على عالم العقيدة أن يتخير من هذه الأدلة ما يزخر به واقع الحياة ، وما يدور فى عالم الناس من عارف وما وصلت إليه العلوم من اكتشافات .

لذلك نقد العلماء طرق الاستدلال إذا لم تستجب لمقتضيات العصر . وذلك ما فعله ابن رشد حين ثار على الأساليب التقليدية ودعا إلى الاستلهام من أدلة القرآن وقد اشتهر بدليلى العناية والاختراع ، وذكر أنهما دليلان قرآنيان ، ونقد أدلة المعتزلة والأشارعة على مسائل العقيدة ونعتهما بطغيان الطابع الجدلى عليهما وليس لهما هدف الإقناع (23) بل غايتهما الجدل .

منهج المتكلمين فى الاستدلال على وجود الله :

وجمهور علماء الإسلام قد عابوا استدلال الفلاسفة والمتكلمين المتسمة بالطابع الجدلى ، وقالوا : إن معرفة الله لا تتأتى بالنظر فى الجواهر والأعراض ، وإن الذين فعلوا ذلك قد تكلفوا ما لا يجب عليهم ، وأصابوا من غامض العلم ما لا يقدر عليه العوام .

وهكذا فإن طرق المتكلمين وأساليبهم وغموضها وتكلفها واستعصاؤها على فهم العوام أهم مطعن قد وجه إليها . وقد بين حجة الإسلام الغزالى مسالك المتكلمين وضرب على ذلك مثالا بحدوث العالم وحصرها فى ثلاثة :

(1) طريقة السبر والتقسيم :

وهو أن يحصر الموضوع فى قسمين ثم يبطل أحداهما فيلزم منه ثبوت الآخر ومثاله : العالم إما حادث وإما قديم ، ومحال أن يكون قديماً . فيلزم منه ثبوت الآخر .

(2) طريقة تقسيم الحجة :

كأن تقسم الحجة على مقدمتين وترتبها على وجه مخصوص معروف فى علم المنطق ، فإذا سلم بها الخصم تثبت دعواك . ومثاله فى التدليل على حدوث العالم : العالم لا يخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فإنه حادث ؛ لأن الخصم إذا أقر بحجة المقدمتين فلا يجوز له إنكار صحة الدعوى وبالتالى رفض النتيجة .

(3) الطريقة الثالثة :

وهى أن لا تعترض لإثبات دعواك ، بل تترك موضوعك الذى ستستدل عليه جانباً ، وتتجه إلى بطلان دعوى الخصم ، كأن تذكر أن القول بدعوى الخصم يفضى إلى محال وكل ما يفضى إلى محال مثله .

ومبحث حدوث العلم يبرز بوضوح عقم مناهج الطرق الكلامية القديمة ، وهى وإن صحت لعصورهم فهى لا تستجيب لمقتضيات عصرنا  وأوضح الأمثلة على ذلك مبحث حدوث العالم : يقول أبو بكر الباقلانى الذى أقام بناء المذهب الأشعرى على منهج استدلالى : ((الموجودات كلها على ضربين : قديم أزلى ، ومحدث لوجوده أول )) وبعد أن يناقش فكرة القديم يقسم المحدثات إلى ثلاثة أقسام : جسم مؤلف ، وجوهر منفرد ، وعرض موجود بالأجسام والجواهر . ثم يبرهن على إثبات الحدوث لهذه الأقسام ، فيثبت بذلك حدوث العالم من موجود واحد قديم هو الله تعالى (24) .

وأقوال متكلمى الأشاعرة فى إثبات حدوث العالم ، لا تخرج عما أوردناه من كلام الباقلانى : فقد أفاد منه تلميذه إمام الحرمين أبو المعالى الجوينى تلميذه حجة الإسلام أبو حامد الغزالى (سنة 505 هجرى ) .

أما الجوينى فيعرف العالم بأنه كل ما سوى الله تعالى : والعالم هو الجواهر والأعراض والأكوان والأجسام وهى كلها محدثة حسب أدلة ناقشها ليثبت العلم من خلالها بالصانع على أساس التفرقة بين الممكن والواجب وهى التفرقة التى ستؤدى دورا خطيراً عند الفلاسفة المسلمين (25) .

وقد أورد نقد هذه الأدلة غير واحد من المتكلمين . نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر النقد الذى وجهه أبو الخير الحسن بن سوار البغدادى المعروف بابن الخمار ، وأبان ضعفها ، وعدم استنادها إلى مقدمات منطقية سليمة عند استقرائها وفحصها .

ولابن حزم منهج يغاير منهج متكلمى الأشاعرة فى إثبات حدوث العالم يقول : ((و إذا كان العالم ذو أول فلا بد ضرورة من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها وهى : إما يكون أحداث ذاته ، وإما أن يكون حدث بغير أن يحدثه غيره وبغير أن يحدث هو نفسه ، وإما أن يكون

أحداث غيره ))

وبعد أن يناقش الوجوه المختلفة ينتهى إلى القول : (( لن يكون ثمة ما يدعو لترجيح حالة على أخرى فلم يبق إذن إلا أن يكون أحدثه غيره وهو المطلوب )) (26) .

وركز المعتزلة أدلتهم فى مسألة حدوث العالم على فكرة الوجود والعدم والمحدث ، وانتهوا فى مباحث طويلة الذيل قليلة النيل – على حد تعبير الغزالى – إلى قدم العالم أخطر المسائل التى عمل مفكرو الإسلام على دحضها .

وناقش الغزالى شبه برقلس فى قدم العالم ، ورد على الفلاسفة فى شبههم المتعلقة به وقال بأن وجود مرجح ليس معناه أن الله كان عاجزا ثم أصبح قادرا بل معناه أن العالم حدث بإدارة قديمة اقتضت وجوده فى الوقت الذى وجد فيه (27) .

وهكذا كما قال صاحب المواقف واصفا مسلك المتكلمين فى إثباته وجود الله تعالى بالتعدد والتنوع :(( قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض ، وقد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه فهذه وجوه أربعة قد سلكها المتكلمون (28) .

صور من أدلة وجود الله عند المتكلمين :

إن الاستدلال على وجود الله من أهم مباحث العقيدة ؛لأنه الدعامة الأساسية التى يقوم عليها الدين ، لذلك كان البحث فيها مغرقاً فى القدم إلى آماده البعيدة وإن اختلفت أشكاله على مر العصور وتفاوتت أساليبه .

ورغم صفاء عقيدة التوحيد فإن الفكر الإسلامى خاص هذا المبحث وأطنب القول فيه (( بالرغم أن وجود الله لم يكن محل شك فى يوم من الأيام لكثير من المجتمعات فهو حقيقة الحقائق التى ينبع منها كل ما فى الوجود من حقائق )) .

وفى كل شئ له آية تدل على أنه واحد

وللمفكرين المسلمين فى البرهنة على وجود الله مسالك مأثورة ومناهج مشهورة ، فما من عالم إلا وجعل لهذا الموضوع مكاناً بارزاً فى مباحثه فى أصول العقيدة .

دليل الأحوال المتضادة :

وهو من أشهر الأدلة ، استدل به إبراهيم ابن سيار النظام المعتزلى على وجود الله يقول فى هذا الشأن : (( وجدت الحر مضاد للبرد ووجدت الضدين لا يجتمعان فى موضوع واحد من ذات أنفسهما ، فعملت أن لهما جامعاً ، وقاهراً قهرهما على خلاف شأنهما ، وما جرى عليه القهر فضعيف ، وضعفه دليل على حدوثه ، وعلى أن محدثاً أحداثه ، ومخترعاً اختراعه (29)

ونجد صدى لهذا الدليل عند الماتريدى ولعله متأثر فيه بفكر النظام المعتزلى ، فيذكر أبو منصور أن (( الحركة والسكون ،والحسن والقبح ، والاجتماع والافتراق ، والزيادة والنقصان حقائق متضادة )) (30) .

والعقل البشرى لا يجوز اجتماع الضدين فى موضع واحد من ذات أنفسهما لأن الطبائع المتضادة من حقها التدافع وفى ذلك التفرق التبدد والتفانى فلا بد من جامع جمع هذه الأحوال ، وقاهر قهرها على ذلك ، وبغيره لا تتلاءم ولا تنسجم )) (31) .

وظاهرة التكامل أو التضاد التى أستقرأها المتكلمون من المعتزلة وأهل السنة من الماتريدية يمكن أن تستغل استغلالا علميا ، ويصير هذا الدليل مواكبا لعصرنا مقنعا لمختلف المستويات الفكرية .

دليل الجواهر والأعراض :

أو دليل الحدوث ، كان دليلا شائعا فى أوساط المتكلمين استدل به النظام المعتزلى وإن رفض القول بالجزء الذى لا يتجزأ .

واستدل به الأشعرى وجعله البغدادى موضع أصل كتابه القيم المعروف ب(أصول الدين) (32) .

واعتبره الغزالى القطب الأول من أقطاب كتابه الاقتصاد فى الاعتقاد (33) وعده الشهر ستانى القاعدة الأولى من قواعد كتابه المعروف (نهاية الإقدم فى علم الكلام) (34) .

وبالرغم من هذه الشهرة فهو دليل قليل الإقناع مغرق فى التفريعات كالجوهر الفرد والوجود والعدم ويشبه :

دليل الأشياء الحية وغير الحية .

وفحواه أن ليس لأحد من الأحياء أن يدعى لنفسه القدم ؛ بل لو قال ذلك لعرف الناس كذبه بالضرورة . ويمكن بناء هذا الدليل على الصورة التالية : – الأحياء حادثة ، والأحياء تستعمل الأشياء غير الحية ، فهذه حادثة من باب الأولى ، ويضيف الماتريدى (35) أن هذه الموجودات تمتاز بخصائص تثبت لها صفة الحدوث ، منها أنها محتاجة إلى غيرها وعاجزة عن إصلاح ما فسد منها هذا إذا كانت حية ، أما كانت ميتة فاحيتاجها إلى غيرها أشد ، فهى إذن أحق بالحدوث .

وإذا تأملت هذا الدليل وجدته دليلا سفسطائيا فاسدا يقول أحد الباحثين فى هذا الشأن :(( ليس المرء فى حاجة إلى دراسة أساليب المنطق حتى يعلم بفطرته أنه أمام دليل سفسطائى فاسد ، أم إذا كان من هؤلاء الذين أفسد الجدل استعدادهم الطبيعى (يقصد المعتزلة والأشاعرة) فمن الممكن أن نستخدم معه منطق إرسطو لكى نبين له أننا نوجد أمام قياس من الشكل الثالث ، وأن النتيجة الطبيعية له هى بعض الحادث يستخدم الأشياء غير الحية فأى صلة إذن بين هذه النتيجة وبين إثبات حدوث العالم فى جميع أجزائه الحية وغير الحية )) (36) .

وهكذا يبدو أن الاستدلال على وجود الله منه ما يتجه إلى البرهنة على وجود الله كدليل العناية الإلهية ، ومظاهر الإتقان التى تشهد بوجود الصانع ، وبرهان الخلق والاختراع . ومنها ما يتجه إلى البرهنة على الحدوث كدليل التغيير ودليل تناهى العالم ودليل الحركة .

بيد أن دليل الحدوث التى تعود الأدلة فى معظمها إليه له طابع قرآنى ، يقول البياضى الحنفى : إنه برهان لطيف مأخوذ من مسلك الخليل عليه السلام حيث استدل قبل أن يجرى عليه القلم بالظهور بعد أن لم يكن ، والأقوال بعد الطلوع وآثار العجز عن التدبير كما قال الإمام أبو منصور الماتريدى مستفهما على سبيل الإنكار فى قوله : { هذا ربى } فإن حذف أداته مشهور قائلا : {لا أحب الآفلين}أى : لا أثنى على الذى تتعاقب عليه الأحوال ويعتريه التغيير والزوال باستحقاق الربويية ، ولا أعطيه المحبة التى تجب الله واجب الوجود الذى يستحيل عليه الزيادة والنقصان والذهاب والإتيان )) (37)

وتابع عضد الدين الإيجى رأى الماتريدية فى قوله إنه دليل مستوحى من ملاحظة إبراهيم للكواكب وما يطرأ عليها من تغير .

واستنتج من قوله تعالى :{لا أحب الآفلين }معنى الحدوث ؛ فلم يحب إبراهيم عليه السلام هذه الكواكب ((فضلا حادث فله محدث غيره ؛ فلا يكون صانعا للعالم ، ولا يكون محبوبا للعقل وفى الآية أيضا نفى لربوبية الجوهر فلهذا قبل باختصاص طريقته عليه السلام بحدوث الجواهر )) (38) .

نستنتج من خلال استقرائنا لأدلة المتكلمين إيغالا فى التجريد ، ولعلها بدت لنا كذلك مهجورة لم تواكب العصر ، ولم تعد قادرة على مواجهة الأيديولوجيات الفلسفية المعاصرة . وبالرغم من انطلاق بعض هذه الأدلة من القرآن إلا أنه سرعان ما ابتعدت عن منهجه الذى يخاطب العقل والقلب بصفة تنسجم مع كل المستويات العقلية .

وقد صدرت دعوات من فلاسفة ومتكلمين تأمر بالاستلهام من أسلوب القرآن منهجا وروحا فى الاستدلال على وجود الله سبحانه .

لمحة عن الاستدلال على وجود الله عند

الفلاسفة الإسلاميين :

سلك الفلاسفة الإسلاميون لإثبات وجود الله تعالى طريق الوجوب والإمكان ، وقسموا الموجودات إلى واجب وممكن بدلا من قديم

وحادث ؛ لأن فئة منهم لا تقول بحدوث العالم . فاستدل هؤلاء الفلاسفة بالإمكان بدل الحدوث ، وقد لخص صاحب المواقف هذا الاستدلال فقال : المسلك الثانى للحكماء وهو أن – فى الواقع – موجودا فإن كان واجبا فذاك ، وإن كان ممكناً احتاج إلى مؤثر ولابد من الانتهاء إلى الواجب وإلا لزم الدور أو التسلسل وهو محال (39) .

قالوا حد الحق ((عند الكندى لا يدخل مع الكائنات تحت جنس أو ما يشبهه ، فإن لم يكن كذلك فهو غير مركب بل إنه فوق الانقسام والكثرة وإنه الآنية الحق التى لم تكن ليس ولا تكون ليس أبدا وهو العلة الفاعلة التى لا علة لها ))(40) .

وأما الفارابى فإنه يقول : لك أن تلحظ عالم الخلق فترى فيه أمارات الصنعة ، ولك أن تعرض عنه ، وتلحظ عالم الوجود المحض ، وتعلم أنه لا بد من موجود بالذات ، وتعلم كيف ينبغى أن تكون عليه الموجودات بالذات . فإن اعتبرت عالم الخلق فأنت صاعد ، وإن اعتبرت عالم الموجودات فانت نازل ))(41) .

ويقول ابن سينا : تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت وحدانيته ، وبراءته من السمات ، إلى تأمل لغير نفس الوجود ، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله ، وإن كان ذلك دليلا عليه ، لكن هذا الباب أوثق وأشرف أى اعتبرنا حال الوجود فيشهد به من حيث هو موجود وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده فى الوجود ، وإلى مثل هذا أشير فى الكتاب الإلهى

{سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق }(42).

[فصلت / 53]

أقول : إن هذا حكم لقول ، ثم يقول فى الكتاب الإلهى {أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد }.[فصلت / 53] .

أقول : هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه (43) .

والملاحظ فى هذين النصين :-

اعتبار الكون طريقا ثانيا للاستدلال وهو المعبر عنه بالطريق الصاعد . بينما الأسلوب المعول عليه فى الاستدلال هو التأمل فى الكون ، وهو أوضح الأساليب ؛ غير أن الفارابى وابن سينا يعتبران عالم الوجود المحض أو الطريق النازل أشرف الأدلة وأوثقها . وهكذا يتضح أن الفكرة العامة حول مفهوم الذات الإلهية والاستدلال عليها فكرة تجريدية ، قد أوغلت فى النظر حتى صارت مهجورة .

آراء العلماء فى أدلة المتكلمين :

أصدر علماء الكلام أحكاما قيموا بها ما أنتجوه من براهين فى الاستدلال على مباحث العقيدة ؛ لكن الملفت للنظر أن هناك آراء فيها حسرة على الاشتغال بهذا العلم بل فيها ندم على ما فرط منهم من إغراق فى الجدل ، فلقد أورد السبكى فى طبقات الشافعية عن الجوينى ما نصه : ((لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بى ما بلغ ما اشتغلت به )) (44) .

وتجربة الغزالى مع الطرق الكلامية أشهر من أن نقف عندها إذا جربها فوجدها وافية بمقصودها غير وافية بمقصوده فسلك مسلك الصوفية وارتضاها أفضل الطرق لمعرفة الله (45) .

ولفخر الدين الرازى وصية أملاها فى مرض موته نصح فيها بالابتعاد عن الطرق الكلامية فى الاستدلال على مباحث العقائد والعود إلى منهج القرآن فى استدلاله ؛ لأنه أقوم المناهج وأشرفها (46) .

وللشهر ستانى وغيره آراء تنصح بالرجوع إلى أساليب القرآن فى بناء العقيدة الإسلامية .

فما هو المنهج الذى سلكه القرآن فى بحث العقيدة ؟

علم الكلام القرآنى

لم يكن القرآن الكريم كتابا فى علم ذكر الحجج والبراهين لكل باب من أبواب العقائد ؛ وإنما هو كتاب عقيدة وهداية رسم منهج الحياة الإسلامية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ، وخط مسلكاً فريداً فى العبادات والمعاملات والأخلاق ، ورتب كل ذلك وفصله بإحكام وإتقان {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا } .[فصلت / 3] .

منهج القرآن فى العقيدة :

وفصل القرآن مسائل العقيدة التى أخبر بها تفصيلا متميزا ، وأشار إليها إشارات بليغة ووقف عند بعضها الآخر طويلا فى مواضع مختلفة من سوره وآياته . وقد اشتمل على جميع أنواع البراهين ، وألوان الأدلة وسلك جميع طرق الاستدلال ، وما من سبيل لإثبات العقيدة إلا وكتاب الله قد سبق إليه وقرره ، ووضع له الأسس التى يجب أن تختذى .

استدلال القرآن على وجود الله تعالى :

إن الأدلة الواضحة على وجوده تعالى تفوت الحصر وكما يقال : إن لله طرائق أنفاس الخلائق ، وقد تعدد الأسلوب الذى اتخذه القرآن الكريم فى الاستدلال على وجود الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته وجليل حكمته ، قال ابن الهمام : ((أولى ما يستضاء به من الأنوار ما اشتمل عليه القرآن ؛ فليس بعد بيان الله بيان ، وقد أرشد سبحانه إلى وجوده بآيات كثيرة ))(47) .

 

نحو منهج كلامى جديد انطلاقا

من القرآن :

أحدثت العلوم ثورة فكرية ، وساهمت فى تكوين عقليات تهتم بالحقائق إلى حد كبير ، وهى تتمثل فى تقديم الكلام على أساس التجربة والمشاهدة لا على أساس التخمينات أو القياسات المنطقية ، وبذلك سقطت القضايا القائمة على المسلمات المنطقية ؛ لأنه لا شئ فى العقل الحديث يسلم منطقيا إلا وله نقيض منطقى يتحمله العقل ، أما التجربة فهى الدليل الذى لا يدفع على قضيتها ، وما ينتج عنها لن يجد الشك إليه سبيلا ، ولذلك كان لا بد من تطوير المناهج الكلامية على أساس من هذه الاكتشافات العلمية الباهرة .

بيد أن الفرق بين رجل العلم وعالم العقيدة فرق واحد ، هو أن العالم يقتصر فى بحثه على البحث العلمى ، بينما يهدف المؤمن بهذا العمل إلى العبرة والموعظة التى تؤكد على حقيقة الإيمان وتهدف إلى تركيزه . كما يظهر الفرق فى طريقة البحث وأسلوب العرض إذا يقتصر العالم الطبيعى على خواص الأشياء ، بينما عالم العقيدة يجتاز هذه الخواص والمميزات إلى حقائق الأشياء وصفاتها وعجائب ما فيها من دقة صنع ، وعظيم حكمة تدل دلالة قاطعة على وجود الله وكمال قدرته وعلمه .

وقد ظهرت فى الفترة الأخيرة كتب كثيرة لعلماء ومفكرين مسلمين ، نظروا فيها للعلم الحديث وثمراته فى ضوء آيات القرآن التى تتكلم عن العالم وعجائبه وظاهراته وأسراره ؛ لكنها لا تزال محاولات متفرقة .

ونمط هذا الاستدلال الجديد قد يكون منعطفا فى الأديان الأخرى كما يتجلى فى كتاب (الله يتجلى فى عصر العلم ) ؛ ولكن هذا النمط من الاستدلال مبحث أصيل فى القرآن . ولكن بعض علماء الكلام هم الذين أخطأوا فى اجتهادهم وانتهجوا منهجا بعيدا عن الواقع وجنحوا فيه إلى المجردات وإن نبه بعضهم إلى الأخذ بأساليب القرآن ؛ ذلك لأن نمط الاستدلال القرآنى إنما هو نفس النمط الذى يعبر عن الاستدلال بالحقائق الطبيعية القائمة على المشاهدة والمؤسسة على المعرفة التجريبية .

وأوضح الأمثلة استدلال إبراهيم عليه السلام لما دعا قومه المشركين إلى التوحيد قبل أربعة آلاف سنة : فقد أقام الدليل على دعوته بمشاهدات الشمس والقمر والنجوم : { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدينى ربى لأكونن من القوم الظالمين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إنى برئ مما تشركون إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض وما أنا من المشركين } [الأنعام / 79] .

إلى أن تقول الآية : {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه }فكلمة حجتنا : تشير إلى أن نمط الكلام الذى اتخذه إبراهيم عليه السلام كان نمط الكلام الإلهى ، ويتجلى من هذا أن الحجة الإلهية أو الاستدلال الإلهى هو أن يستدل من الحقائق المعلومة المشهودة لهذا الكون .

ونمضى فى هذا اغلسياق فنقول إن التعليم الذى أعطاه الله فى كتابه بصورة كلامية جعل الكون بأسره دليلا عملياً لتأييده وتأكيده ، وأى دليل يكون أقوى من الدليل الذى اتخذه الله لنفسه ولذلك جاء فى القرآن فى جانب {هذا كتابا ينطق عليكم بالحق} [الجاثية / 29].

وجاء عن الكون (السماء والأرض) فى جانب آخر {ما خلقناهما إلا بالحق}[الدخان / 39] .

وفى هذا يبدو لنا القرآن والكون كليهما إظهار للمشيئة الإلهية الربانية وهو إظهار بصورة عقلية نظرية وبصورة عملية محسوسة .

وهذا الطريق الاستدلالى هو الذى اختاره الله لجميع رسله فهذا نوح عليه السلام أسلوب استدلاله هو نفس الاستدلال المبنى على البراهين الحقيقية أو الطبيعية يقول نوح عليه السلام {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل من السماء عليكم مدرارا ويمدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا } . [نوح / 10-20] .

وتأمل فى الأسلوب الاستدلالى الذى انتهجه القرآن الكريم هذا الأسلوب المعتمد على الحقائق الطبيعية يقول القرآن :{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت ،وإلى الأرض كيف سطحت}. [الغاشية / 20-22] .

إن هذا هو الاستدلال القرآنى الأصيل الذى بدا عند سائر الرسل من خلال استقرائنا لآيات الكتاب ، وتلك هى الحجج التى اعتمدوا عليها ؛ فالحقائق الكونية وآيات الله فى الآفاق والأنفس – :

أسلوب مقنع يناسب مختلف المستويات البشرية ، ويعمق الحقائق الإيمانية على قدر الأبعاد الفكرية للمخاطبين .

مميزات المنهج القرآنى فى الاستدلال على وجود الله

امتاز كتاب الله العزيز بمميزات جعلته خالدا إلى اليوم وإلى الغد وإلى الأبد : فمن أخص خصائص القرآن أنه ((نورا )) و((هدى للناس)) و((فرقانا )) و((برهانا)) و ((بينة)) .

ومن أهم مميزات القرآن فى الاستدلال على وجود الله تعالى :

(1) منهج مناسب لجميع المستويات الفكرية : وفهمها لا يتوقف على علم فائق ودراسة واسعة للعلوم والفلسفات ، يفهمها العوام كما يفهمها الخواص ، وتناسب جميع المستويات سواء فى ذلك العامى أو العالم أو الفيلسوف ، وكل واحد من المستويات يجد فيها ضالته ، فنظرة العامى إلى قوله تعالى : {فلينظر الإنسان مم خلق من ماء دافق } [الطارق]

تثير إيمانا ساذجا بعجيب القدرة ، كما أن نظرة (البيولوجى) (عالم الحياة ) إلى منشأ الإنسان وخلقه تثير عجبه وإعجابه وإيمانه العميق .

ونظرة العامى إلى السماء وتلألأ نجومها وسطوع شمسها وأقمارها -: تبعث عنده الإيمان بدبر هذا الكون وعظمته ، ونظرة الفلكى بمعرفته الواسعة لحركات النجوم وسيرها ونظامها وخلقها وأبعادها -:أقدر على معرفة العظمة وأشد إعجابا بخالقها ومدبرها .

وهكذا الشأن فى العامى والفسيولوجى ، والعامى والسيكولوجى ، والعامى والفيلسوف : كلهم صالح لأن يتأثر بهذا المنهج على اختلاف استعدادهم ومداركهم .

والحقيقة أن العالم يزداد خشوعا كلما شاهد حكمة الله فى بديع صنعه ، ولذلك قال تعالى : {إنما يخشى الله من عباده العلماء }[فاطر / 28]

وقيل : ((كلما داخلنى الشك فى عقيدتى فى الله وجهت وجهى إلى أكادمية العلوم لتثبيتها )) .

(2) منهج الاستدلال لم يغرق فى التجريد والنظريات الصرفة كما فعل الفلاسفة ، ولم ينهمك فى الاستدلالات الإرسطية ، والتفريعات المنقسمة إلى مقدمات كبرى وصغرى ونتائج كما فعل المتكلمون ، وإنما هو منهج قد اعتمد الإقناع مراعيا فى ذلك الفطرة الإنسانية وهى قدر مشترك بين الناس جميعاً .

(3) منهج القرآن فى الاستدلال على وجود الله ينطلق من المحسوس والمحسوس قريب من الإنسان ، سهل التناول عقليا ، وهذه الآيات كثيرة فى القرآن وكثرة الأدلة تفيد القوة وترسخ الإيمان ، وهى تعتمد كثيرا على الأمور الموضوعية الواقعية . وهذه الأدلة فى مظاهر يكثر تعامل الإنسان معها لذلك عادة ما تكون محسوبة بقيود الألف والعادة ولذلك فإن القرآن الكريم يدعونا إلى التأمل فيها ويلفت أنظارنا إلى ما اشتملت عليه من بديع الأسرار وهى كالإنسان والنفس والطعام والمظاهر الطبيعية المتنوعة .

قال تعالى :{وفى أنفسكم أفلا تبصرون } [الذاريات / 21] .

وقال : {فلينظر الإنسان إلى طعامه ..} [الغاشية / 17] .

وقد ذكر سبحانه الإبل لأنها وسيلتهم المفضلة فى السفر .

ومادة الأدلة القرآنية فضلا عن كونها محسوسة ففيها منافع للإنسان ومآرب وخلقت لأجل غايات معينة ، منها ما أدركها العقل ، ومنها ماعجز عنه ، أو لا يزال يحاول إدراكه ، والطبع الإنسانى قد جبل على حب ما ينفعه ، وهذه المنافع تهدى إلى الشكر المنعم وبالتالى تقود إلى الإيمان .

(4) منهج القرآن فى الاستدلال على مقام الألوهية يخاطب العقل والقلب معا ؛ ذلك لأن الإنسان قد اشتمل على جانبين عقلى ووجدانى ، والاعتماد على جانب دون الآخلا لا يوصل إلى الحقيقة الجازمة ، ولعله يورث الشك إذا أسرفنا فى الاعتماد على ناحية دون الأخرى ؛ لأن الإيمان عملية متشعبة سبيلها تضافر الوجدان والعقل معا .

فالقرآن صيغت أدلته فى منتهى الدقة المنطقية ولكنها سيقت فى جو وجدانى يأسر القلب ويهز المشاعر ولا يترك المجال للشك ، فسبحان من أحكم كتابه وأحاطه بضروب الإعجاز .

(5) منهج القرآن فى الاستدلال : لا يكون الدليل فيه على صورة عامة مجملة ، ولكنه يسوق الأدلة على هيئة جزئية مفصلة ، وبذلك يغنى عن التفصيل بعد ذلك ، وما يحتويه التفصيل من تفريعات قد تشغل النفس عن الهدف الأصلى ، فضلا عن الأمور الجزئية تدركها النفس بسهولة ويسر يقول الله تعالى :{هو الذى أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون }. [النحل / 10-11-12] .

وذلك على عكس الأدلة الوضعية ، فهى تقوم على التعميم ، ثم تنتقل إلى التفصيل ويحتاج التفصيل إلى تفصيل وهذا من شأنه أن ينفر الناس ويجعلها تشعر بالملل ويصرفها عن الهدف المنشود .

(6) منهج القرآن فى استدلاله على وجود الله سبحانه : يعتمد التنوع بحيث لم يقتصر على مثال واحد فى المجال الواحد بل لفت نظر الإنسان إلى عظمة الاختراع ، ودقة الصنع فى عجائب الحيوان والنبات ، وما اشتمل عليه الإنسان من الآيات الباهرة ، وما حوته الأرض والسموات من ملايين الكواكب قال تعالى : {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منه ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم }.[النازعات / 27 -33] .

وقال سبحانه :

{ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم غن فى ذلك لآيات للعالمين }.

[الروم / 20-22] .

(7) منهج القرآن يساير الفطرة فى صوغ أدلته ويغذيها ويشعر كل إنسان فى أعماق نفسه بالاستجابة لها والإصغاء إليها حتى الملحد بعقله .

والفطرة شعور مشترك بين الناس جميعا كامن فيهم يشهد بأن فوق هذه الكائنات المحدودة المتناهية كائنا غير محدود ولا منتاه ، يهيمن على كل شئ ، شعور ينبع من أعماق النفس ، شعور يجده الإنسان فى نفسه بغير تعلم ولا تلقين ولا اكتساب (48) ،وهو إحساس يشعر به المرء عندما يتحرر من الميول الفاسدة ويرتفع عن قيود الإلف والعادة .

وهذا الإحساس الفطرى أجلى ما يظهر عند الشدائد والملمات ، ولكنه قد يختفى عندما يحاط الإنسان بمضاهر الثراء والبذخ وإلى هذه الحقيقة أشارات الآيات :

{ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم }.[الشورى ]

{وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه فذو دعاء عريض }[فصلت / 51] .

{وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور }

[لقمان / 32] .

ويضرب القرآن مثلا لهذا الإيمان الذى يبرز فجأة عند الشدائد والملمات فى قوله تعالى {وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون }[يونس / 91- 93] .

وهكذا فإن القرآن الكريم حينما يسوق الأدلة على وجود الله يعتبر أنها قضية بديهية وأمر مسلم {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر}[الأنعام / 63] .

{أمن يبدأ الخلق ثم يعيده}.[النمل / 64] .

{أفى الله شك فاطر السموات والأرض}[إبراهيم / 10] .

فكيف يكون شك والفطرة شاهدة بوجوده مجبولة على الإقرار به ، قال ابن تيمية : إن فطرة الخلق مجبولة على أنهم متى شاهدوا أشياء من الحوادث المستجدة كالبرق والرعد والزلازل ذكروا الله وسبحوه ؛ لأنهم يعملون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه بل بمبدع أبدعه وصانع حكيم قد أتقنه .

وقال ابن قيم الجوزية :((إن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر السليمة من وجود النهار ومن لم ير ذلك فى عقله وفطرته فيلتهمها ))

ومما يستأنس به ما ذكره ديكارت فى ميثاق الفطرة من أنها مغروسة فى النفس البشرية ، أى أن الله حين خلق الإنسان أخذ عليه عهداً وميثاقاً لكى تكون علامة الصانع واضحة جلية مطبوعة فى صنعته …(49) .

لذلك كانت أدلة وجود الله تعتمد ما ركز فى الفطرة الإنسانية ، ويتجه بالخطاب إليها مباشرة لعلها تتذكر العهد والميثاق الذى أخذه الله عليها فى عالم الذر على حد تعبير أحد المفسرين (50) .

قال تعالى :{قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون }[يونس / 31- 32] .

نماذج من الاستدلال على وجود الله

 تعالى انطلاقا من القرآن

تنوع الأدلة وكثرتها

لم يكن وجود الله محل شك فى عصر من العصور ، فهو حقيقة الحقائق التى ينبع منها كل ما فى الوجود من الحقائق .

قال الشاعر :

فوا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد

ولله فى كل تحريكه

وفى كل تسكينة شاهد

وفى كل شئ له آية

تدل على أنه واحد

وقد استعرض المفكرون (51) والفلاسفة شتى صنوف الأدلة التى قيلت على مر العصور وقسموها إلى أقسام منها :-

(1) ما سموه برهان الخلق وهو أقوى الأدلة وأبسطها فى ذات الوقت وهو يدور حول بديهة هى أن كل مخلوق لا بد من خالق .

(2) وثانى هذه الأقسام ما وصف بأنه برهان الغاية والقصد والنظام . فحيثما أجلنا البصر حولنا فى الكائنات ، وجدناها محكمة الصنع ، وكل ما فيها يقطع بأنه صنه لغاية محددة ودل على أنها تسير نحو غاية مسددة .

(3) أما القسم الثالث فهو يسمى ببرهان المثل الأعلى فالعقل لا يقف عند أمر من الأمور إلا ويتخيل أن هناك ما هو أكمل منه وأجمل وأقدر وإذن فلا بد من انطواء الوجود على المثل الأعلى الذى هو الله تعالى .

(4) وهناك أقسام أخرى متنوعة من الاستدلال منها ما يعود إلى شهادة الوجدان والشعور كبرهان الأخلاق أو وازع الضمير . وسنقتصر على بعض البراهين القرآنية على وجود الله .

دليل الخلق :

يعتبر دليل الخلق من أعظم الأدلة على وجود الله ومن أكثرها بداهة ووضوحا .

وقد اهتم به المفكرون والفلاسفة والعلماء بحسب بيئاتهم وثقافتهم وقد تأثر هذا الدليل بما كانت تعج به البيئة من عوامل مختلفة .

ونبه إلى هذا الدليل الماتريدى (52) وغيره ، كما ينسب إلى ابن رشد الفيلسوف ، ودليل الاختراع ، كما سماه أقرب الأدلة إلى مدارك الجمهور (53) . وقد سماه بعض المفكرين بدليل الإبداع ، وبدليل الصنع ، وسماه الرازى بدليل الآفاق والأنفس . والقضية فى هذا الدليل تكمن فى طريقة عرضه . وبقدر ما يحسن أسلوب تقديمه وطريقة عرضه بقدر ما نحقق من نجاح .

وهذا الدليل قد تظاهرت عليه آيات الكتاب الكريم ، ففيه أكثر من ثمانين آية كلها تنبه على مظاهر الخلق ، وتدعو إلى التأمل فى عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات وبدائع صنعها ، وكثيرا ما تختم هذه الآيات بقوله تعالى :{لآيات لقوم يعقلون } أو {لأولى الألباب}أو {أفلا تعقلون}. والقرآن فى هذا الدليل لا يذهب بالإنسان بعيدا بل يلفت نظره إلى ما تكثر مشاهداته من حوله ، وما تعج به بيئته من مظاهر الاختراع فى الكون كأحوال الأرض والمعادن والنبات وعالم الحيوان من الطيور والزواحف والنمل والنحل ، وأساليب التفاهم بين كل جماعة منها قال تعالى :{وما من دابه فى الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم }. [الأنعام / 38] .

وكالكواكب وحركتها وأوضاعها والأحوال المتعلقة بها ، من سرعة متناسبة تناسبا دقيقا مع مسافتها بالنسبة للشمس ، وكذلك بالنسبة لدورانها حول مركزها وما يترتب على ذلك من المصالح كأغذية الخلق وتدبير معاشهم وصحة أبدانهم وسياسية شؤونهم .

وإن الأعجوبة فى الدلالة على وجود الله لا فى كثرة العدد ولا ثقل الوزن ، وإنما العبرة فى صغر الحجم مع عجيب التركيب . ولو وقفت على جناح بعوضة وقوف معتبر وتأملته تأمل متفكر – :

لامتلأت نفسك عبرة ولرأيت من أسرار الخلق ولطيف الحكم ما لا يحصى .

وهكذا إذا استعرضت مظاهر الخلق فلا تستصغرن الصغير لأن فيه من عظيم التدبير ودقيق الحكم ما يعجز عنه المتفحص وما لا يدركه إلا العالم المتأمل .

وظاهرة الحياة وما اشتملت عليه من أسرار تبقى اللغز الذى لم يكشف أمام العلوم ، رغم أن المواد الأولية التى تتكون منها الأجسام الحية معلومة المقادير ومع ذلك عجز البشر عن صنع الحياة قال تعالى :{إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له}.

[الحج / 73] .

وظاهرة الإبداع تتجلى فى كل كبيرة وصغيرة من هذا العالم فإذا تأملته بفكرك وجدته كالبيت المبنى المعد فيه جميع عتاده ، السماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، وهى من أشد الأشياء تعقيدا فلو أن كوكبا حاد عن مساره ، أو اختلت سرعته ، وحدث الارتطام بين هذه الكواكب المنضوده لكانت الكارثة ولانتهى الكون . قال تعالى :

{أو لم ينظروا فى ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ } [الأعراف / 135] .

وقال سبحانه :

{أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد}

[ق / 10] .

وقال تعالى :{قل انظروا ماذا فى السموات والأرض }[يونس / 101]

وتأمل حكمة الله فى خلق الأرض كيف خلقت ممهدة ساكنة ، لتكون مستقرا للأشياء جميعا ، ويتمكن الناس والأنعام من السعى عليها فى مآربهم والجلوس لراحتهم والنوم لهدوئهم والإتقان لعملهم ، فإنها لو كانت رجراجة لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء

والنجارة والحدادة .. بل كانوا لا يهنئون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم قال تعالى :{والأرض فرشناها فنعم الماهدون }

[الذاريات / 48]

لو فكر المرء فى المطر والصحو كيف يتعاقبان على العالم فيه الصلاح . ولو دام واحد منهما عليه كان ذلك فساده . ألا ترى أن الأمطار إذا توالت عطنت البقول والخضر واسترخت أبدان الحيوان وخفر الهواء ، فأحدث ضروبا من الأمراض ، وفسدت الطرق والمسالك ، وأن الصحو إذا دام الأرض والأبدان وانعدمت الثمار وغيض ماء العيون والأدوية ، فأضر ذلك بالناس وغلب اليبس على الهواء …

فإذا تعاقب الصحو والمطر هذا التعاقب المعتدل اعتدل الهواء ودفع كل منهما عادية الآخر فصلحت الأمور والأشياء واستقامت .

وتأمل الحكمة فى خلق الشجر وأصناف النبات ، وتأمل خلق ورق الشجر : فى الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع ، فمنها غلاط ممتدة فى طولها وعرضها ، ومنها دقائق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجاً رقيقاً محكماً معجباً لو كان مما يصنع بالأيدى كصنعة البشر لما فرغ من ورقة شجرة فى عام كامل .

وظاهرة الاختراع لا تنحصر فى عالم النبات ولا فى عالم الكائنات الحية ، وإنما تشمل مظاهر الوجود مما أدركته عقولنا ومما لم تدركه بعد ، ولقد ثبت علميا أن الكائنات الحية عبارة عن عوالم تحوى عوالم أخرى وقف أمامها العلم عاجزاً عن حل كثير من ألغازها .

خلق الإنسان أعظم آية على وجود الله :

كل شئ فى خلق الإنسان آية من آيات الله تعالى ، يدل على التدبير والقصد والإحكام من الله ويبعد به عن الإهمال والصدفة . وأى شئ فيه ليس مثار دهشته وعجبه ؟ أليس نظام طعامه وشرابه وتحليل الطعام إلى عناصر مختلفة بموازين يذهب كل عنصر إلى حيث يؤدى وظيفته وأما ما لا يفيد فيلفظ إلى الخارج .

أليس توزيع الدم من مكانه الرئيسى وهو القلب فى أنحاء الجسم بواسطة الشرايين التى لا يحصى عددها إلا الله ثم عودته إلى القلب بواسطة الأوردة ليفيد من الجسم آية من آياته سبحانه . وتأمل حكمة التدبير فى تركيب البدن ، ووضع هذه الأعضاء مواضعها ، وإعداد هذه الأوعية فيه لتحميل تلك الفضلات ، ولا تنتشر فى البدن .

أفلا ترى جسم الصبى كيف ينمو بجميع أعضائه نمواً فى توازن وبمقدار لجميع الأجزاء فى تناسق ، أوليست أطواره فى الرحم آية من آياته سبحانه وتعالى .

وأعجب من هذه تصويره فى الرحم حيث لاتراه عين ولا تناله يد يخرج سوياً بجميع ما به قوامه من الأحشاء والجوارح .. إلى ما فى تركيب أعضائه من العظام ، واللحم ، والشحم ، والمخ ، والعصب ، والعروق ، والغضاريف ، من دقائق التركيب والتقدير والحكمة .

وكل شئ فى الإنسان يدل على الحكمة والإتقان : فبصره وعقله وسمعه لو تأملتها لا متلكك العجب ، ولو فكرت فى أعضاء الإنسان وما خلقت عليه أفراداً وأزواجاً لرأيت ما فى ذلك من الصواب والحكمة .

وتأمل لين المفاصل فى الإنسان وكيفية تهيئتها حتى صار بها يقبض ويبسط ويتلقب فى مختلف الأحوال وتأمل ما فى هذه المفاصل من غضاريف تمنع النظام من الاحتكاك ، ومواد دهنية تسهل الحركة ، ثم مفاصل تتحرك إلى الأمام مثل مفصل المرفق ، ومفاصل تتحرك خلفا مثل مفصل الركبة ، ومفاصل تتحرك لجميع الجهات مثل مفصل الرسغ ؛ فستدرك أن مدبر هذا الجسم قوة حكيمة عاقلة وهو الله سبحانه وتعالى .

وليس هذا الدليل مقتصرا على هذه الظواهر بل إنك تلمسه فى اختلاف الناس وألوانهم وأصواتهم وبصماتهم ، فإنه لا يوجد شخص كالآخر أو يشبهه شبهاً دقيقاً فى الظاهر والباطن بل كل واحد عالم قائم بذاته ، وفى ذلك أعظم قدرة لله تعالى تتجلى فى مخلوقاته وتشهد بألوهيته .

هذه الإشارات من برهان الخلق هى قطرة من بحر ، وذرة من ذرات هذا الوجود ، لو أحكمنا استغلالها بما وصل إليه العلم من اكتشافات ، وأبرزنا مظاهر الإبداع فى صور من العرض العلمى الدقيق لطورنا علم الكلام القرآنى تطورا يواكب العصر ، وجعلنا من أدلة وجود الله مادة مشوقة تأسر العقول والقلوب وتدعو إلى الإيمان وترسخ العقيدة الإسلامية .

دليل الإتقان

دليل الإتقان ويسمى بدليل التقدير وبدليل الإحكام وبدليل نظام العالم .

فهذا الكون يبدو على جميع مظاهرة صواب التدبير والتنظيم الدقيق والصنع المحكم ، فكل شئ بحساب دقيق فى ذاته ومع غيره ليحصل التوازن الشامل بين أجزاء الوجود .

لقد كان من أهم ما اكتشفه الإنسان فى هذا العصر أن هذا العالم يخضع إلى منتهى الدقة ، يدركه ذلك الإنسان فى تعاقب الليل والنهار ، والصيف والشتاء ، وحركات الشمس والقمر ، ثم كلما ازداد تعمقه فى دراسة الطبيعة ازداد إيمانا بهذا النظام ودقته ، فإذا تبين فى شئ ما فوضى أدرك فيما بعد أن ذلك يعود إلى جهله بقوانينه لا حاجته إلى النظام . وأكثر الناس إيمانا بالنظام فى فرع من فروع العلم علماء ذلك الفرع ، فالفلكيون أشد الناس إيمانا بنظام الكواكب ، وعلماء الحيوان فى الحيوان ، وعلماء النبات فى النبات ، وعلماء وظائف الأعضاء فى وظائف الأعضاء ، وأطباء العيون فى العيون وهكذا ، كل يدرك ذلك فى العالم كوحدة ، بل يدرك أنه لولا نظام ناحية من نواحى العالم ما كان لها علم . فالعلم معناه جملة من القوانين المنظمة تتعلق بجانب من جوانب الحياة كالنبات ، والحيوان ، والفلك ، حتى الجسم فى مقاومته للمرض يفعل الأعاجيب فى نظامه ، ولولا ذلك ما كان طب . ثم كل جزء من أجزاء العالم أعانه ذلك على فهم سائر أجزائه لتشابه القوانين ووحدة النظام ، وبلغ من دقة نظامه أنه لولا نظامه ما وجد .

وهذا التقدير ظاهرة عامة فى كل شئ وقد نبه القرآن على ذلك فى مواطن عديدة إذا قال :{وكل شئ عنده بمقدار }. [الرعد / 8]

وقال :{وخلق كل شئ فقدره تقديرا }[الفرقان/ 2] .

وقال :{.. قد جعل الله لكل شئ قدرا }[الطلاق / 3]

وقال :{إنا كل شئ خلقناه بقدر }[القمر / 4] .

وقال :{وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزلنه إلا بقدر معلوم }. [الحجر / 21]

إن يد الله التى خلقت قد أرت نفسها فى خلقها ، وإرادة الله التى خصصت أرت نفسها فى مبدعاتها ، وحكمة الله ظاهرة فى هذا الكون .

ولا شك أن نظاماً بديعاً معجزاً كهذا فيه دلالة على أن هذه الكائنات لم تخلق عبثاً ، وليست نتيجة قوة عمياء ؛ بل من وراء ذلك قوة مدبرة عليه ، قد ضبطت كل شئ بمقدار .

وكل شئ ما فى هذا الكون لا تكاد تتحرك فيه ذرة واحدة على غير هدى أو غير محكومة بقاعدة معينة وناموس مخصوص ، وكل ما فيه كتاب مفتوح يقرأه كل من يتأمله ويتدبره بعين العقل والوجدان ؛ ليتضح أمام بصيرته ما فيه من نظام وقوانين تحكمه وتلاءم أجزائه وتتكامل .

ولو تأمل الإنسان أعضاءه وخلاياه وما بينها من تعاون وتناسق وتوازن- : لأدركنا من دقة التقدير وإحكام التدبير ما لا ينقضى منه العجب ومما ذكره (أ . كريسى مورسون) فى فصل ضوابط وموازين من كتابه قال :((ما أعجب نظام الضوابط والموازنات فى الكون )) (54) ثم يعدد بعد ذلك مظاهر التوازن فى الكون فيضهر أمرا عجبا كالهواء والماء والتوازن بين الحشرات فى الليل والنهار . ولقد نبه القرآن الكريم إلى هذه الظواهر الكونية فى آيات كثيرة كقوله تعالى :{ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا }. [النبأ / 6-16] .

وكمثل قوله :{وفى الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الأكل إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون }.[الرعد / 4] .

وكمثل قوله :{أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حى أفلا يؤمنون وجعلنا فى رواسى أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتنا معرضون وهو الذى خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون }.

[الأنبياء / 30- 31] .

هذه الحقائق الجلية من الظواهر الكونية فى الإنسان والحيوان والنبات والمظاهر الطبيعية المختلفة التى تحصى ولا تعد ، كلها براهين تشهد بأن وراء هذا العالم المتقن والكون المنظم عليم حكيم قد نظمه ؛ لأن من المتناقضات وجود تنسيق عجيب وترتيب بديع بلا منسق ولا مرتب

وهذه الحقيقة التى تشكل برهانا يقينيا على وجود الله جل جلاله والتى تسمى عند بعض المفكرين والفلاسفة (العلة الغائية) وتسمى عند علماء العقيدة ب (دليل النظام والتدبير) أو (دليل الحكمة والتناسق) هى التى يضل القرآن يوجه العقول بأساليب رائعة متنوعة يفهمها الناس على اختلاف مستوياتهم وثقافاتهم . وهو برهان يخرس ألسنة الملحدين ويسد فى وجوههم منافذ الحيل كلها .

والأسلوب العلمى الأمثل فى مثل هذا البرهان هو الاهتداء بآيات الله . وإبراز مظاهر إتقانه فى الوجود بوسائل علمية تبعث على الإيمان وترسخه .

دليل العناية والتسخير

دليل العناية أشهر الأدلة على وجود الله وأثراها وأكثراها إقناعا للعقول البشرية .

وهو قسم من دلالة نظام العالم .

وقد ازدادت أهمية هذا الدليل إثر الاكتشافات العلمية وأخذ الناس بطرق التفكير العلمى الحديث .

وقد فضله ابن رشد على سائر الأدلة وذكر أنه دليل قرآنى ، يقول فى هذا الشأن : إن الهدف منه ((الوقوف على عناية الله بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله (55) ووضعها متناسبة معه ، موافقة لمتطلبات وجوده ملائمة لظروفه ومنافعه .

فالكون بجميع أجزائه مسخر لخدمة النوع البشرى ، فمن أعضم كائن فيه إلى أصغر كائن ، الكل يخدم هذا النوع .

وهذه الحقيقة مدهشة للغاية ، أن يكون هذا الكون الفخم الهائل بكل ما فيه ، من أجرامه السماوية ، ومخلوقاته الأرضية ، الجميع مسخر تسخيرا خاصا لخدمة نوع واحد من بين سائر المخلوقات التى حواها الكون وانتظمها هذا الوجود على أساس الحق والعدل والخالى من العبث .

إن كل شئ فى هذا الكون محكوم بالعناية الإلهية .. يتحدث الله عن هذه العناية فيقول إنه سخر لنا البحر ، وسخر لنا ما فى السماء والأرض جميعا منه ويلفتنا بعد ذلك إلى التفكير والتأمل يقول الله تعالى :{الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الأرض جميعا منه إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون } .

[الجاثية / 12-13] .

ولو تأملنا حكمة تسخير الله للبحر سوف نلحظ أول إشارة لمعنى العناية الإلهية ،وأن الحياه تبدأ من الماء ، وبغير الماء تهلك الكائنات على الأرض ، وكل ما فى الأرض من مياه عذبة هى أصلا مياه قادمة من البحر … إن المياه تغطى أربعة أخماس كوكبنا الأرضى .. بحيث تبدو الأرض من الفضاء مثل كرة مائية معلقة تدور حول نفسها وحول الشمس .. تتبخر المياه وتصنع السحب …

وبسبب كهرباء السحب تسقط الأمطار ، ولولا سقوط المطر لاستحال وجود الأنهار والبحيرات ، ولاستحالت الزراعة على الأرض ، فكل ما فى الكون يقطع بوجود الله تبارك وتعالى ويشهد له ، قال تعالى :{ هو الذى أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون } [النحل / 10 – 11] .

وقد جعل ابن رشد دليل العناية من أشرف الأدلة على وجود الله ، واعتبره دليل الشرع يقول شارحا هذا الدليل : فأما دليل العناية فينبنى على أصلين : أحداهما أن جميع الموجودات التى ههنا موافقة لوجود الإنسان . والأصل الثانى أن هذه الموافقة هى ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد ؛ إذا ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق . فأما كونها موافقة لوجود الإنسان فيحصل اليقين بذلك باعتبار موافقة الليل والنهار والشمس والقمر لوجود الإنسان . وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة والمكان الذى هو فيه أيضا وهو الأرض ، وكذلك تظهر أيضاً موافقة كثير من الحيوان له ، والنبات ، والجماد ، وجزيئات كثيرة مثا الأمطار ، والأنهار ، والبحار ، وبالجملة الأرض ، والماء ، والنار ، والهواء . وكذلك تظهر العناية فى أعضاء الإنسان والحيوان أعنى كونها موافقة لحياته ووجوده (56) .

ويستقرئ ابن رشد آيات العناية فى القرآن الكريم ويصنفها ، ويفعل مثل ذلك فى آيات الاختراع ، ويرى فى آيات أنها تجمع دلالة العناية والاختراع معاً .

أما العناية فقد نبه عليه الكتاب العزيز بمثل قوله تعالى :{ تبارك الذى جعل فى السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً }

[الفرقان / 61] .

ومثل قوله تعالى :{وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر } . [الأنعام / 97] .

ومثل قوله :{الذى جعل لكم الأرض فراشاً} [البقرة / 22] .

وبالنسبة لدليل الاختراع فقد نبه عليه بمثل قوله :{ ألم ينظروا فى ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ } [الأعراف / 185] .

وكقوله :{ أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون …أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يقنون } . [الطور / 25- 26] .

وقد ذكر ابن رشد أن هنالك آيات تجمع دلالتى العناية والاختراع كقوله تعالى :

{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم}إلى قوله :{فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } فإن قوله سبحانه :

{الذى خلقكم والذين من قبلكم }تنبيه على دلالة الاختراع وقوله :{الذى جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء}تنبيه على دلالة العناية .

أدلة قرآنية متنوعة

إن أدلة وجود الله تعالى كثيرة متنوعة ، يمكن أن تشمل آيات قصار إشارات واضحة إلى براهين على وجوده سبحانه كمثل قوله تعالى : {سبح اسم ربك الأعلى الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى}[الأعلى / 1-2-3] .

فلقد قدمت هذه الآيات أدلة بينة كدليل التسوية ودليل التقدير وهما دليلان يتفرعان عن دليل نظام العالم .

وأما دليل الهداية الذى يندرج تحت برهان العلة الغائية ، وهو دليل ثرى ؛ لأنه ما من وجود على ظهر الكون إلا ويسير نحو غاية مسددة وهدف واضح ، يتجلى ذلك فى عالم الحيوان ، والنبات ، والجماد ، فالنحلة رغم صغر حجمها ، فيها غريب الحِكَم ، وعجيب التدبير ، كالادخار عن ليوم العجز عن كسبها ، وشمها ما لا يُشم ، ورؤيتها ما لا يرى ، وحسن هدايتها ، والتدبير لملكها ، وطاعة سادتها ، وتقسيط أجناس الأعمال بينها على أقدار معارف وقوة أبدانها . والنبتة من أوحى لها بالصعود إلى الأعلى فى نموها ، ومن همس لها بالإزهار ، والنضوج فى زمن معين .

والصغير ما إن ولدته أمه حتى يلقم ثديها فمن هداه إلى ذلك …؟ .

هذا الدليل مشاهدة متحركة تنبض بالحياة ، فإذا أحكمنا رسم هذه اللوحات بأسلوب علمى دقيق – : أوصلتنا إلى الإيمان الصحيح .

آراء فى الاستدلال على وجود الله

من القرآن :

نبه علماء الأمة الإسلامية على أهمية براهين القرآن على وجود الله وفضلوها على غيرها من بين سائر الأدلة بقول الغزالى :

(( إن أدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل الناس وأدلة المتكلمين والفلاسفة مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس ويستضر به الأكثرون )) (57) فلقد شبهها حجة الإسلام بالطعام المعد لاستهلاك عموم الناس وليس لفئة دون أخرى .

وقال العقاد : (( إن البراهين التى جاء بها القرآن الكريم وخصها بالتوكيد والتقرير هى أقوى البراهين إقناعا )) (58) .

فالأجدر بنا فى هذا العصر العود إلى منهج القرآن فى الاستدلال على وجود الله والأخذ ببراهينه – غير غافلين عما كشف عنه العلم الحديث من حقائق توافق آيات القرآن الكريم – وإبرازها بحكمة فى مواطن الاستدلال .

 

الهوامش

( ا) أحمد أمين : ضحى الإسلام 3/ 2 .

(2) الفقه الأكبر : ص 6 .

(3) الأشعرى : رسالة فى استحسان الخوض فى الكلام ، ص 5 .

(4) ص 155

(5) المقدمة : ص 431 (ط . دار الشعب ، القاهرة) .

(6) التفتازانى : شرح العقائد السنية : مكتبة المثنى ص 15 .

(7) التفتازانى : شرح العقائد السنية : مكتبة المثنى .

(8) محمد عبده : رسالة التوحيد ، ص 12

(9) إحصاء العلوم : ص71 .

(10) المنفذ ، ص 76

(11) المقدمة 3207

(12) المواقف :42 / 1 .

(13) كشاف اصطلاحات الفنون : 22

(14) مصطفى عبد الرازق : تمهيد لتاريخ الفلسفة : 626

(15) رسالة التوحيد : 4

(16) ابن النديم : الفهرست : 471 – 472

(17) محمد أبو زهرة : تاريخ المذاهب الإسلامية ، ج 1، ص 187

(18) سير توماس أرنولد : تراث الإسلام ، ص 363

(19) ابن النديم : الفهرست : 471- 472

(20) البغدادى : أصول الدين : 154

(21) تأويل مختلف الحديث : ص 60

(22) مقدمة الإسلام يتحدى : ص 11 – (الطبعة السادسة) .

(23) ابن رشد : مناهج الأدلة : ص 152 .

(24) التمهيد 20

(25) الإرشاد : 30

(26) الفصل : 50

(27)  تهافت الفلاسفة : 20

(28) الإبجى : المواقف 7 /2

(29) الانتصار : 46

(30) التوحيد : ص 13  و 17 .

(31) ذاته ن . م .

(32) ص 35

(33) التوحيد ص 94

(34) التوحيد ص 11

(35) التوحيد ص 1

(36) مقدمة مناهج الأدلة لابن رشد : ص 20

(37) كمال الدين البياضى الحفنى : إشارات المرام من عبارات الإمام : 86

(38) الإيجى : المواقف : 3/3

(39) الإيجى 8

(40) رسائل الكندى الفلسفية : تحقيق د . محمد عبد الهادى أبو ريدة ، ص 215

(41) الفارابى : فصوص الحكم : 139

(42) ابن سينا : الإشارات ج 1 ، ص 214

(43) ابن سينا : الإشارات ج 1 ، ص 214

(44) ابن السبكى : طبقات الشافعية 260 /3

(45) المنقذ من الضلال : 20

(46) زركان : آراء الرازى الكلامية : ص 90

(47) ابن الهمام : المسايرة : 20

(48) العقاد : الله : 212

(49) ديكارت : التأملات فى الفلسفة الأولى : 155

(50) النسفى : التفسير : ج 1 : ص 105

(51) العقاد : الله : 214

(52) أبو منصور الماتريدى : كتاب التوحيد : 21

(53) ابن رشد : مناهج الأدلة : 45

(54) العلم يدعو إلى الإيمان : 20

(55) ابن رشد : مناهج الأدلة : 150

(56) ابن رشد : مناهج الأدلة 151

(57) الغزالى : إلجام العوام عن علم الكلام : 20

(58) العقاد : الله : 237

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر