أبحاث

الرسول والتفرقة العنصرية (2)

العدد 24

(11) مع البرهمية والهندوكية.

لكل دين إيجابيات اعطته القدرة على البقاء وتنظيم الحياة. وحينما جاء الإسلام اقر ما كان قبله من مآثر رآها للبقاء، ووضع عن الناس الآصار والأغلال التي كانت عليهم. وأقرب النماذج إلى ذلك ما كان بين الجاهلية والإسلام. ويمثلها قول المصطفى عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة “الا كل مأثرة أو دم أو مال يدعي فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.”.

وفي الديانة الهندوكية نقرأ في الرج – فيدا كمثال:

“إذا كنا أخطأنا في حق من أحبنا، وأسالنا إلى صديق أو صاحب وآذينا جارا أو غريبا… فاغفر لنا عدواننا”. والهندوكية تؤمن بتعدد الآلهة وإن كانت ترد هذا التعدد في قمته العليا إلى إله واحد.

ولكنا هنا سنقصر القول على ما يتعلق بالتفرقة العنصرية. وهي أمر لا ينكره حتى كبار فلاسفة الهند وإن حاولوا أن يبرروا ظروفه التاريخية:

يقول رادا كرشنان عن الانقسام القديم للمجتمع الهندي إلى أربع طبقات:

حتى نفهم الطريقة التي نشا بها هذا الوضع ينبغي أن نذكر أن الغزاة الآريين كانوا متميزين عن السكان القدامى ولهم أصولهم العنصرية. وكان الآريون القدامى طبقة واحدة، ويمكن أن يصبح الواحد منهم كاهنا أو محاربا أو تاجرا أو زارعا، ولم يكن هناك امتياز خاص أول الأمر للكهنة. وأدى تعقد عن الطبقة العاملة. كان اصطلاح الفايسيا يطلق أول الأمر عليهم جميعا. وعندما أخذ تقديم القرابين للآلهة دورا هاما في المجتمع، تقدمت بعض الأسر التي تميزت بالعلم والحكمة والمواهب الأدبية على غيرها في أداء الشعائر الدينية. ومع تطور الديانة الفيدية وكثرة شعائرها كونت هذه الأسر من نفسها طبقة خاصة. ولما كانت هذه الطبقة تتولى الحفاظ على تقاليد الآريين، أعفيت من ضرورات الصراع من أجل البقاء. أما أولئك الذين شغلهم الضرب في الأرض وكسب العيش فلم يكن عندهم من وقت طويل ينفقون في التفكير والتأمل.

بهذا تكونت طبقة  مختصة بالأمور الروحية. وأصبح “البراهمة” ارستقراطية عقلية مختصة بصياغة الحياة العليا للناس. وتلي “الكاشترية” مسؤولية الحكم ورعاية البراهمة. وكلمة “كشاترا” تعني الحكم والسيطرة. تحمل نفس المعنى في اللغة الفيدية والنصوص الفارسية. وكان الباقون هم عامة الناس من التجار والزراع  والمحترفين أو “الفيسية”. وإذا كان النظام بدأ مهنيا، فسرعان ما تحول إلى وراثي في كل هذه الطبقات الثلاث. ولهم دائرة واسعة تجمعهم. وبينهم وبين الجماعات المقهورة خندق واسعز وينقسم هؤلاء المقهورون إلى قسمين:

الدرافيديين الذين يكونون الطبقة الرابعة، والقبائل البدائية وهم في حضيض المجتمع.

فالتقسيم بين الآرائيين والداسيا – أو بين الغزاة والمقهورين عنصري يستند إلى السلالة والدم. ومع اختلاف النظريات في أصل الطبقة الرابعة – السودرا – وهي التي تخدم الطبقات الثلاث الأعلى، وهل هي كلها من السكان الأصليين أم من أن الآريين جاءوا ومعهم فكرة النبذ، أو أن المنبوذين جزء من السكان الأصليين فقط. إلا أن الحقيقة القائمة من قديم، والتي ظلت عبر التاريخ نحو ثلاثة الآف عام، هي أن المجتمع الهندي تتميز فيه أربع طبقات كبرى تنطوي تحتها فروع كثيرة. هذه الطبقات هي البراهمة والكشاتيرية والفيسية والسودرا.

ويذكر رادا كرشنان أن نظام الطبقات ليس آرياولا درافيديا، وإنما جاء ليقابل حاجات المجتمع عندما عاشت أجناس مختلفة معا في وئام – هكذا يقول – وكان الهدف هو صالحا لبلاد مهما تكن النظرة الحالية إليه.

وكانت هذه – عنده الطريقة الوحيدة لحماية الحضارة التي هددتها أخطار وخرافات أعداد ضخمة من السكان الأصليين. وذلك بوضع معالم حديدية للفوارق الحضارية والعنصرية. ولسوء الحظ فإن هذا الأسلوب الذي أرادوا به حماية النظام الاجتماعي من الانهيار والفناء قد عاق المجتمع حتى عن مجرد النمو. ولكن هذا لا يدعونا – والقول لرد اكرشنان – إلى أن نحتقر نظام الطبقات عندما جاء أول مرة. فإن الهند بنظام الطبقات قد استطاعت أن تحمل بالسلم قضاياها العنصرية الداخلية التي حلها غيرهم عن طريق القتال.

ويرى أن هذا النظام حفظ كلا من المنتصر والمهزوم وعاشا معا في ثقة وانسجام”.

آثرت أن أذكر هذا بشيء من التفصيل، لأن نظام الطبقات في الهند هو أقدم النظم العنصرية وأعمقها جذورا. نظام استطاع أن يستمر مدى ثلاثين قرنا – وأن عراه تغير -. وحدثت بينه وبين الإسلام مواجهة عقائدية وتطبيقية في الحياة اليومية، كانت من أسباب تكون باكستان:

1 – ولقد أحس الهنود أنفسهم بقسوة هذا النظام. وظهر هذا الإحساس في التراث الدينين وأبان عنه صراع الآلهة عندهم:

لقد صور كتاب الرج – فيدا الإله “اندرا” ممثلا لروح الآريين المنتصرين وملامحهم: صوروه أشقر. جميل الصورة. له مركبة حربية خيولها شقر. هو الإله البطل الذي حارب سكان الهند الأصليين ودمر مدنهم واقتحم حصونهم وأمعن فيهم قتلا حتى ألجأهم إلى الغابات الصحاري والجبال. وتمر القرون وتأتي الأساطير الشعبية الهندية كما تمثلها ملحمة “المهابراتا” لتبرز شخصية إله آخر هو “كرشنا” إله أسمر اللون كأنه رمز المقهورين. يضيق بجبروت اندرا الذي تحول إلى طغيان، وحرب للنساك والزهاد، وغواية للنساء. وتدور الحرب بين أندروا وكرشنا، أو قل بين البيض والسود، أو بين القاهرين والمقهورين، وتنتهي خضوع اندرا الأشقر لكريشنا الأسمر.

2 – وتصور الربح – فيدا في جزئها الأخير نظام الطبقات محاولة رده إلى نشأة الخليقة. فالإنسان الأول “بوروشا” أخرج من رأسه أول برهمي، ومن ذراعيه أول كشاتري، ومن ساقيه أول فيسي، ومن قدميه أول سودري. وعلى هذا الأساس تحددت الطبقات وأعمالها، واتخذت من سمرة السودرا مدعاة لوضعها في اسفل الطبقات. وتأتي المهابراتا فتذكر أن البراهمة شقر، والكشاتريه حمر، والفيسيا صفر، والسودرا سمر. وكانها تحدد الهجرات البشرية التي جاءت إلى الهند وحاولت الاستقرار فيها. المهابراتا بعد هذا تعلي من شأن نساك وزهاد لهم آباء أو أمهات من السودرا مثل فيديورا وفياسا، دون أن تقصر الفضل على البراهمة كرجال دين، والكشاترية كرجال حكم وحرب. وإذا كانت المهابراتا تمثل صيحة احتجاج شعبية ضد السيطرة البرهمية، والتي يمثلها الرج – فيدا، إلا أن نظام الطبقات بكل ثقله الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، استطاع أن يستمر في الحياة الهندية.

3 – وتؤمن الهندوكية، بعقيدة التناسخ. ويقصد بها العودة بعد الموت إلى الحياة ولادة جديدة. والصورة الجديدة “جزاء” لعمل الصورة السابقة. هذا هو قانون “الكارما”. وبه تكون الولادة الجديدة، في صورة أسمى، إذا كان الإنسان عمل صالحا، وقد تكون في صورة إنسان أدنى أو حيوان أو نبات إذا عمل غير صالح. وذلك في سلسلة – لا سبيل على قطعها – إلا بالإخلاص في العمل والواجبات الدينية والمعرفة وما ترتبط بها من مران خلقي طويل بالتأمل والتركيز. أي بنوع من اليوجا. فإذا نجح الإنسان في ذلك اتحدث روحه بعد الموت مع “براهمان” الروح الكلي لهذا الوجود.

فالحياة حسب التناسخ والكارما – عمل وجزاء في ذات الوقت. والمسؤولية الفردية غير كاملة. وإذا كنا رأينا التفرقة العنصرية قائمة على مستوى الطبقات، فهي هنا تزداد حدة حين تدخل قيود التناسخ والكارما على المستوى الفردي أيضا.

ولقد حاول كبار المفكرين الهنود إيجاد صيغ جديدة من الهندوكية، تقل بها وطأة العنصرية القديمة، وتعطي مجالا أوسع للمسؤولية الفردية. ورغم ما تلقاه الهندوكية من منافسة البوذية والمسيحية والإسلام، ورغم الجهود الإصلاحية والتجديدية فيها، فقد بقيت القوى الكبرى في الهند. وبقى نظام الطبقات ومكانة البراهمة على رأس السلم الاجتماعي أساس الحياة بها.

ومع مسار الحياة ظهرت طبقات جديدة كانت قبائل من قبل. وتنوعت الحرف، وتبدلت المساكن، حتى زادت الطبقات عن ثلاثة آلاف، تحتها طبقات فرعية. ولكن هل استطاع هذا أن يصمد أمام المد المعاصر؟. لا بالاحتكاك بالفكر العالمي، واتساع فرص التعليم، وتأثير حياة المدينة، بكل ما تحمل من متطلبات الحياة والسكنى والطعام والانتقال والعمل وصعوبة أو استحالة الاحتراز في التعامل اليومي من طبقات أو جماعات معينة. كل أولئك قد هز قوائم نظام الطبقات، وكان يعطي الدليل بعد الدليل، في الحياة اليومية، على أن عنصرية هذا النظام لا تستطيع أن تصمد أمام تدفق الحياة.

فقد حرم القانون عام 1829 شعيرة حرق الزوجة بعد موت زوجها، وصان عفاف البنات من شهوات بعض المعابد في جنوب الهند. حتى أن بعض كتابهم يقول عن الموقف العقلي لبعض الهنود المثقفين “ثم لمسوا العلم فإذا بعقائدهم القديمة قد تحطمت أشلاء كأنما نزلت بها نازلة ساحقة، ولما تجرد هؤلاء الهنود المستغربون عن عقيدتهم الدينية التي هي روح الهنود ولبابها، عادوا إلى وطنهم وقد زالت عن أعينهم الغشاوة التي كانت تزين القبيح، وسادهم الحزن، وسقط ألف آله أمام أعينهم من سمائهم صرعى”.

ومن البديهي أن هذا القول لا ينطبق على الجميع، وإن كان خط التطور يشق طريقه مقتربا من العدالة مبتعدا عن مقاييس التفرقة العنصرية.

أذكر هذا الصراع الطويل كله، وأذكر معه كلمة خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام “الناس لآدام. وآدم من تراب. إكرامكم عند الله أتقاكم”.

وأذكر الإخاء الإنساني الذي نادى به القرآن الكريم، وطبقه الرسول في حياته اليومية.

(12) مع البوذية.

يقول ول ديوانت أننا لا نعرف شيئا عن بوذا معرفة اليقين. وما نذكره ليس تاريخا يراد إثباته ولكنه جزء من التراث الهندي والأسيوي.

ويحدد العلماء مولد بوذا بقرب من عام 563 ق.م. وتتناول الأساطير بقايا قصته وتتحدث عن المبشرات بمولده! وما رأت أمه في منامها، وكيف فسره كبار البراهمة بأن وليدها سيكون ملكا على الدنيا بأسرها. ثم جاءها المخاض إلى جذع شجرة، ونزل الوليد طاهرا كما ينزل الواعظ من منبر وعظه، وأشرقت السماء بالنور وأقبل الملوك من أطراف البلاد يرحبون بمقدمه. ونمر سريعا على طفولته السعيدة في قصر أبيه الحاكم، ورعايته العسكرية باعتباره من الكاشترية، والدينية على يد البراهمة، وكيف تزوج وعاش في كنف السعادة حتى خرج من القصر يوما، فرآى كهلا. وفي اليوم الثاني رآي مريضا. وفي الثلاث رآي ميتا. وجرت خواطره: كل شباب إلى كهولة وشيخوخة، وكل صحة إلى مرض، وكل حياة إلى موت. وما دمت ممن يجوز عليهم الولادة بما فيها من تعاسة فلأبحث عمن لا يولد. عن السكينة العليا. عن النرفانا.

ويقرر اعتزال حياة النعيم ويدع القصر والوالد والزوجة والولد الصغير، ويأوى إلى حديثة يفرغ فيها إلى تأملاته. يستعين على التأمل بالصوم الطويل والزهد في كل متاع الحياة، ثم استعان بالصمت الطويل، ثم أشرق في نفسه أن تعذيب النفس ليس طريق الحياة. بل أحيانا يصحب نجاح الفرد في مجاهداته نوع من الزهد، الذي تضيع به قداسة ما يصنع. فاقلع عن هذا، وجلس ساكنا في ظل شجرة مصمما ألا يبرح المكان حتى يأتيه “التنوير”.

وفي تأمله هذا يرى الحياة تيارا متدفقا “ولادة وفناء”، وعودة إلى الحياة في ولادة جديدة دنية أو سنية، خيرة أو شريرة، سعيدة أو شقية حسب ما يكون له من “كارما” وفق ذلك القانون الشامل الذي بمقتضاه سيلقي كل فعل خير ثوابه، وكل فعل شرير عقابه، في هذه الحياة أو في حياة تالية تتقمص فيها الروح جسدا آخر.

ولا سبيل لوقف هذه الولادة إلا إذا استطاع الإنسان أن يعيش حياة يسودها العدل الكامل، والصبر والشفقة على الناس. بل على الكائنات جميعا، فإذا تظهرت النفس من كل سوء اتحدت بالانهاية اللاواعية. وأدركت النرفانا.

ولا تكتفي البوذية بتطبيق عقيدة التناسخ والكارما على مستوى فردي وإنما هناك كارما للجماعات يسمونها “الدانو”.

وكما أن هناك صورا غير محدودة للكارما، فكذلك للداتو صور غير محدودة، تتدرج من أنظمة الوجود الكبرى كالمجرات السماوية والأجناس والحيوانات إلى التجمعات البشية والجماعات والنقابات والأسر، حتى إلى ما بين اثنين تحابا أو تعاديا. ولا يقتصر الأمر على الحياة والكراهية، وإنما يمتد إلى نمو الأجناس وضعها، وقيام الممالك وانهيارها، فكل حركة صغيرة أو كبيرة في الكون هي حلقة من حركة كونية كبيرة من قوى الكارما والداتو.

وكان لهذا إنعكاسة مع حياة الأفراد والجماعات. فأعطت لها امتدادات تسبق الحاضر، وتمتد إلى ما حوله، وما بعده، وتتنوع لتشمل مناشط الحياة جميعا. كلها ينبغي أن يتناولها التطهير حتى تتجنب مهاوي الكارما السيئة. وتبدو في البوذية أهمية تدريب الفكر والإرادة على تزكية أي عمل، كما أنها أشاعت المحبة فيها بينهم وهنا يكمن جانب من أسس الإحساس والرحمة في المجتمع البوذية والتعاون بين الأفراد وكثرة مؤسسات البر وتشجيعها.

ومع ما في البوذية من نزعة تشاؤمية أو قدرية – بمفهوم الكارما والداتو – فقد انتشرت انتشار واسعا في العالم الآسيوي. وعندما طلب تلاميذ بوذا منه أن يحدد معنى الحياة السليمة، صاغ لهم قواعد خلقية خمسا يهتدون بها قد تكون أشمل نطاقا واعسر التزاما من الوصايا العشر الواردة في العهد القديم. هذه الوصايا هي:

(1) لا يقتلن أحد كائنا حيا.

(2) لا يأخذ أحد ما لم يعطه.

(3) لا يقولن أحد كذبا.

(4) لا يشربن أحد مسكرا.

(5) لا يقيمن أحد على دنس.

وتحس روحا إنسانية عامة في وصاياه “على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالشفقة، وأن يدفع الشر بالخير، والكراهية بالحب.

وواضح في اعتقاد البوذية في الكارما والداتو أنها تجعل الفرد أو المجتمع مسؤولا عن أعماله، عن أجيال غير أجياله. وهذه أبرز نقاط تعارضها مع المسؤولية الفردية التي يؤكدها الإسلام. (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا). [مريم: 95].

ولا تبعد بنا كثيرا – من هذه الزاوية – عن عقيدة “الخطيئة الأولى” في العهد القديم. وبها تمسكت اليهودية والمسيحية. وإذا كانت المسيحية قد عالجت الخطيئة بعقيدة “الفداء”، فإن البوذية عالجتها “بالنرفانا”.

ولم تأت فيها بجدية وإنما تابعت فيها الهندوكية وبهذا البوذية.

– إذا جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير – هي “العهد الجديد” للهندوكية أو أحد صور هذا العهد الجديد.

ولكنها في ذات الوقت كانت كالنهر الذي ينحت في هدوء وتصميم ليقتلع من طريقه صخورا ويشق لنفسه مجرى: وكانت الصخرة نظام الطبقات الهندوكي وامتيازات البراهمة.

فمع أن بوذا كان من الكاشترية وعاش حياة النبلاء، غلا أنه فتح ذراعيه للجميع، لكل إنسان مهما يكن من وضعه أو طبقته التي ينتمي إليها.

يقول بوذا لتلاميذه بكل وضوح “انتشروا في الأرض كلها وانشروا هذه العقيدة. قولوا للناس أن الفقراء والمساكين، والأغنياء والأعلين، كلهم سواء. وكل الطبقات في رأي هذه العقيدة الدينية تتحد لتفعل الأنهار، تصب كلها في البحر” ويرفض الاعتقاد في أي كائنات أعلى من هذه الطبيعة كما يرفض تقديم القرابين لللآلهة أو الدعاء لكائن أعلى. ويرى أن طريقه هو الخلاص للكافر والمؤمنين.

جانب المساواة في هذه العقيدة فتح أمامها باب القبول أمام أهل جنوب شرق آسيا مع شعور الإنسان فيها باحترامه لذاته بعد أن نأت البوذية بنفسها عن نظام الطبقات. ولكن سرعان ما تسرب إليها براهمة الهندوكية وكونوا فيها طبقة من الكهنة التي أثرت مما ابتدعوه في البوذية من شعائر ومناسك، حتى وصل الأمر إلى صدام بينهم وبين الحكومات من أجل السلطان والثروة – كما حدث في الصين -. بينما نظرت إليه اليابان نظرة ودودا. وازداد عدد الرهبان والعباد في سيام وسرى لانكا (سيلان) وبورما، وتعددت فيها مناشطهم الاجتماعية والتربوية والثقافية.

ومما يستوقف النظر أن ينفي البوذي الخالق الذي يسأل الناس عما يفعلون، وتعطي الفرد مكانته دون أن تقيده بنظام الطبقات، ثم تقيده بعد هذا بعقيدة من الكارما والداتو وكأنها نفت جانب الغيب من العقيدة، ثم عادت فأدخلت فيها غيبا جديدا لا نستطيع له تفسيرا.

(13) مع الكونفوشية والتاوية

عاش كونفشيوس بين (551 – 479 ق. م) ووضع لأهل الصين فلسفة عملية تقوم على أسس دينية وأخلاقية إنسانية. كان معلما ومؤرخا يعني بالواقع الذي يعيشه الناس دون أن يشغل فكره أو فكرهم بما وراءه. كان يؤمن بوجود كائن أعلى يسميه “السماء”. وهو قوة مدبرة للكون ذات صفات روحانية وأخلاقية. وآمن بعدالة القدر وأداء العبادات والصوم. وعني بالعلاقات الاجتماعية الرئيسية وهي عنده خمس: العلاقة بين الأب والابن، وبين الزوج وزوجه، وبين الأخ الكبير والأخ الصغير، وبين الصغير، وبين الصديق والصديق وبين الحاكم والرعية. هذه العلاقات يحكمها مبدأ عام هو “لا تعامل الغير بما لا تحب أن تعامل به” كما تحكمها الأدب والعادات الحسنة المأثورة. ويجمع كونفوشيوس الخلق الكريم كله في كلمة واحدة هي “جن” أو “ين” وعندما سئل عن مفهومها قال في إيجاز أحب الناس… وبشرح أوسع “أحب الناس بسرور ومن صميم قلبك”.

سأله أحد مريديه عن عبادة الأرواح السماوية والأرضية فكان رده: نحن لا نعرف كيف نخدم الإنسان، فكيف نعرف عن خدمة الأرواح…؟

فسأله المريد: وماذا عن الموت؟

قال كونفوشيوس: نحن لا نعرف عن الحياة، فكيف نعرف عن الموت؟ وكان يقول: إن الرجل الحق هو الذي يتبع القواعد دون ضغط من الخارج ويكره ما يعارضها دون خوف من عقاب.

ولا نجد في الكونفوشية ما يهدر كرامة الإنسان. لا من حيث الأصل، ولا السلوك في الحياة، ولا الرقي الاجتماعي ما دامت مواهبه تؤهله لذلك، وليست هناك من عقبة لونية أو غير لونية تعوقه عن التقدم.

كانت عناية الكونفوشية بالتماسك الاجتماعي في نظام مركزي يبدأ من الأسرة، ومكانة الأب فيها راسخة، حتى الدولة حيث الإمبراطور هو الأب الكبير. ويظل احترام الآباء قائما بعد موتهم، احتراما يصل إلى التقديس. فكان في المجتمع ترابط رأسي وأفقي استطاع أن يحفظه رغم المجاعات المدمرة ودورات الجدب والمجاعات والحروب.

وعاش هذا المجتمع سماحة دينية نادرة. يقول حكيمهم “كل الناس بين البحر الأربعة إخوة” وعجبوا عندما اتصلوا بالحضارة الحديثة ورأوا فيها حروبا لم تثرها إلا العصبيات الدينية الجامحة، كما في الحروب الصليبية مثلا. ولم يكن غريبا في الصين أن يعتنق أحد أفراد الأسرة مذهبا معينا، والآخر دينا غيره، والثالث يخالف الاثنين، والجميع يعيشون في وئام.

ولا تختلف التاوية عن الكونفوشية في هذا المجال من حيث احترامها للإنسان وإيمانها بالمساواة. وهي الأخرى نشأت في القرن السادس قبل الميلاد. والتاوي هو الطريق. وإذا كان تركيز الكونفوشية على السلوك الاجتماعي، فإن تركيز التاوية على التربية الذاتية، وترمي إلى تآلف بين الإنسان والكون وبين الكائنات بعضها مع بعض، وتعتبر مبادئها أقدم ما أخرج الفكر الصيني من قيم إنسانية لها طابعها العالمي الداعي إلى كرامة الإنسان.

ولقد مرت كل من هاتين الفلسفتين بمراحل وتطورات من عهد كونفوشيوس ولا وتسي حتى العصور الحديثة. ولكن يعنينا موقفها من الإنسان، من حيث التفرقة العنصرية أو المساواة.

وقيل أن أدع هذا العرض المقارنة أود أن أذكر أن الفكر الصيني لا يماثل الفكر الحديث أو الغربي من حيث البناء المنهجي الذي يضع المقدمات والنتائج ويقسم الموضوعات، ويتناول كلا منها على حده دون استطراد، ولكنه أقرب ما يكون إلى تدفق النهر أو سير الحياة وتصب فيه مجموعات ضخمة من الحكم والتراث والخيرات الإنسانية والقصص. وعلى الذين يدرسونه أن يدركوا طبيعته وعنايته بالقيم والممارسات الإنسانية والتطبيقية أكثر مما يعني بالجوانب النظرية في الحياة.

وإذا كانت الكونفوشية تؤمن “بالسماء” فهي تحمل أكثر من مفهوم: الذات العليا. قوانين الكون. عالم الأخلاق. ويختلف هذا اختلافا جوهريا عن “عالم الآلهة” الذي رأيناه في الهندوكية التباين بينهم، وكأنه جاء إنعكاسا للفروق بين العناصر والسلالات التي كونت سكان الهند.

لم أجد عند دراسة الكونفوشية والتاوية أثرا للتفرقة العنصرية. ووجدت المسؤولية الفردية مندمجة في المسؤولية الجماعية عند دراسة البوذية. وبدت التفرقة العنصرية في أشد صورها مع دراسة الفكر الهندي.

وبعد هذه الرحلة نعود إلى الجزيرة العربية حيث مهد الإسلام، وإلى عهد البنوة لنجمع خيوط البحث التي نشرناها شرقا وغربا، ولنا قبل ذلك:

(14) وقفة مع العلم الحديث

عنيت الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة بمشكلة التفرقة العنصرية، وأصدرت فيها أكثر من وثيقة، تختلف في التفاصيل التي عرضت لها، وتلتقي جميعا في أساس المساواة الإنسانية العريض.

كمثال: جاء في “بيان عن العنصر والتمييز العنصري” الصادر في باريس سبتمبر 1967م، عن مجموعة من العلماء العالميين بدعوة من هيئة اليونسكو:

وإن الناس جميعا ولدوا أحرار ومتساوين في الكرامة والحقوق. جميع الناس الذين يعيشون الآن يرجعون إلى نفس الجنس وينحدرون من نفس الأصل. إن تقسيم الناس إلى أجناس، جزء منه اعتيادي وجزء منه تحكمي.

إن معرفتنا البيولوجية الحالية لا تتيح لنا القول بإرجاع إنجازات ثقافية إلى فروق في الإمكانات الوراثية (الجينية). وإن الفروق في الإنجاز بين مختلف الشعوب ترجع فقط إلى تاريخها الثقافي. إن العنصرية تزيف معرفتنا بالبيولوجيا الإنسانية. ولكي نجتث العنصرية، لا يصح الاكتفاء بأن يفند البيولوجيون خرافاتها، وإنما على علماء النفس والاجتماع أن يبينوا أسبابها. فالبناء الاجتماعي عامل هام دائما.

(15) خاتمة

وتصل بنا هذه الوقفة إلى المرحلة الختامية في هذا البحث وفيها نرى:

1 – إن ما انتهت إليه سفينة العلم الحديث بعد رحلة طويلة – سعيا إلى الإخاء الإنساني – التقي مع ما جاء به القرآن الكريم وحيا من عند الله تعالى ونادى به الرسول (ص) مبشرا ونذيرا.

2 – إن حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كانت تصويرا حيا لما دعا له من المساواة بين الناس. وإن هذه المساواة كانت في حياته الأسرية الخاصية وفي حياته العامة.

3 – إنه دعا أصحابه إلى الإيمان بهذه المساواة، ونبذ دعوة العصبية والجاهلية وتعظمها بالآباء، وأدان أي انحراف عن هذا النهج السوي.

4 – إننا في دراستنا المقارنة رأينا كيف عالج القرآن موضوع خطيئة آدم بحيث لم يجعل أبناءه مسؤولين عن أي جانب فيها. وإن آدم جاء إلى الدنيا مغفورا له ليقوم بمسؤولية خلافة الله في أرضه. ونحن جميعا أبناء نبي كريم وحياتنا الدنيا ليست عقوبة ولا تكفيرا، ولا تحتاج – في العقيدة الإسلامية – إلى تكملة يحمل مسؤولياتها من يخلص الناس من الخطيئة ويفديهم. فالتوبة والمغفرة في الإسلام جزء من قصة آدم. ذلك لأننا لو سلمنا بانتقال الخطيئة لفتحنا الطريق لانتقال أثر اللون والعنصر. وتنتفي بهذا قاعدة المساواة، كما جاءت في القرآن الكريم وما جاء في سفر التكوين من العهد القديم وما ترتب عليه في العهد الجديد.

هذا إلى أنه في العهدين – إلى جانب ذلك – نصوص عن الإخاء الإنساني والعدل وإدانة العنصرية تلتقي مع ما جاء به الإسلام وما ينادي به العلم الحديث.

5 – فإذا انتقلنا إلى الشرق الأقصى وجدنا العنصر في أشد صورها كما تصورها الهندوكية القديمة، وكيف انتقل الصراع من البشر عندهم إلى الآلهة على أساس عنصري. والكتب المقدسة عندهم مجهولة الأصل يستوي في هذا الفيدا والمهابراتا وغيرهما. وإذا كان البراهمة قد أحاطوها بكل هذه القداسة، فإن الحقيقة العنصرية فيها لا تخفي في الدين ولا في الحياة. واضطرت الهندوكية تحت ضغط الحياة إلى التخلي عن جوانب من صلابتها القديمة اقترابا من الإخاء الإنساني.

6 – وتأتي البوذية في جوهرها ثورة فكرية على الهندوكية، تنادي بالمساواة بين الناس، ولكنها تظل محتفظة بعقيدة التناسخ وبها تنتفي المساواة.

هي تؤمن بالكارما الفردية والجماعية. ولكن البوذية في مجموعها أقرب إلى العدالة كثيرا من الهندوكية، وجذورها التاريخية معروفة: من بوذا الذي طلب التنوير إلى أتباعه الكبار من بعده، ورؤساء المدارس الكبرى في نحلته.

7 – وإذا كانت الكونفوشية قد عنيت بالأرض والحكومة والناس والنظام الاجتماعي. فإنها قللت كثيرا من مساحة السماء في العقيدة، وركزت على احترام الدولة والآباء احتراما وصل إلى التقديس والقضية في الكونفوشية أنا لا تعني كثيرا لا بالبدء ولا بالمعاد. وإنما يعني بما هو هنا. بحياتنا نحن. بينما تركز التاوية على التربية الذاتية دون عناية كبيرة أيضا بالبدء والمعاد. وإيمان التاوية بالمساواة كريم. هنا نجد فيلسوفين تحولت آراؤهما إلى ديانات، وإن لم تناديا بدين جديد. نادى كل منهما بطرق. طريق بالمفهوم العقلي والنفسي والاجتماعي. أحدهما يركز على الخارج والمجتمع، والثاني على الذات والداخل. ينصرفان عن البدء والمعاد اشتغالا بواقع الحياة، ولا يدعان للغيب إلا القليل. وهنا يبدو جانب من الفرق الكبير بين الإسلام وبينهما.

8 – وينادي العلم الحديث بالمساواة بين الناس ويدين التفرقة العنصرية، ولكن ما هي الوسيلة لتطبيق ذلك؟ القول جميل ولكنهم خلطوا عملا صالحا وآخر شيئا. العسف الذي يلقاه الأفريقيون فوق أرض قارتهم في أقصى الجنوب. ما يلقاه إخواننا وأهلنا تحت الاستعمار الإسرائيلي.

البطش الذي يلقاه إخوتنا من الأقليات الإسلامية في بعض أقطار الشرق الأقصى.

الحاجز اللوني الذي لا زالت آثاره قائمة في الحياة الأمريكية.

وبعض هذا تسرب إلى أقطارنا الإسلامية. وفي عدد من قضايانا السياسية وصراعاتنا كان صوت القومية – والطائفية والعنصرية أحيانا – أعلى من صوت الدين. فالعنصرين عريقة في الإنسان. وعندما نادى الرسول صلى الله عليه وسلم بالمساواة بين الناس وجد بعض العقبات وأرادت العنصرية أن ترفع رأسها حتى بين الصحابة فبادرها المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإدانة ونبه أصحابه إلى دعوات الجاهلية وتعاظمها بالآباء والتكاثر بهم.

وهنا تبدو أهمية الربط بين القول والعمل وبين العقيدة والتطبيق، بحيث تصبح هذه القواعد نماذج حية تسير بين الناس حبا وإخاء ورحمة.

هذه الزاوية تميز بها الإسلام عن العلم الحديث: تطبيق العقيدة الأمر الإلهي فور نزوله. إن يكون المصطفى صلى الله عليه وسلم القائد الذي يبدأ بنفسه، ويدعو من حوله ليعطي الإنسان صورة من الوحي حيا ناطقا.

وليكون المجتمع الإسلامي إسلاما منظورا متحركا إلى جانب الإسلام المقروء.

(16) وعلينا مسؤولية

ما قصدت بهذا البحث أن يكون مجرد دراسة مقارنة تضاف إلى دراسات سابقة. ولا أستطيع القول بأن نتائج الدراسة المقارنة كانت بهذا الوضوح في ذهني قبل البدء فيها. ولكني أحسست كثيرا من الاطمئنان والمسؤولية عندما بدأت اكتب خاتمة البحث.

فالمصطفى صلى الله عليه وسلم أرسله الله رحمة “للعالمين” لا يختص بعصر دون عصر، ولا أمة دون أمة. والإسلام له امتداده والمكاني والموضوعي. هو “كلمة الله” إلى الناس. وحين تكون كلمته بهذه القوة وهذا الوضوح والبساطة، فهي من قبل ومن بعد هدية رب الناس إلى الناس. ليس في قوتها انتصار جنس ولا عنصر على عنصر ولا دين على دين.

ولقد رأينا كيف تسير الديانات والفلسفات سيرا حثيثا – أو بطيئا – نحو ما نادى به المصطفى صلى الله عليه وسلم من وحي رب العالمين. وكيف يسر العلم أيضا في هذا السبيل. وكيف تتقارب جهود الإنسانية في مجالات الاجتماع والنفس والثقافة وعلوم الحياة ومجامعها الدولية. وكيف تتلاقي الأفكار، لتحقيق ما أراده رب الناس للناس، وما جاء لسان خاتم النبيين مصدقا لمن بين يديه وهدى الناس أجمعين.

حقا.. لقد شهد المجتمع الإسلامي مشكلات من التفرقة العنصرية، ولكنه استطاع أن يذيب الكثير. وكانت إفاقته أسرع من أفاقة مجتمعات سبقته على طريق العلم الحديث. لا تزال الأغلال مسموعة فيها، ومشكلات التفرقة العنصرية نابضة فوق أرضها بثورة الكلمة والمقاومة والسلاح أحيانا.

وما جاء به الإسلام من نقاء ومساواة علينا واجب إشاعة بين الناس بأكثر من لغة بالكلمة المكتوبة والمسموعة بالحوار. علينا أن نتتبع الشبهات التي تثار حول الإسلام: ردا عليها وإظهارا للحق. فهو من عند الله لا من عند أنفسنا. علينا أن نبرز هذا التلاقي السمح بين ما انتهى إليه العلم وما جاء به الإسلام. علينا أن نؤكد ضرورة اللقاء بين الفكرة والقرار والتنفيذ. علينا أن نتابع السعي لتكون التفرقة العنصرية من مخلفات ماض آخذ في الغروب.

ويحتاج هذا منا إلى متابعة في الجهود. وتحويل لها من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي. من جهود العلماء إلى جهود المؤسسات. هكذا يسير البحث العلمي الآن في عصر تدافع فيه الإنتاج الفكري تدافع السيول تحمل الغثاء وما ينفع الناس.

ونحن حين نتابع هذه المسيرة متعاونين، لا نؤدي فقط بعض حق الرسول صلى الله عليه وسلم علينا، وإنما نعين على أن تصالح الإنسانية ربما، وتدرك عظمة ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وما هي بحاجة إليه، وما اتفقت فيه كلمة الإسلام مع كلمة العلم.

ما أكرم ما قال وما تتطلع إليه الأفكار والقلوب:

“يا أيها الناس إن ربكم واحد. وإن أباكم واحد. كلكم لآم. وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم. ليس لعربي على عجمي ولا لأحمر فضل على أسود إلا بالتقوى”.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر