أبحاث

التحقيق العلمي للآيات الكونية في القرآن الكريم

العدد 36

إنه لمن المسلم به أن القرآن الكريم قد تفرد من بين سائر الكتب السماوية بأنه الكتاب المعجز الذي لا يتطرق الشك إليه ولا يقع الريب عليه ولا يحوم الجدل حول تواتره وصحة سنده وسلامة نسبته إلى مبلغه وإنه هو الكتاب الذي تكفل الله بحفظه وتعهد بصونه
والتزم بحمايته ورعايته وذلك أن الله تعالى ختم به الرسائل وأنهى به الشرائع، وأتم به الصحف وسبب آخر وهو أنه لم ينزل –كما نزلت الكتب السماوية السابقة- علاجا لأمة خاصة ولا دواء لجماعة معينة، وإنما نزل ليكون قانون الله تعالى إلى كافة عباده، ودستوره إلى سائر خلقه. يصفه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في إحدى خطبه فيقول: (ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يضل نهجه، وشعاعا لا يظلم ضوؤه، وفرقانا لا يخمد برهانه، وتبيانا لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم أنصاره، وحقا لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبناؤه،… جعله الله ريا لعطش العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده دواء، ونورا ليس معه ظلمة، وحبلا وثيقا عروته، ومعقلا منيعا ذروته وعزا لمن تولاه، وسلما لمن دله، وهدى لمن ائتم به…).

وللقرآن أسماء منها: القرآن: يقول الله تعالى: “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله” (الحشر/ 21)، الكتاب: يقول الله تعالى: “الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا” (الكهف/ 1)، الفرقان: يقول الله تعالى: “تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا” (الفرقان/ 1)، كلام الله: يقول الله تبارك وتعالى: “وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون” (التوبة/ 6) كما أن من أسمائه الذكر: يقول الله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر/ 9) كما وصف القرآن بأوصاف عدة منها: الشفاء، القصص، الحكيم، الحكمة، الحبل، الصراط المستقيم، العزيز، الموعظة، المجيد، بلاغ، بصائر، بيان التنزيل، الوحي، الرحمة، النذير، المهيمن، وغيرها من الأوصاف المناسبة للقرآن.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المفسرين الأول، ورائدهم الأمثل، وهو الذي أنار لهم الطريق وأضاء لهم السبيل، وكان الأعلام من أصحابه يرجعون إليه في حياته إذا استغلق عليهم الأمر، أو التوت عليهم الفكرة فلما سبقهم –صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى حملوا هم من بعده المشعل، وصاروا في طريقهم الواضح، يحدوهم الإيمان، ويقودهم الإخلاص، وترفرف عليهم أجنحة الملائكة.

وكلمة التفسير تفصيل من الفسر، وكلاهما في اللغة بمعنى الإبانة وكشف المغطى والتفسير بالمعنى اللغوي المذكور يستعمل في الكشف عن المحسات والمعقولات واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الأول.

وأما التفسير كعلم من العلوم الإسلامية فهو يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وبعبارة أخرى هو ذلك العلم الذي يقصد منه إيضاح القرآن والكشف عن مراميه وأسراره.

الفصل الأول

التفسير: أنواعه وأعلامه ومراحله:

مما لا شك فيه أن أوائل المفسرين على جانب عظيم من معارف عصورهم وثقافات أزمانهم وبالإضافة إلى ذلك ما كان يعرفونه من أنباء القرآن والظروف التي لابست نزول آياته والأحداث التي نزلت هذه الآيات في شأنها،… وقد التزم هؤلاء الأئمة في تفسيرهم للقرآن منهجا لم يحيدوا عنه، وهو أنهم كانوا يفسرون الآية بما سمعوه مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو موقوفا عند أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فإذا لم يجدوا شيئا سمعوه عن الرسول في تفسير آية ما لجئوا إلى الرأي والاجتهاد، وكانت لهم في تفسيرهم أدوات سوف نجلي أبرزها بعد قليل ولم يغادر هؤلاء الأئمة الحياة الدنيا إلا بعد أن أسلموا الأمانة إلى تلاميذ هم الذين ورثوهم معارفهم وعلومهم فكان اللاحقون نعم الوارثين حيث نهجوا نهج أسلافهم ونسجوا على منوالهم.

غير أن العالم الإسلامي امتدت آفاقه واختلطت الأجناس فيه واحتوت الرقعة الأرضية التي انتشر عليها الإسلام ألسنة شتى ثم توالت على هذا العالم المحن والخطوب فكانت هذه الفتن بالإضافة إلى تعدد الثقافات وتشعب التقاليد والمشارب وتعدد الألسنة وعدم الفكاك من تأثير ثقافات هذه البقاع وبعض تقاليد هذه الأصقاع، كان كل ذلك من دواعي تسلل روايات إلى القرآن وأخبار إلى تفاسيره لا تتفق مع روح الشريعة ولا تنطبق وجوهر الدين على الرغم من أن كل هؤلاء الشعوب قد جمعتهم ملة واحدة وضمهم دين واحد وتهذبوا بآداب واحدة وتخلقوا بأخلاق واحدة هكذا باختصار شديد بدأ الكدر يشوب موارد التفسير وأخذت أكاذيب أهل الكتاب وأساطيرهم تأخذ طريقها إلى هذه الموارد، تلك التي كانت من قبل طاهرة نقية إلا أن الأمة جاءت عليها فترة ازدهرت فيها العلوم وعمت فيها صحوة زاهرة بعد طول خمود، فاتسعت فيها آفاق البحوث وانفسحت فيها طرائق الإدراك وتعددت منازع العلماء في الدراسات، فلكل منهم مذهبه ومشربه الذي يبدع فيه، ومن ثم وجدنا اتجاهات شتى في تفسير القرآن –وهو أجل العلوم وأشرفها- فمنهم من توسع بل اعتمد على التفسير بالمأثور كما فعل الثعالبي في تفسيره (جواهر القرآن) والسيوطي في تفسير (الدر المنثور)، وابن كثير في تفسيره (تفسير القرآن العظيم) وأسهب بعض العلماء في التفسير بالرأي كما فعل الإمام الفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب)، والبيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل)، والألوسي في تفسيره (روع المعاني). وجنح بعضهم إلى البلاغة والبيان ومنهم الإمام الزمخشري في تفسيره (الكشاف): وجنح آخرون إلى القواعد النحوية مثل أبي حيان في تفسيره (البحر المحيط): وفصل بعض العلماء الفقهيات فكانت تفاسيرهم فقهية موسعة مثل القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) ثم أفاض أهل التربية والسلوك في فهم القرآن فكانت اللطائف والإشارات ومنها (حقائق التفسير) للإمام السلمي، و (لطائف الإشارات) للإمام القشيري، و(البحر المديد في تفسير القرآن المجيد) للإمام ابن عجيبة، و (أسرار القرآن) للإمام المجدد ماضي أبو العزائم.

ثم نأتي إلى النوع الأخير من التفاسير وهو ما يسمى التفسير العلمي لآيات القرآن، فنقول إن هذه النزعة ليست وليدة عصرنا الحالي فقط وإنما سبق إليها نفر من العلماء أمثال الفخر الرازي في تفسير (الكشاف) حيث تحدث طويلا عن خلق السماء والأرض ونظام الأفلاك وعلم الهيئة على نحو ما كان معروفا في عصره من معارف وثقافة. أما في العصر الحديث فانبرى علماء في هذا المضمار منهم الأستاذ طنطاوي جوهري في تفسيره (الجواهر الحسان) الذي حشد فيه معلومات واسعة عن علوم الكون والحياة، وطبقات حنفي أحمد في (التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن) والدكتور عبد الله شحاتة في (تفسير الآيات الكونية) و الدكتور محمد أحمد الغمراوي في (الإسلام في عصر العلم)، (سنن الله الكونية)، والدكتور محمد جمال الدين الفندي في (الله والكون) والدكتور محمد يوسف حسن في (قصة السموات والأرض)، والدكتور عبد الغني الراجحي في (الأرض والشمس في منظور الفكر الإسلامي) والدكتور موريس بوكامي –طبيب وفيلسوف فرنسي أسلم في نهاية القرن الرابع عشر الهجري- في (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) والأستاذ علي عبد العظيم في (ملكوت السموات والأرض) والدكتور وحيد الدين خان في (الإسلام يتحدى) والأستاذ صلاح الدين خشبة في رسالته (العلم والإيمان) والأستاذ محمد محمود إبراهيم في رسالاته (إعجاز القرآن في علم طبقات الأرض) والأستاذ عبد الرازق نوفل في مؤلفاته (الله والعلم الحديث)، (الإسلام والعلم الحديث)، (القرآن والعلم الحديث)، والدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل في (الإسلام والطب الحديث)، والدكتور محمد صدقي في (علم الفلك والقرآن)، والأستاذ مصطفى صادق الرافعي في (إعجاز القرآن)، والشيخ محمد بخيت المطيعي في (تنبيه العقول الإنسانية لما في آيات القرآن من العلوم الكونية والعمرانية)، والغازي أحمد مختار باشا –وكان عالما رياضيا فلكيا مشهورا- في (سرائر القرآن)، والسيد كيراميت –وكان عالما إسلاميا فارسيا مشهورا- في (الاتفاق الأساسي التام بين الكتاب وبين التعاليم الأوربية في الطبيعة والفلك والعلوم الكونية)، والأستاذ محمد عفيفي الشيخ في (القرآن الكريم وعلوم الغلاف الجوي). وبالإضافة إلى هؤلاء نجد رجالا ألهمهم الله بفيض من العلوم فذهبوا يكتبون في هذا المجال أو يحاضرون نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور عبد الحليم منتصر، الدكتور عبد الحليم كامل، والدكتور عبد الحافظ حلمي محمد، والدكتور أحمد حسانين القفل، والدكتور عبد المحسن صالح، ومحمد إسماعيل إبراهيم، والدكتور السيد الجميلي والدكتور سالم نجم والمهندس محمد عبد القادر الفقهي، وغيرهم كثير، وسوف يستمر عطاء العلماء المسلمون في كل مجال من مجالات العلوم النافعة لخدمة دينهم والتمكين لقرآنهم إلى يوم القيامة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأثر (الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة).

إذا أردنا التعرف على الأعلام البارزين في علوم التفسير في العصور الإسلامية عبر القرون المتوالية من حياة الأمة، فإننا ننتخب منهم في القرن الأول والثاني الهجريين الإمام علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود والسيدة عائشة، وفي القرن الثالث والقرن الرابع الهجريين ابن جرير الطبري والفخر الرازي وابن حيان الأندلسي في (البحر المحيط) والقرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) وابن عطية وابن العربي والجصاص. وفي القرن الخامس نجد أبو جعفر الطوسي في (البيان الجامع لكل علوم القرآن) والشريف الرضي الموسوي في (حقائق التنزيل ودقائق التأويل) وإمام الحرمين الجويني والثعالبي. وفي القرن السادس نجد جار الله الزمخشري في (الكشاف) والفضل الطبرس في (مجمع البيان) العكبري والبغوي وابن الدهان. في القرن السابع نجد البيضاوي صاحب (أنوار التنزيل) و ابن رزين والشيخ محي الدين بن العربي صاحب (الفتوحات المكية) وابن عقيل النحوي والبلخي المعروف بابن النقيب. وفي القرن الثامن نجد الزركشي والقرشي وابن حيان الأندلسي صاحب كتاب (البحر) وكتاب (النهر) في التفسير وابن النقاش. وفي القرن التاسع نجد البقاعي، والمولى الجاحي وبرهان الدين ابن جماعة وعلاء الدين القرماني صاحب (بحر العلوم القرآن). وفي القرن العاشر نجد علي بن يونس السنباطي، وابن كمال الرومي، أبو السعود العماري، وأبو يحيى زكريا بن محمد الأنصاري. وفي القرن الحادي عشر نجد علي القاري، وحسن البوريني، وبهاء الدين العاملي الكركي صاحب تفسير (عين الحياة)، وخير الدين الرملي، والشهاب الخفاجي. وفي القرن الثاني عشر نجد عبد الغني النابلسي، والسيد هاشم البحراني صاحب (البرهان في تفسير القرآن). وفي القرن الثالث عشر نجد الألوسي، والسيد محمود الحمزاوي مفتي دمشق في كتابه (در الأسرار)، وفي القرن الرابع عشر نجد محمد عبده، والرشيد رضا، ومحمد محمود حجازي، وسيد قطب، ومحمد ماضي أبو العزائم. وأخيرا في القرن الخامس عشر نجد محمد متولي الشعراوي صاحب (الخواطر)، ومحمد علي الصابوني صاحب (صفوة التفاسير) ومحمد البهي صاحب موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن، وغيره ممن تشرف بهم قرننا الحالي.

نأتي الآن إلى استعراض المراحل التي مر بها التفسير منذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عصرنا الحالي وذلك حتى يمكننا الوقوف على مدى خطورة الموضوع محل البحث والدراسة وهو التعميق العلمي للآيات الكونية في القرآن الكريم:

المرحلة الأولى: التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم:

ذهب كثير من العلماء إلى أن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان هو المفسر الأول للقرآن لكل ما جاء فيه من عبادات ومعاملات ومعتقدات، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة السند والرواية عن رسول الله خير معين على فهم القرآن وإيضاح مجمله وبيان غوامضه.

المرحلة الثانية: التفسير المأثور عن الصحابة وتابعيهم:

الصحابة هم تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين سعدوا برؤيته ومجالسته والتأدب بأدبه والسعي إلى التخلق بأخلاقه وهم الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم فكانوا أعرف الناس بأسباب نزوله وأعرف الناس بمناسبة كل آية فكان هذا خير معين لهم على فهم المقصود من كل آية فهما صحيحا، إلا أنهم عنوا عناية كبيرة بالأمور الفقهية أكثر من غيرها، ولم يشغلوا نفسهم بالحقائق الكونية وأسرارها ونواميسها ولم يفكروا فيها، حتى أنهم أيضا لم يهتموا بالقصص القرآني ولم يخوضوا فيه إلا بالقدر الذي أوضحه القرآن فلم يتعدوه ولم يلتفتوا إلى ما يقوله قصاص عصرهم من كلام فيه من الخيالات والدسائس ما تلفظه النفس الإسلامية السوية.

وكانت أدوات الصحابة في منهجهم لتفسير القرآن هي:

(1)   تفسير القرآن بالقرآن.

(2)   التفسير بالسنة النبوية الشريفة.

(3)   التفسير بأسباب التنزيل.

(4)   التفسير اللغوي والبلاغي.

(5)   التفسير الاجتهادي.

وكان من أعلام هؤلاء: ابن عباس: فهو ترجمان القرآن، قال ابن عباس: قال لي رسول صلى الله عليه وسلم: (نعم ترجمان القرآن أنت)، ففي عصره اشتدت حاجة الناس إلى الأخذ عنه بعد تأخر الزمان به، ثم لانقطاعه وتفرغه للنشر والدعوة والتعليم فلم تشغله خلافة، ولم تأخذ عليه وقت رعاية شئون الرعية.

ومنهم عبد الله بن مسعود: فهو من أعلم الصحابة بكتاب الله ومعرفة محكمه ومتشابه، وحلاله حرامه، أخرج بن جرير عنه أنه قال: (والله الذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته).

ومنهم علي بن أبي طالب: فقد عاش في زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى من يفسر القرآن إذا اتسعت دولة الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا فتعددت الألسن وتلونت الثقافات، وصاحب ذلك ظهور جيل من أبناء الصحابة، كانوا في أشد الحاجة إلى علم آبائهم. ومما يدل على عظم علمه بالتفسير ما رواه معمر بن وهب بن عبد الله بن أبي طفيل حيث قال: (شهدت عليا رضي الله عنه يخطب ويقول: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أفي سهل أم في جبل).

ومنهم السيدة عائشة أم المؤمنين: فلقد عاشت تسع سنين في بيت النبوة وكانت أقرب زوجات الرسول إليه وأكثرهم ولعا بأقواله وأفعاله، فعايشت الوحي معايشة حية، ومن أهم ما فسرته ما يتصل بأمور الطهارة، كما أن أم المؤمنين عائشة كانت من الصحابة الذين استعانوا في تفسيرهم للقرآن بأسباب النزول، فكانت دائما توضح الآيات القرآنية بما يحيط بها من أحداث تاريخية.

وقد اشتهر كثير غير هؤلاء من الصحابة أمثال أُبي بن كعب الأنصاري، والخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك، وعمرو بن العاص وآخرين.

المرحلة الثالثة: التفسير المعني باللغويات:

اللغة العربية هي أساس فهم القرآن، وهي أداة التعبير عن معاني آياته وبيان أهدافه، ولا يمكن لأحد أن يفهم القرآن دون إجادته للغة العربية، ولقد نزل القرآن الكريم بلغة قريش فهي أقوم اللهجات لسانا وأعذبها بيانا، وكانت وسطا بين ما انتشر في ذلك العهد من لهجات ولغات في قبائل العرب.

وبتوالي العصور توالت البحوث والدراسات التي قام بها علماء المسلمين وغيرهم من المستشرقين حول مفردات القرآن ووضع المعاجم والفهارس لألفاظه الغريب منها وغير الغريب، ذلك لأن القرآن قد أتى بألفاظ جديدة لم تكن مألوفة من قبل الإسلام ومنها كلمات: الشرك- النفاق- الصور- الحشر- الأعراف- الصراط- العرش- الكرسي، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوضح معاني هذه الألفاظ للصحابة وغيرهم، ثم استعمل القرآن ألفاظا من لغات أخرى ومنها كلمات الجبت- حصب- أرائك-، وهي ألفاظ حبشية، وكلمات السجل- السرادق- زنجبيل، وهي ألفاظ معربة من الفارسية، وكلمات قسط- الرقيم- الدراهم- فردوس، وهي كلمات رومية الأصل، وكلمات صلوات- قوم، وهي من أصل عبري. إذا كان لزاما على علماء المسلمين أن يضعوا المعاجم والفهارس وما شابه ذلك خدمة لألفاظ القرآن ومفرداته وتسهيل فهمه للناس.

المرحلة الرابعة: مرحلة التفسير بالرأي:

وفي هذه المرحلة انتقل العلماء من التفسير النقلي إلى التفسير العقلي في الأمور التي وجدوا الثقافات الجديدة والعلوم الحديثة توضح جوانب جديدة فيها، فكان العقل وكان النقل، وقام بهذا النوع من التفسير أجيال من العلماء مقتدين في هذا المنحى ببعض الصحابة وبتابعيهم الأجلاء لتمحيص المعاني واستخراج الأهداف واستنباط الآراء، وهذا كله فتح بابا هاما جدا هو باب التفكر والتدبر والتأمل في آيات الله، ومن أبرز رواد هذا الاتجاه الإمامان الطبري والزمخشري، ولكن للتفسير بالرأي شروط وضمانات سوف نعرج على أهمها بعد قليل إن شاء الله.

المرحلة الخامسة: مرحلة إبراز أوجه الإعجاز العلمي للآيات الكونية في القرآن:

وهو اتجاه محمود ولجه علماء الأمة من المتخصصين فيه المجالات المدنية والفنون الكونية وذلك من منطلق الحماسة الدينية والغيرة الإسلامية إبرازا لإعجاز كتاب الله الخالد وعظمة كل إشارة وردت فيه ناهيك عن كل تصريح صرح به، وهي لغة العصر الذي يتفاهم بالبحوث والكشوف، لغة الدراسات والتحقيقات، أي أن التحقيق العلمي للآيات الكونية الواردة في القرآن أضحى ضروريا الآن، وهذا هو قضية البحث الحالي والتي نحاول علاجها.

الفصل الثاني

حسم النزاع بين المنكرين للاتجاه العلمي في تفسير القرآن وبين المسرفين فيه

مما مر سابقا عرفنا أن تفسير القرآن الكريم من أشرف العلوم وأجلها، وعرفنا أن العاكف على ذلك هو عابد لله بأرفع أنواع العبادات، وعرفنا كذلك أن هذا فن من فنون يجب أن يرتفع عن خبط وخلط أنصاف المتعلمين وأشباه المتخصصين حتى لا يسيء أكثر مما يفيد، ويحسن بنا الآن أن نعرف شيئا عن قضية أثيرت من سنين مضت ولا تزال يثار الجدل حولها، تلك هي مسألة الاحتدام بين القائلين بالتفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن وبين المنكرين لهذا الاتجاه، حتى نستطيع بعد ذلك عرض المنهج الصحيح الدقيق لفض هذا النزاع.

أولا: التيار الأول: وهو يمثل اتجاه المعارضين والمنكرين لفكرة الاتجاه العلمي في تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، وأبرز رواد هذا التيار المرحوم الدكتور أمين الخولي والدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) والدكتور الذهبي والإمام الشاطبي وغيرهم، وتدور حججهم حول النقاط التالية:

(1) إن القرآن نزل ليفهمه العرب في الصدر الأول من الإسلام، وإن علينا –معاشر المسلمين- أن نحذو حذوهم فيما فهموه من آياته البينات بحسب مدلولات ألفاظه المفهومة، لأنهم عرب أدري بلغتهم، وأقدر على فهم معاني كلماتها منا.

(2) أن القرآن الكريم لا شأن له بالعلوم الطبيعية، وإنما هو كتاب أنزل للناس للإرشاد والهداية وبيان التكاليف وأحكام الآخرة.

(3) إن الكشوف العلمية والبحوث الكونية ما هي إلا فروض ونظريات، يعتقد رجال العلوم فترة من الزمان في صحتها ثم لا يلبثون أن يثبتوا بأنفسهم بطلانها ومن ثم فلا يجوز للمسلم الغيور على عظمة قرآن الكريم أن يقحم آياته في أشياء ومعارف تتغير وتتبدل، حيث ما هو حقيقي بالأمس أصبح خطأ اليوم، وما هو حقيقي اليوم سوف يصبح –مع تقدم إمكانات ووسائل وأدوات البحوث- غدا باطلا، فكيف نستخدم علوم هذا شأنها في تفسير آيات خالدة باقية لا يتطرق إليها أدنى تغيير أو تبديل؟!.

ثانيا: التيار الثاني: ويمثل القائلين بتفسير القرآن الكريم باستخدام العلوم والمعارف الحديثة، وهؤلاء يمكن معرفة آرائهم حينما نرى كيف أجابوا على الحجج التي سبق ذكرها في الرد على هذا الزعم نقرر أمرين:

الأمر الأول: أن القرآن الكريم نزل للبشرية حتى يوم القيامة على اختلاف ثقافات عصورها وتنوع علوم أهلها، وهو إذا يخاطب العقول على اختلاف المواهب والثقافة والتدبر والتفكر، وكل عقل يأخذ منه ما يطبقه وما ينتفع به، فإذا عجزت بعض العقول عن إدراك بعض المعاني لآيات القرآن وجب علينا أن نستعين بكبار العلماء الباحثين فإن الله تعالى يقول: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” (النحل/ 43)، وكم استنبط العلماء والفقهاء والباحثون من آيات القرآن الكريم معاني وأحكاما لم يعرفها السابقون، ذلك أن القرآن الكريم كما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق من كثرة الرد –أي التلاوة-، ولا تنقضي عجائبه)، فالدارس للقرآن الكريم يأخذ منه بمقدار موهبته الفكرية، وإيمانه القوي، وثقافته العلمية، ومعارفه العديدة، وتفكيره العميق، وكلما نما العقل البشري واتسعت مداركه وتنوعت ثقافته وتعددت تجاربه وغزرت معارفه، أدرك من القرآن الكريم ما لم يدركه سواه من قبل. الأمر الثاني: أن القرآن الكريم من أوجه إعجازه إعطاؤه معانٍ متعددة للعبارة الواحدة الواردة فيه: (أ) وأكثر من هذا أننا نجد أحيانا عبارة واحدة تعطينا معنى خاصا، وفي الوقت نفسه تعطينا ما يبدو مضادا لهذا المعنى: مثال ذلك: يقول الله تعالى: “وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون” (يس/ 33- 35). فالمعنى الأول المفهوم من الآية الكريمة أن الله خلق لنا الثمر لنأكل منه وهو الذي صنعه ولم يصنعه بشر، أي أن “ما” في “وما عملته أيديهم” نافية لفعل البشر في الصنع والخلق، لكن للآية معنى آخر غير المعنى الأول، وهو: أن الله خلق الثمرات لنأكل منها طازجا ولنأكل مما صنعته أيدينا من هذه الثمرات، بالطهي أو العصير أو التمليح أو التسكير أو التجفيف أو التقديد، أي لنأكل منها طازجا، وكذلك مما صنعته أيدينا منها بالوسائل الصناعية، أي أن “ما” –التي أشرنا إليها سابقا- هنا موصولة وليست للنفي. وأصبح للآية إذا معنيان، وربما لها أكثر، وكل منهما صحيح. (ب) وهناك آيات عديدة تعطينا معانٍ عديدة، يظهر بعضها في زمن، ويظهر ما فيها في أزمان متوالية تبعا لازدياد فنون الثقافة والكشوف العلمية المتوالية، وإن على علماء المسلمين المعاصرون إيضاح هذه المعاني حسب ما لديهم من علوم ومعارف حديثة تخدم مفاهيم هذه الآيات، ولنضرب على صحة ما ذهبنا إليه أمثلة قلية هي:

المثال الأول: يقول الحق تبارك وتعالى: “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت” (الغاشية/ 17) فهل الأمر الإلهي هنا بالنظر إلى المجرد مناسبتها لخطاب البدو والإعراب، فإذا كان هذا صحيح فكذلك لا تزال الدراسات الحديثة تكشف عن معجزات إحيائية رائعة في ذلك المخلوق الرائع الذي نستطيع أن نثبت أنه خُص بالذكر من بين ما لا يُحصى من مخلوقات الله، نموذجا يتدبر في دراسته المتدبرون.

المثال الثاني: يقول الحق تبارك وتعالى: “حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير..” (المائدة/ 3) فليس من الصحيح المقنع أن علة التحريم في لحم الخنزير هي ما تتناقله بعض التفاسير من أشياء يسهل الرد عليها ودحضها ومنها الرائحة الكريهة أو أن الخنزير يتغذى على الأقذار أو ما شابه هذه الأقوال الضعيفة، ولكن علينا –بعد إيماننا بتحريمه والامتثال للأمر الإلهي بالطاعة- أن نفهم ما أثبته العلماء المعاصرون من حقائق تقرر أن تحريمه لعلة مستقرة فيه وليس لعلة عارضة عليه يحل لحمه بزوالها.

المثال الثالث: قال تعالى: “وأرسلنا الرياح لواقح” (الحجر/ 22) فمن مفاهيم هذه الآية الكريمة: إن الله يرسل الرياح حاملة المطر الذي ينزل في الأرض فيحي مواتها فينبت النبات والثمرات، حيث يشرح المفسرون معنى الريح اللواقح بأنها كل ريح تأتي بخير، وعكسها الريح العقيم. ومن مفاهيم هذه الآية أيضا أن الرياح تحمل الحشرات تلك التي تحمل حبوب اللقاح لتقوم بنفس العملية التي ذكرناها لنفس الغرض المذكور. ومن مفاهيم الآية أن الرياح تلقح التربة أي تمدها بالعناصر اللازمة لخصوبتها ومنها الأزوت الذي يوجد طبيعيا في الهواء مثلا. ومن الفهم الجديد لهذه الآية “وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين” (الحجر/ 22) ما أفاء الله به على العالم الدكتور الفندي حيث يقول: تثير الرياح السحاب أي تكونه وتدفعه حيث تدأب على إمداده وتغذيته ببخار الماء الذي تحمله وتجلبه معها من البحار والمحيطات وكذلك تغذيه بجسيمات صغيرة تسمى باسم (نوى التكاثف) ووظيفة هذا (النوى) هي تجميع جزئيات بخار الماء في مناطق إثارة السحب لتكون قطرات صغيرة من الماء أو من بلورات الثلج. والفرق بين السحابة التي تمطر والسحابة التي لا تمطر هو أن الأولى لها مدد مستمر من بخار الماء ونوى التكاثف بواسطة الرياح أو الهواء الصاعد أما الثانية فليس لها أي مدد وينجم عن استمرار الرياح في (تلقيح) السحاب الذي تثيره ببخار الماء ونوى التكاثف نزول المطر. ومن هنا تكون الفاء في قول الله تعالى “فأنزلنا” هي فاء السببية، أن نجم عن هذا التلقيح نزول المطر. أما قوله سبحانه “وما أنتم له بخازنين” فهي إشارة أخرى إلى معجزة أخاذة هي الدورة المائية بين السماء والأرض، حيث أن ماء المطر يعود مرة أخرى إلى المحيطات والبحار عن طريق الأنهار أو المياه الجوفية وتعود الشمس فتبخر بعض ماء المحيط لتعود الدورة من جديد وهلم جرا.

المثال الرابع: يقول الحق تبارك وتعالى: “إن كل نفس لما عليها حافظ” (الطارق/ 4) فما هي مفاهيم الحفظ الذي يقمه الله على كل نفس حماية لها؟ إن من مفاهيمه أن الله يحفظنا من الأخطار المحدقة بنا لأنه سبحانه خير حافظ وهو أرحم الراحمين (يوسف/ 64) فهو يحفظنا من أخطار نعرفها فيلهمنا تجنبها، كما أنه يحفظنا دون أن ندري من أخطار لا ندركها. ومن معاني هذا الحفظ أن الله سخر بعض ملائكته لتسجل علينا أقوالنا وأفعالنا ليجازينا عنها بما نستحقه من جزاء كما قال سبحانه: “وإن عليكم لحافظين، كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون” (الانفطار/ 11).

ومن معاني هذا الحفظ أن على كل منا رقيب يحفظه من أن يدمر الآخرين أو يعبث في الأرض فسادا إلا حين يشاء الله أن يجعل بعض الناس فتنة للبعض الآخر.

ومن المعاني الحديثة لهذه الآية وهذا الحفظ أن يقرر العلماء حقيقة وجود كرات الدم البيضاء داخل جسم الإنسان والتي مهمتها الدفاع عن الجسم إذا تسللت إليه الجراثيم الممرضة وقد اتسعت البحوث على هذه الكريات وعلى وظائفها ودورها في هذا الحفظ فيمكن الرجوع إلى مثل هذه البحوث إذا أردنا التفصيل العلمي.

ومن المعاني الحديثة لهذه الآية وهذا الحفظ ما كشفه الأطباء من وجود خطوط دفاعية داخل الجسم تكافح الجراثيم الغازية له منها مثلا الشعيرات والمخاط في الأنف –إذا تسللت الجراثيم عن طريق الأنف- ودمع العين –إذا تسللت الجراثيم عن طريق العين- ودفاع اللوزتين –إذا تسللت الجراثيم عن طريق الفم-، وغير ذلك كثير مفصل في كتب الطب الحديث ومن المعاني الحديثة أيضا لهذه الآية وهذا الحفظ ما توصل إليه علماء الأحياء وهو أن الله سبحانه زود كل كائن حي بما يحفظه ويحميه في ميادين الصراع القائم بين الأحياء فزود الإنسان بعقل يحميه من عوامل الفتك والافتراس وبه يستطيع تسخير كل ما هو كائن في الكون وزود السلاحف بالدروع، وزود الثعابين بالسم، والغزلان بالخفة والسرعة والنباتات الضعيفة بالأشواك،… وهكذا كل كائن خلقه الله سبحانه.

المثال الخامس: يقول الحق تبارك وتعالى: “هو الذي يريكم آياته، وينزل من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب” (غافر/ 13) فالمعنى العام للآية هو أن الله سبحانه يرينا آياته حينا بعد حين وجيلا بعد جيل وينزل لنا من السماء رزقا ولا يعرف آيات الله العديدة ونعمه الجزيلة ولا يتذكرها إلا من آمن بالله ورجع إليه بالإنابة والمتاب، لكن ما المقصود بالرزق المُنزل من السماء؟؟

يقول المفسرون القدامى أن الرزق المُنزل هو ماء المطر وهذا فعلا رزق عظيم يحفظ علينا حياتنا من نبات وحيوان وإنسان ولكن يمكن إضافة معانٍ حديثة على مفهوم الرزق هنا.

ومن المعاني الحديثة لهذا الرزق تلك الأشعة الحرارية التي تصلنا باعتدال من الشمس فلو انقطعت عنا لماتت جميع الأحياء من شدة البرودة ولتجمدت مياه المحيطات والبحار والأنهار، ثم لو زاد مقدارها عن الذي تنزل به لتبخرت جميع الأحياء من ذلك ومن شدة الحرارة.

ومن هذا المعاني الحديثة تلك الأشعة الضوئية التي يتوقف عليها النبات في إمكانية بناءه الضوئي لغذائه الداخلي (Photosytheis) وعلى النبات يحيا الإنسان والحيوان وعلى الحيوان أيضا يحيا الإنسان.

ومن هذه المعاني الحديثة رماد الشهب التي تتساقط على الأرض وتبلغ أعدادها عشرات الملايين في كل يوم، فتحترق حين ملامستها للغلاف الجوي، ويسقط رمادها على الأرض فيزيد التربة خصبا وصلاحية للإنتاج والإثمار. ومن المعاني التي اهتدى إليها العلم الحديث لذلك الرزق هو غازات مثل ثاني أكسيد الكربون
(Carbon diexed) والأكسجين (Oxygen) الأزوت (Nitrogen) وكلها ضرورية وحتمية لحياة الكائنات الحية من نباتية وحيوانية.

ثم إن المعاني المقصودة أيضا للرزق هو ذلك الرزق الروحي المعنوي ويتمثل في الكتب والرسالات السماوية التي نزلت على الرسل الكرام لهداية الناس وانتشالهم من جهالات وظلمات وضلالات الدنيا، فأحيت قلوبهم ونفوسهم.

المثال السادس: يقول الحق تبارك وتعالى: “والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون” (الذاريات/ 47)، إن هذه الآية قد فسرها الأقدمون تفسيرا صحيحا سليما منطقيا ومجمل قولهم: إن هذا الكون رغم اتساعه ورغم ما ضم وحوى من أجرام فإن لدى الخالق العلي القدير المزيد والمزيد.

ويقول الدكتور الفندي في معاني حديثة تضاف إلى ما فهمه الأقدمون بل تزيد من مفاهيم الآية أن الناس في بادئ الأمر كانوا يظنون بمركزية الأرض للكون وإن السماء تنتهي عند القبة الزرقاء وإن النجوم معلقة غير بعيدة في تلك القبة، ثم عرف الناس فيما بعد: المجموعة الشمسية التي لا يزيد قطرها عن 5 ساعات ضوئية (الساعة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء ساعة كاملة بسرعته البالغة 300.000 كم/ ثانية) ثم امتدت أبعاد السماء إلى مجرتنا التي سماها المسلمون (الطريق اللبني) أو (طريق البتانة) وقطرها هذه المجرة –أو الجزيرة الكونية- 100.000 سنة ضوئية ثم باستخدام المناظير الفلكية اكتشف الإنسان المجرات الأخرى وعرف أقرب المجرات إلى مجرتنا وهي مجرة المرآة المسلسلة وتبعد عنا بنحو 700.000 سنة ضوئية أما القبة الزرقاء فهي مجرد ظاهرة ضوئية تحدث في جو الأرض.

ثم اتسعت السماء إمامنا حتى وصلت –في ظل الفلك الراديوي- إلى حدود 200.000 مليون سنة ضوئية!!! نعم لقد كشفت لنا المناظير الراديوية تعبيرا رائعا في قول الله تعالى (فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) (الواقعة/ 75، 76).

وبعد، فهذه أمثلة قليلة سقناها لندلل بها على أن القرآن الكريم لا يفسره عالم واحد ولا جيل واحد، ولكن كلما اتسعت فنون الثقافة العلمية كشفت لنا معاني عظيمة وأوجه إعجاز لآيات الله البينات.

إن المعارضين لهذا الاتجاه يتذرعون بأن القرآن كتاب هداية للبشر ولا شأن له بالعلوم الطبيعية أو البحوث الكونية وقولهم هذا على جانب من الحق، ولكنه ليس الحق كله، فهو كتاب هداية بالأحكام وبالنظر والتأمل في بديع صنع الله سبحانه وتعالى، كيف ذلك؟ إن الله شاءت حكمته أن ينوع وسائل هدايته لخلقه لأنه خبير بهم عليم بقدراتهم واستعداداتهم فهو تارة يخاطبهم بما يمس قلوبهم مسا رقيقا وتارة أخرى يقرع عقولهم قرعا قويا فكان أبرز ما جلي به أبصارهم وأنار بصائرهم حضه إياهم على التدبر في آيات خلقه وصنعه وإلا فما هي الحكمة الربانية من وراء سوق الآيات الكونية في القرآن الكريم آيات تذكر السماوات والأرض والشمس والقمر ومنازله، والمشارق والمغارب والبروج والنجوم والكواكب والليل والنهار، والفجر والغسق والظلمات والنور والبحار والأنهار والعيون والرياح اللواقح والعقيم والسحاب الثقال والمركوم والمنبسط والبرق والمطر والجبال الراسيات والجدد البيض والحمر والغرابيب السود، والأرض الهامدة والأرض المهتزة الرابية والجنات والنخيل والأعناب والتين والزيتون والطلح والسدر واليقطين والنمل والنحل وجناح بعوضة وبيت العنكبوت والطير الصافات والإبل والخيل والأنعام واللبن يخرج من بين الفرث والدم والشراب الشافعي يخرج من بطون النحل،… كل هذه الظواهر وتلك المخلوقات وغيرها كثيرا لهي جديرة جدا بأن يتدبر الإنسان في أمورها ويتأمل في إحكام صنعها ويتفكر في عظمة خالقها سبحانه وتعالى حتى يصل إلى مرتبة الخشية، فإذا كان من أهل التخصص والبحوث زادت هذه الخشية وبلغت أوجها وملأ حب الله الخالق الوهاب قلبه وأخذ عليه فؤاده “ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلف ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور” (فاطر/ 27، 28).

ولقد وردت في القرآن الكريم الدعوة صريحة ومؤكدة إلى التدبر في آيات الله التنزيلية وكذلك آياته الكونية، لقد أربت آيات الحث على التدبر واستعمال العقل والفكر على خمسين آية وليس المقام ذكرها وسردها.

الحجة الثالثة هي قول المعارضين بأن ما يسمى (حقائق العلم) ليس سوى فروض ونظريات يعتقد رجال العلوم فترة من الزمان في صحتها ثم لا يلبثون أن يثبتوا بأنفسهم بطلانها ولذلك لا يجوز الرجوع إليها عند دراسة الذكر الحكيم هذا الزعم عموما غير صحيح من وجوه أن الذي يتغير في العلم ليس قواعده أو أسسه بل فروضه التي لا زالت تخضع للدراسة والتمحيص ذلك لأنها إنما تستنبط باستخدام قوى العقل في ظل الثابت من حقائق العلم وكلما تراكمت معلوماتنا السليمة عن الكون تلك المعلومات المستمدة بالرصد والقياس والتتبع كلما كانت هناك فرصة أكبر لاستنباط النظريات أو تعديلها أو تحويرها.

لا شك أن رجال العلوم الذين خلصت نواياهم وأتقن تدريبهم على كيفية التعامل مع الفروض والنظريات والقوانين والقواعد والملاحظات والتجارب لا شك أن العلماء الكونيين الذين آمنوا بالله وبرسله وكتبه ورسالاته وأحكموا التخصصات وتعمقوا في لججها لا شك أن تحدث هؤلاء في أمور الآيات الكونية في القرآن الكريم يكون ذلك نشاطا محمودا منهم مأجورون عليه. ويجب علينا معرفة أن رجال العلوم الكونية –كغيرهم- يتفاوتون فيما بينهم من حيث المراس والدراسة والإتقان، وأن هناك فرق كبير بين استخدام الحقائق العلمية حين الكلام عن آيات القرآن وبين الاعتماد على الفروض أو النظريات ولنوضح ذلك بما يلي من الأمثلة:

المثال الأول: إن الضوء منذ عهد (الحسن بن الهيثم) تراكمت فيه معلومات وحقائق علمية، فتوصل العلماء إلى أن الضوء (ينعكس) أو (يرتد) من الأجسام التي يسقط عليها، ثم عرفوا أنه (ينكسر) ثم توصلوا إلى أنه (يتشتت) أو (يتناثر) وأنه (يحيد) وكذلك (يستقطب)… وهكذا ظهرت في ظل هذه الحقائق عدة نظريات علمية تتعلق بطبيعة الضوء أو كنهه أو حقيقته المطلقة، منها نظرية (الجسيمات الصغيرة جدا) التي قال بها نيوتن، ثم (النظرية الموجبة) التي قال بها هيجن، ثم (نظرية الكم) لبلانك، ثم… الخ.

ولم تثبت حقيقة الضوء على حال حتى الآن.

المثال الثاني: إن معرفة أن الكائن الحي يتكون من عدة خلايا متكاملة متعاونة لأداء وظائف قضاء الحياة المكتوبة، إن معرفة هذه الحقيقة منذ قرن ونصف لم يبطله ما تتوالى من الكشوف المدهشة مع تقدم المجاهر وأدوات البحوث والتقصي والتدقيق فهل اكتشاف الكروموسومات أو الليسوسومات بواسطة المجاهر الالكترونية أبطل وهدم النظرية الخلوية التي اكتشفت منذ مائة وخمسين سنة، ثم هل هدمها أيضا ما تم اكتشافه فيها بواسطة علوم الوراثة (Geneties) والكيمياء الحيوية (Biochemistry) والفيزياء الحيوية
(Biophysies) والبيولوجيا الجزئية (Molecular Biolegy) من جينات وأحماض نووية وجزئيات ملفوفة وغير ذلك.

المثال الثالث: النظرية الذرية (Atomic Theory) عرفها الإنسان قديما وهي أن كل عنصر من العناصر المادية يتكون من ذرات، هل هدمتها الكشوف الحديثة والبحوث حينما توصلت إلى تحديد وجود بروتونات والكترونات ونيوترونات وإلى ما هو أدق من ذلك وأعجب؟

الفصل الثالث

شروط وضمانات المنهج الصحيح في التفصيل العلمي للآيات القرآنية

حينما ألف الأستاذ الدكتور عبد العزيز إسماعيل كتابه القيم (الإسلام والطب الحديث) وعرضه على المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر آنذاك أثنى الشيخ في مقدمته على المؤلف وحمد له جهوده، ولكنه لم يوافق على مسلكه في تحميل الآيات القرآنية في تفسيرها ما لا تحتمله، فقال: لست أريد من هذا –يعني ثناؤه على الكتاب ومؤلفه- أن أقول أن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملة وتفصيلا بالأسلوب التعليمي المعروف وإنما أريد أن أقول أنه أتى بأصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته به، ليبلغ درجة الكمال جسدا وروحا وترك الباب مفتوحا الذكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة ليبينوا للناس جزئياتها، بقدر ما أوتوا منها في الزمان الذي هم عائشون فيه.

وقد ذهب الدكتور موريس بوكاي ما ذهب إليه الشيخ المراغي والذي ذكرناه هنا. ثم حمد الأستاذ محمد فريد وجدي لصاحب (الإسلام والطب الحديث) جهوده وأفقه الرحب وغيرته الإسلامية فقال: (وهذا الكتاب يفتح للمتدبرين آيات القرآن مجالا فسيحا لفهم آياته المشيرة إلى الكائنات الأرضية بما يسيغه العلم الحديث ويستهوي عقول الذين يقدسونه، فما أجدر أن ينتشر بين طلبة الجامعات ليكون باعثا لهم على تلاوة القرآن والاستهداء بنوره، وما أخلقه أيضا أن يذاع بين طلاب العلم الديني ليحبب إليهم العلم الحديث، ويثبت لهم أنه أصبح لإظهار مكنونات الكتاب وإذاعة آياته واثبات إعجازه).

إذا كان هذا ما رآه العلماء المعاصرون في شأن علوم القرآن وأنه احتوى على علوم الدين وعلوم الدنيا، وما ذهب إليه كل علم من هؤلاء الأعلام، فما أحرانا الآن أن نرجع إلى بعض الأعلام القدامى لنتعرف على آرائهم في هذا المجال ونخص منهم بالذكر الأئمة: الغزالي، السيوطي، أبو الفضل المرسي.

الإمام الغزالي: يرى الإمام أن القرآن يشتمل على جميع العلوم إذ يقول: (كل ما أشكل فهمه على النظار، واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات، في القرآن إليه رموز ودلالات عليه، يختص أهل الفهم بدركها. ويستشهد لاشتماله على جميع العلوم بقول ابن مسعود من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن).

كما يذكر الإمام في كتابه الجواهر أن علوم الطب والنجوم و هيئة العالم وهيئة بدن الحيوان، وتشريح أعضائه، وعلم السحر وعلم الطلسمات، وغير ذلك، يشير إليها القرآن بقوله تعالى: “وإذا مرضت فهو يشفين” يشير إلى علم، المتضمن لأسباب المرض ووسائل الشفاء. وقوله تعالى “والشمس والقمر بحسبان” ونحوه ما يشير إلى علم الهيئة يعني الفلك وتركيب السموات والأرض.

جلال الدين السيوطي: هو الآخر ما رآه الغزالي سابقا، ويستدل لذلك بقول الله تعالى في سورة الأنعام: “ما فرطنا في الكتاب من شيء” (الآية 38) وفي سورة النحل: “ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء” (الآية 89) ويستدل بأحاديث منها ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة” ومن الآثار الدالة على ذلك ما أورده عن ابن مسعود حيث قال: (أنزل في القرآن كل علم، وبين لنا فيه كل شيء، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن).

أبو الفضل المرسي: يرى أيضا ما رآه السابقان، إذ قال في تفسيره: (جمع القرآن وعلوم الأولين والآخرين، بحيث لم يحط به علما إلا المتكلم به ثم قال: أما الطب فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة، وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة وقد جمع ذلك في واحدة هي قول الله تعالى “وكان بين ذلك قواما” ثم قرر ذلك في علوم الهيئة والهندسة والجبر والمقابلة).

لما كان تفسير القرآن أمانة خطيرة ولا ينبغي أن يحملها إلا من هو لها من الكفاءة العلمية في مختلف علوم القرآن حتى يخرج للناس أفكارا رشيدة خالية من الشطط الديني واللغوي والعلمي بعيدا عن الجهالة أو السفه في الفكر والعقيدة والشريعة. إن السلف الصالح كانوا يشفقون من هذه الأمانة ويتهيبونها فإذا أقدموا ففي حذرٍ واع وخوف من حساب الله تعالى.

ومن ثم وضع أعلام الإسلام شروطا رأوا أنها تحقق المطلوب في مهمة القيام بتفسير كتاب الله، فوضح الإمام الغزالي هذه الشروط في إحيائه فقال –رحمه الله-: (إن لألفاظ القرآن معاني ظاهرة أي معاني يفهمها عامة الناس وخاصتهم، وأخرى باطنة أي دقيقة لا يفهمها إلا أهل البحث والعلم منهم). ثم انتقل –رحمه الله- إلى الشروط فقال: (وأما قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) وما ورد في الأحبار والآثار عن النهي عن تفسير القرآن بالرأي فلا تخلوا إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط والاستقلال بالفهم أو المراد به أمرا آخر، وباطل قطعا أن يكون المراد به ألا يتكلم أحد في القرآن إلا بما يسمعه لوجوه:

أحدهما: أنه يشترط أن يكون ذلك مسموعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسندا إليه، وذلك مما لا يصادف إلا في بعض القرآن.

والثاني: أن الصحابة والمفسرين اختلفوا في تفسير بعض الآيات وأن كل مفسر قال في المعنى بما ظهر له باستنباطه.

الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس رضي الله وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).

والرابع: أنه تعالى قال في سورة النساء: “لعلمه الذين يستنبطون منهم” (النساء/ 83).

فأثبت لأهل العلم استنباطا معلوم أنه وراء السماع.

ثم أضاف بعد ذلك قائلا: وأما النهي في الحديث فإنه ينزل على أحد وجهين.

الوجه الأول: أن يكون للمفسر في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى.

والوجه الثاني: من التفسير بالرأي: (أن يتسارع المفسر إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ التي لها أكثر من معنى فمن غرائبه الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من يفسر بالرأي والسماع لا بد منه في ظاهرة التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع التفهم والاستنباط ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل الظاهر).

وبعد أن أورد الإمام أمثلة لأصناف الغرائب التي أشرنا إليها سابقا ختم كلامه فقال:

(وإنما ينكشف للراسخين في العلم من أسرار القرآن بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفر دواعيهم على التدبر، وتجردهم للطلب ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى أعلى منه فأما الاستيفاء فلا مطمع فيه فأسرار كلمات الله لا نهاية لها ومن هذا الوجه يتفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير وظاهر التفسير لا يغني عنه.

التأويل في تفسير القرآن:

أجمع علماء التفسير على أن الأصل في تفسير القرآن أن يقوم على ظاهرة معنى ألفاظه دون تأويل إذا لم يمنع منه من العقل أو الشرع وأما إذا منع من ظاهر المعنى مانع فهناك مذهبان في التفسير:

أولهما: مذهب السلف الصالح من علماء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين الذي يقول بالأخذ بظاهر المعنى والتصديق به مع تفويض معرفة حقيقته إلى الله تعالى بما يتفق مع كمال ذاته وصفاته عملا بقوله تعالى “والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب” (آل عمران/ 7).

وثانيهما: مذهب الخلف من العلماء الذين جاءوا بعد السلف الصالح، وقد رأوا باجتهادهم أهمية التأويل عند الضرورة منعا من الوقوع في التشبيه وقطعا لدابر كل شبهة قد تعلق بالقلوب بشأن صفات الله تعالى بعد أن اعتنق الإسلام كثيرون من غير العرب ومن هؤلاء العلماء الطبري والغزالي والزمخشري والرازي والسيوطي. فمثلا من الآيات التي يمنع من ظاهرها مانع قول الله تعالى: “إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون” (يس/ 82)، وقوله تعالى “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام” (الرحمن/ 26، 27). ففي الأولى: يفيد ظاهر الآية أن الله تعالى يصدر أمره ويخاطب غير موجود، وهو ما يمنع منه العقل، وفي الثانية: يفيد ظاهر الآية تشبيه ذات الله تعالى بذوات الحوادث وهو ما يمنع منه الشرع والعقل إذ أنه تعالى منزه عن مشابهة الحوادث، وأنه قديم غير حادث، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

ويقول أصحاب مذهب السلف الصالح: نحن نأخذ بظاهر المعنى في مثل هاتين الآيتين ونصدق به، ونفوض معرفة حقيقته إليه تعالى مع تنزيهنا لذاته وصفاته تعالى عن مشابهة الحوادث.

ويقول أصحاب مذهب الخلف: إن الإسلام انتشر بين أمم كثيرة، غير أمة العرب، واعتنقه من بعد الصحابة والتابعين مسلمون رأوا باجتهادهم ضرورة وقاية عقائد المسلمين من آية شبهة قد تعلق بها فقالوا بضرورة التأويل في مثل هاتين الآيتين.

وقال هؤلاء في تأويل الآية الأولى: أن المراد منها: أنه متى تعلقت إرادته تعالى بإيجاد أي شيء فإنه يوجده بقدرته دون أي تأخير أو امتناع.

ورغم أن علماء المسلمين من أجلاء الخلق قد أجازوا –هكذا- التأويل في تفسير الآيات القرآنية إذا لم يكن هناك مانع شرعي من ذلك، فإن التوسع في هذا الباب قد فتح الشطط في التخيل والتصور وأوقع بعض المؤولين في مزالق خطيرة، ومن هؤلاء: الشيعة: فسر هؤلاء بعض الآيات على هواهم لاعتقادهم بأن للقرآن ظاهرا وباطنا وأن الباطن له عدة بواطن لا يعرفها حق المعرفة إلا الإمام المعصوم الذي يعتقدون أنه يُوحى إليه وأنه يسمع الكلام الموحى به ولكنه لا يرى من يكلمه.

ومن أمثلة تفاسيرهم وتأويلاتهم ما ورد مرويا عن الإمام الباقر في شرح قول الله تعالى: “من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار” (النمل/ 89)، أنه فسر الجنة بأنها هي معرفة الإمام وحب آل البيت، وأن السيئة هي إنكار الإمام وبغض آل البيت. وكذلك ما روي عن جعفر الصادق في قول الله: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” (التوبة/ 105) بأن أعمال الناس تعرض على الأئمة من آل البيت.

الناقلون من كتب أهل الكتاب: حرف أهل الكتاب من اليهود والنصارى كتبهم وأدخلوا فيها الأساطير والخرافات ودسوا فيها من الدسائس ما يخدم أغراضهم الدنيوية تسلطا على رقاب الناس أو إرضاء للحكام أو ما شابه ذلك من أمور، إلا أن بعض علماء المسلمين لجئوا إلى هذه الكتب في شرح وتفسير بعض الأمور في القرآن الكريم وخصوصا الجوانب القصصية، وهكذا كانت كتب التفسير حاوية لبعض الخبط والشطح ثم لبعض الأساطير والخرافات التي كان يجب على هؤلاء العلماء التنبيه لها والابتعاد عنها، أضف إلى حشو كتب أهل الكتاب بهذه الأساطير، فإنها حينما ترجمت من لغاتها إلى العربية حرفت تحريفات أخرى وفقدت كثيرا من حقائقها ومعانيها الأصلية، وسوف نعرض لبعض الأمثلة من هذا الباب فيما بعد في بحثنا هذا.

وفيما يلي عرض لضوابط وضمانات لا بد توافرها عند التحقيق العلمي للآيات الكونية، أو إن شئت سمه “التعميق العلمي” في القرآن وإظهار جوانب الإعجاز التي تتضمنها، وذلك من واقع تخصصات أهل العلوم الحديثة من المسلمين، وقبل عرض هذا المنهج علينا أن ننبذ تسميات ظهرت في هذه الآونة يأباها الحس الإسلامي، ويرفضها العقل الديني الواعي، ومنها (التفسير العلمي للقرآن)، (التفسير العصري للقرآن)، ذلك لأن كل ما يقال في تعميق المفاهيم وإجلاء الإعجاز في هذه الآيات، إنما هو اجتهاد في عرض المفاهيم وإبراز أوجه الإعجاز وليس تفسيرا بالمعنى الذي عرفناه في الصفحات السابقة من بحثنا هذا؛ وهاك المنهج وضماناته التي توصلنا إليها:

(1) الائتناس بالتفاسير المختلفة:

يجب على كل مسلم –قبل أن يقدم على مناقشة أية قضية علمية أو يوضح مسألة كونية وردت في القرآن الكريم- أن يرجع إلى كتاب التفسير المعتمدة رجوع المتأني اللبيب، وهذه الكتب غزيرة نورد منها على سبيل المثال: تفسير ابن جرير الطبري (من علماء القرآن الرابع الهجري)، وتفسير البيضاوي وتفسير ابن كثير (من علماء القرن الثامن الهجري)، وتفسير الألوسي (من علماء القرن الثالث عشر الهجري)، والتفسير الواضح للدكتور حجازي والمنتخب للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر، والظلال الواضح للأستاذ سيد قطب (في القرن الرابع عشر الهجري)، ثم صفوة التفاسير للصابوني والخواطر لمحمد متولي الشعراوي (في القرن الخامس عشر الحالي).

(2) التضلع بعلوم مساعدة:

إن القيام بمهمة جليلة كهذه لهو عمل من أخطر الأعمال وأعظمها، ومن ثم فلا بد للقائم بها أن يكون أولا وقبل كل شيء متمكنا من علمه الكوني متعمقا في تخصصه العلمي، ثم ثانيا أن يكون بقواعد العربية ملما، جيد الفهم للألفاظ التي يتكلم عنها ويعمق في مفاهيمها، وأن يكون محيطا بالقدر الضروري من علوم القرآن كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات وغيرها.

(3) التثبت من حقائق الكشوف:

عمل القائم بمهمة الإيضاح العلمي للآية الكونية –قبل أن يقحمها بمناسبة وبدون مناسبة- أن لا يأخذ في كلامه إلا بالحقائق العلمية الثابتة، ويبتعد عن النظريات والآراء والفروض والظنون. فأما الحقائق الثابتة فهي ما يجمع عليه العلماء قاطبة كتمدد المعادن بالحرارة وانكماشها بالبرودة مثلا، وتبخر الماء درجة 100 مئوية تحت الضغط الجوي العادي وتجده عند درجة الصفر المئوي، وككروية الأرض ودورانها حول محورها وحول الشمس. وأما النظريات العلمية فهي مجموعة من النتائج تجمع وتنسق ولكن لا تسلم من فجوات تظهر بها ومآخذ تؤخذ عليها مع تقدم العلم ورقي أدواته، ومن أمثلتها نظرية النشوء والارتقاء التي يدافع عنها دعاتها عسفا منهم، فهم أول من يعلم معايبها ومآخذها. وأما الفروض العلمية فهي ظنون يحاول بها العلماء تفسير بعض الظواهر التي لا يجدون لتفسيرها الواضح دليلا قاطعا.

(4) مراعاة تعدد معاني اللفظ الواحد:

من أهم سمات اللغة العربية –وهي لغة القرآن- ثراؤها في الألفاظ والمترادفات وفنون البيان والبديع والبلاغة، ومن خصائصها تعدد مدلولات اللفظ وكثرة معانيه، فإذا أخذ أحد الأسلاف من العلماء بمعنى معينا فلا ضير على أحد المحدثين أن يأخذ بمعنى آخر يقصد به تعميق مفهوم اللفظ وبالتالي الآية التي ذكر بها، وهذا لا يعني إطلاقا الغض من قدر الأقدمين، بل لكل رأيه حسب الثقافة والمعطيات العلمية، واللفظ واحد باق. ونذكر هنا من أهم المعاجم اللغوية التي تسعف الباحث في هذا العمل الجليل: لسان العرب (لابن منظور) وبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (لمجد الدين الفيروز أبادي).

وعلينا كذلك عدم اللجوء إلى المعاني المجازية للألفاظ إلا بعد الأخذ بمعانيها الحقيقية أو عند تعذر الأخذ بها.

(5) السبق العلمي وحده غير كاف للاستدلال على معجزة القرآن:

لا ينبغي للباحثين الغيورين أن يعقدوا سباقا بين آيات القرآن وبين علوم البشر وكشوفهم العلمية ذلك لأن ما ألمح به القرآن إنما هو أمور كلية خالدة خلودا أبديا، وأما علوم البشر وكشوفهم فهي لا تعدو أن تكون لمحات يسيرة من علم الله الشامل الكامل فإذا قلنا أن كتاب لم يفرط في كبير ولا صغير من أمور الحياة، ثم جمعنا الهم وعقدنا العزم على تأكيد السبق العلمي في القرآن مستعملين ذلك سلاحا لإقناع العقول المادية الحديثة فإننا إذا استعملنا هذه الوسيلة وحدها فلا مناص من الوقوع في مزالق ولا خلاص من زلات وسقطات يهوي فيها المسلم، حيث ندخل كتاب الله في تفصيلات ما أرادها الله حينما أنزل هذا الكتاب، فإن من السذاجة أن نتصور أن النبي صلوات الله وسلامه عليه بعثه الله ليوضح قوانين الطفو وأن يخبر عن دوران الأفلاك ونظمها أو ينبئ عن انشطار الذرة وارتياد الأجواء، إنما بُعِث الرسول لهداية البشر جميعهم، ويقوم بهذه المهمة ورثته من العلماء الأجلاء على مر الأيام حتى تقوم قيامة العالم وتنتهي دنياه.

(6) مراعاة المواضع:

ربما تحوي آية قرآنية واحدة ظواهر كونية عديدة، وربما تأتي الظاهرة الكونية الواحدة في آيات قرآنية متفرقة، إذا علينا عند عرض إعجاز القرآن في هذه الظاهرة أن نسلك أحد المسلكين أو كلاهما لنخرج باستنتاجات عامة، وهما تشريح الآية الجامعة إلى ظواهرها، ثم تناول كل على حدة من خلال بحث مواضع ذكرها في آيات أخرى من القرآن ومناسبة إيراد كل منها في موضعه، مع الربط بين الكلام في الظاهرة الكونية الواحدة، وبين السياق العام للآية.

(7) التزام شروط التأويل التي وضحناها سابقا.

الفصل الرابع

ضرورة تعاون التخصصات المتنوعة

بعد أن فصلنا أوجه القضية بين المنكرين للأخذ بالاتجاه العلمي في فهم الآيات الكونية الواردة في القرآن الكريم، وبين المسرفين في إقحامها عنوة وبلا أدنى مناسبة في نظريات وفروض علمية حديثة، رجحنا ما رأيناه صوابا برؤية علمية مخلصة مدعمة بمنهج له ضماناته وضوابطه التي يضمن التزام الحيطة والأخذ بأدوات الكلام في هذا المجال الخطير، بعد هذا كله نرى أنه من المناسب عرض نقاط هامة تخص كلا الفريقين من العلماء، وتخص بالذات رجال العلوم الشرعية أي رجال التخصص في العلوم الدينية (ولا يمكن أن نسميهم أبدا رجال الدين حتى لا يقترن النظر إليهم بالنظر إلى باباوات الكنائس ورجال كهنوتهم)، وكذلك رجال العلوم الكونية.

أولا: بالنسبة لرجال التخصص في العلوم الدينية:

إن جولة في بعض كتب التفسير خصوصا القديم منها ترينا خزعبلات وخرافات وأساطير –وعموما إسرائيليات- موجودة في تفاسير بعض الآيات والظواهر الكونية، وعلى الرغم من ذلك نجد أن هذه الكتب شائعة الاستعمال، وعلى الرغم من ذلك أيضا نجد أصحاب هذه التفاسير علماء لهم دورهم الكبير في تخصصاتهم الدينية، وقبل أن نعرض لأهم أسباب ظهور هذه الإسرائيليات في كتب التفسير هذه يحسن بنا التعرف على نماذج لهذه الافتراءات الخطيرة التي توجد بها:

المثال الأول: في بدء وكيفية خلق السموات والأرض والكائنات الحية: ورد في بعض كتب التفاسير النص الغريب الآتي: (روت الرواة بألفاظ مختلفة ومعانٍ متفقة أن الله تعالى لما أراد أن يخلق السموات والأرض خلق جوهرة خضراء أضعاف أطباق السموات والأرض، ثم نظر إليها نظر هيبة فصارت ماء، ثم نظر إلى الماء فغلى وارتفع منه زبد ودخان وأرعد من خشية الله، فمن ذلك اليوم يرعد إلى يوم القيامة، وخلق الله من ذلك الدخان السماء، فذلك قوله تعالى: “ثم استوى إلى السماء وهي دخان” (فصلت/ 11) أي قصد وعمد إلى خلق السماء وهي بخار وخلق من ذلك الزبد والأرض، فأول ما ظهر من الأرض على وجه الماء مكة، فدحا الله الأرض من تحتها فلذلك سميت “أم القرى” يعني أصلها، وهي قوله تعالى: “والأرض بعد ذلك دحاها” (النازعات/ 30)، ولما خلق الله الأرض كانت طبقا واحدا ففتقها وصيرها سبعا، وذلك قوله تعالى “أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما” (الأنبياء/ 30)، ثم بعث الله تعالى من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع، فوضعهما على عاتقه: إحدى يديه في المشرق والأخرى في المغرب باسطتين قابضتين على قرار الأرضين السبع حتى ضبطها، فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله تعالى من أعلى الفردوس ثورا له سبعون ألف قرن، وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تستقر قدماه فأحدر الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة من الفردوس غلظها خمسمائة عام فوضعها الله بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه، وقرون الثور خارجة من أقطار الأرض وهي كالحسكة تحت العرش، ومنخر ذلك الثور في البحر فهو يتنفس كل يوم يتنفس كل يوم نفسا فإذا تنفس مد البحر وإذا رد نفسه جزر البحر –لاحظ هنا تفسير ظاهرتي المد والجزر كما روتها هذه الرواية- ولم يكن لقوائم الثور موضع قرار فخلق الله سبحانه وتعالى صخرة خضراء غلظها كغلظ سبع سموات وسبع أرضين، فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه “يا بني إنها إن تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله” (لقمان/ 16).

رُوي أن لقمان لما قال هذه الكلمات انفطرت من هيبتها مرارته ومات، وكانت آخر موعظته، فلم يكن للصخرة مستقر فخلق الله تعالى “نونا” وهو الحوت العظيم اسمه “لوتيا” وكنيته “بهلموت”، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال، قال: والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة، وثقل الدنيا وما عليها حرفان من كتاب الله تعالى، قال لها الجبار “كوني” فكانت، ذلك قوله عز وجل “إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون” (النحل/ 40) وإن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهر بالوتيا من الأمم والدواب والشجر والجبال وغيرها، لو ألقيتهم عن ظهرك لكان ذلك أربح لك، قال: فهم لوتيا أن يفعل ذلك فبعث الله تعالى إليه دابة فدخلت في منخره فوصلت إلى دماغه فضج الحوت إلى الله تعالى منها فأذن الله تعالى لها فخرجت، فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت، وهذا الحوت الذي أقسم الله تعالى به فقال تعالى “ن والقلم وما يسطرون” (القلم/ 1)، ثم قالوا: إن الأرض كانت تتكفأ على الماء كما تتكفأ السفينة على الماء فأرساها تعالى بالجبال وذلك قوله تعالى “والجبال أرساها” (النازعات/ 32)، وقوله تعالى “والجبال أوتادا” (النبأ/ 7)، وقوله تعالى “وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم” (النحل/ 15) يعني لكيلا تتحرك بكم، وخلق الله تعالى جبلا عظيما من زبرجدة خضرة السماء منه يقال له جبل قاف، فأحاط بها كلها، وهو الذي أقسم الله به فقال “ق، والقرآن المجيد” (ق/ 1) انتهت الرواية، ولم تنته الخرافات والأساطير وهذا طبعا كلام لا يستقيم ولا يقبله الشرع الإسلامي الحنيف وإنما هي مدسوسات ملفقة أدخلت على التفاسير وأقحمت فيها بعض الآيات القرآنية حتى يظن العوام أنها تفسير لهذه الآيات لكن العاقل اللبيب إذا أمعن النظر فيها اكتشف خداعها وزيغها وضلالاتها.

المثال الثاني: رحلات الإنسان في الفضاء: الآية القرآنية التي يقول الله فيها “يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان” (الرحمن/ 33) فسرت في الكتب التي أشرنا إليها سابقا بأنها (محاولة الإنسان والجن الهروب من الحساب، وأنهم لن يستطيعوا ذلك إلا بالقوة التي تفوق قوة ربكم، وذلك مستحيل ثم يمضي التفسير قائلا بأن الله سبحانه “حذر العصاة من محاولة الهرب إذ سيرسل عليهم شواظ من نار ولهيب ولكن إذا نظرنا إلى هذه الضلالات وجدنا أن العقل والمنطق لا يقول بوجود سموات وأرض يوم القيامة حتى يحاول الجن والإنس الهرب منها؟.

المثال الثالث: خروج دابة الأرض: في الآية الكريمة “وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون” (النمل/ 82) فسر القدامى المقصود بهذه الدابة بأنها الإنسان ومنهم من قال بأنها علي بن أبي طالب، ومنهم من قال بأنها عصى موسى ومنهم من قال ما نصه: (دابة هي الجساسة، وطولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان وقيل لها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن أيل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هرة وذنب كبش وخف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعا تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية فتقول: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون وتقول ألا لعنة الله على الظالمين أو تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام أو بأن هذا مؤمن وهذا كافر. انتهت الرواية ولتنظر ما حوته من أمور مثيرة للقيء أو الضحك الساخر.

المثال الرابع: في قصة داود عليه السلام: جاء في القرآن الكريم قول الله تعالى: “وهل أتاك نبأ الخصم إذا تسوروا المحراب…” (سورة ص/ 21) وجاء في آخر هذه القصة قول الله تعالى: “وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك إن له عندنا لزلفى وحسن مئاب” (ص/ 24، 25) وظاهر هذا يقتضي أن لداود ذنبا فما عسى أن يكون؟ إذا قرأت بعض التفاسير القديمة رأيت قصة مكذوبة تسيء إلى هذا الرسول الكريم خلاصتها أن داود كان يصلي في محرابه مغلقا بابه عليه وبينما كان يقرأ الزبور رأى الشيطان في صورة حمامة من ذهب فمد يده ليأخذها لابن صغير له فطارت إلى كوة –نافذة صغيرة- فتبعها فأبصر امرأة جميلة نفضت شعرها فتغطى به بدنها وكانت زوجة لرجل اسمه (أوريا) من غزاة البلقاء فكتب إلى قائد البعث أن يقدمه على التابوت، وكان من تقدمه لا يحل له الرجوع حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد ففعل فانتصر ولم يصب أوريا فأمر بتقديمه ثانية وثالثة حتى قتل فلما بلغ داود موته لم يحزن عليه، كما يحزن على الشهداء وتزوج امرأته) هذا الذي ذكرنا هو بعض افتراءات اليهود على هذا الرسول فبئس ما يفترون وإن أحسن ما قيل في ذنب داود: إن الخصم الذين تسوروا عليه كانوا من الإنس وإنه فزع منهم لأنهم دخلوا عليه من غير الطريق المعتاد في يوم خصه بالعبادة وكان وحيدا فظن أنهم جاءوا لاغتياله وأن الله فتنه بهم فلما برز منهم اثنان للتحاكم اتضح أنهم جاءوا للتقاضي وفهم أنه أساء الظن بالله فخر ساجدا منيبا إلى الله مستغفرا من هذا الذنب فهذا الظن هو ذنبه وزلته بدليل قول الله تعالى وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب، فغفرنا له ذلك أي غفرنا له ذلك الظن.

المثال الخامس: في قصة سليمان عليه السلام: يقول الله تعالى “ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق” (ص/ 31، 32) لقد فسرت هذه الآيات قديما بأن سيدنا سليمان عليه السلام لما عرضت عليه الخيل في وقت صلاة العصر شغلته وألهته عن الصلاة فتملكه الغضب وأخذ يقطع سيقان الخيول وأعناقها بالسيف.

إن هذا التفسير ينافي ما جاء في الآيات ذاتها من أن سليمان عليه السلام كان نعم العبد والأواب فكيف يصدر عن نبي أثنى عليه القرآن هذا الثناء أن يكون قاسيا إلى حد قتل الخيول البريئة التي هي عدة المؤمنين في قتال أعداء الدين والذود عن حياض الأوطان بغير ذنب جنته؟

ولقد فسرت هذه الآيات بعد ذلك بصور تفسيرا معقولا أقرب إلى الواقع المفهوم وهو أن سليمان عليه السلام عرضت عليه بعد الظهر الخيل الأصيلة التي تسكن حين وقوفها.

وتسرع حين سيرها فقال سليمان: إني شربت حب الخيل لأنها عدة الخير وهو الجهاد في سبيل الله وإن حبها نشأ عن ذكري لربي وما زال مشغولا بعرضها حتى غابت عن ناظريه ثم أنه أمر بردها عليه ليتعرف أحوالها فأخذ يمسح سوقها وأعناقها ترفقا بها وحبا لها واستئناسا لها وبعد أن تقدم العلم كثيرا وجدنا أن الإنسان توصل في مجال الطب البيطري إلى أن ما فعله سليمان عليه السلام هو الأسلوب الأمثل في معاملة الحيوانات واستئناسها حيث يدخل ذلك عليها الاطمئنان والهدوء وهكذا يتضح لنا الفرق الشاسع بين التفسير القديم المكذوب وبين التفسير الذي عرضناه الآن لهذه الآيات القرآنية.

المثال السادس: الأرضون السبع: يقول الله سبحانه: “الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن (الطلاق/ 12) يقول بعض المفسرين القدامى: إنها سبع أرضين وبين كل أرض والتي تليها خمسمائة عام والأولى منها على ظهر حوت قد التقى طرفها في السماء والحوت على صخرة والصخرة بين ملك والثانية مسكن الريح والثالثة فيها حجارة جهنم والرابعة فيها كبريت والخامسة فيها حياتها والسادسة فيها عقاربها والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه يطلقه الله لمن يشاء.

هكذا ظاهر الافتراء وفيه يقول الذهبي هذا حديث منكر لا يعول عليه أصلا يعني أنه موضوع مكذوب فلا يعتمد عليه ولا يؤخذ به.

مصادر هذه الخرافات: من المعروف أن سلف المسلمين الأوائل كانوا على درجة كبيرة من الخشية والتقوى والورع كما أن تلاميذهم كانوا هم أيضا كذلك بالإضافة إلى ذلك كان الذين برعوا منهم في العلوم الكونية أمثال الفارابي والبيروني والكندي وغيرهم علماء أفذاذ والذي يقرأ في حضارة الإسلام يجد هؤلاء العلماء الذين انتشروا في العالم الإسلامي بمثابة زعماء مدارس بحثية ومذاهب علمية حيث أسسوا قواعد علوم كالرياضيات والطب والهندسة والأحياء والصيدلة والفلك حتى إن بغداد كانت مركزا لأبحاث الفضاء وقتذاك.

إلا أن الدسائس التي دست في كتب تفسير القرآن أو الروايات الضعيفة التي سقنا نماذج منها والتي وردت في تفسير القرآن خطأ لدراساتهم يهتمون أكثر اهتمامهم بالشرعيات والأمور الفقهية ولكن إذا تكلموا في تفسير الآيات الكونية لم يولوها اهتمام الشرعيات ولم يتخذوا الحيطة الكافية وبذلك نقلوا عن كتب قديمة تتكلم في هذه المسائل والتي تحوي نظريات قال بها قدماء المصريين مثلا في خلق الأرض حيث ادعوا أن الأرض والسموات محمولة على قرن (إله) كالثور يسمى (أطلس) جغرافي. ولعل من الأسباب أيضا الروايات المكذوبة التي دسها اليهود والكائدون من أهل الكتاب بين دفتي المصحف تارة وبين أوراق كتب تفسير تارة أخرى حتى توارثها الأجيال وأعادوا نسخها بما دس فيه من روايات ضالة وأساطير وخرافات حتى وصلت إلينا وكأنها من التفسير نفسه.

الحق أحق أن يتبع: بعد هذا الذي عرضناه من أمثلة للإسرائيليات التي توجد في بعض كتب التفاسير والتي لا تزال تتداول حتى يومنا هذا فهل بعد هذا سبب يؤدي برجال العلوم الدينية أن يأخذوا بالمكتشفات العلمية الحديثة في الدعوة الإسلامية وأساس جوهرها الكتاب العزيز القرآن الكريم. إن على رجال العلوم الدينية مسئولية الأخذ بما يقدمه علماء التخصصات الكونية من المسلمين أو حتى يجدوه من العلماء من غير المسلمين بعد أن يقيسوه بمقاييس العقل الإسلامي الراشد والحس الديني المرهف، إنه أضحى على رجال العلوم الدينية الآن أهمية الرجوع إلى أهل الذكر من كل تخصص يسمعون منهم ما وصل إليه العلم الحديث في كل مجال من مجالات الظواهر والأمور التي جاءت فيها الآيات القرآنية الكونية.

ثم عليهم أن يلفظوا كل ما من شأنه فرض سلطة روحية ودينية على الفكر الإنساني والأبحاث التجريبية والدراسات العلمية والمكتشفات العملية عليهم أن يطلقوا للعقل العنان حتى يمكن أن ينتهوا إلى أعظم النتائج وأفضل الثمرات التي وصلت إليها البشرية والتي توجد قواعدها وبذورها في آيات القرآن الحكيم فإذا كان رجال العلوم الدينية يهتمون أولا بشرح الأمور التعبدية التي وردت في القرآن فهذه آيات من نوع معين ولكن هناك آيات من نوع آخر إنها آيات الخلق والإيجاد والإبداع في هذا الكون الفسيح ومحتوياته وهي التي يعصر فيها علماء الكون أفكارهم ويفكرون في أمورها بعقولهم ويبحثون فيها بأدواتهم ووسائلهم حتى يكشفوا عن أمور تأخذ بعقول أولي الألباب عظمتها.

ثانيا: بالنسبة لرجال العلوم الكونية والتخصصات المدنية: مما لا شك فيه أن المزالق والسقطات التي يقع فيها رجال العلوم الكونية من المسلمين الغيورين مرجعها هو عقد سباق بين القرآن وبين العلوم الحديثة من حيث مجالات البحوث العلمية وليؤكدوا سبق القرآن في طرق أبوابها قبل توصل العلوم الحديثة إلى معرفتها وكأنهم بذلك يريدون جعل القرآن موسوعة فلك أو كتابا في الهندسة أو الحساب أو دراسة الحيوان والنبات والفيزياء والكيمياء. وإليك أيها القارئ أمثلة للإسراف في ما يسمى التفسير العلمي للآيات الكونية لنرى خطورة ما جره هذا الإسراف أو هذا العميق غير الواعي من انحراف بجوهر الآيات النقي السليم:

المثال الأول: إن الإنسان حين ركب الفضاء وراح يتجول في ربوعه ظهر من يقول بأن هذا المركب هو المقصود بالدابة التي تخرج لتكلم الناس إشارة إلى الآية الكريمة “وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون” (النمل/ 82) ثم قال آخر: بل هذا التفسير قول الله: “يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان” (الرحمن/ 33) وإن هذا السلطان هو العلم ولكن لم يفطن هؤلاء إلى أن الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلا إن لهذه الآيات معانٍ أكثر وضوحا ورحابة على علماء الأمة الإسلامية وباحثيها أن يجلوها لنا حتى يحسم الأمر في الكلام عنها.

المثال الثاني: لقد غالى بعض رجال العلوم في تفسيرهم حينما حملوا الآية الكريمة “والفجر وليال عشر والشفع والوتر” (الفجر/ 1- 3) على أنها إشارة إلى أن الفراعنة كانوا يحنطون أجسادهم في الفجر بعد عشر ليال من موتهم أي ربط هذا بين الآية الكريمة وبين ما كان يحدث في عهد الفراعنة‍‍‍.

المثال الثالث: حينما توصل العلم الحديث إلى أنه توجد جسيمات أصغر من الذرة في الوجود، قالوا بسبق القرآن لهذه العلوم حيث قرروا في النص القرآني “وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين” (سبأ/ 3).

بأنه توجد جسيمات أصغر من الذرة وهم إذ يعقدون هذا السباق بين القرآن والعلوم الحديثة لم يفطنوا إلى شيء هام جدا وهو أن كلمة ذرة تلك التي ذكرت هي في اللغة هباءة وتعني هنا التقليل والتصغير والتهوين بمعنى الخردلة والنقير وغيره مما ذكر في مواضع أخرى من القرآن وأما الذين ترجموا المصطلح الأجنبي
(Atom) بكلمة (ذرة) اخطئوا رغم تقبلنا لهذه الترجمة وشيوعها في الكتب والمؤلفات ذلك لأن حرف (A) دخل على Tom فنفاها فأصبحت Atom تطلق على الشيء عديم الانقسام إلى أجزاء فأتى من قام بنقلها إلى العربية ليترجمها بلفظة ذرة ثم ترتب على هذه الترجمة الخاطئة أقوالنا حتى ولو مست آيات القرآن.

المثال الرابع: نشرت منذ مدة رسالة في التفسير ما يسمى (رسالة الفتح)، وتقع في 146 صفحة، فسر مؤلفها آيات القرآن تفسيرا معوجا جانب فيه العقل والنقل ولغة العرب، وكان في تفسيره كالذي يدخل البيوت من ظهورها نقتطف من هذه المنكرات ما يلي:

(أ) طعن المؤلف في المعاجم اللغوية: ننقل من رسالة المؤلف في هذا الشأن ما يلي: (إن عصابة الماسونية التي ظهرت بعد الجيل الثالث من صدر الإسلام، تعاهدوا في الخفاء على تحريف معاني القرآن التي أرادوا تحريفها، بعد فشلهم في تحريف ألفاظه واتخذوا لها معنى يخرجها عن مواضعها، ثم فسروا القرآن بالتفسيرات التي ظهرت بعد الجيل الثالث –عصر التدوين والتأليف- أيام خلافة العباسيين كما حرفوا شعر الخضر، ودونوا أحاديث مكذوبة وقاموا بخلق مصنفات ملفقة في اللغة نسب إلى أصحابها زورا، كالصحاح والقاموس واللسان، واستقام لسان العرب على هذا التحريف الذي حصل في الخفاء ولم يشعروا به) وفي معرض الرد على هذه الأباطيل يقول الشيخ مصطفى الطير: إذا كانت اللغة العربية التي وصلت إلينا قد تغيرت وكان الماسون هم الذين غيروها فمن أين جاء المؤلف بتفسير للقرآن هل نزل عليه وحي باللغة الصحيحة التي محت تفسيرات المعاجم التي غيرها الماسون وزوروها كما زوروا تفسيرات القرآن كما زعم المؤلف، يا لها من جرأة تافهة واهنة كبيت العنكبوت أو هي أوهن، هكذا دخل الغرور المؤلف وجانبه الحق.

ولم يقتصر المؤلف على هذا القدر من الادعاءات بل زعم أمورا خطيرة فقد أنكر وجود بعض الأئمة من رواة الحديث كأبي هريرة وأبي ذر، وأنكر وجود المسجد الأقصى وإسراء النبي صلى الله عليه وسلم إليه.

(ب) تأويل السبع بقرات المذكورة في سورة يوسف: يقول المؤلف في تفسير قول الله تعالى على لسان فرعون مصر “إني أربع سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وآخر يابسات” (يوسف/ 43) يقول المؤلف: معنى بقرة (طائرة)، فقد رأى العزيز في المنام سبع طيور سمان يأكلهن سبع عجاف، والتي سماها المحرفون (بقرة) واستقام لسان العرب على المعنى المحرف بعد الجيل الثالث الإسلامي، تلك الماشية اسمها (المها) والمها لا تأكل المها، أما الطير فبعضه يأكل بعضا ثم يقول إن الإنسان العربي تداول المعاني الحديثة حتى نسبت إلى لغة العرب ودونت في كتب فقه اللغة مثل كتاب الصحاح لمن سموه (الجوهري) ومثل كتاب لسان العرب لمن سموه (ابن منظور).

وفي معرض الرد على هذه الافتراءات يقول الشيخ الطير: مع غض الطرف عن سوء التركيب وفساد العبارات كيف يجهد المؤلف نفسه وهو يقرأ في الآية أنها رؤيا ملك مصر، ولا يمتنع في المنام أن يرى البقرات بمعناها –اللغوي المعروف- تأكل عجافها سمانها، تمثيلا لسنوات الجدب التي تتلوا سنوات الخصب والخضرة وفيها يأكل الناس المخزون من محاصيل السنوات الخصيبة ذات الزروع الخضراء والحبوب الوفيرة ليتهيأ الملك لخزن المحاصيل الزراعية من السنوات الخضراء للسنوات الجدباء بعد أن يعرف تأويل رؤياه.

ثم ما الذي استفاده المؤلف من جعله البقرات طيورا وما هو الخطر الذي تفاداه بهذا التأويل الفاسد الذي لم يقل به أحد.

(ج) تأويل بقرة بني إسرائيل: أتى المؤلف بالعجب العجاب في تفسير قول الله تعالى “إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة” (البقرة/ 67) إذ قال في صفحة 12 من رسالته المشئومة البقرة أي (دجاجة) لا فارض لم ينقطع منها البيض، عوان بين ذلك وسط بين الصغيرة والمسنة، تبيض البيض، صفراء فاقع لونها تسر الناظرين صفراء اسم الطائر المسمى الإوز، والبط. لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، مسلمة لا شية فيها تلك صفة الغراب، فالغراب بقرة ليست بذلول مسلمة يحجل إذا سار.

تفجير الفراعنة للذرة وشق مجري النيل: يقول المؤلف في صفحة 19 من رسالته: إن سر الحضارة للفراعنة هو معرفتهم لعلم تفجير الذرة الذي ورثوه عن قوم ثمود، الذين عاشوا في بلاد النوبة جنوب صعيد مصر وأرسل فيهم صالح رسولا واتخذ من أشعة الذرة سبيلا لشق مجرى نهر النيل وقطعوا حاجز الصخور وجرى ماء النيل في المجرى الحالي.

إن هذا يبدو أفظع افتراء قال به شخص على التاريخ وعلى الحقيقة فثمود هي عاد الثانية وهم قبيلة من العرب مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى في طريق الذاهب من المدينة إلى تبوك ثم نهر النيل اتخذ مجراه من أعلى إلى أدنى وهو يجري هبوطا إلى مصبه وهكذا تتضح افتراءات المؤلف وينتشر هراؤه في رسالة الهدم والفتنة لما كانت محشوة بالأكاذيب والأباطيل فهي بحق عمل مقصود به طعن القرآن كتاب الإسلام الخالد ومما يدل على ذلك أنها كانت توزع مجانا بدون مقابل.

المثال الخامس: ظهر كتاب بعنوان (القرآن- محاولة لفهم عصري) منذ فترة قريبة والكتاب مكتوب بأسلوب أدبي أخاذ وكان مؤلفه كما يبدو ويريد الوصول إلى عقول المثقفين المعاصرين خصوصا أصحاب الثقافات العلمية منهم إلا أن هذا الكتاب محتو على بعض الأمور الخطيرة التي تفتح الباب أمام المغرضين والهدامين والمفسدين ليصرفوا القرآن عن ظاهره فيهرفون بما لا يعرفون ولكن رغم أننا نلتمس الأعذار للمؤلف حيث أن نيته كما يبدو كانت مخلصة فيما وقع فيه من زلات وما انكفأ فيه من مزالق وسوف نورد نماذج من المآخذ التي أخذها عليه الشيخ الطير:

ورغم أن المؤلف حمل على الباطنية والبهائية في تأويلاتهم الباطلة ونعى عليهم في قوله: (ومن ذلك قولهم في عصا موسى أنها رمز إلى شريعته، وفي غنمه التي يهش بعصاه عليها أنها شعبه، وفي التقام عصاه لثعابين السحرة أنه رمز لإبطال شريعته لآفات الباطل والبرهان وفي إحياء عيسى للموتى إنه رمز إلى إحيائه لقلوب شعبه الميت، وفي الشياطين أنها رمز الحواس والرغبات والشهوات وفي الملائكة أنها رمز إلى الخواطر الطيبة)، مع أن المؤلف يهاجم أولئك الذين يؤولون القرآن تأويلات باطلة إلا أنه قد وقع فيما حذر منه ولم ينفعه حذره، ولعل النماذج التالية توضح ذلك:

(أ) رأي المؤلف في خلق آدم: قرر القرآن أن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون ومن صلصال، ومع أن المؤلف يوجب على نفسه الالتزام بالنص القرآني فإنه يخالف أشد المخالفة في صفحة رقم (52) من كتابه –طبعة القاهرة- إذ يقول:.. وفي هذه الآية “ولقد خلقناكم ثم صورناكم يحدد أن خلق الإنسان تم على مراحل زمنية، والزمن بالمعنى الإلهي طويل جدا، وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وفي مكان آخر (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يقول: قال المؤلف: خلقناكم ثم صورناكم ثم اكتملت الصورة بتخليق آدم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم “فمعنى هذا أن جاء عبر مراحل من التخليق والتصوير والتسوية استغرقت ملايين السنين بزماننا وأياما بزمان الله الأبدي.

وقال في قول الله وقد خلقكم أطوارا معناها أنه كان آدم صور صنوف من الخلائق جاء هو ذروة لها، هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إشارة إلى مرحلة بائدة من الدهر لم يكن الإنسان يساوي فيها شيئا يذكر.

ثم قال في صفحة رقم (53) –من نفس الطبعة-: وأعجبني في كتاب للمفكر الإسلامي محمود طه بعنوان (رسالة صلاة) تعبير جميل يقول فيه (إن الله استل آدم استلالا من الماء والطين ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إنه الانبثاق من الطين درجة درجة وخطوة خطوة من الأميبا إلى الإسفنج إلى الحيوانات الرخوة إلى الحيوانات القشرية إلى الفقريات إلى الأسماك إلى الزواحف إلى الطيور إلى الثدييات إلى أعلى مرتبة آدمية بفضل الله وهديه).

من الملاحظ أن مؤلف الكتاب محل النظر قد أعجبه رأي داروين ونظريته في نشوء الخلق، هذه النظرية التي كثر ناقدوها قديما وحديثا حتى لأضحى شبه إجماع من العلماء والأفذاذ على تصدع هذه النظرية وليس هنا محل نقدها.

(ب) رأي المؤلف أن آدم الجنة غير آدم الأرض: يقول المؤلف في كتابه –من نفس الطبعة- صفحة (53) في تفسير قول الله تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم: إن ما حدث من انبثاق آدم من الماء والطين، على مراحل تطورية في الأرض ردة وانتكاسا وعقابا لخطيئة سوف نفهم تفاصيلها، فقد خلق الله آدم في أحسن تقويم كاملا لا عيب فيه لا يمرض ولا يموت وقال المؤلف بعد ذلك ما ملخصه: إن الله خلق له من نفسه زوجة وأسكنها في كوكب الجنة –كما قال- وأسجد له الملائكة، واشترط عليه لتدوم هذه النعم أن لا يأكل من شجرة عينها له، كل هذا حدث في السموات وهو من قبيل الغيب المطلق الذي لا يحيط به علما وقد جرى في الأزل قبل الرحلة الأرضية للوجود الآدمي ثم يعود المؤلف إلى ذات الموضوع من نفس الطبعة في صفحات 56، 57 فيقرر أن آدم أكل من الشجرة بإغراء إبليس وحق عليه عقاب الطرد والإهباط من تلك الجنة إلى الأرض وأن ذلك هو المقصود برده إلى أسفل السافلين إلى طين المستنقعات وهذه المرة إلى مجرد جرثومة في طين الأرض إلى نقطة بدء أولى من الخلية وإن آدم تدرج عبر خمسة آلاف مليون سنة. ثم قال المؤلف: وأثاب الله آدم على توبته بأن هواه في رحلته الدامية حتى وقف على قدميه محاكيا آدم الأول- آدم الصورة آدم المثال، الذي خلقه الله في الملكوت ولكنه في هذه المرة آدم جديد يولد ويمرض ويكدح ليعيش ثم يموت…الخ.

كل هذه مذاهب ذهبها المؤلف نقضت ما اتخذه مبدأ لنفسه وهو عدم التأويل الباطل فإذا به يقع فيه هنا، فكيف يعاقب الله آدم الأرض بخطيئة آدم الجنة، وهو القائل سبحانه لا تزر وازرة وزر أخرى ثم كيف يفهم النص الكريم لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون. فكون آدم أهبطه الله إلى الأرض وقلبه جرثومة في طين المستنقعات –على حد تعبير المؤلف- بدءا لخلقه الأرضي، وأن هذا هو تفسير قول الله ثم رددناه أسفل سافلين فكيف يفسر المؤلف الاستثناء الوارد مباشرة بعد هذه الآية إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات هل هؤلاء المؤمنون فريق استثناه الله من طريقة خلق آدم الأرضي هذا فهم غير مستقيم لتفسير هذه الآيات

والنقاط التي يمكن مؤاخذة المؤلف عليها متعددة في كتابة هذا كالتناقض في رأيه حول نعيم الجنة وعذاب النار الذي ورد الكلام فيه في صفحة 65 حتى 81، ورأيه الذي يثير الضحك في غض الأبصار الذي تكلم عنه في (فصل الحلال والحرام) صفحة 85 حتى جعل المتبصصين على الصدور والنهود والسيقان مسبحين بحمد ربهم إلى غير ذلك من مواضع زل فيها قلم المؤلف وسقطت قدماه وتناقضت آراؤه وهذا بيان وإيضاح لنماذج من تأويلات ضالة وتقريرات باطلة في تفسير آيات من القرآن الكريم ويوضح هذا مدى الخطورة التي تجنى على القرآن من جراء أشخاص ولجوا ميدان تفسيره بلا قارب ولا طوق نجاة.

المثال السادس: ظهر منذ سنوات قليلة كتاب بعنوان (معجزة الأرقام والترقيم في القرآن الكريم) قرر مؤلفه في فصل (من إعجاز القرآن في الرقم 19) ما يلي: إن آية القرآن الكريم التي ورد فيها رقم 19 وكذلك الآيات التي توضح أسباب ذكر هذا الرقم وأهدافه نصها الشريف هو: سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر، وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب … وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر (المدثر/ 26- 31) وبالتدبر فيها والتفكير فيما جاء بها نجد أن الرقم قد تحدد والعدد قد تقرر ووضح السبب من ذكره، وتبين القصد والهدف من إيراده أن جهنم عليها تسعة عشر وأن هؤلاء التسعة عشر من الملائكة وأنهم أصحاب النار، وأن سبب ذكر هذا العدد هو سبيل كشف المنافقين الذين في قلوبهم مرض وبيان كفر الكافرين بما يعلنون من الجدل في هذا العدد ودراسته والاختلاف عليه أثناء مناقشته ويستمر المؤلف في سرد المواضع التي ورد بها الرقم 19 إما عددا لحروف آية أو عددا لكلمات آيات ذات مناسبة معينة وما شابه ذلك، وهذا كله مفيد ومستقيم ولكن قد ظهر منذ مدة كتيب لأحد المتعاملين شحنه بما قاله الكمبيوتر ولكنه فسره تفسيرات خاطئة وذهب بها مذاهب ضالة منحرفة، فلقد قال في صفحة 13 ما نصه: (نحن نعلم أن الآية الأولى التي نزل بها سيدنا جبريل عليه السلام على قلب النبي صلى الله عليه وسلم هي من سورة العلق “اقرأ باسم ربك الذي خلق” وسورة العلق تتكون من 19 آية، وترتيبها إذا بدأنا بتعداد القرآن من الخلف عند الرقم 19، ثم جاء الوحي بالآيات من سورة القلم “ن والقلم وما يسطرون” وبعدها تأتي الآيات الأولى من سورة المزمل وفي المرة الرابعة وهو الحدث الهام نزل الوحي بالآيات المذكورة في سورة المدثر حتى قوله تعالى “عليها تسعة عشر” والشيء العجيب حقا أن الوحي الأمين أنزل عقب آية عليها تسعة بالضبط سورة الفاتحة بكاملها وهي أول سورة كاملة ينزل بها جبريل عليه السلام بإجماع العلماء فنلاحظ هنا أنه أتبع آية عليها تسعة عشر مباشرة بـ بسم الله الرحمن الرحيم (المكونة من 19 حرفا).

ومن قبل ذلك قال في صفحة 11 ما نصه: (فماذا يعني بقوله 19؟ هل يعني أن الإنسان الذي يعتقد أن القرآن من قول البشر سيعذب وسيكون عذابه تحت إشراف تسعة عشر وهذا هو التفسير المتفق عليه من قبل العلماء القدماء فالتسعة عشر (عند المفسرين القدماء) هم حراس جهنم زبانية جهنم لكن إذا تتبعنا قراءة الآيات التالية نرى في الآية الكريمة السابقة عليها تسعة عشر وفي ضوء المعلومات الجديدة التي سنراها هناك تفسيرا جديدا لمعنى تسعة عشر وهي عدد حروف الآية القرآنية المفتتح فيها القرآن بـ بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقول في صفحة 12 ما نصه: (إذا فالرقم 19 ليس هو عدد زبانية جهنم كما كنا نعتقد وكما فسر العلماء القدماء… هذا ما يظهر في القرآن الكريم من تفسير للرقم (تسعة عشر) ومن الدلائل التي تؤيد هذا التفسير أن رقم (19) الذي ذكر في القرآن الكريم يقصد به الله سبحانه وتعالى عدد حروف البسملة ما يأتي) ثم ذكر ما أوردناه صفحة 13 من كتيبه.

وللرد على هذا الهراء يقول المستشار/ حسين محي الدين ما نصه:

أولا: على فرض صحة نزول الفاتحة بعد آية عليها تسعة عشر من سورة المدثر وعلى فرض أن البسملة تسعة عشر حرفا مع كونها عشرين حرفا بإثبات ألف الرحمن نطقا نقول على فرض ذلك كله فليس مفاد ذلك ومؤداه أن عدد تسعة عشرة يعني به الله حروف البسملة فسياق الآيات يستعصي تماما على أن يؤدي إلى هذا الهراء نقول: إن حروف البسملة وإن كانت تسعة عشر حرفا حسب عدد بعضهم ومع كون ملائكة جهنم تسعة عشر ملكا فليس معنى ذلك أن زبانية جهنم هم حروف البسملة لمجرد التشابه في العدد، فالتسعة عشر رجلا ليسوا هم النساء البالغ عددهن تسع عشرة امرأة لمجرد التوافق في العدد وليس البرتقال البالغ عشرين برتقالة هو الباذنجان البالغ عشرين باذنجانة لمجرد التساوي في العدد ومن يقول ذلك فهو ذاهب العقل عديم الإدراك. هذا ويمكننا أن نقرر بديهة عقلية لا يتعلق بها شك هي أنه لا ارتباط في المعنى بين جملة وأخرى إذا اقتصر التشابه بينهما على أن عدد حروف الأولى يساوي عدد حروف الثانية فمجرد هذا التوافق في العدد لا يوجب ارتباطا بين الجملتين من حيث المعنى ولا تكمل إحداهما الأخرى.

ثانيا: ربما نفى أحدهم اتخاذه من التوافق والتشابه في العدد دليلا على الزعم الذي سجله وهو إنكار ملائكة النار ورب قائل بأن الدليل عنده هو ترتيب نزول الآيات فإن البسملة التي هي أول آية في الفاتحة والتي هي تسعة عشر حرفا نزلت مباشرة بعد آية عليها تسعة عشر التي هي في سورة المدثر.

وللرد على هذا التلبيس الذي هو من همزات إبليس نقرر أن نزول آية بعد آية لا عبرة له في الربط بينهما وأن العبرة في ذلك بترتيب ورودهما بالمصحف وبيان ذلك أن الآيات كانت تنزل بمناسبة حوادث معينة أو إجابة عن أسئلة موجهة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ويؤمر الرسول الكريم بوضعها في سورة معينة ويحدد له جبريل عليه السلام موضعها في هذه السورة أي بعد آية كذا وقبل آية كذا فترتيب الآيات في المصحف كان بأمر من الله وليس من فعل الرسول.

وما يقال في الآيات يقال في السور فإن نزول سورة بعد سورة لا علاقة له على الإطلاق بتفسير السورة اللاحقة لمعاني أو مراد السورة السابقة والأمثلة كثيرة بعدد سور القرآن: فسورة الفلق نزلت بعد سورة الفيل وهي لا تفسرها ولا جامع بينهما وسورة الإخلاص نزلت بعد سورة الناس وهي لا تتصل بها ولا يرتبطان بجامع مشترك بينهما وهكذا.

ثالثا: لم يرد في القرآن كله ما يفيد أن جهنم عليها تسعة عشر حرفا هي حروف البسملة ولم يرد في أقوال سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم وهو المبين للقرآن ما يشير من قريب أو من بعيد إلى هذا الهراء.

رابعا: بل الذي ورد في القرآن صريح وقاطع في كون التسعة عشر هي عدة أصحاب النار وقد ورد هذا المقطع الجازم في آية لاحقة لآية عليها تسعة عشر مباشرة في آية وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وبإعمال القاعدة المنطقية والشرعية في تفسير القرآن بمراعاة ترتيب المصحف لا ترتيب النزول يكون أصحاب النار الذين هم ليسوا إلا ملائكة هم المحددين عددا بتسعة عشر.

وفي التأكيد أنهم ملائكة ذوات أرواح وليسوا حروفا ونقوشا وصفهم الله بالحياة حين وصفهم بالغلظة والشدة وأنهم لا يخالفون الله عن أمره وأنهم يفعلون ما يؤمرون ورب قائل يقول: إن الله قادر على أن يأمر الحروف فتدب فيها الحياة يأمرها فتطيع وتصير غليظة شديدة على أهل جهنم ونقول جوابا:

1- أما وقد أصبحت هذه الحروف ذات حياة وأصبحت غليظة شديدة فلماذا لا نسميها بتسمية الله إياها لماذا لا نسميها ملائكة.

2- هذا وما الحكمة –على الغرض السابق- في كون الله يخلق حروفا ابتداء ثم يجعلهم ملائكة انتهاء أليس بقادر على أن يخلقهم ملائكة ابتداء دون اللجوء إلى التصيير والتحويل.

3- ثم كيف يرتاح عاقل إلى أن حروف الرحمة –وهي حروف البسملة- تنقلب (إذا انقلبت) إلى ملائكة غضب ونقمة أما كان الأنسب أن تنقلب إلى ملائكة رضوان ورحمة.

المثال السابع: بعض الناس يقول إن الآيات الكريمة والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين (التين 1- 3) تشير إلى بوذا حيث بات ليلة تحت شجرة من فصيلة التين، والزيتون إشارة إلى رسالة عيسى وطور سنين إشارة إلى رسالة موسى وهذا البلد الأمين رمز النبوة المحمدية أهكذا نفهم الآيات!! إن هذا لشيء عجيب إنه لمن المعروف أن بوذا لم يرسل من السماء، ولا نزل عليه وحي أو كتاب كما أنه لا يقول بالآخرة ولا يؤمن بثوابها وعقابها وطلب من الناس أن يشتغلوا بأمر الخالق والغيب ولا يقيمون عبادة أصلا فكيف إذا الربط بين بوذا وباقي المرسلين؟!!

المثال الثامن: في فهم الآيات أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها، والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (الرعد/ 41) رأى بعض الناس المشتغلين بالعلم أن هذا سبق علمي للقرآن حيث أنه ثبت بالقياسات العلمية النقصان البطيء المستمر للمحور الطولي للأرض نتيجة دورانها. ولكن الذي يقرأ الآيات السابقة واللاحقة للآيات المذكورة سابقا يجد المفهوم غير الذي ذهب إليه هؤلاء إذ المقصود العام هو انتقاص أرض الكفار بما فتحه الله للمؤمنين منها نشرا لدعوة الحق.

المثال التاسع: إننا لا يجوز أبدا أن نقول بأن القرآن بالآية وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم (الأنعام/ 38) قد سبق كارلوس لينيوس (Linnaeus) في وضع علم التصنيف، فالآية أولا ليس فيها تصنيف لا وفقا لنظام لينيوس ولا غيره من المصنفين ثم إن محاولات التصنيف ضاربة في التاريخ قبل لينيوس وإن كان هو واضع أسس المنهاج الذي يتبعه علماء الأحياء حتى الآن.

ثالثا: الشكل العام لتعميق المفاهيم العلمية للآيات الكونية: إنه لمن المحمود بل من الضروري والواجب الذي لا بد منه أن يكون هناك تبادل معرفة بين المسلمين في مختلف تخصصاتهم فيلتقي علماء العلوم الكونية بعلماء العلوم الشرعية فيُعلم علماء العلوم الشرعية علماء العلوم الكونية الأمور التعبدية التي تجعل صلاتهم وعبادتهم وصومهم وزكاتهم على مستوى مرضٍ ومقبول من الله تعالى ويلتقي علماء العلوم الكونية مع علماء العلوم الشرعية فيعرضوا عليهم كثيرا من شئون الحياة وليس شرطا في عالم الشرعيات أن يتعمق في الكيمياء والفيزياء والطب والفلك، وإنما المقصود في ذلك إلمامه وإحاطته بالكليات العلمية لا بالتفصيلات التخصصية فإذا أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى أهل التخصص في كل فرع من فروع العلوم كما أنه على رجال العلوم الكونية أن يحذروا الزلل والسقوط في المزالق حينما يتكلموا في إحدى القضايا في ذلك حتى لا يعتريه الشطط فيوقع الآيات في أمور لم تنزل هي من أجلها.

فعلينا إذا نبذ مسميات تفسير علمي أو تفسير عصري أو رؤية عصرية وإنما كل ما يقدمه أبناء الإسلام في هذا الميدان فهو تحقيقات أو تعميقات أو إجلاء لجوانب في الآية الكونية كما علينا أن ننفي عن هذه التعميقات أو التعليقات كونها تفسير بالرأي ذلك الذي له أهله ورجاله المتخصصون فيه.

وختاما فإذا ظهرت منذ سنوات قليلة جهود في سبيل تنفيذ الاقتراح الذي نتقدم به الآن فإنها لم تأخذ الشكل الذي نرنوا إليه حيث أننا نرى من وجهة النظر العلمية المنطلقة من منطلق الإسلام والغيرة على الدين والسعي للتمكين له في أرجاء الكرة الأرضية من هذا المنطلق ندعوا إلى شحذ الجهود بين رجال كافة التخصصات الشرعية والكونية مؤلفين في مجمع إسلامي على مستوى أكاديمي يضم علماء في اللغة وفي الفقه وفي الشريعة وفي تقنين القوانين وفي الطب بمختلف تخصصاته وفي الفلك وكل فروعه وفي علوم الأحياء من نبات وحيوان وحشرات وكائنات دنيا وفي الزراعة وفي الاقتصاد وفي التربية وفي العلوم الإنسانية وفي بقية فروع المعارف ومجالات العلم المتعددة كل من هؤلاء العلماء توكل إليه مسئولية التحقيق أو التعليق أو التعميق لآيات قرآنية معينة أو لموضوع معين ورد ذكره في القرآن، ثم يطبع هذا التفسير الموسوعي المعتمد الموثق بكل لغات العالم سواء ما تسمى الحية أو غيرها من لغات لا يسمع بها كثير من الناس ثم يدعم هذا التفسير من حيث الطباعة والنشر والتوزيع فلا يحول غلاء الأسعار دون وصوله إلى كل فاهم ومتوق لمثل هذا العمل الضخم الجليل.

كما أننا ندعوا إتماما للفائدة أن ينظر هذا المجمع الإسلامي في أمور هذا التفسير على رأس كل قرن يمضي من الزمان، على رأس كل نصف قرن فيضيف إلى المفاهيم ما يمن به الله على عقول البشر من مكتشفات مبتكرات وبحوث حتى تراه الأجيال المتلاحقة دائما واضح الإعجاز شديد الإقناع.

كما ندعو هذا المجمع الإسلامي إلى تفنيد الخرافات الأساطير الموجودة في بعض كتب التفسير وعرضها على العامة حتى يحذروها إلا أنه من الأفضل جمع هذه الكتب وحرقها ثم الأخذ على أيدي مروجيها بشدة ودون تراخٍ حتى لا يتطاول بعض الناس من الحاقدين على كتاب الله العزيز الذي هو جوهر الدين ومنهاج الإسلام وقانون المسلمين فإذا طعن فيه أو فسر على غير وجهه الصحيح فالخطر كل الخطر يقع بالمسلمين لا محالة الله سبحانه أسأل أن يوفق كل الساعين في سبيل إعلاء كلمته وتثبيت دينه الحنيف في كل بقعة من بقاع الأرض ذلك لأن الإسلام هو الدين الذي لن يصلح البشر إلا هو.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر