أبحاث

الرسول والتفرقة العنصرية (1)

العدد 23

(1) مدخل

هذه الدراسة متابعة لبحث عنوانه “الإسلام والتفرقة العنصرية” سبق أن نشرته للكتاب هيئة اليونسكو (1970 م) في سلسلة عنوانها “التفرقة العنصرية والفكر الحديث” متناولة موقف الديانات والمذاهب الفلسفية الكبرى من هذه المشكلة.

وانتهت في البحث السابق إلى نتائج خلاصتها:

1 – أن الإسلام يدعو إلى العلم والمنهج العلمي. ومن هنا يأتي تقديره لمنجزات العلم في الوحدة الإنسانية، وما يرتبط بها من مقاومة التفرقة العنصرية.

2 – إن الإسلام يعتبر الفرد مسؤولا عن عمله، ولا يبني أية مسؤولية على صفة خارجة عن قدرة الفرد كاللون.

3 – يقيم الإسلام العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية ومكوناتها على أساس الرحمة والاستفادة الطيبة.

4 – يعتبر الإسلام الإنسانية أسرة كبيرة خلقها الله من نفس واحدة، وأن اختلاف الألسنة والألوان فيها مظهر من مظاهر قدرة الله وحكمته.

5 – يعتبر الإسلام الأنبياء أخوة، ويدعونا إلى الاقتداء بهديهم.

6 – يطبق الإسلام قاعدة الإخاء والمساواة عمليا في الحياة.

7 – حياة الرسول صلى الله عليه وسلم نموذج متكامل لهذا الإخاء، وجاءت على هديه مواقف سلفنا الصالحين، والذين اتبعوهم بإحسان.

8 – لم يرجح القرآن لونا على لون. الألوان في الكتاب المبين مظهر لقدرة الله.

9 – ما جاء في القرآن من تفاصل بين الناس، كان بعد توفير فرص متكافئة. (10) لا يرضى الإسلام بتحول مواهب الإفراد أو مواقعهم الاجتماعية إلى مراكز قوة، يجتمعون فيها على أساس اللون أو أي مظهر تمييز آخر، فيضطهدون بقية فئات المجتمع، وينقلون هذا إلى الأجيال التالية، فروقا وأحفادا.

والآن:

– ما مجال الإضافة إلى هذه الأصول والتطبيقات في موضوع التفرقة العنصرية والإسلام؟..

1 – عمليا: كان البحث الأول محدودا بمساحة لا يستطيع أن يتخطاها حتى تكون السلسلة التي يصدرها اليونسكو متوازنة من حيث الطول.

2 – وكان على كل كاتب أن يكتب عن دينه “من الداخل” مبينا موقفه من التفرقة العنصرية. وبهذا استبعدت السلسلة الدراسات المقارنة، وإن جاءت عنها إشارات عابرة لتأكيد إدانة التفرقة العنصرية.

3 – كذلك لم يكن هناك مجال لإبراز الفروق الكبيرة بين ممارسات الحياة الإسلامية التي استطاعت أن تمتص مشكلات التفرقة العنصرية، وبين الإسلامية التي استطاعت أن تمتص مشكلات التفرقة العنصرية، وبين الممارسات العنيفة والظالمة التي شهدها العالم الغربي لا زالت آثارها وقطاعات منها، نابضة بالألم تحاول أن تحطم قيودها لتسعد بالحرية التي لم يحرم منها ربنا طائرا يطير بجناحيه، فضلا عن إكرام مخلوقاته: الإنسان.. ومنه اصطفى الأنبياء والمرسلين وله خلق ما في الأرض جميعا.

4 – ولقد حاول بعض كتاب الغرب – ولا يزال نفر منهم يحاول – تشويه موقف الإسلام من التفرقة العنصرية. ولا يعدمون في طول التاريخ الإسلامي وعرضه أمثلة يؤيدون بها وجود مظاهر للعنصرية في بعض العصور والأقطار الإسلامي ويعتبرون هذا “إسلاما” أو “تطبيقا إسلاميا”. هذا بيت شعر، أو قول لحاكم، أو جملة في حوار، أو تصرف لأحد الولاة، أو ثورة قامت عن أساس عنصري… ويحاولون بتركيز الضغط على هذه الأحداث صرف الأنظار – ولو جزئيا – عن الذروة الرفيعة التي صعدت إليها مبادئ الإسلام بالإنسان، وعن الممارسات المضيئة والإيجابية التي شهدها المجتمع الإسلامي.

أما ما استندوا إليه من ممارسات فهي توزن بميزان الإسلام الصحيح: يدينها إذا صدرت عن مسلم أو غير مسلم. فحسن إسلام المرء يقاس بمدى إيمانه بالإسلام عقيدة، وتطبيقه في الحياة سلوكيا.

هذا الموضوع – وأعني به شبهات بعض المستشرقين – يحتاج بدوره إلى وقفة مراجعة وتصحيح لمنهجه وتطبيقه.

5 – وسيقتصر هذا البحث على الدراسة المقارنة مع الديانات الكبرى مع العناية بالجانب التطبيقي الذي تبدو به مكانة الرسول أو المعلم. وهنا يأتي سؤال أول:

– ما علاقة زمان ومكان الرسالة بموضوع الدراسة؟.

(2) رسول من أنفسكم

وتتعدد المدارس الفكرية التي تتناول الجزيرة العربية قبيل ظهور الإسلام ويبرز فيها اتجاهات رئيسيان:

يحاول الأول أن يؤكد المستوى الخفيض الذي كانت تعيش فيه الجزيرة:

أمية وعادات سيئة، وحروبا قبلية طاحنة وثارات، ووأد بنات، وعبادة أوثان. كأن الإسلام جاء ليحيل أدنى البيئات إلى أرقى مستويات التقدم.

– ويحاول الثاني أن يبرز مقومات هذه البيئة – على أساس مقارن – ليبين لماذا كانت أنسب البيئات وقتئذ لظهور الإسلام.

المكان

ومع ما يبدو من تعارض ظاهري بين الاتجاهين: تهوينا من شأن هذه البيئة أو إبراز لمقوماتها، فإن البحث الموضوعي يبرز لهذه البيئة – عند ظهور الإسلام مقومات لم تكن متوفرة في غيرها من بيئات العالم القديم، وإن كانت لها – كأي بيئة أخرى – مشكلاتها التي ينبغي عليها أن تقابلها. ولما جاء الإسلام أفاد من مقومات هذه البيئة ليتغلب على مشكلاتها، وليحمل هديه الله إلى العالم من حولها.

من حيث الموقع: كانت الجزيرة العربية متوسطة بين قارات العالم القديم. كانت مفتوحة على أفريقيا من الجنوب الغربي والغرب والشمال الغربي، ولها بها صلات برية وبحرية عبر سيناء والبحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن وبحر العرب. وظلت هذه الصلات قائمة عبر التاريخ.

وكانت على صلة بأرض الروم في ديار الشام – وقتئذ – وما وراءها في الغرب والشمال الغربي.

وكانت على صلة بأرض فارس وما وراءها برا وبحرا إلى قلب آسيا واقطارها… الموسمية في الجنوب والشرق.

وانعكس هذا على علاقات السلالات البشرية فيها.. فكانت من أنسب الأماكن وقتئذ، عن لم تكن أنسبها جميعا للقاء السلمى والتعايش بين البشر… كانت أيضا وسطا من حيث المكان، نزلت فيها رسالة أخرجت أمة وسطا من حيث المكان، نزلت فيها رسالة أخرجت أمة وسطا من حيث المبادئ والتطبيق… (والوسط المقصود هنا هو الأفضل والأرفع المصون عن الإفراط والتفريط).

لم تكن منطقة تراكم كالهند إذا دخلتها الحضارات تجمعت فيها وتدافعت ولا تجد لها من الجنوب منفذا، فالهند من الجنوب طريق مغلق. ولم تكن الجزيرة منطقة نائية كالشرق الأقصى أو جنوب أفريقية أو غرب أوروبا.

كذلك لم تكن منطقة رعوية عنيفة مائجة بالصراعات كقلب آسيا..

الزمان:

وكانت مبرأة من القهر السياسي والترف الحضاري الذي تعيش فيه وقتئذ أقوى قوتين عالميتين: دولتا الفرص والروم.

كانت أنسب مناطق الحرية في العالم، فضلا عن حرمة البيت العتيق، أول بيت وضع للناس…

وعند قيام الإسلام كانت الصراعات في هذه المنطقة الوسطى قد أنهكت قوى الفرس والروم، وتطلعت النفوس إلى دورة جديدة من دورات الحياة يقودها النبي الأمي (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف: 157].

الإنسان:

ويأتي المصطفى – صلى الله عليه وسلم – من بيت إبراهيم وذرية إسماعيل:

نشأ إبراهيم في العراق، وهاجر منها إلى ديار الشام، ثم إلى مصر وهي موطن زوجه هاجر أم إسماعيل… وعاش في الحجاز وتزوج إسماعيل من جرهم المهاجرة من اليمن… فجاء بيته صورة حية للقاء بين هذه الأقطار جميعا… ورفع إسماعيل مع أبيه القواعد من البيت ليكون مثابة للناس وأمنا… وفي هذا الجو التاريخي والمكاني، وعلى حين فترة من الرسل، جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وتعودت عينة من طفولته، كما تعود قومه من حوله في أن يروا أناسا تختلف ألسنتهم وألوانهم، تجمعهم رحاب مكة، ويفد إليها الحجيج في الأشهر الحرام، يعيشون إخاء إنسانيا وسماحة هي من ميراث إبراهيم عليه السلام.

ووثقت قريش روابط الجزيرة برحلة الشتاء والصيف، وامتدت آفاق الرحلات إلى مناطق الاستقرار حولها، واتسعت دوائرها وتعددت وسائلها، وغن كان شريانها الأساسي طريق التجارة بين اليمن والشام.

مثل هذه الظروف المكانية والزمانية والإنسانية، تفتح الطريق إمام سماحة أشمل، هي عودة إلى المنابع الأصلية التي أرتوت منها مكة… منابع وصفها الله بقوله في كتابه (وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير). [الحج: 87]

(3) ألم يجدك يتيما فآوى؟

هناك جانب من طفولة المصطفى صلى الله عليه وسلم يمس موضوع التفرقة العنصرية:

كانت أم أيمن بركة الحبشية جارية في بيت عبد الله بن عبد المطلب. وبقيت في البيت بعد وفاته في صحبة آمنة بنت وهب. وكان من صنع الله أن حضرت ولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم وكانت دايته. وهي التي بشرت به نشهد طفولته المباركة. وعندما سافرت آمنة إلى المدينة – والنبي صلى الله عليه وسلم في الساسة من عمره – لزيارة أخواله ومثوى عبد الله، وكانت أم أيمن في صحبتها، ويذكر المصطفى صلى الله عليه هذه الأيام وما مارس فيها وتعلم من أنواع الرياضة كالسباحة وفي طريق العودة إلى مكة مرضت آمنة…

وكما شهدت أم أيمن ميلاد المصطفى شهدت معه وداع آمنة، وأودعاها مثواها في الأبواء.. ذهبوا إلى المدينة ثلاثة وعادوا اثنين…

أحيانا يقترن في ذهني مشهدان: مشهد الرسول وطفولته وهو يودع أمه، في صحبة أم أيمن رضي الله عنها… هي الحاضنة والأم بعد الأم، والرفيقة في السفر، والشريكة في الألم… ومشهد الرسول ثاني اثنين إذ هما في الغار، ومن حوله الأعداء وفي قلبه الإيمان، وفي رفقته الصاحب الأمين، وسكينة الله تتنزل، وجنود الله تؤيد.

أذكر الصحراء على اتساعها، وحفز في الأرض تثوي فيها آمنة بنت وهب في الأبواء. والمصطفى وأم بركة يحملان الحزن الكبير… وما يكاد يسعد برؤية أخواله في المدينة حتى يفقد أمه… وهذه الصالحة الطيبة رفيقته في رحلة العودة… أذكر دخوله مكة حزينا مع أم بركة وخروجه مهاجرا حزينا مع أبي بكر، وصوت الحق يعده بالعودة إليها.. (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) [القصص: 85].

كان من صنع الله أن يرى المصطفى صلى الله عليه وسلم في طفولته من هذه الحاضنة الحبشية آيات من الحب والمودة، تبرز حقيقة الجوهر الإنساني في أرفع صورها.. حقيقة ترتفع فوق فروق اللون ودعوى العنصرية إلى حيث الإنسان كرامة وإخاء ومرحمة..

وكان من صنع الله أن تكون طفولة المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيت تلتقي فيه الأجناس كما كان في بيئة كرمها الله بالبيت العتيق ومن حوله يطوف الناس لا فرق بين ألوان وأجناس..

ولقد ظلت أم أيمن قريبة من المصطفى. ورغبة في توثيق رباطها بالبيت النبوي زوجها من زيد بن حارثة، ومنها أنجب ولده أسامة، وأكرم الله الزوج والابن بالشهادة في سبيل الله. رضي الله عنهم أجمعين.

وتعيش أم أيمن على الإيمان، وتطول أيامها فتشد رحيل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. ويدخل عليها أبو بكر وعمر رضي الله عنه بعد الرحيل وهي تبكين فقالا: يا أم أيمن ما يبكيك؟ فما عند الله خير لرسوله. قالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، وإنما أبكي لانقطاع خبر السماء… فهيجتها على البكاء فبكيا…

وفي فصل موجز عقده الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد لمرضات الرسول صلى الله عليه وسلم وحواضنه، تحس هذا الصنع الإلهي في حياته… وكيف نلتقي حول هذه الطفولة: البادية والحضر، والأشراف والموالي، من نشأوا في الجزيرة العربية ومن وفدوا غليها من أفريقية.. يقول الأمام “فصل في أمهاته صلى الله عليه وسلم اللاتي أرضعته: فمنهن ثويبة مولاة أبي لهب أرضعته أياما وأرضعت معه أبا سلمة المخزومي بلبن أبنها مسروح وأرضعت معهما عمه حمزة بن عبد المطلب.. ثم ارضعته حليمة السعدية بلبن ابنها عبد الله… ويقول على حواضنه صلى الله عليه وسلم: فمنهن أمه آمنة بنت وهب، وثويبة وحليمة والشيماء ابنتها وهي أخته من الرضاعة.. ومنهن الفاضلة الجليلة أم أيمن بركة الحبشية.

(4) أول الوحي.. والإنسان

وأول الوحي نزولا… كان خطابا للرسول والإنسان… كل الإنسان. جاءه الروح الأمين يحمل آيات الله (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) [العلق: 1 – 5].

وتحس لأول وهلة جوانب التكريم من الله للإنسان: فإليه ارسل رسوله.

ويصف الله ذاته المقدسة بالربوبية والكرم والعلم. وتبين الآية للإنسان رحلتين: رحلة الخلق، من العلق حتى يستوي بشرا سويا، ورحلة العلم موضحة أهم أداواته وهي القلم، ثم مساره المستمر في قوله تعالى (علم الإنسان ما لم يعلم).

وتأتي الآيات التالية – وإن كانت متأخرة في نزولها عما قبلها – تحذر الإنسان من الطغيان إذا أحسن في نفسه الاستغناء: الطغيان بالمال. بالعلم.. بالعصبية… (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغني). ولنتأمل قوله تعالى: (أن رآه…) أن رأى أنه استغنى. ففي الحقيقة لا يستغني إنسان عن ربه، ولا إنسان عن إنسان. نحن أمام الله عباده ومع الناس أخوة.

والعنصرية صورة من صور الطغيان. ويضع ربنا بعدها الميزان بقوله: (إن إلى ربك الرجعى). الجميع: المؤمنون والفاسقون. الظالمون والمظلومون… الجبارون والمستضعفون..”. (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا. لقد أحصاهم وعدهم عدا. وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) [مريم: 93 – 95].

بهذا المنطق الرباني الإنساني بدأت الدعوة الإسلامية مسيرتها. واستجابت لها قلوب مؤمنة، لها مواقعها في كل قطاعات المجتمع المكي، وانتشرت دوائرها بعد هذا، دون أن تتقيد بوضع طبقي أو لوني قوة اجتماعية.

(5) أول المؤمنين

ولقد أطال بعض المستشرقين القول في أن أول المؤمنين كانوا في الضعفاء والمستضعفين، وحاولوا الربط بينها وبين ثورات العبيد في الإمبراطورية الرومانية وحاولوا، من بعد – تشبيهها بحركات الجماعات أو القطاعات المقهورة في المجتمع وربطوا هذا بأسباب اجتماعية أو اقتصادية… ولا زلنا نجد حديثا عن فقر الجزيرة العربية وغني ما حولها وقت الرسالة، وإن هذا دفع العرب دفعا اقتصاديا من الأرض الصفراء إلى الأرض الخضراء.. وسار على هذا الخط الفكري نفر من كتابا لمسلمين وسنحاول مس الموضوع من حيث ارتباطه بالتفرقة العنصرية.

كان من أول المؤمنين رجال كأبي بكر وعبد الرحمن بن عوف. وفتية كعلي ابن أبي طالب. ونساء كخديجة بنت خويلد وأم أيمن بركة الحبشية وأسر كاملة برجالها ونسائها وشبابها كآل ياسر. كان فيهم الأغنياء كابي بكر وعبد الرحمن بن عوف… والفقراء كآل ياسر. وفيهم الأحرار والأشراف من ذؤابة قريش كعلي ابن أبي طالب وجعفر بن أبي طالب، وفيهم الأرقاء والمستضعفون كبلال بن رباح والنهدية وزنيرة. كان فيهم العرب وفيهم الحبش.

ولا نستطيع – موضوعيا – أن نربط هذه الجماعة المؤمنة الأولى بأي قطاع محدد من قطاعات المجتمع المكي.

نعم، لقد حاربها بعض الأغنياء من سادة مكة ورأوا فيها تهديدا لأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية ومكانتهم بين العرب.. ولكن لم يكن كل سادة قريش على كلمة سواء في هذا. قريش ذاتها انقسمت بين مؤمن وكافر. بيوتها انقسمت. في العهد المكي كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان على الأيمان وتحملت أعباء الهجرة إلى الحبشة، وكان أبوها وقتئذ على الكفر وحرب الإسلام.

فموازين الفقر والغنى والتحليل الاقتصادي لا تستطيع أن تقدم تفسيرا موضوعيا مقبولا لتكون المجتمع الإسلامي في مكة.

هل معنى هذا إلغاء تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية جميعا؟ لا. ولكن كان المسلمون ينظرون إليها من خلال الإسلام. كان الدين عدلا وإخاء، وكرامة إنسانية تخرج الناس من عبادة الأوثان وبطش الطغاة ومنكر القول والعمل إلى عبادة الله والمرحمة. والإسلام فطرة. والحق يخاطب القلب دون حجاب. بل أنه ليخترق هذا الحجاب ليصل في القلب إلى نقطة منيرة لا يزال يتابع تغذيتها حتى تملأه نورا…

ولم يحفظ الإسلام في مكة للأغنياء غناهم ولا نمي لهم ثرواتهم. ولنذكر مثالين: كهل وشاب. أما الكهل فأبو بكر رضي الله عنه. أهلك ماله في شراء الرقيق المعذبين وعتقهم. قال له أبوه: يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر، يا أبت إنما أريد ما أريد الله عز وجل. وعندما هاجر من مكة بعد ثلاثة عشر عاما من إسلامه كانت ثروته أقل بكثير مما كانت عليه عند بدء الدعوة.

أما الشاب فمصعب بن عمير رضي الله عنه. كان غنيا موسعا عليه في الرزق، فلما أسلم حرمته أمه ماله ليعود إلى كفر، فأبي وتحمل شظف الحياة وهاجر من مكة كأفقر ما يهاجر المؤمنون.

ولتتأمل فيما أورده ابن هشام في ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم:

“وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم (أي بالمؤمنين) في رجال من قريش إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة، أنبه وأخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك. لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك، ولنضعن شرفك” (وفيل الرأي قبحه وخطأه). وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به (1: 342). فكان ممن أقبل على الإسلام – حين نتأمل هذا الخبر – أصحاب الشرف والمنعة، والتجار… والضعفاء… أي أنهم يمثلون – من أول الأمر – قطاعات اقتصادية واجتماعية متنوعة، جمع بينهم الإيمان. والذين اعتقهم أبو بكر كانوا أرقاء ولكنهم من أصول شتى عربية وغير عربية، ولم يكن للحاجز اللوني أي قيمة في نظر أبي بكر عندما أنفق ماله في استنقاذ الأرقاء من أيدي الكفار.

(6) وفي المدينة المنورة

وازدادت معالم الصورة وضوحا في مجتمع المدينة المنورة: فقد اجتذب قلوبا طاهرة من مختلف قطاعات المدينة ومستوياتها الاقتصادية والاجتماعية، كما اجتذب مؤمنين أقبلوا إليه من كافة أجزاء الجزيرة العربية وما حولها. ويصور مولانا سليمان الندوي هذا التكوين العالمي لمجتمع الإسلام في المدينة فيقول:

“والآن تعالوا نشاهد مدرسة الرسول العربي الأمي: أي طالب هذا؟ هذا أبو بكر، هذا عمر، ذاك عثمان، وذلك علي، وهذان طلحة والزبير ومن هؤلاء؟ هؤلاء تلاميذ من قريش البطاح، بطاح مكة، وذانك من غير قريش أنهما أبو ذر وانيس من تهامة من قبيلة غفار. وهذان أبو هريرة وطفيل جاءا من اليمن من إحدى قبائلها وتسمى دوس. ومن هذان؟

هذا أبو موسى وذاك معاذ بن جبل قدما من اليمن من قبيلة أخرى، وهذا ضماد بن ثعلبة من قبيلة الأزد القحطانية. وهذا خباب بن الأرث أخو تميم. ومن أي قبيلة هؤلاء القوم؟ منقذ بن حبان ومنذر بن عائذ من قبيلة عبد القيس استجابا لهذه الدعوة ووفدا إليها من البحرين على الخليج الفارسي. وفيهم عبيد وجعفر من سادة عمان. وفيهم فروة من معان في بلاد الشام. ومن هؤلاء الغرباء؟ هذا بلال من بلاد الحبشة، وهذا الأبيض يدعى صهيبا الرومي، وهذا اسمه سلمان الفارسي من إيران، وهذا أخو الديلم يدعى فيروز الديلمي. وهذا سيخب ومركبود من الأمة الفارسية. فها انتم ترون نماذج لمن تتلمذ على نبي الإنسانية النبي الأمي العربي خاتم المرسلين. لقد كانت حلقة هدايته مفتوحة لكل الأمم من شتى طوائف البشر”.

ثم يعقب على هذا بقوله. “لقد تبين لكم أن مدرسة محمد رسول الله كانت جامعة للناس من جميع الطوائف، وكانت عامة للأمم على اختلاف ألسنتهم وأموالهم وطبقاتهم في الثقافة والمجتمع، وأنه لم يكن هناك أي قيد يمنع أي إنسان من الإلتحاق بها. ثم بين بعد هذا بعد تنوع دراستها وتخصصاتها وأنها كانت مفتوحة أمام الصحابة ليختاروا منها ما يوافق أذواقهم ويلائم طباعهم. ولم يكن أي تخصص أو طريق مغلقا أمام أي صحابي ما دام قادرا على سلوكه لا يحول بينه وبين التقدم في المجتمع حاجز مالي أو لوني أو اجتماعي.

(7) كانوا معه دائما

يبدو من هذا كيف كان من صنع الله لرسوله أن تفتحت عينه – منذ مولده – على صورة من السماح العنصرية: أم عربية وحاضنة حبشية. وأكاد أنظر بعين القلب عبر التاريخ إلى حجرة في شعب بني هاشم تشهد هذا اللقاء الإنساني بين الأجيال والألوان، والنبي الوليد بين أربعة أذرع تختلف لونا وتلتقي حنانا وحبا. وترحل الأم العربية وتبقى الحاضنة الحبشية يخاطبها بقوله “يا أمه… وتظل قريبة منه في مكة والمدينة حتى رحيله إلى الرفيق الأعلى. ويصحبه من الرجال بلال بن رباح. يدخل الإسلام من اشق أبوابه فلا يصرفه العذاب عن الإيمان، ويهاجر مع المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يراه كل يوم خمس مرات على الأقل، يؤذن للصلاة ويقيم الصلاة بين يديه وله في نفوس الصحابة كل توقير واحترام. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه “أبو بكر سيدنا واعتق سيدنا يعني بلالا”.

وشهد بلال بدرا واحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر: فاستأذنه في الخروج إلى الشام ليرابط في سبيل الله فقال أبو بكر: أنشدك الله يا بلال وحرمتي وحقي قد كبرت سني وضعفت واقترب أجلي، فأقام بلال مع أبي بكر حتى توفى أبو بكر. ثم جاء إلى عمر فقال مثل ما قال لأبي بكر فأذن له فخرج إلى الشام فلم يزل بها حتى توفى.

ولم يؤذن بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – لأحد من الخلفاء. فلما قدم عمر – رضي الله عنه – الشم لقيه فأمره بالأذن فأذن، فبكى عمر والمسلمون معه. ويبشره المصطفى صلى الله عليه وسلم بمكانته الجنة، ويروي مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال صلاة الغداة يا بلال حدثني بأرجي عمل عملته عندك في الإسلام منفعة، فأنى سمعت الليلة، خشف نعليك بين يدي في الجنة. قال بلال: ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من إني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي (وخشف النعل صوته).

فهذه الصحبة الكريمة للمصطفى – صلى الله عليه وسلم – تتخطى حدود الحياة الدنيا إلى دار الجزاء، وتظل قائمة بعد أن تتبدل الأرض غير الأرض والسماوات.

وما اللون؟ أنه لا يعدو أن يكون مظهرا لقدرة الله تعالى واختبارا لنا نحن البشر. هل نستطيع – بنور من الإسلام – إن ننفذ إلى جوهر الإنسان حيث التقوى، أم تحجبنا السحب الملونة عن رؤية شمس الحقيقة؟.

(8) الرسول والأب الأول

وترتبط مقاومة التفرقة العنصرية بقصة الخلق كما جاءت في القرآن الكريم وكما بينها الأحاديث الشريفة.

يقول الله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) (النساء: 1).

وفي يوم فتح مكة وقف الرسول صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة ممسكا بعضادتيه وكان مما قال: يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم. وآدم من تراب. ثم تلا قوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)… (الحجرات: 13).

وحدة الأصل مقررة في الإسلام وسنقف قليلا عند كلمة تراب…. وما يتصل بها في الكتاب والسنة – من كلمات “طين وصلصال وماء مهين”. فأحيانا يعقد بعض الكتاب مقابلة بين الطين والروح. بين مادة الأرض والنفحة الإلهية. وقد يربطون بين الشهوات والتراب والأصل الطيني…

والتراب مظلوم….

إن ربنا جلت قدرته يقول عن خلق الإنسان في كتابه العزيز (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والبصر والأفئدة قليلا ما تشكرون) (السجدة: 6 – 9).

والآيات كلها في مقام الإحسان والتفضل.

الطين من مادة هذه الأرض التي قال الله فيها (والله أنبتكم من الأرض نباتا) (نوح: 17).

والله جعل وعلا هو الذي سوى آدم، وهو الذي اختار له هذه المادة. مادة الأرض المنبتة التي تحيا بالمطر، كما تحيا النفوس بالوحي. الأرض كريمة لأنها من خلق الله. خلقها كما خلق السماء. أما الماء المهين فهو الماء الضعيف الذي لا يستطيع أن يحمي نفسه إلا أن تتولاه رحمة الله وعنايته فنجعل منه اللحم والعظم والسمع والبصر والأفئدة.

وعلينا – بهدي القرآن الكريم والسنة المطهرة – أن نحس كرامة الأصل، كرامة المادة التي خلق الله منها الإنسان. فلقد كانت الاختبار لإبليس (أأسجد لمن خلقت طينا) (الإسراء: 61). وكأن في الشعور باحتقار الأصل الترابي لمحة من منطق إبليس، تتسرب إلى الذهن واعيا أو مقلدا.

إن القول بارتباط الشهوات بالطين والأرض، لا أعرف له في مصادر الإسلام أساسا. والمقياس الذي وضعه رب الناس للناس هو (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات: 13).

وإن اختبار الله للإنسان – في الدنيا هو بوجوده هذا المتكامل المنظور. بوجوده الحي. يقول ربنا عن القرآن (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) (يس: 69 – 70).

فمع كرامة الأصل نحس أيضا “وحدة المسئولية التي يتحملها الإنسان دون ظلم للجسد الترابي… ولنعد إلى بساطة الإسلام دون محاولة لتمزيق الوجود الإنساني إلى جسم وروح، ونفس، وقلب، في حوار نظري يحس به الفرد أنه اثنان أو ربما ثلاثة أو أكثر. وكما أننا لا نقبل انقسام الشخصية – عقليا وصحيا – من نفس القاعدة أن نرفض انقسام المسؤولية. ونحن حين نعاقب إنسانا نعاقبه جميعا، لا نعاقب جسدا ونترك نفسا وروحا. وين نثيبه فنحن نثيبه جميعا، ولا ينفي هذا “تخصص” الأجهزة في الكيان الإنساني: فبعضها يخزن المعلومات وبعضها يصدر المر وبعضها ينفذ. ولكن كل هذه الأجهزة إنسان واحد.

في هذه الوحدة – وحدة الأصل ووحدة المسؤولية الفردية – جانب له أهميته في دراسة التفرقة العنصرية. ذلك لأن تماما هذه المسؤولية، وعدالتها يقتضي ألا يحمل إنسان مسئولية آخر. يقول ربنا (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. ومن ضل فغنما يضل عليها. ولا تزر وازرة وزرة أخرى. وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء: 13 – 15).

وأول ما تلقانا هذه المسؤولية – تاريخيا – في قصة آدم وعلاقتنا به. وفي الجزء من القصة المتعلقة بخلق تقاربا بين ما جاء في سفر التكوين وما جاء في القرآن الكريم:

ففي سفر التكوين وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض. ونفخ في أنفه نسمة حياة ” (تكوين 2 : 7)” أما الجزء المتعلق بالحياة في الجنة والمسؤولية والمعصية ونتائجها فيختلف اختلافا جوهريا. وهو ما تعني به هذه الدراسة:

1 – يقول سفر التكوين إن حياة آدم وحواء كانت في الجنة عريا كاملا دون خجل “وكانا كلاهما عريانين آدم وامرأته وهما لا يخجلان” (تكوين 2 : 25) ويقول الله تعالى في كتابه الكريم مخاطبا آدم (أن لك إلا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحي) (طه: 118 – 119). وهذه الأربع هي الحاجات الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان: المأكل والمشرب والملبس والظل. وهو من أهداف السكن. هذا بعد أن أكرمه الله بالعلم (وعلم آدم الأسماء كلها) (البقرة: 31) وسجد له الملائكة تحية لا عبادة.

2 – الإغراء في سفر التكوين كان من الحية “أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله” (تكوين 3 : 1). وهي التي أغرت حواء. وإن حواء أعطت آدم معها فأكل.. فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر. وإن الشجرة المحرمة هي “شجرة معرفة الخير والشراء”. “لأنك يوم تأكل منها موتا تموت (تكوين 2 : 16 – 18). بينما المسؤولية في القرآن مشتركة. الإغواء من الشيطان.

(فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سواءاتهما. وقال ما نهاكما ربكا عن هذه الشجرة إلا أن تكون ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور. فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سواءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة. وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) (الأعراف: 20 – 22).

فإذا كانت المعرفة قد توفرت لآدم، ومن بعدها التقدير المتمثل في سجود الملائكة، ثم السكن في السكن في الجنة والأمان من الجوع والعري والظمأ وحر الشمس… فما بقي له؟ جاءه الشيطان من الأمل في (الخلد وملك لا يبلى). وبهذا يتفوق على الملائكة بما آتاه الله من العلم، ويستوي معهم في الخلود. كان خطأ إلى أعلى – إذا جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير – أخطا آدم حبا في الاقتراب من الله، فنزلت قدمه وهو يظن نفسه يصعد. (فدلاهما بغرور)… (الأعراف: 22).

3 – وعندما حاسب الله آدم على الخطيئة في رواية سفر التكوين كان من قوله “المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت. فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت. (تكوين 3: 12 – 13). آدم يلقي المسؤولية على حواء. حواء تلقي المسئولية على الحية. والحية وحدها هي التي تلوذ بالصمت دون أن تتبرأ مما فعلت… والصورة في القرآن مختلفة: فما دامت المسؤولية مشتركة بينه وبين زوجة فلا مجال لان يحملها أحدهما دون الآخر، وإنما بادرا بالاعتراف بالخطأ والتوبة (وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما أن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)… (الأعراف: 22 – 23).

4 – وتصل بنا القصة إلى ذروتها في قضية المسؤولية:

ففي سفر التكوين يحمل الله آدم وحواء والحية المسؤولية وتنتقل إلى أعقابها بينما يقبل الله توبة آدم في القرآن ليبدأ بعد هذا مرحلة جديدة من حياته مرحلة – بعد قبول التوبة – بصحيفة بيضاء ليس فيها عقاب الخطأ الأول… ولنعد إلى سفر التكوين لنقرأ “فقال الرب الإله للحية لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك. وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه. وقال للمرأة تكثيرا أكثر أتعاب حبلك بالوجع تلدين أولادا. وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك. وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكا وحسكا تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود على الأرض التي أخذت منها. لأنك تراب والي تراب تعود” (تكوين 3 : 14 – 19). ويستطيع أي دارس لهذا النص أن يحصي كلمات اللعن والسحق والعداوة والتعب والشوك والعرق… لآدم وذريته حتى تقوم الساعة من أجل خطأ واحد، كان تجربة أولى للأب الأول.. ما ذنب أبناء آدم؟ بل ما ذنب أبناء الحية إذا اعتبرناها مسؤولة؟ أتقوم الحياة الإنسانية كلها من هذا البدء بكل ما فيه من عقوبة لا ذنب للأبناء فيها؟

إن القرآن يختلف عن هذا. وتوبة آدم وقبولها جاءنا في سورة البقرة وسورة طه. يقول الله تعالى:

(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه أنه هو التواب الرحيم) (البقرة: 37) (وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (طه: 121 – 122).

حدثت المعصية وتتابعت بعدها الأحداث: توبة من آدم. قبول من الله فإنه (هو التواب الرحيم). تكليف من الله لآدم برسالة. هداية على طريق الرسالة. آدم في القصة هو المجتبى المهدي المقبول التوبة.

هو المخطئ الذي امتدت إليه يد التوبة تقيل عثرته رحمة من الله وفضلا.

أما إن الحية تمشى علي بطنها فهذا في القرآن لا يعدو أن يكون مظهرا.. لقدرة الله تعالى (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير…) (النور: 145).

وأما أن المرأة تحمل ولدها وهنا على وهن. فهذا أمر تشترك فيها جميع الثدييات. وقد أثبت العلم قوة الصلة بين الأم ووليدها، وإن هذه المعاناة الجسمية والنفسية، من أسباب هذه الصلة القوية. وتفرح الأم بحركة جنينها. وكل تجربة الحمل والولادة في الإسلام من أبواب الرحمة (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلى المصير) (لقمان: 14).

وأما أن الرجل يتعب في الأرض، فإن الإسلام لم يقم العلاقة بينهما على العداوة وإنما خاطبه قائلا (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) (الملك: 15). ويصفها ربنا في كتابه على لسان موسى عليه السلام وهو يعدد أمام فرعون نعم الله (الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى. كلوا وارعوا أنعاكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى. منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) (طه: 53 – 55) الصورة كلها مودة وتآلف.

ولكن الأمر لن يخلو من عداوة وتنافس وصراع (بعضكم لبعض عدو” (البقرة: 36). ولكن (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (البقرة: 36) ولنتأمل في كلمتي مستقر ومتاع… هدوء وسكون. والمتاع كما يقول الراغب الأصفهاني “انتفاع ممتد الوقت. ويعقب على الآية بقوله “نتبيها أن لكل إنسان في الدنيا تمتعا مدة معلومة… وإن ذلك في جنب الآخرة غير معتد به” (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) (التوبة: 38).

5 – وقبل أن انتقل إلى النقطة الأخيرة في هذه المقارنة أود أن أشير إلى مشهد في سفر التكوين. ويبين النص التالي السبب المباشر لإخراج آدم من الجنة “وقال الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد: فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان. وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة” (تكوين 3: 22 – 224). فآدم لم يأكل من شجرة الحياة. وإنما أخرجه الرب من الجنة خشية أن يأكل منها بعد أن أكل من شجرة المعرفة. وزاد على هذا أن وضع لهيب سيف متقلب لحراستها. وكأن الله – في رواية سفر التكوين – أخذ آدم باحتمال الخطأ الثاني، لا بالخطأ الأول وحده، وجعله تحت خوف السيف الملتهب لئلا يشق طريقه مرة أخرى إلى الجنة بعد أن خرج منها.

هذه هي الظروف التي خرج بها آدم من الجنة في رواية سفر التكوين.

6 – بين القرآن إن الإنسان في هذه الأرض خليفة الله (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة: 30). ولقد أعطاه الله حرية الإرادة والاختيار، وأدخله تجربة، وعندما أخطأ تاب عليه وبعثه إلى الدنيا رسولا مزودا بالنصح والتوجيه (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (البقرة: 38 – 39).

والخلافة تكريم من الله… وورد تعبير التكريم في أكثر من موضع من كتاب الله (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا.) (الإسراء: 70) وكان هذا الإكرام سببا لحسد إبليس (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) (الإسراء: 62).

قصة آدم بهذا منتهية الفصول في القرآن. لم تترك وراءها لذريته ذنبا ولا خطيئة، وإنما درسا يتعلمه الناس. أما مكانة آدم: فهو نبي اصطفاه الله. وتلقى من ربه كلمات. وبينت قصة المعراج جانبا من هذه المكانة عندما لقيه المصطفى صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى.

حياة آدم بدأت في الجنة. وله عند الله مكانة علي وجزاء كريم. وأبناء آدم يشعرون جميعا – في نور القرآن – بكرامة هذا الأصل عندما يؤمنون أنهم جميعا جاءوا من ذرية نبي كريم.

أما لو سلمنا بأن الله لم يغفر لآدم، وإن الخطيئة وعقوبتها انتقلت منه إلى ذريته، لكان من المنطقي أن نسلم بانتقال الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي – المرتبط بلون معين أو عنصر معين – من جيل إلى جيل. ولو كانت نظرتنا إلى أن فيه من الآدم، لكان من المنطقي أن نعتبر أي أب أو جيل سابق مسؤولا عن أولاده أو ذريته… وإن نحمل الأبناء ذنوب وأوضاع ونتائج ألوان الآباء.

فتحرير المسؤولين الفردية في الإسلام يقتضي منا أولا تحرير مسؤولية آدم. وهو ما يؤكده القرآن الكريم، وما جاءت به السنة المطهرة. وهذه الأبعاد كلها يمكن أن نجدها في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم “الناس لآدم وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم”.

لسنا في الإسلام – إذا ما ذكرنا الأب الأول أو الأم الأولى – نذكر معهما ذنبا وخطية ومسؤولية عما نحن فيه من عناء قد يجعل بعضنا يغفل أحيانا عن قوله تعالى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (إبراهيم: 34)، نعم الوجود والهداية والخلافة… ثم ارتباط العمل بالجزاء في ظل العدل والرحمة التي تشع من قوله تعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) (النجم: 39) وقوله تعالى (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم). (الحجرات: 49 – 50).

(9) مع أنبياء العهد القديم

وتسير بنا الدراسة المقارنة بين تحرير المسؤولية الفردية، وهو ما يؤكده الإسلام، وبين انتقال المسؤولية كما تصورها بعض نصوص العهد القديم. ولنذكر من ذلك نماذج:

1 – ودعاء موسى جميع بني إسرائيل وقال لهم: …. “ولا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا صورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في لاماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور أنتقد ذنوب الآباء في الأبناء وفي الجيل الثالث والرابع من الذين يبغضونني، وأصنع إحسانا إلى الوف من محبي وحافظي وصاياي”. (تثنية 5: 7 – 10).

2 – وفي نفس السفر نقرأ “لا يدخل عموني ولا مؤابي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر. لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد. من أجل أنهم لم يلاقوكم بالخبز والماء في الطريق عند خروجكم من مصر” (تثنية 23: 2 – 4).

وتتغير اللهجة بعد هذا، وفي ذات السفر، لنقرا هذه النصوص المشرقة بالعدل والرحمة:

3 – “لا تظلم أجيرا مسكينا وفقيرا من أخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك. في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس لأنه فقير، وإليها حامل نفسه لئلا يصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطية (تثنية 24: 14 – 15).

4 – لا يقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء. كل إنسان بخطيئة يقتل. (تثنية 24 : 16).

5 – ويتأكد هذا المفهوم في سفر حزقيال… وكأنه يقص حوارا حدث بينه وبين قومه: “وأنتم تقولون لماذا لا يحمل الأبن من أثم الأب؟ أما الابن فقد فعل حقا وعدلا: حفظ جميع فرائضي وعمل بها فحياة يحيا. النفس التي تخطئ هي تموت. الابن لا يحمل من أثم الأب. والأب لا يحمل من إثم الابن. بر البار عليه يكون. وشر الشرير عليه يكون. فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي وفعل حقا وعدلا يحيا. لا يموت. كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه، في بره الذي عمل يحيا. هل مسرة أسر بموت الشرير؟ يقول السيد الرب. إلا برجوعه عن طريقه فيحيا. (حزقيال 18 : 16 – 23) ويسير بنا السفر في هذا الخط المشرى بالعدل والتوبة والترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية.

ومع الاتجاهات الفكرية المتباينة لهذه النصوص أذكر موريس بوكاي عن أسفار العهد القديم “لقد دونت وأكملت وروجعت الأسفار التي يتكون منها فيما بين القرن العاشر والقرن الأول قبل الميلاد….

إن الوحي يختلط بكل هذه الكتابات. ولكننا لا نملك اليوم إلا النصوص التي خلفها لنا الكتاب الذين عالجوا النصوص على سجيتهم وحسب الظروف التي عاشوها والضرورات التي كان عليهم مواجهتها.

(10) مع نصوص العهد الجديد

وإذا كنا قد رأينا في العهد القديم نصوصا تذهب إلى تأكيد المسؤولية الفردية، ونصوصا تذهب إلى انتقال المسؤولية عبر الأجيال، بحيث يحمل الأبناء في ظلها – أوزارا الأباء، أو الثمار المرة لأوضاعهم الاجتماعية، أو الحاجز اللوني الذي يعيشون فيه، فإن هذه القضية قابلها العهد الجديد وكان عليه أن يبحث لها عن حل.

وكانت نصوص سفر التكوين – وبخاصة قصة آدم والخطيئة الأولى فيه وما وقع على آدم وزوجه – وحتى على الحية – من عقوبة – أول هذه القضايا، باعتبارها مرتبطة ببدء الحياة الإنسانية على الأرض.

1 – وحين… نرجع إلى أنجيل متى سنقرأ ما جاء به على لسان المسيح عليه السلام، في الموعظة على الجبل، من نوجيه إلى فعل الخير حتى مع الذين يسيئون، ودفع السيئة بالحسنة، والإخلاص في العمل. وفي ختامها فقرة تؤكد المسؤولية الفردية بكل وضوح: “فكل من يسمع أقوال هذه ويعمل بها أشبهه برجل عاقل بني بيته على الصخر، فنزل المطروحات الأنهار، وهبت الرياح، ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط لأنه كان مؤسسا على الصخر.

وكل من يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها يشبه برجل جاهل بني بيته على الرمل، فنزل المطر وجاءت الأنهار، وهبت الرياح، وصدمت ذلك البيت فسقط، وكان سقوطه عظيما. (متى 7: 24 – 27).

أذكر معها قول الله تعالى (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين). (التوبة: 109).

2 – وفي نفس الموعظة نقرأ ما جاء على لسان المسيح عليه السلام: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل.. (متى 5 : 17). وما جاء في سفر التكوين عن انتقال المسؤولية لا يجد العهد الجديد أمامه إلا أن ينفيه أو يلحقه بمغفرة. والنفي غير وارد لأنه نقض للناموس، فلم تبق إلا المغفرة… ولكن المغفرة تكون لصاحب الخطأ. والخطأ هنا انتقل أثره وسار طويلا في الأجيال وعرضا في الآفاق يحمله كل من ينتسب إلى آدم. ومن هنا نبعت عقيدة “الفداء”. ولا نستطيع أن نتصور العدل الإلهي مع وجود هذه الخطيئة مستمرة الأثر في حياة الناس. وفي هذه العقيدة نقرأ النصوص الآتية:

3 – من أراد أن يصير فيكم عظيما يكون لكم خادما. ومن أراد يصير فيكم أولا يكون للجميع عبدا. لأن ابن الإنسان أيضا لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مرقس 10: 43 – 45).

4 – والنص على الفداء في إنجيل يوحنا أكثر وضوحا “لأنه لم يرسل الله أبنه إلى العالم ليدين العالم بل يخلص به العالم”. (يوحنا 3: 17).

5 – وتولى بولس الرسول الدعوة إلى هذه العقيدة وشرحها. يقول في رسالته إلى أهل رومية “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة، بإمهال الله، لإظهار بره في الزمان الحاضر…” (3: 23 – 26). وبغير الفداء  – في العهد الجديد تظل الخطيئة قائمة كما جاءت في العهد القديم.

6 – ويرتبط بهذا أيضا سر التعميد في المسيحية، فهو يظهر الوليد من الخطيئة الأصلية. ولا بد أن يقوم به رجل الدين عندما يغمس الطفل في ماء بشعائر معينة. وينشأ الطفل ليعتقد أن المسيح حمل عن البشر وزر الخطيئة. وإنه المخلص والفادي. وإن أثر الخطيئة ظل من عهد آدم حتى جاء المسيح فحملها عمن قبله ومن بعده.

والهدف الذي قصده العهد الجديد وهو المغفرة – وصل إليه بعد رحلة طويلة بين الخطيئة الأولى، وانتقالها، ثم مجيء الفادي والمخلص. أي أن العهد الجديد أقر أولا مبدأ انتقال المسؤولية من جيل إلى جيل، ثم فتح الطريق إلى المغفرة بالفداء.

أما الإسلام فجعل المغفرة من الله لآدم مباشرة. ولم يدخل أبناء آدم في القصة (وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (طه: 121 – 122). والعدل الإلهي بهذا في القرآن بهذا في القرآن اقرب. وقصة الإنسانية مشرقة. وحياتنا هنا خلافة الله. والوحي نور. وباب التوبة مفتوح من عهد آدم. والأرض صديقة. والسماء صديقة. والكون صديق (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم. وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة: 29 – 30).

ومع تأكيد مسؤولية آدم الفردية، وإعطائه فرصة التجربة والخطأ، في ظل من التوبة والرحمة والهداية، تتحدد مسؤوليات الأفراد من بعده، بحيث لا يحمل إنسان مسؤولية آخر. وبالتالي يسقط الأساس “الديني” لأي تفرقة عنصرية.

أقول: يسقط الأساس الديني للتفرقة العنصرية لأن بعض الكنائس اتخذت من بعض نصوص العهدين القديم والجديد، ما تبرر به استعباد الأفريقيين أو الهنود الحمر. وعلى سبيل المثال كنيسة الإصلاح الهولندية في جنوب أفريقيا تحاول أن تبرر عدوانها على الأفريقيين بنصوص دينية: كالنص الخاص بكنعان بن نوح في العهد القديم على لسان نوح “ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لأخوته” (تكوين 9 : 25) ثم ما جاء عن وجوب طاعة العبيد لسادتهم في رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس” أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح” (6 : 9).

ثم يوصى السادة بالعبيد “وأنتم أيها السادة أفعلوا لهم هذه الأمور تاركين التهديد عالمين أن سيدكم أنتم أيضا في السماوات وليس عنده محاباة” (6 : 9).

ولقد استطاع السادة أن يفرضوا سلطانهم وينالوا ما يرونه حقا لهم. أما العبيد ومن جاء بعدهم من أصحاب الأرض في أفريقية، والذين تم استعبادهم في أرضهم أو عبر المحيط، فلم يستطيعوا أن يستخلصوا حقا إلا بعد أن دفعوا فيه الغالي من الدماء والأرواح، ولا زال الصراع قائما.

(للبحث صلة)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر