أبحاث

رعاية المعوقين في الإسلام

العدد 34

تمهيد:

الحديث عن المعوقين وبيان مركزهم القانوني والاجتماعي في نظم الإسلام واستعراض أوضاعهم في المجتمعات الإسلامية الفاضلة يقتضي تعجيل الإشارة إلى بعض مبادئ إسلامية لا بد من التنويه بها برغم كونها معروفة؛ لأن تصدير الكلام بها يكشف عما في
الإسلام من قواعد أصيلة لتوفير الحياة الطيبة للإنسان من حيث هو إنسان (ولقد كرمنا بني آدم)، ومن ثم يتجلى مدى رعايته الخاصة لبعض الفئات من حيث توفير مزيد من الحقوق، والإعفاء من بعض الواجبات، ليحصل التوازن والتكافؤ بين معطيات كل إنسان وقدراته، فيعيش المجتمع حياة كريمة سواء في ذلك من هو معافى ذو مرة سوي، ومن هو معوق ذو ضعف طارئ أو أصلي.

(أولا) أسس الرعاية العامة والخاصة:

أسس الرعاية:

1- إن الله ارتضى للتعامل بين الناس طريقين، هما العدل والإحسان وليس العدل وحده، فإن العدل مع أنه تبرأ به العهدة الفردية لكن الجماعة قد لا تنهض بالاقتصار عليه دون بسط الإحسان لمن لا يكفي العدل لرعايته ممن لا يقوى على المبادلة ليحظى بمعاملته بالمثل، فليس صلاح المجتمع إلا بالإحسان (والله يحب المحسنين)، ومن هنا ندرك أن العطاء لا يظهر أثره في هذا المجال إلا بعد التفوق على الوضع العام الشامل. ذلك أن المناداة بالاشتراك التام والمساواة –مع أنه شعار لا بد من رفعه لدرء أي انتقاص- قد لا يكفي الاقتصار عليه ما دامت ممارسة بعض الحقوق تتطلب شروطا وأهليات مفقودة في بعض الفئات لأسباب لا يد لهم في دفعها أو رفعها، وبذلك يتجلى سبق الإسلام لوضع المبدأين الكفيلين بتحقيق الهدف وهما “العدل والإحسان”.

2- إن الشريعة الإسلامية تقضي بمنح الحقوق الأساسية للإنسان من حيث هو إنسان، فحرية نفس الإنسان مصونة فمما أصبح شعارا بين المسلمين قولة عمر رضي الله عنه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) وعدالة القضاء لا إخلال بها مهما تفاوت الخصوم في الصفات ففي كتابه لأبي موسى الأشعري: (سوّ بين الخصوم). وضروريات العيش لا بد من توفيرها لكل محتاج ففي الحديث: “أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني” أي الأسير. وحيازة المباحات والسبق للمرافق العامة حق لا فضل فيه لأحد على أحد.

على أنه حين اشترط عنصر زائد عن صفة الإنسانية فإنه يأتي النص عليه واضحا، ويكون ربطه بمقصد تشريعي حكيم من مقاصد التشريع المحققة للمصلحة العامة.

3- مما يلحظ في منهج التشريع الإسلامي أن في إزاء كل حق من الحقوق الممنوحة نظائره من الواجبات المطلوبة أو الشروط المستلزمة، وبين كل من زمرتي الحقوق والواجبات تكافؤ وتعادل خفي. وهو أولى بالاهتمام من مبدأ التساوي الحسابي الذي يستروح إليه الكثيرون ببادئ النظر. فهذا التعادل بمثابة حساب تندرج فيه العناصر الدائنة والمدينة ومهما طال المدى فمآله التوازن عند الرصيد.

1- إن المزايا التي وفرها الإسلام لهذه الفئات تشمل الجانبين: الإيجابي المانح والسلبي المانع.. والهدف من الأمرين كليهما هو الرعاية بإسقاط ما يلزم الآخرين دونهم، وتسويغ ما لا يسوغ لغيرهم.. وذلك بقدر الحاجة والمصلحة.

2- إن المبادئ والنصوص والمعايير المتصلة بهذا المقصود تستخدم أساليب العموم، لتشمل النوعيات التي يعسر إحصاؤها وذلك من خلال صيغ تتسع لما تكشف عنه المدنية المعقدة من صور.

ولذلك نجد التعبير في الغالب عن فئة المعوقين باسم (الزمني) أي ذوي الأمراض المزمنة وهي تسمية فيها واقعية ودقة ولوحظ فيها (السبب) مع طابع الاستمرار في الضعف، وهو استمرار مفروض إلى أن يزول.

أما التسمية الحالية فقد روعي فيها النظر إلى (الأثر) وهو امتناع التصرف أو اختلاله.

ومن الواضح أن النصوص الشرعية التي اختصت بعض أنواع من هذه الفئات بالذكر إنما جاءت على سبيل المثال، أو على وفق الحواث الواقعة أثناء نزول القرآن وورود الحديث. والمخرج في ذلك هو ما تقضي به القاعدة المعروفة: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).

على أنه كثيرا ما تعالج هذه الفئة ضمن المبدأ العام الذي يشملها وسواها كلما أمكن؛ إذ لا خروج عن هذا إلا لاختلاف المناط وتفاوت الأحوال.

موقف الإسلام من أسباب التعويق:

من يتأمل الأسباب المؤدية للتعويق يتبين أنها بالتصنيف العلمي تنحصر في ثلاث زمر هي: بعض العاهات الخلقية- بعض الأمراض الخطيرة أو المزمنة- إصابات الحوادث العامة أو المرورية أو الحربية.

وبتصنيف أدق يلحظ أنها وراثية أو صحية أو جنائية. وقد وقف الإسلام من كل منها مواقف تقوم على الوقاية والتحرز للإبعاد عن مباشرتها، وأحيانا يرسم صورة الاحتراز قبل بزوغ الأسباب بزمن طويل.

أما الأسباب الوراثية والصحية فقد دعا الإسلام إلى القوة وحفظ الصحة الوقائية والعلاجية وحارب الضعف سواء أكان قاصرا أم متعديا إلى السلالات، ولا سيما ما ينشأ من الآفات التي تتصل بوهن البدن أو ضياع العقل حيث جعلها من كبائر الذنوب.. ثم دعا الآباء للتخير لنطفهم ولم يشجع الاقتران بالأقارب فقد جاءت في ذلك بعض الآثار عن الصحابة مما فهموه من مقاصد التشريع كقول عمر رضي الله عنه: “اغتربوا لا تضووا” أي لا يضعف نسلكم. ومن هذا وأمثاله يتبين أن مراعاة قواعد الصحة تقلل الأثر الذي يرثه الأبناء من نقص أو ضعف في البنية أو العاهات التي تعتريهم وهم أجنة في بطون أمهاتهم.

أما الأسباب الجنائية فالعمد منها عالجه الإسلام خير علاج بما وضعه من تشريعات حازمة في نظامه العقابي بحيث يتحقق الوازع الطبيعي الفطري عن ارتكاب جرائم الإصابات المعوقة. وصدق الله تعالى حيث يقول (ولكم في القصاص حياة) كما شرع في حالة الصلح والعفو عن القصاص أو تعذره أداء أموال طائلة دية للحواس والأطراف كثيرا ما تماثل دية النفس الكاملة.

ونظام القصاص والديات هو الوازع الحقيقي عن الاجتراء على حرمة الأبدان والذي اهتدى إلى خصائصه حكماء العرب قبل الإسلام حين قالوا: (الدم أنفى للدم).

وفي التحذير من إلحاق الأذى والعدوان على حرمتها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى يوم القيامة بين الناس في الدماء) ومعالجة أسباب التعويق لم يقتصر على حال السلم بل شملت الحرب فإن تشريعات الإسلام لها قد حرمت تشويه الأجسام بعد التمكن من الأعداء وحظرت أنواع التعذيب بعد القدرة، وهي عاات كانت تفعلها العرب والشعوب الأخرى في جاهليتها، حيث كانت تجدع الأنوف وتقطع الآذان، وتسمل العيون أو تقطع بعض أطراف الأسرى الذين يقعون ضحايا في أيديهم.

هذا عن الأسباب الجنائية العمدية، أما الخطأ منها –ويندرج فيه معظم حوادث المرور- فمن المعروف ما جاء به الإسلام في حق الطريق وآدابه، والتحذير من التهور والتعرض للمتالف كقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وجعل الضمان ثابتا على المباشر أو المتسبب ولو كان على سبيل الخطأ لتلبسه بالفعل المحدث للجناية، ولدلالة الخطأ نفسه على عدم التحرز. بل جعل ذلك في بعض الحالات مستوجبا للكفارة.

ولعل من الأمثلة البليغة في التحذير من أسباب التعويق ولو كانت احتمالية الأثر هذا المثال الذي هو غاية في الاحتياط فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحذف “وهو رمي إنسان أو حيوان بحصى صغار أو نحوها على سبيل اللهو أو الايذاء” وهو أمر لا يزال شائعا بين الصغار والكبار، ثم قال عن ذلك (إنه لا يقتل صيدا ولا ينكأ عدوا وإنما يكسر السن ويفقأ العين) ومثل ذلك نهيه عن تعاطي السيف مسلولا وعن المرور به كذلك في المساجد ومزدحم الأماكن وحثه على إماطة الأذى عن الطريق وكل ما يعرقل سير الناس أو يعرضهم للحوادث، وجعل ذلك أدنى شعب الايمان.. بل نظم التشريع المناسب فيما يتصل بالمخاطر العامة، كالجدار المائل حيث جعل لكل إنسان الحق في دعوة مالكه لتلافي خطره تحت طائلة أو رفع أمره للحاكم (حسبة) ولو لم يكن للشاكي أي مصلحة خاصة.

موقفه في التخلص من صور التعويق:

بعد أن بينا حرص الإسلام على (دفع) أسباب التعويق وسد الذرائع المؤدية إليها، نشير إلى موقفه ونظمه الهادفة إلى (رفع) تلك الأسباب بعد وقوعها.. فإذا كانت مرضية فإنه حض على التداوي، كما هو معروف، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (تداووا عباد الله، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، فإذا أصيب دواء الداء –أي كشف علاج المرض- برئ بإذن الله).

ولا منافاة بين التوكل وبين الأخذ بأسباب العلاج التي وضعها الله في تضاعيف كونه وهدى إليها عقول خلقه، بل يتحقق التوكل الصحيح بالأخذ بتلك الأسباب لأن في مراعاتها تحقيقا لما أراده الله من وضعها.

أما إذا لم تكن تلك الأسباب قابلة للزوال فإنه يزول آثارها بما وضعه من أنواع العلاج سواء ذلك المعنوي الذاتي بالصبر والاحتساب أو العلاج الجماعي بالمعونة والتشجيع على مزاولة حياة طبيعية يسري فيها التكافل دون من ولا أذى وهما عنصرا القبول في كل خير تجود به النفس التقية.

(ثانيا) الأهلية، والاعتبار:

أهلية المعوق ورفع الحرج:

الأصل في الإنسان اتصافه بكمال الأهلية بأنواعها المختلفة سواء ما كان منها أهلية تكليف أو استحقاق أو وجوب أو أداء… إلخ، غير أن حكمة الله ورحمته بعباده اقتضت اختلاف النظرة إلى بعض الفئات فإما أن يكون الموقف منها هو الإعفاء المطلق من المسئولية، وهو ما نجده بالنسبة للأمراض العقلية التي تفقد التحكم الإرادي بصورة دائمة أو متقطعة، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث –منها- المجنون حتى يفيق). وإما بالتخفيف من المسئولية وايجاد الرخصة المبيحة أو المسقطة في بعض الأمور التي تجب على الآخرين بأصل التكليف وهو ما نجده في بقية المعوقين كل بحسب صورة العائق ومداه. وكل من هذا الإعفاء وذلك التخفيف مبعثه الرحمة والرعاية لا الحرمان وعدم كمال الاعتبار، ولذلك ورد التشريع لهذا المبدأ بألطف التعبير وهو: “رفع الحرج” والذي جاء مكررا في عذوبة في قوله تعالى (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج)، وهذه ثلاث صور متباينة من صور الإعاقة كأنها أمثلة تجمع أسباب الإعاقة كلها، فالعاهات أشير منها إلى العمى، والحوادث أشير منها إلى العرج، وختم بالمرض الذي يشمل ما عدا ذلك. وهناك بالاضافة إلى هذا النص الخاص عموم النصوص الأخرى المتناولة لربط المسئولية بالصلاحية، كقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقوله: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) وقوله: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به). وقد ورد سبب نزول آية (رفع الحرج) أخبار تدور كلها لبيان ما كان يشعر به بعض المعوقين من حزن وأسى لعدم تمكنهم من أداء جميع التكاليف والواجبات، فإذا حيل بينهم وبين بعض ما يؤودهم ضاقوا ذرعا وخافوا المآثم أو المؤاخذة فأنزلت هذه الآية تنفي الحرج والذي يستتبع بالضرورة نفي الاثم أو المسئولية… وخير ما يلخص معنى الآية قول القرطبي: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكاليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج كذلك بالنسبة لما يشترط فيه المشي، وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه أي في تلك الحال لأيام أخر أو لبديل آخر أو الإعفاء من بعض شروط العبادة وأركانها كما في صلاة المريض ونحوه… فالحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر فيحملهم على الأنقص مع نيتهم الاتيان بالأكمل.

أما وجوه الرعاية في مجال الأهلية فهي تتلخص فيما يلي:

1- إن قاعدة (رفع الحرج) المشار إليها تقضي بعدم المطالبة، ولكن ذلك لا يمنع من قبول الأداء وصحته ممن تغلب على عوائقه وظروفه السلبية بما يبذل من جهد فوق طاقته أو بما يقدم إليه من مساعدة خارجية غير ممنون عليه بها، وهذه الأهلية المتصلة بالتزام ما لا يلزم هي (أهلية الأداء) وهي منفصلة عن (أهلية الوجوب) التي قد ترتفع لسبب ما…

2- هذه القدرة الخارجية المضافة إلى قدرة المعوق تبقى في دائرة العدم ولا ترتب على كاهل الشخص أعباء إلا إذا أقدم متطوعا من نفسه لفعل ما نشطت نفسه لفعله.. وهذا ما يدعى “القدرة بالغير ليست قدرة” أي هي لصالح المستعين بالغير، وليست لترتيب الحرج بعد رفعه. ومن الواضح أنه إذا لم تكن العلة عائقا عن أمر فإنه لا أثر لها بالنسبة إليه لأنه إذا زال المانع عاد الممنوع.

3- انتقاص أهلية الوجوب على المعوق وأهلية الأداء منه أحيانا.. لا يمس البتة بأهلية الاستحقاق، وتدعى (أهلية الوجوب له) فهي أهلية نافعة حرصت الشريعة الإسلامية على توفيرها لجميع الناس، حتى من لم يولد منهم بعد انعقاد سبب وجوده الجنين مثلا.. فالإرث والهبات والعطايا والوصايا وأمثالها تستحق الملكية منها لأشد أنواع المعوقين الذين أصبحت إرادتهم غير معتبرة، وينوب عنهم في حيازتها وحمايتها وتثميرها من يقوم بأمورهم من أولياء ونحوهم.

4- كل من له ولاية أو قوامة على أحد المحتاجين للرعاية فليس له إيقاع أي تصرف في نفس أو مال من تحت ولايته إلا إذا كان في هذا التصرف مصلحة ظاهرة؛ لأن التصرف بحكم الولاية منوط بالمصلحة، فإذا كان التصرف ضارا محضا، أو دائرا بين النفع والضرر فإنه لا يسري على المولي عنه.

ولهذا يجب التحرز من أي تبديد لمال هذه الفئات أو استغلال لها في أعمال لا تعود بالنفع المحض عليهم وإن كان ينتفع منها الآخرون.

هذا، وقد جاءت بعض الاستثناءات بشأن عدم قبول الفعل الذي يقدمه المعوق ولو لم يكن غير مطلوب منه أصلا أو عدم صلاحيته لممارسة بعض التصرفت، أو اختلاف ما يصلح له عما يصلح لغيره، وهي جد قليلة وأكثرها غير متفق عليه، ولا جدال في أن مردها ليس لوجود التعويق بل لاختلال الغاية بفقدان بعض الشروط. بحيث لو أخل بها السليم المعافى يعامل نفس المعاملة من إهدار تصرفه الذي لم تستكمل شروطه. فمن الممتنع مثلا على الأعمى منصب القضاء والإمارة ومن الاستثناء بالتضييق أن الأعمى تقبل شهادته فيما هو من قبيل السماع أو التساعم لا الرؤية، ولا يصح منه ما يتطلب قصدا ورؤية كالتذكية والصيد مثلا. وهكذا للأنواع الأخرى بحسب الأثر والمدى لكل سبب من أسباب الإعاقة.

وللغرض نفسه جاءت نصوص تقضي باعتبار بعض ذوي العوائق في مأمن من صولة الحرب وحصادها، لأن ما بهم من ضعف يجعل لهم حصانة دون نظر إلى عقيدة المعوق وانتماءاته الأخرى.

ففي وصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقواد جيوش الفتح: النهي عن قتل من كان أعمى أو زمنا أو شيخا فانيا ومثلهم كل من به مرض مقعد أو سبب معوق.. وهذا بالطبع ما لم يكن أحد من هؤلاء له مشاركة فعلية برأيه وتخطيطه فإنه قد خرج عن الحياد الإنساني المفترض له.

حفظ الاعتبار الأدبي للمعوقين:

الاعتبار الأدبي للمعوقين موفور في الإسلام ومن خلال قواعده العامة الشاملة، ومن جراء مبادئ أخرى تخصهم بالذكر، أما الناحية الأولى فإن ما أمر به الإسلام من انزال الناس منازلهم تبعا لما يتصفون به من تقوى واتقان، هو مفاد قوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”. وهو المعبر عنه بالحكمة المشهورة (قيمة الإنسان بما يتقنه).

وقد حرم الإسلام كل ما يخل بتكريم الإنسان الذي جعله مكرما في آدميته وكان مما جعله من المحرمات الكبائر: السخرية والاستهزاء والهمز بأي وسيلة كان ذلك. وقد كان النص القرآني صريحا في هذا “لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب” ومن هنا امتنع مناداة من فيه حالة معوقة بوصفه بها إلا حيث أصبح شهرة ملازمة للتعريف به، كالأعمش والأصم…

وقد التزمت المجتمعات الإسلامية بهذه التوجيهات الكريمة إلا ما كان من استهواء شيطان الشعر بعض الهجائين ممن هم في كل وادٍ يهيمون حيث لم يزعجهم وزاع الدين أو الخلق أو الرفق عن اتخاذ بعض الصفات الجسدية مادة للهجاء وأمثلة ذلك معروفة في كتب الأدب ولا تستحق الذكر…

لكن هذه الظروف المادية الصرف يقابلها نظرة عقلية نافذة للأعماق للتعويل على الجوهر (القلب، واللسان) لا العرض والمظاهر الخارجية.

من ذلك ما يروي أنس بن مالك أنه مر رجل برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من الحاضرين: يا رسول الله، هذا مجنون، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل: فقال: أقلت مجنون؟ إنما المجنون المقيم على المعصية ولكن هذا مصاب. ويروى أن عيسى عليه السلام قال: عالجت الأكمه والأبرص فأبرأتهما، وعالجت الأحمق فأعياني. ومما روي عن الأحنف بن قيس (وكان فيه عدة عاهات برغم منزلته في قومه وكريم خصاله) إنه قال له رجل معرضا به: “إن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه” فقال الأحنف –على ما عهد فيه من حلم- ما ذممت مني يا بن أخي؟ قال: الدمام وقصر القامة، فقال الأحنف لقد عبت علي ما لم أؤمر فيه، أي لم يؤخذ فيه رأيي.

ومما يعتبر أساسا في هذا الاعتبار قول الله تعالى: (فإنها تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).

ومما يؤثر من الأقوال المستحسنة التي تصور هذه النظرة المتعمقة قول ابن عباس عندما عمي آخر عمره:

إن يأخذ الله من عيني نورها

ففي لساني وسمعي منهما نور

قلبي ذكي، وعقلي غير ذي دخل

وفي فمي صارم كالسيف مأثور

وقول الخريمي الشاعر المكفوف:

فإن يك عيني خبا نورها

فكم قبلها نور عين خبا

فلم يعم قلبي ولكنما

أرى نور عيني لقلبي سعى

ونحوه قول بشار بن برد:

إذا ولد المولود أعمى وجدته

وجدك أهدى من بصير وأحولا

عميت جنينا، والذكاء من العمى

فجئت عجيب الظن لعلم معقلا

وعاض ضياء العين للعلم رافد

وقلب إذا ما ضيع الناس حصلا

هذا عن المكفوفين، وفي الاصابة بالعرج يقول أبو طالب –حين أصابه ذلك-:

قالت: عرجت، فقد عرجت فما الذي أنكرت من جلدي وحسن فعالي، ونحوه قول أبي العمليس الأعرج:

ما ضرها أني أدب على العصا

وفي السرج ليث ضيغم صادق الشد

والحكم والأشعار والأقوال في هذا كثيرة لا نطيل بذكرها…

أما المبادئ التي تخص هذه الفئات فمنها تحريم الشماتة، وفي ذلك ورد الحديث الشريف القائل: (لا تظهر الشماتة في أخيك فيعافيه الله ويبتليك).

وإذا كانت السخرية والشماتة هنا من المحرمات فما الموقف المطلوب هنا أو المسموح به؟ إن الموقف المطلوب من الإنسان هو حمد الله تعالى على المعافاة، وشكره على النعم التي لم يشاهدها في غيره من عباد الله الذي لو شاء لعافاهم وأصابه وفي الحوار الذي يمكن أن يديره في نفسه، ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا لم يصبه ذلك البلاء، فإذا قال ذلك شكر تلك النعمة…

وهذا الحديث يشير من طرف خفي إلى تسبب هذه الحالات في معرفة النعمة وشكرها، والنعم لا تعرف قيمتها إلا عند مفارقتها أو رؤية المحرم منها.. ولله في خلقه حكم وشئون.

(ثالثا) رعاية المعوقين فرديا وجماعيا:

العلاج المعنوي النفسي:

تهتم النصوص من القرآن والحديث بوصف العلاج النفسي لهذه الحالات جنبا إلى جنب مع الأخذ بأسباب التداوي الممكنة.. فمن ذلك استحقاق المعوق الصابر وصف المؤمن العجيب، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” وهذا الوصف النبوي لما يتحلى به المؤمن والمعافى هو مقتبس من نور الآية الكريمة: “الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”.

وكذلك استحقاقه جزاء الصبر وفي ذلك أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: “ما ابتلى الله عبدا ببلاء وهو على طريقه يكرهها إلا جعل لله ذلك البلاء كفارة وطهورا ما لم ينزل ما أصابه من البلاء بغير الله عز وجل أو يدعو غير الله في كشفه”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرا يصب منه” وقوله صلى الله عليه وسلم: “ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة”.

بل جاءت بعض الأحاديث والآثار بمجالسة الملائكة للصابرين من أصحاب العاهات وذلك كخير عمران بن حصين لما كان مصابا.

وخير من هذا وذاك عظم الجزاء الأخروي الصابر كما قوله صلى الله عليه وسلم فيها يرويه عن ربه عز وجل: “إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه عوضته منهما الجنة”، ومن قبيل ذلك فيه زيد بن صوحان الذي قطعت يده في معركة نهاوند. ونحوه قول الوليد بن بن الوليد بن المغيرة:

هل أنت إلا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

العون المادي ودور الرعاية (البيمارستانات):

تحض النصوص الشرعية العاملة على مساعدة المحتاجين لبذل العون ويتأكد ذلك فيمن كانت حاجتهم ماسة ليس لهم بعد الله إلا من يأخذ بأيديهم… وهذا العون (فرض كفاية) وواجب جماعي لا بد أن يقدمه ذوو الكفاية ليسقط الإثم الشامل للجميع لو قصروا في أداء هذا الفرض، وفي الحض على المبادرة إلى تقديم العون للمحتاج آيات وأحاديث كثيرة منها قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) وقوله: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم “والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” وهناك أحاديث أخرى فيمن قاد أعمى أربعين خطوة، ومن كفى المصاب في يد أو رجل مؤونته وحاجاته.. بل ذهب بعض الفقهاء إلى أن من رأى متعرضا لخطر دون أن يشعر به لفقد إحدى الخواص ثم لم يغثه وفي وسعه ذلك فإنه ضامن لما ينشأ من مخاطر وخسائر لأنه مقترف جريمة بموقفه السلبي وتعريضه للضرر من كان محتاجا للإرشاد والتحذير والعون.. وهذا منسجم مع قواعد التكافل الاجتماعي الذي اتصفت به المجتمعات الإسلامية الفاضلة انطلاقا من أن “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”.

هذا على النطاق الفردي، أما على النطاق الجماعي فقد أسس المسلمون البيمارستانات وهي دور الرعاية للمعوقين و (البيمارستان) كلمة معربة بمعنى مكان المرضى، وهي في الأصل تطلق على أي مستشفى عام، لكن لما كان المرضى يغادرونها أو يهجرونها حيث لا يجدون جدوى باستثناء أولئك المحتاجين لدوام الإقامة فيها كذوي الأمراض العقلية أو المزمنة أصبحت الكلمة تنصرف إلى المأوى المعد لأولئك المعوقين قبل غيرهم ممن كان الغالب معالجتهم وهم في بيوتهم.

وهذه البيمارستانات كانت منتشرة في شتى المدن والحواضر الإسلامية فقد اتخذ منها الطبيب المحقق الدكتور أحمد عيسى مادة لكتابة “تاريخ البيمارستانات في الإسلام” من خلال محاولته التدوين التاريخي للمستشفيات انطلاقا من الارتباط المشار إليه بين هذين النوعين من المؤسسات الخيرية في الإسلام، والتي تستند جميعها إلى نظام (الوقف) الخيري ممن يلهمه الله الإحسان والصداقة الدائمة التي لا ينقطع أجرها بعد الموت سواء كان هذا التحبيس للخيرات من الأفراد أو من الحكام. وفي الكتاب المذكور غرائب في تنظيم الإيواء والكفاية والعلاج حتى أنه كان من وسائل العلاج الطبيعي لبعض المعوقين في البيمارستانات معالجتهم بالموسيقى أو الغناء والطرب؛ ففي مارستان فرج في فاس كانت الأجواق الموسيقية تروح عن المرضى وتسليهم عن آلامهم، وفي البيمارستان النووي بدمشق كانوا يجلبون القصاص والمطربين إلى قاعات المرضى فيه، كما رتب مؤذنون ينشدون القصائد الدينية على المآذن قبل الفجر بساعتين بأصوات شجية تخفيفا لعناء السهر على المرضى المؤرقين من ذوي العلل المزمنة.. كما كان في بعض البيمارستانات أحواض فيها أنواع الرياحين ليناظرها المقعدون ممن لا يمكنهم التنقل في الحدائق والبساتين…

والطريف في أمر البيمارستانات التي كان يقطنها أكثر المعوقين أنها مقر للعلاج والمعاش بآن واحد. وهذا منذ إنشائها من قبل الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي الذي ذكر المقريزي أنه أول من بنى البيمارستانات في الإسلام ودار المرضى في سنة 88هـ (706م) وجعل في البيمارستانات الأطباء وأجرى لهم الأرزاق وأمر بحبس المجذومين لئلا يخرجوا وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق. ومثل ذلك ذكر من قبله المؤرخ ابن جرير الطبري وأضاف أنه قال لهؤلاء المعوقين: لا تسألوا الناس، وأنه أعطى لكل مقعد خادما، ولكل ضرير قائدا.

الكفاية المعاشية للمعوقين:

رأينا كيف تحققت هذه الكفاية في المجتمعات الإسلامية من خلال المؤسسات الخيرية المختلفة مما كان تطبيقا لنظام الوقف الإسلامي.. ولا سيما المشافي والبيمارستانات.. ولكن ذلك قد لا يفي بالغرض في كل بيئة لارتباطه بمستوى من الحضارة يزيد أو ينقص ولذا كان المورد الثابت لتأمين الكفاية المعاشية للمحتاج من هذه الفئة في تطبيقات النظام المالي للإسلام وأخص منه اثنين هما نظام الزكاة ونظام خمس الغنائم أي من بيت المال (الخزانة العامة) أو من مصارف الزكاة (صنف الفقير أو المسكين). يقول الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وفي الآية الأخرى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين… فريضة من الله والله عليم حكيم).

والذي يستحق التنويه به هنا هو أن بعض الفقهاء حين فصلوا طريقة أداء الزكاة لمستحقيها لاحظوا عنصر الإغناء الدائم ما أمكن.. ولذلك فإنهم بعد أن صرحوا بأنه يعطي للفقير المحترف ما يشتري به أدوات حرفته بالغة ما بلغت اختاروا في المعوق أن يشتري له بالزكاة عقارا يدر عليه من غلته ما يوفر له الكفاية الدائمة.. وفي هذا سبق إلى تأمين العيش الكريم حتى لا يحتاج إلى الزكاة إلا في المرة الأولى ثم يعيش مما صار ملكا خاصا له.

ومما حفظ لنا التاريخ أن عمر بينما كان جالسا إذ أقبل أعرج يقود ناقة تطلع (تمشي مائلة) حتى وقف عليه فأنشده:

إنك مرعي وأنا رعية

وإنك مدعو بسيماك يا عمر

أرى يوم شر شره متفاقم

وقد حملتك اليوم أحسابها مضر

فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله.. فشكا إليه عرج رجليه وظلع ناقته، فقبض عمر الناقة وحمله على جمل وزوده فرجع شاكرا. ومما هو معروف قصة الذمي الذي شاخ وعمي واضطر لأن يسأل ليعيش فخصص له مورد ثابت من بيت المال لإغنائه عن ذل السؤال…

المعوقون في المجتمعات الإسلامية:

إن ما جاء به الإسلام من مبادئ لم يظل في الدائرة النظرية بل حظي بالتطبيق الواقعي وترك بصماته على مدى العصور، ومظهر ذلك أمران (أحدهما) الآثار الحضارية المنشأة لصالح هذه الفئة وقد سبق بيان نبذة عنها تدل على روح التعاون لمساعدة هؤلاء على تمام المشاركة في بحبوحة الحياة.

والثاني كثرة الأعلام المشاهير الذين لمعوا من هذه الفئات والذين ما كانوا ليشتهروا وينبغوا لولا العون الاجتماعي المسدى إليهم لتخطي عوائقهم. فضلا عن سموهم بأنفسهم عن العاهات التي أصيبوا بها فلم يدعوها تخلد بهم للأرض ولم تعقهم عن أن يكون بعضهم من القادة العظماء، أو السادة الحكماء، أو النبغة العلماء في كل علم وفن.. ولهذا يقول الجاحظ: “إن جماعة منهم كانوا يبلغون مع العرج ما لا يبلغه عامة الأصحاء، ومع العمى يدركون ما لا يدركه أكثر البصراء”.

وقد كان حافزهم إلى تخطي عوائقهم استجابتهم لفطرة الله تعالى التي بثها في نفوسهم وفقا لما يدعى (نظرية التعويض) فبهذا الشعور الفطري يتضاعف النشاط فيما يملكون زمامه من حواس وما بقي لهم من فرص ليكون ما يتقنونه بديلا عما حرموه. ونظرية التعويض هذه قديمة قدم الحاجة إليها، وإن كان الشرح العلمي لها متأخرا بما حصل من عناية في تدوين علم النفس الحديث.

وقد اهتم المؤرخون والمؤلفون في التراجم بالحديث عن أشهر من كان في زمنهم من المعوقين أو نبغ في أنواع العلوم والفنون التي أرخوا لها وللمشتغلين بها، ومن هؤلاء ابن قتيبة وابن حبيب بل إن بعضهم خص هذه الفئات بالتأليف، وسأذكر منهم على سبيل المثال من تيسر لمعرفة الآثار التي وضعها في هذا الشأن، وهم:

1-   الهيثم بن عدي المتوفي سنة 207هـ وكتابه لم يصل منه إلا خلاصة موجزة.

2- الجاحظ وكتابه مطبوع يدعى (كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان). وهو تحفة أدبية رائعة تجمع من الأخبار والحكم والأشعار ما فيه عظة لمن سمعه.

وقد بين فيه نمطا ممن بلغته أخبارهم من العمي والعرج والإشراف، وبين أنه ذكر ذلك لذكر الفوائد الأدبية والاجتماعية المتصلة بأخبارهم قائلا: “ولا تنويهه قوما مستورين بأدواء المرضى وهذه الإشارة اللطيفة فيها صدى لآداب الإسلام المشار إلى بعضها في التعامل.

3- كتابان لصلاح الدين الصفدي، أحدهما مطبوع وهو “نكت الهيمان في نكت العميان” والآخر لا يزال مخطوطا ويدعى: “الشعور بالعور”.

وقد أفعمت هذه الكتب بأشهر المشاهير فقد ذكر الصفدي في كتابه المطبوع (300) علم من المكفوفين المشاهير وهذا لعصره في القرن الثامن وما وجد بعده وما تركه أكثر مما أورده هو وأمثاله كما يدل سياق التأليف في تلك الكتب.

ولا يتسع المقام لسرد نماذج هؤلاء الأعلام تبعا لنوع عوائقهم، وألوان نبوغهم، وحسبنا الإشارة إلى بضعة أعلام فقد حفل التاريخ بمن يعسر إحصاؤهم في العهود الماضية من معوقين تتردد أسماؤهم في مدونات العلوم كالتفسير والحديث واللغة دون أن يدري الكثيرون ما يشوه من عاهات وعوائق ربما اجتمع في بعضهم عدة أصناف منها. ومن المكفوفين وحدهم مثلا نجد بين هؤلاء: الترمذي المحدث، والشاطبي المقرئ، وابن سيده اللغوي، والعكبري النحوي، وهكذا لكل فن، ومع شتى العوائق بل أشار الصفدي إلى ما بلغه من أن أحد المكفوفين كان بارعا في تدريب الهندسة في كتاب (اإليدس) وإنه كان يصنع أشكاله للطلاب بالشمع.. كما ذكر القفطي في تاريخ الحكماء أن أبا الحسن علي بن إبراهيم بن بكس المكفوف كان طبيبا متقنا لصناعة الطب ومدرسا له في البيمارستان العضدي، وكان في حين الحاجة لمعرفة الألوان في المرضى أو بولهم يستعين بمن معه من تلاميذه المبصرين. وكذلك كان ابن مكين البغدادي الطبيب المكفوف.

وقبل أن أدع الحديث أنوه بعلم فذ من المكفوفين من مشاهير القرن السابع الهجري هو زين الدين علي بن أحمد الآمدي الذي توفي بعد سنة 712هـ وقد ابتكر طريقة تصلح نواة للقراءة الخاصة بالمكفوفين بحيث كان له فضل السبق إلى اكتشاف طريقة القراءة النافرة التي تعرف بطريقة (بريل) ويحدثنا عنه الصفدي فيشير إلى براعته في الفقه وتعبير الرؤيا وإتقانه عدة لغات، وشدة حواسه وفراسته بحيث ميز مصافحة سلطان عصره له بين عدد كبير صافحوه من الأمراء والمرافقين ثم يقول الصفدي: “إنه بالاضافة إلى علمه كان يتجر في الكتب وكان يستخرج الجزء المطلوب، ثم يمس الكتاب فيحدد عدد كراساته ويمس الصفحة فيحدد عدد أسطرها ونوع الخط ولونه ويعرف أثمان الكتب”.

وخشية التوهم بأن مصدر هذه الأمور هو مجرد الحفظ وقوة الذاكرة ينبه الصفدي إلى وسيلة أخرى كان يلجأ إليها فضلا عن ذلك وهي محل الشاهد فيقول حرفيا: “والسر في ذلك أنه كان إذا اشترى كتابا بشيء معلوم أخذ قطعة ورق خفيفة وفتل منها فتيلة لطيفة وصنعها حرفا أو أكثر من حروف الهجاء يماثل عدد ثمن الكتاب (بحساب حروف الجمل) ثم يلصق ذلك على طرف جلد الكتاب من داخل ويلصق فوقه ورقة بقدره لتتأيد. فإذا شذ عن ذهنه كمية ثمن كتاب ما من كتبه مس الموضع الذي علمه في ذلك الكتاب بيده فيعرف ثمنه من تثبيت العدد الملصق فيه.

ولا شك أنه لو أتيح تطوير الفكرة التي تفتقت عنها قريحة الآمدي لكان قد عجل باكتشاف ما يشبه بريل في القراءة قبل بضعة قرون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر