أبحاث

إسهام الإسلام في الفكر السياسي العالمي

العدد 45

تعتبر بداية القرن العشرين زمن إنطلاقة الغرب الصاعدة, حيث سيطر علىٰكل مجال في أرجاء العالم كافة, فكانت حكوماته أكثرها كفاءة وقوة, بل كانت بالتحديد أفضلها. وامتدت يده الاستعمارية لتسيطر علىٰكل ركن من أركان العالم صغر أو كبر, وإحتكرت كل ما وقعت عليه, وأصبح الغرب في مركز المورد الذي ترده البشرية لتنهل منه في مجال المعرفة والعلوم والتقنية بل وفوق كل شيء في مجال المؤسسات السياسية والقيادية. والقائمة طويلة, ولكن دعونا نتوقف عند هذه النقطة حيث أن الفكر السياسي هو موضوع هذه الدراسة. فقد ظل الغرب طيلة القرن المنصرم يتحدث من موقع السلطة المتمكنة, وعلىٰبقية العالم أن ينصت في خشوع لما يقول.

إن ما قدمه الغرب من مؤسسات سياسية تأخذ بالألباب كانت «ديمقراطية دستورية» ذات توجهات هدفها تحقيق الرفاهية. وترتكز هذه الديمقراطية الدستورية علىٰعدة نقاط :

1 ـــ فكرو سيادة القانون.

2 ـــ ضمان الحقوق الإٍنسانية التي أشهرها الحرية والمساواة و «الإٍخاء».

3 ـــ مجالس نيابية منتخبة يحكمها رأي الأغلبية.

4 ـــ نظام الأحزاب.

5 ـــ النسق التكراري للإٍنتخابات.

6 ـــ ضمان عملية الديمقراطية من خلال تواجد مجالس القضاء الأعلىٰ وذلك في التراث الأنجلو أمريكي.

وقد تيسر لهذه المؤسسات من الحظ مالم يتيسر لغيرها حيث كان الطريق ممهداً لممارساتها. فالحكومات الإٍستعمارية في الغرب قد تزايدت ثرواتها عن طريق ما كانت تتلقاه من مستعمراتها في كل أنحاء العالم, وكذلك نتيجة سياسة التصنيع الشاملة التي تتبعها, كما خرجت أجيال جديدة أصابت ثراءً وتخطت الحدود مطامحها وانطلقت لتستبدل بالمسيحية التقليدية نمطاً جديداً من الأخلاق العلمانية التي سيطرت ـــ بما صاحبها من رفاهية ـــ علىٰجماهير الناس وهم يجدون العمل ويحققون الرضا.

والمؤسسات التي أفرزتها الديمقراطية الدستورية كانت علمانية في المقام الأول, فطبقاً للمبدأ الذي يدين به أتباعها والذي ساد تلك الفترة ـــ يُعتبر الإٍلتزام بالدين أو بوجود تشريع أعلىٰترفاً زائداً لا نحتاجه. كما أنهم يفترضون أن المؤسسات الديمقراطية ــ مثل المجالس النيابية ـــ لها من الحصانة ما يحميها من الخطأ, ويقوم جهاز المحاكم في البلدان التي تتبع القانون العام بتصحيح الأخطاء التي تظهر في تطبيق ما به من أنظمة في الحالات الفردية. بينما يقوم بعملية التصحيح هذه في إطار القانون المدني الهيئات البلدية ومحاكم إدارية ذات سلطة هدفها تحقيق العدالة.

ومع الربع الأخير من القرن التاسع عشر حقق هذا النظام إنجازاً مذهلاً إشتعلت علىٰدربه ثلاثة حروب؛ واحدة خصّت أوربا, والأخريتان أطلقوا عليهما «الحربين العالميّتين». ولكن مع انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت حقبة جديدة إتسمت بالإٍنجاز المختلط. فإنفجار المعرفة خاصة في المجالات العلمية والتقنية كان أمراً غير متوقع علىٰ الإٍطلاق. وما نتج عن هذا الفيض من المعرفة من رخاء شامل عم العالم الأول شهده العالم الثاني كذلك بدا واضحاً جلياً, بينما بدأت المؤسسات السياسية في الغرب تصاب بالتصدع وبدت شقوقها واضحة؛ تلك المؤسسات التي كانت مناعتها موضع الثقة الكاملة هناك.

ومما افترضوه في الديمقراطيات القائمة علىٰ «إرادة الشعب» كما تدل عليها الإٍنتخابات المتكررة يمكن أن تكون محل ثقة بإعتبارها أمراً يتسم بالعصمة, ولكن الثورات الإٍشتراكية والفاشية التي قامت خلال هذه الفترات قد أوضحت للمجتمع أن «إرادة الشعب», قد أخضعت لنوع مختلف من التعامل, وأن تجربة الإٍتحاد السوفيتي لم تكن هي المأساة الوحيدة, في العصر الحديث, التي لم تتوقعها هذه الصفوة في الغرب.

ومع مرور الزمن حدثت تعقيدات أخرىٰ, فالتطورات التي حدثت في العالم الشيوعي قد أظهر بوضوح شديد أن الأدوات الحديثة في فرض السيطرة جعلت في الإٍمكان إستحواذ فئة لها التزامها الخاص علىٰ أمم كاملة, وأن الحزب الحاكم يمكن له أن يتحكم في مسار التصويت ويوجهه بواسطة الإٍرهاب. ومن ناحية أخرىٰ جاء الدليل الماحق علىٰ العصمة المزعومة لإٍرادة الشعب عندما إجتاحت العالم أنماط من الاضطهاد مارستها الأغلبية علىٰ غير هدىٰ, فنكلت بالأقليات واستغلتها في ظل شعارات مختلفة, لطيفة المظهر بغيضة الجوهر. فعلىٰ مستوىٰ الأفراد نجد الدساتير وحقوق الإٍنسان ومحاكم القضاء الأعلىٰ التي نيط بها ـــ في إطار المعتقدات التي سادت هذه الحقبة ـــ توفير الحماية ضد الإٍنتهاكات الظالمة, ولكننا حتىٰ حين نغض النظر عن أمر التكاليف المادية المصاحبة التي لا يستطيع الفقراء تحملها, فإن هذه المؤسسات في حد ذاتها وقاية خرقاء هشة أمام الإٍعتداءات القانونية التي يقوم بها الأغلبيات عن عمد وإصرار, فتعديل الدساتير متواصل, وإستبدالها حاصل, والمحاكم التي لا تظهر تعاونها يستبدلون بها محاكم متعاونة, إما بإجراء التغييرات التي تتناسب مع القانون, أو بممارسة الضغوط الحذرة, أو بنقض أحكامها في مجالات الصراع الإٍجتماعي الهامة. وبدا واضحاً في هذا الزمان أن «الدساتير» ليست في ذاتها إلا«دروع من ورق» ضج أولئك الذين يمسكون صولجان الحكم ولديهم من الدوافع ما يجعلهم ينكرون موادها. لقد كانت الدساتير جزءاً من «القانون» الذي صرخ ماركس في أسىٰ بإعتباره أداة في يد الصفوة الحاكمة (التي هي في نظره الطبقة الرأسمالية) تستخدمها لكي تديم نظامها الإٍستغلالي وتُمدً في أجله. ومنذ أن أطلع العالم الأبيض المتأنق علىٰ هذا الأمر؛ بدا لأول وهلة مؤكداً وبلا مواربة أمام عينه, وأصبح العالم غير العالم, وصار القانون أفظع أدوات القهر في أيدي الحكومات الفاشية والشيوعية والعنصرية, سواء كانت ألمانيا النازية, أو الاتحاد السوفيتي, أو جنوب أفريقيا.

أما حقوق الإنسان, فقد إزدانت بها تقريباً كل الدساتير التي وضعت منذ الثورة الفرنسية, وما أكثرها. ولكن يتضح لنا من الشواهد, منذ القرن الماضي, أن هذه الحقوق قد وجدت مكانها المرموق في ظروف كانت فيها منتهكة أكثر من ذي قبل ولم يكن ذلك الإٍنتهاك قاطراً علىٰ الحاكم المستبدين, وانما فعلته الأجهزة التشريعية الوطنية, وكذلك الحكومات حسنة النية التي ترمي إلىٰ الإٍصلاح والرفاهية. ولم يستطع نظام المحاكم أن يكون درعاً واقياً لها إلا في بلدان قليلة جداً بينما كانت الحكومات الأخرىٰ مهتمة بفرض إرادتها. ولجأت في يبيل ذلك إلىٰ إيجاد الوسائل التي تجعل نظام المحاكم طيَّعاً بين يديها.

وتمثَّل المورد الآخر لتلك الوقاية المزعومة في نظام الأحزاب والإٍنتخابات, ولكن نظام الأحزاب في العالم كله قد أمسىٰ خرباً. ونهض المفكرون يبذلون جهدهم ليكتشفوا مواطن الخلل فيه وكيف حدث, وتساءلوا عن أسباب تعرضه للفساد إلىٰ هذه الدرجة, ذلك الفساد الذي لم يعد يُبقى علىٰ شيء من هذا النظام.

وانعقد الأمل الأخير بالإٍنتخابات, حيث كانت فائدتها محققة في مجال العام للسياسة, طالما كان الإٍجماع القومي قائماً. ولكن إذا ما كانت حول أمر فيه تعارض للمصالح الرئيسة, فقد أدت الإٍنتخابات إلىٰ الفرقة, وعجزت عن جمع المواطنين حوله مثلما حدث عند مناقشة موضوع إنضمام بريطانيا إلىٰ السوق الأوربية المشتركة. وإن كنا نقر أن ثمرات مثل هذا الموقف كانت أفضل مما هي في بلدان حيث تكون السلطة في أيدي الماركسيين مهما كان شكلهم. وفي العالم الإٍشتراكي جاء تأويل الموقف في اعتبارات (الوعي الزائف) الذي سعد به الماركسيون اللينينيون الباحثون عن السلطة, والراغبون في الاحتفاظ بها, حيث وجدوا فيه مبرراً كافياً لاستخدام كافة وسائل التحايل ليصلوا إلىٰ مآربهم وأصبحت الإٍنتخابات في العالم الثاني طقوساً يمارسها الأفراد دون أن تكون لديهم أدنىٰ فرصة للتعبير عن انشقاقهم عنها بالتصةيت أو حتىٰ بمجرد الإٍمتناع عن التصويت.

وقد أدت هذه الإٍنحرافات مع غيرها من أشكال الزيف إلىٰ أن يعيد الغرب النظر في الأسس النظرية التي يقوم عليها النظام السياسي الذي كان يقدمه للعالم كترياق لكل ما به من علل. ونحن هنا في العالم الثالث نقوم بإستعادة هذه المؤسسات ثم نتحدث بأسىٰ لأن هذه المؤسسات أثبتت فشلها في غالمنا بدرجة أكبر مما حدث في الغرب, وغالباً ما ينتابنا إحساس بأن هناك بعض العناصر الخفية هي التي جعلا هذه المؤسسات تنبئ بالفاشل, وأن تلك العناصر لم نكتشفها بعد؛ أو أن يكون حكمنا مغلقاً باليأس لأن العالم الثالث بصفة عامة لم يصل إلىٰ تلك الدرجة من النضج اللازم لإٍقتباس هذه المؤسسات. والحقيقة أنه حتىٰ الغرب نفسه مازال يبحث بلا كلل عن العوامل الحقيقية التي جعلت هذه المؤسسات تقوم بوظيفتها في سهولة ويسر لعشرات السنين, وعن تلك العوامل التي كانت وراء ما حل بها من قصور في الزمن المعاصر.

إن الحقبة الجديدة التي ساد فيها إحساس بالشك في الذات, عمّ الشرق والغرب علىٰ السواء, قد شجعت فئات المثقفين ـــ علىٰ الْاقل ـــ علىٰ الإٍستماع إلىٰ بعضهم البعض, في اطار ما تبين لهم من إحترام متبادل. وظهر علىٰ السطح عالم جديد من الحوار, وبدأت دول العالم كلها تكتشف نمطاً جديداً من تداخل العلاقات ليس فيما بينما فحسب, وإنما كذلك فيما بين المؤسسات كلها السياسية والاقتصادية والإٍجتماعية والدينية والقانونية. ونشأت حاجة ملحة وابتدأ بحث مستعر عن إطار نظري جديد يمكن أن يضم إليه عوامل كثيرة لم تكن مشمولة في الإٍطار التقليدي. وإذا كان الكيان القانوني قد إكتشف لنفسه مكاناً لائقاً يشغل فيه حيزاً صغيراً في الكيان الأوسع للأخلاقيات, فإن السياسة تمر بحالة من الإٍندماج مع الإٍقتصاد لم تكن تمر بها من قبل. وبات من المعرف به من الجميع أنهما ـــ أي السياسة والإٍقتصاد ـــ لا يمكن دراستهما إلا في إطار تناغمهما مع القانون والأخلاقيات.

ونشأت مطالب جديدة تنادي بإعادة تشكيل القاعدة النظرية التي تقوم المؤسسات الدستورية علىٰ أساس أن النظرية التقليدية قد أثبتت عدم صلاحيتها. فقد أفرزت المؤسسات القديمة أدواراً جديدة, وتلك تؤدي إلىٰ إحداث أشكال جديدة من التوتر. وإنتاب الإٍنسان العصري إحساس بالدهشة وهو يكتشف أن الحكومة الدستورية ليست أداة حازمة للعمل الإٍجتماعي الهادف إلىٰ خير البشرية, فقد ينتابها الإٍنحراف أو تتعرض للإٍنتهاك في صور عديدة. إن البحث عن موضع يكون مجمعاً يلتقي فيه المجتمع يُعتبر بحثاً عن نجم جديد يهتدون بهديه, أو ضوء يستنيرون بنوره ـــ أو علىٰ أقل تقدير ـــ رؤية جديدة يستبصرون بها.

إن عملية إعادة صياغة المبادئ الدستورية الواردة في الشريعة لإٍفادة البشرية في القرن العشرين تتضمن قدراً معيناً من الصعوبة ـــ وإذا ما حدث أثناء تلك العملية ووجدنا أن ما نستعيده من زخم أدبيات البحث التقليدية في مجال القانون له جوانب تضفي عليه الحداثة, فإن التهمة التي ستوجه إلينا هى أننا نقوم بمحاولة مُثنّعة تهدف إلىٰ قراءة بعض المبادئ الدستورية الجديدة بلغة النظرية السياسية في الإٍسلام. وهذا الانتقاد يغفل أنه حتىٰ مبدأ التحديث ذاته لخ جذوره القديمة, وأنه ليس هناك سوىٰ القليل من الوضع الإٍنساني الذي يمكن أن نصفه بالحداثة الكاملة. فإن ما يقال اليوم عن القانون والأخلاقيات يمكن أن نجد له نظيراً في ما قيل لقرون مضت وكل ما يحدث هو أننا مع مرور الزمن نزداد إقتناعاً بمناسبة بعض الجوانب في المبادئ الرصيمة أو تطبيقاتها, ومن ثم تزداد شهرتها تأسيساً. ومثل هذه التطورات لا تنتقص شيئاً من التطبيقات السابقة لأي منها ولا من عمومية مناسبته. بل إن مثل هذه الممارسة تجعلنا نكتشف التشوهات التي نالته أثناء عملية التطبيق, والخطأ في قَصْره علىٰ عدد محدود من المواضع.

إننا نستطيع فهم النظرية الدستورية الإٍسلامية بطريقة أفضل إذا ما وضعناها داخل السياق الأكبر لرؤيتها للعالم, وكذلك للمجال الأخلاقي. ودعونا ننظر إلىٰ ذلك الأمر باختصار :

يأتي موقف النظرية السياسية والإِجتماعية الإٍسلامية من الإٍنسان كأصل من أصولها ويتلخص هذا الموقف في :

1 ـــ أن الإٍنسان لم يولد في الخطيئة بل خلق في أحسن تقويم (القرآن 95 : 4).

2 ـــ أن البشرية بكل محدداتها وميلها للسقوط هي محل تكريم الخالق (القرآن 17 : 70).

3 ـــ أن الشخص المؤمن حقاً هو الذي يحقق الصلة الصحيحة مع خالقه ومع الكون من حوله طبقاً لما جاء في الوحي, وله أعلىٰ درجة يمكن أن ينالها بشر.

ونرىٰ في حديثين وردا عن النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ المثل الكامل لهذه المبادئ ـــ فقد حدث أثناء طوافه ببيت الله الحرام الذي أقامه نبي الله إبراهيم بمكة المكرمة وقبلة السجود للمسلمين في أنحاء العالم كله في صلاتهم ـــ أنه قال وكأنه يخاطبه : عن عبد الله بن عمرو قال : رأيت رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــيطوف بالكعبة ويقول : «ما أطيبك وأطيب ريحك, ما أعظمك وأعظم حرمتك, والذي تفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك, مالِهِ ودمِهِ وأن نظنَّ به إلا خيراً»* (سنن ابن ماجة 3932).

وجاء أنه في أواخر أيام بعثته ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, وفي آخر خطبة له ألقاها أثناء حجة الوداع أنه أشهد الله والأمة كلها علىٰ تبليغه رسالته, وورد عنه في هذه الخطبة أنه قال :

«إن الله يقول : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثىٰ وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا, إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وقبائل لتعارفوا, إن أكرمكم عند الله أتقاكم. لا فضل لأسود علىٰ أبيض ولا لأبيض علىٰ أسود, ولا لعربي علىٰ أعجمي, ولا لأعجمي علىٰ عربي إلا بالتقوىٰ. إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام إلىٰ أن تلقوا ربكم, كحرمة يومكم هذا (يوم عرفه) وكحرمة شهركم هذا (ذي الحجة) في بلدكم هذا».

إن الإٍنسان الذي له مثل هذه المكانة ةالإٍحترام في الإٍسلام يعتبر سيداً علىٰ الكون المحيط به, بل وأكثر من ذلك فهو يعيش في تناغم مع خالقه وما خلق, عليه أن يواجه حسابه في الآخرة. إن سيادة الإنسان علىٰ الكون المحيط به لا تتحقق .. (بطلاقة قدرته هو) بل بخضوعه لشرع الله سبحانه الذي ينظم الكون. وإذا ما خضع الإنسان إلىٰ وحي الله سبحانه فإن مكانته ستسمو, ومن ثم يحقق التناغم الذي يقوده إلىٰ تحقيق السلام. ولا عجب فإن تحية المؤمن كما وردت هي دعوة للسلام.

ويأتي مبدأ التوحيد كأساس لنظرية السياسية الإٍسلامية, وهذا المبدأ يعني إيماناً بالله الخالق الهادي الصمد الأحد الذي بيده الحساب يوم الدين. والمؤمن حين يدخل في خيمة الإٍسلام يقيم عهداً مع الله وبناء علىٰ هذا العهد المعقود في ظل العقيدة الإٍيمانية يتحدد كل ما عليه من التزامات وكافة ماله من حقوق. فيقبل التفرقة بين الطيب والخبيث علىٰ أساس ما أورده سبحانه من قيم, ويحللّ ويحرمّ إستناداً إلىٰ معايير الله عز وجل وحدوده, وأقرب الحقوق والواجبات إلىٰ كل مسلم وأدناها من قلبه هي تلك التي تنشأ من العهد الإٍيماني, ومن القيم التي أوردها الله فله الحكم سبحانه في تحديد من نَرعىٰ, ومع من نتعاون, وتحديد الظروف التي تحكم هذه الرعاية, أو ذلك التعاون من عدمه. وسواء علىٰ المستوىٰ الفردي أو علىٰ المستوىٰ السياسي والإٍجتماعي, فإن الحقوق والإٍلتزامات وكذلك الظروف والأحوال التي يقوم فيها البشر بتنظيم سلوك غيرهم من البشر ـــ كلهم يتم تحديدها طبقاً للأولويات والمعايير التي يحددها الله سبحانه وتعالىٰ.

إن المرء حين يقبل الإٍسلام كدين يعلن إسلام حقوقه وقواه مهما كان مصدرها إلىٰ حكم الشريعة, فالله سبحانه هو الشرع الوحيد الحق للأمة, وأنه هو أنزال الشرع وحدّ الحدود التي تنظم أحوالها, وقسم لنا من المبادئ ما ينبير لنا السبيل في مسار حياتنا الكامل, وبتعبير آخر فإنه حتىٰ إذا ما بدا لنا الوضع الإٍنساني خارج نطاق ما أورده الشرع صراحة, فإن ذلك لا يعني أنه يقع خارج نطاق الهداية الإٍلهٰية.

وقد كان لنا في رسوله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ الأسوة الحسنة التي نفتدي بها في مواجهتنا لتحديات الوجود, وفي تحديد الأبعاد التي نتفهم في إطارها المشكلات الإٍنسانية, ونحاول حلها. فقد علمنا ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ فن الحساسية الأخلاقية الحصيفة في كل المواقف الإٍنسانية.

ومن مقتضيات مبدأ التوحيد أنه ما من مشرّع إنساني داخل المجتمع المسلم يستطيع أن يدعي لنفسه السلطة في أن يشرّع كامل المحتوىٰ القانوني والأخلاقي لأي أمر رسمي, وهذا المبدأ هو ذاته الذي يفرق بين نظام التشريع في إطار مرجع إسلامي, وبين نظام التشريع في ظل التراث الديمقراطي الغربي والتراث الإٍشتراكي, حيث تدعي الأجهزة التشريعية الوطنية العليا ذلك, فتدهّي لنفسها السلطة أن تضع المعايير القانونية للأحكام المتصلة بالسلوك الفردي والجماعي, بل وأكثر من ذلك أن تحدد كافة الأساليب التي يمكن استخدامها, والسلطات التي يمكن استخدامها, والسلطات التي تستخدم مع الأفراد لضمان التزامها بالطاعة, (بل والأكثر من ذلك) أنها تدعي السلطة أن تعطي الثفة القانونية لأمور قد يعتبرها النظام الأخلاقي السائد أموراً غير قانونية, والعكس بالعكس, وفي كل الأحوال السابقة نجد أن التشريع الإٍسلامي لم تعد له السلطة المطلقة.

والجهاز التشريعي في النظامين الإٍشتراكي والغربي يحدد المعايير بإعتبارها العنصر الأخلاقي, كما يحدد القانون. وهو بذلك يعتبر السلطة القادرة علىٰ المصادقة علىٰ شرعية أي فعل حتىٰ وإن كان دون ذلك. ولذا فإنه ليس من المستغرب أن نرىٰ تشريعاً يصادق علىٰ سلوك اعتراض عليه من قبل تشريع آخر واعتبره سلوكاً يدل علىٰ الإٍستهتار. ولكننا نجد أن الحكم بالشريعة علىٰ النقيض من ذلك تماماً, فليس هناك من فعل يأتي به البشر يعارض حكماً في الشريعة يمكن أن تصادق عليه أي ممارسة تقنينية أو وكالات تشريعية. فما هو غير شرعي طبقاً لشريعة الله سيظل هكذا, وكذلك فما هو شرعي لن يكون في يوم ما أمراً غير شرعي.

وجهاز التشريع الإٍسلامي بإعتبارة ممثلاً للأمة أو نائباً عنها ـــ سوف يبحث باستمرار عن الوسائل والسبل التي تمكنه من عرض القيم التي تفضلها الشريعة وتحقيق الحماية لهذه القيم, ورغم ذلك فإن هذا الجهاز التشريعي ليس له السلطة الجزائية التي تتيسر لأجهزة التشريع الدنيوية ولا السلطة التي يمكنها أن تكسب الشرعية لأمور تراها الشريعة غير شرعية أو عكس ذلك, إلا في إطار ما تحكم به الشريعة ذاتها. وإن كانت له السلطة في وضع القواعد التي تحكم «المستحب» أو «المكروه» أو ما يدخل في نطاق «المباح» (حيث لا يتيسر بيان واضح له). وإننا لنلاحظ أن الفقهاء المسلمين قد قسموا مجالات السلوك الإٍنساني إلىٰ خمسة أقسام من أجل تسهيل القضاء بين الناس, وتيسير التشريع لهم, وهذه الأقسام هي :

(1)الحرم (2) المكروه (3) المباح (4) المستحب (5) المشروع إطلاقاً في كل الأحوال.

وللناس أن يراعوا ظروف زمانهم وما يمليه عليه مكانهم سِواء علىٰ مستوىٰ الأفراد أو مستوىٰ الجماعات, ولهم أن يشرعوا لأنفسهم في نطاق المجالات الثلاث الوسطىٰ التي ذكرناها آنفاً.

وعلىٰ أساس هذا المبدأ ذاته فإن الطاعة في الأمة مشروطة, فهي طاعة لتلك الأوامر التي لا تناقض أحكام الله, فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وإنا لنجد لما عرضناه شاهداً في مفهوم «البيعة» كما يصورها القرآن :

يرجع تاريخ «البيعة» كمؤسسة (سياسية) إلىٰ ما قبل الإٍسلام وهي عبارة عن ميثاق إلتزام يعطي فيه الطرفان عهوداً متبادلة. وقد كرم الله المؤمنين عندما قال لهن أنهم حين يبايعون النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ فإن يد الله فوق أيدهم (القرآن 48 : 10) ومعنىٰ ذلك أن العهد يعتبر مع الله سبحانه, والنتيجة الحتمية لهذا العرض هي أن الرباط يأتي مما يقره الله وإلىٰ المدىٰ الذي يأمر به. كما أن مصدر سلطة النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ تأتي من الإٍقرار الإٍلهي الذي يربطه ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, ويلزم باقي الأمة بطاعته والإٍقتداء به.

إن الآية التي وردت في القرآن لتحديد الطاعة للسلطات التي تأتي من الأمة هي ذاتها التي يؤكد لكل مؤمن الحق في الإٍعتراض وتضمن له حكماً مستقلاً عندما يشعر بالاضطهاد من أمر رسمي.

}يَا أَيَّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْر مِنْكُمْ, فإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إلىٰ الله وَالرَّسُول إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله وَالْيَومِ الآخِرِ ذلٰك خَيرُ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{(4 : 59).

(أي أن نطيع الله سبحانه ورسوله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وأولي الأمر منا أي الأفراد الذين يتولون السلطة من المسلمين وأن نحتكم في هذه الدنيا إلىٰ المعايير التي حددها الله ورسوله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ أي إلىٰ الكتاب والسنة).

وفي الآية التي تسبق هذه الآية يأمرنا الله أن نؤدي الأمانات إلىٰ أهلها, والأمانة في هذا المقام لها معنىٰ ممتد. فطبقاً لتعليم القرآن يجب علىٰ الفرد أن ينظر إلىٰ كل ما لديه من قوة أو سلطة أو ثروة أو قدرات بإعتبارها أمانة سيسأل عنها يوم القيامة. يقول الإٍمام الفخر الرازي «إذا لم تكن سوىٰ هذه الآية (عن تأدية الأمانات) دون غيرها لكانت كافية لإٍقامة حكومة عادلة مستقيمة في الأمة».

فبعد أن رسمت هذه الآية متطلبات الدولة العادلة, أتبعتها بوضع قاعدة الطاعة طبقاً لتسلسل تدريجي : فأول الواجبات طاعة الله, ثم طاعة الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, ثم طاعة أولي الأمر من بين المؤمنين. ولكن طاعة السلطات العامة ليست طاعة عمياء أو غير مشروطة ( القرآن 67 : 10, 5 : 2) فقد جاء في القرآن في وصف الكافرين أنهم يطيعون ساداتهم وكبراءهم علىٰ غير بصيرة (القرآن 33 : 67) أو أنهم بنفس القدر يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم (القرآن 5 : 104) بينما لا يستسلم المؤمنون علىٰ غير استبصار حتىٰ وإن رأوا آيات ربهم (القرآن أنهم لا يعلقون (القرآن 67 : 10).

ويلتزم المؤمنون بطاعة الأوامر العادلة فيما يحبون أو يكرهون, ولكنهم ليسوا كالعبيد ـــ فكل ملكاتهم الناقدة يقظة وعاملة, يؤكد ذلك ما ورد في القرآن الكريم : }مَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُؤْتيَهُ الله الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ يَقُولَ لِلناَّسِ كوُنُوا عباداً لي مِنْ دُونِ الله, وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيَّين بِما كُنْتُمْ تُعَلَّموُنَ الكِتابَ وَبما كُنْتُمْ تَدْرسُونَ* وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلاَئِكَةَ وَالنَبيَّينَ أَرْباَباً, أَيَأمُرُكٌمْ بالكُفْر بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ{(3 : 79 ـــ 80).

إن الأمر الواضح هو أن العبيد فقط هم الذين لا يستطيعون مناقشة أوامر سيدهم أو أن يعترضوا عليها. وإذا ما كان الأنبياء الذين يتلقون الوحي والكتب السماوية, بل وأكثر من ذلك لهم السلطة العامة ـــ إذا ما كانوا لا يستطيعون أن ينسبوا لأنفسهم هذا الحق, فمن الأًوْلَىٰ ألا يقدر عليه فرد عادي من الأمة فيقدم علىٰ إدعاء أن له الطاعة بلا ردّ, بغضّ النظر عن صواب الأمر أو خطئه.

وإستناداً إلىٰ هذه المبادئ الثلاثة, وإلىٰ الإٍستنتاجات التي نتوصل إليها من الآيات الأخرىٰ ذات العلاقة فإن الشريعة ترىٰ دائماً أنه ما من حاكم أو إنسان بيده مقاليد سلطة عامة, له أن يدعي لنفسه أنه فوق المساءلة القانونية. فكل الذين أوكلت إليهم سلطة عامة مسئولون أمام الشريعة كأفراد عاديين, وإذا لم يكن الأمر كذلك, فإن كيان الأمة التنظيمي الدستوري برمته لن يكون سليماً.

إن حق تصريف أمور البشر, كما جاء في القرآن ـــ موكول إلىٰ الله وحده, وإن من يؤت نصيباً من السلطة داخل المجتمع فإنه يؤتاها مع غيرها من القدرات كأمانة من الله, تراعىٰ طبقاً للأولويات التي بيّنها سبحانه, إن السلطة أمانة, والثروة أمانة والقدرات الفكرية والبدنية أمانة, وفوق كل ذلك فإن كافة المسئوليات فيما بينها تعتبر أمانة. وفكرة الأمانة تتغلغل كذلك في التعاليم القرآنية المرتبطة بمجالات الحياة الأخرىٰ.

ومع فكرة «الأمانة» يأتي المفهوم الأساسي الآخر : مفهوم التضحية بإعتبارها أرقىٰ الأسباب لتزكية الروح. ويدل محتوىٰ التعاليم القرآنية بهذا الخصوص علىٰ أن الجسد ينمو ـــ مثلما تنمو الأنعام ـــ بأكل الطعام وهضمه (القرآن 47 ـــ 12)والحياة علىٰ هذا المستوىٰ تضمن للفرد أن يتمتع بما يحقق من راحة, وما يتأتىٰ له من سلطة تعينه علىٰ الحصول علىٰ المزيد منها, ولكن الذات الروحية للفرد عليها أن تسعىٰ إلىٰ نمائها لكي تكون جديرة بالحياة الآخرة. والسبيل إلىٰ ذلك هي التخلص من حرص البشر علىٰ الاكتساب والإٍكتناز. وكلما زاد إقدام الفرد علىٰ التضحية عن طيب خاطر, ارتفع مستوىٰ نضجه الروحي ـــ ولهذا السبب كان «الشهيد» الذي يضحي بأغلىٰ ما لدية وهي حياته في أعلىٰ عليين في الحياة الآخرة.

والمجتمع الإٍنساني هو مجال التضحية بالذات. ورخاء هذا المجتمع يعتمد علىٰ وجود القانون (القرآن 75 : 25) وعلىٰ إقامة حد القصاص (القرآن 2 : 179) ولكن نأتي رابطة الشفقة والرحمة لكي تحفظ علىٰ المجتمع الإٍنساني تماسكه وتعطي الحياة رونقها, فالناس لا يرتكبون خطئاً عندما يصرون علىٰ تلبية حقوقهم ولكنهم سيصلون إلىٰ أعلىٰ الدرجات أخلاقياً عندما يعفون ـــ عند المقدرة ـــ عماً لهم شرعاً في ذمة الآخرين, وكذلك فإن أغلىٰ العلاقات بين البشر هي تلك التي تقام علىٰ أساس الحب أي علىٰ الاستجابة بتقديم مصالح الآخرين علىٰ مصالح النفس.

وتأتي تعاليم القرآن لتبين أن إلتزامات الشخص القائمة علىٰ عهده مع الله تُقدَّم علىٰ حقوقه ويزيد علىٰ مالها من سبق علىٰ حقوقه أنها ذات سمة مطلقة؛ وعلىٰ هذا فإن الوفاء بها لا يرتبط بوفاء الآخرين بإلتزاماتهم أو يعتمد عليه؛ (القرآن 5 : 105).

ولقد حدد الله سبحانه قيماً أساسية معينة يجب صيانتها والإٍلتزام بها في كل مجال من مجالات الحياة الإٍنسانية علىٰ مر العصور, حتىٰ يرتقي المجتمع المسلم :

( 1 ) وأول هذه القيم هي «العدل» (القرآن 7 : 29) وتعتبر هذه القيمة أساسية بالنسبة لكامل البنية السياسية الإٍجتماعية في الإٍسلام. فالإٍلتزام القانوني وكذلك الأخلاقي بوجود هذه القيمة الرئيسة يعد أساسياً لمماؤسة القيم الأخرىٰ وإنتعاشها. إن قوة البنية السياسية الإٍجتماعية للأمة وقدرتها علىٰ إمتصاص الصدمات يُستدل عليها بمدىٰ رعاية هذه القيمة في مجال العلاقات بين الأفراد بعضهم البعض وبينهم وبين الدولة. ووجود العدل في الإٍطار الإٍجتماعي يجعل ممارسة الفضيلة أيسر, كما يضمن إقامة الميزان الحقيقي بين حقوق الأفراد وواجباتهم ـــ سواء الأفراد العاديين أو كافة مَنْ بيدهم مقاليد السلطة في الأمة. وإقامة سيادة القانون ما هي إلا إحدىٰ المظاهر الدالة علىٰ ذلك, وعلاوة علىٰ ذلك فإنه يؤدي إلىٰ تنمية الإٍحساس بالأمن, وإذا ما جمعنا هذه القيمة (العدل) بالإٍحسان فستُشرّب كل العلاقات الإٍنسانية بالرحمة.

لقد أمر الله رسوله بـأن يعلن للناس بأنه ما أرسل إلا ليقيم العدل بينهم. ولا تقتصر إقامة العدل علىٰ المجال القانوني وإنما يمتد هذا العدل ليشمل كافة العلاقات داخل الأمة وما بين الأمة وباقي الإٍنسانية وكذلك الكون كله. ويهيمن علىٰ كل المؤسسات السياسية والإٍقتصادية والإٍجتماعية. وقد كان الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ إبان حياته هو الحاكم والقاضي, ومع ذلك فقد كانت المؤسسات القانونية قائمة, وتتمتع بكيانها كهيئات مستقلة. وفي أثناء حكم الخلفاء الراشدين كان هناك ولاة ومؤسسات أخرىٰ عديدة لإٍقامة العدل بين الناس, مثل مجلس «نظر المظالم» ومكتب «المحتسب» ووكلات الإٍستخبارات «الشرطة» و «الوزارة». وسيظل إلتزام الأمة قائماً إلىٰ اليوم كما كان دائماً بإقامة المؤسسات التي تضمن هذا العدل الممزوج بالإٍحسان في كل الظروف وعلىٰ مر الأزمنة (القرآن 16 : 90).

( 2 ) وتأتي «الحرية» بإعتبارها القيمة الأساسية الثانية ذات الأهمية الكبرىٰ, حيث أنها إذا ما إجتمعت مع «العدل» فإنها تضمن الإٍطار الذي تنمو فيه الشخصية الإٍنسانية, وتنضج وتتهيأ لها الفرصة لتحقيق ذاتها وخلاصها. فما من شيء في هذه الحياة تكون له قيمة دون أن تكون هناك حرية الإٍختيار, ومن خلال الإٍطار الذي تقيمه تلكما القيمتان التوأمان, يستطيع كل مرئ أن يصنع مستقبله ـــ أو أن يشوّه هذا المستقبل. وتأتي الرحمة الإٍلهٰية في هذا المقام أيضاً لتخفف من حدة المقابلة بين «الحرية» كقيمة وبين القيمتين التوأمين «المساواة» و «الأخوة».

( 3 ) فالمساواة قيمة أخرىٰ ذات أولوية عالية جداً داخل الأمة, ولذا فإنه في مجال الفرص المتاحة وكذلك في مجال تحمل التبعات وحل المنازعات, لن تجد شخصاً يحصل علىٰ محاباه أو يتمتع بمكانة خاصة, كما لن تجد شخصاً يعاني من عبء زائد أو يتألم لمسئوليات إضافية. ويجب علينا أن نذكر هنا أن مبدأ المساواة لا يتناقض مع المبادئ الأخرىٰ في الإٍسلام بمعنىٰ أنه كما زادت القدرة زادت المسئولية.

( 4 ) والقيمة الرابعة في هذا المقام تتمثل في مبدأ الأخوة بين أفراد الأمة. ويعمل هذا المبدأ علىٰ موازنة المصاعب التي يمكن أن تنشأ حين يطبق العدل أو تراعىٰ المساواة دون أن يتشبعا بالرحمة.

ومما يخفف من الصرامة في تطبيق مبدأ العدل, إمتزاجه بمبادئ الرحمة والشفقة والحب والعفو التي تتواجد عادة بين الأخوة الحقيقيين. فتلكمو المبادئ هي التي تجعل من رابطة «الأسرة» أفضل رابطة نصبو إليها. والقرآن يشير إلىٰ أن روابط الدم أساسية للنمو الإٍنساني (القرآن 4 : 1 ـــ 8 : 75) بل للوجود ذاته. وإذا ما امتد مبدأ الأخوة فإنه سيشمل رابطة العقيدة ويجعلها مشابهة لرابطة الدم من أفراد الأمة, (القرآن 49 : 10). وإن هذا المبدأ يجعل في طياته عناصر المساواة دون تضييع للحقوق, والثقة المتبادلة التي لا يُطفىْ جذوتها بُعد الشقة أو تقادم العهد, والعواطف المشتركة التي تقوم علىٰ الأخذ والعطاء دون أن نهتز أو تتأثر الحقوق, والتعاضد القائم علىٰ الفهم والذي يقدم المساندة وقت الحاجة, ويوجد الصداقة والاهتمام بأمور الأفراد بينهم, ويزكي الرغبة في المشاركة والمودة والتوقير. وقد أدت المحافظة علىٰ هذا المبدأ إلىٰ تماسك بنيان الأمة علىٰ مر القرون ومهما تنوعت المواقف. وبدخول الفرد في دين الإٍسلام فإنه يشعر بالمسئولية تجاه كل فرد يدخل في نطاق هذه الأخوة بغض النظر عما يقوم به الآخرون, أو عما نفعله حكومات عصره. ومن نتائج هذا الأمر أن أحوال الأمة تزدهر سواء قامت تلك الحكومات بتحمل مسئولياتها كاملة, أو تقاعست عن هذه المسئوليات.

ويقوم مفهوم «الأخوة» بدور رئيسي في ديناميات نسق القيم الإٍسلامية. فمن ناحية نجده يدعم كل القيم الأساسية التي ذكرناها آنفاً ـــ فرادىٰ أو محموعة, ومن ناحية أخرىٰ فإنه يعمل بشكل مباشر علىٰ تقليل الصراع ومساعدة غيره من فضائل النفس الإٍنسانية علىٰ النمو والإٍنتعلش, ويُمهد الطريق أمام الحركة الإٍيجابية نحو الوحدة العقدية علىٰ حساب روابط اللون واللغة والمكان والمولد .. الخ.

( 5 ) أما المبدأ الخامس فهو «الأمانة» ولا يقتصر هذا المبدأ علىٰ مسئولية الشخص تجاه حقوق غيره وممتلكاتهم, وإنما تجاه ذاته وتجاه قدراته ومقتنياته التي استخلفه الله فيها, لتُستخدم وتُستغل فيما يوافق الهَدْى الإٍلهٰي. ويعلمنا القرآن أن تلك هي مقتضيات الخضوع لله في الإٍسلام. إن الفرد ليحقق التزكية الروحية بالخضوع رغباً إلىٰ الله وإلىٰ عهده معه سبحانه, فيهب حياته وكل ما يملك بأن له حياة أفضل وأعظم في العالم الآخر خالداً فيها, وبمجرد أن يلتزم المرء بتنظيم حياته طبقاً لعهده مع الله فإن مفهوم الأمانة يكتسب أبعاداً وديناميات جديدة.

( 6 ) والقيمة الجوهرية ذات العلاقة, والتي تلي ذلك هي «المسئولية». فكل امرئ ـــ ذكراً كان أو أنثىٰ ـــ مسئول عما يقوم بتأديته وعما يعقد عن أدائه تجاه نفسه, وتجاه قدراته وتجاه مقتنياته, وهذه المسئولية حتمية وتعتبر أمراً مقضياً, ولقد يؤاخذ الله المرء بما يعمل أو يفيض عليه برحمته في هذا العالم أو في العالم الآخر, ولكن التخلي عنها أمر غير وارد.

وإذا ما نظرنا من منظور هذه القيم الرئيسة فإن السلطة السياسية يجب أن تكون في مقام الأمانة, ولذلك نجد القضاء القرآني بالطاعة في المجتمع الإٍسلامي مسبوقاً بالأمر بها :

}إنْ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلىٰ أَهْلِهاَ{(4 : 58).

إن ممارسة السلطة العامة تهدف إلىٰ خلق بيئة يشيع فيها الأمن والأمان ويتمتع فيها الناس بالتقدم والتطور والإٍمتياز, وتعمل هذه السلطة العامة علىٰ دعم الفرد ولا تسعىٰ إلىٰ استبداله. ويتأكد ذلك علىٰ يد السلطات الحاكمة حين تحافظ علىٰ القيم التي أشرنا إليها آنفاً, وتمارسها وتحمي معها الحقوق الإٍنسانية.

إننا لنذكر أن رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ في حجة الوداع ـــ قد أشهد ربة والأمة كلها علىٰ أنه قد بلّغ رسالته, واستطرد بقول : «إن الله يقول يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثىٰ وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم, لافضل لأسود علىٰ أبيض ولا لأبيض علىٰ أسود ولا لعربي علىٰ أعجمي ولا لأعجمي علىٰ عربي إلا بالتقوىٰ. إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام إلىٰ أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا (يوم عرفة) وكحرمة شهركم هذا (ذي الحجة) في بلدكم هذا».

وهكذا يبين القرآن الكريم «القيم» التي علينا رعايتها والتمسك بها, والأهداف التي نمارس من أجلها السلطة, ويعيّن الظروف التي توجب طاعة أولي الأمر, ثم يستطرد ليبينّ لنا الأَساليب التي يتعين علىٰ السلطة استخدامها. ولقد وجّه القرآن الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وهو المخصوص بالوحي الإٍلهٰي ـــ إلىٰ استشارة الناس في أمور الأمة (القرآن 3 : 159) وقد ورد عنه ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ أنه قال لإِثنين من صحابته الأوائل أبي بكر وهمر رضي الله عنهما, أنهما إذا إتفقا علىٰ أمر فإنه لا يخالفهما (القرطبي). كما أنه لا يخفىٰ علىٰ أحد أن الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ قد استشار صحابته في كثير من أمور المجتمع, وفي أمور الحرب والسلام. بل وتخلىٰ عن إقتراحه واتبع نصيحتهم.

وعندما أرسىٰ القرآن قاعدة الطاعة في الأمة في الآية التاسعة والخامسين من سورة النساء }أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولي الأمْرِ منكْمُ{فإن ذلك يعني أن طاعة الله تُلزم الأمة بإقامة الولاية العامة من بين أفرادها, وأن تستخدم فيها أولئك الذين يلتزمون بالقاعدة الآنفة, مثلهم مثل أي فرد آخر. كما أن هذا الأمر يعني ضمناً الإٍلتزام بالشورىٰ في الأمور العامة فقد اعتبرها القرآن سمة المؤمنين حقاً }وأَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنهُمْ{(38 : 42) وذلك يعني أنه من سمات الدولة المسلمة حقاً أن تكون ممارسة السلطة فيها خاضعة لعملية الشورىٰ.

ومن الأهمية بمكتن أن نفهم معنىٰ كلمة «الشورىٰ» فهماً جلياً, وأن ننقيه مما شابه من شكوك وأحاط به من سوء تأويل, فالمعنىٰ الأساسي لكلمة «الشورىٰ» هو استخلاص عسل النحل من شمعه, وكانت كلمة الشورىٰ تستخدم في التراث العربي إشارة إلىٰ التشاور الذي يحدث بين أفراد القبيلة لتحديد استراتيجة الحرب, وكذلك في مواجهة أي مشكلة تهم القبيلة كلها, فلا نجد في النظام القبلي مفهوم الحاكم المطلق أو السيد الذي تطاع أوامره مهما كانت آراء أفراد القبيلة الآخرين, فحرية المناقشة مكفولة يسودها فهم واضح بأن إجماع الآراء يجب أن يُتوصل إليه لا أن يُفرض. ولذا فإن كل رأي يجب أن يُعتمد بصيغة مباشرة أو غير مباشرة. ومن ثم تأتي ضرورة التواصل إلىٰ الرأي الجماعي وإخراجه إلىٰ حيز التنفيذ حين يتهدد وجود القبيلة ذاتها وغالباً ما يحدث ذلك ـــ تلك الضرورة أدت إلىٰ أن تكون المشاركة قوية وإيجابية وكذلك بنّاءة, وأن يستمر الحوار الموصّل إلىٰ الإٍجماع.

إن أهداف ممارسة السلطة والأولويات التي يجب علينا مراعاتها قد بُيَّنت للمجتمع المسلم, وعلىٰ قمة هذه الأهداف والأولويات تأتي حماية القيم التي ذكرناها. والحقوق الإٍنسانية التي أقرها القرآن للمسلمين, وأكدتها السنة. وعلىٰ نفس المنوال تكون حماية المؤسسات القضائية والمحاماة من القيم الرئيسة, وإذا ما كانت رعاية هذه القيم لها درجة عالية بين الأولويات فإن العلاقة بين الأولويات ذاتها يجب أن يكون لها نصيب من الرعاية كذلك (القرآن 9 : 19) ولذا فإنه لا خلاف أن مضمون الحوار أمام الجهاز التشريعي الإٍسلامي الحق سيقتصر علىٰ تبيّن السبل والوسائل التي ترعىٰ هذه الأولويات وتلك الأهداف التي حددها الله سبحانه, ومن ثم فإن مجال الحوار هذا سيكون أضيق من مجال الحوار أمام الجهاز التشريعي العلماني. كما أن الحوار أمام الجهاز التشريعي الإٍسلامي سيستهدف التوصل إلىٰ الإٍجماع الذي يلتزم كل فرد بالسعي إليه. وهكذا فإن فكرة إعتبار هامش الأغلبية أساساً لإٍصدار القرارات وإقرارها تعتبر فكرة غريبة عن طبيعة الشورىٰ في الإٍسلام.

وهناك مفهوم رئيسي آخر من مفاهيم النظرية السياسية في الإٍسلام ذلك المفهوم الذي يعتبر أن إقامة الخلافة علىٰ الأرض أمر موكل إلىٰ الأمة كلها, فالخلافة علىٰ الأرض هبة من الله للأمة كلها, وإدراك هذا المفهوم أساسي لفهم العلاقات في الأمة بين الحاكم والمحكوم. فالنظرية السياسية للدولة تجعل من الحاكم أو الحكام أدوات للأمة مما يستتبع حق الأمة في تصحيحهم وتقييد سلطاتهم واستبدالهم.

إن القرآن يؤكد أن هبة «المُلك» أو إقامة «الخلافة» علىٰ الأرض هي نعمة من الله لمجتمع المؤمنين جزاء بما يعملون من الصالحات, وعلىٰ هذا الأساس فإن المجتمع كله يُحرم منها إذا ما غلبت عليه شِقوته وتدني عما آرتضاه الله له. يقول سبحانه : }وَعَدَ الله الَّذيِنَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْصِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِيِنَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكَّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُم الَّذِي إرتْضٰى لهُمْ وَليُبَدَّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً, يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ{(24 ـــ 55).

وقد جاء في تفسير المفسرين لما جاء في الآيات عن الاستخلاف : أي يجعلهم فيها خلفاء متصرفين بالسلطة. ووجدوا سنداً لذلك فيما ورد في القرآن : }يادَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَىً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقَّ وَلَا تَتَّبعْ الهَوىٰ فَيضِلَّكَ عَنْ سَبيِل الله{(38 : 26).

وفي سورة النساء قوله تعالىٰ :

}أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلىٰ مَا آتَاهُمً الله مِنَ فَضْـِلهِ فَقَدْ آتَيْنَا آل إبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً{(4 : 54).

ويحذر الله المؤمنين أن هذه النعمة لاتُؤتىٰ أولئك الذين لا يحفظون عهدهم ولا يطيعونه, فيقول سبحانه :

}وَإذْ ابْتَلىٰ إبرَاهِيمَ رَبُّهُ بَكَلِماَت فَأَ تَمَّهُنَّ قَالَ إِنَّي جِاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً, قَالَ وِمِنْ ذُرَّيَّتي؟ قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمينَ{(2 : 124).

كما أوضح القرآن أن هبة «الملك» أو «الخلافة» هي هبة للأمة كلها وليست لفرد واحد. وإذا ما أردنا دليلاً علىٰ ذلك فسنجده في هذه الآيات :

}وَإذْ قَالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ آذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُكْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَالَمْ يُؤتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ{(5 : 20).

ويقول سبحانه في سورة الحج :

}الَّذيَن إنْ مَكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَ آتوُا الزَّكَاةَ وَأَمَروُا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ{(22 : 41).

ففي الآية الأولىٰ (5 : 20) ذكر الله اليهود كمجتمع كامل بإعتبارهم قد أوتوا الحك والملك وفي الآية الثانية (22 : 41) نجد أن الإٍشارة للناس جميعاً وليست لفرد واحد. وفي آية ثالثة في ذات الموضوع يقول الله تعالىٰ في سورة الأنعام :

}وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ حلَتئِفَ الأَرْضَ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضِ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ{(6 : 165).

ولما كانت الهبة للناس كافة فما من أحد يُستثنىٰ منها, فالمشاركة في الأمور العامة حق وواجب ومسئولية مستمرة يحملها الجميع.

كما أوضح القرآن هبه «المُلك» تستهدف إقامة العدل بين الناس وبأساليب عاداة فقد جاء فيه قوله تعالىٰ :

}قُلْ أَمَرَ رَبَّي بِالْقِسـْطِ ..{(7 : 29)

}يَاأَيَّها الَذِينَ آمَنُوا كُونوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسطِ ولَا يَجْرمَنكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلىٰ ألاّ تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ وَأتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{(5: 28).

}وَتَعَاوَنُوا عَلىٰ البِرَّ والتَّقْوىٰ وَلَا تَعَاوَتُوا علىٰ الإٍثْم وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقَوا الله{(5 : 2).

ويتحدث القرآن عن وجوب التفكير المستمر في أمر الأمة وضمان هدايتها : }وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدَّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ{(9 : 122).

ونلاحظ هنا أيضاً وجوب تكوين طائفة من الأفراد الأكفاء من ذوي الثقة والخبرة.

وخلاصة القول أن القوة والسلطة تخص الأمة, والإٍلتزام أيضاً التزام جماعي, وأن مكانة الحكام علىٰ أحسن صُوَرها هي مكانة مندوبي الأمة. وقد ذُكر هذا الأمر صراحة في عهد مبكر, يصل إلىٰ القرن السادس الهجري. فقد أوضحها الكاساتي (المتوفي سنة 587 هجرية) عند مناقشه لموضوع بقاء القاضي في منصب القضاء بعد وفاة الحاكم الذي عيَّنه, حين قال :

«رغم أن القضاة يعلمون بصفتهم نُواباً عن ولي الأمر, فهناك تمييز أساسي واضح يميزهم عن غيرهم من العمال ففي حالة العامل العادي نجد سلطته تنتهي بوفاة رئيسه ويعتبر بعدها مقصيَّا عنها, ولكن عندما يموت الخليفة أو يترك منصبه, فإن عُماله من القضاة والقادة لا يتركون مناصبهم كأمر لازم. والسبب في هذا الاختلاف يكمن في أن العامل يععمل في نطاق سلطة الرئيس وينتهي عمله بوفاة الرئيس, ولكن القاضي لا يمارس وظيفته تحت سلطة الخليفة بإعتباره رئيساً له وإنما ممثلاً عن الأمة وحارساً علىٰ حقوقها وهو ي ذلك مثل الخليفة نفسه كوكيل عنهم ولهذا السبب فإن موقفه ليس كموقف الوكيل في إبرام العقةد, أو الوكيل في إنفاذ النكاح, وإنما مكانته هي مكانة الوكيل عن أفرد المجتمع المسلم, ويمارس سلتطه التي تظل قائمة بعد وفاة الخليفة ولذا يحتفظ القاضي بمنصبه وقضائه».

وهكذا تتضح لنا أمورٌ كثيرة تتخلص في اعتبار طبيعة العهد الموثق بين الإٍنسان وربه واعتبار الأولوية لطاعة الله ورسوله والطاعة المشروطة للسلطات العامة, واعتبار الإٍلتزام بتصحيح المنكر من الأمر والوقوف في وجه الظلم, واعتبار أن السلطة العامة تستمد عملها من وقوفها مع العدل والحفاظ علىٰ حقوق الإٍنسان وكرامته, واعتبار أن السلطة والقوة السياسية المتمثلة في «الملك» هي حق الأمة كلها, وأن الحام يمارسونها كوكلاء عن الأمة وللأمة حق مساءلتهم وعزلهم. وفي ظل هذه الإٍعتبارات فإنه من المدهش حقاً أن نجد فرداً من أفراد الأمة يدعي حتىٰ وإن ناقض حكم السلطات القضائية العليا في الأمة أو أمر الأمة ذاتها. ولاشك أن تاريخ المسلمين قد شهد نمتذج كثيرة من مثل هذا الإٍدعاء عندما كان الشخص الذي ادعىٰ هذه السلطة هو الخليفة أو الإٍمام, وقد تبين لنا أن مثل هذا الإٍدعاء لا يتفق مع مجموعة المبادئ الدستورية التي وردت في الكتاب والسنة.

***

دار جدل كثير بين الدارسين للتراث الإٍسلامي حول موضوع الشورىٰ وهل تعتبر النصيحة التي تسير بها الأغلبية علىٰ حاكم الدولة الإٍسلامية أمراً مفروضاً عليه ملزماً له. فقد رأىٰ بعض الفقهاء وجوب التزام الحاكم بها, بينما رأىٰ مثلهم ـــ وربما أكثر ـــ أن الشورىٰ أمر يلزم علىٰ الحاكم التخلق به, ولكنه غير ملزم بإتباع ماجاء به. والذين يصرون علىٰ تأكيد حق الحكم في إتخاذ قرار يخالف رأي الأغلبية يرتكنون إلىٰ المبدأ العام الذي يرد عادة في كتابات الجمهور من فقهاء السنة وعلماء الكلام من أن أخذ الشورىٰ ـــ وليس إتباعهم ـــ أمر لازم ويستندون في ذلك إلىٰ بعض الأحاديث التي وردت تؤيد هذا الرأي, وإلىٰ بعض ما ورد عن الخلفاء الراشدين وكذلك إلىٰ السند التاريخي في تطبيق الولاية في أراضي المسلمين.

وسنعرض فيما يلي لأسباب هذا التصارع في الآراء, حيث أن الوضع المعاصر للأمة قد دفع البعض إلىٰ تقدير الموقف علىٰ أساس أن الشورىٰ في أمور السياسة تعتبر أمراً ملزماً خاصة تلك الأمور التي تتطلب القيام بعمل تشريعي.

إن قضية الطبيعة الملزمة للشورىٰ كما تظهر في الدولة العصرية تختلف بصفة أساسية في بعض الوجوه عنها كما ظهرت في الحقبة الأولىٰ من التاريخ الإٍسلامي. فالسياق الذي نتعامل فيه في الدولة العصرية والذي تمارس السلطة حلاله قد تغير, فقد إتسعت واجبات الحاكم هذه الأيام, ولم تعد تقتصر علىٰ حفظ القانون والنظام وحماية الحدود الطبيعية للدولة, بل أصبحت مهمة الحكم أكثر تعقيداً, وتتطلب حنكة وخبرة تخصصية لا يمكن أن تتحقق في إمكانيات شخص بمفرده, كما تختلف السلطات الحاكمة اليوم عنها في الأزمنة السابقة؛ في المدىٰ الذي تصل إليه في تدخلها في الشؤن العامة, وكذلك في الأسلوب الذي يتم به هذا التدخل, ولا ريب أن الحاكم الفاضل الفطن يكون دائماً مصدر عون في الحكمة العصرية ولكن الدور المناط بهذه الحكومة يتطلب أكثر من مجرد الحكمة بمعناها القديم, فالقضايا المعقدة المرتبطة بإتخاذ القرلر في تخطيط السياسة تستلزم نوعاً من المعرفة التخصصية بعيدة عن منال أي فرد, ومن ثم فإن المشاركة في السلطة تصبح أمراً لازماً أردنا أم أبينا.

وتنقسم سلطة الحكم في العالم المعاصر ـــ من الناحية النظرية ـــ بين الجناح التشريعي والجناح التنفيذي والسلطة القضائية. وإن كان مبدأ الفصل بينما لم يسلم من الإٍنتهاك في أكثر من مناسبة. ويختص الجناح التشريعي أساساً بتقصي الحلول للمشكلات المعاصرة, ووضعها في صيغة تشريعية تجعلها قابلة للتطبيق في المواقف المتعددة التي تنشأ داخل المجتمع حيث تقتضي طبيعة الأمور أن يختص الشرَّع بالمشكلات الجمعية, بينما تترك معالجة المشكلات الفردية للقائم بالتنفيذ, ولذا فإن نصوص الحلول التشريعية تأتي علىٰ هيئة قواعد تختص بتطبيقها في الحالات الفردية وكالاتٌ غير تشريعية وغالباً ما يلجأ لقائم بالتنفيذ إلىٰ إقتحام نفسه في مجال التشريع, وذلك عن طريق اقتراح تشريعات معينة, وقد تأتي المبادرة في بعض الأحيان من الجانب الآخر عندما يطلب المشرع القائم بالتنفيذ مساعدته بتزويده بالمعلومات اللازمة أو تحديد الحيثيات, وربما يستدعي الأمر تقديم العون في وضع مسودات التشريعات الجديدة. وتُقدَّم حلول المشكلاث علىٰ هيئة توصيات يقوم المشرّع بدارستها ومناقشة مزاياها وعيوبها, حيث يصل إلىٰ الحل التشريعي. وحتىٰ بعد المناقشات المستفيضة والحوار المطول فإن المشرعين قد يكتشفون أن التشريع به ثغرات أو أخطاء أو تناقضات, فيعالجونها عن طريق إصدار تعديلات معينة. وعلىٰ هذا فإن المهمة تختلف إختلافاً أساسياً عن القرارات التنفيذية المتعلقة بالقانون والنظام, أو بتعيين الموظفين المدنيين, أو المرتبطة بالحملات العسكرية التي كان حكام الماضي بصفة عامة يناط بهم القيام بهام. إن ما ورد في كتابات الفقهاء والمتكلمين من ملاحظات حول إعتبار مثل هذه القرارات هي في النهاية مسئولية الحكام ـــ لا يمكن أن نستخدمها كدليل صادق علىٰ إستبعاد الشورىٰ في الأمور ذات الطبيعة التشريعية. ويعتبر هذا التمييز بين الأمرين أساسياً بالنسبة للجدل الدائر حول الطبيعة الملزمة للشورىٰ.

كما يجب علينا نذكر أمراً آخر وهو رغم أنه في الفترة الأولىٰ من التاريخ الإٍسلامي كان التأكيد علىٰ وجوب أن يتوفر لدىٰ الحاكم الأهلية للإٍجتهاد فإن التأكيد في الفترة الأخيرة إقتصر علىٰ وجوب تحلي الحاكم بالفضيلة. أما أساليب التشريع من إجتهاد وإجماع فقد أصبحت مقصورة علىٰ المتفقهين في الشرع, ولم يكن في مقدور أي حاكم شرعاً أن يخطىٰ إجماع الأمة فيما يتعلق بالأمور التشريعية.

إن أغلب الدول المسلمة المعاصرة قد تخلصت من ربقة الإٍستعمار الأجنبي عبر فترات مختلفة, وحقت الحرية السياسية, ولكنها استمرت في الاعتماد علىٰ النماذج السياسية الغربية في تحديدها لإٍطار نظامها السياسي ولم تستطع الطموحات الإٍسلامية أن تتناغم مع النماذج الغربية المستوردة, وكذلك لم تستطع الطموحات الغربية أن تحقيق شيئاً. ولم تتيسر لنا نماذج إسلامية تحقق الإٍجتهاد الجمعي والتشريع القانوني رغم أن الحاجة إليها كانت ـــ وماتزال ـــ قائمة, كما لم يكن هناك شخص له من الكفاءة ما يجعله أخلاً لوضع نماذج حديدة يمكن أن تحظىٰ بقبول فوري من الأمة بإعتبارها نماذج إسلامية حقة. ويرىٰ كثير من الناس أن الملجأ الآمن يمكن أن نجده إذا ما انبعنا نموذجاً معيناً من بين النماذج العديدة التي سادت في زمن أو آخر في العالم المسلم. وفي الوقت ذاته, فالإٍسلام بإعتباره الدعوة التامة فإنه من الناحية النظرية أحق بأن يعطينا حلاًّ لأي مشكلة تنشأ بيننا, وأن الأمر يستدعي البحث الفعال. وسوف نرىٰ أن مثل هذا المدخل ن يهدينا إلىٰ ضالتنا.

إن التدهور البطئ الذي تعرض له العالم المسلم لمئات من السنين في الفترة التي سبقت الصحوة الحالية ـــ كانت له استجابة غريبة جداً بين عدد كبير من الأفراد الذين يشغلون أنفسهم بأمور هذه الأمة. وكان من الصعب علىٰ أولئك المسلمين المهتمين أن يجدوا آذاناً مصغية يمكن أن تستجيب لما يعرضون من برامج تستهدف الإٍصلاح الداخلي الجماعي, وهم يعيشون في دول تتخذ من أسلوب الإٍدارة السياسية القهرية نموذجاً للتعامل فيهت. وأقام الحكام في كل مكان وعلىٰ مر القرون نظاماً تشريعياً موازياً يداهن الشريعة ويجعل لها السيادة من الناحية النظرية فقط بينما يندر ألا تُنتهك جهاراً. ورغم ذلك كان هناك كثير من العلماء الذين تولوا صلاحيات مختلفة في تلك الدول, بينما ظن علماء هذه الفترة من الملتزمين والمهتمين أنه من الأفضل أن يسحبوا بكرامتهم من ميدان لن يجدوا فيه ترحيباً بهم, وأن يصونوا الشريعة لأيام أخرىٰ أفضل يأتي بها المستقبل. وقد كان لهذا الإٍنسحاب ما يبرره من الحكمة العملية ولكنه أدىٰ إلىٰ سوء حظ هذه الأمة بدرجة كبيرة. وما كان في الأصل سيفاً يَدْفع, جعلوه بأيديهم مجرد درع لا يقي ولا ينفع. وعطلوا نظاماً نشريعياً إجتماعياً عظيماً, ونزعوا عنه فعاليته وأصبحت التعليقات ذات الطابع الديني تعطيه طابعاً يُبعده عن الواقع التقدمي.

وقد مرت قرون عديدة توقف فيها الإٍجتهاد الصحيح وفصلت بين العصور التي شهدت رُقيّ المسلمين وبين العصر الحالي : ونشأت الحاجة الملحّة لتواجد قدر كبير من القدرة الإٍبداعية لتكوين السياسات, فتفجَّر المعرفة التي يشهده هذا العصر يتطلب طريقة جديدة للتعايش بين الإٍسلام والعصرية, ويحتاج إلىٰ تحديد جليَّ من الأمة بشأن أمور تغطي مجالاً واسعاً يتناول أساليب قبولها وإمتصاصها, والقواعد التي يتم بها هذا القبول وذلك الامتصاص, وتلك في حد ذاتها مهمة غاية في التعقيد. إن من السهل قبول ما هو جديد وما هو مريح, ولكن من الصعب بمكان أن تتخلىٰ عن ما هو قديم ومألوف. فالناس دائماً يبكون وهم يدفنون موتاهم. وقد يكون من الصعب جداً أن يقلع المرء عما استقر عليه فكره من آراء, فمثل هذا الأمر يحتاج إلىٰ اعتقاد متين والتزامات جديدة قوية, تضمن له مسيرة التحول هذه. والحراك الكلي من أجل تحقيق النظام الجديد يعتبر مجهوداً متعدد الجوانب, ولا يمكن تحقيقه من خلال عمل سرّي أو علىٰ يد فرد واحد, أو بواسطة جماعة صغيرة.

إننا حين ننظر إلىٰ زخم المشكلات التي تواجه الأمة بوضعها الحالي وهي مقسمة إلىٰ دول متعددة تعتمد علىٰ ولائها الوطني. نجد أن الكثير من هذه المشكلات ينشأ من عدم استجابة الناس لما يظهر علىٰ الساحة الرسمية بإعتباره عملية تستهدف الإٍسلامية. ويرجع السبب في ذلك إلىٰ أن البرامج الراسمية غالباً ما تكون نتاج حلول وسطية بين القوىٰ البيروقراطية والجماعات السياسية التي تحتل مقاعد السلطة. وكلاهما ليست له صلة قاعدية مباشرة بالإٍسلام, وإنما وُضعت برامجهما في غالبيتها لكي تمكنهما من الحصول علىٰ درجات تجعلهم في عداد الثوريين المسلمين, دون أن يقوموا باتدخل في الأوضاع القائمة إلا في أضيق الحدود الممكنة, وخاصة فيما يتصل ببُنية السلطة. ولكن الناس لسوء حظ هؤلاء لا تخدعهم تلك الأمور بسهولة ولا يأخذهم الانبهار الوقتي, فلقد علمتهم السنون فن المراقبة الصامتة الحزينة لألاعيب الحكام المستعمرين وأذيالهم, وعرفوا كيف يأخذون حذرهم, ولم يفقدوا تلك الخبرة, بينما لجأ الحاكم إلىٰ مداهنتهم والتقرب إليهم وتملقهم بإسم الإٍسلام, والناس يأبون أن يستجيبوا لهم, فهم يحنون رؤوسهم ويبتسمون, دون أن يتأثروا. وربما كان أفراد الأمة دون المستوىٰ في تحديد ما هو إسلامي ولكن لديهم من الحدس ما يجعلهم يرفضون ما هو صوري أو زائف.

وبقيت مجالات واسعة تتطلب الاجتهاد والاجتماع الأصولي دون أن يقربها أحد, إما بسبب أن ما بها من مشكلات يُثير الرهبة, أو أن قلة من الحكام هي التي تميل إلىٰ المخاطرة بمواجهة ثقل الحجة التاريخية. حتىٰ وهم يدركون عدم قدرتهم علىٰ مسايرة ما ورد عمت سبقهم, أو علىٰ تحمل تبعة حسابها علىٰ الإٍسلام.

وتزداد المشكلات تعقيداً عندما ندرك حقيقة الأمر بأن غالبية الحكام في بلاد المسلمين لن يجدوا لهم سوىٰ قاعدة ضيقة من السلطة عندما تفرض عليهم التعاليم القرآنية أن تشارك الأمة كلها في هذه السلطة. ومن ثم تأخد القوات المسلحة وكذلك القوىٰ البيروقراطية بزمام السلطة دون أن يكون لها تمثيل ـــ وكلا الفئتين أوجدها الحكم الإٍستعماري ليكونا الصفوة في العصر الحديث. وسيطرت علىٰ تركيب شخصية أفرادهما المكونات الغربية, بغض النظر عن انسجامها أو تناقضها مع الطموحات الإٍسلامية. وكلاهما يعمل علىٰ نسق الرئاسة مقابل التبعية, ونظام الأمر مقابل الطاعة, وليس لديه أدنىٰ استعداد أو قدرة علىٰ العامل مع الجماهير طبقاً لمبدأ الإٍستجابة التطوعية بمجرد طلبها. ولذا فإن الممارسة السياسية الطبيعية لم تحظ بالقبول عند أفراد هاتين الفئتين من الصفوة الحاكمة. وإذا ما حدث وأن هددت هذه الممارسة بقلب الوضع القائم فجأة, إعتبروه تحريضاً علىٰ الفتنة والإٍنشقاق, ومن ثم كانت جريمة. ولذا فإن أية أفكار تطرفية تهدف إلىٰ قلب الوضع القائم بطريقة جذرية لن تليق أي ترحيب ـــ حتىٰ وإن كانت إسلامية.

والتأثير المعتاد لهذه العوامل علىٰ المستوىٰ العياني من إدارة الدولة يكون في :

أ‌)       أن مدىٰ التأثير يمكن أن يُسمح به للسياسات التي تنبثق من الجناح التشريعي قد سبق تحديده عن طريق الدور المهيمن الذي يقوم به الجناح التنفيذي في بناء المقترحات الخاصة بالقرارات التشريعية الملموسة, والذي يقوم دائماً بإعداد المذكرة التخليصية المصاحبة للقرارات المقترحة والتي تتم صياغتها بطريقة تضمن التأييد للتشريع المقترح. وإلا فقد يلجأ الجناح التنفيذي إلىٰ التحكم في مصادر الإٍعلام وتوجيهها ويحرص علىٰ ذلك بصفة دائبة أكثر من حرصه علىٰ نقاء ذاته. ونتيجة لذلك نجد أنه ما من مرة يتقدم فيها الجهاز التشريعي بمذكرة معارضة للمشروع المقترح من الجهاز التشريعي يعتمد تقريباً وبصفة مستمرة علىٰ الأفكار المستحدثة أو الآراء الجديدة التي ترد في النقد الذي يطلقه أعضاء المعارضة وهم في غفلة عما قد يتعرضون له من خطر الإٍعتقال. ومن الواضح الجليّ أن ذلك كله بعيد عن التنظيم المثالي.

ب‌)  والأمر الثاني أن التشريع الماصر عامة يأتي علىٰ درجة عالية من التعقيد لا يتسنىٰ معها للعضو العادي في الجهاز التشريعي أن تكون له من القدرة أو يكون لديه من الوقت ما يمكّنه من دراسة كل فصل فيه دراسة متأنّية, أو الإٍسهام القيّم فيه, ومن ثم يجد من الأيسر عليه أن يوافق علىٰ ما ورد في الصيغة الرسمية. والنظام الحزبي يدعم هذه الممارسة لأن أي عضو في حزب الأغلبية يجد أنه من الكياسة والفطنة ألا يغضب الفئة المعينة بالسلطة التنفيذية وهي التي سيتعامل معها لكي تجعله يحافظ علىٰ شعبيته في دائرته الإٍنتخابية, أو أن يكون صوته محدَّداً بتفويض الحزب ووصايته.

جـ ) والعامل الثالث الذي يتسم بالأهمية يتمثل في قاعدة القصور الذاتي. فأعضاء الحكومة من البيروقراطيين, من المفروض أنهم موكلون بالمساعدة في تنفيذ السياسات. ومن أجل ذلك يشكلون الأداة التي تقوم بترجمة السياسة إلىٰ واقع عملي. والأمر المؤكد أنه خلال هذه العملية يتم تعديل السياسة ببطء شديد لا يدرك معه أحد ما حدث. ولكن واقع الأمر غير ذلك, فالبيروقراطي العادي يرىٰ أن مجرد انحراف عن خطة العام المنصرم بمقدار خمسة بالمائة يُعد أمراً ثورياً, ولذا فقد أصبح من طبيعة الأمور أنه ما من أحد من العاملين بالحكومة أو علىٰ الأقل في دوائرها المعتادة ممن يوكل إليهم دراسة خططها وأفكارها يستطيع أن يحوّلها إلىٰ سياسات أو برامج تشريعية مناسبة.

والآن, لا نجد سوىٰ القليل جداً مما ذكرناه آنفاً من تعقيدات يرد في الكتابات التي تزخر بالآراء المؤيدة لإٍعتبار الشورىٰ مُعلمة, وليست ملزمة. فسياق أحداثها مختلف تماماً, وكذلك طبيعة المشكلات التي تتناولها.

لقد كان أغلب الحكام في العصور الأولىٰ للإٍسلام أشخاصاً نقر لهم بالفضل والجدارة. وكان لهم ما يؤهلهم للإٍجتهاد فيما يلزم. كما أن فُرص تصارع الآراء في الأيام الأولىٰ من الإٍسلام كانت دوم مستوىٰ التعقيد الذي نراه اليوم ولم تواجه الحكام وقتها أي صعوبة في أن يجدوا الصفوة الناصحة, حيث أن للإسلام وقتئذ قاعدته الصريحة في تحديد الأفضلية والمكانة داخل الأمة. أما في ظل النظام القائم فإن الرؤية فيما يختص بالعلاقة بين المكانة الإٍجتماعية من ناحية وبين الأفضلية والكفاءة من ناحية أخرىٰ قد إهتزت, وتعرض مبدأ المساواة إلىٰ التحريف في تطبيقه, حتىٰ أن فكرة الأفضلية القائمة علىٰ إستحقاق الجدارة وإقرار العامة بها قد آهترأت .. ولأن إقرار التميز للصفوة الفاضلة في الفترة الأولىٰ كان أمراً سهلاً؛ فلم يكن هناك مجال للبحث عن القواعد أو تحديد الأسس اللازمة لتشكيل مجلس رسمي يتولىٰ أمر الشورىٰ كما أغلب المشكلات التي كانت تنشأ لم تكن تستدعي حلاً تشريعياً رسمياً. وإذا ما كان الأمر متعلقاً بوضع قاعدة معينة أو تفسير قانون ما, فإن الفقهاء يتكلفون بحل الجدال حول هذا الأمر كما يُعرض عليهم؛ وهم ذاتهم يقومون فيما بينهم بمناقشة أغلب المشكلات المعاصرة لهم والتي يمكن أن يستدعي فرض تشريع معين, وفي ظل هذه الظروف فإن مشألة قبول رأي الأغلبية أو رفضه لم تكن موجودة بالسياق أو الشكل التي هي علية الآن. ويجب أن تضع هذا التمييز نصب أعيننا عند إعتبارنا لآراء كبار الفقهاء الذين ينتمون إلىٰ العصور الأولىٰ والذين أدلوا بآرائهم حول هذا الموضوع.

وهناك عامل آخر يجب أن نضعه في اعتبارنا يتمثل في أن ما يقوم به المجتمع المعاصر من تمييز أساسي بين السلطات : القضائية والتنفيذية والتشريعية, لم يكن موجوداً ومن ثم فإننا قد نجد موقفاً أعمل الفقهاء الجميع الآن علىٰ تبعية هذا الموقف إلىٰ السلطة التنفيذية أو القضائية. ولذا كان لزاماً علينا ـــ قبل أن نقر ما آرتآه أي من الفقهاء القدامىٰ حول وجوب إستقلال الحاكم بذاته في إصدار القرار ـــ أن ننظر بعناية في المقام الذي ورد فيه هذا الرأي.

ولذا فإنه من الأمور الأساسية ـــ ونحن ندرس آراء العلماء الذين يرون بأن الشورىٰ لازمة ولكنها غير ملزمة ـــ أن نضع أمام ناظرينا العصور التي وردت فيها تلك الآراء وكذلك المواقف التي أبدوها فيها. ولكن بادئ ذي بدء دعونا ننظر في النصوص القرآنية التي تتعلق بهذا الرأي.

إن الآيات التي تشير إلىٰ موضوع الشورىٰ وردت في سورتين من سور القرآن الكريم هما سورة آل عمران وسورة الشورىٰ.

أما الآيات الأولىٰ فقد وردت في سورة «آل عمران» :

}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ* وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّه تُحْشَرُونَ* فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ* إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ{  (القرآن : 3 : 156 ـــ 160).

والآيات الثانية في سورة الشورىٰ : }فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ* وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ{(القرآن 42 : 36 ـــ 43).

وتشبر الآيات المأخوذة من سورة «آل عمران» إلىٰ أن الرسول ـــ صّلى الله عليــه زسلم ـــ يأمره ربه بأن يأخذ مشورة المؤمنين في كل الأمور ذات الأهمية العامة.

إن من الأهمية بمكان أن نضع في إعتبارنا سياق الآيات التي أشرنا إليها إذا ما أردنا أن نفهم الأبعاد الكاملة للشورىٰ كما أمر بها سبحانه وذلك لكي نميز بين ما أكدت عليه الآيات الأولىٰ وبين ما أكدت عليه الآيات الثانية. فإذا ما قرأ المرء الآيات من 152 فصاعداً في سورة (آل عمران) فإنه سوف يلحظ أن السياق يتضمن القرح الذي أصاب المسلمين في غزوة أحد وما أحسوا به بعدها من معاناة وإحباط, وجاء في الآية 154 إن طائفة منهم قد تساءلوا لو كان لهم من الأمر شيء وجاء الرد علىٰ المؤمنين حاسماً بأن الأمر كله لله, واستطردت الآيات تبين لهم أن فقدانهم للمعركة كان نتيجة تقصيرهم وفشلهم في الاستجابة إلىٰ دعوة الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وهو يدعوهم من خلفهم. ورغم ذلك فقد أعلمتهم الآيات بالنبأ السعيد أن الله قد عفا عنهم, بل وأكثر من ذلك أنه : }فَبماَ رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظاً غَليظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فأعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فيِ الأَمْرِ{وتتبدىٰ لنا بوضوح بعض الإٍستنتاجات :

1)    أولاً أنه رغم تسليمهم الكامل بالتشريعات الإٍلهٰية والتخطيط الإٍلهٰي إلا أن الأمة مُكرّمة بإشتشارتها في الأمر.

2)    ثانياً أن تلك الاستشارة جاءت ملزمة لإنسان ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ يلتقىٰ الهداية مباشرة من الله سبحانه ورغم ما بالأمة من تقصير وما تقع فيه من زلل.

3)    ثالثاً أن إعطاء النصيحة الصحيحة يعتبر مسئولية خطيرة بالنسبة لمن تطلب نصيحته, لأن النصيحة الخاطئة والأداء المتدني يوجب عقاب الله كما حدث عندما أصاب المسلمين غَماَّ علىٰ غم يوم أُحد.

4)    أن الإٍستشارة تكون بخصوص الأمور العامة حيث تكون فيها المشاركة إجبارية (القرآن 22 : 41).

5)    أن الإٍستشارة قد أوصىٰ بها الله ورسوله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ مع أفضليته بإعتباره المخصوص بالوحي, ورغم ما قد تقع فيه الأمة من زلل في الحكم علىٰ الأمور. مما يشير إلىٰ أهمية الوصول إلىٰ القرارات عن طريق الشورىٰ.

6)    وكذلك لكي تكون سابقة لكل زمان يلي ذلك الزمان, أي أنه إذا ما كان هناك شخص يتلقىٰ الهداية وحياً من الله وعليه أن يستشير فإن حاجة غيره للإٍستشارة أعظم. وقد جاء في تفسير الكشّاف أن الحسن رضي الله عنه قال (قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ـــ أي أن الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ ليس به حاجة إلىٰ مشورتهم ـــ ولكنه أراد أن يُستن به من بعده).

7)    كما أن هذا الأمر كان ضروياً لأن نبوته ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ هي الخاتمة, ولأن البشرية قد وصلت إلىٰ مرحلة من النضج تتعاظم فيها المسئولية التي يشارك الجميع في حملها. وتتخطىٰ فيها المعرفة الإٍنسانية كماَّ وكيفاً نطاق قدرة عقل بشري واحد. إن عملية الشورىٰ الواجبة هي في الحقيقة أمر بالغ الأهمية لأن إرسال الرسل وإمدادهم بالوحي ليهدي الناس إلىٰ السواء قد آنقطع, وعلىٰ الذكاء الإٍنساني والإٍبداع البشري بعد ذلك أن يتحمل الأمانة تحت مظلة الوحي الإٍلهي.

8)    حتىٰ إذا ما نظرنا إلىٰ الأمر علىٰ المستوىٰ النظري فإن الإٍسلام يُعني بإقامة مجتمع واحد من الأفضل أن يكون في شكل دولة واحدة موحدة, وليس هناك من شخص فرد يمكن أن تتأتىٰ له المعرفة بالبلاد النائية وما بها من أناس يختلفون في تراثهم ويتباينون في المشكلات والقيود التي تفرضها ثقافتهم ـــ تلك المعرفة التي تخوَّل له أن يتخطىٰ مشاورة أهل الرأي من سكان تلك المناطق.

9)    إننا نقر بأن الإٍجماع مصدر من مصادر التشريع للأمة وعلىٰ هذا فإن هذا المبدأ لن تكون له فعاليته إذا ما سلمنا جدلاً بأحقية أي فرد في مخالفة رأي الأمة وتخطيه.

أما أولئك الذين يرون بتخويل الخليفة السلطة في تخطي المشورة التي تسدىٰ إليه, فيستندون إلىٰ ذلك الجزء من الآية الذي يقول }فَإذَا عَزَمْتَ{ويقولون بأن هذه الكلمات موجهة إلىٰ الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وجاءت في صيغة المفرد ومن ثم فإنها تشير بوضوح إلىٰ أن العزم الأخير له بمفرده, وأنه إذا ما كان الأمر للأمة كلها فإن صيغة الفعل كانت ستأتي بالجمع وليس بالإٍفراد, وطفقوا يؤيدون هذا التأويل بأسانيد عن الخلفاء الراشدين وما جاء بعدهم. وسنناقش فيما يلي الحوادث التي أشاروا إلىٰ وقوعها في عصر الخلفاء الراشدين, ولكننا قبل ذلك سنلقي بعض الملاحظات حول ما جاء في النص الذي أوردناه من سورة آل عمران حتىٰ يستقيم الأمر.

بادئ ذي بدء, إن هذه الكلمات موجهو إلىٰ الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بصيغة المفرد وليس هناك ما يجعلها تنطبق علىٰ كل الأشخاص الذين يتولون السلطة مالم يرد في الآيات مَا يشير إلىٰ ذلك, وكذلك سيكون الأمر إذا ما ورد في آية أو آيات أخرىٰ في القرآن ما يمنع مثل هذا الإٍنطباق.

إن الأمر الجدير بالذكر أنه بالنسبة لأمر الطاعة الواجبة لأوامره ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ فإن مكانة أمته (القرآن 4 : 59) فقد جاء وجوب طاعته ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بنفس الصيغة التي فرضت بها طاعة الله سبحانه. وما من فرد من أفراد الأمة يمكن أن يشغل مكانه أو يتقمص سلطته. فالآية التي أوجبت طاعته ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ قد أوضحت من لهم الطاعة غيره وهم }أُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ{والتي تشمل الحكام. ولكنها أشارت أيضاً إلىٰ إمكانية التنازع بين الحكام والمحكومين وكذلك إلىٰ وسيلة حل هذا التنازع. وقد أشارت إلىٰ الحكام صراحة بصيغة الجمع (القرآن 4 : 59 ـــ 61) كما تضمنت التبادلية في الأمر وأن علىٰ الحكام أن يتوخوا العدل في قراراتهم وأن يقوموا بأداء الواجبات المناطة بهم لكي تكون لهم الطاعة ـــ وما كان لأحد من أمته ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ. فطاعة الآخرين مشروطة وغير مطلقة. وإذا كان عصيان الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ علىٰ علم يؤدي إلىٰ الفسوق فإن عصيان الآخرين من أولي الأمر ليس كذلك. وإن كانت محاربة الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ تعني الكفر, فإنه من الممكن أن تتقاتل طائفتان من المؤمنين دون أن يخرجهم ذلك عن دائرة الإٍسلام (القرآن 49 : 9) كما أن الولاء للرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ يجب أن يأتي فوق الولاء لأي شخص آخر (القرآن : 58 : 22) وليس لأحد الحق في أن يدعي أن يكون له نفس الولاء, وأن الأمن في طاعته ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ لأن الله وعده وعد الحق بالتأييد والهداية, وأن الله هو مولاه والملائكة والأمة من ورائه ظهير (القرآن 66 : 4, 8 : 62) وتلك المكانة لم تتيسر لأي فرد آخر في الأمة. وقد أوضح القرآن كلمته الفاصلة في هذه الآيات :

}وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا* فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمً{(القرآن 4 : 64 ـــ 65).

والآن بالنسبة لما جاء في سورة الشورىٰ فيجب أن ننظر إليها في مجال سياق الآيات فقد بيّن الله في الآية (35) أن الناس بكل ما أوتوا من سلطة وسلطان فليس لهم أن يحققوا ما يريدون دون عوض من الله وأنهم في كثير من الأحوال حين كان من الممكن يتعرضوا لأذىٰ في أنفسهم إذا ما أنفذوا ما يريدون فإن الله يعفو عنهم. وقد بيّن الله سبحان وتعالىٰ في هذا السياق أن متاع الدنيا للناس كله إلىٰ زوال, وأن علىٰ المؤمنين أن يتوكلوا علىٰ الله سبحانه ثم جاءت الآيات موضوع بحثنا تقول :

}فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْء فمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْياَ وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذينَ آمَنُوا وَعَلىٰ رَبَّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَاَلَذيِن يَجْتَنِبُون كَبَائِرَ الإٍثمْ وَالفَوَاحِشَ وَإذَا مَا غَضِبُوا لِرَبَّهمْ وَأقامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقُنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إذَا أَصَاَبُهُم البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ{.

ونلحظ فيها بوضوح أن القرآن يعطي للشورىٰ المكانة التي تجعلها صفة المؤمنين حقاً وتزداد أهميتها وضوحاً بوضعها بين الصلاة والزكاة, وكل منها فرض واجب. كما تشير الآيات إلىٰ :

1)    أن الشورىٰ فرض واجب وأن الأمة لن تقبل حاكماً ينكر مبدأ الشورىٰ وهو ما جاء آنفاً في سورة آل عمران من أن أولي الأمر يجب أن يكونوا من المسلمين}أُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ{. ومما هو جدير بالذكر أنه حتىٰ أولئك الذين يتكرون إلزمية الشورىٰ يقرون ـــ علىٰ الأقل ـــ بأن طلبها فرض واجب.

2)    أنه ما كان للمؤمنين أن يفرقوا وحدة الأمة لأن الشورىٰ ممكنة فقط في حالة الثقة المتبادلة والتوادّ.

3)    أن المؤمنين عليهم أن يوقروا بعضهم البعض ويحترموا الآراء بينهم. حيث أن طلب النصيحة واجب فإن بذل النصيحة يكون كذلك إلزام في إطار الثقة. ويأتي في مقابل هذا التوضيح بإعتبار أن آراءه تفضل آراء غيره, سواء رأىٰ في ذلك حقاً مكتسباً أو مرتبطاً بواقع مكانته. ونجد سنداً آخر لهذه الفكرة فيما ورد في آية أخرىٰ من آي القرآن الكريم :

}مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ{(القرآن 3 : 79 ـــ 80).

إنه من دواعي الإٍعتبار أن الله سبحانه قد بيّن أن بشراً }يُؤْتِيَهُ الله الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ{ليس له الحق أن يتخذ من الناس عباداً له من دون الله. وإنه لمن جوهر العلاقة بين السيد والعبد أن السيد له حق نقض ما يرتئيه العبد بينما ليس للعبد أن يرد رأي سيده أو يتعرض عليه. ونحن إذا ما نَحيّنا حق الاعتراض جانباً فإن الشورىٰ التي أقرها القرآن والتي يشارك فيها الجميع تبادل الآراء ـــ هذه الشورىٰ سوف تنكمش إلىٰ تسليم من جانب واحد, وهو أمر قد حدث في تاريخ المسلمين؛ بينما نجد في الجانب المقابل أن الحرية في الغرب لم تقف علىٰ قدميها إلا بعد أن جردوا الملوك من سلطة الإٍعتراض. ومن الواضح أن القرآن يغلق الباب في وجه رأي قد يجد في النفس هوىً والذي يقول «أي لا بأس في أن نقر بهذه السلطة لأفضل الناس والمعصوم. من الخطأ؟» فنجده يتحدث عن الأنبياء من ذرية إبراهيم بإعتبارهم أولئك الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة (القرآن 6 : 89) ولكن ليس لهم أن يستأثروا بالناس عبيداً لهم في ما يحسون وما يعلمون. ويبدو أن هناك نوعاً من الاقتناع الخادع بأن المشكلة الوحيدة هي أن نجد حاكناً يبلغ حد الكمال ـــ ولعل السبب وراء ذلك الاقتناع هو الدفع النفسي الطفولي لإِيجاد بديل يقوم مقام الأب الحاني الذي سوف يحمل الإٍبن السابق علىٰ كتفيه عبلا الشقوق والفجوات التي تفرضها تحديات الوجود, ويحمل عنه تبعة إتخاذ القرارات بدلاً منه. والإٍسلام يسعىٰ إلىٰ خلق رجال مسئولين وليس أطفالاً عاجزين.

إن الناس لم يفقدوا السلطة عن طريق الخداع أو القهر وإنما عالباً ما يقدمونها كذلك عن طيب خاطر إلىٰ أي فرد يعدهم بأن يحمل عنهم مسئولياتهم. وإذا ما كان الأقوياء عندهم الرغبة في الاستعباد فإن الضعفاء غالباً ما يجدوا الراحة في أن يقوموا بدور العبيد. فالحرية لها أعباؤها وهي ليست هينة علىٰ الإٍطلاق. ولكن القرآن يؤكد أنه حتىٰ ذلك الإٍنسان الذي أوتي النبوة ليس له أن يجعل من الناس عبيداً له حتىٰ وإن كان معه الكتاب الإٍلهي وأوتي الحكمة الضرورية وعلىٰ نفس المنوال فليس هناك أي فرد عادي يجلس علىٰ كرسي الحكم ـــ سواء عن طريق الإٍنتخاب أو عن طريق غيره ـــ يكون له أن يدعي لنفسه مثل هذا الحق تجاه أي إنسان.

أضعف إلىٰ ذلك أنه يجب ألا يغيب عن بالنا أن الإٍلتزام بطاعة الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ــ إلتزام مطلق. وقد ورد ذكره بنفس الألفاظ التي أوردها القرآن في طاعة الله. ويجمع هذا الإٍلتزام الحكام والمحكومين علىٰ السواء. بينما نجد أن الطاعة الواجبة للحكام مشروطة بألا يكون فيها معصية الشريعة, ويتبع ذلك أن الحق في مناقشة صحة أي قرار رسمي والإٍعتراض عليه أمر مكفول, ورد في الآيات 58, 59 من سورة النساء :

}إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{(القرآن 4 : 58 ـــ 59).

ويشير استهلال الآية 58 بالتزام أولي الأمر بأداء الأمانة التي يحملونها وذلك بإقامة العدل بين الناس بينما تشير الآية 59 بوضوح إلىٰ إمكانية نشوء التنازع بين الحكام والمحكومين وإلىٰ طريقة حل مثل هذا التنازع.

وإذا ما أعطت الشريعة للحاكم أن يفرض سلطانه علىٰ أحد أو علىٰ الجميع فيما يخص العامة من الأمور لضاع التمييز بين مكانة الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وبين غيره من المؤمنين, ولصار حق الاعتراض مهجوراً. بل والأكثر من ذلك أن واجب المشاركة في شئون الأمة سيكون عقيماً إذا لم يلتزم الحاكم أو الحكام بالخضوع للشورىٰ. ونجد سنداً يدعم رأينا هذا في قول الله سبحانه في القرآن وهو يصف العلاقة الأساسية بين المؤمنين بأنها علاقة أخوّة }إنَّماَ المُؤْمِنُونَ إِخْوة{أي أنه في إطار علاقة الأخوة ليس لأحد أن يدّعي لنفسه مكانة خاصة تجاه إخوته الآخرين. كما أنه بالنسبة للشريعة فالرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ ذاته خضع لحكم الله والتزام به, وأمره ربه أن يعلن أنه أول المسلمين }وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ{(القرآن 6 : 163).

وقد تناول محمود البابلي في دراسته القصيرة الجامعة المعنونة «الشورىٰ في الإٍسلام» ـــ تناول أغلب الآراء التي وردت تأييداً لمبدأ أن الشورىٰ لازمة ولكنها (أي الشورىٰ ذاتها) مُعلمة وغير ملزمة. وبنىٰ إستنتاجه هذا بصورة كلية علىٰ سياق النص الذي ورد في سورة آل عمران وجاء فيه }وَإذَا عَزَمْتَ{وأن الوصول إلىٰ قرار؛ حقَّ لمن يطلب المشهورة أو واجبٌ عليه, (ص78). وبالإٍضافة إلىٰ ما أوردناه آنفاً من أن هذه الكلمات ذاتها لا تناقض قبول مبدأ أن الشورىٰ ملزمة في الأمور العامة, كما أشار إلىٰ ذلك القرطبي وكثيرون غيره, وأن كلمات }وَإذَا عَزَمْتَ{يأتي دورها بعد إتمام الشورىٰ والتواصل إلىٰ قرار من خلالها, وأن العبارة تعني فقط أنه بعد أن تعزم علىٰ خطة العمل فتوكل علىٰ الله بالنسبة للنتائج, لأن بإرادته سبحانه وبعونه فقط ستنجح عزيمتك وتثمر. بل إن محمود البابلي يقر هو الآخر بأنه (إذا ما اتفق المسلمون علىٰ أن نتيجة الشورىٰ تكون ملزمة بآراء الأغلبية فإن ذلك لا يناقض ما سبق وأن أشار إليه عند إعتبار الشورىٰ ملزمة, والشورىٰ ذاتها لصالح المسلمين ويد الله مع الجماعة) (ص 65).

ومما يستوجب النظر أن الآية المذكورة في سورة النساء (58) والتي تتحدث عن طاعة السلطات العامة يأتي فيها ذكر «أولي الأمر» في صيغة الجمع مما يشير بوضوح إلىٰ أن السلطة النهائية في أمور الأمة يتكفل بها أكثر من فرد, ويقول عباس محمود العقاد أنه ليس هناك مصدر للسلطة في الإٍسلام إلا الأمة, وليس هناك حاكم له كلمة الفصل الأخيرة سوىٰ الأمة, ولذا فإن محك السلوك ليس فيما تراه السلطات الدنيوية, وإنما في كلمة الله الموحاة.

وقد رأينا أن القرآن يتحدث عن التزام الأمة بممارسة الواجبات العامة من خلال فئات متخصصة (القرآن 9 : 122) ولذا فإنه من الممكن جداً أن نضع السلطة العامة في يد فئة لها أن تختار رئيساً تنفيذياً تحقق من خلاله تلك الواجبات التي توكل إليه وإلىٰ من يعملون تحت رئاسته ـــ ومثل هذا الترتيب سيكون موافقاً لما ورد صراحة في النص القرآني (القرآن 4 : 58) ولا يناقضه, خاصة ونحن نعيش في عالم غاية في التعقيد وغاية في التشابك, وأن حل مشكلاته المتعددة الجوانب يتطلب أكثر من فكر واحد, بل وأكثر من ذلك أن الظاهرة العامة أن مناصب الزعامة في الدول باتت موكلة إلىٰ أفراد عاديين وليس فيهم علىٰ الإٍطلاق شخص يرقىٰ في خلقه وعلمه إلىٰ مصاف الخلفتء الراشدين في إيمانهم الراسخ, كما أن إحتمال تواجد مثل هؤلاء الاشخاص في المستقبل أدنىٰ من احتمال تواجدهم الآن.

وقد نجد من يقول أن ما قامت به الأمة حتىٰ خلال عصر الخلفاء الراشدين كان علىٰ عكس ذلك. ومع ذلك فإن ذلك القول لا يعتبر تأويلاً صحيحاً لما حدث في سقيفة بني ساعدة, أو ما جاء في حالات أخرىٰ أوردوها. إن الأمر كان إختيار شخص يخلف رسوله الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ ويحمل علىٰ عاتقيه أعباء عديدة تتصل بوظائف حكومية وإجتماعية. وقد قام بهذا الأمر نقر من المهاجرين والأنصار الذين وصفهم القرآن بأنهم صفوة الأمة وأعظمها درجة (القرآن 57 : 10) وكانوا برعم الأمة وقلبها, قبلوا الإٍسلام قبل فتح مكة, وساق الله لهم الفضل في أن يعرفوا دينه, ولم يترك الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ أية تعليمات غير التي جاء بها القرآن بشأن أختيار من يلي أمور الأمة, ومن ثم نشأت تلك القضية أمام كبار المهاجرين والأنصار. وبعد أن تبادلوا الآراء حول شكل الولاية والمرشحين لها اختاروا أبا بكر لها. وحين انُتخب أبو بكر فإن لم يعتبر ذلك تفويضاً بالسلطة المطلقة علىٰ الأمة في أن يأمر فيطاع طاعة مطلقة؛ وإنما كانت خطبته الأولىٰ بعد توليه المنصب إقراراً واضحاً بنهجه في الولاية علىٰ خير أفراد الأمة من المهاجرين والأنصار الذين ورد وصفهم من قبل, حين قال :

«فإن أحسنت فأعينوني وإن زُعت فقوّموني»

وكذلك كان موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إحدىٰ خطبه الأولىٰ التي أوردها الإٍمام أبو يوسف في كتاب الخراج قال عمر : «أيها الناس إنه لم يبلغ ذو حق في حقه أن يطاع في معصية الله, واني لا أجد هذا المال يصلحه إلا خلالٌ ثلاث أن : يؤخذ بالحق, ويعطىٰ في الحق, ويمنع من الباطل. وإنما أنا ومالكم كولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف, ولست أدع أحداً يظلم أحداً ولا يعتدي عليه حتىٰ أضع خده علىٰ الأرض, وأضع قدمي علىٰ الخد الآخر, حتىٰ يذعن للحق. ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها : لكم علي أن لا أجتبي شيئا من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه, ولكم عليّ إذا  وقع في يدي أن لا يخرج مني إلا في حقه, ولكم عليّ أن أزيد أعطياتكم وأرزاقكم إن شاء الله وأسد ثغوركم,ولكن عليّ أن لا أُلقيكم في المهالك ولا أجمرّكم في ثغوركم. وقد إقترب منكم ومان قليل الأمناء كثير القراء, قليل الفقهاء, كثير الأمل, يعمل فيه أقوام للآخرة يطلبون به دنيا عريضة تأكل دين صاحبها كما تأكل النار الحطب»..

وعندما اختلفوا في قسمة أرض سواد العراق بينه من جهة, وبين عبدالرحمن بن عوف وأصحابه من جهة أخرىٰ؛ وضع الأمر أمام المهاجرين والأنصار وطلب منهم أن يشتركوا في أمانته علىٰ أساس من القرآن, فلم يكن ذلك الشخص الذي يرشو ليحفظ شعبيته أو ليداري ضعفاً عنده. فقد كان لعنر رضي الله عنه شخصية قوية جداً, ولم يسع ليستخدم سلطانه بقوة إذا ما رأىٰ أن الموقف يتطلبها, وإذا ما رأى أن له أن يستخدم سلطانه فيفرض رأيه علىٰ من أبىٰ منهم, وأن يفرض الطاعة عليهم لفعل. ولم يكن ليعرض الأمر علىٰ كبراء الأمة ويستشيرهم كما فعل. وهو يقول :

«.. وأنتم الآن تقرون بالحق, خالفني من خالفني, ووافقني من وافقني. ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي, معكم من الله كتاب ينطق بالحق».

ولعل الطريقة التي وصل بها عثمان (رضي الله عنه) إلىٰ كرسي الخلافة تثير في النفس الشوق والإٍهتمام. فإن عمر رضي الله عنه بدلاً من أن يستخلف أحداً, عين رهطاً من الصحابة (تكون الخلافة للرجل الذي يقع عليه الإٍختيار من الفريق ـــ المترجم) وبعد أن خرج من هذا الرهط المرشح للخلافة كافة المرشحين ما عدا إثنين؛ أخذ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بستشير فيهم ـــ كما ورد في الروايات التاريخية ـــ الرجال والنساء بل والقادمين إلىٰ المدينة من المسافرين. وفي النهاية ناقش عبدالرحمن سلطات الخلافة مع كل منهما فأبىٰ علي رضي الله عنه المنصب وسلطاته مقيدة بما فعل الخليفتان الأوليان, بينما قبل عثمان رضي الله عنه. وبذلك أخذ عثمان البعة وتضمنت البيعة الشروط التي يُختار علىٰ أساسها الحاكم.

وعندما تولىٰ الخلافة علي رضي الله عنه قال في إحدىٰ خطبه البليغة :

«إني فيما أمرتكم به إذا كان طاعة لله فعليكم طاعتي, رغبتم أو كرهتم, وإذا ما أمرتكم بشيء فيه معصية لله, فلا طاعة لأحد ـــ إياي أو سواي ـــ لا طاعة إلا في الحق, لا طاعة إلا في الحق».

ومن الجدير بالذكر كذلك أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حين أثار موضوع عدم معاقبة علي رضي الله عنه رغم أنه كان يرىٰ أحقيته بالخلافة من قبل إلا أنه وافق علىٰ التحكيم, ولو أنه اعتقد أن للخليفة السلطة المخوّلة له بالحكم الإٍلهي, أن يفرض رأيه, لم يكن ليقبل بذلك التحكيم. وخلاصة القول أن الرأي القائل بأن النص القرآني يشير إلىٰ سلطة الخليفة في فرض رأيه علىٰ الأمة كلها, أو علىٰ غالبية أفرادها ـــ ذلك الرأي يناقض الحقيقة الأساسية بأن الخلافة علىٰ الأرض منحة الله للأمة (القرآن 22 : 41). ونجد علىٰ العكس من ذلك أن سوء الفهم الشائع هذا يدعمه سوء تأويل بعض المصطلحات مثل خليفة الرسول عندما يؤوّل علىٰ أنه خلف للرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, أو أنه أمير المؤمنين, بمعنىٰ أنه آمرهم, وقد فسّر م.م. شعبان في كتابه «الثورة العباسية» هذا الأمر بقوله :

«إن أبا بكر لم يكن أمير المؤمنين, وإنما خليفة رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ لقد إختاروه كنقطة تجمع الشامل وتحفظ حولها النظام الذي أقامه محمد صّلى الله عليــه وسلم ـــ. ومن الواضح أنه لم يكن هناك سابق (ليكون هو الخلف) وبنفس الدرجة من الوضوح لم يكن له نفس السلطة التي كانت للرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ..

ولما صادفت التجربة نجاحاً خلال السنتين الأوليتين من حكم أبي بكر (رضي الله عنه) تقرر استمرارها, فعين عمر (رضي الله عنه) تقرر استمرارها, فعين عمر (رضي الله عنه) خليفة له ولم يكن هناك إعترض علىٰ ذلك, وأخذ عمر رضي الله عنه لقب أمير المؤمنين, والتي تترجم عادة بإعتبارها آمر المؤمنين. وتلك الترجمة خاطئة لأنها تعني أن لعمر رضي الله عنه سلطات لم تكن له. فكلمة «أمير» لها معان كثيرة, ومن الخطأ الإٍعتماد علىٰ هذا المعنىٰ وتجاهل غيره. فهي تعني الملك, والأمير, والقائد, والحاكم, وقائد المكفوفين, والزوج, ولجار, والمستشار, أو الناصح, وآخر هذه المعاني هو ما يهمنا هنا. ومن ثم فإن لقب أمير المؤمنين كان المعنىٰ المقصود من ورائه أساساً أنه مستشار المؤمنين وهو ما عناه المؤرخ اليوناني ثيوفانيس عندما تحدث عن المستشار الأول. فقد وقع الإٍختيار علىٰ عمر ولم تكن له سلطة الأمر, فلم تكن التقاليد العربية القديمة تعطي للرئيس سلطة الأمر, وذلك ما كان يعيه عمر وكذلك بفية المؤمنين. ورغم أن المنصب قد تغير مسمّاه إلا أن سلطة أمير المؤمنين ظلت إلىٰ أدنىٰ درجة تسمح بها. وقد كان لعمر شخصية قوية, ومن المؤكد أنه أستعان بها إلىٰ أقصىٰ حد, ولكنه كذلك كان غاية في الدقة بالتزامه بحدود السلطات التي يخولها له منصبه».

ويجب أن يكون واضحاً بجلاء لكل دارس للإٍسلام أنه ما من فرد في الأمة مهما حاز من ألقاب أو أطلق عليه من أسماء ـــ أو حتىٰ الأمة ذاتها يمكن أن يتبوأ مقعد رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ أو أن يكون لهذا الفرد أو لها ما للرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ من المكانة (القرآن 49 : 2). وأما الذين يرون أن أي فرد من أفراد الأمة ـــ طالما اختارته ليشغل هذا المنصب فيها ـــ جدير بأن يكون له نفس السلطة التي تعنيها كلمة «عَزَمْتَ» كما وردت في الآية في صيغة المفرد, وبالمعنىٰ الذي يقرأونها به ـــ فأولئك يرتكبون ظلماً كبيراً للرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ ولمن إختاروه كذلك. فقد أمر الله المؤمنين صراحة أنه إذا ما قضىٰ الرسول أمراً فليس لهم الخيرة من أمرهم, وأنهم لا يجب أن يكون في نفوسهم حرج منه (القرآن 33 : 36) بينما لهم الحق في الإٍعتراض علىٰ أي قرار يتخذه أي فرد آخر تكون له الولاية, وأن يتحاكموا فيه إلىٰ الشريعة (القرآن 4 : 59) وأنه ليس بآثم من كان في نفسه شيء مما حكم به أي حاكم عادي (القرآن 4 : 59) إن طاعة أولي الأمر ليست طاعة لبديل عن الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, ولذا فإن الأمر بطاعة أولي الأمر نعنبر مختلفة في طبيعتها وكذا في شروطها. وليس من الصواب أن نقول بأن ما ينطبق علىٰ الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ في القرآن ينطبق بالضرورة علىٰ كل فرد من أفراد الأمة, فهناك فوق جذرية وأساسية يجب وضعها في الإٍعتبار.

والركيزة الثانية التي يستندون إليها في اعتبار الشورى معلمة غير ملزمة تأتي من حادثتين وقعتا في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه.

الحادثة الأولىٰ ترتبط بانفاذ بعث أسامة إلىٰ الشام التي أخذ فيها الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ قراره. والثانية كانت في قتال القبائل التي إرتدت عن الإٍسلام بعد وفاة الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وقالت «نصلي ولا نزكي». وكان رأيهم أنهم لم يعترضوا علىٰ دفع الزكاة إلىٰ الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ لأنه النبي, والذي يأتيه الوحي, ولكن بعد وفاته لم يكن أبو بكر رضي الله عند بديلاً عنه, ومن ثم فليس له أن يطلبها منهم. وجادله أكثر مستشاريه في أن يقبل قولهم, ولكن أبا بكر رضي الله عنه أصرّ علىٰ قتال من يفرق بين الصلاة والزكاة, أو من يرىٰ أحداهما واجبه من دون الأخرىٰ. ويبدو أن أبا بكر حين أصر علىٰ هذا الأمر كان يرتكن إلىٰ سابقة حدثت أيام الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ. عندما قبلت قبيلة ثقيف الإٍسلام ولكنها رغبت أن تُعفىٰ من فريضة الصلاة. وهو ما رفضه الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ رفضاً قاطعاً. وكان قرار أبي بكر قائماً علىٰ التزامه بطاعة الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ والتي لا يجدي معها أن تُجمع الأمة علىٰ غيرها, ولا يكون مثل هذا الإٍجماع صحيحاً.

علاوة علىٰ ذلك فإن النصيحة التي وردت آنفاً لم تكن علىٰ أساس أن الأمر قد أثير أولاً ثم وصلوا فيه إلىٰ قرار. أو كما لو كان هناك رأيان لمجموعتين متناقضتين ثم تبلورا في النهاية؛ ولكم الحقيقة هي أن مستشاري أبي بكر قد عرضوا إقتراحاً صادق لأول وهلة بعض التأييد, ولكنهم حين إستمعوا لأبي بكر رضي الله عنه غيروا رأيهم, وكان أولهم عمر رضي الله عنه, وعملوا بما إتآه أبو بكر. أما بالنسبة للحادثة الخاصة بإتمام بعث لجيش تحت إمرة أسامة فإن السبب الذي إعتمده أبو بكر هو أن تعيين أسامة وكذلك قرار بعث الجيش إلىٰ الشام كانا من قبل الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ ولم يكن أبو بكر ليمنع بعث أسامة إلىٰ الشام وهو أمر قرره الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وأتم تجهيزه من قبل.

وكلا الحادثتين ـــ عند إمعان النظر فيهما ـــ لا يشكلان في أساسهما حجة للرأي القائل بأن الخليفة له حق دستوري في رفض نصيحة الشورىٰ. ففي كلتيهما كان الأمر يرتبط بمعصية مباشرة لله ولرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ وكان الخوف علىٰ مستقبل الأمة هو الدفع لتقديم النصيحة. وكان موقف أبي بكر رضي الله عنه في المقابل هو أن أمراً قضاه رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ لينفذنّه مهما كانت المخاوف والمخاطر. كما أن ما طلبته بعض القبائل من أن يوكل إليها أمر توزيع الزكاة كان مبنياً علىٰ عدم فهمهم لطبيعة الوحدة التي تجمع الأمة, والدور الذي تقوم به في المستقبل. كما كان من الأهمية ذاتها أن تُوءد الفتنة الجامحة في مهدها, وأن تُخمد العصبية القبلية. وكلا الحادثتين يبينان حكمة أبي بكر وإيمانه الصادق.

إن تلكما الحادثتين اللتين أوردتهما كتب التاريخ الموثقة تعتبران دليلاً علىٰ صفة القيادة في أبي بكر رضي الله عنه, وليستا بدليل علىٰ حق الخليفة الدستوري في أن يرفض الشورىٰ. ومن تحليلنا السابق يظهر لنا أن رجحان السلطة في جانب الأمة ككل, يضعها فوق الحكّام, وأن مكانة الحكّام لا تعلو علىٰ مكانة ممثلي الأمة. وإذا ما استطعنا عن طريق ترتيب دستوري معين أن يكّون هيئة قضائية تقوم بحل أي تصارع بين الجهازين التشريعي والتنفيذي فإننا سنقيم بذلك طريقة عملية تمنع ما قد ينشأ من خلافات دستورية. وسنقترب أكثر من الأمر القرآني الذي ورد في الآية }فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَزُدًّوهُ إلىٰ الله وَالرَّسُولِ{(القرآن 4 : 59). فذلك الأمر يشمل كل أفراد الأمة وفي كل المواقف التي يمكن أن يختلف فيها الناس فيما بينهم أو فيما بينهم وبين الحكام, ورئيس الجهاز التنفيذي أو الخليفة بإعتباره فرداً من أفراد الأمة يحكمه هذا الأمر كذلك, ولدينا اليوم العديد من النماذج الدستورية التي يمكن أن نختار منها, وإذا ما نشأ خلاف لم يمكن الحاكم فيه بصفته رئيساً للجهاز التنفيذي من أن يجد سبيلاً إلىٰ أن يتفق مع الشورىٰ فإن ذلك الرفض لن يؤدي إلىٰ أزمة مستعصية, فالأمة بإعتبارها الرئيس, وهو بإعتباره الوكيل, هي التي تقوم بتهيئة الأسلوب أو الأساليب المناسبة للتوصل إلىٰ حل لمثل هذا الأمر الطارئ, وبإمكانها أن تجبره علىٰ الالتزام به من خلال تصويت علىٰ نطاق أوسع, كما يمكنها أن تهيء التدابير الدستورية التي يُرجع من خلالها إلىٰ جهاز قضائي علىٰ أعلىٰ مستوىٰ لبحث أمر الإٍلزام بالشورىٰ. كما يمكن أن تقوم بعمل إستفتاء عام يخضع في مثل هذه الحالات لرقابة قضائية في إطار المفهوم الإٍسلامي الذي يضمن تحديد سلطات كافة الأجهزة الوظيفية العامة داخل حدود لا تتعداها, كما يضمن سيادة الشريعة. وكذلك يتيح للأمة أن تقصيه عن منصبه من خلال هذا الجهاز, وفي حدود التنظيمات الدستورية المتاحة. والنقطة الجديرة بالاعتبار في هذا الأمر أن الأمة هي التي بيدها وضع التنظيمات الدستورية.

ونخلص مما سبق إلىٰ وضوح هذه الإٍعتبارات التي عرضنا لها وهي :

1 ـــ أهداف ممارسة السلطة السياسية من أجل الأمة.

2 ـــ الأولويات التي يجب خدمتها داخل الأمة.

3 ـــ المبادئ الأساسية التي تحكم البنية الدستورية للأمة, وقواعد القضاء, وكذلك القوانين المرتبطة بالعلاقات الإٍلزامية داخل الأمة.

وفي إطار المبادئ السالفة سوف تكون المشكلات التي يمكن أن تنشأ أمام الهيئات الحاكمة في أي حكومة إسلامية بمنح السلطات وتوزيعها, وإقرار الأساليب المتبعة في توزيع المنافع وتحديد المسئوليات والأعباء. وسيكون التنازع المحتمل, أو نقاط التنازع المحتملة, حول اتباع أساليب أو تقنيات معينة, أو حول إخضاع السلطة التنفيذية للرقابة القضائية.

إننا الآن ندرك أن كل الممارسات داخل الدولة الإٍسلامية تعتبر خاضعة للرقابة القضائية, فإذا ما أحسن إنسان ما أنه قد ناله ظلم, فإن الرقابة القضائية أمر واقع لا محالة. ولذلك فإنه إذا ما حدد قانون ما تفصيلات تنظم ممارسة حرية التصرف فإن ذلك كله سيكون لصالح الجهاز التنفيذي إذا ما كان هذا الجهاز ملتزماً بحدود الله ـــ ولكن الأمر سيكون مختلفاً إذا كانت حكومة اليوم تسعىٰ إلىٰ التجمل الزائف بالإٍسلام وتجعل منه ستاراً تغطي به ما تريد أن تقوم به بأسلوب لا يقره الإٍسلام. ومن هذا المنطق فإن مدىٰ الخلاف في الرأي في أمور التشريع سيكون مشكلة محدودة إذا ما درسنا الأمر في الإٍطار المحدد للنظرية السياسية الإٍسلامية.

أما بالنسبة للترشيحات للجاز لبتشريعي الإٍقليمي والمركزي, فإن التساؤلات التالية تبرز أمامنا :

1)    كيف نضمن وجود أشخاص ذوي مقدرة وكفاءة تؤهلهم لعضوية الجهاز التشريعي ؟ والإٍجابة علىٰ هذا التساؤل ـــ إذا ما تمعنا في الأمر قليلا ـــ تعتمد علىٰ إجابة سليمة لسؤال آخر حول :

2)    ما هي الطرق والأساليب التي يمكن بواسطتها التعرف علىٰ الأشخاص ذوي القدرات الفكرية والأخلاقية ؟

والسؤال الثالث هو :

3)    هل من المقبول أن يزكيّ المرشح نفسه في الانتخابات ؟

4)    هل من الممكن أن نضع الوسائل والأساليب التي تمكن المرشحين من مقابلة المنتخبين بطريقة تقلل من أثر الثراء والغوغائية والضغوط القبلية ؟

ويلي ذلك تساؤلان آخران لا يتبعان الأسئلة السابقة وهما :

1)    هل من الممكن ـــ في غياب متطلبات الديمقراطية المكتملة ـــ أن نقيم نظاماً ديمقراطياً في البلاد ؟

2)    وثانياً ما هي الوظائف التي يمكن للمرّعين القيام بها عن جدارة في أي دولة إسلامية ؟

لقد نشأ إدراك واضح في العالم الثالث أن فشل الديمقراطية لا يرجع فقط إلىٰ الضباط العسكريين الطموحين وإنما غالباً ما يرجع إلىٰ ما يسود هذه البلاد من التخبط وفقدان الرؤية التي يصحبها غياب النظام وفقدان ضبط النفس مما يؤدي إلىٰ مواقف متأزمة تدفع القيادة العسكرية إلىٰ استلام السلطة. إن أشد قضايا الديمقراطية إلحاحاً وأكثرها جوهرية في العصر الحديث هو إيجاد أشخاص ذوي كفاءة عقلية ورسوخ أخلاقي يتمكنون من خلالهما من حمل لواء الزعامة السياسية والاجتماعية, ولكي نحصل عن مثل هذه الزعامة فإن قوانين الانتخابات في الدولة الإٍسلامية يجب أن تتبدل عما هي عليه الآن تبدلاً جذرياً. فقوانين الإٍنتخابات الموجودة في أغلب الدول المسلمة موضوعة بحيث يتحقق من خلالها تحديد أدنىٰ قدر من الكفاءات الواجب توفرها في المرشح, دون أن تمهد لإٍكتشاف أفضل المرشحين أو إستقطابهم. فعلىٰ سبيل المثال نجد أن قوانين الانتخابات الحالية تشترط ألا يكون المرشح قد أدين في قضية سابقة أو حكم عليه بالإٍفلاس أو أتهم في قواه العقلية. وبالطبع فإن خلو المرشح من هذه النقائص أمر واجب, ولكن في إطار إدراكنا المعاصر الواضح بأن المهام التي تنتظر أي حكومة عصرية مهام غاية في التعقيد والتشابك, فإن المواطن العادي لن يكون بصفته تلك قادراً علىٰ مواجهة هذه المشكلات بفعالية. ولقد أصبح واضحاً أن وجود الأفراد العاديين في بنية أحسن الحكومات الديمقراطية وأفضلها إدارة في العالم المعاصر يؤدي إلىٰ نتائج سلبية مؤلمة. فالمواطن العادي ليس لديه القدرة علىٰ قيادة الحكومة أو السيطرة علىٰ الإٍدارة البيروقراطية. إن الإٍفتراضات التي يعتبر بموجبها أي برلمان يشمل أفراداً من عامة الشعب قادراً علىٰ إدارة أمور الدولة إفتراضات لا تقرها الأمة علىٰ إطلاقها لا علىٰ المستوىٰ النظري ولا علىٰ المستوىٰ العلمي. فالإٍسلام يرسم مبادئ إيجابية للقيادة في المجتمع تتمثل في التفوق المعرفي اللازم للمهمة الموكلة إليها (القرآن 2 : 247).

إن النظرية الأنجلو ـــ أمريكية والتي تقول بأن مجموعة من المواطنين العاديين الذين يحدوهم الإٍهتمام الذاتي المستنير قادرون من الناحية النظرية علىٰ قيادة الأمة ـــ تلم النظرية لم تعد مقبولة لا ف العالم الإٍسلامي ولا حتىٰ في البلاد التي ظهرت فيها أصلاً. فالمجتمع البشري المعاصر يواجه مشكلات كثيرة لم تكن متوقعة ترجع إلىٰ الزيادة المطردة في الطاقة الإٍنتاجية أو الاستهلاكية والنقص المفاجئ في المتاح من الموارد الرخيصة, وتفجر المعرفة, والتقنيات المعقدة, والقدرة الزائدة علىٰ التعامل والتفاعل معها. وقد واكب ذلك كله تيار عالمي من إعادة تقويم القيم وأنسقتها. وكل هذه العوامل تفرض علىٰ من سيقوم بوضع القوانين قرارات صعبة كثيرة يعجز عنها بالطبع شخص علىٰ مستوىٰ عادي من الذكاء والخبرة. مما استتبع أن يكل الجميع سلطة إتخاذ القرار إلىٰ جهاز بيروقراطي.

إن القيادة في الإٍسلام ليست تشريفاً يناله الفرد وإنما تكليف بالخدمة يحمل عه الفرد عبء الإٍلتزامات التي تتناسب مع قدراته العالية, ومن ثم فإن عملية البحث عن أفضل المرشحين وأصلحهم عملية مستمرة ومن ثم يجب علينا إعادة النظر في شكل قوانين الإٍنتخابات في بلادنا كي تأتي بالأشخاص اللازمين لإٍدارة الوظائف العامة. ويجب أن يحتوى قانون الإٍنتخابات علىٰ ما يلي :

1)    بالإٍضافة إلىٰ اعتبار أن يكون الشخص المتقدم للترشيح شخصاً لم يسبق إدانته في قضية ما, أو تعرضه لحكم بالافلاس, أو أُتهم في قواه العقلية, فإن هذا الشخص يجب أن يكون له من المزايا ما يزكيه.

2)    أن يكون قد حقق إنجازات في مجال الخدمة العامة, أي مجال التربية, السياسة, الخدمة الإٍجتماعية, الإٍقتصاد الوطني, الدفاع, العلوم.. الخ.

3)    أن يكون قد أثبت جدارته في الأداء قبل أن يُخوّل أمر تشكيل السياسات العامة للأمة, وقيادة الأمور الأدارية والتعامل معها.

وعندما تشرع الأمة من خلال إجماع دستوري في تعديل أمورها فإن التغيرات في النظام السياسي سوف تبدأ من أجل تحقيق أوضاع أفضل, وسيستلزم ذلك تعديل قوانين الترشيح بما يتفق والمبادئ التي يقرها الإٍسلام. فلن يسجل اسمه في قائمة المرشحين سوىٰ أولئك الأفراد الذين يتمتعون بأعلىٰ مستويات القدرة. وليس ذلك فقط وإنما ستقوم الأمة بتغييرات أخرىٰ في النظام الإٍجتماعي بحيث تنال الجدارة والخدمات العامة حقها من الشهرة والتقدير العام. كما سيتغير النظام الذي يتم به تكريم الأفراد في المجتمع تغييراً شاملاً, فلن يظل الثراء هو المعيار الوحيد الذي يقاس به الإٍنجاز كما هو الحال الآن. ويحتاج هذا الأمر إلىٰ برنامج تفصيلي نتطرق إليه فيما بعد بمعالجة منفصلة.

إن مهمة إستعراض المرشحين تُعتبر عملية علىٰ أقصىٰ قدر من الأهمية والحساسية, يجب أن تقوم بها هيئة قضائية عليا ذات إختصاص. ويكون من حق هذه الهيئة أن تضع علىٰ قائمة المرشحين للخدمة في الجهاز التشريعي القومي شخصاً لم تكن به رغبة في ترشيح نفسه. ويعتبر هذا الأمر ضرورياً حيث أن التقاليد الإٍسلامية المحافظة لا تنظر بعين الرضا تجاه تزكية المفرد لنفسه لتولي المناصب العامة, وهو ما سوف نتناوله فيما يلي :

ليس هناك إتفاق عام حول موضوع تزكية الفرد لذاته. فبينما يرىٰ البعض أن هذا الأمر محرّم تماماً, يرىٰ البعض الآخر أنه أمر غير مرغوب فيه, وإن كان بعض الفقهاء المسلمين يرونه أمراً ملزماً في بعض الأحوال. وينتمي محمد أسد وعبد القادر عودة وأبو الأعلىٰ المودودي إلىٰ الآراء الأخرىٰ فيما بعد, وسنورد فيما يلي الأحاديث ـــ التي إستند إليها أصحاب هذا الرأي ـــ عن الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ :

1)    عن أبي موسىٰ الأشعري رضي الله عنه قال : دخلت علىٰ النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ أنا ورجلان من بني عميَّ فقال أحدهما : يا رسول الله أَمَّرْنا علىٰ بْعض ماولاّك الله عو وجل, وقال الآخر مثل ذلك. فقال : «إنا والله لا نولّي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه» (رواه البخاري ومسلم).

2)    والحديث الثاني : عن عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : «يا عبدالرحمن لا تسأل الإٍمارة فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكِلْتَ إليها, وإن أُعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها» (رواه البخاري والنسائي).

3)    والحديث الثالث رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول «إنكم ستحرصون علىٰ الإٍمارة وستكون ندامة يوم القيامة» (رواه البخاري).

4)    والحديث الرابع رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ ويقول : «من شأل القضاء وُكل إلىٰ نفسه ومن جُبِر عليه نزل إليه مَلَك فسدّده» (رواه ابن ماجه).

5)    وعلىٰ هذا الأساس وبناء علىٰ هذه الأحاديث فإن الكتب المشهورة في الفقه لمذاهب السنة الأربعة, والإٍثنا عشرية, تناولت الأمر بالمناقشة المستفيضة, وقد أورد قطحان عبد الرحمن الدري في كتابه الشورىٰ ما يمكن تلخيصه فيما يلي :

أولاً : يرىٰ الفقهاء أنه يحرم طلب المنصب :

1)    علىٰ من كان لا يقدر علىٰ إتباع شرع الله خوفاً من جور الحاكم أو غيره.

2)    علىٰ من كان جاهلاٌ (نهاية المحتاج مجلد 8 ص225) أو :

3)    علىٰ من كان غير أهل للإٍجتهاد في القضاء. (الأحكام السلطانية للمواردي ص 74).

4)    علىٰ من كان يخطب المنصب ليُجري بالقضاء نفعاً علىٰ نفسه, أو يكون له سلطة أو مشاركة في الحكومة, ولم يكن مقصدة إقامة الشرع (الشرح للدردير مج 4 ص 131) أو :

5)    علىٰ من يخطب منصب القضاء لكي ينتقم من أعدائه, أو يحقق مكسباً من خلال الرشاوي, لأن في ذلك سعياً وراء الحرام (مغني المحتاج مجلد 4 ص 374) وكذلك :

6)    علىٰ من يرىٰ في المنصب إشباعاً لرغباته أو طلباً للسلطة (نهاية المحتاج مجلد 8 ص 237).

7)    لا يصح شرعاً طلب المنصب عندما يكون في القضاء من يستحقه ومن هو أهله حسث أن العمل على إقصائه يعتبر غير شرعي, حتىٰ وإن كان هناك شخص أفضل منه لشغله (مغني المحتاج مجلد 4 ص 374).

8)    عندما يتيسر شخص أفضل من الطالب لشغل منصب القضاء (مفتاح الكرامة مجلد 10 ص 7).

ثانياً : والفئة الثانية من الظروف التي لا يحرم فيها طلب المنصب, وإنما يكون مكروهاً فقط هي :

إذا ما كانت الرغبة فقط لإٍشباع نزوة للمرء أو سعياً وراء المباهلة أو جرباً وراء السلطة أو المنزلة في الدنيا, فالسعي في هذه الحالة يكون في حكم المكروه.

يقول الله سبحان وتعالىٰ :

}تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ تَجْعَلُهاَ الِلَّذّينَ لاَ يُريدُونَ عُلُوّاً في الأَرْضِ وَلاَ فَساداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ{(القرآن 28 : 83).

ونجد دليلاً لهذا الرأي فيما ورد أيضاً في الحديث المروي عن النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : «من جُعل قاضياً بين الناس فقد ذُبح بغير سكين» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ـــ المترجم).

ثالثاً : ومع ذلك فإن هناك أحوالاً يؤكد الفقهاء فيها وجوب طلب القضاء وخطبة الولاية أو قبولها إذا ما طلبتا وهي :

1 ـــ إذا ما عُرض المنصب علىٰ شخص لا يتيسر مَن أفضل منه, وذلك لحماية حقوق المؤمنين ولدرء المفسدة عنهم, وفي هذه الظروف قد يُجبر المرء علىٰ قبول المنصب إن أبىٰ.

(الدر المنتقىٰ مجلد 2 ص 155, رد المحتار مجلد 5 ص366), لأنه بدونه لن يؤدي المهمة (المهذب مجلد 2 ص289), وحتىٰ إذا ما عُن أو أختير وخاف الوقوع في الزلل فعليه وجوباً أن يسعىٰ إلىٰ المنصب ويتجنب الزلل (مفتاح الكرامة مجلد 10 ص7).

2 ) الشخص الذي يخافُ فتنة علىٰ نفسه أو ماله أو ولده أو علىٰ الناس إن لم يتولَّ القضاء (مختصر الخليل مجلد 4 ص131).

3 ) كذلك الشخص الذي يخشىٰ إن هو رفض أن يتولىٰ المنصب ضياع حق له أو لغيره (المرجع السابق).

4 ) وكذلك فهو واجب علىٰ من يُطلب إليه وهو يعرف أنه إن لم يقبله فسوف يتعرض له غير مستحق أو أدنىٰ كفاءة (الحطاب مجلد 6 ص102).

5 ) وهو واجب أيضاً علىٰ الشخص الذي يلاحظ أن القضاء في غير مستحقه إما لنقص علمه وإما لظهور جوره, فيخطب القضاء دوماً لمن لا يستحق ليكون فيمن هو بالقضاء أحق (المرجع السابق).

والأدلة التي يستندون إليها هي ما ورد في الآية القرآنية عندما طلب يوسف عليه السلام من فرعون أن يجعله علىٰ خزائن الأرض (القرآن 12 : 55) وكذلك تفسيرهم أن ما ورد في أحاديث الرسول السابقة كانت خوفاً علىٰ الناس أن يخرّبوا آخرتهم, كما قيل أنه واجب علىٰ كل مسلم ومسلمة أن يشاركوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن هذا الواجب يتحقق بصورة أفضل إذا ما كان من موقع السلطة.

6 ) وقد ذهب بعض الفقهاء إلىٰ أبعد من ذلك فرأوا أنه يجوز شرعاً لإٍنسان غير معروف بين الناس أن يخطب عملا يكون له أهلا ولا يبغي من خلاله إلا أن يعرف الناس قدراته ومدىٰ إتقانه للعمل.

7 ) ومن الجائز شرعاً كذلك أن يخطب الإٍنسان عملاً لحاجته للرزق منه وفق ما أمر به الشرع.

هكذا يتضح لنا من المناقشة السابقة أن القرار النهائي بالنسبة للترشيح للمناصب يجب أن يؤخذ في ضوء أوضاع الأمة كما يحددها الزمان والمكان, ومن ثم فإنه لابد وأن يتوفر في مجموعة القوانين المسلمة قدر معين من المرونة لتحقيق هذا الغرض. وما ورد في كتابات محمد أسد وعبدالقادر عوده ومولانا المودودي وما أرادوا أن يبنوه من تحريم التقدم للترشيح فإنه يحظىٰ بإجماع الأمة كما أنه ليس بواجب الإٍتباع.

وبعد أن عرضنا لأبرز المبادئ القانونية في هذا المجال, يمكننا أن ندلف إلىٰ بعض المقارنات المرتبطة بالجدل السياسي المعاصر وإن كما لن نستطيع إقرار الأمور أو الوصول إلىٰ رأي قاطع فيها دون الرجوع إلىٰ تعاليم الإٍسلام في المجال الإٍقتصادي والإٍجتماعي وهو ما سوف نتعرض له الآن.

يسود الغرب المعاصر إحساس بالأسىٰ يكاد يهيمن عليه, يندب فيه إندحار الدعوة إلىٰ فكرة سيادة القانون. ويرىٰ بعضهم من خلال تحليلهم للأسباب التي تكمن وراء ذلك أن الأمر مرجعه إلىٰ :

1 ـــ نقص التواصل الذي إذا ما تحقق بصورة سليمة يمكن به السيطرة علىٰ الأفراد. ]أزمة القانون لويرامنتري[.

2 ــ عدم الاحترام الذي يرىٰ البعض أن منشأه سوء التطبيق وقد أدىٰ سوء التطبيق هذا إلىٰ تواجد مبدأ الكلبية(1)والىٰ شيوع الإٍحساس بالسخرية من كل شىء (محللو العالم الثالث).

3 ـــ إحساس البعض أن القانون يمثل أداة من أدوات القهر في أيدي السلطات تقوم من خلاله بتجريم الحرية التي لا تتفق معها أو السلوك الذي لا يساير معاييرها أو المنزلة التي ينالها غيرها ثم تتعامل مع هؤلاء الأفراد بإعتبارهم مجرمين أو عبيد وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

4 ـــ سوء توزيع الموارد الاجتماعية ـــ في نظر البعض ـــ وما يتبع ذلك من ظلم تحت ستار تحقيق الرفاهية ـــ فقد أدىٰ التفجر الفجائي للمعرفة العلمية والتقنية إلىٰ أن تتبدىٰ لكل فرد إمكانية تحقيق حياة لم يكن يحلم بها الملوك منذ قرن من الزمان. بينما تواصل وسائل الإٍعلام الداخلية إخبار الناس أن كل الأشياء الرائعة في متناولهم, وتقوم بعرض البضائع التي تجسد ما يتمناه كل فرد وتهفو إليه كل نفس دوم ملل أو كلل, وفي ظل هذا يبدو القانون ـــ وكذلك الجهات المعنية بتنفيذه ـــ كموانع تثير الضيق والنفور وباتت رموزاً تشير إلىٰ التضييق علىٰ الناس بلا مبرر. وأصبح بعض الناس يفسرون الحرية بأنها حرية الرغبة, ولا تجتمع مع المسئولية في كفة واحدة.

5 ـــ نشوء الكلبية ـــ في رأي البعض ـــ نتيجة لما يشوب محاولة تنظيم حياة الأفراد من تسيب بيروقراطي, مما جعل التمرد العام ضد القانون يمثل إختيار الحرية في مجتمع تزيد فيه سلطة الحكومة.

6 ـــ إلا أن وضع القوانين في العالم الصالص قد أصبح اليوم جانباً من جوانب الدعاية وأجهزة القمع, حيث يتم صياغتها بألفاظ طنانة تأخذ مظهر العدالة ولكنها تختص عند تطبيقها بإنزال العقاب بالعدو بينما يعفى منها الصديق, بطريقة صارخة سمحة, ويطلق لهذا الصديق العنان في استعراض القوة. ونجد أمثلة نمطية علىٰ ما نقول في قوانين الضرائب وقوانين التهريب وقوانين التحكم في الأسعار وقوانين منع الفساد وقوانين الحد من هروب رأس المال.

ويرىٰ هارولد بيرمان أن كل هذه العوامل وغيرها تساهم في إندحار سيادة القانون ولكن التحدي الحقيقي الذي يواجهه يكمن فيما يتعرض له التراث الذي تقوم عليه الحضارة الغربية, فيقول :

«إن منشأ الأمر مردّه بصورة أكبر إلىٰ أزمة الحضارة الغربية ذاتها والتي بدأت في عام 1914 بإندلاع الحرب العالمية الأولىٰ. إنها أكبر من أن تكون مجرد ثورة اقتصادية أو انقلاب تقني بل وأكثر من مجرد ثورة سياسية, فلولاها لما تمكن الغرب من تكييف مؤسساته القانونية لمواجهة المتطلبات الجديدة التي فُرضت عليها, كما كان الوضع أيام الثورات التي حدثت في الماضي. وقد يستطيع المجتمع الغربي أن يستوعب الإٍشتراكية مهما كان شكلها داخل تراثه القانوني ولكنه لا يمكنه استيعاب تميّع أسس تراثه ذاتها. وكان أكبر تحٍد واجهته هذه الأسس يتمثل في سريان عدم الثقة في الغرب ذاته كحضارة وكمجتمع وكذلك في تراثه القانوني, ذلك التراث الذي ساعد علىٰ تماسك الغرب لتسعة قرون» (القانون والثورة ص 40 ـــ Law) and Revolution P. 40 Harward 1963.

إن تحدي الحضارة ذاتها يعني إنكار الأسس المحورية للنظام الإٍجتماعي ويعني كذلك أن قوانين تحديد المكانة في المجتمع, وقواعد توزيع الثروة وشرائع العقود كلها. لم تعد لها صفتها القانونية. كما يعني أن القوانين المعلنة لم تعد هي المعايير الحقة للحكم علىٰ سلوك الأفراد, كما لم تعد الهيئات الموكلة بتنفيذ القوانين قائمة لحفظ العدل, وإنما تصبح بمثابة مؤسسات تقوم بحماية واقع ظالم.

ما هي الأسباب في نشوء وضع كهذا ؟ بادئ ذي بدء, إن الإٍحساس بالكلبية يتملك الأفراد أساساً بشكل تراكمي, فهو لا ينتج عن ظلم عابر وإنما ينتج عن شعور بظلم قائم لفترة تطويل, ومن مصادر متعددة. إن إحترام القانون يبدأ بتقبل الأفراد لما هو موجود من أسس التدبير والتصريف. إنه إيمان وثقة فيما هو قائم من معايير لا فيها سوف يكون. وتبرز حقيقتان أخريتان يعود إليهما التعقيد الكائن في هذا الشق من الموضوع.

أولهما أنه في تلك العصور التي تتميز بالتغير السريع يكون من الصعب تحديد المعايير القائمة بطريقة تستوجب ولو شكلاً معقولاً من الإٍجماع.

وثانيهما أن العالم الحديث قد قبل عن دراية كاملة الكثير من التبدلات القصدية في الدعاوى التي تحدد ما هو صادق مما يثير إحساساً أن ما يمكن أن نسلّم بصدقه علىٰ الدوام قد أصبح صعباً إن لم يكن ضرباً من المستحيل. ويزداد هذا الإٍحساس في عالمّ تعرض لتفجر في المعرفة إنهار معه القسم الأكبر من الرؤىٰ التي استقرت في أذهان العالم طوال السنين الخوالي. وزاد الموقف تعقيداً ظهور داروين وماركس وفرويد. ولقد خلعوا علىٰ داروين فضلاً لا يستحقه, عندما نسبوا إليه ما يطلقون عليه الداروينية الإٍجتماعية وما تعنيه من إطلاق العنان لسباق الثروة والقوة الذي إجتاح الغرب في القرن التاسع عشر في وقت تعرض فيه لتغير سريع. وكذلك ساهم فرويد وماركس في تعقيد الوضع بصورة أكبر عندما أذاعا الوسائل العديدة التي يلجأ إليها الناس في خداع النفس, وأبانا الطرق التي يعاني فيها الأفراد من زيف الشعور. فالناس في مواقف الحياة المختلفة يختفون وراء مائة قناع وقناع يجعل من الصعب عليهم التعرف علىٰ الشخصيات الحقيقية لبعضهم البعض. والأكثر من ذلك للناظرين إليهم.

إن الأزمة الحالية في الغرب لم نتشأ من فراغ, فقد مرت قرون من الكفاح الأليم قبل أن يتحرر العقل البشري من التظرة التي فرضتها الكنيسة والتي سادت العصور الوسطىٰ. ومرت بعض القرون عقب هذه الفترة قضاها الناس في تثليم أشواك الطائفية المسيحية, وتشكل الثورتان الفرنسية والأمريكية حداً فاصلاً. وكذلك جاء عصر العلم والكفاح ضد العقيدة الكاثوليكية المتزمتة الذي تحول إلىٰ حرب ضد الدين كافة. وتحولت العقيدة الجديدة عن اللاهوت لكي تتمركز حول الإٍنسان. وقد أخذت نظرية التطور بألباب العلماء وعلماء الإٍجتماع كذلك بغض النظر عن محتواها. وأصبحت الداروينية الإٍجتماعية هي العقيدة الجديدة, التي أقامت الأساس العلمي الراسخ لبزوغ مجموعات منتخبة جديدة في القرن التاسع عشر, أو علىٰ الأقل فإن ذلك هو ما أوردوا للناس اعتقاده. كما أن نظرية التسبية كنظرية علمية لم تكن في متناول الاستيعاب الفكري إلا عند القلة من الناس, وعندما إقتبسها علماء الإٍجتماع جلبت الدمار للأخلاقيات الجديدة المتشبعة بالعلمانية التي قامت علىٰ أطلال مسيحية العصور الوسطىٰ. وساهم فرويد وفيورباخ بما قدماه لعامة الناس ليدلّلا علىٰ أن الدين وأخلاقيهات العصر الفيكتوري ما هي إلا ورع كاذب مفروض علىٰ عقول بريئة يمكن أن تستعيد صحتها وسواءها فقط من خلال الإٍنغماس الذاتي واطلاق العنان للأهواء. كل ذلك جاءته دفعه جديدة زادته إشتعالاً عند تعرض للماركسية الأولىٰ التي قامت لنثبت أن كافة القوانين ما هي إلا أدوات ملتوية يستخدمها الرأسماليون الخبثاء الذين أرادوا أن يضموا إليها الدين «أفيون الشعوب» لكي يضعوا بها أغلالاً في أعناق العمال. فالعقيدة الماركسية ترىٰ حقائق ثابتة وإنما نتاج أساليب الإٍنتاج وما أفرزته من بناء طبقي.

وقد عاصرت هذه الأوضاع تغيرات كبيرة في المجال التقني أتاحت للكثيرين الكم الوفير من أساليب الراحة البدنية والاشباع الذاتي والمتعة الثقافية, حتىٰ بدا لبعض الناس أن يؤمنوا بالعلم إيماناً عقائدياً وبقيدرته علىٰ أن يعطينا فوراً ما لم نستطع الحصول عليه بدعوات إستمرت قروناً. وتواترت التغيرات بسرعة مذهلة لم تقِدرْ مَعها المؤسسات القائمة علىٰ التراث أن تصمد أمام مت تتعرض له من طعنات. فإنهارت الأسرة التي كانت تعتبر الوحدة الإٍجتماعية المقدسة في التراث المسيحي, وانهارت معها قيم ضبط النفس والمشاركة في السراء والضراء, ونبذوا الفضيلة الجنسية وراء ظهورهم ورأوا فيها عائقاً بغيضاً في سبيل تحقيق الإٍشباع الكامل الفوري. ولقيت الضوابط الإٍجتماعية نفس المصير, وأصبح الإٍنغماس في الملذات بلا حدود هو المطمح الجديد الذي يرنو إليه الجميع, والطريق السريع لتحقيق الصحة. وصدق هذا علىٰ الراشدين وكذلك علىٰ تربية النشء الجديد ورأوا في العائلات الكبيرة صورة مطابقة لعصابات المافيا, وإذا ما انهارت الأسرة فلا قيام للنظام الأخلاقي بعدها, فلم تعد الجريمة خطأً فردياً, وإنما نتيجة الحرمان العاطفي والاقتصادي ويجب أن نجد لها علاجاً في المستشفيات وليس في محاكم القانون ونبذوا العقاب واستبدلوا به العلاج.

ولم يكن الآرباء المسيحيون ولا القساوسة علىٰ درجة من الكفاءة العقلية أو الاستعداد الفكري الذي يمكنهم من مواجهة هذا التحدي المتمثل في الهجوم الكاسح علىٰ مختلف الجبهات ذلك الهجوم الذي سانده علماء متميزون, وظهر جيل جديد بدا فيه الإٍبن أوفر علماً وأكثر كفاءة من أبيه حيث ساد مناخ تقني وعلمي بات جلياً من خلاله أن ما لدىٰ الآباء من تقنيات ومعارف ينتمي إلىٰ عهود ولّت وأن عالمهم الأخلاقي ليس له من سند عقلي ومن ثم انهارت مكانته. وفتحت الثورة التقنية أبواباً كثيرة لإٍنفاق الثروة واستهلاك الأرض وغيرهما من الموارد. وأفرزت أساليب الإٍنتاج الجديد توزيعاً مختلفاً للثروة وتخلت عن الإٍعتماد علىٰ العمل الزراعي بمفرده.

وهكذا أقاموا من «العلم والتقنية» صنماً جديداً يرون فيه القدرة علىٰ إعطائهم الإٍشباع الفوري لكل الرغبات, والإٍمتاع المستمر الذي تتيه معه العقول الكسولة والعواطف الزائفة علىٰ حد سواء. وكذلك قامت الدولة الحديثة بجيشها العرمرم من البيروقراطيين لتكون للفرد طبقة الكهنة التي تعتني بكل رغبة من المهد إلىٰ اللحد, لم تعترف هذه الديانة الجديدة بأية حدود عقدية أو وطنية.

وإرتفعت حدة التذمر بين فئات العمال الصناعيين وهم يرون مستوىٰ المعيشة المرتفع الذي تتمتع به الفئة المتملكة للثروة, مما أعطىٰ جاذبية أخاذة لإٍشتراكية ماركس التي أشبعت الإٍحساس بالجسد في نفوس الفقراء, ووعدتهم أن يجدوا فيها منزلة عالية من الثقافة والتوقير الأخلاقي, بينما ركز العنصر الثاني من رسالته علىٰ الاعتقاد الكامل الشامل بالعلم كإلٰه يتخذونه من دون الآلهة التي كانوا يعبدون. ومن كان يستطيع أن يقاوك هذه الرسالة وهو يرىٰ من حوله أمثلة حية لما تقول ؟ وظهرت ديانة جديدة تستحث الجري وراء المطالب الدنيوية وتعتبره الفضيلة. وتعد بتلبية هذه المطالب فور طلبها. وتَمثَل الكاهن الأول لهذه العقيدة في ديكتاتورية طبقة العمال (البروليتاريا) التي تعمل في إطار البيروفراطية التي أقامتها, وانتزعت الممتلكات من أصحابها الخصوصيين الأشرار, لكي تزيد من إنتاجيتها وتقسط في توزيعها. ويكفي لهذه القضية أن تُعرض ليتبعها علىٰ الفور من يؤمن بها.

وتقاربت المسارات الإٍشتراكية والرأسمالية حول موضوع السيطرة البيروقراطية والدولانية أي تركيز السلطة الاقتصادية والتخطيط الإٍقتصادي في يد الدولة. ولم يكن لإٍمرئ أن يدعي بأنه إنسان عصري مالم يؤمن بأي من العقيدتين.

إن تركيز حيازة الأرض في أيدي فئة محدودة, والذي ساد في العصور السابقة لهذا العصر قد وضع علىٰ هذه الفئة التزامات محددة. فقد كان صاحب الأرض الإٍقطاعي لا يستخدم العامل في أرضه فقط وإنما يهيئ له من الحماية والأمن ما يغنيه عن باقي البشر. وكانت واجباته تشمل تعهداً ضمنياً أن يطعمه ويضمن لذلك الفلاح الفقير رزقاً وعملاً في أرضه. ولكن النظام الذي سارت عليه الأمور التي أوجدتها سياسة التصنيع والتمدن قد تخلىٰ عن هذه الإٍلتزامات ولم يعد يهتم إذا ما ارتبطت الطبقات العاملة بممتلكاتها أو تركتها وهاجرت إلىٰ الأحياء الفقيرة في المدن. ولم يعد يتوقع أي منهم أن يكون أداؤه مثل سابقه. وفي ظل النظام السياسي الجديد أصبح ملاك الأراضي في جلّ أحوالهم تحت سيطرة الصفوة الصناعية الجديدة, فلم يعد في مقدورهم أن يفعلوا مثلما كان يفعل الإٍقطاعيون في الأعوام السابقة, وأنكرت عليهم هذه الفئة أن يكون لهم دور رئيسي في النظام السياسي الجديد ما لم ينتموا إلىٰ فئة الصناعيين. ولما رأىٰ أغلبهم أنهم لا يستطيعون إكثار ثرواتهم الموروثة واستثمارها طفقوا ينفقونها علىٰ حياة التباهي كرد فعل علىٰ حرانهم في ظل مبدأ المساواة الذي تنادي بها الإٍشتراكية الجديدة, ولم يمر وقت طويل قبل أن تصبح الثروة الموروثة سبّة. وأصبحت حقوق الملكية موضع شك وريبة بل صارت وهماً في ظل التغيرات التي خدثت في تكليفات السلطة السياسية.

وإذا ما كان الإٍقطاعيون أصحاب الأرض ذوي بسطة في الثراء فقد كانوا كذلك ذوي نفوذ في السياسة, ومع إزدياد التصنيعوانتشار التمدن تبدل تقسيم السلطة السياسية تبدلاً أصبحت فيه الثروة بلا مبررات من أي نوع أو بلا سند سياسي أمراً في غير محله ولا تأمن علىٰ نفسها. فإشترت أمنها بالدخول في تحالف مع السلطة السياسية كما إتجهت السلطة السياسية إلىٰ الثروة لتضمن لنفسها الإٍستمرار.

وقد أدىٰ إرتفاع مستويات الرخاء وتشبع الثقافة بالديمقراطية إلىٰ خلق مناخ وجد فيه الفرد نمطاً جديداً من الحرية مصحوباً بأدنىٰ قدر من المساواة. وأضافت الثورة التقنية إلىٰ هذا المناخ نكهة تمتعية جديدة, ومجالات متنوعة من الإٍنغماس الذاتي. وصارت كلمة «الحرية» حلقة الوصل في كل حديث. فتسمع عن التحرر من الحاجة, والتحرر من العمل الشاق, والتحرر من قيود الأخلاق ـــ ووجد أصحاب المتعة الجدد ضالتهم من الإٍشباع الكامل الفوري في محراب هذا الصنم الجديد.

وإذا ما كانت «الحرية» كفكرة قد تعرضت للإٍستهلاك فإن الشعار الثاني «المساواة» لاقىٰ مصيراً أسوأ, فأولئك الذين لا ينتمون إلىٰ طائفة الصفوة بحثوا في هذا الشعار عن «المساواة في الحصيلة» عند الجميع. فوجدوا أنماط التفرقة الواضحة وغير المرغوبة التي كانت تفسَّر دائماً لهم علىٰ أنها نتيجة لسوء الحظ في المولد أو التنشئة. وكانت هذه العوامل ذاتها هي بدورها الأسس التي يستندون إليها كميزَّة فطرية يميزون بها أفراداً أدنىٰ كفاءة علىٰ من يبزونهم.

وبناءّ علىٰ هذا التحليل الذي أزكته الماركسية اللينينية, فإن المكانة الإٍجتماعية والإٍنتماء الأسري والثراء المادي والحيازات الممتلكة, كلها أصبحت نقاطاً تؤخذ علىٰ الفرد وليست له. فصاحب الأملاك يلقىٰ معاملة اللصوص. وذوو المكانة أو سلالة الأسر النبيلة يلاقون الهوان. ولا غزو ألا يكون للوضع الراهن في مثل هذه الأحوال أي معنىٰ سوىٰ الدمار.

وفي الوقت ذاته كانت هناك أسطورة جديدة إنتشرت في العالم الرأسمالي وكذلك الإٍشتراكي وأيضاً العالم الثالث علىٰ السواء, أذاعوا بها ورعوها مؤداها أن حكومات اليوم بمقدورها أن تنوب عن الأفراد في تحمل التزامات تحقيق الرفاهية لهم بصورة أفضل, وبناء عليه جُمعت الضرائب الباهظة ووجدت سبيلها إلىٰ قنوات ليس للعامة عليها سلطان.

ولكن نمط العمل داخل هذه الفئة الكهنوتية الجديدة كان أمراً مختلفاً فرغم ما أذاعوا به من دعاوى أن الحكومة تعمل كوحدة متكاملة فإن الواقع يشير إلىٰ إحتوائها علىٰ وحدات عديدة يدور بينها صراع مميت من أجل الحصول علىٰ نصيب أكبر من الموارد. وفي الوقت ذاته تواجدت داخل الحكومة العديد من الإٍمبراطوريات المالية الكبيرة بينما قامت وكالات الدولة بتنمية أرباح الفئات الخاصة أو أنها أعطت لنفسها فرصة لكي تستغل أو تُستغل أو تحقق منافع لأفراد ليسوا لها أهلاً. وفي أغلب الأحيان فإن القائمين علىٰ هذه البرامج يستفيدون من هذه العملية بطريقة غير مباشرة أو متخفية دونما خوف من أن يكشفهم أحد أو أن يتعرضوا لإٍدانة أخلاقية. ولم تشذ عن هذا النمط التجربة البيروقراطية في الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي وكثير من البلدان الأوربية وهو أمر لا يحتاج إلىٰ بيان.

أما المفاسد التي ساهمت برامج الرعاية الإٍجتماعية الحديثة في تأصيل جذورها في المجتمع ـــ بما في ذلك الطفيلية ـــ فقد فاقت حد الفضيحة العامة, ولكن الخطأ الأكبر الذي أدىٰ إليه هذا النظام ترك آثاره في مقام آخر.

إن ما كان يُعرف من قبل بإعتباره «إعانة كوارث» قد وصل الآن إلىٰ دعوى بالمساواة الإٍقتصادية والإٍجتماعية ليست لها علاقة بما يقوم به المرء من عمل أو طبيعة هذا العمل كما أن عجز المرء عن الإٍحتفاظ بوظفته, أو عن السعي أو عن تحقيق مدخرات بصورة شرعية تُؤوّل علىٰ أنها نتيجة ظلم سابق أو حرمان قديم.

لقد قامت مجموعة عريضة من المثقفين والسياسين من الغربيين والإٍشتراكيين وذوي النزعة الفابية بمواصلة الدعاية والتأكيد علىٰ الخرافة التي تقول أن الدولة قادرة علىٰ خلق حالة عامة من الرخاء بلا دموع أو معاناة. وكذلك الإٍتحادات المهنية علىٰ إطلاقها نجدها تقف في صف «تأميم الصناعة» و «إعادة التوزيع العادل» دون إقامة رابطة إيجابية بين الانتاجية والأجور من ناحية وبين التوظيف والفائدة من ناحية أخرىٰ. فهم عامة يغضون بصرهم عن التكلفة الإٍقتصادية حين يفضلون عدم إدخال التقنيات الحديثة لما تؤدي إليه من تحويل الحاجة عن عدد كبير من الوظائف. وغالباً ما يستغلون ثقلهم في التصويت الإٍنتخابي ـــ سواء بطريقة سليمة أو بطريقة فاسدة ـــ لكي يحصلوا علىٰ زيادات في الأجور لا يستحقونها فعلاً. وبينما كانت الأيدي العاملة في القرن التاسع عشر تستغل إستغلالاًحقيقاً في بعض القطعات إلا أن الوضع في القرن العشرين يسير في الاتجاه المضاد ـــ فالعمالة المنظمة داخل النظامين الرأسمالي والإٍشتراكي إستطاعت أن تحصل علىٰ أكثر مما تستحق عن طريق التلاعب بالحكومات والأنظمة السياسية. ويبدو أن البيروقراطية في كافة أنحاء العالم ترحب بمثل هذه التطورات حيث أن المسئوليات الإٍضافية المرتبطة بعدالة التوزيع تعني سلطة إضافية ومن ثم فرصة أكبر وتمكناً أفضل من الحصول علىٰ نصيب أوفر من «الكعكة الاقتصادية الوطنية».

كما وجد حكام اليوم أن من الأنسب لهم ألا يحاولوا التقليل من المسئوليات الملقاة علىٰ عاتقهم لأنهم يرون في زيادة المسئوليات زيادة مماثلة في المبررات التي تتيح لهم البقاء في السلطة أو توسيع نظاقها لتشمل فرض الضرائب والمناورة وتوزيع الثراء ـــ علىٰ نطاق أوسع مما قد يتاح لهم إذا ما لجأوا إلىٰ التقليل من سلطة الحكومة أو إعادة قدر أكبر من المسئولية إلىٰ الشعب.

وقد أدت الوعود المبذولة بأن الدولة سوف تُعنىٰ بإشباع الحاجات الأساسية لكل فرد وأن ذلك في مقدورها فعلاً ـــ أدت إلىٰ حرمان الناس في كل مكان من أن يعطوا ما لديهم وهم قادرون عليه. وهناك القوانين التي لا تحصىٰ والتي وضعت في العالم الحديث تحت شعار تحقيق الرفاهية. تلك الرفاهية التي لم يرد مثلها العالم لقرون مضت كما يصدق القول بأن التشريعات التي تستهدف تحقيق الرفاهية سواء في العالم الرأسمالي أو في العالم الإٍشتراكي قد خلقت غول البيروقراطية الذي لا يمكن السيطرة عليه والذي يستفد من المخصصات المالية مالا يستنفذه أي فرع من فروع الحكومة بإستثناء الدفاع ولكن انفاقاته تتحدىٰ كل قواعد الإٍقتصاد أو التحكم أو التفسير. ويوماً بعد يوم تزداد الشُّقة بين التطلعات التي تداعب خيالنا وبين الأداء الفعلي وفي كل مرة تزداد معها مشاعر الإٍحباط لدى الأفراد. إن مشاعر الرفض التي تسري بين الناس ضد توزيع الثروة ومباهج الحياة قد نبعث من مصادر مختلفة تجمعت كلها في بحر كبير من الإٍحباط والغضب المتأجج. ولاشك أن مثل هذه الحالة من التفكير تحمل الدمار والخراب إلىٰ نسق القيم في المجتمع وتقلل إلىٰ أدنىٰ حد من كم الإٍستثمار التطوعي للأفراد في النشاط المشترك من أجل صالح المجتمع. إن كلا النظامين الرئيسيين وهما يتنافسان من أجل السيداة قد تعرضنا لمشكلات مماثلة وهي تتمثل تحديداً في إيجاد التوازن بين حقوق المجتمع وطلباته من ناحية, وحقوق الفرد وطلباته من ناحية أخرىٰ. وقد خضعت الحقوق الإٍنسانية مثل الحرية والمساواة والملكية الخاصة لأنماط مختلفة من التعامل بطريقة تثير الحيرة. وتختلف أنماط التعامل هذه طبقاً لما يحمله المتحدثين عنها من آراء حول الإنسان والكون المحيط به, وكذلك طبقاً للمدرسة السياسية التي يتبعها كل منهم؛ فنجد العالم الديمقراطي الرأسمالي مع التزامه بالرفاهية قد اختار طريق الضرائب الباهظة والبيروقراطية, بينما اعتمد العالم الإٍشتراكي علىٰ نظرته للإٍنسان فالتزم بعدالة التوزيع من خلال نمط بيروقراطي أيضاً. ولم تعد الآثار السلبية الناجمة عن البيروقراطية خافية علىٰ أحد بعد أن كُتب عنها الكثير في الشرق والغرب, وكذلك في العالم الثالث أخيراً, وقد يكون هناك إجماع علىٰ أن المصالح الشخصية قصيرة المدىٰ والمرتبطة بالنظام البيروقراطي ـــ مهما تغيرت أشكالها ـــ تضع أغلالاً قوية حول أكثر البرامج إيثاراً وأقربها إلىٰ المثالية. وإذا كانت الدافعية في ظل النظام الرأسمالي يدير دفتها حافز الربح فإنها في ظل النظام الإٍشتراكي تقوم علىٰ القهر في ظل ديكتاتورية البروليتاريا وهكذا فإن غياب المكاسب الشخصية الممكنة في إحداهما وغياب القوة الحارسة الرسمية التي تضمن الطاعة في النظام الآخر, يؤديان إلىٰ أغلب ظواهر الفشل في هذين النظامين. كما أن المؤسسات الديمقراطية الشهيرة التي تختص بالرقابة والتوجيه, أو تلك التي ترتبط بالحزب أو المكتب السياسي في العالم الاشتراكي فقد دلت هذه المؤسسات علىٰ عجزها بطريقة واضحة.

إن الإٍسلام كذلك يواجه هذه المشكلات ويمدنا بسياسة تفاعل وتعامل داخلية للمعيشة, وإيمان دينامي يهيمن علىٰ الأداء ويرفع من مستواه كلما تقدم الفرد في الدرب الروحي.

إن جوهر المشكلة في إخضاع السلطة للقانون والأخلاق يكمن في إيجاد سبيل إلىٰ إذكاء دافعية الفرد حتىٰ يظل دائماً واعيا بالتزاماته, ملتزماً بالبذل الدائم لا يدخر جهداً في سبيل أداء أمانة ما بعنقه من مسئوليات, ويحقق الإٍسلام هذا الأمر بالإٍشارة إلىٰ عهد الإٍنسان مع الله. فالقرآن يقول أن الإٍنسان قد أعطىٰ ميثاقاً أولياً مع الله أن يهب حياته في هذا العالم لعبادته سبحانه (القرآن 9 : 11) ويجدد هذا العهد بقبوله الإٍسلام (القرآن 48 : 10) ويصل المسلم إلىٰ أعلىٰ عليين عندما يدرك عن وعي ويعمل علىٰ أساس ما أورده القرآن : }إنْ الله اِشْتَرىٰ مِنَ الُمؤْمِنينَ أَّنفُسَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنّةَ{(القرآن 9 : 111).

إن هذا العهد يضع المسلم تحت التزامات مباشرة أن يتعامل مع ذاته ومع قدراته بإعتبارهما أمانة عليه أن يؤديها بإستمرار بالطريقة التي يقرها ربه ويرضاها له. إن هذا الإٍلتزام مطلق ولا يرتبط بعمل الآخرين أو قصوره العمل (القرآن 5 : 105) فالشريعة تمدنا بالمجال الكامل الذي نتحرك فيه والأولويات التي يجب علىٰ الفرد أن يرعاها باستمرار. فالإٍسلام يضع علىٰ عاتق كل فرد مسئولية كسب قوته,. وانتاج أكثر مما يكفي حاجاته لكي يتمكن من المشاركة في أداء الزكاة إلىٰ أولئك الذين لا يستطيعون إعالة أنفسهم أو من يعولونهم لأسباب وقتية أو دائمة. فالإٍنسان لا يُترك فريسة خالصة لحافز الربح يدفعه أو لمتع نفعية تحركه وإنما يظل تحت التزام مباشر من خلال عهده مع الله أن يُنتج وأن يكسب أكثر مما يرضي حاجاته الشخصية وأن ينفق ما يكسبه ليُرضي حاجات الآخرين. وفي الجانب الآخر فإن حق الإٍنسان في الزكاة ينشأ ويستنر فقط طالما كان العجز قائماً. وقد يُساعد الولاة الأفراد علىٰ أداء هذه الأمانة ولكنهم ـــ أي الولاة ـــ لا يمكن أن يحلوا محل الأفراد أدائها. ويعتبر هذا أحد الأسباب التي ألزمت المسلمين كلهم بألا يرتكنوا علىٰ أدائهم الزكاة للولاة وإنما عليهم أن يتأكدوا من وصولها إلىٰ ذوي الحاجة.

والقرآن يعترف بالمنزلة الإٍجتماعية والمركز الحياتية, ولكنه يمدنا بمعاييره الخاصة التي إذا ما منحت السلطة طبقاً لها فسوف تختفي كل المشكلات التي ترجع إلىٰ إحلال فرد في غير موضعه. فالقرآن يرىٰ أن المنزلة التي يحققها الإٍنسان في المجتمع الإٍنساني يجب أن تعكس نفس المبادئ التي يحقق بها منزلته عند الله : }إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ{(القرآن 49 : 13) وتأسيساً علىٰ الطريقة الإٍسلامية في الحياة فإن التقوىٰ تتكون من :

أ )معرفة العلاقة السليمة بين الفرد والخالق والكون من حوله وتقبل هذه العلاقة.

ب ) الإيمان بالحساب الأخروي.

جـ )  الحياة طبقاً لهدى الوحي, تلك الحياة التي وضحت دينامياتها في حياة الأنبياء والمهديين.

د ) أحقية الرسول محمد ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بالإٍتباع بإعتباره خاتم المرسلين بالوحي.

ولكن الأمور لا تترك علىٰ هذا المستوىٰ العالي من التجريد النظري. وإنما تم تحديد القيم الأساسية وكذلك أساليب تحقيقها عملياً. وللقرآن أسلوبه الخاص في مسألة توزيع الثروة والملكية في المجتمع.

إن الإٍسلام يرفض دعوىٰ أن خلق الإٍنسان كان عبثاً وأن حياته تنتهي بموت جسده. وهو يطلب من البشر أن يقروا بأنه لا إله ‘لا الله وأن يجعلوا طاعته سبحانه هي محور حياتهم وبها ينطبق المرء إلىٰ حياة النعيم. ولسوف يرضىٰ. ويطلق الإٍسلام دعوىٰ صريحة أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا جزء ضئيل من الحياة الأوسع التي يمتد فيها نجاة البشر, وتأتي الصورة التي يرسمها الإٍسلام لمصير البشر وعلوهم ونجاتهم مشتملة علىٰ عوامل عديدة فعالة لا نجد لها ذكراً في النظامين الرأسمالي والاشتراكي أو أنها تشغل مكانة دنيا في تسلسل القيم التي يحتويها النظامان.

وفي التصور القرآني يمكننا أن نستمتع بزينة الحياة الدنيا وبلا خوف أو حسد أو تصارع. بل إن المرء ليجد حتىٰ في الأسىٰ سلاماً داخلياً وهدوءاً وتوافقاً وسعادة إذ ما كان علىٰ الصراط المستقيم. وعلاقته مع ربه تتسم بالإٍيجابية والجدوىٰ وإذا ما سار علىٰ هذا النهج فستزداد باستمرار إستقلاليته عما يحيط به. إن المتعة التي تقتصر علىٰ ما تدركه الحواس الخمس تدني من الروح الإٍنسانية ولا تجعلها ترقىٰ عن الوجود الحيواني إلا القليل. إن الإٍنسانيته عندما يستشرف ذاتاً تفوق ذاته الحيوانية. وهكذا يرىٰ الإٍسلام أن رحلة الانسان الصاعدة إلىٰ حياة أسمىٰ وأفضل لا تتحقق إلا من خلال إعطاء متع الحياة وملذاتها الدنيوية مكانها الصحيح.

ويبدو لنا القرآن وهو يبدأ من الوجود الإٍنساني حين يجد نفسه في بيئة ليست من صنعه وليست طوع أمره تماماً فهي مرة تساعده ومرة تعاديه وهي كما تحمل له إمكانيات غير محدودة بالسعادة الكبيرة تحمل له ذات القدر بالمآسي العميقة ويتوجه القرآن إلىٰ المؤمنين يهديهم إلىٰ السبيل الذي يجعلهم خلال تلك الحياة المحدودة في هذا العالم وفي حدود ما لهم من قدرات وما يتاح لهم من فرص ـــ يجعلهم أهلاً لحياة النعيم في الآخرة, وفي الوقت ذاته يحققون في هذه الدنيا الأمان والرخاء والرضىٰ بلا خوف يعتريهم أو حسد يتملكهم أو أسىٰ ينتابهم. فما آتاهم الله من علم أو قدرات أو سلطة أو مال كلها هبة منه وهي فرادىٰ أو مجتمعة تستهدف تحقيق نجاة الإٍنسان.

والإٍسلام علىٰ عكس بعض الأنظمة التي تنادي بالزهد والتقشف والتي تعد بالخلاص فقط من خلال التخلي الكامل عن متع الحياة, فهو يقبل الدنيا بكل زينتها وأهوالها, بكل ما تقدمه فيُشبع ويُمتع أو يُحزن ويُؤلم. وفي القرآن الكثير من الآيات التي تحكي عن العلاقة بين الفرد وممتلكاته وثروته الدنيوية, محتوىٰ وطَريقة : ماذا يكسب منها وكيف؟ ماذا ينعم به منها وكيف؟ ماذا يكسب منها وكيف؟ ماذا يبقى منها وكيف؟ ماذا ينفق منها وكيف؟

ويجب علىٰ الإٍنسان أن يشارك في النشاط الاقتصادي. والرخاء نعمة من الله. ولنا أن نستمتع بزينة الحياة ولكن بإعتدال وبلا تفاخر وفي اطار عقلي يقر بالحمد لله. وأن نحرص علىٰ أن نعطي الآخرين حقهم من خير الدنيا لكي لا ينقلب الإٍستمتاع بنعم الله سبيلاً لزرع الضغينة والغضب والإٍحباط في نفوس الآخرين.

إن الإٍنسان ضعيف أناني عجول يتملكه الحسد والطمع وهو في ظل ضعفه هذا يضل في حُكمه علىٰ الأمور, فلا يقدم علىٰ فعل الخير, وهو عليه واجب, ويحمل بين جنبيه الكراهية لغيره من الناس لأسباب واهية أو غير منطقية, بدلاً من أن تكون هذه الكراهية للشر. وغالباً ما يوجّه طاقته عبثاً في قنوات لا طائل وراءها, ولا تجر إلا الدمار والخراب. وغالباً ما ينشأ الحسد عند الإٍفراط في الابتهاج بالنجاح أو الاسراف بلا داع في التفاخر بالثروة كدليل علىٰ هذا النجاح مع الإٍحجام عن إعطاء الآخرين عن طيب خاطر نصيباً عادلاً مما أوتينا من الخير. ويحكي لنا القرآن عن قارون كنموذج لهذا الصنف من الناس الذين يستثيرون الحسد ويختلفون لأنفسهم المشكلات ويجعلون من أنفسهم عبرة لغيرهم.

وفي ظل النظام الرأسمالي لا ينظرون إلىٰ ما يخلفه الحسد من دمار بإعتباره مشكلة اجتماعية رئيسة. وإنما ينظرون إليه علىٰ أحسن تقدير بإعتبار مشكلة الإٍهتمام بالذات القائمة علىٰ علم, أو يعتبرونه مشكلة تختص بها الأخلاقيات المسيحية بالنسبة لمن تهمهم المشاركة في العقيدة المسيحية. فهم يرون أن الشخص الذي يحقق ثروة له أن يستغلها كما يحب ويرضىٰ فله أن يرابي بها أو يبددها علىٰ حياة الترف والمجون. كما يرون أن التفاخر بالثروة من حق الأغنياء. وقلة منهم هي التي ترىٰ أن إرادة الثورة وقلب الوضع الراهن يدعمها دائماً الإٍحساس بعدم المساواة الذي يتمثل في ثراء فاحش مقابل فقر مدقع.

وفي ظل النظام الإٍشتراكي يعطون الجسد مكانة خاصة بإعتباره أولوية أخلاقية من الدرجة الأولىٰ. فطبقة العمال الكادحين «البروليتاريا» والتي تعمل في إطار مالها من ديكتاتورية لها حق استئصال طبقة الرأسماليين الذين يحققون أرباحاً من وراء استغلال ما لديهم من رؤوس أموال ومن ثم فإن هذا النظام يرىٰ في الثروة مبرراً لتوقيع الجزاء علىٰ مقتنيها, والمتصفح للتاريخ الحديث يرىٰ أدلة كثيرة علىٰ المآسي والمعاناة التي أفرزها الإٍحساس بعدم المساواة في ظل النظام الرأسمالي, ومثلها علىٰ أعمال السحق والمحق التي يختلقون لها المبررات في النظام الإٍشتراكي.

إن الإٍسلام يسعىٰ لحماية المجتمع من كلا الإٍتجاهين المتطرفين, فنجد أن المرء وإن كان هو الذي حقق ما عنده من ثروة يحرم عليه أن يستخدمها في مجالات معينة ويفرض عليه أن يستخدمها في مجالات أخرىٰ (القرآن 17 : 26 ـــ 27) ومما يحرم عليه الإٍستعلاء بالثروة وتبذيرها (القرآن 17 : 26 ـــ 27) وكذلك البخل والشح (القرآن 47 : 38).  إن الله قد أخذ علىٰ الإٍنسان عهداً مسبّقاً (القرآن 7 : 172) والمرء بدخوله الإٍسلام يجدد هذا العهد الذي ممقضتاه يعطي حياته وماله في سبيل حياة أوفىٰ ونعيم مقيم في الآخرة (القرآن 9 : 111) والإٍنسان لكي يكون جديراً بهذه الحياة الأوفىٰ وهذا النعيم المقيم في الآخرة عليه أن يستخدم ما آتاه الله من نعم في هذه الدنيا ومع من حوله بطريقة حكيمة, وطبقاً لما جاء به الوحي من هدى إلهي. ويجد المرء تزكية لروحه حين ينفق مما يحب ومما لديه من خير ومال ومتاع, يؤتية عن طيب خاطر بل وفي سعادة غامرة. ولا يطلب الإٍسلام منه بالطبع أن يكون راهباً أو ناكساً, بل يحيا حياته الدنيا وهو يشارك في نعم الله, وقلبه تغمره البهجة ويعمره الحمد. أي أنه يتعين عليه أن يقاسم ما أفاء الله عليه من نعم كما ينبغي له أن يفعل.

إن الذات الجسدية التي تقف عند المستوىٰ الحيواني تنمو عن أخذ. والذات الروحية تنمو عن عطاء. وتصبح الثروة نعمة عندما نكسبها أو نحفظها أو ننفقها أو نؤتيها طبقاً لقواعد الشريعة, ووفاءّ بما تحدده من التزامات. والمعرفة نعمة ومصدر للسلطان ومسوغ للتكريم. والمعرفة الحقة هي التي تعطي صاحبها القدرة وتمنحه التواضع وتعينه علىٰ الشكر عندما تشحذ حسه الخلقي وتجعل منه نجماً هادياً ومصدر سلوان وقوة لإٍخوانه من البشر. والسلطة كذلك ـــ شأنها شأن الثروة ـــ أمانة في عنق الإٍنسان يحملها ويرفع من قدرها ويستخدمها طبقاً للقواعد التي تحددها الشريعة. وكل هذه النعم عندما تُستخدم الإٍستخدام السليم تصبح مصدراً يحمل للأمة الأمن والأمان والرخاء. بينما تعُنى روابط الدم وغيرها من العلائق المعتمدة بإشاعة الحب والأمن والثقة بالنفس والانضباط في نفوس أبنائها من الداخل وتنمي فيهم القدرة علىٰ التضحية والتلقائية, وكلها أمور لازمة لتحقيق النماء والإٍنجاز. والقرآن لا يفرض قبولها طبقاً لشروطه, فنجده يزخر بمفاهيم النجاة والنجاح والرقي ولكنها تحمل من المعنىٰ ما يخالف ما يرتبط بها في فلسفة الحياة العلمانية القائمة علىٰ اللذة.

إن تعاليم الإٍسلام المتعلقة بالأمور الإٍقتصادية تغطي كل مجالات اكتساب الثروة والحفاظ عليها وكذلك إنفاقها وكلها تقع في سياق عريض غير مقتصر عليها. ويجب علينا أن نضعه في اعتبارنا.

إن من أهم المتطلبات الأساسية التي يعتمد عليها النمو الإٍنساني الفعال تتأتىٰ من خلال إشباع دافعة الفرد للبقاء والأمن. والإٍسلام يسعىٰ لتحقيق ذلك من خلال تدعيم روابط الأسرة لكي يهيئ للفرد مناخاً دافئاً حنوناً يضمن له البقاء والنماء ويمده بالنماذج القدوة التي ينمّي شخصيته إقتداءاً بها, بدلاً من أن يلجأ إلىٰ تذرير الأفراد, كل يدور حول ذاته ينظر إلىٰ الدولة بإعتبارها بديلاً عن الأب أو الأم أو المعلم. إن الإنسان لديه حاجة دائمة إلىٰ اشباع إحساسه بالانتماء. والأسرة هي التي تهيئ له الدائرة الداخلية بينما تمده الأمة ـــ أي المجتمع الإٍسلامي ـــ بالدائرة الخارجية الأكبر. وفيما بين الدائرتين يجد العديد من الحصون الواقية الأخرىٰ. وفوق الجميع تأتي علاقته مع الله الخالق الصمد الهادي تهيئ له أسس الثقة. إن أي إمرئ نجح في أن يقيم هذه العلاقات وأن يحافظ علىٰ دينامياتها, قد حقق النجاح بغض النظر عن إرتفاع رصيده في البنوك أو تضخم ممتلكاته.

ويبقىٰ نمط آخر من الإٍشباع يسعىٰ الإٍنسان دائماً إلىٰ تحقيقه وذلك هو حاجته للإٍنجاز وللتميز واعتراف الآخرين له بالجدارة. والقرآن يعترف بوجود كل هذه الدوافع ويهيئ السبيل لاشباعها. فهو يؤكد علىٰ أهمية الحياة والأمن علىٰ مستويات عديدة. فنجد التنسيق المتوازن الدقيق بين العناصر المكونة للكون يأتي علىٰ طرف محور متصل, يقع علىٰ طرفه الآخر نظام إجتماعي متعاون يقدم الرعاية الواجبة. إن عالماً تتبدىٰ فيه عدم المبالاة والضخامة الفظيعة, لَحَرِيُّ بأن يكون الإٍحساس بالانتماء فيه نعمة لا تجزى, حيث لا يستطيع أي شئ سواها في هذا العالم أن ينشئ في النفوس الثقة ويعطي للحياة معنىٰ.

وآخر هذه الحاجات وإن كانت ليست بأقل منها أهمية هي طموح المرء لأن يكون في أعين الناس مميزاً مكرّماً. والإٍسلام يهدينا إلىٰ سبيل بنّاء ومُبدع لإٍشباع كل هذه الدوافع الأساسية ويحدد لنا الله سبحانه أساليب تحقيق تلك الطموحات دون معصية }إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْد الله أَتْقَاكُمْ{(القرآن 49 : 13) والقرآن يحث الناس علىٰ بذل الجهد ابتغاء فضل الله واكتساب الرزق (القرآن 62 : 10) ويرىٰ في إغداق الفضل نعمة من عند الله ووسيلة تستتبع نِعماً أكثر وأكثر 0القرآن 5 : 65 ـــ 66) وهو يدعو الأمة إلىٰ القوة والمنعة (القرآن 8 : 60) وأن نمدّ يد العون للمستضعفين «(القرآن 4 : 75) ويعد العلماء منزلة ودرجة عالية (القرآن 2 : 247, 39 : 9) ولكن كل زيادة في وُسع الإٍنسان تستتبعها زيادة في التزاماته. فالتقوىٰ تشمل أساساً أن يتعرف الإٍنسان علىٰ التزاماته ويؤديها بورع تام.

إن كل فرد مهما كانت مكانته في هذه الحياة لديه فرصة النجاة والإٍشباع. ولهذا فإن التزام الفرد بالسعي لتحقيق النجاة لذاته يعتبر التزاماً فردياً بغض النظر عما يأتيه من عون خارجي (القرآن 5 : 105) وأولىٰ مجالات السعي لتحقيق الفوز في الدار الآخرة يجدها الفرد في «المجتمع الإٍنساني». ومن ثم فإن الأفراد الذين يشكلون في مجموعهم الأمة التي تمثل المجتمع المسلم من واجبهم أن يتعاونوا في إيجاد الأمن وتهيئة الفرصة لكل واحد منهم أن يحقق لنفسه التربية السليمة, وأن يبنغي لنفسه معيشة مناسبة. وفوق كل شئ أن يحقق الفوز في الحياة الآخرة حيث لا ولاية إلا لله سبحانه, له المبلك وله الحكم ..

والقرآن يقر الوحدة في الحياة ويؤكد علىٰ تداخل الارتباط بين أبعادها السياسية والاقتصادية والأخلاقية والروحية, ويمدنا بإطار سياسي واقتصادي واجتماعي عالمي يجب علينا أن نستوعبه في ضوء التكامل الكلي لحاجات الإٍنسان الروحية والإٍجتماعية والبدنية وكذلك طموحاته. ويسعىٰ لتحقيق الأمن من خلال :

أ ـــ الأسرة.

ب ـــ رابطة الدم.

جـ ـــ علاقة الجيزة المتينة.

د ـــ الهيئات العامة بما لها من قوة تساعد الضعيف بكل ضروب العون عندما تتهدد حقوقه أو تنتهك, أو عندما يُضيّق عليه في نزاع أو في سعيه من أجل الرقي.

هـ ـــ تحريم الإٍسراف والتبذير.

و ـــ ضمان إشباع الحاجات الأساسية التي تجبر الفرد علىٰ الإٍذعان لظلم غيره.

ز ـــ تحقيق الأمن عن طريق الزكاة.

ح ـــ ضمان أداء الدين عن المحتاجين.

والولاة عليهم أن يكونوا في عون الفرد لا أن يسعوا في التخلص منه أو القيام بعمله. فكل نفس بما كسبت رهينة ولا تكلف إلا وسعها.

إن القيم الرئيسية للأمة كما يراها القرآن هي :

1 ـــ العدالة.

2 ـــ الإٍحسان.

3 ـــ الحرية.

4 ـــ الأخوة.

5 ـــ المساواة.

ومهما كانت البرامج التي تعدها الأجهزة الحاكمة فإن أول محك تقاس به هو : هل تتضمن هذه البرامج الحدود الدستورية التي أوردها القرآن؟ وهل يُسهم تنفيذ هذه البرامج في مساندة القيم السابقة وتحقيقها؛ سواء كانت طبيعة هذه البرامج تشريعية أو تنفيذية أو قضائية؟

ويرشدنا القرآن إلىٰ أن أمور الأمة يجب أن يُقررها مبدأ الشورىٰ ويشير هذا المبدأ إلىٰ ما يلي :

1 ـــ التشاور المتبادل حتىٰ نصل إلىٰ إجماع الآراء.

2 ـــ إعطاء الاعتبار المناسب لكل الآراء التي ترد ممّن يهمهم الأمر. وبالطبع فإن هذا الاعتبار ترتفع درجته كلما جاء الرأي ممن هم أكثر ورعاً وأوفر علماً.

3 ـــ المشاركة في الأمور العامة واجب علىٰ كل مسلم أهل لذلك.

4 ـــ والوجه الآخر من هذا الالتزام يأتي من الجهات الحاكمة في أن تهئ فرصة المشاركة للناس.

أما المجك الثاني الذي يجب علىٰ الجهات الحاكمة الاسترشادية, فهو مدىٰ إسهام هذه البرامج في التأكيدعلىٰ مبدأ الشورىٰ وتشجيعه.

إن كل مسلم ـــ تأسيساً علىٰ عهده مع الله ـــ عليه فرض تأدية التزاماته بغض النظر عما يقوم به الآخرون. وكل فرد في الأمة عليه التزام بتغيير المنكر بيديه إن استطاع وإن لم يستطع يحتج عليه بلسانه ولا يقبل بما تنكره معايير الشريعة تحت أي ظرف والقرآن يقر له حق الإٍعتراض علىٰ ما تقع فيه السياسة العامة من ظلم أو زيغ, كما يُقرُّ له حق التقاضي العادل المستقل.

والمحك الثالث الذي يقاس عليه تخطيط السياسات من قبل الجهات الحاكمة يكمن في هذا التساؤل : هل نحن نيسر السبيل أمام الأمة لكي تقوم بإلتزاماتها السابقة؟

فإذا كانت الإٍجابة بالإٍيجاب علىٰ تلك التساؤلات السابقة التي تتعلق بوضع السياسات العامة وتنفيذها فإن تلك العملية لن تشهد أي مشكلات خطيرة فيما يختص بتحديد مجال تدخل السلطات الرسمية ومدىٰ هذا التدخل. وبهذا ـــ دون غيره ـــ سيكون لدينا أمل في تخفيف خدة تحكم البيروقراطية.

ومن خلال هذا المدخل الذي عرضناه يمكننا تطبيق سيادة القانون بلا زيف أو تدليس, حيث :

1 ـــ أن المكانة الإٍجتماعية ومنزلة القيادة في المجتمع لن تكون صنواناً للثروة وإنما ستكون من حق أولئك الذين لهم :

أ ـــ التقوىٰ (القرآن 49 : 13).

ب ـــ بسطة في العلم وقدرة علىٰ العمل (القرآن : 2 : 247).

ج ـــ سابقة العمل الطيب في مجال الخدمة العامة من قبل أن يؤتي المسئولية العامة (القرآن 57 : 10).

2 ـــ يتم تنظيم إكتساب الثروة والاحتفاظ بها وكذلك توزيعها بطريقة محسوبة بحيث لا تثير الحسد أو الغيرة وإنما تحقق الأمن وتشيع الرضا والجمال.

3 ـــ إن الحرية في الإٍسلام ترتبط في جوهرها بفكرة المسئولية, والحقيقة أن الواجبات مطلقة وتأتي قبل الحقوق (القرآن 5 / 105). وحق المساواة محجّد بطريقة لا تتجاهل الفروق الشرعية أو تنكر علىٰ المرء ما يحققه من تميز, فهي تؤكد أساساً علىٰ تكافؤ الفرص ولكنها تخفف من صرامة التطبيق القاسي لهذا المبدأ عن طريق إشرابه بالشفقة والرحمة والحب من خلال قنوات أخرىٰ.

4 ـــ من الممكن في ظل الحدود الدستورية المفروضة على إستخدام السلطة واستغلال الثروة أن نتجنب ما يشوب لعصر الحديث من تشويش بالنسبة لسيادة القانون كما أن الإٍجراءات التشريعية في كافة جوانبها ستكون دوماً خاضعة للرقابة القضائية وسيتم إحتواء البيروقراطية داخل إطار صارم, ولن يكون أي انسان بمنأىٰ عن المساءلة أو المسئولية عما لديه من قدرات تحت مظلة الشريعة الملزمة.

ونطرح الموضوع التالي علىٰ مائدة البحث, وهو الحقوق الإٍنسانية :

فالحقوق الإٍنسانية ـــ خاصة تلك التي تحميها المحاكم العليا ـــ تعتبر بحق مظهراً من المظاهر التي يُحسد عليها الفكر السياسي الغربي. ومع ذلك فإن هناك ضروباً من التشويه والإٍحباط إكتنفت هذا المجال أيضاً. ورغم أن كافة الدساتير في العالمين الغربي والإٍشتراكي تحوي فصلاً عن الحقوق الإٍنسانية فإنّا سوف لا نناقش تلك الأنظمة التي لا يتم فيها تطبيق القواعد الخاصة بالحقوق الإٍنسانية من خلال وكالات دستورية, ففي هذه البلاد التي يمارس فيها الحكم طبقاً لهذه الأنظمة لا تخرج هذه الأمور عن كونها آمالاً ورعة يقتصر هدفها علىٰ تجميل دساتيرها, ولكن الجانب المأسوي في الوضع المعاصر يتمثل في أنه حتىٰ في تلك البلاد التي يتم فيها تطبيق القواعد الخاصة بالحقوق الإٍنسانية من خلال محاكم عليا فإن الأمر ليس فيه سوىٰ مسحة من الحقيقة, ففي كل البلاد تقريباً نجد أنه إذا ما تعارضت هذه القواعد مع (الصالح العام) كما تراه الحكومة وهي تسعىٰ لتحقيق إصلاح معين فإنها ـــ أي قواعد الحقوق الإٍنسانية ـــ تصير دروعاً من ورق سواء كانت هذه البلاد في العالم الأول كالولايات المتحدة أو في العالم الثالث كالهند. والفرق بينهما فقط فرق في الكيف ففي الأولىٰ يكون الأمر أفضل بقليل مما هو في الثانية. ومرجع ذلك إلىٰ أن تاريخها في لاستقلال والحرية أطول, وفي أغلب البلاد بدأ يسري ـــ حتىٰ في المحاكم ـــ إفتراض بأنه مهما كان النص التشريعي الذي يحد هذا الحق فإن كافة الحقوق تخضع في الواقع لفكرة صالح الأغلبية.

إننا إذا ما إستعرضنا مجال الحقوق الأساسية, فإننا سنجدها تتضمن حقوقاً أولية وأخرىٰ ثانوية بمعنىٰ اعتماد الثانية علىٰ تواجد الأولىٰ. وأول الحقوق الأولية هو حق الإٍعتراض وحق تحقيق العدالة, وثانيها حق الحرية بما في ذلك حرية الفكر وحرية الإٍعتقاد وحرية التعبير, وثالثها حق الملكية. وبدون إحقاق العدالة فإن كل حديث عن الحقوق الإٍنسانية يصبخ هراءً. وتحقيق العدالة يعتمد غالباً علىٰ المدىٰ الذي تصل إليه في رعاية حق الإٍعتراض المكفول لكل فرد. وتكتسب الحقوق الإٍنسانية معناها من خلال تحقيق الراحة والإٍنصاف من خلال ما تحدده من بنود, والسبيل إلىٰ تحقيق ذلك هو التزام المجتمع بالمحافظة علىٰ الحقوق الأولية ـــ كحد أدنىٰ ـــ في كافة الأحوال والأزمان. ويقول رولز Rawls:

«إن لكل إنسان حرم خاص لا يُنتهك, قائم علىٰ العدالة, ولا يستطيع المجتمع بأكملة أن يتجاهله ولو كان هذا التجاهل بحجة صالح المجتمع. بناء عليه فإن العدالة تستنكر أن يكون حرمان بعض الأفراد من الحرية هو حق يمليه وجود الخير الأكبر الذي يشارك فية الآخرون, ولا تسمح بأن يًحجب اعتبار الكم الأكبر من المميزات التي يحصل عليها الكثيرون ـــ التضحيات التي تُفرض علىٰ البعض. ومن ثم إن الحريات القائمة علىٰ المساواة بين المواطنين تعتبر من المسلّمات في أي مجتمع عادل, وأن الحقوق التي تضمنها العدالة ليست مجالاً للمساومات السياسية أو لحسابات الصالح الاجتماعي» (ص3 ـــ 4).

ولن نكون بذلك قد أنهينا القضية بالنسبة للمجتمع العلماني, لأن جوهر المشكلة في المجتمعات في الغرب تكمن في تعريف النظرية القانونية لمفهوم العدالة ذاتها. ولذا فإن هناك مشكلتين يصوغهما السؤالان التاليان : ما هي العدالة ؟ ومن له حق تعريفها علىٰ أي أساس يقوم بهذا التعريف؟ ونورد هنا ما قالة مايكل ج ـــ ساندل عند إشارته لصعوبة الإٍجابة علىٰ هذين السؤالين :

«هناك إحتمالان يفرضان نفسيهما في هذا الأمر وكلاهما غير مقنع بنفس القدر : فإذا كنا سنلجأ إلىٰ إستنباط مبادئ العدالة من القيم المتواجدة في المجتمع ومفاهيم الخير السائدة فيه فليس هناك من ضمان يؤكد لنا أن المستويات المعيارية التي تقدمها لنا هذه المبائ ستكون علىٰ قدر من الصدق تمتاز به عن المفاهيم التي يفترض أنها سوف تقوم بتنظيمها, وحيث أن العدالة ستكون نتاج هذه القيم فإنها ستكون عرضة لما يطرأ علىٰ هذه القيم من تغيرات عارضة. أما الإٍحتمال الثاني هو أن يكون هناك معيار خارجي بصورة أو بأخرىٰ, ولا ينبع من هذه القيم ولا تلك الاهتمامات السائدة في المجتمع, ولكننا إذا ما إستبعدنا خبرتنا الحياتية كلية بإعتبارها ليست أهلاً لأن تكون مصدراً نشتق منه هذه المبادئ, فإن ذلك الإٍحتمال سوف يؤدي بنا إلىٰ الاعتماد علىٰ افتراضات مسبقة لن تكون مصداقيتها أقل من سابقتها إحتمالاً للشك مع إختلاف الأسباب. فالأولىٰ ستكون أمراً قسرياً لقيامها علىٰ عامل الصدفة, والثانية ستكون أيضاً قسرية لقيامها علىٰ غير أساس. إن العدالة عندما تُشتق من القيم المتواجدة فإن معايير التقويم ستتداخل مع موضوعاته, ولن يكون بإمكاننا تأكيداً فصل إحداها عن الأخرىٰ». ]التحررية وحدود العدالة ـــ Michael. J. Sandel : Libralism and the Limits of Justice. Cambrifge 1983 – P. 17.)

حتىٰ إذا ما سلمنا بالعرض الذي تقدم به (رولز) فإن المشكلة التي عرضها (ساندل) لن تجد لها حلاً. فليس هناك من معيار موضوعي نستطيع أن تحدد من خلاله العدالة يكون خارج نطاق الإٍدراك الإٍنساني والتفهم البشري.

والأمة المسلمة لا تتعرض لهذه المشكلة كما تظهر في المجتمعات العلمانية حيث أن القيم الأساسية عندها محددّه, وكذلك الحدود التي تمارس عندها السلطة والأغراض التي تستوجب ممارستها, وكذلك الأحوال التي تكون فيها الطاعة واجبة وتلك التي لا تجب فيها الطاعة. ولا يزال المسلمون ـــ أفراداً وجماعة ـــ ملزمين بمحاربة الظلم فيما بينهم وفيما حولهم, وعليهم أن يقاتلوا في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان (القرآن 4 : 75). والغرض الرئيسي الواجب علىٰ الدولة هو الوقوف بجانب العدالة. ولهذا السبب كان قول أبي بكر رضي الله عنه في خطبته الأولىٰ يوم توليه الخلافة :

«الضعيف منكم قوي عندي حتىٰ أريح عليه حقه, والقوي منكم ضعيف عندي حتىٰ آخذ الحق منه».

وكافة الهيئات الرسمية في الدولة الإٍسلامية ليس لها إطلاقاً أن تحل محل الفرد وإنما تقوم بتيسير الأمر له بأن تكون ظهيراً للمساواة حيث تغيب, ومهّيئة للفرصة عندما لا تتاح, وفوق كل شئ أن تقيم الكيان الذي يضمن للعدالة تماسكها ومكانتها, والفعالية لمبادئها.

وننتقل بعد ذلك إلىٰ مواجهة المأزق الثاني الذي تواجهه العلمانية في موضوع تعريف العدالة. ما هو الكيان القضائي الذي يهدف إلىٰ تمكين الفرد من الحصول علىٰ حقه؟ أو ذلك الذي يدفع عن الفرد ما قد يحدث له؟ إن المشكلة التي تواجه الفكر العلماني دائماً هي التغير المستمر والدائم في إدراك «الصالح العام» سواءً عند من يقومون بتحديد مفهومه أو من يستهدفهم تحديد هذا المفهوم. إننا إذا ما إعتبرنا هذا «الصالح العام» أمراً مختلفاً عن فكرة الصالح الشخصي لكل فرد كما يراه كل فرد, فكيف سنتوصل إلىٰ حل للتصارع بين الفئتين؟ وإذا ما رأينا أن الفرد علىٰ تلك الدرجة العالية من النبل التي تقنعنا بها فكرة الحقوق الأساسية فلماذا لا نترك له ـــ إذن ـــ تحديد ما هو صالح بالنسبة له؟ ولكننا إذا سلمنا بهذا الحق لكل فرد فإننت سنخلق حالة من الفوضىٰ حيث يستتبع ذلك أن يرىٰ كل فرد صالحة في إشباع رغباته والتي ستكوم دوماً في صراع مع رغبات غيره. ومن ناحية أخرىٰ فإننا إذا ما سلمنا أخيراً للأغلبية بهذا الحق فإن تمسك الأغلبية به في حالة وجود صراع معها سيكون مثيراً للمشكلات.

ومن الواضح أن كل حكومة تسعىٰ لأن تحتفظ لنفسها بحق تحديد ماهية «الصالح العام» وأن تكون لها قوة الفصل فيه سواء كان ذلك بيد حاكم أو مجلس للأقلية أو مجلس للأغلبية. وفي كل الأحوال فإن الصراع ينشأ في موقف يكون فيه شخص ذو نفوذ ظاو سلطان أو تكون الأغلبية أو الأقلية في مواجهة الغير. وبالتحديد فإن المختلف هو الذي سيكون في موضع خطأ. ولذا يستتبع ذلك بالتحديد هو المنطق الذي تقيم عليه البلاد الإٍشتراكية إنكارها للمحاكم أن يكون لها أية سلطة قضائية لتحديد هذه الحقوق.

والذي يقف حائلاً دون وصول الأمر في أي وضع ديمقراطي إلىٰ هذا الحد هو ما يحدث من الوصول إلىٰ اجماع عام قبل بلوغ حد الصراع, فإذا ما افتقدنا هذا الاجماع فلن يكن هناك بد من الجوء إلىٰ استخدام القوة في البلاد.

وفي ظل الإٍسلام نجد أن القيم الرئيسة مبينة, وكذلك سلطة أي إمرئ علىٰ غيره محدودة. فلا وصاية لأحد علىٰ غيره (إذا ما نحينا الحالات الخاصة مثل المرضىٰ والأطفال وغير الأكفاء شرعاً). وحتىٰ أولئك الأفراد المهديين أنبياء الله ورسله الذين وصفهم سبحانه بأنهم «أوتوا الكتاب والحكم والنبوة» فليس لهم حق إتخاذ الأفراد عبيداً لهم. يقول سبحانه :

}مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ الله الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمْ يَقُولَ للِنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ الله وَلِكِنْ كُونُوا رَبَّانِيَّينَ بِمَا كٌنْتمِ تعَلَّمُونَ الكِتَابَ وَبمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلَا يَأُمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذوا المَلَائِكَةَ وَ النَّبيَّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون{(القرآن 3 : 79).

وتوضح الآية السابقة أنه ليس لبشر حق استبعاد غيره وأنه إن فعل ذلك فإنه كما تقول الآية يقوم بعمل يؤدي بالناس إلىٰ الكفر. حتىٰ وإن كان نبياً فليس له أن يجعل من قومه عباداً له رغم أنه يتلقىٰ الهداية الإٍلهية وحياً من الله, لأن جوهر العلاقة بين العبد وسيده هي أن العبد لا يملك لأمر سيده رداً فيما يختص بنفسه وماله وعرضه. وأي شخص يدعي بأن كلمته هي القانون دون أن يكون لأي فرد أن يسائله أو لأي سلطة قضائية أن تحكم علىٰ صدق أمره, فإنما يطلب طاعة لا يقرها الله سبحانه, بل إننا علىٰ العكس من ذلك نجد الله سبحانه يقول :

}.. أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرَ مِنْكُمْ فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلىٰ الله وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤمِنونَ باِلله وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تأْوِيلاً{(القرآن 4 : 59).

وهذه الآية تشير بوضوح إلىٰ أنه من الممكن أن ينشأ تنازع بين أفراد المجتمع بعضهم البعض وبين الولاة والمواطنين وأن ذلك أمر وارد ويمكن أن نجد له حلاً علىٰ أساس المعايير التي حددها الله ورسوله, فتقول الآيات التي تسبق الآية التي أشرنا إليها :

}إنَّ الله يَأْمُركُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلىٰ أَهْلِهاَ وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تحْكُمُوا بِالعَدْلِ إنَّ الله نِعِمّا يَعظُكُمْ بِهِ{(القرآن 4 : 58).

ومن الجدير بالذكر أن فرض الطاعة يجئ بعد أن أمر الله الولاة بإقامة العدل, ومن ثم فإن عدم إقامة العدل يستوجب عدم طلب الطاعة. وتجدر الاشارة في هذا المقام إلىٰ حادثة أوردها البيهقي والبخاري ومسلم. أن رسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بعث جيشاً وأمّر عليهم رجلاً وغضب منهم فأوقد ناراً, وقال «ادخلوها إنما أنا أميركم وعليكم الطاعة», فتلكأوا حتىٰ انطفأت وانطفأ معها غضبه, فذكر ذلك لرسول الله ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ, فقال موافقاً علىٰ ما قام به الجند «لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلىٰ يوم القيامة. لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف».

إن الجهاز الذي يحدد فعالية الحقوق الأساسية في الإٍسلام يكون دائماً مستقلاً يتلقىٰ التأييد العام الكامل في كل العصور, بل إن الحقوق الأساسية ذاتها هبة إلهية ولا يمكن تفريغها من محتواها استناداً إلىٰ مصلحة وقتية معينة سواء كانت هذه المصلحة تخص الأغلبية أو فرداً ذا سلطان أو الأقلية.

وخلاصة القول أن فكرة العدل والمساواة في الإٍسلام تعني في مستواها الأول :

أ ) كفالة حق الإٍعتراض علىٰ ظلم مدرك سواء كان الإٍعتراض موجهاً للحاكم أو للناس.

ب ) إقامة العدل علىٰ أساس الحدود التي حددها الشرع الإٍلهي.

جـ ) استقلالية الجهة التي تقيم العدل.

د ) تنفيذ العدل في ظروف المساواة وحيث لا يكون لطرف منزلة مميزة علىٰ طرف آخر.

وتأني الملكية الخاصة بإعتبارها أساسية جانب معين ـــ لحماية الحقوق الإٍنسانية كافة. فحرمان المرء من الملكية الخاصة يجعله محروماً من مصادر المقاومة ـــ حيث لا يطول أمد هذه المقاومة عندما تنضب موارد معيشته الخاصة ـــ ولذلك فإننا نجد أن مقاومة الظلم تضيع قوتها وتنهار فعاليتها في تلك المجتمعات التي يكون فيها حق الملكية الخاصة محدوداً. والقرآن يرشدنا إلىٰ مظاهر إكتساب الثروة الخاصة وكذلك الإٍحتفاظ بها وإنفاقها وهو ما تطرقنا إليه في حينه.

أما الفقرة التالية في حديثنا فسوف تتطرق إلىٰ المجالس النيابية المنتخبة. فلا ريب أنه حينما يكون الشعب متعلماً ويعيش في بحبوحة ورخاء تجتمع آراؤه علىٰ الأولويات الوطنية فإنه يمكن للمجالس النيابية أن تبرهن علىٰ كونها مؤسسات ناجحة تيسر الحوار وتقدم البدائل من الخطط الإٍجتماعية والإٍقتصادية الفعالة. ولكن إذا ما نشأ مشكلات رئيسية يصعب التوصل إلىٰ إجماع فيها, أو قضية يشيع فيها بين الأغلبية في البرلمان أحكام مسبقة, أو يكون للأغلبية تحيز تجاهها, فإن هذه الأغلبية تمارس من صنوف القهر مثلها مثل أعتىٰ الجبابرة أو أسوأ أقلية عرفها التاريخ.

وللإٍسلام إسهامه الخاص في هذا الجانب. فقد حدد إطار الأولويات الرئيسة التي يجب علىٰ الجهاز التشريعي أن يسعىٰ لتحقيقها, كما حدد الحدود التشريعية بطريقة ثابته لا تقبل الردة, وليس لأي جهاز تشريعي في أي مجتمع إسلامي أي سلطة مطلقة في وضع المعايير النهائية, أو تحديد الأحوال التي يتم التطبيق فيها. وعلاوة علىٰ هذا التحديد الداخلي للسلطة التشريعية يأتي حق الرقابة القضائية بإعتبارها مهيمنة علىٰ كل ما يضعه البشر من قوانين وما يرتبط بها من تطبيقات. وهذا الحق وتلك الحدود أمور لا رجعة فيها وفوق كل إلغاء أو تعطيل.

وبالإٍضافة إلىٰ الحماية التي تحققها الخاصيتان السابقتان ـــ السلطة التشريعية المحددّة والرقابة القضائية علىٰ التشريع ـــ تأتي الأهمية الخطيرة التي تحاط بها عملية الترشيح لعضوية المجالس التشريعية, تلك الأهمية التي يرتفع قدرها لتهيمن علىٰ سابقتيها. وقد أشرنا سلفاً إلىٰ القدر الأدنىٰ من الكفاءات الواجب توفرها في القيادة في الأمة وهي :

أ ) التقوىٰ.

ب ) بسطة في العلم وقدرة علىٰ العمل.

جـ ) سابقة العمل الطيب في مجال الخدمة العامة من قبل أن يؤتىٰ المنصب الرسمي. وتلك المؤهلات تعتبر ضرورية بالإٍضافة إلىٰ المؤهلات المعتادة الواجب توافرها فيمن يرشح نفسه للمناصب العامة.

إن أي جهاز تشريعي يجمع مثل هؤلاء الأفراد ذوي الأهلية دون غيرهم سيكون بإستطاعته أن يحمل علىٰ عاتقه القيام بعمل معقد مثل رسم السياسة في العالم المعاصر, ويؤديه بفاعلية, وكذلك بالهيمنة علىٰ البيروقراطية وترشيد أصحابها. وهو عمل لا يقل صعوبة عن سابقه. ويمكن القول أن الفشل الذي تتعرض له البرلمانات والمجالس النيابية المعاصرة في مجالات التشريع يرجع إلىٰ عدم توفر المعلومات أو الخبرة التي تتوافر لدىٰ الجهاز التنفيذي في الحكومة, وتحقق له الغلبة. فنجد أعضاء الجهاز التشريعي يعتمدون في كل مجال من مجالات عملهم علىٰ المذكرات التفسيرية التي تقدمها الحكومة (بما يستثنىٰ من ذلك الكونجرس الأمريكي حيث أن له أمانة سر خاصة به). وبالطبع فإن مجال الرؤية بالنسبة لهم سيكون مقصوراً علىٰ ما يرىٰ البيروقراطيون إظهاره وكذلك تكون فرص الإٍختيار عندهم محدودة بل وأقل.

أما بالنسبة للهيمنة علىٰ الأداء البيروقراطي فإن هناك عوامل عديدة تؤثر علىٰ فعالية أعضاء الجهاز التشريعي وتجعلها عقيمة. أولها ما تلجأ إليه حكومات اليوم من توسيع قبضتها وسيطرتها التنظيمية وتنويع مجالات تدخلها تدفع أعضاء الجهاز التشريعي إلىٰ أن يوا مِن خلال نظرتهم الشخصية ـــ أن التعاون معها أفضل من نقدها. وثانيها أن الجهاز البيروقراطي يحمل بين ثناياه دفوعاً ضد أي محاولة لتعريضه للمسئولية, وكذلك فإن عمليات تحديد المسئولية مُصمَّمة بحيث تكون معقدة بدرجة تجعل من العسير علىٰ إنسان أن يتحمل مثل هذا العمل إلا إذا كان هذا قدرات متميزة هائلة.

إن الحاجة الملحة العاجلة في الشرق والغرب علىٰ السواء تتمثل في ضرورة انضمام أشخاص ذوي قدرات متميزة إلىٰ الأجهزة التشريعية القومية, تناظر قدرات الأجهزة التنفيذية وتتفوق عليها. والإٍسلام قد جعل هذا الأمر فرضاً واجباً وأمراً واقعاً.

وقد تشكل النظام الحزبي قلب التراث الديمقراطي البريطاني في القرن التاسع عشر. ذلك التراث الذي كان محط إعجاب الكثيرين. ولقد استمرت مصداقية هذا الحكم حتىٰ بداية الحرب العالمية الثانية. كانت هناك أيضاً بلدان أخرىٰ في الغرب تسيّر أمورها علىٰ خير ما يرام في ظل نظام الأحزاب خلال الفترة ذاتها. ولكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ البندول يتحرك في الاتجاخ المعاكس. ومع مقدمة الربع الأخير من القرن العشرين ظهرت مجموعة كبيرة من الآراء المتنوعة تبدي أسفها ـــ بشكل يثير الحيرة ـــ علىٰ انهيار نظام الأحزاب, أو قرب زواله. وذهب البعض إلىٰ حد إلقاء اللوم عليه بإعتباره مسئولاً عن أغلب الصعوبات التي واجهتها الأنظمة الديمقراطية في ممارساتها.

وظهرت دعاوىٰ تقول بأن :

أ ـــ الوظيفة الرئيسية لنظام الأحزاب هي إبراز زعامة سياسية ذات كفاءة وتكامل تحقيق ما فشلت فيه الزعامة في الزمن المعاصر فشلاً ذريعاً, ولكن الزعماء الذين يبرزون غالباً ما يتجاهلون هذا الأمر.

ب ـــ النظام الحزبي عليه أن يقدّم بدائل عملية للسياسات المتواجدة التي تتبعها الحكومات المعاصرة, ولكن التجربة المعاصرة تشير إلىٰ أن غالبية الأحزاب وخاصة تلك التي لا تشغل مقاعد الحكم ـــ لم تبد سوىٰ أدنىٰ إهتمام بهذا الأمر, فإما أنها لا تملك مُستودعات للأفكار, وإما أن الأفكار موجودة ولكنها أفكار هزيلة غير فعالة.

ج ـــ من المتوقع أن يكون النظام الحزبي رقيباً داخلياً علىٰ الزعامة سواء منها من في السلطة أو خارجها, وإن كان بصفة أكبر, أثناء تواجدها في السلطة. وقد فشل النظام في ذلك الأمر كذلك. فإن أغلب الأحزاب السياسية اليوم تضم واحداً أو أكثر من الشخصيات التي يرىٰ بأن لديها قدرات خارقة وتعتمد علىٰ افتتان الجماهير بها وتجمع حولها أتباعاً لا أخلاق لهم ولا مبدأ, ينتظرون في نهم الفُتات المتمثل في مزايا مالية أو سياسية.

د ـــ المقولة التقليدية بأن الأحزاب السياسية هي مطاياالقيادة الأصيلة, وحاملة القوة, وأنها المؤسسات المعتمدة التي تأتي السلطة التقليدية من خلالها, وأنها السبيل إلىٰ حل الخلافات سليماً عن طريق انتزاع إجماع في الآراء, وهي الوسيلة لمقاومة كل أصناف الاستبداد ـــ تلك المقولة لم يبق لها إلا القدر الضئيل من السند الواقعي. فغالبيتها لا تخرج عن كونها أشكالاً هلامية من جزيئات تجمعها مصلحة واحدة يبذلون الغالي والرخيص في سبيل الحصول علىٰ نصيب أكبر من فطيرة المكاسب القومية ومن ثم فإن أفضل المرشحين في ظل هذا التحالف هم أواسط الناس ممن ليس لهم رأي ولا كرامة وكل فئة تأمل في النهاية أن يكون لها الأثر الأكبر عليهم. ومن ناحية أخرىٰ نجد تلك الفئات تقيم داخلها نمطاً من الوصاية الصارمة علىٰ كوادر الحزب تشبه ما يحدث في عصابات المافيا, واستتبع هذا النمط من العلاقة :

أ ـــ إطاعة أوامر الحزب صواباً كانت أم خطأ.

ب ـــ فرض وجهة نظر الحزب مهما كانت الأهداف المرتبطة بها.

ج ـــ وإن كان العمل الحزبي في البلاد التي تتعدد فيها الأحزاب مخبياً للآمال بصورة أكبر, فقد أقالت حكومات وأقامت حكومات دون أن يكون هناك تقريباً رغبة أصيلة لتحقيق الصالح الوطني, علىٰ الرغم من الشعارات التي تشير إلىٰ عكس ذلك, (وتعتبر فرنسا فيما قبل عصر ديجول مثالاً نموذجياً علىٰ ذلك).

د ـــ وكذلك كانت مسيرة النظام الحزبي في العالم الثالث مثيرة للإٍشمئزاز بدرجة أكبر فقد كان وجود الأحزاب علىٰ عمومها مثاراً للشقاق, ولم تفعل سوىٰ أنها خلطت بين القضايا, متبعة في ذلك سياسة الرفض والصدود الطائش وتجاهل الصدق الموضوعي. ولو أننا قسنا أداءها بميزان الأخلاق لم يكن ليرجح عن أداء أي مجموعة أو عُصبة عادية.

هـ ـــ وفي العالم الإٍشتراكي قامت الأحزاب بدور أكثر فظاعة, فقد قبلت عن طيب خاطر أن تقوم بدور مساعد للحكام الظالمين الجبابرة, أو للمجالس السياسية التي تستولىٰ علىٰ الحكم, وتمدهم بأقنعة مهترئة يستترون خلفها وتبدي رضاها عما تقوم به من تقديم كل التيسيرات لسلسلة الممارسات القهرية الرهيبة التي يقوم بها الطغاة في تلك البلاد.

إن الوحدة الأساسية في النظرية السياسية الإٍسلامية هي الأمة مجتمعة علىٰ ميثاق الله سبحانه. ويعتمد أي ولاء داخلها علىٰ مدىٰ قربه أو بعده عن الولاء الأساسي. وكل جماعة سواء كبرت حتىٰ وصلت إلىٰ أقصاها مثل الأمة مجتمعة, أو صغرت حتىٰ وصلت إلىٰ أقصاها مثل الأمة مجتمعة, أو صغرت حتىٰ وصلت إلىٰ أدناها وأكثرها تماسكاً, مثل الأسرة ـــ فإنها تكتسب فعاليتها وأهميتها من خلال ما أوضحه الهَدْى الإٍلهي. وكل هذه الجماعات تقوم بدور فعال في إطار الشريعة. وحين يقر الإٍسلام تكوين الجماعة من خلال الإٍطار الذي تحدده تعاليمه فإنه يختلف في ذلك إختلافاً كلياً عما نلاحظه في الممارسات السياسية المعاصرة.

فالإٍسلام يرى :

1 ـــ أن المبادئ الأساسية لهداية الأمة قد تم بيانها.

2 ـــ أن كل مسلم ملزم ـــ بصفته الفردية أو الجماعية ـــ بتطبيق هذه المبادئ والعيش بمقتضاها وفوق كل شئ أن يعتمدها كمعايير للحكم علىٰ سعيه وعلىٰ ما تفعله الأمة.

3 ـــ أن الأمة يمكنها تشكيل جماعات تقوم من خلالها بأداء واجباتها الجماعية والوفاء بالتزاماتها الجمعية.

4 ـــ أنه طالما أن كل مسلم عليه التزامات تناسب قدراته الخاصة فإن هذه الجماعات التي يتم تشكيلها لخدمة الأمة ستكون متنوعة في أشكالها وتركيباها طبقاً لطبيعة المهمة الموكلة بها. ومن الواضح أن كل مسلم يصير فرداً في هذه الجماعات سوف يعتبر الرسالة المحددة للجماعة مهمة إلىٰ درجة كبيرة بالنسبة لما يقدمه من جهد خاص, ولكنها دائماً تابعة للأهداف الكبرىٰ دائماً تابعة للأهداف الكبرىٰ للأمة وخاضعة لحكم الشريعة.

5 ـــ ويحدد القرآن مبادئ معينة للإٍسترشاد بها في تنظيم كافة هذه الجماعات داخل الأمة :

أ ) تشكيل الجماعة ونشاطها يجب أن يكون خالصاً لخدمة الإٍسلام.

ب ) ليس لعضو في أي جماعة أن يعتبر أولئك الذين لم يلحقوا بها أو يشاركوا في عملها ي عداد المنافقين, أو أن يكفرهم, طالما أنهم يقبلون بإلزامية حكم الشريعة.

ج ) من الجائز شرعاً أن يفهم كل المؤمنين أنه بالنسبة للأولويات التي يجب وضعها في الاعتبار في أي موقف, هناك احتمال لحدوث إختلافات بين جماعتين أو أكثر من الجماعات المسلمة التي تحددها النية الحسنة. وإذا لم نستطع حل هذه الإٍختلافات فلا يجوز أن نسمح لها بتفتيت وحدة الأمة, لأن هذه الوحدة قيمة أساسية. ولا يسمح بتكوين الأحزاب إلا في حدود هذا الإٍطار.

6 ــ أما بالنسبة لنمط العمل داخل الأحزاب السياسية, فيجب الإٍلتزام بالمبادئ التي تحدد القيادة داخل الأمة, وكذلك مبدأيْ الشورىٰ والمسئولية بالنسبة لمن يتولىٰ الأمانة, وترتيب السلطات من حيث الأولوية والأهمية.

وقد يبدو من المهم أن نشير إلىٰ أن هناك قدر لا بأس به من المتفقهين في التراث القانوني الإٍسلامي الذين يرون من خلال تفسيرهم للآيات القرآنية أن هناك تحريم قاطع لقيام الأحزاب في الإٍسلام وسيجد القارئ رداً علىٰ هذا الاتجاه في دراسة أخرى منفصلة(3).

ونأتي إلىٰ آخر المؤسسات الهامة في النظرية الديمقراطية الغربية وهي (المحاكم العليا). وفي النظام الفرنسي يقوم مجلس الدولة بوظائف كثيرة من التي تقوم بها المحاكم العليا في النظام الغربي, وسوف نتناول كليهما بالمناقشة.

لقد ظهرت المحاكم العليا باعتبار أن لها حق الوصاية المطلقة علىٰ الدستور بعد نضال طويل رائع. ففي التراث البريطاني يعتبر البرلمان هو الوصي الرئيسي علىٰ الدستور وقد قبلت المحاكم العليا أن تكون في مركز يسمح لها بالعمل داخل إطار يمكن للبرلمان أن يفرض عليه حدوداً دستورية. ورغم أنه في منشأ الأمر قد أكد (كوك) Cokeسلطة المحاكم العليا لإٍبطال أي قانون يتعارض مع الشرع الإٍلهي, وتأكد هذا المبدأ مرة أخرىٰ في حادثة عارضة, واستمر الأمر كذلك حتىٰ القرن التاسع عشر. ولكن الوضع الذي نشأ في القرن العشرين قد شهد إنطلاقة الصعود بالنسبة للبرلمان, فما كان البرلمان يقره بإعتباره قانونياً تراه المحاكم كذلك مهما كانت تعاليم الإٍنجيل حوله.

وفي التراث الأمريكي نجد أن الحقوق الأساسية تتمثل في تحديد القدرات التشريعية للكونجرس, وعلىٰ أساس هذا التحديد يمكن للمحاكم أن تتفحص دقائق أي قانون. ورغم الهجوم الشديد الذي يتعرض له مبدأ الوصاية القضائية علىٰ الدستور في حد ذاته. إلا أن الوضع كما هو عليه يشير إلىٰ أن المحاكم العليا تصدر أحكامها بناءً علىٰ إفتراض نفسها وصية علىٰ الدستور ولها حق التأويل الأخير لما به ـــ وفي هذه الحالة كذلك يحتاج الأمر إلىٰ كل ما تتمتع به المحكمة من حكمة لكي تتجنب حدوث مواقف يجد فيها الكونجرس نفسه مدفوعاً لإٍستبعاد سلطة المحكمة القضائية المهيمنة لكي يقر القوانين. وبالطبع فإن الأمر لا يحتاج سوىٰ تعديل في الدستور, ولكن ذلك لم يحدث حتىٰ الآن لأن الرأي العام لم يصل في تكوينه إلىٰ هذا الحد. ولكننا نجد أن هناك عشرات من البلدان التي بنت دساتيرها علىٰ نهج النمط الأمريكي, ومع ذلك فقد قامت إرادة الأغلبية فيها بتعديل حدود السلطة القضائية للمحاكم العليا سواء بالتضييق أو بالتوسعة.

وفي التراث الفرنسي يُعتبر مجلس الدولة مؤسسة حديثة الإٍنشاء ولكنها محكمة قوية, تقيم العدل في المنازعات بين المواطنين العاديين وبين الدولة ـــ وهذه المؤسسة تقترب إلىٰ حد كبير من المؤسسة الإٍسلامية التي يطلق عليها (نظر المظالم) سواء في تركيبها أو في سلطتها القضائية. ولمجلس الدولة هذا النر في حيثيات القضية مستنداً إلىٰ سلطة قضائية كالتي لا توفر للمحاكم العليا في النظامين الأمريكي والبريطاني. ورغم هذا فإن هذه المحكمة العليا تعمل في نطاق تحكم السلطة التشريعية الوطنية فيما يختص بتحديد صلاحياتها ومدىٰ سلطتها القضائية.

ونأتي للنظرية الدستورية الإٍسلامية لنجد أن حق الإٍعتراض والتقاضي أمر مكفول لكل مسلم (القرآن 4 : 59) وليس لأي جهاز تشريعي أن يصدر قانوناً وضعياً يسحب بمقتضاه هذا الحق أو يحد من الصلاحية القضائية التي يتمتع بها الجهاز القضائي في الدولة. ويعود وضع الأساس لإٍقامة مجالس القضاء إلىٰ العصر الأول في الإٍسلام إبّان حياة الرسول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ. ولما اتسعت رقعة الأمة الإٍسلامية ازداد الإٍحساس بالحاجة إلىٰ نظام قضائي تسنده مؤسستان جديدتان : فقد أنشئ ديوان نظر المظالم ليفصل في المنازعات والدعاوىٰ التي تقام علىٰ الولاة وعمالهم (الدولة) أو علىٰ أمراء الجيوش وكان يوكل العمل فيه إلىٰ القضاة وإلىٰ جانبهم الفقهاء والكتاب والأعوان المتمرسون. وقد بين الماوردي أن ناظر المظالم كان يجمع بين عدل القاضي وقوة السلطان. وقد نشأت الحاجة إلىٰ العمل بديوان المظالم بعد أن ظهرت بعض الإٍنتهاكات للقانون. وأنشئ معه منصب آخر ليمنع الإٍنحراف عن القانون ويأمر الناس بمراعاة أحكام الشرع وقواعده الأخلاقية ويكاد يشبه عمله عمل «المدعي العام» في السلطة القضائية اليوم.

ذلك هو نظام «الحسبة» وكان هذا المنصب يسند إلىٰ رجل يدعي المحتسب وكان له من السلطة ما يمكنه من أن يمنع التعدي عند حدوثه. وهو في ذلك يختلف عن المدي العام في كثير من البلاد. وقد كان هذا الأمر نادر الحدوث حيث كانت السلطة القضائية علىٰ وجه العموم سلطة رادعة وكانت تمارس بشكل يمنع وقوع أي انحرافات أو خرق للقوانين. وكان من بين أعمال المحتسب الإٍشراف علىٰ الأسواق والتفتيش علىٰ التجار وفي هذا له أن يقوم بتنفيذ الجزاء بنفسه.

وهكذا يتبدىٰ لنا مما عرضناه باختصار أن هناك أوجه تشابه كثيرة في المؤسسات السياسية, وكذلك الفكر السياسي المستقىٰ من ينبوع التراث المتفجر من ذرية إبراهيم, ولا ننكر أن هناك من المصاعب ما يُواجه تطبيق هذا المبادئ في حضارة قائمة علىٰ مبادئ الفكر المسيحي اليهودي تسودها العلمانية المقصودة, والتي اختارت ألا يتخطىٰ نظرها الوجود الدنيوي, وإدعت لنفسها السلطة المطلقة في وضع القوانين, وكذلك القواعد الأخلاقية. وذلك هو منبت المشكلات الرئيسة. وإنا لنجد في التراث الإٍسلامي محوراً متصلاً يأتي علىٰ أحد طرفيه التقليد الأعمىٰ والإٍتباع الطائش للغرب, وعلىٰ الطرف الآخر رفض عنيد متحجر للخروج من إطار ذي بريق خادع نسحه تاريخ المسلمين.

إن الحرية تفرض مسئوليات لا تستطيع سوىٰ اكتاف قليلة أن تتحملها بأسلوب روحاني بعيد عن العبث. ولقد جاءت الحرية للأمة الإٍسلامية في وقت كانت فيه مجتمعة علىٰ غير استعداد لهذه المسئوليات المتعددة الأوجه. ومما زاد الموقف سواءاً ما حدث علىٰ الصعيد العالمي من تفجر مفاجئ لينابيع المعرفة والتقنيات. إن البحث عن حلول تتمثل في التطبيق الحكيم للمبادئ العالية التي أوردها القرآن ـــ يتطلب الجهد الجهيد ولكنه دائب ومستمر والأمل في الله الواحد الذي بيده مقاليد أمورنا والذي إجتبانا وأعطانا العلم والثروة والقوة, سبحانه, أن يهدينا سواء السبيل, إنا لنفقد إحساسنا بالوجهة الصحيحة عندما نصم ونعمىٰ ونغلف قلوبنا عن مصدر النور السرمدي.

الهــوامـــش

(*) Khalid M. Ishaque : Islamʼs Contribution to International Political Thought.

(1) المترجم : في الزوائد : في إسناده مقال, ونصر بن محمد شيخ بن ماجه, ضعّفه أبو حاتم, وذكره بن حِنّان في الثقات. (ابن ماجه 2 /1298) قال أبو حاتم : أدركته ولم أكتب عنه وهو ضعيف الحديث لا يصَّدق (تهذيب التهذيب 10 /433).

(2) الإيمان بأن السلوك البشري تهيمن عليه المصالح الذاتية وحدها (المترجم).

(3) انظر : خالد إسحاق. الأحزاب السياسية ونمط القيادة في الدولة والإٍسلامية, ترجمة محمد رفقي محمد عيسىٰ. ـــ المسلم المعاصر.ـــ س11 : ع 44 (10/1405 هـ ـــ 7/1985م) ص11 ـــ 46.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر