أبحاث

دراسة سيكولوجية للقيم الإسلامية

العدد 19

بناء الشخصية: موضوع ذو أهمية عامة:

إن نقاط التشابه بين علم النفس والدين لا تكون دائما ظاهرة. فإن الناس يميلون للنظر إلى علم النفس باعتباره علما موضوعيا قائما على أساس تجريبي، في حين ينظرون إلى الدين باعتباره شخصا لا يتفق مع العقل، وواحدا من أكثر الأشياء التي تعد غير قابلة للإثبات.

وأود أن أناقش تلك المواقف المختلفة، والكلمات التالية بواسطة ألبورت (1955) الذي تعاون في إيضاح موقفي: “إن علم النفس يختلف عن الرياضيات أو علم الطبيعة أو البيولوجيا، في أنه ليس بعلم موحد، ولكنه يعد مجموعة من الحقائق والآراء التي تتوقف وثاقة صلتها بالنسبة لخير الإنسان والدين على الآراء المعينة والحقائق التي يعتنقها الإنسان”. والآراء والحقائق التي سوف أتناولها هنا هي تلك التي تتصل بنمو الشخصية. وإذا كان ثمة صلة على الإطلاق بين الدين وعلم النفس فإن تلك الصلة تتمثل في اهتمامها المشترك بالنمو الصحي بالنسبة للأفراد. فكل من الدين ونظرية الدينامية النفسية يهتمان بما يسمى بالشخصية وبناء الشخصية.

ومن الممكن تعريف الشخصية بأنها “القالب المتماسك من الأفكار، والعادات، والتصرفات التي تضفي على السلوك الإنساني عنصرا من التميز، والاستمرار والتوافق”.

وإنه بمقتضى ذلك الإطار من الوحدة المتضمنة في بنيان الشخصية يكون من الممكن التنبؤ بسلوك شخص معين في موقف معين.

وبعد أن نقوم بمناقشة الشخصية، سوف نتحدث عن عملية التكامل (التي تعد بمثابة مفهوم فني ومألوف في علم النفس). ونستطيع تعريف التكامل بأنه “الانسجام بين مكونات الشخصية، أو المقدرة على مواجهة الضغوط، أو وجود فلسفة موحدة عن الحياة”.

إن الدين والعلاج النفسي يتشابهان في إصرارهما على الحاجة لوجود مثل تلك الوحدة والاتساق في الشخصية. فكلاهما يعلم أن العقل السليم يتطلب وجود تنظيم متسلسل للعواطف، وأنه من المألوف أن يكون ثمة عاطفة سائدة تحوز على المركز الغالب، ونجد أن نقطة الاتصال الرئيسية بينهما تتمثل في شغل ذلك المركز الغالب.

ومن وجهة نظر التحليل النفسي، فإن العواطف السائدة التي تتعلق بالعائلة، أو الفن، أو العمل أو الإبداع .. الخ، تعد جميعها متساوية في قيمتها لو أنها نجحت في تركيز “الطاقة” بصورة ملائمة وإضفاء بعض النظام على الفكر والسلوك. ومعظم المعالجين النفسيين لا يصرون على أن يكون الاهتمام القوي الغالب للإنسان اهتماما دينيا بالضرورة، ولكن الأشخاص المتدينين بالطبع لا يوافقون على ذلك، ويلقون السؤال عما إذا كانت تلك العواطف الدنيوية تعتبر عناصر ملائمة تؤدي إلى التكامل ويبثون الشك بالنسبة لقدرتها على إنماء شخصية “صحية” متكاملة”.

الدين: إعادة فحصه وإعادة تعريفه:

إنني أعتقد أن الحل الجزئي لهذا الجدل يكمن في توسيعنا لتعريف الدين، ومن الوجهة التقليدية، كان ينظر إلى الدين باعتباره مجموعة منظمة من المعتقدات والطقوس التي تتركز حول كائن أو كائنات غيبية. ولكن التعريفات التي من مثل ذلك النوع تعد ضيقة للغاية ومضللة.

لقد قدم إيريك فروم (1955) تعريفا يمتاز بأنه أكثر شمولا ويعد مفيدا في نقاشنا هذا. فهو قد عرف الدين بأنه مجموعة من الأفكار والأفعال التي تشترك فيها مجموعة من الناس تمنح الشخص نظاما للتكيف وهدفا للعبادة.

ومثل ذلك التعريف يشمل جميع المعتقدات سواء كانت الحادية أو مؤمنة بوجود الله. وهو يشمل أيضا جميع التنظيمات الدنيوية (السياسية والاقتصادية) مثل الفاشية المعاصرة، التي لا تعتبر عادة أنها أديان، ولكنها تعد من الناحية السيكولوجية جديرة بهذا الاسم.

ومن ثم فإن الدين يمثل نفس المفهوم الذي يشير إليه التحليل النفسي باعتبار أنه فلسفة موحدة للحياة. وإذا كان الشخص محروما من مثل تلك الفلسفة يمكننا القول أن شخصيته تفتقر إلى التماسك.. الذي يعد صفة حيوية في الصحة النفسية المعيارية.

ويستمر “فروم” في قوله: إن حاجة الإنسان لنظام عام للتكيف وهدف للعبادة تعد راسخة تماما منذ أن وجد الإنسان. وهو يفسر أن عدم الانسجام في حياة الإنسان يبث حاجات تتخطى إلى حد بعيد تلك الحاجات التي تنبعث من أصله الحيواني، ويؤدي ذلك إلى ظهور حافز ملح لاستعادة الوحدة والتوازن بينه وبين الطبيعة، وأنه يبذل جهده لاستعادة تلك الوحدة والتوازن الفكري في المرتبة الأولى بواسطة تكوين صورة عقلية شاملة للعالم لتكون مرجعا يستطيع يستعين به للحصول على إجابة للسؤال أين يقف وما الذي يجب أن يفعله؟.

ولقد أثبتت صحة رأي “فروم” بإسهاب بمقتضى حقيقة بروز أهمية الدين في التاريخ، ولقد قام كل من علماء اللاهوت، وعلماء النفس والعلماء بعلم الإنسان بتطبيق دراسات مفصلة عن تلك النقطة، والحقائق التي نتجت عن تلك الدراسات أثبتت لنا أنه ليس ثمة حضارة ماضية، وليس ثمة حضارة مقبلة لو لم تعتنق ذلك التعريف الواسع للدين.

وتبعا لذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه أمام علماء الدين والمعالجين النفسيين ليس هو إذا ما كان ثمة دين أم لا، ولكنه هو أي نوع من الدين؟.. ذلك السؤال الذي سوف أتناوله بالدراسة في الأجزاء الباقية من هذه المقالة.

تقييم القيمة السيكولوجية للدين:

نظرا لأن الحاجة لوجود نظام للتكيف وهدف للعبادة تعتبر جزءا لا يتجزأ من وجود الإنسان، فإن الإنسان في رأي “فروم” ليس لديه حرية الاختيار، بين أن يكون له مثل عليا أم لا.

إن جميع البشر يعتنقون المثل العليا وينشدون شيئا يؤمنون به، ونستطيع أن نرى أن أفضل ما يخرجه عقل الإنسان وأيضا أسوأ ما يخرجه مما يتماثل مع عمل الشيطان بعد تعليمات صادرة من مذهبه المثالي، وليس من طبيعته البشرية. ومن ثم فإن الرأي النسبي القائل بأن اعتناق الإنسان لبعض المثل العليا أو بعض الإحساس الديني هو شيء قيم في حد ذاته يعد خاطئا ومضللا.

وهكذا، فإنه يجب أن نفهم جميع المثل العليا بما في ذلك تلك التي تبدو في الإيدولوجيات الدنيوية باعتبارها تعبيرات عن نفس الحاجة، ويجب أن نصدر الحكم على تلك المثل بالنظر إلى مدى إسهامها في النمو الصحي ونمو “العقل” الإنساني، كما يجب أن تصدر الحكم عليها طبقا لمدى إجابتها لحاجة الإنسان من التوازن والانسجام في حياته.

إن علم النفس، باعتباره واحدا من العلوم ليس من الممكن أن يثبت أو يدحض ادعاء معينا للدين يتعلق بالحقيقة، ونعني بذلك أن “الحقائق” المطلقة أو الغيبية الخاصة بالدين ليست متاحة أمام التحقيق العلمي، ولكننا نستطيع ملاحظة أثر دين معين على السلوك اليومي للفرد.

ونحن نستطيع تفادي السؤال الخاص بما هو الدين، ونوجه اهتمامنا لدراسة ما الذي يقوم به الدين. إننا نستطيع (بل ويجب علينا) أن نحلل ليس فقط الجذور السيكولوجية للديانات المختلفة، ولكن أيضا قيمتها السيكولوجية.

ويوجد تحت تصرفنا عدد كبير من الأدلة التي تتضمن بعض القواعد التجريبية الضرورية الخاصة بالنمو والتطور السيكولوجي. إن علماء النفس الإنسانيين والمحللين النفسيين في الوقت الحالي يقومون بتكوين بيانات مفصلة في محاولة لتلخيص بعض القيم المعينة التي يعتبرونها متطلبات أساسية للصحة النفسية أو للحالة السوية، ومن تجاربهم الإكلينيكية الواسعة المشتركة نستطيع أن نلمس ظهور اتفاق جماعي عام في الرأي.

وهكذا فإننا نستطيع الآن إلى حد بعيد أن نقرر مغزى الديانات المختلفة من الناحية السيكولوجية عن طريق مقارنتها مع قائمة القيم المتعارف عليها التي تقود الشخصية تجاه الحالة “السوية”.

مقارنة البيانات المختلفة الخاصة “بالشخصية السوية” والقيم الإسلامية:

إن السؤال الخاص بمكونات الشخصية السوية الصحية يهم علم النفس كثيرا، ويعتبر البعض أن هذا السؤال يتوقف على القيم ويفضلون تركه بدون جواب، أما البعض الآخر، وخاصة علماء النفس الإنسانيين، فقد حاولوا الإجابة على ذلك السؤال مستخدمين أساليبهم الإبداعية، والتي تتصف في نفس الوقت بالتجريبية الجديرة بالاحترام، وهم قد توصلوا إلى تكوين أوصاف نظرية بالنسبة للشخصية السوية من خلال تجاربهم الإكلينيكية الواسعة وتحليلهم للحالات المختلفة التي تمر أمامهم.

وفي القسم التالي سوف أناقش القوائم الخاصة بشوبن، وألبورت، وماسلو على التوالي. وبعد ذلك سوف أقارن تلك الديناميات النفسية والرغبات الإنسانية ببعض القيم والمثل العليا الإسلامية.

أ- نموذج شوبن للتكيف المتكامل:

أولا: الشخص السوي، طبقا لشوبن (1957) هو “الشخص الذي تعلم أن يحصل على أقصى الإشباع في الكثير من المواقف عن طريق إضاعة بعض الفرص الموجودة أمامه الخاصة بتحقيق الراحة والسرور المباشرين في سبيل الحصول على بعض المكافآت التي لا تزال بعيدة الأمد”.

والشخص السوي يستطيع أن يقوم بفعل ذلك عن طريق التحكم في نزواته من خلال الإشارات الرمزية التي يقدمها لنفسه في عملية تقديره لنتائج تصرفه، ومن خلال عملية استخدام الرموز، يستطيع الشخص أن يتخيل النتيجة المقبلة لتصرفاته في حاضره السيكولوجي، ونتيجة لذلك، فإنه يتمكن من ازدياد سيطرته على نفسه، ويقلل من الحاجة إلى إيجاد سيطرة خارجية.

ثانيا: الشخص السوي هو الشخص الذي يتحمل المسئولية عن أفعاله. وهو لا يختلق أعذارا لنقائصه أو فشله، ويكون أمينا وليس مخادعا. ويكون راغبا في دفع ثمن ما ينتج عن تصرفاته طبقا للقيم التي يعتنقها.

ثالثا: الشخص السوي “يكون محبا للغير ويود أن يكون موضع ثقة واعتماد، وتكون جميع تصرفاته نابعة من اهتمامه الحقيقي بصالح الآخرين، ومن ثم يكون مصدر قوة للمجتمع بدلا من أن يكون عبئا عليه. وهو يهتم بمصالح الآخرين، وباختصار يكون لديه شعور بالمسئولية الاجتماعية.

رابعا: إنه يكون لديه ما يسميه شوبن بالاهتمام الاجتماعي الديمقراطي، وهذا لا يتضمن الاهتمام بالآخرين فحسب ولكنه يتضمن أيضا تقديرا للأشخاص يفوق تقدير الأشياء، ورغبة في المشاركة في العلاقات المفيدة مع الكثير من طبقات الأشخاص، بما في ذلك هؤلاء الذين لا يكون على معرفة متبادلة معهم.

وأخيرا، فإن الشخص السوي يكون لديه مثل عليا ومبادئ يحاول أن يحتذي بها بالرغم من أن ذلك غالبا ما يكون دون مقدرته. ولكن شوبن يشرح لنا أن “التكيف المتكامل لا يتكون من إحراز الكمال ولكنه يتكون من محاولة التصرف طبقا لأفضل مبادئ السلوك التي يتوصل لها إدراك الإنسان”.

وباختصار، فإن نموذج شوبن يتكون من:

1-     التحكم في النفس.

2-     المسئولية الشخصية.

3-     المسئولية الاجتماعية.

4-     الاهتمام الاجتماعي الديمقراطي.

ب- بيان ألبورت الخاص بالشخصية السوية:

إن جوردن ألبورت (1960) الذي يعد واحدا من أكثر علماء النفس شهرة في أمريكا، قد كون بيانا مماثلا للشخصية السوية. وقد قدم المقاييس التالية مع وصف مختصر لكل منها.

1-     توسيع الأنا –أي المقدرة على الاهتمام بأشياء تتعدى جسد الإنسان وممتلكاته المادية.

2-     التجسيم الذاتي- الذي يتضمن المقدرة على الربط الذهني بين طابع الشعور بالنسبة للتجارب الحاضرة وبين طابع الشعور بالنسبة للتجارب الماضية، بشرط أن تكون التجارب الماضية قد قامت في الواقع بتقرير خاصية التجارب الحاضرة. وهو أيضا يتضمن المعرفة بأن أفقنا الشامل للحياة يعد أكثر اتساعا من أن يضغط في جمود الحاضر.

3-     الفلسفة الموحدة في الحياة (التي قد تكون أو قد لا تكون دينية) التي تعد إطارا من المعنى والمسئولية يتوافق مع النشاطات الرئيسية في الحياة.

4-     مقدرة الشخص على إقامة الصلة الحميمة العميقة مع الآخرين والتي من الممكن أن تسمى “انبساط اللبيدو”.

5-     امتلاك المهارات الحقيقية والقدرات والإدراكات التي يمكن بواسطتها مواجهة المشاكل الواقعية في الحياة.

6-     النظرة الرحيمة لجميع المخلوقات الحية، التي تتضمن احتراما للأشخاص وميلا للمشاركة في النشاطات العامة التي تؤدي إلى تحسين مستقبل الإنسان.

ج- وصف ماسلو للأشخاص الذين حققوا ذاتهم:

لقد كان أبراهام ماسلو هو المؤيد الأساسي لتطبيق البحث السيكولوجي الإنساني، ولقد تفوق في دراسته للأشخاص الذين حققوا ذاتهم.

وطبقا له، فإن هؤلاء هم الأشخاص الذين قد أشبعوا حاجات أساسية فسيولوجية وسيكولوجية والذين قد تختلف أهدافهم عن الأشخاص “العاديين”، وهم بعد أن يشبعوا حاجاتهم للأمن، والحب، والانتماء والتقدير، يستطيعون أن يركزوا وقتهم وجهدهم على نشاطات تدخر المكافأة لهم. ومن ثم فإن تحقيق الذات يعد أسمى الحالات في التسلسل الهرمي للحاجات الخاص بماسلو.

إن الشخص الذي يكون قد حقق ذاته لا يبدي شخصية “سوية”، بالمعنى الإحصائي أو العادي لكلمة، بل إنه يكون شخصا ممتازا ولكننا نستطيع النظر إليه باعتباره شخصا قد حقق قدرات كامنة إنسانية إيجابية معينة، ومن ثم فإنه يبدي مجموعة من الخصائص السيكولوجية والأخلاقية المرغوب فيها. ويصف ماسلو (1954) تلك الخصائص كما يلي:

1-     إدراك أكثر فاعلية للحقيقة وإقامة علاقات أكثر ملاءمة معها. وهؤلاء الأشخاص في مجموعة يبدو أنهم يستطيعون رؤية الحقائق المحجوبة أو المشوشة بسرعة أكبر وبشكل أكثر صحة من الآخرين.

2-     التمييز بين الوسائل والغايات، والخير والشر، فإنهم يتمسكون بالأخلاق بقوة ولديهم معايير أخلاقية محددة.

3-     التركيز على مشاكل العلاقات الإنسانية- فإنهم يتكيفون مع ويركزون بقوة على مشاكل تكمن خارج أنفسهم، إنهم يركزون على المشاكل بدلا من أن يركزوا على أنفسهم.

4-     بنيان الشخصية الديمقراطي- إنهم يستطيعون أن يكونوا، بل هم في الواقع ودودون مع أي شخص ذي شخصية ملائمة بصرف النظر عن الطبقة، أو التعليم، أو العقيدة السياسية، أو الجنس أو اللون.

5-     الارتباط العاطفي المتزايد مع الجنس البشري- أي الشعور بالتعاطف الوجداني مع البشر بدلا من الشعور بالغضب أو نفاذ الصبر أو الاشمئزاز.

6-     القبول المتزايد للذات، وللآخرين، وللطبيعة- إنهم يقبلون نقائصهم ونقائص الآخرين، وهم يميلون إلى قبول أعمال “الطبيعة” بدلا من الجدال معها لأنها لن تقيم الأشياء بشكل آخر.

7-     الاستقلال المتزايد- أي كون لديهم اعتماد أقل على البيئة المادية والاجتماعية، وذلك الاستقلال عن البيئة يعني الاستقرار النسبي في مواجهة الصعوبات والحرمان والخيبة.

8-     خاصية الانعزال- فإنهم يستطيعون الانزواء بدون الإضرار بأنفسهم وبدون الشعور بعدم الراحة. فهم يتسمون بالموضوعية وينشدون أحيانا أن يتركوا بمفردهم مع أفكارهم ومشاعرهم.

9-     مقاومة التكيف مع ثقافة جديدة- إنهم يستطيعون العيش بنجاح في إطار ثقافة، ولكنهم يكونون مستقلين عنها بالضرورة. وهم يستطيعون العيش في إطار الثقافات الأخرى بشكل أكثر سهولة من معظم الناس.

10-   ازدياد قدرتهم على إقامة علاقات أكثر عمقا فيما بينهم وبين الأشخاص فإنهم قادرون على بذل حب أكبر ولديهم مقدرة أكبر على إزالة حدود الأنا.

وتتضمن قائمة ماسلو أيضا: حسن الفهم أو التقدير، والتلقائية، والإبداع، ووجود إدراك أوسع بالنسبة للتجارب الأساسية أو البسيطة في الحياة، وتكرار أكثر للتجارب البالغة الأوج (إن تلك الظواهر من الصعب وصفها، أنظر في عمل ماسلو “الأديان، والقيم وأوج التجارب” ص59- 68).

المقارنة مع القيم الإسلامية:

فلننظر الآن كيف تتم مقارنة بعض القيم والمثل العليا الإسلامية مع الحقائق التي ذكرناها سابقا، ونقول في البداية إنه من أجل أن تطبق الصفة “الإسلامية” على قيمة أو مثل أعلى معين، فإنه يجب أن يكون قائما على أساس تعليمات القرآن الكريم (الكتاب المقدس في الإسلام) أو يجب إثبات أنه قد تم اعتناقه وممارسته بواسطة النبي محمد (آخر الأنبياء المختارين) واسمه الكامل هو محمد بن عبد الله وقد عاش في سنة 570 إلى 632. ومن ثم فإن القرآن والسنة (التي تتمثل في ممارسة محمد) يزودان الإنسان بالخطوط المرشدة والتعليمات الخاصة بالحياة الصالحة.

إن ما يعتبره عالم النفس تصرفا “سويا” (بالمعنى الأخلاقي للكلمة) يعرف في الأديان الإلهية بأنه “صالح”. وفيما يلي وصف للصلاح الذي يوجد في القرآن وهو كما يلي:

” لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ”. (القرآن 2: 177).

ونستطيع في هذه الآية المنفردة أن نميز الكثير من القدرات السيكولوجية التي ذكرناها فيما سبق. مثلا، الشخص الصالح هو الشخص الذي يبدي السمات التالية:

1-     إنه يقبل (كنتيجة لقدرته الإنسانية المميزة الخاصة بتكوين الرموز) الإيمان باليوم الآخر، ذلك اليوم المحتم الذي سوف يتم فيه حسابه أمام الله عن أفعاله في الحياة، وسوف يكافأ أو يعاقب تبعا لذلك، وذلك الإيمان يزيد من سيطرته على نفسه ويكبح السلوك الغير ملائم (انظر في شوبن 1، 2).

2-     إن إيمانه بالله أو “شعوره بالله”، يقلل من الحاجة لإيجاد سلطات خارجية (مثل البوليس) لفرض السلوك المرغوب فيه على المستوى الاجتماعي (انظر في شوبن 1، 2 وألبورت 3).

3-     إنه يهتم بصالح الآخرين (انظر في شوبن 3 وألبورت 1 وماسلو 3).

4-     إنه يستطيع تحمل الصعوبات عند مواجهته لها (انظر في ماسلو 3) وفي القرآن توجد الآية:

كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (القرآن 3: 110).

وهذه الآية توضح تأكيد الإسلام على الوعي الاجتماعي والاهتمام بصالح الآخرين، فالمسلم يجب أن يكون حساسا بالنسبة للرذائل والظلم في المجتمع ويكون نزاعا لانتقادها. (انظر في شوبن 3 وألبورت 1 وماسلو 3). وتوجد الكثير من الآيات الأخرى وأحاديث النبي محمد عليه السلام التي تؤيد القيم المتشابهة مع القيم الموجودة في البيانات الثلاث. وتلك الآيات كثيرة للغاية حتى أننا لا نستطيع أن نذكرها جميعا هنا.

وقد يكون ذا أهمية أن نعيد فحص تلك البيانات وأن نقارنها مع تعليمات الإسلام وأوامر الأديان الأخرى أيضا.

وباختصار، يمكن القول إننا نستطيع أن نلاحظ في شخصية الشخص الذي ينطبق عليه ذلك الوصف القرآني المختصر للصلاح (من بين أشياء أخرى) صفة ضبط النفس وحب الله وحب الآخرين من بني الإنسان، سوف يكون محبا للغير ومن ثم سوف يهتم بحل مشاكل العالم. وباختصار، إنه سوف يكون جديرا باسم المسلم، أي الشخص الذي يخدم، ويعبد، ويطيع الله.

ولننظر الآن، ولنر هل نستطيع ملاحظة صفات أخرى خاصة بالإسلام تؤدي إلى تنمية وتدعيم الصحة النفسية؟

نمو الإدراك ودين الإسلام:

سوف نناقش الآن نمو الإدراك، مبتدئين من مرحلة الطفولة التي تتمثل في السنتين الأوليين من حياة الطفل. فالطفل مع تعلمه للغة ونمو النشاط العقلي المصاحب لذلك، يصبح مدركا التمييز بين نفسه وبين الآخرين. ويدرك تدريجيا أن لديه كيانا جسديا وعقليا، ومن ثم سوف يكتسب ما يمكن أن نسميه بنظرة أنوية للعالم.

وفي تلك المرحلة، فإن ما يعتبره الطفل حقيقيا هو كل ما يوجد داخل ذاته، في حين أنه لا يعتبر الظواهر الخاصة بالعالم الخارجي حقيقية في ذاتها. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يفشل في إدراك أن الأشخاص الآخرين لا ينظرون إلى الأشياء من وجهة نظره، وتلك تعد بمثابة نقطة طبيعية تالية في نمو الإدراك. ولكن الطفل لو لم يتخلص من ذلك الاتجاه مع الزمن، فسوف يواجه الكثير من المشاكل عند تكيفه مع العالم الحقيقي أو العالم الخاص بالأشخاص البالغين.

والإسلام، باعتباره دينا أو فلسفة في الحياة، لديه الكثير ليقدمه في إطار أحداث ذلك الانتقال من الأنوية إلى الموضوعية الناضجة. ولننحرف عن موضوعنا الرئيسي للحظة، وننظر في دراسة نظمها بياجيت ومعاونوه.

لقد طبق بياجيت الكثير من البحوث على نمو الإدراك والمرحلة الأنوية في الطفل النامي، وفي إحدى الدراسات، وجد أن الأطفال في حوالي السادسة أو السابعة من عمرهم، والذين يعيشون في مدينة جنيف، كانوا غير قادرين على النظر إلى أنفسهم باعتبار أنهم جنيفيون وسويسريون في نفس الوقت.

وعندما طلب منهم أن يقوموا برسم دائرتين، واحدة لجنيف والأخرى لسويسرا فإنهم رسموهما جنبا إلى جنب وأصروا أنهم إذا كانوا جنيفيين فإنهم لا يستطيعون أن يكونوا في نفس الوقت سويسريين.

أما بالنسبة للمناطق الأخرى المحلية، فإن هؤلاء الأطفال كانوا يعانون من صعوبة أكبر في إدراكهم بالنسبة لها. وكانت ردود أفعالهم تعد أنوية تماما: “إنني أحب بون لأن عمي يعيش هناك”. “إنني أحب لوزان لأنني قد أكلت الشيكولاتة هناك”. وباستعمال اصطلاحات بياجيت، فإن هؤلاء الأطفال لم يبدءوا بعد في عملية اللامركزية من وحدة الذات إلى الوحدة الاجتماعية الأوسع إطارا.

أما سن الثامنة والتاسعة فإنه يعد انتقاليا. لقد رسم الأطفال دائرة جنيف بطريقة صحيحة داخل دائرة سويسرا، ولكنهم كانوا لا يزالون يجدون صعوبة في ترجمة المحيط الفضائي إلى عبارات مثل المحيط الاجتماعي. فمثلا قد يقول الطفل، “إنني الآن سويسري، حينئذ فإنني لم أعد أستطيع أن أكون جنيفيا” وهكذا فإننا نجد أن مفهوم الوطن كان ينمو بالتدريج، ولكن بطريقة مركزة حول الذات. فيقول الطفل “إنني أحب سويسرا لأنني ولدت هناك”. وبالنسبة للبلدان الأجنبية، فإنهم كانوا يعلمون بوجودها ولكنهم بصفة عامة كانوا ينظرون إليها بازدراء.

وأخيرا، في سن العاشرة والحادية عشرة، نستطيع أن نرى أن عملية اللامركزية قد مرت بتقدم كبير، فتبتدئ الأنوية تفسح المكان لمبادئ التبادلية والاحتواء.

فالطفل في العاشرة أو الحادية عشرة يفهم عضويته المزدوجة في وحدة سياسية صغرى وكبرى. وفوق ذلك، فإن هذه العملية من الممكن أن تتوقف في أي مرحلة على الطريق، وخاصة بالنسبة لفعاليتها.

ومن الهام أن نلاحظ أن بياجيت لم يقدم أية أدلة بأن أطفاله، على الأقل حتى سن الرابعة عشرة، يميزون إمكانياتهم العضوية في أي مجموعة تتخطى الحدود أو السلطة القومية. فإن اللامركزية لم تصل حتى إلى حد أن يستطيع الطفل ذكر عضويته في الجنس البشري الشامل. وحتى إذا حدث ذلك التوسيع الإدراكي في السنوات التالية، فإنه سوف يكون ثمة افتقار إلى التوسيع العاطفي المصاحب له.

أما في الإسلام، فيعتبر كل من الأوجه الإدراكية والعاطفية الخاصة بمفهوم أخوة أو وحدة البشرية واضحة تماما. فطبقا للنظرية الإسلامية يتساوى جميع البشر في المركز ويعدون جزءا من عائلة واحدة. ومما يعد حقيقة مؤكدة أن الديانات الأخرى (إلى جانب الإسلام) تؤيد تلك الفكرة الخاصة بالأخوة العالمية ولكنه ليس ثمة ديانة قد أكدت تلك الفكرة بطريقة فعالة مثل الإسلام.

وكما نعرف جميعا، فإن واحدا من أهم التزامات المسلم هو الحج إلى مدينة مكة المكرمة على الأقل مرة واحدة في حياته، ومن ثم فإن الحج يعتبر تأكيدا عمليا أو نموذجا حيا سوف يستمر في تذكرة الناس أنهم جميعا قد جاءوا من مجتمع بشري واحد.

ولذلك نستطيع القول بأن العضوية في وحدة أكبر من العائلة، أو الأمة تعد في الإسلام حقيقة سيكولوجية.

وفي دراسة أخرى تم تطبيقها في بلجيكا بواسطة دي بي، وجد أن قليلا من البالغين لديهم ارتباط وجداني يتخطى الحدود القومية. وحتى هؤلاء الذين لديهم مستوى ثقافي أعلى وجد أنه لديهم القليل من المعرفة بالعلاقات الدولية.

ومع ذلك يمكننا القول بأن الشخص البالغ العادي يعد قادرا من ناحية الإدراك والشعور العاطفي أن يطبق اللامركزية إلى حد كبير. ومن الناحية التجريبية نستطيع كما فعل ماسلو، أن نلفت النظر إلى الأشخاص الذين حققوا تلك المقدرة. ولكنهم لسوء الحظ يعدون أقلية فإنه توجد أغلبية ساحقة من الأشخاص الذين ضيقوا أو شوهوا نطاقهم الإدراكي بواسطة اعتناق فلسفة في الحياة أو “دين” أدى إلى تضييق إدراكهم للعالم وللناس الذين يعيشون به.

ومن الواضح أن الإسلام لم يرتكب ذلك الخطأ. فعلى العكس، نجد أن عقائد الإسلام وممارساته تنشد توسيع وجهات نظرنا بالنسبة للبشرية بأسلوب شامل وفعال، وفي تلك الحالة، يستطيع الناس ليس الإيمان فحسب، ولكنهم يستطيعون أيضا رؤية الوحدة العالمية للبشرية والإحساس بها.

ولسنا في حاجة إلى ذكر النقطة السابقة. فإن الشعور بالصلة العالمية ليس بأكثر من واحد من الأوجه العديدة للحياة الإدراكية الصحية، ومن ثم فإنه لا يقتصر على إثبات أهمية الإسلام بالنسبة لتنمية الفرد بل إنه يخدم هدفنا في إثبات نقطة هامة للغاية، وهي: من أجل إثبات أن أي نظام ديني، أو أن أي شخص متدين (مثلنا جميعا) يعتبر سويا أو طبيعيا، فإن نظرته الإدراكية للحياة يجب أن لا تكون فعالة بطريقة نسبية فحسب ولكن بطريقة مطلقة! ونعني بذلك أن يكون مرجعه متسما بالكمال ومعصوما من الخطأ.

وإذا كانت رؤية الشخص بالنسبة للعالم غير ثابتة، فإنه حينئذ من الممكن أن يعرف عن حق بأنه مضطرب عصبيا نظرا لأن كلا من الصحة والاضطراب العصبي يعتبران على التوالي بمثابة إدراك صحيح وإدراك خاطئ للحقيقة- إن الشخص المضطرب عصبيا ليس مريضا عاطفيا.. ولكنه مخطئ من الناحية الإدراكية!.

ولذلك فمن الواضح أن نشدان الإنسان للدين الصحي المعياري يتوقف على اتخاذه مرجعا وهدفا للعبادة (باستخدام تعريف فروم الدين) الذي يكون ثابتا بالضرورة، ومتسما بالكمال ومعصوما من الخطأ. ولست واثقا تماما من أن علماء النفس المعاصرين سوف ينظرون حتى في إمكانية اعتناق الدين الذي يفي بتلك المتطلبات، فإن الكثيرين منهم يؤمنون بأن السؤال: ما الذي يكون الدين الصحي؟ من الممكن إجابته بطريقة نسبية أو لا يمكن إجابته على الإطلاق. ولكننا لسنا في حاجة لقبول ذلك الحكم الشائع.

تعليق على النسبية الدينية والأخلاقية:

إن مفهوم النسبية، بالرغم من افتقاره إلى العمق الفلسفي والإثبات التجريبي، فإنه يستمر في التأثير على النظرية السيكولوجية والعلاج السيكولوجي المعاصر. ولهذا السبب، يكون من المفيد أن نتريث للمناقشة.

ومن سوء الحظ أن هؤلاء الذين يؤيدون تلك النسبية كثيرا ما يتغاضون عن نواحي قصورها، ففي حين أنه مما يعد صحيحا أن الأفراد يدركون ويفسرون الحقيقة بأساليب مختلفة (طبقا لأسلوب تكيفهم الأولى)، فإنه من الخطأ افتراض أن جميع المعتقدات والقيم تتساوى في صحتها وقبول الناس بها. ولقد ذكر جوردن ألبورت أن كل شخص –سواء كان يميل إلى الاتجاه الديني أم لا- يكون لديه افتراضاته السابقة النهائية التي يعتقد أنه لا يستطيع العيش بدونها، والتي تعد صحيحة بالنسبة له.

وإن مثل تلك الافتراضات السابقة، سواء كانت أيديولوجية، أو فلسفية، أو مجرد أحاسيس باطنية عن الحياة، تمارس بعض الجهد الخلاق على جميع أوجه السلوك الخاضع لها (وذلك يعني جميع سلوك الإنسان تقريبا). ونضيف هنا أن تلك الافتراضات السابقة النهائية (أو الغيبية) ذاتها تشكل أساس ديانة الشخص وتقرر بنيان القيم المصاحب الخاص به، الذي يؤثر بدوره كثيرا على نموه السيكولوجي وسلوكه.

ولكن الإجابات الصحيحة لبعض الأسئلة الغيبية الرئيسية دائما ما تفوق الفكر الإنساني. ونعني بذلك أن الحقيقة الغيبية ليست بمثابة موضوع شخصي بحت، وليست بمثابة موضوع يتوقف على ميول الإنسان.

ولنأخذ مثلا السؤال القديم المتعلق بوجود الله أو عدم وجوده، إننا جميعا نعلم بكلا الموقفين المؤمن والملحد بالنسبة لهذه المسألة، ومع ذلك فإن الفطرة السليمة ترغمنا على الاعتراف بحقيقة أنه ليس من الممكن أن يكون كلا من الموقفين صحيح!؛ فإنه إما أن الله موجود أو أنه غير موجود، وتلك تعد مسألة بسيطة، فإن أحد الموقفين صحيح والآخر خاطئ.

ومن ثم نستطيع أن نرى أن مثل تلك المعتقدات الغيبية المتعارضة تعد نسبية فقط بمقتضى مقارنة كل منها مع الآخر وبالنظر إلى حقيقة أنها جميعا تأتي من مصدر واحد ومن ثم ليس من الممكن إثباتها أو دحضها بطريقة مطلقة.

ولذلك نستطيع أن نقول إن تلك الحالة تنطبق بالنسبة للمسائل السيكولوجية الرئيسية الأخرى، فإن الحياة إما أن لها هدفا محددا أو لا، وأنه يوجد استمرار بعد الموت أو لا يوجد…الخ، وتبعا لذلك، فإننا مرغمون على قبول الوضع أنه في حين تفتقر بعض الافتراضات الغيبية المسبقة إلى الإجماع العالمي، فإنها بدون شك إما أن تكون ذات صحة مطلقة أو أنها خاطئة.

إن مسألة النسبية تعد خطيرة للغاية بالنسبة لموضوع القيم التي تنبع من الافتراضات السابقة الخاصة بالشخص عن الحياة. فتوجد بعض القيم التي تدعم الصحة النفسية والسعادة، في حين يوجد البعض الآخر الذي يؤدي إلى الاضطراب العصبي والتنافر الاجتماعي، وإن أخطار النسبية الأخلاقية تعد واضحة بصفة خاصة في العلاقة السيكولوجية العلاجية.

فبإيقاف جميع التقييمات الأخلاقية، يصاب المريض بالتشوش، ويشعر بعدم الثقة في أحكامه، فهو لا يعرف ما هو الصواب وما هو الخطأ. وعندما يتخذ المعالج اتجاها مثلا (من خلال رفضه إصدار الأحكام)، فإنه كثيرا ما يغفل السبب الذي أدى إلى مشكلة مريضة، بل قد يتسبب في مضاعفتها.

وبالنسبة للمناقشات المتعارضة مع تلك النسبية، حذرتنا كارين هورني من أن “نبذ فرويد للقيم الأخلاقية قد ساهم في جعل المحلل يصاب بفقدان الحس مثله مثل المريض”.

وبعد وضع فكرة النسبية في مكانها الصحيح، فإن واضع النظريات المسلم يكون حينئذ مستعدا لتقديم التفسيرات الإسلامية بطريقة أكثر تأكيدا، وإنه يستطيع (بل ويجب) أن يقدم الإسلام ليس باعتباره موضوعا نظريا يقدم بهدف التسلية الفكرية، ولكن باعتباره أسلوبا للحياة أمر به الله، ونظاما مفيدا من المعتقدات والقيم التي تقدم نتائج أبعد أثرا بالنسبة لهؤلاء الذين يقبلون أو يرفضون رسالته.

وسوف نكرس ما بقي من هذه المقالة لتلك الغاية.

النظرية الإسلامية للنمو السيكولوجي:

أ- بعض النواحي الموضوعية في الطبيعة الإنسانية:

لنستهل هذه المناقشة ببعض الحقائق التي تتعلق بحقيقة الإنسان والخلفية الوجودية التي يجد نفسه بها، ولنبتدئ بالقول أن الإنسان يعد مخلوقا فريدا، وبمقارنته مع الكائنات الحية الأخرى فإنه يملك المقدرة العظمى للتفكير المنطقي وتكوين الأفكار، ويمكنه جهازه العصبي المتطور إلى حد بعيد من فهم الحقيقة على مستوى الوعي فيما يتعلق بتكوين المفاهيم.

ولكن ملكة الإنسان الفريدة الخاصة بالمفاهيم ترغمه أيضا على مواجهة بعض التحديات الفريدة، فالإنسان يدرك تماما مسألة الحياة والموت التي تواجهه، وهو وحده الذي لديه المقدرة والمسئولية بالنسبة لإصدار الأحكام على أعماله في إطار النتائج بعيدة الأمد.. وعلى التفكير والتخطيط على مدى حياته، والعمل المستمر على توسيع معرفته، ومن ثم الارتفاع بمستوى وجوده.

أما الحيوانات الأخرى، فإنها لا تواجه مسائل مثل: من أنا؟ ما هو هدفي في الحياة؟ أو ما هي الأهداف التي يجب أن ننشدها؟.

ونحن نعلم أيضا أن الإنسان ليس بكائن ساكن، وأنه يجب أن يعمل ليعيش، ولكن الحياة تقدم له الكثير من الأهداف الممكنة والكثير من مسارات العمل البديلة. ومن ثم فهو لا يستطيع الفرار من ضرورة اختيار القيم وإصدار الأحكام.

وأخيرا، نحن نعلم أن الإنسان لا يزود بمقدرة أتوماتيكية لإقامة الاختيارات الصحيحة للقيم، وأنه كثيرا ما يختار القيم التي تعد مدمرة لسعادته الشخصية وللمجتمع ككل.

وفي ضوء تلك النواحي للطبيعة البشرية سوف أقدم وجهات النظر الإسلامية والمواصفات الخاصة بالنمو النفسي.

ب- بعض الآراء السيكولوجية المعاصرة بالنسبة للطبيعة البشرية:

إن معظم نظريات الدينامية النفسية تبتدئ بنظرية عن الطبيعة البشرية والوجود البشري، وعامة، يوجز رأيان رئيسيان فيما يتعلق بالإنسان يسودان علم النفس في الوقت الحاضر.

فالمدرسة الفرويدية تقول إن الإنسان يعد بطبيعته آثما أو أنه يخضع لسيطرة غرائزه البدائية، ومن ثم فإن الهدف الوظيفي للأخلاق هو الترويض والسيطرة على “الوضع الطبيعي للإنسان”.

لكن علماء النفس الإنسانيين ينظرون للأمر بشكل آخر، فهم يقولون إن الإنسان من الأصل مزود بقوى نمو بناء تحثه على إدراك إمكانياته الداخلية، ويعتقدون أن الإنسان بمقتضى طبيعته يسعى طواعية إلى “تحقيق ذاته”، وأن قيمة تنشأ من مثل ذلك السعي، وإن تحقيق الذات (أي التحقيق والتعبير الكامل عن نفس الإنسان الفريدة) يتطلب من الإنسان فهما متزايدا أبدا لنفسه، ويحتاج فقط لأن يكون الإنسان مهتما بتوصله إلى النمو والنضج ومسئولا عن ذلك بصفة شخصية.

ولكل من هذين الرأيين نقائصهما النظرية والعملية التي سوف تظهر عندما ندرس بالتفصيل التفسير الإسلامي للنمو الإنساني.

ج- التفسير الإسلامي للطبيعة الإنسانية والتحقيق الذاتي:

يقر الإسلام –كما نعلم جميعا- بأن الإنسان قد خلق وبطبيعة حميدة ونقية. ويقر القرآن “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” (القرآن، 95: 4).

ولكن استمرار صلاحه يتقرر بواسطة الدين (أي هدف العبادة ونظام التكيف) الذي يعرفه في مراحل النمو التي تلي مرحلة الطفولة. والنمو التام لأي من القدرات الكامنة الداخلية للإنسان سواء كانت بدنية، أم عقلية، أم روحية ليس شيئا مضمونا؛ فإن عملية النمو بأكملها تتشابه مع ازدهار زهرة رقيقة من حبة صغيرة، ويعد كل من الاهتمام، والرعاية والتغذية الصحيحة أشياء ضرورية للنمو والسعادة.

وللوهلة الأولى يبدو لنا أن النظرية الإسلامية للنمو تتفق مع آراء علماء النفس الإنسانيين الذين يصفون النمو الإيجابي بأنه عملية طبيعية من عمليات التحقيق الذاتي، ولكن الأمر على عكس ذلك، إذ يوجد الكثير من الاختلافات الأساسية بين الموقفين.

فعندما نتحدث عن تحقيق الذات في الإسلام، فإننا نعني التعبير عن “النفس العليا” للإنسان التي تتفق مع طبيعته الحقيقية، والإنسان لديه الإرادة الحرة في الاستمرار في تنمية صلاحه الداخلي، أو اختيار الصفات الإنسانية الدنيا. وبالنسبة للأشياء البديلة المتاحة أمام الإنسان، يقول القرآن: “ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها”. (القرآن 91: 7-10).

وباختلافنا عن مؤيدي النظريات الإنسانية، فنحن نتحدث عن نوع معين للنفس؛ فالنفس التي يحث القرآن الإنسان على تحقيقها هي النفس التي تميل لخدمة وعبادة وطاعة خالقها.

والفارق الآخر الأساسي بين الموقفين يتمثل في مسألة توضيح القيم. فمن الواضح أن الكثير من علماء النفس قد ابتدءوا في إدراك أن فهم “الشخصية المعيارية” وفهم القيم الإيجابية للحياة يتصلان ببعضهما دون شك.

ويلاحظ المحللون النفسيون بصفة خاصة أن واحدة من الصفات الرئيسية للمرض النفسي تتمثل في وجود نظام مشوه للقيم، فإن الكثيرين من مرضى الاضطراب العصبي قد اعتنقوا أنظمة من القيم لا تتوافق مع طبيعتهم الحقيقية وقدراتهم. فإما أنهم فشلوا في إقامة “تسلسل هرمي واضح ومتكامل للقيم” أو أنهم قد اختاروا واحدا لا يفي بحاجاتهم النفسية الحقيقية بطريقة ملائمة والنتيجة لذلك هي وجود احتمال ضئيل للنمو والتحقيق الذاتي.

إن علماء النفس في العصر الحديث يدركون أيضا أن مشاعر الذنب، والقلق والشك التي غالبا ما يشكو منها مريض الاضطراب العصبي، دائما ما تكون نتيجة لإصدار الأحكام الأخلاقية التي تتضمن صراعا أخلاقيا، إذ الكثير من الناس بصفة عامة لا يعرفون ما هو الصواب والخطأ، ويعد التباسهم الأخلاقي إلى جانب الاضطرابات العقلية التي يسببها دليلا واضحا على أن وجود نظام متكامل من القيم الأخلاقية يعد متطلبا أساسيا للاستمرار النفسي.

وليس ثمة شخص عاقل يستطيع أن ينكر حقيقة أن جميع الناس يرتبطون بالحضارة التي نشئوا بها، ومن ثم فإنهم يستطيعون تفسير الحقيقة فقط من وجهة نظر محدودة.

إن جميع الناس يرتبطون بالزمان والمكان، ولذلك فإن لديهم رؤية إدراكية محدودة ومقدرة تقييمية ناقصة. ولذلك، يؤكد الإسلام طبقا لما نعرفه عن قصور الإنسان الإدراكي والتقييمي، أن الله في حكمته المطلقة وقدرته الكلية هو الكيان الوحيد القادر على تفسير الحقيقة بطريقة مطلقة وتامة.

وتبعا لذلك، يصر الإسلام على أن الإنسان غير قادر على تكوين دين موضوعي ونظام من القيم مصاحب له يكون متحررا من ميوله واهتماماته الشخصية وتأثره بالحضارة. ويقول القرآن عند هذه النقطة: “قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم”. (القرآن 49: 16).

ومن ثم، فإن إجابة المسلم المؤكدة على السؤال الشائع: من ذا الذي يقرر ما هو الشيء النافع وغير النافع، والصواب، والخطأ، والأخلاقي والآثم؟ سوف تقول “الله”.. ولا أحد غير الله!.

وإن الله برحمته، وبعلمه التام بالاختلافات الفردية، قد قدم للبشرية (عن طريق الوحي) نظاما واضحا من القيم التي تعاون في نمو الفرد من الناحية النفسية وتعايشه السلمي مع غيره من البشر وتلك القيم تعد واضحة، وشاملة، وفوق كل شيء متكاملة للغاية، فالنظام الإسلامي للقيم لديه هدف موحد وهو: صقل “النفس العليا” للإنسان، وإقامة البيئة الاجتماعية التي تسهل تلك الغاية.

وعلى عكس ذلك، فإن النظرية الإنسانية لا تزود الشخص بنظام واضح وموحد من القيم التي سوف ترشده في سعيه لتحقيق الذات، بل إنها تترك جميع التقييم الأخلاقي لاختيار الشخص وميله الشخصي. ويعد كل من غموضها وافتقارها إلى التوضيح شيئا ملحوظا بصفة خاصة في مجال التعامل اليومي. وهكذا فإن النظرية الإنسانية تعد ناقصة.

ولا يزال هناك اختلاف آخر فيما بين النظريتين الإسلامية والإنسانية. فمعظم علماء النفس الإنسانيين يفضلون تجاهل مسألة وجود الله وعلاقة الإنسان معه، وينبع ذلك الاتجاه إما من إلحادهم المجاهر به أو اعتقادهم أن الخالق لديه القليل من القوة أو ليسد لديه أي على الإطلاق بالنسبة للتأثير في مجرى النمو السيكولوجي للإنسان.

ومرة أخرى، فإن الموقف الإسلامي بالنسبة لهذا الموضوع يختلف تماما، ولسنا في حاجة لتأكيد أن المسلم يقبل حقيقة وجود الله وخضوعه له. وسوف نرى فيما بعد أن ذلك الاعتقاد يلعب دورا أساسيا في تكيفه النفسي.

ويكفي أن نقول هنا إن الله يقوم في الحقيقة بالتأثير في وإرشاد النمو السيكولوجي للإنسان. ويوجد سبب وأهمية كبيرة لإشارة الله سبحانه إلى نفسه باعتباره الرب. وطبقا للراغب (الذي يعد بمثابة خبير في مفردات اللغة العربية)، فإن كلمة الرب تشير إلى رعاية الشيء بأسلوب يجعله يحقق حالة بعد أخرى حتى يصل إلى هدفه من الكمال. وتتضمن هذه العبارة معنيين:

(1) الرعاية، والتربية، والتغذية.

(2) التنظيم، التأسيس والإنجاز.

ومن ثم فإن تلك الصفة المتميزة تشرح (بطريقة شاملة) علاقة الله مع الإنسان من ناحية التنمية، وتثبت حبه لخلقه واهتمامه بصحتهم ونموهم.

وأخيرا، يوجد اختلاف رئيسي آخر بين الإسلام والنظرية الإنسانية، فالنظريات الإنسانية تخبرنا بالقليل –لو أنها أخبرتنا بأي شيء- عن الغرض من الوجود الإنساني، وتصاب بالصمت التام عندما يصل الأمر إلى التحدث عن قدر الإنسان بعد الموت.

وبمقتضى ذلك، فإنها ليست ذات صلة بالمسائل الوجودية التي أشرنا إليها فيما سبق والتي من المحتم على الإنسان أن يواجهها. (وتتمثل تلك المسائل في الوجود، والهدف، والاتجاه والقدر). ومن الناحية الأخرى، نجد أن الإسلام قد قدم لنا إجابات متسقة وواضحة لتلك الأسئلة.

وبتلخيص وجهة نظر الإسلام، فإن النفس قد خلقت بواسطة الله. وإن لديها هدفا وسببا محددا للوجود، ويعبر القرآن عن ذلك الهدف فيما يلي: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (القرآن، 51- 56). وهكذا، بمقتضى طبيعة تلك الحقيقة، فإن النفس تستطيع “التحقق” الذاتي التام فقط من خلال تقديم “الأشكال المختلفة من) “العبادة” إلى الخالق.

وفيما يلي، سوف أناقش مفهوم العبادة بالتفصيل، وأبرهن كيف أنها تمنح الشخص شعورا بالذاتية، والهدف، وأيضا تزوده بالقوة الدافعة للتوصل إلى التحقيق الذاتي والشعور الإنساني التام.

د- بعض الأوجه الوظيفية للعبادة:

من المؤكد أن الكلمة العربية “عبادة” تعد كلمة شاملة للغاية، وليس لها مرادف منفرد في الإنجليزية، التي تتضمن بدلا من ذلك مفاهيم مثل التبجيل، والخدمة، والطاعة، والخضوع. ولكن الفعل “عبد” (الذي يشكل أصل هذه الكلمة) يعطي معنيين، وهما الخدمة والعبادة. وسوف أناقش العبادة وأهميتها بالنسبة للنمو النفسي في هذا الإطار.

إننا (نحن المسلمون) قد قبلنا حقيقة أننا قد خلقنا من أجل الهدف المعروف الذي يتمثل في خدمة الله وعبادته. ولكن كيف نخدم ونعبد خالقنا؟ أي نوع من القيم، والاتجاهات، والسلوك يصاحب ذلك الواجب النهائي؟ إننا نعلم جميعا أن الله عليم وقوي، وعظيم، ونحن نفهم أن الله متحرر من جميع الحاجات وإليه يرجع جميع التسبيح، ومن ثم فهو لا يعتمد (إطلاقا) على أي من أفكارنا، أو أفعالنا أو خدماتنا. وفي حين أننا نقر أن الله جدير بعبادتنا، فإننا لا نفهم جيدا كيف ينتظر منا أن نقدم له الخدمات.

لعل من الواضح أن الطريق الوحيد الذي يستطيع الفرد فيه حقيقة أن يقوم بخدمة الله يتمثل في خدمته للإنسانية، وتعني خدمة الإنسانية أن يكون الشخص مهتما وإيجابيا بالنسبة لتحسين أحوال البشر، وتستلزم هذه الخدمة أن يكون الإحساس حساسا ومستجيبا للحاجات المادية والروحية للآخرين، مكرسا وقته، وجهده، وموارده للمعاونة في حل المشاكل الخاصة بمعاناة البشرية، والفساد، والظلم، ولقد تم تأييد وجهة النظر هذه في الكثير من الآيات القرآنية، وفيما يلي بعض منها:

“كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” (القرآن 3: 110).

“وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة. أو مسكينا ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة. أولئك أصحاب الميمنة” (القرآن 90: 12-18).

ومن دراسة حياة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فإننا نلاحظ أنه كان بدون شك يملك ذلك الفهم بالنسبة للعبادة. ولقد تمثلت تلك الحقيقة في اهتمامه المستمر وانغماسه في الإيفاء بحاجات عائلته، واليتامى، والأرامل، والفقراء المظلومين (حتى قبل رسالته النبوية)، وهذا بالتأكيد يعد واحدا من الأسباب الرئيسية لنزول الآية القرآنية: “وإنك لعلى خلق عظيم” (القرآن 68: 4).

والآن فلنر كيف يعاون الواجب الإسلامي للعبادة في النمو النفسي. لقد عرفنا الشخصية في أوائل تلك الدراسة باعتبارها “ذلك النمط المتماسك من الأفكار، الصفات، والسلوك الذي يمنح عصرا من الوحدة، والاستمرار، والثبات لتصرفات الإنسان”.

وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن نضع في أذهاننا أن الشخصية تعد مفهوما اجتماعيا. ولقد ذكر ألفريد أدر “أن الشخصية تعد بمثابة اتجاه نفسي، وإنها تمثل خاصية وطبيعة اتجاه الشخص بالنسبة للبيئة التي يعيش بها”.

ولذلك، عندما نتحدث عن سمة شخصية، فإننا نعني وصف كيفية اتصال الشخص بهؤلاء الذين يعيشون من حوله. وليس ثمة مبالغة أن نقول إن القدرة على الحب هي أهم سمة من سمات شخصية الإنسان. وإن ما أعنيه بالحب هو “الاهتمام الإيجابي بحياة ونمو من نحب”.

وتعد مقدرة الشخص على التعبير عن الحب ذات أهمية اجتماعية واضحة، وإن الشخص من خلال تعبيره عن الحب يحصل بطريقة تبادلية على الكثير من الفوائد النفسية.

إننا نعرف أن “النفس” تتطور من خلال عملية تكيف الفرد في المجتمع، وعندما يتعامل الشخص مع الآخرين، فإنه يبتدئ في تكوين (أو كبح) قدرات كامنة داخلية معينة تتعلق بوجوده، ويستطيع من خلال علاقاته الاجتماعية الكثيرة، أن يوسع أو يقيد “النفس” الناشئة ولو أنه فشل في التعبير عن (أو استقبال) الحب وأوجهه العديدة (مثل الشفقة، والشعور الوجداني والمحبة، الخ) فإن مسيرة تحقيق الذات سوف تصاب بالشلل التام.

ومقدرة الإنسان للتعبير عن الحب تتوقف على تغلبه على الأنوية الطفولية (أو النرجسية)؛ فالشخص النرجسي يميل إلى اعتبار أن الحقيقة هي فقط ما يوجد داخل ذاته، وتعد الأنانية أكثر سمات شخصيته وضوحا. وهو يهتم اهتماما فعالا فقط بتلك الظواهر التي تفيد أو تعوق سعادته، وفي علاقاته الاجتماعية، من الممكن أن نراه يقوم بالعطاء، ولكننا يجب أن نتأكد من أنه يأخذ بمقدار ما يعطي. وتبعا لذلك نستطيع أن نكتشف اتجاها أنويا ثابتا ومحجوبا في ذلك الحب الزائف “وخدمة الآخرين” تلك.

وعلى عكس ذلك، فمن الممكن أن نتوقع من الشخص الذي يتجه اتجاها إسلاميا أن يتعامل مع بيئته بطريقة أكثر إثمارا، فالمسلم يدرك أنه ليس بمثابة محور الكون، وأن غرضه وهدفه النهائي في الحياة هو إرضاء الخالق وذلك من خلال عبادته بالطريقة التي ذكرناها.

وبالاختلاف عن الشخص النرجسي، فإن العلاقات الاجتماعية بالنسبة للمسلم ليس من الضروري أن تؤدي إلى تحقيق “كسب شخصي”، وهو لا ينشد أشياء مثل التفوق والإخضاع التي تسيطر على حياة الآخرين، بل إنه يفهم أن خلاصه الشخصي من الخطيئة يتوقف على إخلاصه في عبادته وخاصية ومقدار أفعاله الحميدة وخدماته الإنسانية.

ومن ثم نستطيع أن نرى أن التزامه بالعبادة يحثه على فعل الأفعال الحميدة، وأن قيامه بمثل تلك الأفعال يخدم الغرض النفسي بتعليمه كيف يحب، وعندما يكتسب المهارة في هذا الفن، فإنه يكون قادرا على خلق وإطلاق العنان لرغبة الحب التي قد تكون مستترة في الآخرين، وبالإضافة إلى ذلك، فإن القيام بالأفعال الحميدة يمكن الشخص من الإحساس المستمر بأفضل النواحي في نفسه، ومن إثبات قيمته الشخصية، وفوق كل شيء من تنمية شخصيته وتهذيبها.

وعندما يفعل المسلم ذلك، ويسعى إلى محاكاة شخصية النبي محمد (عليه السلام) من خلال إيفائه بالتزاماته الاجتماعية طبقا للقرآن، فإنه سوف يتمكن بصفة تدريجية من إسقاط أنويته، وتنمية الصفات الإنسانية الخالصة وتحقيق الصحة النفسية المعيارية.

والمسلم يجب أن يدرك تماما أنه عندما لا يكون ثمة اهتمام إيجابي بالآخرين، فإنه ليس ثمة حب حقيقي، وعندما لا يكون ثمة حب حقيقي، فإنه ليس ثمة “عبادة”، وعندما لا يكون ثمة عبادة، فإنه ليس ثمة إسلام!!!

ونستنتج من ذلك أن الاتجاه الإسلامي هو واحد تنتظم فيه جميع أوجه الحياة بطريقة ذات معنى، وأن هدفه الوحيد (أي العبادة) يشمل جميع مجالات الحياة ويتخلل جميع الاتجاهات والنشاطات الإنسانية (الأسرية، والاقتصادية، والسياسية، الخ).

ومن ثم فإنه يؤدي إلى تكامل وتعظيم الحياة بأكملها. وهو يعطي للشخص نظرة موحدة، وناضجة، وإنسانية ويمنحه هدفا في الحياة. ولذلك فإننا نستطيع عن حق أن نؤكد أن الإسلام يستخرج من الإنسان أفضل ما به بطريقة ليس لها مثيل.

هـ- الشرك: مناقض الإيمان الحقيقي:

لقد وصفنا النمو النفسي باختصار باعتباره عملية من عمليات “التحقيق الذاتي”، ولقد ذكرنا أن شخصية الإنسان تظهر عندما يكتسب الشخص هوية، ويعتنق “اتجاها دينيا” معينا ونظاما من القيم. ولقد أشرنا إلى الموقف الإسلامي حيث يستطيع الشخص أن يجد في الوحي الإلهي جميع الإجابات الصحيحة للأسئلة الغيبية الأساسية في الحياة، والإيضاحات الدقيقة للقيم، ويجد في العبادة التي تعد هدفه الرئيسي معنى وتوجيها.

وأخيرا، لقد شرحنا كيف تؤدي الاتجاهات والسلوك التي تنتج عن واجب العبادة إلى تسهيل النمو النفسي. ومن ثم يبدو من المرجح إن جميع المسلمين سوف يحوزون على درجة عالية من التحقيق الذاتي، ويظهرون شخصية إنسانية حقيقية، ويتمتعون بصحة نفسية لا مثيل لها.

وفي الواقع، ليس ثمة شيء بعيد على الحقيقة! إنها تحثنا على أن يكون لدينا من الأمانة والنضج ما يكفي لأن نميز المغالاة وعدم الصدق من الحقيقة. والمسلم الذي نصفه يعد “النموذج المثالي”. فإنه لا يبدي بالضرورة ما نحن (أعني المسلمين المعاصرين) عليه في واقع الأمر، ولكنه يمثل ما يمكن أن نكون جميعا عليه وما يجب أن نكون.

إن “النفس”، التي نتحدث عنها ليست شيئا ثابتا أو ساكنا، وإن أفضل تعبير عنها هو أنها “نهر متدفق من التغيير” فهي تتغير بمهارة مع كل اختيار يقوم به الشخص بالنسبة لمسار عمل معين.

وعندما لا يكون ثمة نشاط إيجابي مستمر، فإنه ليس ثمة نمو أو توسع “للنفس”. وعندما يكون ثمة نشاط سلبي، تصاب النفس بالضعف والانحطاط. ومن ثم فإن جميع النمو النفسي (حتى بالنسبة للنفس التي تنطبق عليها صفة المسلم) يكون خاضعا لقوة دافعة تقدمية وارتجاعية.

ويتقرر الاتجاه بالطبع بواسطة خاصية ومقدار نشاط الإنسان. إن ما نعنيه هنا هو أن عملية تحقيق الذات تعد قادرة على الارتجاع أو التوقف عند مرحلة معينة من اللانشاط أو الانحراف عن المشيئة الإلهية، ومثل ذلك الانحراف من الممكن أن يحدث إما في المجال الإدراكي أو المجال الخاص بالسلوك، فإن الشخص قد يفشل في تفسير الحقيقة بشكل سليم أو قد يفشل التصرف طبقا لتفسيراته.

وفيما يلي سوف نناقش كم من الناس لديهم شخصيات مشوهة وضيقة بسبب اختيارهم “لأهداف غير ملائمة للعبادة” أو “قيم نهائية” غير ملائمة. وسوف نناقش باختصار الطبيعة النفسية للشرك. أي المناقض التام للدين والإنسانية.

ونحن (المسلمين) لا يجب أن نخدع ونعتقد أنه ليس علينا سوى قبول الإسلام ثم يتوقف الأمر بعد ذلك، فإن الحقيقة هي أن آثار الإسلام تستمر في منعنا من أن نصبح ما كان في الإمكان أن نكون. إن الشرك يغزو قلوب وعقول الناس الذين يفتقرون إلى الإدراك الذاتي ويهملون علاقتهم أو علاقاتهم الصحيحة مع الله ومسئوليتهم أمامه. وبالتحدث عن الطبيعة الغادرة للشرك، ذكر النبي “Shrink In a muslim nation is as (inconspicuous as) the cruping ceeping of the black ant on a black rock in the pitch dark ness of night”

و- طبيعة الشركة وأشكاله العديدة:

العمود الأساسي الذي يدعم صرح الإسلام بأكمله يتمثل في الإيمان بأنه “لا إله إلا الله”. ويعني ذلك أنه ليس ثمة شيء جدير بعبادة الإنسان سوى الإله الحقيقي الواحد، أي الله، والكلمة الإنجليزية “god” حينما تستعمل لإعلان الإيمان تعد ترجمة غير دقيقة للكلمة العربية “إله” التي تحوز على معنى أكثر شمولا. إن الإله ليس في حاجة لأن يكون صورة معينة مغروسة في الذهن أو بمثابة إله مخترع سماوي وخارق للطبيعة تم اختياره للعبادة، فالإله من الممكن أن يكون (من بين أشياء أخرى) الاهتمام الأساسي للفرد أو شاغله الرئيسي في الحياة، ومن الممكن أيضا أن يكون أي هدف للعبادة أو غرض نهائي يتبعه الشخص إلى حد أنه يحجب الله من حياته، ويصبح غير مهتم بالسبب الحقيقي لوجوده.

وينطبق ذلك على هؤلاء الذين لا يدركون أو لا يتصرفون طبقا للإدراك أن لا “إله إلا الله، فإنهم يعدون مذنبين بالشرك بشكل أو بآخر، ونستطيع أن نرى في شخصيتهم الكثير من النقائص والعوائق التي تقف أمام تحقيق ذاتهم.

ولنأخذ مثلا شخصية الفرد الذي يتخذ من مشاعره ورغباته إلها له، إن القرآن يصفه كما يلي: “أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا” (القرآن 25: 43-44).

ومثل ذلك الشخص لا يدرك أن المشاعر أو الرغبات ليس من الممكن أن تكون أدوات ملائمة للمعرفة أو إرشادات للعمل. ونتيجة لذلك، فإنه كثيرا ما يمجد ويتبع أشياء تقوده إلى دمار. إن أسلوبه الخاص يترك مشاعره لتكون مقياسا له للحكم على تصرفاته، ليس فقط واحد من أعراض الاضطراب العصبي، بل يعد أيضا قاعدة من قواعد الاضطراب العصبي، وسبب فشل ذلك الشخص في تعريض مشاعره ورغباته لانعدام النظر المنطقي والأخلاقي، فإنه غالبا ما يشعر بمشاعر مثل الاكتئاب، والذنب، والخوف، والقلق التي يترك لها العنان لتبدي التعبير في سلوكه.

ولذلك فإن اختيار رغبات الإنسان لتكون إلها يجعل الشخص عبدا “لعقله الباطن” ويؤدي إلى ظهور مجموعة من الصراعات الداخلية، وفي مواجهة هذه الصراعات، فإن الشخص غالبا ما يجد نفسه عاجزا، ومحروما من تلك الأفكار والأفعال التي تؤدي إلى النمو النفسي والإيجابي والإعلاء بطريقة حتمية.

ونصل الآن إلى شكل آخر من أشكال الشرك، حينما يركز الشخص جميع حياته على “أهداف عبادة” تعد غير ملائمة، ويتخذ تلك الأهداف وكأنها آلهة له. واتباعه لتلك الأهداف يمثل الخدمة والعبادة التي يقدمها لها. إن هذا الشخص لا يعبد صورا مطبوعة في الذهن كما فعل أسلافه ذات يوم. فهو يعتبر نفسه أكثر “ثقافة”، فإنه بدلا من ذلك يعبد المكافآت المالية والمنتجات المادية التي لا حصر لها والتي تعد ثمار التكنولوجيا المتقدمة. ويتمثل اهتمامه النهائي في تكديس والحفاظ على ممتلكاته. وهذا الشخص يعد بمثابة عضو مخلص في واحدة من أسرع الديانات نموا في الوقت الحاضر… أي الاستهلاك الحديث.

ويكمن الخطر النفسي هنا في أنه بتركيزه اهتمامه على الحصول على الأشياء، يصبح أقل اهتماما بالوجود. فإن ممتلكاته تمنحه شعورا زائفا بالأهمية الشخصية، فيصبح ضئيل البصيرة وغير مبال بالنقائص في شخصيته. وتبعا لذلك، فإنه لن يدرك حاجته الحقيقية للسمو بنفسه وتوسيع رؤيتها من خلال القيام بالأفعال الحميدة. وهو لن يستطيع إدراك “الفوائد العملية” لطاعته لخالقه.

ويوجد شكل آخر للشرك قد أشرنا إليه فيما سبق. وهو يتعلق باختيار الشخص للمعايير –التي تعد الأساس الذي يقيم عليه أحكامه. ويوجد نوعان من المعايير التي نتحدث عنها. فتوجد معايير إحصائية، أي تلك التي تعد معايير عامة يشترك فيها معظم الناس، وتوجد المعايير الأخلاقية، أي تلك التي تحتوي على قيم جوهرية وشرعية ولكنها ليس من الضروري أن يشترك فيها معظم الناس. وعند التحدث عن التصرفات الإنسانية السوية وغير السوية، يجب أن نقيم التمييز بين النوعين.

إن المعايير الإسلامية تعد معايير أخلاقية، إنها تنبعث من سلطان الله المطلق وتحوي أهمية جوهرية ومرغوبا فيها. ومن المؤكد أن الكثير من الناس لا يقبلون الله باعتباره السلطة النهائية. وهم أيضا لا يقبلون تعليمات الأنبياء باعتبارها مصدر المعايير ومقياس السلوك المعياري.

وبدلا من ذلك فإن معاييرهم تعد إحصائية إلى حد كبير بمقتضى أنها مقامة بواسطة مجموعة من الآخرين ذوي الشأن (الخبراء من البشر) أو أنها مشتقة من المعتقدات والممارسات الخاصة بأغلبية الناس في بيئة اجتماعية معينة.

وعندما يلتزم هؤلاء الناس بالمعايير الإحصائية التي تتعارض مع المعايير الأخلاقية التي أقرها الله، فإنهم يكونون مذنبين بالشرك. وفي عبارة أخرى، عندما يمجدون أوامر السلطة الإنسانية فوق الأمر الإلهي الأساسي، فإنهم سوف يتصرفون بأسلوب غير سوي.

إن صحتهم النفسية (أو سوء صحتهم) تتوقف على صحة الأشخاص الذين يحاكونهم وتتمثل مأساتهم في أن الأشخاص الذين يحوزون على السلطة، مثلهم مثل جميع الأشخاص في المجتمع، كثيرا ما يتصرفون بأسلوب مدمر وغير إنساني على الإطلاق.

ولكن قبول الفرد للسوية الإحصائية يرغمه على الالتزام (الذي قد يتعارض أحيانا مع حكمه الأكثر صحة) وتكون النتيجة هي أنه سرعان ما سوف تتكون لدينا “باثولوجيا من السوية”، أي مجموعة من السمات الشخصية الغير مرغوب فيها التي تسير دون أن تواجه أية تحديات أو أي تغيير لأن الشخص يشترك فيها مع مجموعة من الناس. مثلا، فإن الكثير من الناس الآن يقبلون “سوية” الخداع، والخيانة، واغتراب الشخص عن نفسه وعن الآخرين.

إن الالتزام بالسوية الإحصائية يعد فشلا من ناحية الشخص في القيام بالأفعال الحميدة، بصرف النظر عما تقوم به السلطات الدنيوية أو الأشخاص الآخرون المضللون.

إن ذلك النوع من الشرك منتشر تماما حتى أن الكثير من المحللين الاجتماعيين يقرون بأن معظم الناس يميلون إلى اتباع “الجماعة” بدلا من اتباع الإملاءات الأخلاقية لضميرهم، وإن مثل تلك الطاعة العمياء وذلك الالتزام يؤديان إلى إضعاف شخصياتهم وحرمانهم من الدرجة اللازمة من الاستقلال الذاتي، وإن نصيبهم من أي “اضطراب عصبي جماعي” معين يعد فشلا منهم في تحقيق التكامل الذاتي والصحة النفسية.

وبالتحدث عن خطر قبول السوية الإحصائية، يحذرنا القرآن: “وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون” (القرآن 6: 116).

إن الصفة العامة لجميع تلك الأشكال من الشرك تتمثل في أنها تعوق النمو النفسي للشخص، ويوجد هنا سبب هام لتحريم الله ذلك تماما. فإن الله ليس بإله غيور طبقا للإنجيل، وإن الله لا يريد للإنسان سوى أن يحقق قدراته الكامنة النبيلة ويتفادى احتمالات الفساد. ومن ثم فإن الإنسان هو المستفيد من عبادة الله وخدمته.. ويشرح القرآن: “فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها…” (10: 108).

إن فهم الطبيعة النفسية للشرك يوحي لنا بأنه يتشابه تماما (لو لم يكن متماثلا) الكثير من الأمراض التي نصنفها بطريقة مبهمة في مضمار “الاضطرابات العصبية”.

إن “الاضطراب العصبي في تعريفه المحدد يعني مرض الأعصاب”. ولكننا نعرف جميعا أن ذلك ليس بمرض ذي طبيعة بدنية (مثل ورم المخ). ونحن نميل إلى الاتفاق مع الكثير من علماء النفس في أن الاضطراب العصبي يعد وثيق الصلة “بالاضطرابات الروحية”.

إن مرض الاضطراب العصبي دائما ما يشكو من عدم إيجاده معنى للحياة بصفة عامة. ومن بين أشياء أخرى، فإنه يبدي الشك تجاه القيم والأهداف الصحيحة التي يجب أن ينشدها. إنه يبدي الاكتئاب تجاه الحاضر ولديه القليل من الأمل تجاه المستقبل. وأسوأ شيء، أنه يكون صورة سلبية عن نفسه تشل قدرته لتقديم أي شيء لنفسه أو للآخرين.

ونستطيع أن نلاحظ أوجه تشابه واضحة بين الكثير من الأفراد المصابين “بالاضطراب العصبي” وبين نظرائهم من المشركين. فكلاهما يفتقر إلى الكثير من الصفات الأساسية الخاصة بالشخصية المعيارية (التي ذكرناها فيما سبق).

وكلاهما لديه إطار مشوه من المعرفة، ووجهة نظر وأهداف وأنوية مسيطرة. وكلاهما قد رفض الكثير من المعايير والقيم الإسلامية، وآثر نوعا خاصا من الدين. فهم بعد أن حجبوا الله من حياتهم اتجهوا إلى عبادة “آلهة” وهمية. وهم يعتبرون (في مفهوم فرويد) أنهم يركزون انتباههم على الممتلكات، والمفاهيم الخاطئة سواء كانت مفاهيم شخصية أم شائعة. وبمقتضى ذلك، فإن نموهم النفسي يتوقف ولا يستطيعون التوصل إلى تحقيق ذاتهم.

وعندما ينطبق ذلك الفشل الشخصي بالنسبة لتحقيق الصفات الإنسانية التامة على ملايين من الناس، فإننا نحصل على التدهور والعوز إلى الانسجام الخاص بالمجتمعات الحديثة التي تصاب ببلاء المشاكل النفسية، والسياسية، والاقتصادية التي لا حصر لها. ولكن جميع تلك المشاكل تنبع من فساد النفس الحقيقية للشخص، ويمكن علاجها بإرشاد النفس إلى علاقاتها الصحيحة مع الله.

وقد قال كارل ينح: “لسوء الحظ أن من الواضح تماما أنه لو لم يستطع الشخص أن يحصل على حياة روحية حقيقية جديدة، فإن المجتمع أيضا لن يستطيع ذلك، لأن المجتمع يتكون من مجموع الأفراد الذين هم في حاجة إلى الخلاص”. ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يكون ثمة خلاص كلي للشخص الذي يظل ضحية للشركة، والذي لا يكون قد فهم بالقدر الكافي المبدأ الإسلامي: لا إله إلا الله.

الاستنتاج:

لقد قدمنا دراسة مختصرة عن بعض الخصائص الإيجابية والفعالة الخاصة ببعض من القيم والمثل العليا الإسلامية. ولقد تم تقديم المعلومات في إطار سيكولوجي بغرض التحليل والمناقشة بواسطة جمهور أكاديمي مسلم.

ولكنني أجد نفسي مضطرا لتأكيد أنه ليس المسلم في ذاته هو الذي يحتاج لتلك التفصيلات. فإنه يوجد جمهور غفير من غير العالمين وغير الأكاديميين وغير المسلمين –خارج دوائر المناقشات والمعاملات الأكاديمية- يحتاجون بطريقة مماثلة لأن تصل رسالة الإسلام إلى أسماعهم.

ومن المأساة بل ومن العار أننا لم نتوجه باهتمامنا لتلك المجموعة بطريقة ملائمة. إن معظم الكتابات الأدبية التي قدمها علماؤنا الاجتماعيون قد وجهت لاستهلاك هؤلاء الذين قد قبلوا الإسلام بالفعل، ولفائدة مجتمع فكري ضئيل. وتبعا لذلك، فإن رسالة الإسلام لم تجد طريقها إلى معظم الناس الذين هم في حاجة شديدة إلى تعليماتها.

إن العلماء الاجتماعيين المسلمين يجب أن يملئوا ذلك الفراغ ويجب أن يبتدئوا في استخدام مهاراتهم ومواردهم لتقديم نوع جديد من الأدب الذي سوف يكون أكثر مقبولية وإتاحة أمام ذلك الجمهور العام الكبير، وذلك الأدب يجب بالضرورة أن يحد من استخدامه للاصطلاحات العلمية وفن الخطابة المجرد.

إنه يجب أن يعبر عن إدراك وإحساس بالنسبة لمشاكل الحياة اليومية، ويقدم لها الحلول الإسلامية. إن مثل ذلك الاتجاه سوف يزيد من اهتمام الناس بالإسلام، وسوف يزيد من حثهم على تغيير أنفسهم وتغيير بنيان المجتمع.

وفي نفس الوقت، يجب علينا جميعا أن نستمر في تدعيم معتقداتنا وترسيخ الصفات الإسلامية التي تحدثنا عنها.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر