أبحاث

التقليد والتلفيق في الفقه الإسلامي

الجزء الأول

التقليد فى الإسلام

تعنى كلمة (التقليد)، حرفياً، وضع قلادة أو نحوها حول العنق، (1) وهذا المعنى الحرفى يعبر معنى التبعية المتسمة بالخضوع . أما بالمعنى الاصطلاحى فى الفقه الإسلامى فإن (التقليد) يعنى اتباع فقيه أو إمام دون معرفة دليل الحكم أو مصدره (2) . وهذا المفهوم العام للمصطلح يشير إلى تقليد العامة الذين يتبعون أئمتهم دون أى تشكك فى صدق أحكام المذهب الذى يتبعونه ودون معرفة المصادر التى أخذت منها، هذا الضرب من (التقليد) يخص العوامّ وحدهم ممن لا يستطيعون الأخذ من القرآن والسنة، أو ممن تنقصهم الكفاءة المطلوبة لفهم المصادر الأصلية والاستنباط منها . فالتقليد أمام هؤلاء هو الخيار الوحيد المتاح لهم . (3) .

وتعريف (التقليد) يعبر عن المفهوم العام للشروط التى تشكل السمة الغالبة لكل أنواع (التقليد). وموضوع هذه الدراسة ليس شكل (التقليد)، وإنما طبيعته وروحه . وعندما ننظر إلى الموضوع من هذه الوجهة الأخيرة تتجمع أمامنا مشاكل متباينة تثير اختلافات فى الرأى بين الفقهاء . وتتراوح هذه الأختلافات ما بين (الوجوب) و (الحرمة) . فالمدرسة التقليدية تعتبر تقليد أى من المذاهب المعترف بها أمراً (واجباً) على جميع المسلمين فى الوقت الحاضر .(4) على حين ترفضه المدرسة غير التقليدية رفضاً صريحاً، بل إن الإمام (ابن حزم)، آخر (الظاهرية)، يراه (حراماً)(5). وللحكم على موقف هذه الاتجاهات الثلاثة، علينا أن نحلل المشكلة إلى أشكالها المختلفة ونرى فى المراحل يكون موقفهم صائباً وفى يكون خاطئاً بناء على أسباب فقهية .

الأشكال المختلفة للتقليد :

يمكن أن نقسِّم (التقليد) بوجه عام إلى :

1ـــ تقليد شخصى .

2ـــ تقليد مطلق .

3ـــ تقليد محض .

4ـــ تقليد جامد .

وقد أخذت هذه الأنواع من (التقليد) شكلاً وسمتا معيناً خلال عمليات تطورها عبر القرون، وكان ذلك نتيجة لتطور الحضارة والثقافة الإسلاميتين فضلا عن تبدل الظروف والملابسات. تلك التغيرات الزمانية والبيئية ساعدت على ظهور الخلافات فى الرأى بين الفقهاء . لذا وجب أن تدرس تلك المؤسسات فى أوضاعها التاريخية الصحيحة وفى إطار علم التغيرات البيئية .

(التقليد الشخصى)

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تجسيداً واقعياً للقرآن . وقد أقام الله شخصية المثالية نموذجاً مثالياً للسلوك الإنسانى جديراً أن يحتذيه كافة المؤمنين إلى درجة التقليد (6) . وشهادة القرآن لشخصية الرسول المثالية لا تدعونا فقط إلى تقليد سلوكه النموذجى، بل تحثنا على ذلك حقا . (7) .

فى الأمور التشريعية يقول رسول الله الحق دائماً كبشر يوحى إليه (8) . ويعتبر القرآن المنزل عليه المصدر الأساسى للإسلام، وإلى جانبه كان الرسول عليه السلام يتلقى بواسطة الملك توجيهات أخرى ليبين للمسلمين أمور دينهم المهمة .

وعلى هذا، فإن أقوال الرسول وأفعاله، بإعتبارها جزءاً من المهمة المكلف بتبليغها، ليست سوى بيان للقرآن .

ولم يكتف الصحابة بتدوين القرآن الكريم بمنتهى الدقة، بل حافظوا كذلك على (السنة) وجمعوها بعناية فائقة. وليس على وجه الأرض أمة ذات دين يمكنها أن تنافس المسلمين فى ميدان الحفاظ على السجلات التاريخية الصحيحة لحياة نبيهم . وهذه الحقيقة البارزة هى التى كفلت بقاء (السنة) حية حتى اليوم . ولولا ذلك لما كان هناك معنى لتوجيهات القرآن التى تحث المسلمين على أن يقتدوا بحياة الرسول الكريم (9).

ويسبب هذا التسجيل الموثّق لأحاديث الرسول وسنته فى الحياة، فإن أوامر القرآن – التى تفرض على المسلمين جميعاً تقليد هذه الشخصية الكاملة – مازالت ضرورية وحيّة فى وقتنا الحاضر كما كانت يوم أن كانت تخاطب مهاجرى مكة وأنصار المدنية . إنها تهدف إلى صوغ الشخصية الإنسانية على أساس السلوك النموذجى للإنسان المثالى الكامل .

فالقرآن يفرض على المسلمين أن يقلدوا شخص الرسول عليه الصلاة والسلام بالمعنى الحرفى لهذه الكلمة، ويأمرهم بالسمع له والطاعة بمنتهى الالتزام والاخلاص (10) .

والنظام القانونى الإسلامى يتطلّب بقوة التزاما دقيقاً فى اتباع الأوامر والتعاليم والارشادات التى تصدر عن الرسول عليه السلام .

والحكم الذى يقضى بع صلى الله عليه وسلم فى أى قضية يعتبر حكماً نهائياً، وليس هناك محكمة عليا يستأنف أمامها : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة – إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)(11)

وهذا الحكم الذى يصدره رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشبه الأحكام فى القانون الوضعى المعروف فى النظم القضائية الغربية، وإنما هو من طبيعة مختلفة أساساً . إنه يصبح جزءاً أصيلا من القانون الإسلامى ومن العقيدة الدينية للمؤمنين . ويحدد القرآن طبيعته هذه فيقول: (ومن يَعْص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً) (12).

وعلى هذا، فإن طاعة الرسول وتقليده تتضمن الجانبين الشكلى والروحى لأفعاله. وهذا المنحى العقلى يشكل المبدا الأساسى للفقه الإسلامى . ويقرر الرسول (عليه السلام) هذا المبدأ فيقول :

(لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).

بل ان هذا المبدأ ينبثق من القرآن نفسه، إذ أن (الحديث) ليس سوى بيان للقرآن : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) (13) .

ففى بعض أفعال الصلاة يفرض على المسلمين أن يتبعوا مسلك الرسول إلى حد التقليد الحرفى . ومن هنا كان الرسول يؤدى شعائر (الصلاة) و (الحج) ويطلب من الصحابة أن يفعلوا مثل فعله .

والمنطق الذى يقف وراء هذا الضرب من التقليد الدقيق لـ (الشخص) يمكن فى حقيقة بسيطة وواضحة هى أن الرسول فى مجال التشريع كان يقوم مقام النائب عن الله تعالى وأنه أرسل إلى البشرية ليعلمها ويشرح لها ويريها كافة جوانب (الراسل) جميعاً . (14) وطاعنهم من طاعة الله تعالى (15) .

والقرآن يوجه من يدعون محبة الله أن يقتفوا أثر الرسول الكريم ويؤكد لهم أن ذلك يؤدى بهم إلى نعيم حب الله لهم : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ..)(16)

وفى ضوء أوامر القرآن والأحاديث، المشار إليها سابقاً، يمكن أن نخلص إلى القول بأن (الطاعة) و (الاتباع) و (الاقتداء) – وهى صور مختلفة من (التقليد) – تتعلق بأشخاص رسل الله وحدهم . أى أن (تقليد الشخص) محصور فى الأنبياء والرسل الذين يعملون، بوصفهم مبعوثى الله عز وجل، تحت الرقابة الدقيقة للقوى الالهية والعناية الإلهية المباشرة .(18)

ومن هنا، فإن المنهج الذى حدده رسول الله ليس سوى صراط الله أو (المنهج الإلهى للإسلام)(19) .

فكل من تبع هذه الطريق (أعنى (السنة)) فهو يتبع الصراط المستقيم . ومن أجل هذا فرض على المسلمين أن يتبعوه بكل إخلاص. لكن القرآن لا يبيح (تقليد الشخص) لغير الرسول صلى الله عليه وسلم أيا كان ذلك الغير . ولعل ابن حزم الظاهرى قد حمل لفظ (التقليد) على معناه الحرفى حين حكم بأن (التقليد حرام )(20) .

إن كافة الفقهاء يوافقون على هذا الحكم فى حدود هذا النوع من التقليد (تقليد الشخص) . لكن هذا الحكم لا يمكن أن يطبق على سائر أنواع التقليد طبعاً لأن القرآن نفسه يقرها إذ لابد منها .

حقاً إن القرآن والسنة يكونان معاً أساس الشريعة ويحددان إطارها . وفيهما بالفعل قوانينها ومبادئها الأساسية، لكن لم يرد فيهما ما يقرر أنهما استغرقا كافة القوانين اللازمة لتطور المجتمع المسلم، لأن قوانين الشريعة محدودة وحاجات المجتمع المسلم تتّسع وتتغير ولا تتناهى(22) . وما دام المحدود لا يمكن أن يحيط بغير المحدود، فتبقى الحاجة قائمة دائما إلى سنّ تشريعات فى إطار الشريعة يعتبر جزءاً من القانون الإسلامى (23). وللمسلم أن يأخذ فقط بالقوانين التى لا تصادم الشريعة أو تتعارض معها. وقد أقّر القرآن والسنة، بشكل واضح، طاعة (المجتهدين) أو (تقليدهم) : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (24) .

وقد سمح لبعض كبار الصحابة، كعمر وعلى وزيد بن ثابت، أن يفتوا فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم (25) . واعترف النبى بسعة فقه (زيد) فى علم الفرائض .

لم تَثُرْ فى حياة النبى (عليه السلام) مسألةُ (تقليد الشخص) حيث كان (التقليد) محصوراً فى نوع واحد هو تقليد شخص الرسول وحده .(26) . ولكنه تنبأ بما سيحدث ووجّه أتْباعه إلى اتّباع أبى بكر وعمر من بعده: (إنى لا أدرى ما بقائى فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدى: أبى بكر وعمر)(27) .

وفى بيان آخر له يحصر الإذن بالتقليد فى شخص معين بل عممه مع اشتراط الاستقامة والتقوى(28) .

وقد تربى جميع الصحابة المقربين من رسول الله على المنهج القويم واتصفوا بالاستقامة إلى أعلى درجة، وهذه حقيقة اعترف بها القرآن والسنة معا . (أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)(29)

وإذا كان الرسول (عليه السلام) قد سمح لأتباعه أن يتبعوا (المجتهدين) المتقين، فقد وضع مبدأ توجيهيا عاما بشأن (التقليد) والطاعة: (لا طاعة مخلوق فى معصية الخالق. إنما الطاعة فى المعروف) .

وكما قيّد النبى صلى الله عليه مسلم أنشطة السلطة التنفيذية بقيد أساسى هو (المعروف)، قيّد قوة السلطات الأخرى فى الحكومة – أعنى السلطتين التشريعية والقضائية – بالأمر التوجيهى التالى الذى يحول بينها وبين تعدّى حدود الشريعة (30) .

وهذا البيان يقرر المعيار الثابت حتى اليوم للحكم بالصحة أو بالزيف على ما يقدمه الفقهاء من تشريعات، وبالصواب أو بالخطأ على أحكام القضاء . ومن هنا، فإن المسلم حين يتبع أيا من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو أى (مجتهد) بعدهم فإنه فى الحقيقة يتبع القرآن والسنة النبوية (31) هذا هو المعنى الصحيح للتقليد، وتلك حقيقة جوهره. مثل هذا (التقليد) ليس فقط أمراً مباحاً للمسلمين (32)، بل إنه مفروض عليهم (33) .

وقد تناول (شاه ولى الله)، بالتفصيل والتحليل، الصور المختلفة للتقليد، وذكر فى رسالته (حجة الله البالغة) و (عقد الجيد فى أحكام الاجتهاد والتقليد) :

(فإن اقتدينا بواحد منهم فذلك لعلمنا أنه عالم بكتاب الله وسنة رسوله، فلا يخلو قوله إما أن يكون من صريح الكتاب والسنة أو مستنبطاً منها بنحو من الاستنباط أو عرف بالقرائن أن الحكم فى صورة ما منوط بعلة كذا واطمأن قلبه بتلك المعرفة فقاس غير المنصوص على المنصوص، فكأنه يقول: ظننت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلما وجدت هذه العلة فالحكم ثمة هكذا، والقياس مندرج فى هذا العموم، فهذا أيضا معزوّ إلى النبى صلى الله عليه وسلم ولكن فى طريقه ظنون، ولولا ذلك لما قلد مؤمن مجتهداً (34) . ويعتقد (شاه ولى الله) أن ثمة إجماعاً فى الرأى بين الفقهاء على الأربعة والموجودة فى صورة كتب أحكام مدونة :

(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اتبعوا السواد الأعظم) . ولما اندرست المذاهب الحقة- إلا هذه الأربعة – كان اتباعها اتباعاً للسواد الأعظم، والخروج عنها خروجاً عن السواد الأعظم)(35) .

ويؤكد رأيه هذا فى وجوب (التقليد) مشيراً إلى إجماع فقهاء المسلمين على هذه النقطة (36) وحجته المنطقية على هذا ليست بحاجة إلى إيضاح، لأن المستوى الخلقى للناس قد اتخفض فى عصرنا إلى أدنى مستوى وشاعت الدوافع الأنانية حتى صارت طبيعة ثابتة، وأصبح العلماء متغطرسين . وعليه فإن ابن حزم قد أخطأ فى قوله بتحريم (التقليد)(37) وتساءل: ما هو البديل للأميين الذين لا يستطيعون الأخذ من القرآن والسنة سوى تقليد بعض (المجتهدين) المعترف بهم، أو تقليد المذاهب الفقهية؟ (38) وفى رأيه أنه يلزمهم اتباع أحد كبار (المجتهدين)(39) .

وكتب (ابن الهمام) أن متأخرى الفقهاء منعوا (التقليد) إلا للأئمة الأربعة (40) .

ولقد أقام (شاه ولى الله) و (ابن الهُمام) رأييهما على أساس الظروف الخاصة السائدة فى المجتمع زمانئذ . وهذه (الفتوى) بــ (الوجوب) فتوى (فقهية) فى طبيعتها وليست (شريعة) بالمرة . إن (الشريعة) لا تجعل (التقليد الشخصى) أو (التقليد المحض) إلزاميا على المسلمين . ويستشهد (ابن عابدين) بـ (الشُّرُنبلالى) على أن (الشريعة) لا تلزم المسلمين بـ (التقليد الشخصى) (باستثناء الرسول صلى الله عليه وسلم) (41) .

إن مشكلة (التقليد) نسبية فهو واجب على عامة الناس ممن ليس فى إمكانهم الرجوع إلى المصادر الأساسية للشريعة، ومباح للجميع، لكنه (حرام) على (المجتهد) حتى ولو من باب الاحتياط حين يختلف اجتهاده عن اجتهاد (المجتهدين) الآخرين (42) أما غير (المجتهدبن) أو غير المؤهلين تأهيلا كافياً للاجتهاد فليس أمامهم سوى اتباع أحد (المجتهدين):

(وإذا لم يعرف نوعاً من هذه الأنواع (العلوم اللازمة للاجتهاد) فسبيله التقليد)(43) . ويصدق هذا أيضاً على حالة المتعلم الذى ليس بفقيه ولا مجتهد (44) .

فالتقليد للعامِىّ ضرورة لا مفر منها. ومن هنا اعتقد (شاه صاحب) أن التقليد واجب على العامى: (على العامى الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء فى حقه إلى معرفة الحديث)(45) .

صور التقليد المحّرمة :

للمسلم أن يتبع أحد (المجتهدين) المعترف بهم، لكن مع الاعتقاد والاقتناع القوبين بأن الاقتداء بهذا الإمام سيؤدى به فى النهاية إلى تقليد الرسول صلى الله عليه وسلم . وعندما ناقش (شاه ولى الله)(ابن حزم) فيما حكم به من حرمة (التقليد)، تناول مشكلة (القليد) وحلله إلى صورة المختلفة وحكم بالمنع على ضرب من (التقليد) يتمثل فى الأشكال الأربعة التالية :(46)

1ــ أن يقلد (المجتهد) غيره .

2ــ أن يصر المقلد لمذهب ما على تقليد إمامه حتى بعد أن يعرف يقينا أن قواعد التشريع فى مذهبه، أو أن آراء إمامه، تتعارض مع القواعد الثابتة فى القرآن والسنة (47) .

3ــ أن يصر المقلد، الذى عنده مثل هذا الاقتناع، على أن يتبع إمامه حرفياً وفى كل الحالات حتى حين يثبت بالأدلة الشرعية أن رأى إمامه خطأ (48) .

4ــ أن يعتقد المقلد أنه لا يجوز استفتاء مذهب غير مذهب المرء، كأن يستفتى حنفى شافعياً أو مالكى حنبليا، أو أن يتبع (مجتهداً) من غير مذهبه .

وما ذهب إليه (شاه ولى الله) ليثبت بطلان هذا الضرب من (التقليد) المتمثل فى هذه الأنواع من المقلدين، يرتكز على أسس فقهية صحيحة .

أما (المجتهد) فهو رجل يمكنه الاحتكام مباشرة إلى القرآن والسنة وبدون واسطة .

وهذا وأمثاله من الفقهاء المبرزين يجب أن يتَّبِعوا الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، فإذا أحس الفقيه من نفسه القدرة على الاجتهاد، ولو فى مسألة واحدة أو فى بعض المسائل، حرم عليه أن يقلد الأئمة الآخرين فى هذا .

والمقلد الذى يفضل رأى إمامه على الحديث الصحيح فإنه فى الواقع يفضل تقليد إمامه على تقليد الرسول صلى الله عليه وسلم .

ولهذا، فإن مسلكه هذا يتعارض صراحة مع القرآن، ومن ثم كان (محرماً)(49) .

كتب فقيه بارز هو العزّ بن عبد السلام عن متعصبة المقلدين قائلا: إنهم يتبعون إمامهم كما لو كان الأئمة أنفسهم هم رسل الله أو مصادر التشريع . ومثل هذا الضرب من التقليد يؤدى بصاحبه إلى البعد عن الصراط المستقيم (50) .

والنوع الثالث من المقلدين – ممن يتبعون أئمتهم معتقدين أنهم لا يخطئون ويتمسكون بتقليدهم دون غيرهم مهما كانت النتائج، فى رأيه أنهم يَعْتَبرون أئمتهم مصادر أصلية للتشريع، وهم بهذا يفعلون فعل اليهود الذين كانوا يتبعون (رهبانهم) (50- 1) بدلا من اتباع التوراة .
إن الإسلام لم يبْنَ نظاماً كهنوتياً، كما لم يقرّ مبدأ (العصمة) لرجال الدين، وإنما أدان صراحة هذا النظام، واعتبر هذا الضرب من التقليد بمثابة العبادة للأحبار والرهبان (51) .

(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً..) .

النوع الرابع من (التقليد) ينتمى إلى (التقليد الجامد) الذى يتجه إلى تجميد الشريعة التى هى بطبيعتها الأصلية حية ومرنة .

إلى جانب هذا، كان (التلقليد المطلق) نوعاً شائعاً فى أزمان الصحابة والتابعين وتابعى التابعين وحتى نهاية القرن الرابع . ومن ثم اكتسب قوة إجماع السلف .
وبناء المذاهب الأخرى، أو تفضيل آراه بعض مجتهديها، موقفاً يتاقض إجماع أجيال من المجتهدين، ومن هنا كان قول (شاه ولى الله) وآخرون بمنعه .(52) .

وإذا نحينا جانباً الأشكال القليلة المشوهة وهى (التقليد المحض) والتقليد الجامد فإن منهج (التقليد) فى صورته البسيطة والصحيحة لا يمكن القول ببطلانه (53). كيف والقرآن والسنة يقرّانه؟ فضلا عن إسهامه فى تحقيق الغاية المهمة وهى الحفاظ على حيوية (الشريعة) بصورة أو بأخرى .

ومن أهم وظائفه الصيانة المستمرة للهيكل العام للشريعة ولما يتميز به من قابلية التوسع والتقدم. وهذه الاستمرارية هى أساس قوة جميع المذاهب الفقهية المعترف بها والتى تتلاق جميعها فى النهاية على المصادر الأساسية للشريعة . وبينما يؤكد (شاه ولى الله) وجوب (تقليد المذاهب) نراه يعبر عن مزايا تطوير (التقليد) واستمراره فى عصرنا هذا (54) .

ويعلق (شاه ولى الله) أهمية على (تقليد المذاهب) الذى يراه مطابقاً للتقاليد الفقهية السليمة التى يمكن إرجاعها إلى كبار المجتهدين الذين ارتبطوا بتابعى التابعين فالتابعين وأخيراً بستة النى صلى الله عليه وسلم (55) .

إن المحصول الذى وصلنا من المدارس الفقهية لهو تراث ثمين من الإسلام الأصيل بالنسبة القوم لا يمتلكون معرفة كافية بالفقه .

وإن ربط أفراد المجتمع أنفسهم بواحد من المذاهب الأربعة المعترف بها فيه خير كثير لهم، إذ يحفظ عليهم ذلك الالتزام وحدتهم مع المجتمع الكبير، كما يحميهم من أن يسيروا فى اتجاه معاكس لإجماع الأجيال التى مضت. ولا يتوقع من المسلم أن يهدم إجماع فقهاء الماضى أو إجماع الصحابة أو يعارضة .وفى رأى (شاه ولى الله)أن (تقليد المذهب) قد أصبح فى عصرنا الحاضر ضرورة و – من ثم – (واجباً)(56) كما يقرر (ابن الهمام) أن الالتزام بأحد المذاهب الأربعة (إلزامى) أو (واجب) فى رأى متأخرى الفقهاء (57) .

التقليد المطلق :

ينتمى (التقليد المطلق) إلى ذلك الضرب من الاتباع الذى يعطى للمقلد الحرية فى أن يتبع ما يراه أكثر إقناعاً من آراء المجتهدين من أى مذهب من المذاهب المعترف بها .

ويكفى للتمييز بين المقلد من هذا النوع و (غير المقلد) أن نعرف أنه مع (التقليد المطلق) يوجد التزام بمذهب معين، لكنه ليس التزاما حرفيا بحيث يمنع صاحبه من الأخذ بالفتوى الأفضل لمجتهد أو لمذهب آخر . وبمعنى أوضح، يبقى هذا النوع من التقليد محصوراً فى نطاق المذاهب المعترف بها، ولكن يحق للمقلد أن يستفتى أى فقيه مشهور من فقهاء المذاهب الأخرى، وأن يتصرف فى شئون حياته اليومية تبعاً لفتواه بعد أن يكون قد اقتنع بها . وهذا المسلك من مقلدى المذاهب لا يتعارض بالمرة مع التزامهم بمذهبهم .

كان هذا المسلك هو ما عمل عليه عامة الناس خلال القرنين الأول والثانى . وكان (التقليد المحض) و (التقليد الجامد) بعيدين عن مخيلتهم، بل إن (تقليد المذهب) – بمعنى اتّباعه فى كل شئ – لم يكن شائعاً بينهم، إنما كان (اتباع السنة) هو الأمر الذى حظى باحترام المسلمين.(58)

وعلينا – كى ندرك قيمة الأنماط المختلفة من (التقليد) – أن ندرس مراحل تطوره فى ضوء ظروفها التاريخية الحقيقية . يقول (شاه ولى الله) مبيناً اتجاهات التطور فى ممارسة التقليد: (اعلم أن الناس كانوا فى المئة الأولى والثانية غير مجمعين على التقليد لمذهب واحد بعينه.. وبعد المئتين ظهر فيهم التمذهب للمجتهدين بأعيانهم، وقل من كان هذا هو الواجب فى ذلك)(59) . ومن رأيه أنه فى مكان مثل مكة – حيث توجد المذاهب كلها ويعمل بها – يباح للمسلم أن يتبع أيا منها . أما حيث لا يسود سوى مذهب واحد فيجب عليه أن يقلد ذلك المذهب)(60) .

ويكن أن نستخلص من تأكيدات (شاه ولى والله) أنه يرى أن اتباع إمام شئ أساسىّ، وذلك رغم أن اتجاهه الأصلى يميل أكثر نحو (التقليد المطلق) . والسبب فى هذا أنه هو نفسه كان فقيهاً محدثاً .

التقليد المحض

هل تُلزم الشريعةُ المسلمَ أن يظلّ مقلداً لمذهب معين طول حياته؟ هذه مسألة خلافية بين الفقهاء. ويقدم لنا (إبن الهمام) جواباً واضحاً ومقنعاً على هذه المسألة: (يعتقد (ابن الهمام) الحنفى أن المقلّد لا يلزمه أن يظل مقلداً لمذهب معين، لأن مثل هذا الالتزام لم يفرض عليه)(61).

ويذهب صاحب (مسلم الثبوت) نفس المذهب فيرى أن على الشخص الذى يأخذ بقاعدة فقهية معنية من مذهب ما أن يظل يعمل على أساسها مادام راضياً عنها ومقتنعاً بها فى هذه المسألة، لكن يجوز له فى مسائل أخرى يتبع فقيهاً آخر . وقد كان هذا هو دأب العصر الأول حيث اعتاد الناس على أخذ الفتوى من (مجتهد) ما فى وقت، ومن آخر فى وقت آخر، وذلك من أجل حَلّ مشاكلهم .(62)

وقد ذكر (ابن الهمام) بوضوح لا لبس فيه أن (التقليد المحض) لمذهب معين ليس له أصل(63). ويرى (ابن عابدين) هذا الرأى، فالعامىّ عنده ليس ملزماً بالانتهاء إلى مذهب معين أو (مجتهد) معين، وينقل رأى (ابن الهمام) فى أن الأولى للعامى أن يتبع الرأى الذى يروق له من آراء (المجتهدين) . فإن وجد رأيين مختلفين لمجتهدين فليؤْثر ما يراه أكثر إقناعاً وإن جاز له أن يأخذ بالأقل إقناعاً . (فما دام الواجب عليه شرعاً أن يتبع أحد الفقهاء، فإن اختياره أحد الآراء الموجودة – بصرف النظر عن الأفضلية – يحقق قيامه بهذا الواجب)(64) .

ويتفق (ابن عابدين) و (ابن الهمام) على أنه لا غنى عن (التقليد) فى حق العامىّ ومن دخل فى الإسلام(65) .

ويمكن اعتباره واجباً فى حقهم وحق أمثالهم، ولهم أن يتبعوا أى (مجتهد) يتيسر لهم الوصول إليه (66) .

ويورد (الشعرانى) – فى كتابه الشهير (الميزان الكبرى) – قول (ابن عبد البر) المالكى، رحمه الله، : (لم يبلغنا عن أحد من الأئمة أنه أمر أصحابه بالتزام مذهب معين لا يرى صحة خلافه، بل المنقول عنهم تقريرهم الناس على العمل بفتوى بعضهم بعضاً لأنهم كلهم على هدى من ربهم . وكان يقول: لم يبلغنا فى حديث صحيح ولا ضعيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر أحداً من الأمة بالتزام مذهب معين لا يرى خلافه . وما ذلك إلا لأن لكل مجتهد نصيب)(67) .

وأشار (الشعرانى) إلى ما نقله القرافى عن (إجماع) الصحابة على أن لمن قلّد الشيخين، أبابكر وعمر، رضى الله عنهما، فله أن يقلد غيرهما من الصحابة من غير نكير . وأجمع العلماء على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجة، ومن ادعى دفع هذين الاجماعين فعليه الدليل (68) .

كما ذكر الشعرانى رأى الإمام الزناطى المالكى فى تأييد (التتقليد المطلق) :وكان الإمام الزناطى المالكى يرى أنه (يجوز للمسلمين أن يتبعوا أحكام أى مذهب فى شئون حياتهم اليومية ولواجهة متطلبات حياتهم الاجتماعية)(69) .

وفى ضوء هذه الأقوال التى قال بها هؤلاء الفقهاء الكبار، الذين يمثلون المذاهب الفقهية: الحنفى والمالكى والشافعى، يمكننا أن ننتهى إلى القول بأن الصيغة الأصلية للتقليد والطبيعة الحقة له تتمثل فى (التقليد المطلق) .وقد حظى هذا الضرب بمباركة القرآن والسنة، فضلا                                                      عن كونه أمراً طبيعياً فى صيغته ولا غنى عنه فى طبيعته . ومع أن هذا (التقليد المطلق) أصبح غير معمول به لدى جماهير المسلمين، وقد حل محله (التقليد المحض)، إلا أن صحته حتى اليوم لا غبار عليها من الناحية الفقهية، فإذا أخذ البعض به اليوم – كما فعل (شاه ولى الله) – فلا يستطيع أحد الاعتراض عليه أو أعتباره ضرباً من التقليد غير صحيح (70).

التقليد الجامد :

(التقليد الجامد) ضرب متطرف من (التقليد محض) ويبدو أنه يمثل أقصى حالات (التقليد) من السلوك المثالى للرسول صلى الله عليه وسلم وبمرور الزمن تحول التقليد الشخصى للرسول إلى تقليد للصحابة الدين كانوا خير من يفسر القرآن والسنة. ثم اتسع هذا التحول الفقهى أكثر وأكثر فى عهد التابعين وتابعيهم وتلاميدهم الذين ظلوا يجتهدون للوصول إلى تقرير التفسر الأصح للشريعة، وذلك من أجل تطبيقها على الظروف المتغيرة والقرآن يوجه فى قوة إلى طلب التأويل الصحيح، بل الأفضل

(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) (71)

وبالتدريج تحولت جهود أولئك (المجتهدين) إلى (مذاهب فقهية) وتزايدت قوة هذه الدراسات المنظمة للفقه نتيجة ما أحرزه كل منها من تقدم فى البحوث التى يقوم بها فى إطار الأصول التى يأخذ بها، كانت هذه المدارس تتطور فى فترة واحدة ولكن فى آماكن متباعدة، الامر الذى أدى إلى استقلالية انتهت إلى مزيد من الانفصال بينها، وهذا بدوره كان وراء ظهور (التقليد الجامد)، ومما يجدر أن نذكره هنا خاصة، ما قاله الإمام (النسفى) عن (التقليد الجامد) :

(إذا طلب الرأى فى مذهبنا بالمقارنة إلى المذاهب الأخرى، فمن الطبيعى أن نؤكد أن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، على حين أن المذاهب الأخرى خطأ يحتمل الصواب) ويرفض (ابن عابدين) هذا الرأى – بعد أن نقله – على أساس أنه مبنى على أسس واهية، بينما الرأى الحق يؤيد تقليد أى (مجتهد) بصرف النظر عن كون مذهب أعظم من مذاهب آخرى، أو (مجتهد) أعظم من (مجتهد) آخر (72) .

ورأى (النسفى) هذا يعتبر أثؤاً من آثار الفترة الانتقالية التى حدث فيها – ولوقت محدود – صراع بين المذاهب من أجل أن يثبت كل منها أنه أعلى من الآخر . وهذا الصراع قد خلق حزازات بينها استمرت زمنا وأدت فى النهاية إلى التعصب و (التقليد الجامد)

لكن هذا الضرب من (التقليد) كان يسير فى اتجاه مضاد لروح (التقليد)، كما كان متعارضاً مع إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وسائر كبار (المجتهدين) فى عصور السلف ومن ثم فلا يكون صحيحاً فى جوهره

وباختصار، إن (التقليد الجامد) هو أشد الصور انحرافاً فى منهج (التقليد)، وفيه انكار لروح الشريعة، إنه يشبه ذلك المنهج الحياتى – تقليد الأسلاف – الذى أدانه القرآن الكريم (73) .

الانتقال من مذهب إلى آخر :

فرض الإسلام على جميع المسلمين تقليد شخص الرسول عليه الصلاة والسلام، كما سبق القول، لكن الفقه لا يبيح سريان هذا الضرب من التقليد على الأئمة، بل العكس هو الصحيح، إذ يحرم (التقليد الشخصى) لأى إنسان بعد رسول الله .

ومن هنا، فليس ضرورياً ولا فرضاً أن يلتزم المسلم بمذهب فقهى معين التزاماً دائماً (74) . وإن فكرة الالتزام بمذهب فقهى معين لم تسمع بالمرة فى زمن الصحابة ولا التابعين أو حتى تابعيهم، وذلك على حد قول (العّز بن عبد السلام (75)) فكان المتّبعَ بين المسلمين خلال القرن الأول والثانى هو (التقليد المطلق) أو عدم التقليد بمذهب فقهى معين . فكان لكل مسلم الحق فى أن يستفتى أى (مجتهد) بصرف النظر عن مذهبه، وذلك ليجد حلا لمشكلات حياته (76) . وفى مثل هذا الوضع لم تَثُر بالمرة قضية تغيير المذهب . وكان بذل الجهود الفردية للاحتكام إلى المصادر الأصلية أمراً يحظى بالتقدير .

والواقع أن ظهور مبدأ (التقليد الشخصى) لمذهب أو لإمام معين، إنما كان من ثمار الضعف والتدهور الذى أصاب المسلمين فى العصور المتأخرة، وإن فكرة الالتزام بمذهب فقهى معين لا تستند إلى أى أساس من المصادر الأصلية أو من آثار الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو من مسلك كبار متقدمى (المجتهدين) .

ويسأل (ابن الهمام) سؤالاً – سبق ذكره: – هل على من ارتبط بالمذهب الحنفى مثلاً أن يظل مرتبطاً به ؟ ثم يجيب على سؤاله قائلاً إن البعض يرى أن ذلك ضرورى وواجب: على حين لا يوافق آخرون على هذا الرأى بحجة ان لا شئ يصبح واجباً إلا إذا أوجبه الله، ولم يوجب الله على أى مسلم أن يلتزم دائماً بمذهب فقهى معين . كذلك يرى (ابن الهمام) أن الانتهاء إلى مذهب معين لا يتطلب من حيث طبيعته أن يكون دائماً، إذ أن ذلك لا يقوم على أساس من الشريعة (77) .

ويضيف (أن مسلك السلف فى الماضى أنهم كانوا يتبعون (فتوى) أحد الفقهاء فى زمن، وفى زمن آخر يتبعون (فتوى) فقيه آخر من مذهب مختلف) .

وينصح الإمام (أبو شمة) الفقهاء أن يصونوا حرية عقولهم من التعصب ضد المذاهب الفقهية الأخرى . وبين الإمام (المزنىد منهج الإمام (الشافعى) من حيث أنه كان يطلب من الناس ألا يقلدوه، بل أن يلقدوه مباشرة القدوة الحسنة فى سلوك النبى صلى الله عليه وسلم (78) . ويرى (ابن عابدين) فتوى (أبى بكر بن الجوزى) – عند الإشارة إلى الفتوى (التتار خانية) – انه إذا غير شخص مذهبه الفقهى باجتهاده، أو بناء على أسس فقهية، فإن ذلك يكون أمراً يستحق التقرير كتصرف معقول، ولعل لمثل هذا الرجل أجراً من الله على عمله هذا . وفى الموفق المقابل، إذا غير شخص مذهبه دونما دافع دينى أو سبب فقهى، وكان التغيير من أجل إشباع دوافع أنانية أو مطامع دنيوية، فإن هذا التغيير يعتبر ذنباً، وتصرفاً مذموماً، بل قد يعتبر جريمة، لأنه يشبه تصرف المرتد الدى يستهدف هدم الدين باللعب بالعقيدة واستغلالا لنيل غاياته الدنيوية الحقيرة (79)

موقف فقهاء المالكية والشافعية من (التقليد) و (تغيير المذهب) :

كان الإمام (الشافعى) – كما يقول تلميذه (المزنى) – يدعو بقوة إلى تقليد النبى صلى الله عليه وسلم، وكان يطلب من تلاميذه ألا يتبعوه فى أمر إلا      فهما شاملاً .

فقد روى عنه أنه كحاطب (إن من يتبع حكماً شرعياً دون معرفه اصوله كحاطب بليل لا يفرق بين الحية والعصا)(80) وكان الإمام (أحمد بن حنبل) يفرق بين (التقليد) و (الاتّباع)، فيرى أن (اتباع الرسول) واجب على المسلمين، وأن الصحابة كانوا أتقى الناس وأولاهم بأن يُتَّبعوا. أما التابعون ومن بعدهم فللشخص أن يتبعهم أو لا يتبعهم . فالشخص فى (الاتّباع) فى رأى (ابن حنبل) بعرف إمامه ويتبعه، على حين أن (المقلد) فى (التقليد) يتبع إماماً دون أن يعرف مصادر أحكامه أو ملابساتها (81) .

ويؤيد الإمام (الشعرانى) صحة الانتقال من مذهب إلى آخر، وحجته فى ذلك هى أن كبار الفقهاء فى العصور الأولى لم يرفضوا إطلاق الاعتراف بمن غيّر مذهبه، بل سمحوا له بأن يحتفظ بمكانته فى المذهب الجديد (82).

ومن قبل ذلك نجد الإمام (ابن عبد البر) يؤمن بجواز (التقليد) و (الانتقال) (83) وينقل عنه (الشعرانى) فى الميزان قوله: (لم يصل إلى علمنا أن أى إمام من أى مذهب فقهى كان يسأل طلابه وأتباعه أن يتبعوا مذهبه وحده وألا يعتقدوا صواب المذاهب الأخرى وصحتها)(84) .

بل العكس هو الصحيح؛ فقد روينا أنهم كانوا يسمحون لأتباعهم أن يستفتوا الفقهاء الآخرين أيضاً طلباً للحق وأن يأخذوا بما يفضلون من الفتاوى. ولم يكن هذا موفقهم إلا لأنهم كانوا يعتقدون أن كل (مجتهد) على الحق، وأن فهمه يقوم على أسس صحيحة، ويزيد (ابن عبد البر) فيقول إنه لم يرد حديث صحيح، أو ضعيف، يقول إن النبى صلى الله عليه وسلم قد آمر أصحابه أن يتبعوا مذهباً فقهياً معيناً ويرفضوا كل المذاهب الفقهية الأخرى (85). وهذا التسامح تجاه اتخاذ مذهب معين وترك المذاهب الأخرى كان موقفاً دائماً تجاه كل المدارس الاجتهادية، وكان فى كل إمام (مجتهد) يسير على طريق الحق (86) .

وما دامت المذاهب الفقهية كافة تستمد من المصادر الأصلية – القرآن والسنة –فكلها على الحق . ومادام كل (مجتهد) يبذل وسعه للوصول إلى الحق،فإنهم جميعاً، من حيث النظر، على طريق الحق ما لم يثبت غير ذلك . ومن هنا كان قول (الشعرانى) : (كل مجتهد مصيب فى حكمه)

كذلك ينقل الإمام (الشعرانى)(فتوى) الإمام (القرانى) الذى يرى أن (هناك إجماعاً فى الرأى على هذه النتطة وهى أنه فى عهد الشيخين (أبى بكر وعمر) كان الناس يلتزمون بأوامر الخليفة، لكن فى نفس الوقت – كان مسموحاً لهم .                                                  أن يتبعوا كبار الصحابة فيما يتعلق بشئون حياتهم اليومية) .كما أن هناك إجماعاً فى الرأى على أن لكل من دخل فى الإسلام أن يتبع أى فقيه دون أن يعرف مصادر أحكامه وأصوله. ويقول (القرافى): (إن كل من يعارض إجماع آراء الفقهاء المعروفين حول هاتين النقطتين فإن مسئولية لإثبات غير ذلك تقع على المعارض)(87). ونقل (الشعرانىد كذلك رأى الإمام (الزناطى) المالكى الذى يرى جواز أخذ الأحكام فى الفرعيات من أى مذهب وذلك لمواجهة المتطلبات الواقعية للحياة اليومية، كما يرى جواز الانتقال من مذهب إلى آخر)(88). كما نقل (الشعرانى) فتوى جامعة (لجلال الدين السيوطى) تؤيد جواز الانتقال من مذهب إلى آخر. وقد عالج السيوطى قضية (التقليد) والانتقال بأسلوب تحليلى واضح، وباختصار، شرح الأسس والدوافع التى يصبح معها التحول عن المذهب (واجبا) أو (مندوباً) أو (مباحاً) أو (مكروهاً) أو (حراماً) بل جريمة فى بعض الأحيان، وقد نقل السيوطى آراء بعض العلماء من ذوى المكانة العلمية العالية فى الفقه الإسلامى، ممن لم يقفوا عند حد القول بجواز الانتقال من مذهب إلى آخر، بل مارسوه هم بالفعل، ولم ينازعهم احد من معاصريهم فيما فعلوا أو يعيبه عليهم. وحالة الإمام (الطحاوى) فى هذا الصدد مثال بارز (89). ويرى الإمام (الشعرانى) أن (الطحاوى) ربما غير مذهبه من الشافعى إلى الحنفى لأنه كان يشعر أن عطاءه قد يكون أعظم إذا ما تملك فقه المذهب الآخر الذى اختاره. وقد عظم بالفعل عطاؤه فى المذهب الجديد الذى انتقل إليه ولم يفقد مكانته واحترامه، بل ارتفع كإمام إلى مكانة يحسد عليها (90). بل إن الإمام (الشافعى) نفسه كانه يتبع المذهب الحنفى مدة وجوده فى العراق مع(الشيبانى)، لكن حين ذهب إلى المدينة وتأثر بالإمام (مالك) درس عليه (الموطأ) والفقه وتحوّل إلى المذهب المالكى باختياره، وظلت علاقته بهذا المذهب قائمة حتى توفى فى مصر (91) .

ويمكننا – دون دخول فى التفاصيل – أن نلخص جميع آراء فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية حول هذه القضية:

1ــ (التقليد الشخصى) بمعناه الحرفىّ مقصور على تقليد شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، ولا تقليد غيره أبداً

2ــ يجوز (الاقتداء) بأى عالم أو إمام، وفى القرآن والسنة ما يؤيد ذلك

3ــ ليس حتماً على المسلمين أن يقلدوا أى فرد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم

4ــ لكل مسلم متعلم أن يقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقليداً مباشراً وشخصياً وهذا النوع من التقليد مفروض على (المجتهدين)(92).

5ــ على من دخل فى الإسلام، ومن لا قدرة له على أن يعرف أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله بطريق مباشر، أن يقلد مذهباً معيناً من مذاهب الفقه يختاره (93). ولمن لا تتبح لهم أشغالهم وقتاً للنظر فى مسائل الفقه، أن يتبعوا أياً من أئمة الفقه، لأنهم فى النهاية يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقليد أحد (المجتهدين) واجب على أمثال هؤلاء (94) .

6ــ كان (التقليد المطلق) أول ضرب من ضروب (الاقتداء) مارسه الصحابة والتابعون وتابعوهم أكثر من قرنين . ومن هنا فإن هذا الضرب من (الاقتداء) له أهمية تاريخية فى قضية (التقليد) .

7ــ المتوقع من المسلم الذى أتقن علم الفقه أن يكون (مقلداً) مباشراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، أو على الأقل ــ (مقلداً مطلقاً) يتبع أى (فتوى) للفقهاء يراها أقرب إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهجه (95).

8ــ كل(مقلد) يصر على اتباع إمامه حتى بعد أن يعرف يقيناً أن فتواه تتعارض مع القرآن أو مع الحديث الصحيح، يعتبر (كافراً) لأن هذه التبعية العمياء تقوم على أساس عبادة الأشخاص وتتناقض مع المبادئ الأساسية للشريعة وكل الفقهاء مجمعون على هذه النقطة وهى أن التقليد لشخص الإمام كفر وشرك (96) وحيث أن (التقليد الشخصى) لا يكون إلا للرسول صلى الله عليه وسلم فالمفروض على كل مسلم أن يؤثر (اتّباع الرسول) على الاقتداء بأى إمام .

9ــ يلزم من الأخذ بالمنهج الصحيح (للتقليد المطلق) أن يكون للمسلم الخيار فى اتباع أحد الأئمة أو الفقهاء فى شئون حياته .

10ــ من صور (التقليد) الصحيحة (تقليد المذاهب)،وهو صورة متطورة من (اتّباع الرسول) صلى الله عليه وسلم. ولكن لا يمكن أن ينسحب (التقليد الشخصى) على الأئمة مالم يكن قائماً على أساس اعتقاد جازم من (الملقد) بأنه انما يتبع فى الحقيقة سنة الرسول عليه السلام، من خلال (الاقتداء) بإمامه (97). وقد انتهى الفقهاء المتأخرون إلى أن (تقليد المذاهب) أصبح أساسياً لكل المسلمين (98).

11ــ بالنسبة لصفوة المسلمين، لا يلزمهم ولا يجوز لهم (التقليد الشخصى) . وليس أمام هؤلاء المتمرسين بالفقه الإسلامى سوى نوعين فقط من (التقليد) هما: (اتباع الرسول) صلى الله عليه وسلم و (التقليد المطلق). أما الاتباع الأعمى الذى هو من باب (التقليد الشخصى) فممنوع عليهم، وهو (حرام) فى فى حق (المجتهد)(99) .

12ــ يؤخذ من أن تقليد المذاهب الفقهية الأخرى أو إتباعها ليس بممنوع على أهل العلم من (المقلدين)(100) .

13ــ إذا جاز للشخص أن يتبع أى إمام أو (مذهب فقهى)، أو أن يأخذ بالأفضل من فتاوى الأئمة، فلا شئ يمنعه إن أراد أن يغير مذهبه بالكلية. ومن ثم، فإن إباحة (الانتقال) من مذهب إلى آخر، وصحة ذلك، قائمة على أسس فقهية سليمة .

من المفيد أن نمنع الناس من الإكثار من (التلفيق)، ومثل هذه السياسة الدينية ـــ خاصة فى ظروف عصرنا الحديث الذى شاع فيه التحلّل الدينى ـــ تعتبر نصيحة جيدة وصحيحة لجماهير المسلمين، لكنها لا تقوم على أساس من الشريعة الدينية، أما الأخذ بفتاوى مختلف الفقهاء بغية الحصول على منافع دنيوية محضة أو رغبات دنيئة، أو الانتقال من مذهب إلى آخر سخرية من المذهب القديم أو من إمامه، فتلك تصرفات لا يجوز التسامح معها بالمرة ولا السماح بها فى أى وقت أو أى مكان، ولكن لا يمكن أن نقول ـــ بسبب هذه المخاوف ـــ بمنع الانتقال بين المذاهب حتى فى حالة العلماء المتمرسين والمخلصين من المتعلمين .

المراجع

1ــ المنجد الأبجدى، لويس معلوف: (قلّده: جعل حمالته فى عنقه، قلده قلادة، قلادة: ما جعل فى العنق من الحلّى، التقليد: يستعملون التقليد لما يكتبه السلطان أو الأمير للحاكم مصرحاً له به تقليده الحاكم .

2ــ محمد عبده. تفسير المنار 12: 220.

3ــ سيف الدين أبو الحسس على الآمدى أحكام الأحكام، 3: 166

أــ يعرف الآمدى التقليد بأنه (العمل يقول الغير من غير حجة ملزمة) .

ب ــ ابن الهمام. تحرير … ص 547: (العمل يقول من ليس قوله إحدى الحجج، بلا حجة).

ج ــ يعرفه الإمام الشوكانى فى (إرشاد الفحول ص 265ب: (قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أبن قاله) .

4ــ شاه ولى الله . الانصاف ص 55.

5ــ شاه ولى الله. عقد الجيد فى أحكام الاجتهاد والتقليد ص 40.

6ــ القرآن الكريم: (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) (33: 21). (إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم). (36: 3- 4)، (إنك على الحق المبين) (27: 79) .

7ــ كان سلوكه الشخصّى مثالياً حتى قبل بعثنه صلى الله عليه وسلم، وقد شهد بذلك القرآن (10: 16).

8ــ القرآن: (لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى. عمله شديد القوى) (53: 3- 6 ).

9ــ السابق (4: 105) وثمة إشارة لطيفة فى الآية القرآنية: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)..

10ــ السابق(2: 36،2: 285،24: 108،59: 7).

11ــ السابق (33: 36).

12ــ السابق نفسه.

13ــ السابق (4: 65).

14ــ السابق(4: 64)،(وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله).

15ــ السابق(4: 80): (من يطع الرسول فقد أطاع الله).

16ــ السابق(3: 31).

17ــ السابق (6: 90)، (أولئك الذين هداهم الله بهداهم اقتده). ويلزم من هذا أنه.

حتى الأنبياء مأمورون بالاقتداء بالسابقين منهم .

وهذا معناه وحدة النبوة ووحدة الرسالة .

18ــ السابق (5: 67): (والله يعصمك من الناس)، (52: 48)، (فإنك بأعيننا).

19ــ السابق(42: 52 – 53): (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم، صراط الله الذى له ما فى السموات وما فى الأرض، ألا إلى الله تصير الأمور؟) .

20ــ عقد الجيد فى أحكام التقليد، ص 20 – 22 .

21ــ رغبة فى تجنب الخلط أثناء المناقشة يلزمنا أن نحدد مفاهيم المصطلحات. فللتمييز بين (التقليد الشخصّى) و (التقليد المحض)، نستخدم الأول فى معناه الحرفى: (فافعلوا ما تؤمرون).، (سمعنا وأطعنا)، ونعنى به اتباع شخص الرسول صلى الله عليه وسلم فى أفعاله على أنه رسول الله، على حين يمكن استخدام المصطلح الآخر لنشير به إلى (التقليد المجتهدين) مثل أبى حنيفة ومالك والشافعى أو مذاهبهم الفقهية، وهذا المفهوم لهذا المصطلح الثانى هو ما يفضله المؤلف .

22ــ ابن القيم. إعلام الموقعين، 2: 275. ويقرر القاضى (ابن رشد) فى (بداية المجتهد): (ان الوقائع بين أشخاص الأناسى غير متناهية والنصوص والأفعال والآقرارات متناهية، ومحال أن يقابل مالا يتناهى) ويقرر(ابن خلدون) فى المقدمة (ص 372): (فالوقائع المتجددة لا توفى بها النصوص).

23ــ أبو الاعلى مودودى. إسلامى رباسة 2: 468 .

رسالة الخليفة عمر إلى القاضى شريح: (اقض بما فى كتاب الله، فإن لم يكن فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به الصالحون..) (نسائى) وهذا هو الأساس الفقهى للتشريع الإسلامى .

24ــ القرآن الكريم (21: 7) وهذه الآية تجعل (التقليد المطلق) واجباً على المسلمين.

25ــ الترمذى: أبواب الأحكام، وكذلك أبو داود: كتاب الأقضية، نقلا عن (إسلامى رباسة) للمودودى ص 406.

ابن خلدون. المقدمة ص 278. شاه ولىّ الله. إزالة الخلفاء 2: 140.

27ــ محمد أنوار الله فضيلة جنج (M.A.Fadilet Jang) حقيقة الفقه، 2: 112 – 113 .

28ــ السابق ص 113. كذلك، انظر: مشكاة المصابيح، رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجة .

29ــ السابق ص 1120 نقلا عن (مشكاة…)، القرآن [48: 18،29،29: 8ــ 9.المترجم]، محمد شافع . جواهر الفقه ص 130، أبو الأعلى مودودى. السابق ص 72 [اطلاق كلمة (أى من صحابته) غير موفق فى هذا المقام، إذ ستنبنى عليه أحكام شرعية، خاصة أن الحديث الذى استند عليه (موضوع) كما قرر الألبانى فى (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ج1 حديث رقم 58- المترجم] .

30ــ القرآن (4: 65). والحديث مؤسَّس على قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضت ويسلموا تسليماً). [بيدو أن الحديث المشار إليه فى المتن وفى هذا الهامش قد سقط. ويمكن الاشارة إلى قوله (صلى الله عليه وسلم): (من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ). – المترجم ]. فالأحكام القضائية التى يصدرها القاضى أو الحاكم على أساس القرآن والسنة يجب ألا تثير حساسية لدى المحكوم عليهم حتى يومنا هذا، وهذا نتيجة للتقليد الصحيح للمصادر الأصلية .

31ــ القرآن (31: 15): (واتبع سبيل من أناب إلىّ) .

32ــ السابق(21: 7)و (9: 22).

33ــ محمد شافع، السابق ص 122،133، 144،151.

34ــ عقد الجيد ص 69ــ 70. و(حجة الله البالغة)، فصل 85ص 233. [النص المثبت فى المتن منقول عن (عقد الجيد) [ط/ السلفية 1398هــ 25- 26 – المترجم] .

35ــ عقد الجيد ص 38 [السلفية ص 21 – 23 – المترجم]

37ــ السابق نفسه .

38ــ شاه ولى الله. همعات (همعة رقم3) ص 22.

39ــ شاه ولى الله الانصاف ص 59 .

40ــ ابن الهمام، السابق ص 552.

41ــ ابن عابدين رد المحتار1   70

42ــ عقد الجيد ص 36. وحجة الله البالغة 1،155.

43ــ عقد الجيد ص 9.

44ــ ابن الحاجب. المختصر 2: 306 وعقد الجيد ص9 حيث يقول شاه صاحب: (ويجب على من لم يجمع هذه الشرائط تقليده فيما يعنّ له من الحوادث) .

45ــ ابن تيمية. الفتاوى 2: 240 – 241 .

46ــ شاه ولى الله، السابق 36.

47ــ حجة الله البالغة 1: 155.

48ــ مظهر يقاء. أصول فقه أور شاه ولى الله ص 476 – 477. نشر إدارة التحقيقات الإسلامية. باكستان .

49ــ عقد الجيد 43.

50ــ السابق 44.

51ــ القرآن (9: 31)، (3: 64) [ذكر الكاتب كلمة (رهبان) بلفظها العربى بحروف لاتينية مما أوجب ذكرها كما هى . ولست أدرى إصراه عليها مع أن المعروف ان (الرهبنة) نظام نصرانى لا يهودى. كذلك، ليس واضحا سر اقتصار الكاتب على ذكر اليهود مع أن النصاوى مثلهم فى هذا الانحراف كما مبين فى القرآن. المترجم] .

52ــ حجة الله البالغة 154. ابن القيم السابق 3: 514- 517.

53ــ عقد الجيد 36 -37

54ــ محمد شافع. السابق 1،130

55ــ عقد الجيد 69 – 70

56ــ شاه ولى الله الانصاف 59

57ــ كمال الدين محمد بن الهمام. السابق ص 552. محمد شافع، السابق ص 132

58ــ عقد الجيد 44.

59ــ الانصاف 57.

60ــ السابق ص 59. [حكم الدهلوى بهذا الحكم بناء على ملابسات محددة ذكرها واعتبر أن البديل لعدم تقليد هذا المذهب الواحد المتاح فى تلك الملابسات هو خلع ريقة الشريعة وضياع ذلك المسلم، قال: (فإذا كان إنسان جاهل فى بلاد الهند أو بلاد ما وراء النهر، وليس هناك عالم شافعى ولا مالكى ولا حنبلى ولا كتاب من كتب تلك المذاهب، وجب عليه أن يقلد مذهب أبى حنيفة، ويحرم عليه أن يخرج من مذهبه، لأنه حينئذ يخلع ربقة الشريعة ويبقى سدى مهملا…) (الانصاف، ط/ القاهرة 1384هــ، ص 65) – المترجم] .

61ــ محمد شافع، السابق: (مسألة التقليد) ص 130و (التقليد المحض) يعنى التزام المقلد بمذهب معين. يقال : (كان إبراهيم وأصحابه يرون ابن مسعود وأصحابه أثبت الناس فى الفقه) (حجة)

62ــ محب الله بهارى مسلم الثبوت ص 292.

63ــ السابق نفسه .

65ــ سيف الدين الآمدى، السابق 170

66ــ أحمد بن محمد المنقور النجدى. الفواكه العديدة فى المسائل المفيدة 2: 128.

67ــ الشعرانى الميزان الكبرى ص 39 [ والنص العربى عن ط/ الحلبى (1359 هــ)1: 39 – المترجم]

68ــ السابق نفسه واحمد بن محمد المنقور، السابق ص 128.

70ــ مظهر بقاء أصول الفقه أورشاه ولى الله، ص1ذ – 33. ويقرر شاه ولى الله فى (همعات)

وذكر د بقاء أن (شاه صاحب يختلف فى 80% من أحكامه مع أبى حنيفة ويميل إلى الآمام الشافعى فى 70% من تلك الاحكام) ص 40.

71ــ القرآن (39: 55) (واتبعوا احسن ما أنزل إليكم من ربكم) وكذلك (7: 154)، (39: 17- 18 ).

72ــ ابن عابدين السابق 1: 45.

73ــ القرآن (3: 64)، وكذلك حجة الله البالغة ص 191

74ــ محب الله بهارى، السابق ص 292.

75ــ حجة الله البالغة فصل 85 ص 35 – 36. و(عقد الحيد) ص 32.

76ــ الانصاف ص 57.

77ــ انظر التعليق السابق [رقم – 70]

78ــ عقد الجيد ص 44 – 45، حجة الله البالغة ص 238.

79ــ ابن عابدين، السابق 3: 263.

80ــ ابن القيم، السابق 3: 526. وكذلك: مصطفى أحمد الزرقا: (تطور الفقه الإسلامى) فى عدد القانون من Charaghi-i   Rah، كراتشى، مج1 ص 368.

81ــ السابق نفسه.

82ــ الشعرانى. السابق ص 39. كذلك الزرقا، السابق نفسه.

83ــ السابق نفسه.

84ــ السابق نفسه، وكذلك، ابن القيم، السابق 3: 526.

85ــ السابق نفسه.

86ــ الشعرانى. السابق ص 39.

87ــ نفسه.

88ــ نفسه.

89ــ نفسه.

90ــ نفسه.

91ــ عبد الرحمن بن خلدون. السابق ص 469.

92ــ الانصاف ص 69 – 70.

93ــ ابن عابدين. السابق 1: 45.

94ــ سيف الدين الآمدى. السابق ص 170.

95ــ تاج الدين السبكى. جمع الجوامع3: 393.

96ــ القرآن (9: 31)و (3: 64).

97ــ عقد الجيد ص 36 – 37.

98ــ الانصاف ص 69- 71. وانظر كذلك ابن الهمام . السابق ص 549.

99ــ تاج الدين السبكى. السابق 1: 393.

100ــ سيف الدين الآمدى. السابق 3: 167. وانظر كذلك (المستصفى) للإمام الغزالى 2: 384.

 

الجزء الثانى

التلفيق بين المذاهب

(التلفيق) مبدأ فقهى يمكّن المقلد من أن يأخذ عن فقيه معترف به الرأى الذى يبدوله. أنه(الاجتهاد) الأوثق والأصح. و (التلفيق يعنى – حرفيا – أن تلفق عددا من القطع المختلفة من القماش لتصنع منها لباسا. كما يعنى أن تجمع أشياء من أماكن مختلفة وتركبها معا لتصبح شيئاً واحداً. (1)

أما معناه فى الفقه الإسلامى فهو الانتقاء من الآراء المختلفة لفقهاء المسلمين. وقد كان دأب المسلمين، قبل قيام المذاهب الفقهية، أن يتبعوا أفضل الآراء الفقهية لأى من إلفقهاء المعترف بهم. بل ظل الناس، حتى بعد أن تكونت المذاهب، يؤثرون (التقليد المطلق) على (التقليد المحض) دون أن يعترف أحد على مسلكهم هذا (2) .

ومعنى هذا أن المسلمين فى العصور الأولى كان لهم الخيار فى العمل بمنهج (التلفيق) فى حياتهم اليومية، لكنهم أصبحوا فى العصور المتأخرة يتناولونه بحذر وفى أوقات الحاجة القصوى فقط. وقد اتخذ هذا المسلك فى بطء صورة المبدأ الفقهى الذى يمكن تعريفه بأنه المبدأ الذى يتيح للمقلدين فى أوقات الحاجة الملحة والشدائد أن يستخدموا عقولهم ويأخذوا بأنسب وأفضل الاجتهادات لأى من (المجتهدين) المتعرف بهم فى الفقه الإسلامى وان يكن من غير مذهبهم الفقهى

ويرى فقهاء المسلمين فى عصرنا الحاضر أن هذا المبدأ إذا طبّق على الفقه الإسلامى يمكن أن يكون أفضل وسيلة لحل المشكلات الحديثة فى حياة المسلمين . فها هو (محمد شافع) – مفتى باكستان – يحبّذ استخدامه فى التشريع لمواجهة المتطلبات الملحة للمجتمع المسلم . ونريد فى هذه الدراسة أن نستوضح الأسس الفقهية لمبدأ (التلفيق) .

يقرر شاه ولى الله (انه لا خلاف للأمة فى تصويب المجتهدين فيما خّير فيه نصا أو إجماعا (3) فالاختلاف فى الرأى بين الفقهاء أمر طبيعى) :

(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختليفين . إلا رحم ربك، ولذلك خلقهم …)(4)

يقول شاه إسماعيل، الشهيد – وهو يُبْدى إعجابه بالاختلافات فى الرأى بين الفقهاء من أهل التقوى – انها إنما تحدث نتيجة لاختلاف مناهجهم فى تناول المشكلات، وإنهم مصيبون، كل بطريقته الخاصة، وينصح المسلمين أن يتّبعوا طريق التقوى (5) .

وكان عمر بن العزيز والقاسم بن محمد بن أبى بكر يريان أن من اتّبع أيا من الصحابة فهو على طريق الحق (6)

وليس ثمة فقيه ألزم طلابه أو أتباعه أن يتّبعوا فقهه أو رأيه وحده. يقول الإمام أبو حنيفة: (لا يحل لأحد أن يعمل بقولنا مالم يعلم من أبن قلناه) ويقول الإمام (المزنّى) إن الشافعى نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره (7) فالتقليد – من ثَمّ – أمر يؤخذ به عند الحاجة به عند الحاجة إليه وليس إلزامياً .

أخبر (المنصور) – ثانى الخلفاء العباسيين – الإمام مالكاً ابن أنس بعزمه على أن يفرض المذهب المالكى على المسلمين، لكن الإمام مالكا لم يوافق على هذا الرأى، مع ما عرف من شدة المنصور، وطلب منه فى أدب ألاّ يفعل لأن المسلمين فى ذلك الوقت قد توزعوا فى الأقاليم وصاروا يتبعون من عندهم من الفقهاء، ولأن (الفقه) كان يتطور فى كل الأقاليم فى الوقت نفسه. وردّ الإمام مالك الردّ نفسه على الخليفة هارون الرشيد حين أراد أن يلزم الناس ب (الموطَأ)(8) وقد أثنى الخليفة الرشيد على موقف الإمام مالك .

ويتفق كافة الفقهاء على هذه النقطة، وهى أن كل (مجتهد ورع) يبذل قصارى جهده للوصول إلى الحق، ونتيجة لهذا الإخلاص يمكن اعتبارهم جميعاً على الحق (9) وهذا الاتجاه يؤيده جميع المسلمين فيما يتعلق بالمعترف بهم من أئمة الفقه، ولايزالون حتى اليوم .

وهذا الحكم صحيح تماماً من وجهة النظر المتعلقة بالمنهج المحدد للاجتهاد الذى يقوم به (مجتهد) مخلص واسع الاطلاع .

وفى هذا تقدير للإخلاص المتمثل فيما يبذله (المجتهد) من جهود للوصول إلى الحق عن طريق القواعد المقبولة فى الفقه الإسلامى .

والاخلاص فى بذل الجهد يكون فى التزام (الفقهيه) أو (المجتهد) وفى برهنته كمجتهد على تحريه الصواب. أما النتيجة المتحصلة عن اجتهاده، فذلك أمر خارج عن سيطرته. إنه قد يصل إلى الحكم الصحيح وقد لا يصل، وقد يصل إلى ذلك الحكم (مجتهد) آخر مساو له فى العلم، وهذا أمر قد حدث أكثر من مرة (10) ومن هنا، فإن المنهج المتكامل لمشكلة (الاجتهاد) يقدم لنا الأساس اللازم للاعتقاد بأن الحكم الآخر (الاجتهادىّ) فى مسألة معينة له نفس الدرجة من الصحة، وأن (المجتهد) الآخر يمكن أن يكون قد أخطأ (11).

يقوم مبدأ (التفليق) على أساس الدراسة المقارنة للمذاهب الفقهية المختلفة و (الاجتهادات)التى أنجزها العديدون من الفقهاء المعترف بهم. ومما يخرج عن نطاق هذا البحث أن نتعمق فى تحليل هذا الأمر لنقرر صحة مسألة فقهية فى أحد المذاهب أو خطأها، أو أن (واقعة اجتهاد) معينة موثوق بها أولا. فالتفيق كمبدأ ينحصر استخدامه فى الوقائع كما هى لا كما يجب أن تكون عليه، فهو أداة تمكن الفقهاء من تطبيق أكثر القواعد ملاءمة ومناسبة، أيا كان مصدر هذه القاعدة من بين المذاهب المعترف بها، وذلك من أجل التوصل إلى حل للمشكلات عندما تكون هنالك حاجة ملحّة أو عقبة لا يمكن تفاديها .

سبق أن ناقشنا إجماع الآراء على شرعية (التقليد المطلق) الذى تحول – بعد أ، تكونت المذاهب الفقهية – إلى (التقليد المحض) وهو الذى تحول بدوره، فى عصور الضعف والركود، إلى (التقليد الجامد).

وكانت النتيجة أن أصبحت فكرة (التلفيق) هى الأخرى موضع جدل وتقلييد .

ومن الواجب أن ندرس تلك المجادلات فى ضوء الملابسات التاريخية لاتجاهات التطور الخاصة بمنهج (التقليد). فالعلامة (الطهطاوى)، الذى نقلنا من قبل قوله بشأن الانتقال من مذهب إلى آخر، يعارض (التلفيق). والنص الذى يكثر الاستشهاد به من (الدر المختار) يقول: (إن الرجوع عن التقليد بعد العمل باطل اتفاقا، وهو المختار فى المذهب)(12) .

ويعلق ابن عابدين على ما جاء فى (الدر المختار) :

(وهو محمول كما قال ابن حجر والرملى فى شرحيهما على المنهاج وابن قاسم فى حاشيته على إذا بقى من آثار الفعل السابق أثر يؤدى إلى العمل بشئ لا يقول به من المذهبين) [نقلا عن حاشية رد المختار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار فى فقه مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان ط/ الحلبى (1386هــ) ج/1 ص 75]

(مثل هذا (التلفيق) – تبعا ل (ابن حَجر والرَّمْلى وابن قاسم) – يكون باطلا إذا جمع المقلد بين أحكام المذهب الآخر وأحكام مذهبه بشكل تصبح معه متعارضة مع المذهبين كليهما)

ومن الممكن أن نصوغ قاعدة عامة تحكم ببطلان عمل الشخص الذى يأخذ من مذهبين حكمين متعارضين يؤديان إلى حكم يتنافى مع قواعد المذهبين . ومن الواضح أن مثل هذا النوع من (التلفيق) إنما هو (تلفيق) زائف وفاسد تماماً .

ويرى (الشرنبلالى) أن (التقليد المحض) غير محتم على أى مسلم، بل له أن يتبع أى مذهب، وأن يأخذ بقول أى (مجتهد) معترف بع، مادام يراه أكثر إقناعاً له، وذلك لأن كل الطرق الصحيحة فى الحياة ليست سوى طريق إلى (الجنة). ورأيه هذا، كما أورده الشامى، مذكور فى (العقد الفريد)(13) . ويلاحظ (ابن عابدين). أن المسألة خلافية، لكن للمسلم – فى حدود هذه الشروط – أن يختار ويتبنّى طبقا لما يهديه إليه عقله مادام ذلك مرتكزا على أسباب دينية وليس مدفوعاً برغبات أنانية (14)

ويرى (الشعرانى) أن هذه الحرية الواسعة تعتبر صمن إطار الشريعة ولها صفة الشريعة كاملة وذلك بناء على أن أحداً من (المجتهدين) لم يخطّئ هذا العمل من معاصريه، ولم يعترض على الانتقال بين المذاهب ولا على (التلفيق) أى إذا ظهر أن الدافع وراء هذا التصرف إنما هو الرغبة فى الاستهزاء بالدين أو بالمجتهد، فإن هذا التصرف يصبح باطلا (15)

وقد نقل الشعرانى رأى ابن عبد البر المالكى فى جواز الانتقال بين المذاهب والتلفيق، مؤكدا أنه لم يصل إلى علمه أى حديث، ولو كان ضعيفاً، يمنع الأخذ بالتفيق، أو يلزم المسلم باتّباع مجتهد أو مذهب معّين (16) .

كما سبق نقل رأى الإمام القرافى فى إباحة الانتقال بين المذاهب وإباحة (التلفيق) وهو يزعم أن الصحابة والتابعين مجمعون على ذلك، وتحدى من يعارض ذلك أن يقيم دليلاً على غيره(17). كذلك نقل الشعرانى رأى الإمام الزناطى المالكى الذى يؤمن أن للمسلمين أن يتبعوا أيا من المذاهب الفقهية فى شئون حياتهم وعند الضرورات (18) ومعنى هذا ببساطة أن حق الاختيار والتلفيق ملازم لتقليد جميع الأشخاص ماعدا البنى صلى الله عليه وسلم.

ويبدو شاه ولى الله موافقا لرأى الإمام القرافى حين يعلّق بأن من لا يؤمنون بصحة (التقليد المطلق) و (التلفيق) إنما يعارضون إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وكبار (المجتهدين) فى العصور الأولى (19) وكل معتقد يُصادم (الاجماع) مرفوض.

كذلك، يوافق كبار فقهاء العصور المتأخرة على القول بحرمة (التقليد) فى حقّ (المجتهدين)(20) وعلى ذلك، فليس أمام (المجتهد) إلا أحد أمرين: أن يلجأ إلى اجتهاده، أو أن يأخذ بــ (التقليد المطلق) و (التلفيق). ومنهج (التلفيق) هذا من شأنه أن يعين أمثال هؤلاء (المجتهدين) على الأخذ بأفضل ما تقدم المذاهب المختلفة وأكثره ملاءمة، ثم يلجأون بعد ذلك إلى (الاجتهاد) إذا كان ثمة ضرورة. ويمكن – فى ضوء الآراء السديدة لكبار الفقهاء – أن ننتهى إلى القول بأن مبدأ (التلفيق) يقوم على أسس فقهية ويحظى بتقدير الشريعة .

ويمكن أن نستشهد هنا بقول للعلامة (الشرنبلالى) شرح فيه وجهة نظره فى هذه المسألة بطريقة أكثر تحديداً ومنهجية، فقال: (21)

1ــ ليس من الحتم الالتزام بمذهب معين.

2ــ للمقلد أن يتبع القواعد الفرعية لمذهب آخر بشرط أن يراعى كافة قواعد المذهب الآخر ومناهجه فى البحث .

3ــ للشخص ان يتبع أحكاماً متعارضة من مذهبين مختلفين، لكن فى أوقات مختلفة .

4ــ عندما يقلد الشخص إمامين فى وقتين مختلفين، فإن ما يؤديه من أعمال طبقاً لقواعد الإمام الأول لا تصبح باطلة بتقليده للإمام الآخر .

5ــ لمن غّير مذهب الفقهى أن يرجع إليه ثانية .

من هذا ينبثق الساس الفقهى لمبدأ (التنلفيق) وكافة فقهاء الشريعة يرون مشروعية هذا المنهج الذى يبيح الأخذ بالموثوق من اجتهادات المعروفين من (المجتهدين). ولنتناول بالدراسة مبدأ (التلفيق) فى سياق الإطارات التى يتأتى فيها .

صور التلفيق

(التلقيق) فى إطار المذاهب الأربعة المعروفة عند أهل السنة:

أغلبية المسلمين يتبعون المذاهب السنية الأربعة فى الفقه، وهى: الحنفى والمالكى والشافعى والحنبلى وفيما بين هذه المذاهب يستعمل منهج (التلفيق) بشكل حرّ وناجح. وقد ساعد الدور الناجح تقنين تشريعات الأحوال الشخصية على تمهيد الطريق لمزيد من الشخصية على تمهيد الطريق لمزيد من الاستفادة منه صياغة القانونين المدنى والجنائى .

وتعتبر عملية التخيّر فى حدود المذاهب الأربعة أكثر صور (التلفيق) حظا من القبول والخلاف حولها فى أضيق الحدود .

وقد ساعد توزّع هذه المذاهب فى الأقاليم على تهيئة مجال خصب جداً لتطبيق هذا المنهج. والأحناف هم أكبر المجموعات التى تتبع هذه المذاهب ويتركز معظمهم فى تركيا وأفغانستان وباكستان وشمال الهند . وقد حظى المذهب الحنفى برعاية العباسيين والعثمانيين والمغول الذين حكموا الهند . أما المالكية فهم ينتشرون فى غرب آسيا والشمال الأفريقى كله حتى المغرب. ويسود الشافعية فى مصر وفى المناطق الساحلية من شرق أفريقيا وجنوب الهند وماليزيا وإندونيسيا، على حين يتركز معظم الحنابلة فى السعودية والإمارات العربية. ويسود الشيعة فى إيران والعراق واليمن والساحل الغربى للهند وهم يمثلون عشر مجموع المسلمين (22) إن توزّع السكان على هذا النحو يساعد فى هذا الصدد: فالمذاهب السائدة فى كل منطقة تشكل القاعدة العريضة للفقه، ولكن للِجان القانونيين أن تستمد من المذاهب الأخرى بعض القواعد والمناهج تلبية للضرورات الملحّة ومادامت كافة المذاهب (23- 1)  تتمتع – وعلى قدم المساواة – بالصلاحية القانونية والتقدير الدينى، فليس لأى منها حق فى ادعاء أنه أفضل من الآخر. فيمكن، فى أوقات الشدائد والأزمات، أن يقوم الفقهاء والمشرعون والقضاة بتطبيق قواعد مذهب السائد فى إقلينمهم وذلك طبقا لظروف كل حالة. وقد استعمل هذا المنهج الانتقائى من قبل فى قضايا فقهية متفرقة لمواجهة بعض الصعوبات . ولكن ذلك ظل محصوراً فى نطاق القضاء وفى مواجهة قضايا محددة أما فى عصرنا الحاضر فقد أصبح منهج (التلفيق)يستخدم فى نطاق التقنين من أجل صياغة قوانين دائمة تقوم السلطات التنفيذية بتطبيقها. وهذا المنهج يتيح للحكومات أن تأخذ بأرجح القواعد القانونية وأكثرها ملاءمة، مستمدة ذلك من أى مذهب آخر معترف به (23 – 2)، أو من مشاهير (المجتهدين)، وذلك لتكون بديلا عن القانون السائد فى البلد .

فعلى سبيل المثال، نذكر: حق الزوجة فى الطلاق، وحالة الأحفاد اليتامى ووضع شروط فى عقد الزواج .. الخ. فى كل هذه الحالات أوقف العمل بالقانون السائد فى بعض الأقطار وأحلّ محله قانون آخر أكثر ملاءمة مأخوذ من المذاهب الأخرى .

ولماّ كان منهج (التلفيق) يحظى بالتأييد الواسع ولا يلقى سوى اعتراضات محدودة، فإن تطبيقه سيجد مجالا أرحب عند إعادة تقنين القانونين المدنى والجنائى على أساس الشريعة الإسلامية .

(التلفيق) المبنى على آراء بعض الفقهاء .

لقد وجدت – إلى جانب المذاهب السنية الأربعة المشار إليها آنفاً – مذاهب أخرى تطورت إلى حد أن أصبحت مذاهب فقهية مكتملة . فمذهب الإمام (الاوزاعى) ومذهب الإمام (أبو ثور) ومذهب الإمام (سفيان الثورى) كانت مزدهرة، ولعدة أجيال، فى كل من سوريا ومصر والعراق على التوالى . كما طوّر كل من الإمام (محمد بن جرير الطبرى) والإمام (داود الظاهرى) مذهبه الفقهى وان لم يكتب له يزدهر ويعيش طويلا .

قد تكون هذه المذاهب غير موجودة اليوم، لسبب أو لآخر، لكن تبقى حقيقة أنها كانت فى وقت ما تخظى بالقبول بين مذاهب أهل السنة والجماعة . ومن ثم، فلأهل السنة أن يستمدوا من المذاهب المنقرضة بعض القوانين تماما كما يفعلون مع المذاهب الباقية .

وإلى جانب هذه المذاهب كان هناك (مجتهدون) كثيرون ذاع صيتهم. وقبول هذه الآراء الفردية لهذا أو ذاك من الفقهاء وتضمينها فى المذاهب الفقهية الدائمة حق خاص لرئيس الدولة يعرف ب (تخصيص القضاء). وبناء على تعليمات الحاكم يتم إحلال تلك الآراء المختارة محل الأحكام الموجودة فى المذهب السائد .

وعن طريق وسيلة (التخصيص) هذه أبطل (قانون العائلة) العثمانى الصادر عام 1917 زواج الأطفال. ثم حدت حذوه كل من الأردن وسوريا والعراق وتونس. ومجرد قبول هذه الدول لهذا الحكم يعتبر تأكيداً لصحة هذا المنهج .

كما هذا الحكم آراء (ابن حزم) وفقهاء آخرين أقل شهرة مثل (عثمان (وابن شبرمة) و (ابو بكر الأصم). كذلك، أخذت تشريعات الطلاق فى القانون الصادر عام 1929 فى مصر من آراء (عتبة بن ربيعة) والقاضى (شريح) كما أخذ فى نفس القانون برأى (ابن تيمية) و (ابن القيم) فى مسألة إنكار الزوجية. وعلى أساس (تلفيقىّ) كهذا بُنى قانون المواريث المصرى الصادر عام 1943 .

وعلى الرغم من هذا أن المنهج الانتقائى ليس بممنوع، فإن هذا (التلفيق) المبنّى على الآراء الفردية لبعض الفقهاء أقل حظا من القبول والخلاف بشأنه أشد . لكن، على أى حال، يمكن اللجوء إليه كملاذ أخير .

استخدامات (التلفيق) للتوفيق بين القواعد الفقهية المتعارضة :

قد يلجأ أحياناً إلى التوفيق بين الآراء المتعارضة للفقهاء، وذلك بهدف الخروج بقاعدة قانونية إسلامية فيها انسجام وتكامل. وفى مثل هذه الحالات بغلب أن يتسرب شئ من عدم الانسجام. لكن القانون بطبيعته يجب أن يبرأ من هذا العيب .

يعتبر قانون الوقف الصادر فى مصر عام 1946 مزيجاً من أحكام المذهب الحنفى والمالكى والحنبلى والظاهرى. وقد اعتمد مثل هذا القانون استجابة للآراء المختلفة لمختلف الجماعات المقيمة على أرض مصر . فمن أجل حماية حقوق الورثة الشريعيين أعلن جواز إلغاء الوقف، كما وضعت حدود زمنية قصوى لاستمرار الوقف اعتماداً على آراء فى المذهبين المالكى والظاهرى . كما جعل للورثة حق الاستيلاء على عين الوقف بعد موت الشخص الواقف وذلك بناء على المذهب (الجعفرىّ) الفقهى

هذا القانون، الذى حاول أن يرضى جميع الآراء المختلفة فى وقت واحد وبرأى واحد، نزع عن نفسه صفة (المنطقية) وكان سببأ فى اضطراب الحياة الاجتماعية ذاتها. وعلى هذا، فإن استخدام هذا المنهج لبناء قانون عن طريق المزج بين القواعد والمناهج المتعارضة والمستمدة من مذاهب شريعة مختلفة، يعتبر من صور (التلفيق) التى لا تحطى بالقبول، بل هى محل نزاع.

وقد سبق أن ناقشنا بالتفصيل عدم جوز استخدام منهج (التلفيق) كأداة لإشباع الرغبات الشخصية أو للسخرية من أئمة المذاهب الفقهية عن طريق الإكثار من استخدامه بشكل سَئّ أو مضطرب. بل إنه – والحال هذه – يكون حراماً. وليس هناك أى أساس فقهى يبرد التمسك بتلك الحرية التى قد تقود إلى البدعة . حتى الحكومات يجب  ألا يسمح لها بإسادة استخدام هذه الوسيلة، ويجب قصر استخدامها على كبار الفقهاء وعلى الحكومات الإسلامية – انقاذاً للمجتمع المسلم من الانحراف – أن تراجع فى الهيئة التشريعية للدولة كل التشريعات التى قننت دون دراسة مستأنية وكل الاستخدامات المضطربة للتلفيق. ويجب أن يخضع كل ذلك لقواعد وتنظيمات تشريعة محددة، وإلا فإنها سوفتثير معارضة أهل الرشد من العلماء

المنهج التشريعى على النطاقين الضيق والواسع:

لعلى أستأذن فى الاستفادة من هدين المصطلحين – (الضيقّ) و (الواسع) – فى دراسة مبدأ (التلفيق) دراسة تحليلة .وهذه قضية تتعلق بجحم ومجال المشكلة، لأن مشاكل الحياة تمتد من مستوى الفرد إلى مستوى المجموعة فالمجتمع فالأمة بأسرها .

والمنهج الاجتماعى –فى تناوله للمشكلات – لا يحدد فقط حجم المسألة موضوع الدراسة، وإنما يحدد أيضا طبيعة الأشخاص المعنيين ومكانتهم والجهاز الذى يحق له أن يستخدم مبدأ (التلفيق) ويطبقه على المشكلة. ففى بعض القضايا ذات الأبعاد المحدودة قد يسمح حتى للفرد الواحد أن يطبق المبدأ، على حين تحتاج المشكلات الاجتماعية إلى لجنة خاصة أو هيئة مختارة من الفقهاء للقيام بهذا العمل. أما فى حالة القضايا الكبيرة على مستوى الأمة فيلزم وجود لجنة ذات سلطات عالية لتضطلع بمهمة اقتراح القوانين .

ولقد وقفنا على حالات معينة آثر فيها بعض الفقهاء أحكاماً من مذاهب غير مذهبهم بدت لهم أكثر إقناعاً فى أمور تتعلق بصلاتهم. ولكنهم ظلوا متمسكين بأحكام مذهبهم فى الأمور الأخرى كان (شاه عبد الرحيم) – والد (شاه ولى الله) – يقرأ (سورة الفاتحة) خلف الإمام فى الصلوات العامة وفى صلاة الجنازة، وقد أخذ هذا من مذهب الشافعى على أساس (التلفيق)(24).

و(الاحناف) من المسلمين فى الدول العلمانية ليس أمامهم فيما يتعلق بالمشاكل الاجتماعية من بديل سوى الأخذ بالمبدأ المالكى القاتل بـ (جماعة المسلمين) وذلك للحصول على (قضاء القاضى) .

وقد وافق فقهاء الأحناف فى الهند على هذا المبدأ وذلك لغياب (دار القضاء) فى الهند العلمانية، فيمكن لمسلمى الهند العمل بمبدأ (جماعة المسلمين) أخذاً من المذهب المالكى على أساس (التلفيق) . وعلى مستوى الدول، أخذت جميع الحكومات الإسلامية بمبدأ (التلفيق) فى عملية إعادة بناء قوانين الأحوال الشخصية لرعاياها من المسلمين . وهذا مثال للعمل بمبدأ (التلفيق) على (النطاق الأوسع) فى التعامل مع مشاكل المجتمع المسلم على مستوى الأمة.

ومشكلة المنهج هذه تثير قضايا أخرى متعلقة بها كالأمور الادارية والإجرائية .

وتعتبر عملية إعادة النظر فى القانون الإسلامى بأكمله، لاعادة بنائة وتوجيهه على المستوى العالمى، منهجا شاملا للفقه الإسلامى.  وهذا الكنهج الشامل للقانون الإسلامى أخذ يقوى فى فترة الحرية والنهضة الإسلامية التى أعقبت الحرب.

ولسنا الآن بصدد بحث دور (التلفيق) فى دمج المذاهب الفقهية فى مذهب واحد مركب منها، فتلك قضية تقع خارج حدود الموضوع الذى تركز عليه هذه الدراسة، وتنتمى إلى مجال آخر يعنى بسبَرْ الأمور المتعلقة بالآثار المحتملة والامكانيات المرتبطة بدور (التلفيق) فى إعادة بناء الفقه الإسلامى برمّته .

أما هذه الدراسة فتقتصر على البحث فى نطاق قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين من حيث العلاقة بالمذاهب الفقهية المختلفة. وإن وجود هذه المذاهب الفقهية المختلفة وانتشارها فى المجتمع الإسلامى لهو حقيقة لا تنكر وواقع ملموس. وهذا الأمر فى حد ذاته يجعل من الضرورى أن يكون للتلفيق دور فى إعادة بناء قانون الأحوال الشخصية للمسلمين فى مختلف الدول.

كذلك، نجد أن عملية إعادة بناء تلك القوانين وتوجيهها قد أصبح هو الآخر حقيقة تاريخية. والدراسة الميدانية لهذا الموضوع تعطينا صورة حقيقة عن مسلك الشعوب الإسلامية واتجاهاتها فى إعادة بناء قوانينها الدينية عن طريق (التلفيق) .

ومع ذلك فإن مبدأ (التلفيق)، من حيث هو، واستخدامه فى التقنين لايزال موضع جدل بين الفقهاء. ولعل الاشارة إلى هذا الأمر فى إيجاز تبدو مناسبة بل ضرورية فى هذا المقام .

ذهب بعض الفقهاء إلى القول بأن (التلفيق) كمبدأ كان رائجاً خلال العصور الأولى، ولم يتعرض عليه أحد حتى نهاية القرن الرابع، لكن بعد استقرار المذاهب الأربعة انتهى عصر (المتقدمين) وأغلق باب التلفيق واستمر مغلقا فى عصور (المتأخرين) من الفقهاء (25).

وقد استنتج بعض متأخرى الفقهاء، من خلال تتّبعه لواقع العمل بمبدأى (التقليد) و (التلفيق)، أن (التلفيق) كان مسموحاً به زمن (المتأخرين) . وقد تناول العلامة (ابن عابدين) هذه النقطة فى كتابه (شفاء العليل). ويرى بعض الفقهاء أن تناقضا فيما أورده بهذا الخصوص(26)

ويعلق (أشرف على الثانوى) على قول (ابن عابدين) فيقول إن بعض الفقهاء فهم أن عبارة (على أنه لو ادعى أحد) إنما تعنى الفقهاء المتأخرين الذين حُظر عليهم ممارسة (التلفيق). لكن هذا التأويل ليس صحيحاً. والحق أن ما قصده المؤلف إنما كان مرتبطاً بموضوع (القياس) على فتاوى المذاهب الأخرى، وهو أمر غير صحيح. بل إن هذا الضرب من (القياس) لا يصح أيضاً حتى لو كان على أساس فتوى من مذهب الفقيه (27).

ويزيد (أشرف على) فيذكر أن (ابن عابدين نفسه قد أورد أن أخذ أجرة على تعليم القرآن والفقه وعلى الخطابة على المنبر ظل محظوراً فى العصور الأولى، ثم سمح فيما بعد بأخذ الأجرة على تعليم القرآن فقط، وظل أخذ الأجرة على الأمور الأخرى ممنوعا حتى القرنين السادس والسابع. وقد وافق (قاضى خان) (ت 592)، و (برهان الدين مرغنانى) (ت 593) مؤلف الهداية، و (حافظ الدين النسفى) مؤلف كنز الدقائق (ت 710)، هؤلاء وافقوا على هذه النقطة، وهى منع أخذ الأجرة على تعليم ما عدا القرآن الكريم، كالفقه والوعظ وإمامة الصلاة والاذان. لكن فقهاء الحنفية فيما بعد أخذوا بفتوى من مذاهب أخرى وأجازوا أخذ الأجرة على كافة الوظائف المذكورة بما فى ذلك الوعظ (28).

فرواية (ابن عابدين) نفسه موقف المتأخرين من العمل بالتلفيق يرجح ما ذهبنا إليه فى تفسير القول الذى نقل عنه، وأنه كان يعنى به (القياس) لا (التلفيق) .

وينتهى (أشرف على) – فى ضوء مواقف المتأخرين من الفقهاء بالنسبة للعمل بالتلفيق إلى استنتاج أن ذلك الضرب من ممارسة التلفيق والذى كان شائعا فى عصور الاجتهاد الأولى ظل مسموحا به فى العصور التالية أيضا كما تعكسه فتاوى (المتأخرين) المبنية على قواعد المذاهب الأخرى التى أخذوا بها على أساس (التلفيق) .

وعلى هذا، فإن من حق فقهاء العصر الحاضر، فى رأيه، أن يلجأوا إلى (التلفيق) عندما يشعرون أن قواعد مذهبهم أضيف من أن تقدم الحلول للمشكلات الملحة. فالضرورات الملحة والحاجات الماسة والمشكلات المستعصية على الحل هى المبررات القوية لا باحة العمل بالتلفيق(29) .

الأسس الفقهية للتلفيق

يتوقف العمل بالتلفيق – كما سبق بحثه – على طبيعة المشكلة وحجمها وعلى الظروف التى أدت إلى ظهورها .

كما يتوقف منهج تناول المشكلات غالبا على وجهات النظر التى تحدد، بشكل تحليلى، حجم القضايا ومجالاتها.

والمشكلات من حيث الحجم تتراوح ما بين مشكلات تخص فرداً أو مجموعة صغيرة، أو تخص المجتمع أو الأمة . النوعان الأولان يمكن للقاضى أن يعالجها من خلال منهج فقهى (محدود) ، أما الآخران فيعالجان بمنهج فقهى (موسّع) .

المنهج الفقهى المحدود :

إن طبيعة المشكلات لها تأثيرها على موضوع المنهج. فمن حيث طبيعتها يمكن أن تقسّم إلى عبادات محضة، كالصلاة و (حقوق الله)، وإلى دنيوية تتعلق بمختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية كالصفقات التجارية والألعاب الرياضية والخدمات الاجتماعية والأنشطة الصناعية.

فالمسائل المتعلقة بأمور الصلاة بصفة عامة تبقى فى نطاق الأفراد ففى مثل هذه الحالات إذا ما اقتنع فقيه محدّث بأن مسألة ما فى مذهب آخر أقرب إلى السنة من تلك التى فى مذهبه، فله أن يأخذ من المذاهب الآخر . فهى قضية تفضيل، وليس لها كبير أهمية مادام ما فى مذهبه هو ليس خطأ (30) .

وعندما يجد المقلد حديثاً صحيحاً يتعارض مع حكم معين فى مذهبه، يلزمه أن يترك ما فى مذهبه ويأخذ بالحديث الصحيح أو بحكم من مذهب آخر يتأكد له أنه مبنى على السنة. فى مثل هذه الحالة يكون (التلفيق) واجبا على المقلد (31) .

فإذا أصر المقلد – وهو يعلم الحقيقة – على أن يتمسك باتباع إمامه مهما يكن، ورفض الأخذ بالفتوى المبنية على السنة، فذلك دليل على إيمانه بعبادة الأشخاص، ومثل هذا النوع من (التقليد الجامد) حرام فى الإسلام. فالمسلمون مأمورون باتباع النبى صلى الله عليه وسلم وحده اتباعاً دقيقاً، وليس أى مخلوق آخر .

وما أبيح تقليد الأئمة واعترفت به الشريعة إلا على أساس أنه طريق يؤدى إلى تقليد النبى صلى الله عليه وسلم واتباعه .

وعلى الرغم من أنه لم بفرض على المسلمين أن يقلدوا أى إمام، فإن التقليد يعتبر ضرورة لا مفر منها للعوام ولمن يدخلون فى الإسلام نظراً لقلة علمهم بالشريعة ولهؤلاء أن يتبعوا أى إمام على أساس اقتناعهم واختيار ما يرئمهم وأفضل ما يناسب هؤلاء هو (التقليد المطلق) أو (التقليد العام)(32) .

أما العمل بالتلفيق فى حق هؤلاء المقلدين ممن ليسوا بمجتهدين ولا خبراء فى فن الاجتهاد، فيبقى متوقفاً على موافقة أهل الخبرة من الفقهاء (وهم المجتهدون) الذين لهم حق تحديد جوانب هذه القضية واتخاذ قرار بشأنها (33) .

أما (الفقهاء المحدّثون) الذين يتابعون البحث فى إخلاص حول أحكام مذهبهم ملتزمين بإطار الشريعة، فلهم الحق فى ممارسة (التلفيق) والأخذ بما يرجّحون من أحكام المذاهب الأخرى مما يثبت لهم أنه أقرب إلى السنة . ويظل (الفقيه المحدّث) تابعاً لمذهبه الأصلى مع عمله بمبدأ (التلفيق) والأخذ بما يفضله من أحكام المذاهب الأخرى (34) .

وعلى هذا، فللعامّى ولمن دخل فى الإسلام أن يعمل بالتلفيق فى مواجهة قضايا حياته اليومية وذلك من خلال استفتائه أهل الاجتهاد أما (الفقهاء المحدّثون) فلهم العمل بقاعدة الترجيح بين فتاوى مختلف المجتهدين المعترف بهم، وكذلك العمل بالتلفيق طلباً لأوثق الاجتهادات وأقربها إلى القرآن والسنة (35) ويترتب على هذه القاعدة أن يتبعوا هذا المسلك دون أن يُخِلُّوا بالالتزام بمذهبهم (36)

فمبدأ (التلفيق) إذن، وسيلة فقهيه من حق جميع المقلدين أن يستعينوا بها بشروط معينة وذلك كى يواجهوا احتياجاتهم وضرورات حياتهم، كما أنها تعينهم على أن يتّبعوا فى يسر وإقناع – أوثق مناهج الشريعة (37) .

(المنهج المحدود) فى (التلفيق) بسيط إلى حد كبير . أما (المنهج الموسّع) فهو – بالمقارنة مع الأول – يعتبر معقّداً .

فله إجراءات طويلة جدا، والعمل بالتلفيق معه يظل خاضعا لمبادئ وقواعد واجراءات فقهية معينة سنحاول فيما يلى بيانها فى ايجاز بعد هذه المقدمة .

المنهج الفقهىّ الموسّع:

إن القضايا الدينية التى تبرز فجأة من حين لآخر لتتطلب حلولا على مستوى المجتمع أو على مستوى الدولة . ويصبح المجتمع كله أو الدولة كلها مسئولة عن هذه الجهود المطلوبة. وتطبيق (التلفيق) على هذه النوعية من المشاكل يقع فى إطار (المنهج الموسعّ) لاستخدام هذه الوسيلة.

وأفضل مثل لهذا (المنهج الموسعّ) فى استخدام (التلفيق) لعلاج المشاكل الدينية المهمة على مستوى المجتمع والأمة، نجدة فى تلك الأحكام التى استعيرت من المذاهبالفقهية المختلفة وأدخلت ضمن المذاهب السائدة فى كل البلاد الإسلامية فى العالم فيما يتصل بقوانين الأحوال الشخصية

واستخدام هذا المبدأ وتطبيقه على هذا النطاق الواسع يرتكز على مجموعة من الأسس الفقهية المختصة به، وهى :

1ــ خلو المذهب السائد من القواعد والأحكام الملائمة والتى تكفى لمواجهة مشكلات الحياة فحين يعجز المذهب السائد عن معالجة المشكلات الواقعية التى تبرز مع تغير الملابسات، فمن الطبيعى أن يواجه أتباع هذا المذهب صعوبات فى حل مشكلات حياتهم.

وإذا كانت سياسة الحكومة ألا تبالى بهذه المشكلات ولا تتدخّل لحلّها، وكان بقاؤها بلا حلّ يعوق حياة المجتمع المسلم أن تجرى فى يسر، فالواجب على فقهاء المسلمين شرعاً أن ينهضوا، فإما أن (يجتهدوا) للوصول إلى حل، وإما أن يأخذوا حكماً تشريعياً مناسباً من المذاهب الأخرى. وإذا كان هناك حكم شرعى صحيح توصل إليه أى (مجتهد) من أى مذهب، فليس ثمة حاجة إلى اجتهاد جديد. فجائز إذن أخذ أحكام من المذاهب الأخرى مع مراعاة الشروط المناسبة لهذا العمل، وإلا فإن الشريعة تصاب بالكود والتعطّل. والواجب ألا تترك الشريعة لتركد والأمة كلها مسئولة مسئولية متضامنة أن تحافظ على بقاء الشريعة وعلى حيوتها.

وإذا لم يتُوَصّل من خلال (التلفيق) إلى حكم قانونى سليم من المذاهب الأخرى، أصبح (الاجتهاد) فرض عين على فقهاء المسلمين (38).

أولا. القوانين المتشددة :

فى بعض الأحياء نكتشف أن فى قواعد المذهب السائد (أو مذهب الدولة) من التشدد مالا يمكنها معه أن تواجه المشكلات الحياتية المتجددة. وإذا تركت الأحوال على هذا الوضع فقد تتدهور من سّئ إلى أسوأ.

ومثل هذه الأوضاع تؤدى فى الغالب إلى إثارة الخلاف والتوتر فى الحياة اليومية. والتشريع الفعال الذى يجئ فى الوقت المناسب هو خير إجراء علاجى للحد من آثار هذه العوامل التى تخلف الاضطرابات والصعوبات فى حركة الحياة الاجتماعية .

ومن الأمثلة الفاقعة على هذه المشاكل الاجتماعية مسألة (الخلُع) فى المجتمع الهندى الحديث القائم على العلمانية. ففى غيبة (دار اقضاء) تتعرض المرأة (الحنفية) للضياع التام إذا ما طلبت (الخلع) من زوجها لأسباب دينية صحيحة ورفض الزوج السّئ أن يوافق على طلبها (الخلع) أو يقلبه. ونتيجة لغياب (القضاء الشرعى) يكون مصير هذه البائسة أن ترغم على حياة ذات مستقبل مظلم وكئيب .

ويمكن للأحناف فى الهند أن يأخذوا بالتيسيرات القانونية الموجودة فى المذهب المالكى فيما يتصل بالخلع والطلاق وفى العمل بمبدأ (جماعة المسلمين) بديلا لـ (التلفيق). وهم قد أخذوا بذلك بالفعل لتيسير مشكلاتهم الاجتماعية. وقد وافق كافة الفقهاء المشهورين فى شبه القارة الهندية على هذه النقطة. وهذه الأحكام المستمدة عن طريق (التلفيق) فى (قانون الأحوال الشخصية للمسلمين)، طبقا لـ (مرسوم تطبيق الشريعة) (1937)، أصبحت بالفعل جزءاً من القانون الحنفى عند مسلمى الهند.

ثانياً: الحاجات الملحة والضرورات:

تعتير الحاجات الملحة التى تعرض للناس سبباً حقيقياً وأساساً فقهياً للعمل بالتلفيق .

فى غياب القانون الملائم والقادر على مواجهة المشكلات الاجتماعية المتجددة يشعر المجتمع بالاختناق ويتجه إلى شئ أسوأ من هذه الظروف التى قد تدفع بالمسلمين بعيداً عن منهاج الشريعة القويم أو تصيبهم باليأس إلى الحد الذى قد يعمدون معه إلى نبذ الإسلام كله؟! (40)

إن غاية الشريعة أن تهدى الناس وتقودهم نحو السير على منهج حياة طبيعى ومعقول (41)يؤدى إلى حياة أفضل تشمل أكبر عدد من الخَلْف. فإذا ثبت أن قوانين أحد المذاهب الفقهية فيها من التشدد والتصلب ما يجعلها عاجزة عن حل المشكلات أو إزالة العقبات، فيجب ألا يقف الفقهاء غير مُبالين ويجب ألا تترك الأمور هكذا لتسير فى أى اتجاه. إن اللا مبالاة فى مثل هذه الظروف موقف غير إسلامى (42). فالإسلام بطبيعته دين متحرك، وشريعته قائمة على أساس رسم الطريق وقيادة الناس – من خلال التشريعات – إلى السير على الصراط المستقيم (43).

وبناء على هذا، فكلما وجدنا أن هناك عقبات غير طبيعية كهذه ستحول بين الناس وبين تحقيق مصالحهم الطبيعية، وجب على فقهاء المسلمين أن يعلموا على إزالتها إما باستمداد تشريعات مناسبة من المذاهب الأخرى وإما عن طريق (الاجتهاد)، وذلك أمر جائز فى (المذهب الحنفى) فى مثل هذه الظروف الملحة (44).

ثالثاُ: يجب ألا يَحْضَع (التلفيق) للأهواء الشخصية من أجل تحقيق البواعث الخفية:

هناك اتفاق فى الرأى بين جميع المذاهب الفقهية على أن جواز العمل بالتلفيق يجب ألا يستغل من خلال البواعث الخفية للناس بغية تحقيق الشهوات الدنيوية. ويذهب الإمام (ابن تيمية) إلى هذا الرأى فيقول:

(إن ذلك يفتح باب التلاعب بالدين ويفتح الذريعة إلى أن يكون التحليل والتحريم بحسب الهوى)(45)

وهذا الاستخدام السّئ لمبدأ (التلفيق)، إذا ما ترك للأهواء الشخصية، يكون استهزاء بالدين.

رابعاً: منع تلفيق أحكام مختلفة من مذاهب شتى لتصير حكماً واحد لمشكلة واحدة:

المثال الجيد لهذا هو الوضوء والصلاة .

إنهما مشكلتان مختلفتان . فإذا أخذ شخص حكماً فى الوضوء من غير مذهبه، وفى الصلاة تبع مذهبه، فلا بأس بذلك. أما أن يخلط شيئاً من المذهب المالكى بشئ من الشافعى وشئ من الحنبلى ويجمعها كلها فى المسألة الواحدة، فذلك خطأ، وقد تصبح صلاته فاسدة. وقد ذم (الدر المختار) هذا العمل وقرر (أن الحكم الملفق باطل بالإجماع) .

خامساً: إذا لزم أخذ حكم من مذهب آخر فالواجب أخذ حكم المسألة كاملا:

فمثلا، إذا أراد (الاحناف) أن يعملوابالتلفيق ليأخذوا من المذهب المالكى حكم حق المرأة فى الطلاق ،فيمكنهم الوصول إلى ذلك من خلال الأخذ أيضاً مبدأ (( جماعة المسلمين )) بدلاً من (( قضاء القاضى )) .

كذلك ،فى حالة الزوج (( مفقود الخبر )) يمكن للأحناف الأخذ برأى المالكية القاتل بأربع سنوات ،مع الأخذ بمبدأ (( جماعة المسلمين ))التى تمثل (( القضاة )) فى ممارسة (( القضاء بالشريعة )) .

والشروط التى وضعها الأحناف لتكوين (( جماعة المسلمين )) متشددة وعسيرة فى عصرنا الحاضر . أما عند المالكية فيجب أن تتكون هذه (( الجماعة )) من المتعلمين من صلحاء المسلمين المعروفين بالمحافظة على الواجبات والترفع عن الصغار ولا يقل عدد أعضاء هذه (( الجماعة )) عن ثلاثة يختارون من صالحى مسلمى أهل الحى .

يقوم رأى (( الحناف )) فى مسألة (( المفقود )) على أساس المبدأ الفقهى (( استصحاب الحال )). والإمام (( الشافعى )) يذهب إلى الرأى نفسه .

يقوم هذا الرأى على أساس حجة بسيطة هى أنه مادام نصيب (( المفقود )) فى تركة مورثيه يحتفظ له به ،ومادام لا يمكن توزيع ممتلكاته على ورثته على أنها تركة إلى أن يتأكد موته ، فكذلك تبقى زوجته فى عصمته ويستمر سريان عقد زواجه وحتى عقوده التجارية ،وذلك يغير الوضع عما كان عليه حين تركه عند سفره .

ويحتفظ المذهب الحنفى بهذا المدى الواسع جداً من التخمين فى حالة (( المفقود )) إلى حد أن ذلك المفقود إذا كان قد بدأ رحلته وبه مرض قتال أو أشتراك فى حرب أو فتنة أو سافر فى بحر عاصف خطير ولم تصل أة أنباء مؤكدة عن وصوله سالماً إلى مقصده ،فيمكن بعد فترة أنتظار معقولة أن يفترض موته . ويعتمد القاضى فى حكمه الأفتراضى هذا على روايات الأحوال ثم يصدر حكمه بموته بناء على ذلك . وعلى زوجة (( المفقود )) أن تقضى عدة الوفاة الواجبة ثم تصبح بعدها حرة تتزوج من تشاء (48) .

أما الإمام (( مالك بن أنس )) فيوافق الإمامين (( أبو حنيفة )) و (( الشافعى )) فيما يتعلق بالميراث . ولكنه يخالفهما فى قضية الزوجة البائسة التى فقدت أخبار زوجها ،فيعاملها منفصلة على أساس إنسانى مبناه (( المصلحة المرسلة )) .

ومن خلال هذه النظرية الإنسانية يريح الإمام مالك هؤلاء البائسات ،زوجات المفقودين ،من عناء الأنتظار الذى لا حدود له ،ويبيح لهؤلاء المعلقات أن يحصلن على حكم من القاضى بموت الزوج المفقود بعد أنتظار مدة أربع سنوات ،ويصدروه يبدأن عدة الوفاة ويصبحن بعد أنقضائها صالحات للزواج ممن يرغبن (49) .

ونظراً لأن العمل بالتلفيق ظل مسألة خلافية بين (( المتأخرين )) لعدة قرون ،فقد أستمر رأى الأحناف المتشدد فيما يتعلق بزوجة المفقود هو المعمول به طوال تلك الفترة . لكن فيما لجأ (( المتأخرون )) إلى (( التلفيق )) فاخذوا برأى المالكية وذلك تحت ضغط الحاجة الملحة والأوضاع السيئة لزوجات المفقودين .

وقد أورد (( الشامى )) فتوى ((القاهستانى )) ،الفقيه الحنفى المشهور ،الذى ذهب إلى جواز (( التلفيق )) فى حالات الحاجة الملحة (50) .

وعلى أساس العمل بالتلفيق أصبح رأى المالكية فى حالة زوجة المفقود جزءاً من الفقه الحنفى ، مع ما يتصل به من شروط مناسبة . كذلك صار جزاءاً من قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين فى البلاد الإسلامية ،وأصبح بذلك يخطى بالقبول ويخصص به القضاء كذلك .

سادساً : أخذ مسألة من مذهب آخر يستلزم أخذ ما يتعلق بها من إجراءات وشروط :

خيمثال لهذا الضرب من (( التلفيق )) ،مشكلة (( المفقود )) ومشكلة (( الخلع )) اللتان تستلزمان أخذ المبدأ فى المالكى فى (( جماعة المسلمين العدول )) فى الدول العلمانية حيث لا يوجد (( قضاء القاضى ))(52) .

تقوم (( جماعة المسلمين )) بدور (( دار القضاء )) وتؤدى وظيفة تطبيق (( قضاء الشريعة )) على القضايا الدينية . فى كثير من الاحالات لا يسمح للأفراد بان يمارسوا حقوقهم على مسئوليتهم . بل يظلون فى حاجة إلى موافقة من القاضى المسلم .

فزوجة المفقود ،مثلا ،تطلب من القاضى أن يتحرى عن أخبار زوجها الغائب ،وبعد البحث والتحرى الكافيين يحكم القاضى فى هذه القضية ويعطى زوجة المفقود حكماً بموت زوجها فتعتد عدة الوفاة ثم تصبح حلالا للخطاب . كذلك ترفع الزوجة الراغبة فى (( الخلع )) أمرها إلى القاضى إذا رفض زوجها أن يوافق على طلبها . فإذا وجد القاضى – بعد الدراسة – أن ثمة أسباباً حقيقية ،فمن حقه أن يطلق على الزوج إذا ما رفض إصدار الطلاق . وهكذا يتضح أن ما يؤديه القاضى من خدمات فى الكثر من القضايا الدينية ضرورى ولا غنى عنه .

قيد المالكى المذهب المالكى (( جماعة المسلمين )) يوصف (( عدول )) . وهو وصف له أهميته لأنه يحدد مواصفات أعضاء هذه اللجنة ومؤهلاتهم . هذه اللجنة يجب أن تتكون من ثلاثة من أهل التقوى من المسلمين ممن يترفعون عن الصغائر ،ويجب أن يكونوا أهل دراية بالفقه وبالظروف السائدة فى المجتمع (53) .

وإذا كان من العسير فى الوقت الحاضر أن نجد قضاة وصلوا إلى مرتبة (( مجتهد )) ،فمن الممكن أن يستعاض عنهم بقضاة من أهل الأطلاع (54) .

حقا إن العالم الإسلامى لا يعانى ندرة فى القضاة المطلعين ولا فى علماء الاجتماعيات ،لكن توفر هذين النوعين من المؤهلات فى شخص واحد أمر مفقود أو نادر جداً .

لكن أتقان الفقه الإسلامى والعلوم الأجتماعية الحديثة شرط أساسى فى (( الأجتهاد )) وفى العمل بالتلفيق بمنهج صحيح وأمين . وفى الفقه الإسلامى من المرونة والمعقولية ما يكفى لجعل قواعده تتسم بالتحرر طبقاً للظروف . وإذا كان من المحال تقريباً أن تتوفر فى شخص واحد معرفة العلوم الدينية والدنيوية ،فمن الممكن أن تقوم بوظيفة (( المجتهد )) هذه هيئة مكونة من أهل الإطلاع من القضاة وعلماء الأجتماعيات والمفكرين لكن يجب أن يكون أعضاؤها جميعاً من المسلمين المتصفين بالتقوى والصلاح .

عندما أراد (( مولانا أشرف على )) إعداد (( الفتاوى )) الخاصة بالمسائل الخلافية فى (( قانون الأحوال الشخصية للمسلمين فى الهند )) أرسل منها نسخاً إلى جميع المراكز المشهورة للدراسات الإسلامية فى الهند وفى المدينة المنورة ،ولم ينشر تلك (( الفتاوى )) إلا بعد أن تلقى موافقة مكتوبة من تلك المراكز (55) .

وعلى هذا ،فمن الواضح أن العمل يبدأ (( التلفيق )) وتطبيقه بشكل صحيح على المشاكل ليس بالأمر السهل كما يظنه الناس غالباً ،إنه نظام فقهى وأداة قانونية لتيسير الأحوال الشاقة على مجتمع المسلمين ،لكن القيام بتطبيقه على الحالات المعينة أمر موقوف على

(( المجتهدين )) أو على هيئة جماعية تضم قضاة وعلماء أجتماعيات ومحامين أما الأفراد العاديون فمن الممكن أن يخطئوا فى كل من عملية تحديد الأسباب التى تدعو إلى الأخذ بالتلفيق وعملية تطبيق المنهج نفسه . ومن هنا كان عدم السماح للأفراد بممارسة هذه الحقوق على مسئوليتهم ،وإلا لتحولت هذه الأداة القانونية إلى وسيلة لأشباع الدوافع الأنانية .

إن الشريعة تسمح ببعض الترخص لتيسير الأمور ،لكنها لتتهاون أبداً فى حالة تردى القانون إلى هذا الدرك وعلى هذا جاء ما قرره العلامة (( النووى )) .
(( لو جاز أتباع أى مذهب شاء لأفضى إلى أن يتلقط رخص المذاهب متبعا هواه ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدى إلى أنحلال ربقة التكليف ))(56) .

الخلاصة :

الموضوع الرئيسى لهذه المقالة هو دور (( التلفيق )) فى قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين وهو يتعلق بالمنهج الأنتقائى فى إعداد القوانين الخاصة بالأوضاع الشخصية للجماعة المسلمة ضمن إطار الشريعة الإسلامية .

ويضم مصطلح (( الشريعة الإسلامية )) جميع المذاهب الفقهية المعتمدة لدى المسلمين أنفسهم . وهو بهذا المعنى عام وشامل جداً .

كانت الشريعة واحدة ،ومازلنا نعتقد حتى الأن بأن كافة المذاهب الفقهية نرجع إلى أصل واحد هو القرآن والسنة . أما قيام المذاهب الفقهية المختلفة فظاهرة تاريخية جاءت نتيجة تأثير عوامل كثيرة أجتماعية ومادية .

ثم تطورت هذه المذاهب فى وقت واحد فى مدارس فقهية منفصلة بفضل الجهود المخلصة للعلماء والفقهاء دونما أى نزعة إلى (( التقليد )) وقد أعلن مؤسس كل من هذه المذاهب ، فى وضوح ،رفضه للتقليد المحض ،وأعطى للناس الحرية فى أن يتبعوا الطريق الحق لأى (( مجتهد )) يقودهم على طريق القرآن والسنة .

وفى نهاية القرن الثانى الهجرى أتخذ المأمون – الخليفة العباسى – الفقه الحنفى مذهباً رسمياً للدولة . ومنذ ذلك الوقت ظهرت فكرة المذهب الرسمى ،وأصبح هذا أو ذاك من مذاهب الفقه ينفرد بسلطة التشريع فى بعض الدول . وكانت رعاية الدولة لمذهب ما سببا فى زيادة أنتشاره ونموه لفترة من الزمن ،لكن ذلك أدى به فيما يعد إلى الركود والأنعزال عن المذاهب الأخرى . وبعد عملية الأنفصال فى الخلافة العباسية ،عمل كل قسم مستقل من الدولة السابقة على تبنى المذهب السائد محلياً مذهباً رسمياً له .

وبسبب هذا النفوذ السياسى ،أعتقد المسلمون لعدة قرون فكرة أن عليهم أن يلتزموا بالمناهج القانونية لمذاهب إسلامية معينة ويتركوا ما يقع خارج أطرها من الفتاوى الإسلامية القانونية . وقد ساعدت فكرة الأنغلاق والجمود هذه على نشأة (( التقليد المحض )) و (( التقليد الجامد )) .

وفى النصف الثانى من القرن الماضى ،وفى هذا القرن خاصة ،بدأت الظروف تتبدل مع تقدم العصر والتقدم الأجتماعى .

وقد تطلبت التغيرات الأجتماعية والأقتصادية فى الحياة الحديثة إصلاحاً و (( اجتهاداً )) فى النظام القانونى لتخليصه من جموده وركوده .

وقد شهد يزوغ فترة الأستقلال فى الدول الإسلامية فى الشرق نشاطات متتابعة لإصلاح قوانين الأحوال الشخصية وتقنينها .

ومما يبعث على الرضا أن نلاحظ أن كافة الجهود القانونية للشعوب الإسلامية فى الإصلاح والتقنين ظلت ضمن حدود الشريعة ،ولم تتعدها إلا نادراً .

وإذا أعرضنا عن الحالات القليلة التى كانت الإصلاحات فيها تجاوز حدود المبادئ من نحو إلغاء الزواج بأكثر من واحدة فى تونس وإعطاء الأحفاد اليتامى نصيب والدهم فى الميراث فى باكستان ،فإن معظم الأصلاحات فى سائر الأقطار الإسلامية فى العالم تقريباً جاءت ضمن الحدود المعروفة للشريعة .

ومن الممكن إيراد من الشواهد على هذا الضرب من القوانين التى قامت فى جملتها على القواعد التى أدخلت حديثاً عن طريق العمل بمبدأ (( التلفيق )) – إلى الصيغ المحلية لقوانين الأسرة المسلمة فى البلاد المختلفة مثل : (( تشريعات الأسرة المصرية )) (1920 و 1929 ) فى إيران ، و (( قانون الزواج )) (1959) فى الجزائر ،وحل قانون الزواج المسلمين (1939) فى الهند ،و (( قانون تشريعات الأسرة المسلمة )) (1961) فى باكستان .

ولقد رحب (( العلماء )) والشعوب فى كل الدول الإسلامية بصياغة قوانين جديدة عن طريق (( التلفيق )) ضمن إطار الشريعة ،لكنهم أحتجوا بشدة على الأصلاحات التى انتهكت حدود مبادئ الشريعة والتى أدخلتها حكوماتهم على قوانين الأسرة .

وإنها لأشارة واضحة على اتجاه تفكير الجماهير المسلمة وكيف كان رد فعلها تجاه القوانين التى شملها الأصلاح والتقنين فى بلادها . فحين تلاحظ بدقة مسلكها فى الموافقة على الكثير من القوانين وفى الأعتراض على بعض المشتريات الجديدة ،يمكن أن نستنتج ونحن مطمئنون أن كل المسلمين متفقون على المحافظة على النظام القانونى الإسلامى وعلى الرغبة فى إدخال الأصلاحات والتغييرات عن طريق (( التلفيق )) و (( الاجتهاد )) أو الأصلاحات الجرائية أو الأدارية بشرط ألا تتعارض مع أى من المبادئ الملزمة فى الشريعة الإسلامية . وقد تم إدخال هذه الأصلاحات الأجرائية فى السعودية وباكستان وإندونسيا وماليزيا وبروناى وسنغافورة بهدف القضاء على الاستخدام الشئ للقوانين الإسلامية التقليدية .

كل هذه النشاطات الأصلاحية ،سواء أكانت أموراً إجرائية أو انتقادات قانونية تعتبر علائم صحة ودلائل على العقلية التقدمية وعلى سلامة الرأى العام فى العالم الإسلامى ،كما تبرهن على قوة افيمان بالنظام القانونى الإلهى وبمرونته وصلاحيته للتطبيق فى كل زمان ومكان .

وقد حققت هذه التجارب الحديثة فى ميدان الفقه غاية عظيمة إذا أخرجت المسلمين من مستنقعات (( التقليد المحض )) و (( التقليد الجامد )) التى أزمنت وتعفنت .

والآن قد ألقى الزمن بين أيدى المسلمين بحصيلة الفقه الإسلامى كاملة ليستخدموها بحذر ومن خلال منهج أنتقائى للأختبار المدروس وذلك من أجل مصلحة الأمة الإسلامية وتقدمها .

كذلك ،فإن التجارب الناجحة فى أستخدام مبدأ (( التلفيق )) فى تشكيل قوانين الأحوال الشخصية فى كافة البلاد الإسلامية تقريباً قد برهنت بما لا يدع مجالاً لشك على أن هذا السلاح دور إمكانيات عظيمة للإسهام فى المجالين الأوسع وهما القانونان المدنى والجنائى .

ومن المشجع جداً أن رنى أنهناك تياراً قوياً يتحرك فى معظم البلاد الإسلامية يناهض الاتجاهات الغربية فيها التى لا تتحلى بالنزاهة فى نقدها . فهناك بعض الدول الإسلامية التى تعتزم البدء فى طبيق القانون الإسلامى فى كل مجالات الحياة القومية من سياسة وأقتصادية وأجتماعية ،وذلك مثل ليبيا وباكستان وإيرا والجزائر . [!!]

ولقد آن الأوان لتنشأ هيئة علمية دولية تضم ذوى الخبرة من فقهاء القانون من كافة البلاد الإسلامية تقوم على تقنين النظام القانونى الإسلامى برمته على أسس علمية حديثة . وسوف يكون لمبدأ (( التلفيق )) دور مهم فى إعادة توجيه الفقه الإسلامى وإعادة صياغته وإصلاحه ومن المؤكد أن هذا سيؤدى إلى تمهيد الطريق إلى إعادة فتح باب (( الأجتهاد )) وهو مطلب ملح فى هذه الحياة الحديثة الزاخرة بالحيوية والتغير .

المراجع

1 – لويس معلوف . المنجد ص ص 777 :

لفق ،يلفق . لفق بين الثوبين أو لأم بينهما بالخياطة . تلفق به – لحقه بينهم – تلام – تلافق – تلامت أمورهم

اللفاق ثوبان يلفق أحدهما بالآخر . وكل ثوب منهما لفاق Fazl al Rahman ,((contemporary Trend in Muslim personal Law )) ,Muslim personal Law ,p . 152 .

2 – شاء ولى الله عقد الجيد ص 44 .

3 – السابق ص 45

4 – القرآن (5 : 48) : (( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات )) .

5 – شاء إسماعيل الشهيد عبقات ص 134 .

وأنظر كذلك القرآن (5 : 48 )

6- مناظر أحسن جيلانى تدوين الفقه ص 142

7 – عقد الجيد ص 45 – 46

8 – عبد الوهاب الشعرانى الميزان الكبرى :

(( شاروبى هارون الرشيد فى أن يعلق (( الموطأ )) فى الكعبة ويحمل الناس على ما فيه  )) .

9 – أبن حجر المستقلانى . بلوغ المرام ،حديث رقم 1414 ص 286 : عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر )) .

10 – القرآن (21 : 78 – 79 ) : (( وداد وسليمان إذا يحكمان فى الحراث إذا نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين . ففهمناها سليمان )) ..

11- مظهر بقاء : أصول فقه أور شاه ولى الله ،ص 40 . وقد ذكر فى الكتاب أن شاء ولى الله اختلف ف 80% من المسائل وآثر رأى الإمام الشافعى فى 70 % .

12 – محمد علاء الدين الحصكافى . الدر المختار ص 69 .

13 – أبن عابدين الشامى . رد المختار ،1 : 70 .

14- السابق نفسه .

15 – الشعرانى . السابق ص 39 .

16 – السابق نفسه . وأبن الهمام ،السابق ص 351 .

17 – الشعرانى . السابق ص 39 .

18 – السابق نفسه .

19 – عقد الجيد ص 38 – 39 . وحجه الله البالغة 1 : 155 . تاج الدين بن السبكى . جمع الجوامع 2 : 393 .

20 – أبن الهمام ،السابق ص 549 .

21 – أبن عابدين الشامى . السابق 1 : 70 .

22- المفتى محمد شافع . (( فى الافتاء بمذهب الغير )) جواهر الفقه 1 : 158 .

23 – صبحى محمصانى . فلسفة التشريع فى الإسلام ،ص 77 .

24 – شاء ولى الله . أنفاس العارفين ص 4 .

25 – أبن عابدين الشامى . شفاء العليل 1 : 161 . ويطلق مصطلح ((المتقدمون )) على فقهاء القرون الثلاثة الأولى ،أما من بعد ذلك من الفقهاء ابتداء من القرن الرابع فيعرفون ب (( المتأخرين )) .

26 – السابق 1 : 163 .

27 – أشرف على الثانوى . الحيلة الناجزة من 68 .

28 – ابن عابدين الشامى . السابق ،فصل (( الاستجار على التلاوة )) 1 : 168 .

29 – أشرف على الثانوى ،السابق ص 66 – 72 .

30 – شاه ولى الله السابق ص 26 .

31 – عقد الجيد ص 38 . وأنظر أيضاً : حجة الله البالغة 1 : 155 .

32 – الشعرانى السابق ص 39 .

33 – أشرف على الثانوى ،السابق نفسه .

34 – شاه ولى الله . تفهيمات ،2 : 202 .

35 – عقد الجيد ص 93 .

36 – مظهر بقاء . السابق ص 479 – 483 .

(( قال الإمام صلاح علائى : والذى صرح به الفقهاء فى مشهور فى مشهور كتبهم جواز الانتقال فى آحاد المسائل والعمل فيما بخلاف مذهب إمامه الذى يقلد مذهبه إذا لم يكن ذلك على وجه التتبع للرخص .

(تحرير مع شرحه ،3 : 351) .

37 – شاه ولى الله إزالة الخلفاء ،ص 134 قال (عليه الصلاة والسلام ) (( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا عليه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروجة وشئ من الدلجة )) (رواه البخارى ) وأنظر أيضاً عقد الجيد ص 64 .

38 – شاه ولى الله . المصفى 1 : 11 الإنصاف من 65 . يقول شاه صاحب : (( أجتهاد در هر عصر فرض بالكفاية است )) .
39 – القرآن (22 : 78) : (( وما جعل عليكم فى الدين فى حرج )) .

40 – أشرف على الثانوى . السابق : 33 .

41 –KhalifaAbd al – Hakim ,Islamic Ideology ,p . 5

42 – القرآن (7 : 157 ) .

43 – السابق (2 : 104 ) (لم أجد علاقة بين القضية التى بينها والآية التى ذكر رقمها . ولعل هناك خطأ فى الأرقام . ويمكن أن نستشهد على القضية المعروضة بآيات كثيرة ،منها (16 : 64 ) المترجم ] .

44 – نقل أبن عابدين الشامى قول الفقيه الشهير القاهستانى (ت 353 هجرى ) فى (( شفاء العليل 3 : 510 ) .

45 – الشيخ أحمد بت تيمية ،فتاوى أبن تيمية 2 : 240 – 241 .

46 – أشرف على الثانوى ،السابق ص 37 – 38 .

47 – السابق ،ص 101 – 102 ذكر أشرف على ،بعد أنقل نصوصاً من (( الدارالمختار )) ،أنه حاول الحصول على (( الفتاوى )) الصحيحة والمفضلة من فقهاء المالكية فى (( المدينة المنورة )) حين قدم أقتراحاً بالطلاق فى مسألة (( مفقود الخير )) ،وقد أعد – بالتشاور مع علماء الأحناف فى الهند وفقهاء المالكية فى المدينة – قوانين الزواج والحكم الخاص بالزوج المفقود .

48 – السابق ص 100 .

49 – أبو الأعلى مودودى ،حقوق الزوجين ص 132 – 133 .

50 – أبن عابدين الشامى – رسالة عقود رسم المفتى ،ص 50 .

51 – أشرف على الثانوى ،السابق ص 73 .

52 – فى حالة وجود (( المحاكم الشرعية )) كما هو الحال فى دولة سيلان (سريلانكا ) العلمانية ،لا حاجة للأخذ بمبدأ (( جماعة المسلمين العدول )) .

53 – أشرف على الثانوى . السابق ص 64 .

54 – أبن عابدين الشامى . السابق ص 46 .

55 – أشرف على الثانوى ،السابق ص 6 –32 .

56 – أبو زكريا محى الدين النووى . شرح المهذب ،ص 55 . وأنظر أيضاً : مظهر بقاء ، السابق ص 279 – 282 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر