أبحاث

الجوانب المحاسبية لعلاقة وصور التعاقد بين البنك الإسلامي وأصحاب ودائع الاستثمار

العدد 47

الجوانب المحاسبية للتكييف الفقهي لعلاقة البنك الإسلامي بأصحاب ودائع الاستثمار:

اختلف المعاصرونبخصوص طبيعة وضع البنك بالنسبة لأصحاب الودائع إلى رأيين:

( أ ) أن البنك يعتبر مضارباً بالنسبة لأصحاب الودائع.

( ب ) أن البنك يعتبر وكيلاً عن أصحاب الودائع.

ويتم مناقشة كل منهما كالآتي:

أولاً: اعتبار البنك مضارباً بالوداع:

ويقتضي ذلك استغلال البنك للأموال المقدمة إليه مقابل حصة شائعة من أرباحها – وقد انقسم هذا الرأي إلى اتجاهين:

الأول:

اتجه أصحاب هذا الرأي إلى ضرورة محافظة البنك على وضعه كوسيط يقوم بتجميع المدخرات وإعادة تقديمها مرة أخرى للمجتمع الاقتصادي في صورة مضاربة ويشابه البنك الإسلامي في ذلك وضع البنوك التقليدية.

إذ على البنك أن يحافظ على دوره كوسيط بين مالكي المال والمحتاجين للعمل فيه حتى يحافظ على حقيقة دوره من ناحية ولكي يحقق السلامة المطلوبة باعتباره يعمل في أموال قابلة للرد في المواعيد المعينة من ناحية ثانية، لذلك فيجب أن يبقى الاستثمار المباشر في حدود ما يملكه أو يضمنه باعتباره مقترضاً من أموال دون ما يسلم إليه بصفته مضارباً مشتركاً لغايات الاستثمار[1].

كما أن قيام البنك بالاستثمار المباشر يؤدي إلى منافسته في سوق النشاط الاقتصادي لعملائه من المشاركين وبذلك يكون البنك قد وضع نفسه في موقف حرج ربما يؤدي إلى خسارته خسارة لا يستهان بها نظراً لفقد عملائه الذين سيفاجئون بالبنك الذي يتعاملون معه كوكيل لهم منافساً لهم في مجال الأنشطة المختلفة[2].

الثاني

يؤيد أنصار هذا الرأي قيام البنك الإسلامي بالنشاط الاستثماري المباشر فتعرض الموسوعة توظيف الموارد المتاحة لديه في القنوات الآتية[3]:

  1. إنشاء مشروعات مباشرة.
  2. إنشاء مشروعات بالاشتراك مع الغير.
  3. التمويل بالمشاركة.
  4. التمويل بالمرابحة.
  5. الاتجار المباشر.
  6. بيع السلم.

كما يؤيد كثير من الباحثين التوسع في ابتكار أنواع جديدة من أساليب توظيف الأموال التي لا تتعارض مع القواعد الشرعية المعروفة وتحقق ربحية للبنك ومنفعة اقتصادية للمجتمع وقد قدمت الدراسة الباكستانية أيضاً أنواعاً متعددة منها مثل[4]: رسم خدمة التأجير – المزايدة الاستثمارية – البيع المؤجل الثمن – التمويل على أساس المعدل العادي.

تعليق على الاتجاهين السابقين:

يؤيد واقع نشاط البنوك الإسلامية الاتجاه الثاني، إذ من خلال التجربة العملية للنشاط المصرفي الإسلامي يتبين لنا ما يلي:

  1. عدم إقبال المجتمع التجاري على توظيف الأموال بالمضاربة ويرجع ذلك للأسباب التالية:

‌أ-          أن المضاربة ما تزال أسلوب غير مألوف للمجتمع التجاريالذي ما يزال غير متأكد من جدواه بالنسبة له في النشاط.

‌ب-       أن المضاربة تتطلب لإشراف البنك على النشاط والاطلاع على دفاتره ومستنداته وهذا ما يدفع بكثير من رجال الأعمال لتفضيل التمويل بالفائدة الثابتة خشية اطلاع الغير على أرباحهم وخاصة وأن ذلك ربما ينكشف لمصلحة الضرائب.

‌ج-        أن البنك يتعامل مع المشروعات المضاربة بمنتهى الحذر والتدقيق حتى لا يفقد جزءاً من موارده في عمليات تدليس أو بالخسارة فيمن لا تتوافر فيه الكفاءة لدرجة تدعو كثير من العملاء للتهرب من التعامل معهم وتفضيل تقديم ضمانات عقارية والاقتراض بالفائدة الثابتة.

‌د-         أن معظم أفراد المجتمع لا يدرك حرمة الاقتراض بالربا وإن كان يدرك حرمة أخذ الفوائد الربوية فقط ولذلك فلا يتحرج الكثيرون من الاقتراض بفائدة بنكية متصوراً بأن التحريم يقع فقط على آخذ الربا دون معطيه ولذلك فلم يقبل رجال الأعمال بالقدر المتوقع على التمويل بالمشاركة أو المضاربة بدلاً من الربا.

  1. أن البنك الإسلامي بدأ يتجه نتيجة لما سبق نحو استثمار جزء من الأموال المتاحة لديه في استثمارات مباشرة كأن يكون مضارباً هو نفسه في كثير من المشروعات، كما بدأت بعض البنوك تتجه نحو توظيف أموالها في أنشطة أخرى مثل: بيع سيارات الأجرة والنقل بالتقسيط – التأجير للمعدات الإنتاجية والحاسبات الإلكترونية وخلافه.

وقد بدأت فعلاً أساليب توظيف الأموال تثبت فاعليتها إلى حد كبير حيث أنها تحقق للبنك ربحية معقولة، كما أنها تكفل توظيف الأموال حيث أن تعطيلها يعتبر خسارة كبيرة تؤدي قطعاً إلى خفض ربحية البنك بالقياس بالبنوك التجارية مما يؤدي إلى انكماش نجاح الفكرة.

  1. أن البنك الإسلامي امتداداً أيضاً لتجربته مع المجتمع التجاري قد وجد أنه من الأفضل أن يطور نشاطه باشتراكه في إنشاء مشروعات أو توسيع مشروعات قائمة مثلاً في شكل حصص ثابتة طويلة الأجل أو في شكل أسهم.
  2. أن البنك الإسلامي استخدم أساليب أخرى مشتقة من فقه المعاملات مثل بيع المرابحة وبيع السلم، وقد حقق بيع المرابحة نجاحاً غير متوقع في النشاط المصرفي الإسلامي ومثَّل البنك في هذا البيع دور البائع.

وبذلك تكون الأنشطة السابقة جميعها قد تجاوزت بكثير نطاق المضاربة بالودائع.

ولا يقتصر الأمر على التكييف الشرعي لوضع البنك بالنسبة لأصحاب ودائع الاستثمار بل يتعلق الأمر بكيفية توزيع الأرباح وقياس التكلفة وهي أهم المشكلات المحاسبية الناتجة عن العلاقات الجديدة في البنك الإسلامي.

المشكلات المحاسبية:

إذا كان استحقاق البنك لحصة المضاربة عن العمل بنسبة شائعة من صافي الربح المحقق عن أول نوع وهو المضاربة جائز وهذا ما افترضه د. سامي حمود ونادى بأن تقتصر علاقة البنك على المضاربة وأنها ستكون المحور الأساسي لنشاط البنك، فكيف يمكن تكييف علاقة المضاربة بنشاط المرابحة والتجارة المباشرة بأنواعها؟ ويقوم البنك الإسلامي بهذين النشاطين مباشرة. وكيف يمكن حينئذ قياس وفصل تكلفة كل نشاط وحساب العائد الناتج منه ثم توزيع الربح المتحقق مع تداخل هذه الأنشطة بتكلفتها مع سائر الأنشطة الأخرى الخاصة بالبنك؟

هذا مع العلم بأن المعروف طبقاً لقواعد محاسبة المضاربة الإسلامية أن التكلفة المباشرة للنشاط تحمل على إيراداته، أما تكلفة البنك فهي تخصه، وبذلك فمن الجدل القول بإمكانية قياس تكلفة هذه الأنشطة وفصلها عن سائر عناصر التكلفة الأخرى والتي تعتبر تكلفة ضمنية يجب ألا تحمل على إيراد النشاط الذي يستحق لأصحاب الودائع.

أما بالنسبة للنوع الثالث ويتميز بأنه استثمار طويل الأجل في حصص أو أسهم فهو لا يتصل بحال مع طبيعة علاقة المضاربة، ولكن بالرغم من ذلك فالبنك الإسلامي سوف يقتضي من أصحاب الودائع نسبة شائعة كحصة عمل من مجموع الأرباح المحققة والتي تعتبر عوائد هذه الاستثمارات جزء منها. فهل يجوز استقطاع هذه الحصة مثل المضاربات الفعلية التي ينفذها البنك الإسلامي؟ وما هو الجهد الذي قام به البنك حتى يقتضي هذه النسبة سنوياً إذا كان القرار بالاستثمار في هذه الحصص قد تم أخذه مرة واحدة عند بدء الاستثمار؟

ويرى د. سامي حمود أن تختص هذه الاستثمارات بالأموال المملوكة للمساهمين أو المضمونة، ولكن الواقع حتى الآن اختلاط سائر أموال البنك والودائع واختلاط مجموع الإيرادات المحققة أيضاً في وعاء واحد عند قياس الربح وعند توزيعه.

وربما يفيدنا أيضاً في حل هذه المشكلة:

‌أ-          تخصيص الموارد المتاحة سواء كانت رأس المال أو الودائع، أو العمل على أساس تخصيص ودائع معينة لمشروعات معينة بذاتها يعلن عنها إذا قبل المودع أن تستثمر أمواله بها كانت أرباحها وتكلفتها من هذه الأموال بحيث يكون من اليسير على البنك فصل هذه الأموال وقياس ناتج أنشطتها الفعلية.

‌ب-       إيجاد نظام دقيق للمعلومات المحاسبية يعتمد على قياس التكلفة الفعلية ويستخدم الأساليب العلمية في التنبؤ حتى يمكن تحميل التكلفة الفعلية على الأنشطة المتعلقة بها.

ثانياً: اعتبار البنك وكيلاً عن أصحاب الودائع:

رأى البعض الآخر اعتبار البنك الإسلامي وكيلاً عن أصحاب الودائع ((إذا كان التفويض المعطى للمصرف من عملائه محدوداً وقاصراً على أن يقوم رجال الأعمال الآخرين بتمويل مشروعاتهم والعمل فيها مضاربة مقابل نصيب من الربح فإن المصرف في هذه الحالة يستحق الحصول على الأجر أو العمولة المتفق عليها فيما بينه وبين المودع لأن ما يباشره في هذه الحالة كوكيل – هو من قبيل الأعمال المصرفية الخدمية وليست من قبيل الأعمال المصرفية الاستثمارية))[5] وتؤيد الموسوعة هذا الرأي فيذكر فيها أن ((هذا الرأي الأقرب للعمل المصرفي الاستثماري الإسلامي والمناسب للأدوار التي يقوم بها المصرف الإسلامي))[6].

ومع أن هناك فارقاً جوهرياً بين المعالجة المحاسبية والفقهية لدور البنك كمضارب يستحق جزءاً مشاعاً من الربح ولا يتحمل الخسارة إلا بقدر رأسماله ودوره كوكيل بأجر أو بعمولة سواء تحقق ربح او خسارة، إلا أن الفكرة المطروحة لم تتعدى السطور السابقة.

فإذا تمشينا مع الرأي السابق اتضح لنا ما يلي:

النواحي المحاسبية لاعتبار البنك وكيلاً عن أصحاب الودائع:

يقرر الفقهاء بأن الأصل في الوكالة أنها تبرعية بدون أجر إلا أنه يجوز أخذ أجر عليها استناداً للآية الكريمة في تحديد مصارف الزكاة }للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم…{(التوبة: 60).

والعاملين عليها هم السعاة والجباة الذين كان يبعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم لجباية وتحصيل الزكاة بالتوكيل عنه في ذلك.

ويرى الفقهاء أن التوكيل إن كان بأجر ترددت الوكالة بين كونها اجارة أو جعالة[7].

ولذا يتم التعرض للجوانب المحاسبية لاعتبارها وكالة بأجر ثم بجعل:

( أ ) إذا كانت الوكالة بأجر:

إذا كانت الوكالة باجر فهي تخضع في هذه الحالة للشروط العامة الواجب توافرها في الاجارة، وما يهمنا منها هو معلومية الأجر مسبقاً المستحق للأجير وأنه يثبت في ذمة الموكل بصرق النظر عن ناتج الأعمال، فيشترط الفقهاء أن يكون الأجر معلوماً جنساً وصفةً وقدراً سواء كان في الذمة مثل عشرة دنانير أو معينا مثل الثوب[8].

ويترتب على تطبيق هذه العلاقة في البنك الإسلامي:

  1. ضرورة التعاقد بين اصحاب الودائع والبنك الإسلامي على شرط الوكالة الشرعية بأجر.
  2. الاتفاق مقدماً بين كل من البنك وكل صاحب وديعة استثمار على الأجر المستحق للبنك جنساً وصفةً وقدراً.
  3. يستحق البنك الأجر المعلوم المتفق عليه بغض النظر عن ناتج الأعمال الفعلي أي سواء تحقق ربح أو خسارة.

وتكون المشكلات المحاسبية الناتجة عن هذه العلاقة أعقد من أن يتم وضع حلول ملائمة ومنطقية لها وهي:

  1. صعوبة التعاقد بين البنك وكل مستثمر على حدة بتحديد أجر مناسب للقيام بهذه الوكالة.
  2. صعوبة إيجاد أساس عادل أو مناسب لطريقة تحديد هذا الأجر على كل وديعة مع اعتبار اختلاف حجم الودائع المملوكة لكل عميل واختلاف الفترات الزمنية التي تقضيها كل وديعة لدى البنك.
  3. تحمل أصحاب الودائع الخسارة إن حدثت مع تحمل أجر الوكالة المتفق عليه ويؤدي ذلك إلى استحقاق البنك في ذنة أصحاب الودائع إن تعدت الخسارة حجم الودائع، وهذا ما لا يقبله العرف المصرفي، والذي ربما يؤدي لإلى اهتزاز نجاح النشاط المصرفي الإسلامي.
  4. اختصاص أصحاب الودائع بالأرباح كلها بعد دفع أجر الوكالة.

( ب ) إذا كانت الوكالة بجعل:

يرى الشافعية أن عقد الجعالة هو ((التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم أو مجهول بمعين أو معلوم))[9] كما يؤيدهم المالكية وقد ذهبوا إلى جواز الجعالة على أن العوض لا يستحقه العامل إلا بعد تمام العمل الذي عينه الواعد[10].

كذلك يرى الحنابلة ضرورة ((جعل شئ من المال معلوم كأجرة بالرؤية أو الوصف))[11] ولم يعارض من عقد الجعالة سوى الحنفية الذين لم يجيزوها إلا إذا توافرت فيها شروط الإجارة[12].

وبذلك يكون الجمهور قد اتفق على معلومية الأجر كشرط لصحة الجعالة سواء تم تعيينه قدرا بين الموكل والوكيل أو بمعين بينهما.

وبذلك نرجع للمشكلات المحاسبية المعقدة عند البحث عن أساس مناسب وعملي يمكن للبنك أن يطبقه عند استثماره للودائع ثم كيفية تحميل إيرادات النشاط بهذا الجعل مع اعتبار أن ذلك لا بد أن يتم الاتفاق عليه مقدماً مع صاحب الوديعة وليس في نهاية الفترة المالية عند عمل الحسابات الختامية.

وقد رأى معظم الفقهاء فساد الوكالة في حالة الضرر في تحديد الأجر، ولكن أجاز الحنابلة صورة خاصة مثل ((بع هذه السيارة بثلاثة آلاف وما زاد فهو لك)).

قال الإمام أحمد: ((هل هذا إلا كالمضاربة؟ ووجه الشبه بالمضاربة أنها عين تنمى بالعمل عليها وهو البيع فإذا باع الوكيل الثوب بزائد عما عينه له ولو من غير جنس الثمن فهو له وإلا فلا شئ له كما لو لم يربح مال المضاربة[13].

ولكن منع بقية الفقهاء هذه الصورة لما فيها من الجهالة في الأجر[14]، وحتى لو طبقناها بالرغم من هذا المنع في البنك الإسلامي لوجدنا أنفسنا قد عدنا مرة أخرى للمضاربة التي يتم تحديد عائد العمل فيها بحصة شائعة من الربح.

الجوانب المحاسبية لصور التعاقد على أساس المضاربة الشرعية بين البنك الإسلامي وأصحاب ودائع الاستثمار:

أساس استحقاق البنك الإسلامي لربح المضاربة:

أورد لنا فقه المعاملات حالتين لتفويض المضارب غيره في العمل في المال مضاربة هما:

الأولى: المضاربة بغير إذن رب المال:

((إذا دفع عامل القراض المال لعامل آخر قراضا بغير إذن رب المال فإن حصل تلف أو خسر فالضمان من العامل الأول، وإن حصل ربح فلا شئ للعامل الأول من الربح وإنما الربح للعامل الثاني ورب المال ولا شئ للعامل لأن القراض جُعل لا يستحق إلا بتمام العمل، والعامل الإول لم يعمل فلا ربح له والزائد لرب المال، وإن لم يحصل ربحا فلا ربح للعامل الثاني ولا يلزم العامل بشئ تجاهه))[15].

ويرى الحنابلة أنه ((ليس للمضارب دفع المال إلى آخر مضاربة – نص عليه أحمد في رواية الأثرم[16] كما يؤكد المالكية بأمثلة على ذلك ((إذا اتجر العامل في المال فخسر أو تلف بعضه قبل عمله فدفعه لآخ بلا إذن من ربه فربح فيه فإن رب المال يرجع على الثاني برأسماله وحصته من الربح ويرجع العامل الثاني على الأول بما خصه من الربح الذي أخذه رب المال فإن كان المال 80 وعمل فيه مثل فخسر 40 ثم دفعه لشخص على نصف الربح واتجر فيه فصار مائة فإن رب المال يأخذ منه 80 رأسماله وعشرة ربحه ويأخذ العامل عشرة ويرجع على الأول بعشرين ولا رجوع لرب المال عليه لأن خسره قد جبر[17].

ونستنتج مما سبق أن معظم المذاهب قد اتفقت على أن تسليم المضارب المال لمضارب آخر بدون موافقة رب المال يؤدي إلى اختصاص رب المال والعامل الثاني بالربح دون العامل الأول بالإضافة إلى ضمانه للمال لو تلف أو نقص بالخسارة.

الثانية: إذا أذن رب المال

وهذه الحالة هي التي يمكن على أساسها قياس وضع البنك الإسلامي تجاه أصحاب الودائع، وقد وردت حالة التعاقد في فقه المضاربة على أساس إذن رب المال للمضارب بأن يتصرف في المال بما يراه في مصلحة المضارب أو أن تكون المضاربة مطلقة، أو أن يأذن رب المال صراحة في تفويض المضارب لغيره في الاستثمار.

وقد اجتمع الفقهاء على إمكانية تفويض المضارب لمضارب آخر إن أذن له رب المال في ذلك ولكنهم لم يجيزوا له أحقية في استحقاق الربح حينئذ عند الحنفية كما يلي:

يقول ابن قدامة فيمن دفع المال لمضارب غيره: ((إن أذن له (للعامل) رب المال وإلا فلا، ولرب المال مطالبة من شاء منهما برد المال إن كان كافياً، وإن ربح فهو لصاحبه ولا شئ للمضارب الأول لأنه لم يوجد منه مال ولا عمل، وللعامل الثاني أجره لأنه عمل في مال غيره بعوض فكان له أجر كالمضاربة الفاسدة))[18].

وقال آخرون: ((إن قارض العامل غيره بإذن المالك صح وصار وكيلا في مقارضة (العامل) الثاني ولا يجوز أن يشترط العامل الأول شيئاً من الربح لنفسه فإن فعل فسد القراض الثاني ولعامله أجر المثل على المالك، وإن قارض العامل غيره بغير إذن المالك فهو فاسد))[19] كما يؤكد ذلك أيضاً الفقه الشافعي[20].

أما الفقه الحنفي فهو الذي انفرد باستحقاق العامل الأول للربح إن أذن له رب المال في تفويض العامل لعامل آخر سواه وقد أورد لنا الكاساني حالتين يوضح فيهما كيفية توزيع الأرباح سيتم تناولهما بعد قليل.

ويعلل د. سامي حمود[21] تبرير الفقه الحنفي لربح المضارب الأول في أنه قد استحق الربح بالضمان فقد ورد في الكاسانى أنه قال في الاستدلال على استحقاق الربح بالضمان: ((إن صانعاً تقبل عملاً بأجر ثم لم يعمل بنفسه ولكنه قبله لغيره بأقل من ذلك طاب له الفضل ولا سبب لاستحقاقه الفضل إلا بالضمان))[22].

ولكن حالة الضمان المذكورة لا تنطبق على البنك الإسلامي لعدة أسباب:

  1. أن الضمان قد ورد عن الأجير المشترك في الاجارة فقط ولم يرد في الفقه ما يوجب الضمان في المشاركات والمضاربة من أنواع المشاركات وليست من الاجارات ولذلك فالقياس غير صحيح.
  2. أن ذلك يستوجب بالضرورة ضمان البنك الإسلامي للودائع التي يستثمرها حتى يحق له أن يحصل على نسبة من أرباحها – وهذا ما لم يلق قبولاً من ناحيتين:
  3. الأولى فقهية عن جمهور الباحثين في هذا الموضوع وأهم الآراء التي وردت في هذا الموضوع هو رأي للدكتور غريب الجمال وكذلك الموسوعة، فيرى د.الجمال أنه إذا اعتبر البنك الإسلامي ضامناً فإن وضع الأموال المودعة لديه للاستثمار يقترب كثيراً من وضعها فيما إذا تم إيداعها في المصارف الربوية من حيث اعتبارها في حقيقة الأمر قروضاً وليست ودائع[23].

وقد أضافت الموسوعة لهذا السبب أسباباً أخرى تتعلق بنقاط كثيرة[24].

  1. الثانية مصرفية وتتعلق بالنشاط الفعلي للبنوك الإسلامية إذ توضح الدراسات التطبيقية لشروط التعاقد بين معظم البنوك الإسلامية القائمة بالفعل وبين أصحاب ودائع الاستثمارات هذه الودائع ليست مضمونة على البنك الإسلامي وأن جمهور المودعين لم يشترطوا ولم يتطلبوا مثل هذا الضمان حتى يودعوا أموالهم في البنك الإسلامي.

وبذلك يكون تبرير الربح المستحق للبنك على أساس الضمان غير صحيح ويجب البحث عن أساس آخر.

وقد رجح الباحثون في موضوع آخر من الموسوعة رأي الأحناف في استحقاق الربح والمعروف أنهم قد ذكروا أن استحقاق الربح إما بالمال أو بالعمل أو بالضمان والدليل على ذلك استحقاق الصانع الذي لم يعمل بنفسه للفضل – وهو ما سبق ذكره – وبذلك تذكر الموسوعة ((الأخذ برأي الحنفية، وهو ما نراه صالحاً وملتئماً مع سير العمل الاستثماري الجماعي…))[25].

وبذلك تكون الموسوعة قد عادت مرة أخرى لرأي د.سامي حمود الذي يبرر به ربح البنك أو المضارب الأول على أساس الضمان وهو ما سبق أن تناولناه بالدراسة.

ولكن الواقع أن الكاساني عندما عرض استحقاق المضارب الأول لجزء من الربح المتحقق لم يعلله بالضمان، وهذا ما استشكل على الدكتور سامي حمود، وحتى يمكن أن نستوعب حقيقة وجهة نظره فيجب أن نقوم بدراسة وجهة نظره وتحليله القيم الذي فرق به بين حالتين:

الحالة الأولى: إذا تضمن التعاقد توزيع الربح المحقق من المضاربة بين العامل الأول ورب المال على أساس أن لرب المال حصة من الربح الذي حققته المضاربة ويقول الكاساني في ذلك: ((إذا عمل المضارب وربح فإن كان رب المال قد قال للمضارب الأول ان ما رزق الله تعالى من الربح فهو بيننا نصفان.. ثم دفع المضارب الأول المال إلى غيره مضاربة بالثلث فربح الثاني فثلث جميع الربح للثاني، لأن شرط الأول للثاني قد صح لأنه يملك نصف الربح فكان ثلث جميع الربح بعض ما يستحقه الأول فجاز شرطه للثاني فكان ثلث جميع الربح للثاني ونصفه لرب المال))[26].

لأن الأول لا يملك من نصيب رب المال شيئا فانصرف – إلى نصيبه لا إلى نصيب رب المال فبقي نصيب رب المال على حاله وهو النصف وسدس الربح للمضارب الأول لأنه لم يجعله للثاني فبقى بالعقد الأول.

ويطيب له ذلك لأن عمل المضارب الثاني وقع له فكأنه عمل بنفسه كمن استأجر إنساناً على خياطة ثوب بدرهم فاستأجر أجيراً خاطه بنصف درهم وطاب له الفضل.

أما لو دفع إلى الثاني مضاربة بالنصف فجعل الربح للثاني ونصفه لرب المال ولا شئ للمضارب الأول.. ولو دفعه إليه مضاربة بالثلثين فنصف الربح لرب المال ونصفه للمضارب الثاني ويرجع الثاني على الأول بمثل سدس الربح الذي شرطه له لأن شرط الزيادة لا ينفذ في حق رب المال وهكذا.

وتكون الصياغة الرياضية لتوزيع الربح بين البنك (المضارب الأول) وبين المشروعات (المضارب الثاني) وبين أصحاب الودائع (رب المال) كالآتي:

إذا افترضنا أن ح هي صافي الربح ول 1 هي أرباح المودعين، Δل1 حصة المودعين من الربح، ل2 أرباح البنك، Δل2 حصة البنك في علاقته بالمودعين، Δل3 حصة البنك من الربح مع المشروعات، ل4 أرباح المشروعات المضاربة و Δل4 حصة المشروعات المضاربة فتكون العلاقة كالآتي:

ل1 = ح (1- Δل2)

ل4 = ح (1- Δل3)

ل2 = ح – (ل1 + ل4)

مثال

إذا كان الربح الفعلي لإحدى المشروعات المضاربة 000 400 جنيه وكانت حصة مضاربة البنك مع المودعين 30% وحصته مع المشروعات 50%

إذن يتم توزيع الربح بين الثلاث كالآتي:

أرباح المودعين ل1 = ح ( 1- Δل2)

= 000 400 (1-3,) = 000 280

أرباح المشروعات المضاربة ل4 = ح (1- Δل3)

= 000 400 (1-5,) = 000 200

أرباح البنك ل2 = ح – (ل1+ل4)

=000 400 – (000 280 + 000 200) = 000 80

أي أن البنك يخسر 000 80 جنيه في هذه المضاربة.

الحالة الثانية

إذا تضمن التعاقد توزيع الربح المحقق من المضاربة بين العامل ورب المال على أساس أن لرب المال حصة مما تحقق للمضارب فقط من ربح… يقول الكاسانى:

((أما إذا شرط رب المال لنفسه نصف ما رزق الله تعالى للمضارب أو نصف ربح ما للمضارب فإذا دفع إلى الثاني مضاربة بالثلث كان الذي رزق الله تعالى للمضارب أو نصف ربح ما للمضارب فإذا دفع إلى الثاني مضاربة بالثلث كان الذي رزق الله عز وجل المضارب الأول الثلثين، فكان الثلث للثاني والثلثان بين رب المال وبين المضارب الأول نصفين لكل واحد منهما الثلث، وإذا دفع مضاربة بالنصف كان ما رزق الله تعالى للمضارب الأول النصف فكان النصف للثاني والنصف بينهما نصفين وإذا دفعه مضاربة بالثلثين كان الذي رزق الله تعالى الثلث والثلثان للثاني والثالث بينهما لكل واحد منهما السدس وهكذا))[27].

أي أن الربح يجب أن يوزع في هذه الطريقة على مرحلتين كالآتي:

المرحلة الأولى: ويتم فيها توزيع الربح بين البنك والمشروعات المضاربة كالآتي:

أرباح البنك في المرحلة الأولى ل3 = ح(1- Δل4)

أرباح المشروعات المضاربة ل4 = ح(1- Δل3)

المرحلة الثانية: ويتم فيها توزيع الربح بين البنك وأصحاب الودائع كالآتي

أرباح المودعين ل1 = ل3 – (1- Δل2)

أرباح البنك النهائية ل2 = ل3- ل1

وبتطبيق المعادلات السابقة على بيانات المثال السابق يتضح ما يلي

المرحلة الأولى

أرباح البنك ل3 = 000 400 (1-5,) = 000 200

أرباح المشروعات المضاربة ل4 = 000 400 (1-5,) = 000 200

المرحلة الثانية:

أرباح المودعين ل1 = 000 200 (1-3,) = 000 140

أرباح البنك النهائية ل2 = 000 200 – 000 140 = 000 60

ويتضح مما سبق مدى الاختلاف في نتائج التوزيع طبقاً للطريقتين وأهم ما نتوصل إليه ما يلي:

  1. ثبات نصيب المشروعات المضاربة طبقاً للطريقتين.
  2. زيادة نصيب أصحاب الودائع في الطريقة الأولى عنها في الثانية.
  3. نقص نصيب البنك في الطريقة الأولى عنها في الثانية لدرجة حدوث خسائر

كما نستنتج من استعراض فقه الكاسانى نتيجة أساسية وهي أن استحقاق المضارب الأول للربح أساسه التعاقد فهو ليس حق مطلق كما تصور البعض على أساس الضمان بل هو يستحق بالعقد بينه وبين رب المال من ناحية وبينه وبين المضارب الثاني من ناحية أخرى

فإذا تبينا وجهة نظر الحنفية بهذا الصدد لوجب علينا استبعاد الحالة الأولى من النشاط المصرفي الإسلامي حيث من الصعوبة اشراك أصحاب الودائع في الأرباح الفعلية المحققة بين البنك والمشروعات المضاربة، كما أن ذلك سيؤدي إلى مشكلات محاسبية جديدة أكثر تعقيداً.

أما الحالة الثانية فهي أكثر ملائمة لواقع النشاط المصرفي الإسلامي وعلى هذا يمكن مراعاة الجوانب الآتية:

  1. يجب أن يشمل التعاقد بين البنك وأصحاب الودائع مطلق التصرف في استثمار الودائع وتوظيفها حتى يمكن للبنك أن يدفعها مضاربة لسواه من المشروعات الأخرى.
  2. يستحق البنك في هذه الحالة الفرق في الربح المحقق بين نصيب أصحاب الودائع الاستثمارية – كرب مال – ونصيب المشروعات المشاركة – كمضارب.
  3. تستحق المشروعات المضاربة حصة من الربح الفعلي المتفق عليه مع البنك وهذه الحصة الشائعة تنسب للصافي الفعلي وتعتبر من منظور البنك وأصحاب الودائع تكلفة على أرباح المضاربة يجب أن تخصم أولاً قبل قياس الربح.
  4. تقاس حصة البنك من الأرباح على مرحلتين:

‌أ-          تحديد حصة الربح بين البنك والمشروعات المضاربة وتكون حصة البنك في هذه الحالة منسوبة لصافي الربح المحقق.

‌ب-       تحديد حصة الربح بين البنك وأصحاب الودائع الاستثمارية وتكون حصة البنك في هذه الحالة منسوبة للربح المحقق مطروحاً منه حصة المشروعات المضاربة (المضارب الثاني).

  1. يقاس نصيب أصحاب الودائع بحصة شائعة من الربح بعد استقطاع نصيب مشروعات المضاربة.

فإذا انتقلنا إلى واقع النشاط الفعلي في البنوك الإسلامية لوجدنا أنها غالباً ما تطبق الطريقة الثانية، على الرغم من أن شروط التعاقد بين البنك وأصحاب الودائع تكون إحدى احتمالين:

‌أ-          إما أنها لا توضح شيئاً محدداً بذاته على الإطلاق.

‌ب-       وإما أنها توضح أن توزيع الربح سيكون على أساس ما يرزق الله به تعالى بالنصف أو الثلث… الخ.

وكلا الاحتمالين يستوجبان اتباع الطريقة الأولى وكان ينبغي تحديد طريقة التوزيع في التعاقد نظراً للفرق الكبير في استحقاق كل من البنك وأصحاب الودائع عند تطبيق كل طريقة.

 


[1]د. سامي حمود ((تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة  الإسلامية)) رسالة دكتوراه – حقوق القاهرة سنة 1976.

[2]وقع أحد البنوك الإسلامية في ذلك المأزق مما تسبب عنه خسارة كبيرة بفقده كثير من عملائه من رجال الأعمال.

[3]موسوعة اتحاد البنوك الإسلامية ((الاستثمار)) الاتحاد الدولي ص 194 – 198.

[4]تقرير مجلس الفكر الإسلامي بشأن إلغاء الفائدة من اقتصاديات باكستان سنة 1982 – المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي.

[5]د. غريب الجمال ((المصارف وبيوت التمويل الإسلامية)) دار الشروق – جدة – ص 192 – 193.

[6]موسوعة الاستثمار – مرجع سابق ص 316.

[7]الخرشي ((شرح مختصر خليل)) طبعة 2 – المطبعة الأميرية الكبرى 1317 هـ – ص 86.

[8]الفتوحي الشهير بابن النجار ((منتهى الارادات في جمع المقنع وزيادات)) مكتبة العروبة سنة 1961، ج 2، ص 317. أنظر أيضاً: محمد أحمد الدهمي ((الوكالة في الشريعة الإسلامية)) المطبعة السلفية سنة 1388 هـ، ص 125 – 126.

[9] شمس الدين الرملي ((نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج)) ج 5، ص 462.

[10] ابن جزى القرناطى ((قوانين الحكام الشرعية)). ص 302 – 303.

[11] منصور إدريس البهوتى ((كشاف القناع عن متن القناع)) ج 4، ص 203.

[12] ابن عابدين ((رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار)) ج 4، ص 203.

[13] الدردير ((الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك)) دار المعارف ج 2، ص 269 – 270.

[14] برهان الدين المرغيناني ((الهداية شرح المبتدى)) المطبعة  الخيرية ط 1، ج 3، ص 246.

[15] الدسوقي ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) ص 526.

[16] ابن قدامة ((المغنى)) ج 5، ص 159 – 160.

[17] الخرشى مرجع سابق ص 214.

[18] ابن قدامة مرجع سابق ص 160.

[19] الحسيني ((الروضة الندية شرح الدرر البهية)) دار الطباعة المنيرية ج 5، ص 172.

[20] الرملى ((نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج)) المطبعة البهية ج 4، ص 167.

[21] د. سامي حمود مرجع سابق ص 446 – 447.

[22] الكاسانى ((بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع )) ج 7، ص 3545.

[23] د. الجمال مرجع سابق ص 202.

[24] الموسوعة مرجع سابق ص 317 – 318.

[25] الموسوعة مرجع سابق ص 311 – 312.

[26] الكاسانى مرجع سابق ص 3628.

[27] الكاسانى مرجع سابق ص 3629.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر