أبحاث

بدعة تفسير القرآن بالعلم

العدد 22

“موضة” العصر في التعامل مع القرآن الكريم ما يسميه البعض “التفسير العلمي للقرآن”.

وهي تسمية فيها الكثير من الإدعاء، ويكفي أنها تحتكر لتيار تفسيري بعينه صفة “العلمية”، بينما تنزعها – ولو بطريق غير مباشر – عن بقية مناهج التفسير.

ولو تجاوزنا عن الابتداع الخطير في محاولات هؤلاء، وترفقنا بهم، لقلنا أنهم يجتهدون لتفسير القرآن بالعلم.

ولو قلنا الحقيقة المجردة بشان ممارساتهم التي تدعي التجديد فإنهم “يفسرون القرآن بالجهل”!.

فالعظمة الحقيقية، والإعجاز المفحم في القرآن الكريم، أنه كتاب عقيدة وتشريع، محكم الآيات، متسق الصياغة، مطرد الدلالة، لا تناقض فيه ولا اضطراب ولا اختلاف. “ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا”.

أما أن يزعم البعض أن القرآن يحتوي إلى جانب علوم الدين سائر علوم الدنيا، فذلك تزيد في القول والفهم مردود ومرفوض. وهو بالإضافة إلى كل ذلك اتجاه منحرف في التفسير له جذوره القديمة التي تضرب لعدة قرون خلت في حقل التراث الإسلامي. وليس يخفى هذا القديم ادعاءات التجديد أو الإفراط المعاصر في إخضاع الكثير من الآيات القرآنية لبعض معارض العلم الطبيعي المحدثة.

وليس يصرفنا عن هذا الفهم أن يحتج البعض علينا بقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (ما فرطنا في الكتاب من شيء). فالآية الكريمة ليست تعني أن القرآن قد حوى كل العلوم والمعارف جملة وتفصيلا، ولكنها تعني اشتماله على أصول وضوابط عامة (كليات) يعمل الناس على أساس منها ويستهدون بها. أما التفاصيل والجزئيات فقد ترك الباب فيها مفتوحا للمجتهدين من المستغلين بالعلوم المختلفة، يكيفونها وفق مقتضيات الزمان الذي يعيشون فيه والمكان الذي يسعون عليه.

وفي كتاب بعنوان “الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم” يتحدث المرحوم الشهيد الشيخ محمد الذهبي (وزير الأوقاف المصري وأستاذ التفسير بجامعة الأزهر سابقا) عن قدم هذه الظاهرة في تراثنا التفسيري يقصد منها التوفيق بين القرآن وبين ما جد من العلوم. ويضيف فضيلته أن هذه النزعة وجدت مركزة وصريحة على لسان مسلكه من العلماء. فالغزالي ينقل عن بعض العلماء في كتابه “الأحياء”: أن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك إلى أربعة أضعاف إذ لكل كلمة ظاهر وباطن، وحد ومطلع”. كما أنه يقول: “إن كل ما أشكل فهمه على النظار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات، في القرآن إليه رموز ودلالات يختص أهل الفهم بدركها”. ثم طبقت الفكرة عمليا – ولا يزال الكلام للدكتور الذهبي – وظهرت في مثل محاولات الفخر الرازي ضمن تفسيره للقرآن، ثم جدت بعد ذلك كتب مستقلة في استخراج العلوم من القرآن الآيات الخاصة بمختلفة العلوم.

إسرائيليات معاصرة!

عندما كان للاخباريين والقصاص مكانة في نفوس الناس، كانت تقولاتهم، رغم خروجها على المألوف، تجد هوى في هذه النفوس. فكان البعض يفرط الأخذ عنهم، ولا يرد لهم قولا. ومن هنا فإنه بعد عصر الصحابة (عصر التحويط والحرص والقرب من المصدر المصفى والمباشر للدعوة)، ومع مقدم محور التابعين، لصق بالقرآن من الروايات والقصص والأخبار مالا يتصوره عقل، وما لا يجوز أن يفسر به كتاب الله. وقد عرفت أغلب هذه المدسوسات بالإسرائيليات، نظرا لارتباطها المباشر أو غير المباشر بمعارف السابقين من أهل الكتاب.

وعندما احتدم الصراع السياسي بين طوائف الأمة المسلمة، راحت كل فرقة تصبغ موقفها السياسي بصبغة دينية لتفحم الفرقة (أو الفرق) المناوئة. وبحثت كل فرقة عن دعم قرآني لموقفها. ومن هنا ظهرت محاولات معتزلية، وأخرى شيعية، وغيرها خارجية، بالإضافة إلى محاولة السنة، لتفسر القرآن.

ومع ازدهار حركة الترجمة والإطلاع والتعرف على الثقافات الأجنبية، وبلوغها الأوج في بدايات العصر العباسي، انتقلت أخلاط من التراث الصوفي الهندي والفلسفي اليوناني إلى الثقافات العربية الإسلامية الصاعدة، وراجت الأفكار التصوفية (المستوردة!) في العالم الإسلامي في منتصف القرن الثاني الهجري. وكان لا بد وأن تنتقل آثار كل هذه الدخائل إلى تفسير القرآن الكريم، فظهرت مناهج التفسير الصوفي النظري، والتفسير الإشاري الفيضين وكلها اتجاهات تخرج بالقرآن – في الغالب – عن هدفه الذي يرمي إليه، وتؤدي على النهاية إلى خدمة الفلسفة والنظريات التصوفية، دون أن تقدم للقرآن شيئا إلا هذا التأويل الذي كله شر على الدين والحاد في آيات الله، كما يقول المرحوم الشيخ الذهبي.

وفي عصرنا الحديث ظهرت للعلم سطوة وسيطرة، وأصبح التمحك فيه والتسمح في أعتاب دليل استنارة وفهم ومعاصرة. ومن هنا كان انبعاث وتضخم اتجاه قديم يبحث عن العلوم في صفحات المصاحف. واستهوت اللعبة الكثيرين من أهل العلم الطبيعي ومن أهل العلم الشرعي على حد سواء. واقتحم الميدان كثيرون لا هم من هؤلاء ولا هم أولئك.

وقد كان في الإمكان التغاضي عن هذه الظاهرة القديمة المستحدثة – بل والقبول بها – لو أنها وقفت عند حدود المعقول، واتبعت القصد في فهم بعض آيات القرآن في ضوء منجزات العلم المعاصر دون مبالغة أو افتعال أو تشويه للنص القرآني. ولكن أن تبلغ الأمور حدود الإفراط السفيه في الفهم، والتأويل المريض للنص، والخلط القبيح بين الخرافة والعلم، فدون ذلك ويحتاج الأمر إلى الوقفة الصادقة، والعزمة الشجاعة، خاصة من المسلمين الدين حصلوا حظا وافرا من علوم الدنيا التي يمتطيها كثيرون بالادعاء دون دربة وبغير تبصر، والتي أوشك التوظيف السيئ لمعطياتها أن يملا كتب الدراسات القرآنية وأن يخلط محاولات التفسير الحديثة بالكثير مما يمكن تسميته “الإسرائيليات المعاصرة!”.

فرجل علم طبيعي، يحمل درجة الدكتوراة، ويهوى الحديث عن عوالم الجن والملائكة إلى حد تقديم إحصاءات بأعداد قاطني هذه العوالم!، يؤمن باتصال عالم الجن بعالم الإنسان، ويعتقد فيما يسمى بالمس! ويتساءل عما إذا كان هذا المس بالجسد أم بالروح؟!. ولكونه – بحكم شهاداته – رجل علم فأنه يقطع أن المس لا بد حادث بالروح، ودليله العملي في هذا الشان أن الجان الذي خلق من نار لو مس إنسانا بالجسد لإحراقه!. مثل هذا الدكتور المنتسب إلى العلماء لا يخاطب بالمنطق العلمي لكنه يخاطب بمنطقه. والنصيحة التي توجه إليه إذا التقى بواحد من أصدقائه – مهما كان مقدار شوقه إليه – أن لا يأخذه في الأحضان وإلا غير ملابسه. فصديقه هذا إنسان، والإنسان خلقه الله من تراب. والويل له من مس صدقه إذا أصاب هذا الصديق بلل من مياه المجاري في الشوارع، أو نزل عليه عرق من زحام المواصلات فتحول التراب إلى طين!.

وعالم دين في مصر، محدث لبق، كان ملء السمع والبصر في وقت ما، يحدث أن علماء الأرض والكيمياء قد قدموا الدليل على أن آدم مخلوق من تراب. فبتحليل التراب وجد أنه يتكون من عناصر أساسية هي نفسها العناصر المكونة للجسم البشري!. وبمنطق العلم الطبيعي أتحدث إلى رجل العلم الشرعي. فالتراب في مصطلحات العلوم ليس له تركيب كيماوي ثابت أو محدد، ذلك لأن أي تجمع من الحبيبات الدقيقة للمعادن (المكونات الأساسية لصخور القشرة الأرضية) أيا كانت نوعياتها يمكن تسميته “ترابا”. وإذا قبل أن المقصود هو التراب المكون من معادن الطين بصفة أساسية، فحسب علمي، وأنا من أهل التخصص، أن هذه المعادن تتركب كيماويا من سليكات الألمنيوم المائية، وحسب علمي أيضا، وأرجو أن يردني إلى الصواب أهل التخصص، فإن السليكون والألمنيوم ليسا من المكونات الأساسية لجسم الإنسان!. كما أن الكربون وهو أشهر العناصر المكونة لأجسامنا البشرية غائب تماما في معادن الطين تلك!. فأي تراب هذا الذي يؤذينا عالمنا الفاضل به، ويجرنا تحت سحاباته إلى تفسير عملية الخلق الغيبية المعقدة (الدليل الأكبر على القدرة الإلهية) بمعارفنا العلمية الساذجة؟!. وبلغة أهل الشرع نسأله: أليس من الخطأ أن نخضع – ولو بغير قصد – خالق الناموس لفعل الناموس الذي هو من خلقه، وأن نحاسب صانع القوانين بما نكتشفه نحن من هذه القوانين؟!..

ألاعيب المفسرين بالعلم!

الحرفية (أو التكنيك) في أعمال أنصار التفسير العلمي للقرآن، تقوم على أساس من عدة مغالطات، بعضها علمي، وبعضها ديني.

ففي الجانب العلمي يتغافل هؤلاء عن التفاوت بين الفرضية، والنظرية، والقانون. فالقانون علاقة محددة تربط برباط الضرورة بين الظواهر أو بين الظواهر أو بين عناصر الظاهرة الواحدة. أما النظرية فإنها صياغة عامة (عمومية) لتفسير أسباب وكيفية حدوث الظواهر في حين أن الفرضية تفسير أولى للظاهر يقوم على التخمين والمعقولية حتى ولو لم يمكن إثباته. فالنظرية والفرضية كلاهما إذن قابل للتعدد وقابل للتغيير أيضا. وبالتالي فإن في تفسير القرآن بهما تعريض له هو الآخر للتعدد والتبديل.

وقد يزعم مفسرونا المحدثون هؤلاء، وهم قد فعلوها، أنهم لا يستخدمون إلا ما ثبتت صحته من مكتشفات العلم لتفسير القرآن. ولكن الملفت للنظر أن البعض ممن يقفون وراء هذا الزعم لا يستنكف أن يفسر قول الله تعالى في سورة الأنبياء: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) بإحدى الفرضيات البشرية التي تبحث في منشأ وأصل الكون، وتزعم أنه بدا في صورة غاز وأتربة ودخان يملأ الفضاء وينتشر فيه، ثم راح يتكدس في بؤرات تحت تأثيرات الدوامات والجاذبية ليكون الأجرام السماوية والكواكب التي نراها، وهذا يعني أن الأرض والسماء كانتا متصلتين ثم فصل الله بينهما.. فهل يجوز بناء هذا الاستنتاج الخطير على فرضية تقوم على التخمين، كما أنها موضع خلاف شديد بين العلماء؟!. ولعلم هؤلاء، مجرد علمهم، فإن تلك الفرضية عن منشأ الأرض والأجرام السماوية الأخرى والتي تنسب إلى “كانط ولا بلاس” هي من نبت منتصف القرن الثامن عشر، وقدمها كانط في كتيب له نشر في عام 1755م وتعامل معها لابلاس في وقت لاحق، كما أنها معرضة لنقد علمي شديد وقاس، بل هي في نظر العلم المعاصر فرضية ميتة. أكثر من هذا فقد لحقتها عشرات الفرضيات الأكثر قبولا من العالم المعاصر ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر فرضيات شميدثن وفأي، وليجوندا، وسي، وأرهينوس، وأدجيورت، وليتلتون، وكويبر، وتشمير لين ومولتن، وجينز، وأدجيوفري، وكثيرين آخرين غيرهم. ولعلم هؤلاء أيضا، إن كان العلم مقصدهم، فإن المراجع الحديثة التي تبحث في منشأ الأرض واصل الكون لا تستحي أن تعلن أن مسائل أصل الأرض وطبيعة الكون لم تحل بعد. وإذا كان هذا هو الوضع الصحيح والصارخ لأشهر الاستخدامات المتعالمة والتي توظف من أجل تفسيرات عصرية (!) للقرآن، فكيف يكون الحال مع المستخدمات الأقل شهرة، وكيف يكذب هؤلاء ويقولون أنهم لا يستخدمون في تفسير القرآن غير حقائق العلم؟!.

وحتى لا يبقى البعض مصرا على إمكانية استخدام القوانين العلمية في تفسير القرآن، بوصفها أعلى معارف العلم المعاصر من ناحيتي الانضباط والقبول، فإننا ننبه إلى أنه سمة العلم الحديث أنه نسبي، وان كل ما فيه قابل للتغيير حتى القوانين، ويكفي أن تذكرهم فقط بأن قوانين نيوتن التي تحكم حركة الأجسام صحيحة تماما من الناحية الشكلية ولكنها مبنية على التقريب الكبير إذا ما درست في إطار نظرية النسبية الخاصة.

أما في الجانب الديني فإن مغالطات هؤلاء تبدأ بالتزيد والمبالغة والتعميم. فإذا صادفتهم آية تتحدث عن الشمس أو القمر أو النجوم فذلك دليل على تضمن القرآن علم الفك. وإذا قرءوا كلاما عن الجبال أقحموا علوم الجيولوجيا عليه. أما إذا تعاملوا مع نص عن الرياح، والسحاب، والماء، والأنهار، فذلك في عرفهم ووفق فهمهم فيض من علوم الرصد الجوي، والنبات، والحيوان، والتغذية، والري، والهيدرولكيا… الخ. ولعل من أطراف ما يذكر في هذا الصدد أن واحدا من الذين يسرفون في مسخ القرآن باسم العلم، ويهوى (العصرنة) ويتزيي بأزيائها مفسرا ومتفلسفا ومهموما أيضا، عندما عرضت له آيات من سورة الغاشية يقول فيها الحق تبارك وتعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وغلى الأرض كيف سطحت)، علق يقول بالحرف الواحد: “وهذه هي علوم الأحياء والفلك والجيولوجيا والجغرافيا كما نعرفها الآن”!!.

ثم أنهم يلجأون أيضا إلى التأويل السخيف (المعتسف) لصرف النص القرآني عن دلالته المباشرة، كمثل زعم بعضهم بأي قوى الطرد المركزي وقوي الجاذبية هي الأعمدة غير المرئية التي ترفع السماء فوقنا والتي عناها الله تبارك وتعالى في قوله: (الله رفع السماوات بغير عمد ترونها)، وكمثل زعم البعض الآخر أن القرآن سبق بالحديث عن إمكانية انشطار (تحطيم) الذرة وإطلاق طاقاتها الرهيبة حيث يصف الله نار جهنم في سورة الهمزة “بالحطمة”، أي التي تحطم الأجساد التي تلقى فيها.

وعندما يصل بنا تحليل ابتداعات هؤلاء إلى هذا الحد، فإن سؤالا حول الموقف الصحيح للمسلم المعاصر من الإشارات القرآنية إلى المشاهد المادية والظواهر الكونية قد يثأر، وإذا أثير فلا به له من إجابة.

مشاهد الطبيعة في القرآن

(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (فصلت – 53)

(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) (العنكبوت – 20)

توجيه قرآني صريح باعتماد المشاهدة والنظر وسائل لإدراك الإبداع في خلق الله.

فإذا أضفنا إلى ذلك الدعوة المتكررة في كتاب الله للتفكير في الكثير من مشاهد الكون التفصيلية التي تعرض للإنسان في حياته اليومية، كالليل والنهار، والسحاب والمطر، والأنهار والبحار، والأرض والجبال، والأنعام والإبل، والقمر والشمس،… الخ، لأدركنا أن أحد المداخل إلى تأكيد الإيمان أو تنميته أو إيقاظه يتمثل في المتابعة الواعية المتعلقة المتدبرة للموجودات المادية في الكون.

وتوجيه القرآن – لمن يفقه – يؤكد أن البحث عن حقائق الكون، والقوانين التي تضبطه، يتم بالسير في الأرض وبالنظر في الآفاق، وليس يتم بالنظر في آيات القرآن وسوره، وتلك هي نقطة الخلاف الأولى الأساسية مع الذين يزعمون أن القرآن جمع علوم الأولين والآخرين.

فإذا سرنا في الأرض، ونظرنا في الآفاق، وتحقق لنا بعض ما نقصده من الكشوف العلمية وتوصلنا إلى تأكيد بعض النظريات أو القوانين التي تفسر وتحكم الظواهر الطبيعية التي نراها أو نتعامل معها، فمن وجهة النظر الدينية، نحون قد وصلنا إلى موضع العظة والعبرة، والتفتنا إلى آيات قدرة الله ودلائل وحدانيته. أما أن يلجأ البعض إلى تجاوز هذا الهدف، واتباع الخداع والتحريف، ومحاولة رد هذه المكتشفات – بأثر رجعي – إلى القرآن، والإدعاء بأنها قد وردت فيه بكل خباياها وبكل تفاصيلها، فذلك زعم يستحيل القبول به، بل ويحرم السكوت عليه. وتلك هي نقطة الخلاف الأساسية الثانية مع أصحاب بدعة تفسير القرآن بالعلم.

ومنهج القرآن، ومنطقة، وأسلوبه في عرض المشاهد الكونية، ترجح كلها ما أذهب إليه، فالقرآن باعتباره كتاب دعوة وهدى، يوجه الحديث إلى الناس كافة، على اختلاف ثقافاتهم، وتفاوت الوغي لديهم، وتنوع تخصصاتهم. ولما كانت العبرة والعظمة والتسليم بقدرة الله وبالتالي وحدانيته هي الأمور المستهدفة من العرض القرآني، فإن ما يطرحه القرآن في هذا الصدد لا يعدو أن يكون مشاهدات يومية يدركها الجميع، ولا تخفى عليهم لمحة الإبداع فيها، وليس في وسع أي منهم أن ينكر النظام المحكم الذي تجري على أساس منه. وليس يلزم أن ينكر النظام المحكم الذي تجري على أساس منه. وليس يلزم أن يكون الإنسان متخصصا أو باحثا أو حتى على أساس منه. وليس يلزم أن يكون الإنسان متخصصا أو باحثا أو حتى (متفذلكا) ليصل إلى إدراك كل هذا أو بعضه.

ولنقف على سبيل المثال أمام قوله تعالى في سورة يس: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون). مثل هذه الحقائق التي يعرضها القرآن في هذه الآيات لا يستدعي إدراكها ولا التسليم بها أن يكون الإنسان على معرفة بعلم الفلك، ولا بالقوانين التي تحكم حركة النجوم والكواكب، ولا بنظام المجموعة الشمسية أو العلاقة بين أفراد هذه المجموعة، ولا بدوران الأرض حول الشمس، أو دوران القمر حول الأرض، ولا بالأوضاع النسبية بين هؤلاء جميعا، بكل ما يترتب عليها من تحولات الليل والنهار، وتغير الصورة المرئية للقمر من بدر إلى تربيع على هلال فمحاق…. الخ. وبالتالي فإن اكتشافنا اللاحق للقوانين التي تحكم هذه الظواهر الكونية، ليس يضيف شيئا إلى مدلولات النص القرآني، ما لم يتوفر قصد الافتعال. كما أنه ليس يزيد أو ينقص من الإبهار الذي أصاب المؤمن الذي التفت إلى هذه الظواهر. ذلك لأن العظمة في أية ظاهرة تتمثل في وجود الظاهرة ذاتها وليس في اكتشاف القانون الذي تقوم عليه.

ونأخذ مثالا توضحيا آخر، قربا من أفهام عامة الناس، وأبعد ما يكون عن نطق الخلاف بين العلماء. فالقرآن يصف شهد النحل بأن (فيه شفاء للناس)، فخرج علينا البعض يدعي أن في هذا سبقا للقرآن في مجال الاكتشاف العلمي الطبي. ولكن الأمر، في الحقيقة، أبسط من هذا بكثير. فنتيجة استخدام عسل النحل تجربة يومية قحة يمكن لأناس كثيرين، أطباء أو مطببين أو حتى بشرا عاديين، أن يتبينوها وأن يسجلوها كظاهرة غذائية طبية وأن يستفيدوا منها. والقرآن إذ أوردها ضمن آياته لا يوردها لمجرد تسجيلها في حسابه أو في قائمة سبقه، ولكن لبيان سبق فضل الله على خلقه من جهة، ولحثهم على التفكير والتدبير والبحث عن الأسباب وراء ظواهر الكون وحقائقه من جهة ثانية. فعظمة الحق – جل وتبارك وعلا – تسبق بخلق الظاهرة ذاتها ووضع قوانينها، أما عظمة الإنسان، الذي هو من روح الله، فتلحق باكتشاف القوانين والأسباب والاستفادة، من الظاهر المسخرة له ومن أجله بقدرة الخالق جل شأنه.

والنتيجة المنطقية لكل ما تقدم أن المصادمة بين حقائق العلم وبين نصوص القرآن غير واردة. ذلك لأن القرآن قد اقتصر على توصيف الظواهر المادية والطبيعية والكونية، بينما أحال ما يتعلق بتفسيرها أو تقنينها إلى التدبر والتعقل وما يشابههما من القدرات التي أودعها خلقه من بني الإنسان. وحسب المسلم تمسكه بهذه القاعدة البسيطة، حتى لا يجهد نفسه في غير نفع في مطاولة العلم بالقرآن، أو تشويه القرآن بالعلم، أو افتعال التوفيق بين نصوص القرآن الواضحة المباشرة وبين نظريات العلم المعقدة المتغيرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر