أبحاث

المسلمون والثورة الإدارية

العدد 31

انه لمن أكثر الأشياء حزنا خلو عصرنا من رجل كالإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية!! أن ظهور مثل هذا الرجل امل من آمالنا في القرن الخامس عشر. فهذا المصلح العبقري مفكر ومجاهد من الطراز النادر… وأكثر ما يحزن أن أكثر الناس لا يفهمونه… وحتى هؤلاء الذين لا يقصرون اطلاقا في تكريمه والاشادة به ونشر فكره… فإنهم – فيما يبدو – يسقطون على فكره العظيم من همود ارادتهم وجزئية تصورهم … الشيء الكثير !!

والمسلمون بعامة من طنجة الى جاكرتا بعامة من طنجة الى جاكرتا – يعمل فيهم عمل السم داء خبيث تسرب إليهم من قرون الانحطاط…

ان هذا الداء الخبيث هو داء ” التخلف الإداري” أو ” البيروقراطية” الإجرائية!!.

أن عقول أكثرهم لا تعرف القيمة العمى لركنين أساسين لا تقوم حضارة الا بهما…

انهما: 1-الانسان                               2-والوقت

وفي رأينا أن الوقت جزء من الحقيقة الإنسانية، فما الانسان الا تلك الأيام التي يقضيها في حركة الزمان على هذا الكوكب الارضي….

لقد فرضت التعقيدات نفسها على الإرادة حتى أصبحت سمة من سمات (العظمة الإدارية) بحيث أصبح ” فن القيود” هو الفن الذي يسيطر على حركة انجاز مصالح الامة.

وإن ” ماء الوجه” أو ” الصبر القاتل” – ودعك من الطرق اللااسلامية – هما الطريق الوحيد لإنجاز المعاملات… لدى أمة قال نبيها صلى الله عليه وسلم: ” لا دين لمن لا عهد له” (رواه أحمد). وقال – كذلك – في أروع قانون انساني اداري: ” لا يبيع في سوقنا الا من تفقه في الدين ” (رواه الترمذي) وود في الأثر: ” أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه” وليس قبل أن يجف ماء وجهه، أو قبل أن يجف دمه !!

وقال نبينا عليه الصلاة والسلام – أيضا-: ” المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة” (1).

وقال كذلك: ” من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والاخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا الى الجنة ….” (2).

والظاهرة الغربية أن تفشي البيروقراطية وعبودية الإجراءات – وهي نوع من عبودية الانسان لأخيه الانسان – مع أنها ظاهرة عامة تنتظم المجتمعات الإسلامية كلها… الا انها مع ذلك تتفاوت في الدرجة – وليس في النوع – من مؤسسة الى مؤسسة، ومن شخص إلى آخر….

والمقياس الذي أشيع – ان صدقا أو كذبا – أنه بمقدار ما يكون في المؤسسة من أتقياء أمناء فضلاء…. يكون عدم المرونة، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات، وتحمل المسئولية في انجاز مصالح الناس، وتسهيل أمورهم، وعدم الوفاء بالمواعيد المحددة!!

ولسنا هنا بصدد تمحيص مدى صحة هذا المقياس الشائع، أو عدم صحته(!!)… لكن – مهما يكن الامر – فإن الدلالة الخطرة المستفادة هنا هي أن طائفة الملتزمين – وهي مناط الامل في مستقبل الامة – ليست على مستوى الإسلام في إدارة الأمور وتيسيرها…

كما انها – من جانب آخر – تعطي صورة يستخدمها أعداء الإسلام، الذين يقارنون بين الأساليب الإجرائية الميسرة-كل التيسير – في بلاد النصارى واليهود!!.

ما قيمة الوزير أو الوكيل أو المدير … إذا كان أمينا، لكنه عاجز ضعيف، تتكدس مصالح الناس على مكتبه دون أن يتخذ القرار المناسب؟!!.

وما قيمة المهندس المعماري الأمين إذا كان ينجز في عام كامل ما ينجزه غيره من المهندسين النصارى، والمسلمين غير الأمناء، في شهر واحد؟

وما قيمة الناشر المسلم ” الأمين ” إذا كان يبع الكتاب بعد خمس سنوات من الاتفاق، ولا يعطيك ما يسمى بحقوق التأليف الا بعد عشر سنوات، وبعد عشرات المحاولات… بينما ينجز الناشر النصراني والناشر المسلم (غير الملتزم) … كل شيء في موعده؟!!

وأين التاجر المسلم الصدوق الأمين الذي:

1-                إذا حدث صدق.

2-                وإذا وعد وفي.

3-                وإذا اوتمن أدى الأمانة !!؟

أين هذا من ” التاجر المسلم المعاصر” الذي أصبحت ” المساومة” مبدأ أساسيا في التعامل الناجح معه… بينما يسود العالم المتقدم كله، مبدأ الأسعار المحدد التي تخضع لنسب ثابتة في الربح؟!!

ونعود الى المصلح المفكر المجاهد ابن تيمية… الرجل الذي يتعطش قرننا الخامس عشر الهجري الي مثله… نعود اليه نستفتيه في هذا الموقف الإسلامي العام من أساليب إدارة مصالح الناس … وفي هذه المعادة الصعبة…. المعادلة التي تضع المتدينين في صف المعوقين، وتضع غيرهم في صف الميسرين الملتزمين… ان الرجل يتكلم، وكأن عالم القرن الثامن الهجري هو عالم القرن الخامس عشر…

يقول الامام بن تيمية في كتابه العظيم ” السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”:

–                     (الفصل الثالث).

–                     (قلة اجتماع الأمانة والقوة في الناس)

–                     ” اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكو اليك جلد الفاجر، وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية، الاصلح بحسبها. فإذا تعين رجلان أحدهما أعم امانة، والأخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضررا فيها، فيقدم في امارة الحروب الرجل القوى الشجاع، وان كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز، وان كان أمينا، كما سئل الامام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه. وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر. وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) ” ان الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر” وروى بأقوام لا خلاق لهم” فاذا لم يكن فاجرا كان أولى بإمارة الحرب مما الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لمن يسد مسده. ولهذا كان النبي (ص) يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم وقال ” ان خالدا سيف سله الله على المشركين”. مع انه أحيانا كان ما يكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى انه – مرة – رفع يديه الي السماء وقال: ” اللهم اني أبرأ اليك مما فعل خالد”. لما أرسلته الى خذيمة فقتلهم. وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك وأنكر عليه بعض من معه من الصحابة حتىوأدهم النبي صلى الله عليه وسلم، وضمن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في امارة الحرب لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل. وكان أبو ذر رضي الله عنه، أصلح منه في الأمانة والصدق ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ” يا أبا ذر إني أراك ضعيفا” واني أحب لك ما أحب لك ما أحب لنفسي ” لا تأمرن على اثنتين” ” ولا تولين مال يتيم” رواه مسلم… نهى أبا ذر عن الامارة والولاية. لأنه رآه ضعيفا مع أنه قد روى ” ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر” وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص، في غزوة ” ذات السلاسل” استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم على من هم أفضل منه. وأمر أسامة بن زيد لأجل ثأر أبيه. ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحته، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والايمان”.

ان هذا النص حري أن يكتب بأظهر مداد وأن يعلق في مكاتب الإداريين وغيرهم من الذين تتعلق أعمالهم بمصالح الناس المالية والاجتماعية والإنسانية الهامة…

ولو أن رجلا غير ابن تيمية قال هذا الكلام لما قبله كثيرون أما وصاحبه ابن تيمية، الرجل الذي أثبت لنفسه مكانة رفيعة في تراثنا وحضارتنا فان أحدا من الناس لا يستطيع أن يطعن فيه!

ان فقيهنا المجدد… صاحب أكبر موسوعة للفتاوى في تاريخنا – فيما نعلم – يفتي المسلمين -في صدق الرائد الذي لا يكذب أهله – بأن التقوى وحدها لا تكفي وليست هي المؤهل الوحيد للقيادة، ولصناعة الحضارة ولتيسير مصالح العباد، ولتحقيق النفع لهم. بل انه ليفتيهم اعتمادا على سلوك النبي صلى الله عليه وسلم أمام حضارة المسلمين عليه الصلاة والسلام – بأن التقوى …ما لم تصحبها قوة فان ضررها لن يكون أكثر من نفعها … بالنسبة للأمة….

–                     ومن منا يرتاب في تقوى ابي ذر؟ …. ذلك العلم الفذ الذي يموت وحده ويعيش وحده!

ولكن هذه التقوى قد تكون غير مصحوبة بقلب قوى، وعقل عملي، ورؤية شاملة متجددة للوقائع المتطورة، وبالتالي – قد تكون آثارها محصورة في إطار صاحبها، لا يستطيع أن تمنح وقفة التغيير المناسبة.

إن تجربة الامة الإسلامية في قرون انحطاطها تؤكد أن من أكبر مظاهر الرقي والسعادة انتظام الجهاز الإداري في الدولة ” بحيث يؤدي غيابه من تأمين العدالة، وتوفير الامن، وردع العدوان، ونشر السلام. وايصال كل ذي حق إلى حقه، وإنما يتم ذلك بأمرين اثنين:

1-                رئاسة حازمة عادلة لا تغفل عن مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء من الموظفين.

2-                وموظفين أكفاء يملؤون وطائفهم بعلمهم وخلقهم وأمانتهم ونشاطهم، فإذا توفر للدولة هذان الامران كان جهازها الإداري من أقوى عوامل الرخاء والعزة لشعبها (3).

إن هؤلاء الموظفين والاداريين مهما علت مكانتهم إنما هم خدم للامة وإن ما يتقاضونه إنما هو من كدح الامة وسعيها. وقد دخل أبو حازم على معاوية وحوله كبار رجال الدولة فقال له: السلام عليك أيها الاجير !! فعجب الحاضرون وقالوا إنما هو امير المؤمنين، فكرر نداءه. ثم التفت الى معاوية وقال له: اعلم يا معاوية أنك أجير لهذه الامة، استأجرك ربك لرعايتها، فإذا أنت أسأتها عاقبك وشدد عقوبتك… ومن المؤسف أن كثيرا من الموظفين ينسون أنهم – كمعاوية!! -، أجراء عند الامة، فترى أحدهم يأتي الى دائرته في الصباح فيأخذ قسطا كبيرا من الوقت في شرب القهوة وقراءة الصحف والتحدث الى زملائه، بينما يكون أصحاب الحاجات وقوفاً على بابه على أحر من الجمر ينتظرون انتهاء المعاملات.

حتى إذا فرغ من ذلك استقبل أصحابه في الدائرة، وقضى معهم وقتا طويلاً في الأحاديث التي لا صلة لها بوظيفته وعمله، فما يكاد يدخل عليه صاحب الحاجة حتى ينتهزه ويقول له: ارجع غداً… إنها كلمة هينة يقولها هذا الموظف لا تكلفه إلا تحريك شفتيه، ولكنها تكلف صاحب الحاجة المسكين كثيراً – فكثيراً ما يكون غريبا عن البلد – فيتكبد نفقه الفندق والطعام وعطلة العمل، عدا عن القلق النفسي الذى يشعر به كل من له حاجة في دوائر الحكومة (4)… فضلا عن أن صاحب المصلحة هذا قد يكون موظفاً في مصلحة أخرى .. ففي حضوره غياب عن عمله وتعطيل لمصالح آخرين…. وتدور العجلة هكذا، دون أن تجد من يوقفها، وينظم حركتها، ويحول دون استمرار هذا النزيف… نزيف العمر الضائع والكرامة المهدرة!! (5).

الهوامش

1-                متفق عليه.

2-                وللحديث بقية (رواه مسلم).

3-                د/ مصطفى السباعي: أخلاقنا الاجتماعية 190 طبع المكتب الإسلامي.

4-                المرجع السابق 194.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر