أبحاث

الحسبة، وظيفة إسلامية في حاجة إلى رؤية جديدة

العدد 29

بدأ مصطلح الحسبة يشق طريقه مرة أخرى في نهر حضارتنا الدافق، بعد أن توقف عدة قرون.. والحسبة في مضمونها العام أمر بمعروف ونهي عن منكر، فالهدف يتحدد في جانبين:

1-   جانب بناء… للمعروف.

2-   وجانب هدام…. للمنكر.

وقد نستطيع أن نبدأ بالثاني فنقدم النهي عن المنكر، على أساس القاعدة الأصولية القائلة بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وعلى أية حال.. فإن عودة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر عظيم يصلح –كمؤشر- لاستئناف دورنا الحضاري في التاريخ!.

ألسنا أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما وصفنا كتابنا الكريم؟ أولسنا من أجل هذه “الوظيفة” السامية “خير أمت أخرجت للناس”؟!. بلى… فهذه وظيفتنا… ومناط خيريتنا، خيريتنا كأمة، كل أفرادها مكلفون بالحسبة فضلا عن أن تكون هناك صفوة مختارة ممتازة لأداء هذه المهمة.

وقد أجمع الفقهاء على ضرورة تحقيق بعض الشروط في تلك الصفوة المختارة لوظيفة الحسبة، من أهمها: العلم بالشريعة، والفقه بها فقها ذكيا، والحزم في تنفيذ أحكامها على المخالفين حزما لا تضيع معه الفائدة الاصلاحية العامة، والعفة عما بأيدي الناس من الأموال، والتورع عن الهدايا ولا سيما الهدايا المشبوهة، والرشاوي الصريحة وغير الصريحة…

أما أهم الشروط –في رأينا- فهو سلوك المحتسب ومظهره.. فظهور هذا المحتسب بمظهر المصلح الاجتماعي والأخلاقي، وليس رجل الشرطة، وظهوره بمظهر الطبيب وليس المحارب، وابتعاده عن القسوة إلا عند الضرورة الموجبة لها، وثقافته الإسلامية الرفيعة… فضلا عن حسن هندامه، ووضوح نظافته الخارجية –والداخلية- وطلاقة وجهه ولين أخلاقه.. هذا السلوك… وهذه الصورة الطيبة، من شأنهما أن يسهلا للمحتسب أداء مهمته، ومن شأنهما كذلك أن يجعلاه -طبيبا وأخصائيا اجتماعيا ومرشدا إسلاميا- أكثر من كونه قاضيا أو شرطيا… كما شاع عنه في كثير من أدوار حضارتنا، حتى انفصل نفسيا ووجدانيا وعمليا عن المجتمع… وهرب منه وتحايل عليه المنحرفون والمخطئون!!

لكن الأمر الجدير بالمناقشة هنا هو: كيف يتحقق أداء هذه الوظيفة على النحو الملائم للغة العصر؟ -مع احترام كل هذه الشروط؟

– إن المفهوم الذي شاع مفهوم يدور في إطار نظري بحت.. مفهوم يعتمد على تكلف الأقوال المتشابهة، والمواعظ المؤكدة الدائرة بين الترغيب والترهيب والأثر الفردي والاجتماعي والأخروي، وما إلى ذلك من مفاهيم تنتمي إلى منهج لا غبار عليه إذا هو اعتمد على أرض الواقع، وسار متكئا على معاناة للمشكلات الحية التي يراد علاجها.. سواء ببناء المعروف أو بمقاومة المنكر!! ونحن –أبدا- لا ننكر دور الكلمة الواعية المخلصة الذكية… أما أن يظل علاجنا للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية محصورا في إطار الكلمة لا يتعداها، فذلك أمر لن يصل بنا إلى شيء!!.

فإذا فسد بعض الشباب… واتجهوا إلى محاولات الاعتداء على الفتيات… فإن الحل –في رأينا- ليس الكلام.. مهما كانت قيمة هذا الكلام!! وإذا اتجه مئات الألوف من الشباب إلى الكرة على حساب أساسيات أخرى وبطريقة لا تناسب حجم الكرة في نشاطات الحياة –فليس العلاج أبدا- في انكار هذا المنكر بالكلام!!.

-وإذا ظهرت الفتيات متبرجات.. فليس العلاج بالكلام…

-وإذا انتشرت الأغاني المائعة والتمثيليات الخليعة… فليس العلاج برفضها وتقبيحها ولعن القائمين عليها –وحسب- فهذا العلاج الكلامي لن يؤدي –كما أنه يؤدي سلفا- إلى النتيجة الصحيحة!!

-وإذا انتشرت البنوك الربوية.. فليس العلاج بتقبيحها لأن الناس قد يضطرون للتعامل معها بطريقة أخرى!.. وعشرات المشكلات الأخرى!!

إن الحسبة في رأينا –يجب أن تكون “دعوة بالبدائل”!! وإننا لنفهم ذلك من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

“من رأى منكم منكرا فليغيره بيده” “فإن لم يستطع فبلسانه” “فإن لم يستطع فبقلبه” “وذلك أضعف الإيمان” (رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي).

والغريب أن هذا الحديث الشريف قد ظلمه بعض المسلمين من جانبين:

  • جانب فهمهم للتغيير باليد، فهم يظنون أن المنع يكون “باليد” أي بمعنى الضرب أو الزجر أو الحبس.. مع أننا نرى أن هذا علاج مؤقت!!
  • وجانب تغليبهم للتغيير باللسان –مع أنه في الدرجة الثانية- حتى أصبح هذا التغيير باللسان هو المسيطر على وظيفة النهي عن المنكر، وقد وقعوا في هذا نتيجة تقصيرهم في فهم التغيير باليد وحصره في دائرة المنع بالضرب والزجر!!

إن التغيير باليد.. بمعنى الزجر والحبس… هو تغيير يتفق وأساليب “الشرطة”!! وهو واجب عندما يرتكب حد يوجب هذا اللون من التقدير… لكن أكثر المنكرات قد لا تدخل في هذه الحدود الظاهرة، فضلا عن أن المقصود –من وظيفة الحسبة بالدرجة الأولى- هو درء المفاسد قبل وقوعها… وبالتالي “فالتغيير باليد” الذي يجب أن يمارسه الفقهاء والمصلحون والدعاة والغيورون، هو تغيير من نوع آخر، تغيير يتفق وأساليب المصلحين التي يجب أن تتميز بمخاطبة الفطرة وبالعلاج الحاسم الدائم.

هذا التغيير باليد الذي يجب أن يمارسه المصلحون هو “التغيير بالبدائل” ففي مواجهة مشكلة (الاعتداء على الفتيات في الطرقات) –مثلا- يجب أن ندرس عدة نقاط، ونبحث لها عن حل عملي يخضع لأساليب علم الاجتماع.. ومن هذه النقاط:

1-   مشكلة ضعف الدين لدى الشباب.

2-   مشكلة وقت الفراغ.

3-   مشكلة غلاء المهور وتعذر الزواج أحيانا.

والحل… يمكن أن ينتهي بنا –مثلا- إلى بناء أندية إسلامية للشباب، أو عمل ندوات –في الحي موضوع الدراسة- أو اقامة مشروع شبابي (اجتماعي أن اقتصادي أو ثقافي)..

كما أنه يمكن أن ينتهي بنا إلى تقديم حلول اجتماعية شعبية –مع طلب مساعدة الدولة- لحل مشكلة غلاء المهور، وصعوبة الزواج!! المهم أن أسلوب العلاج لن يكون هو الكلام الذي قد ينتهي تأثيره بعد الخطاب.. ثم لا يترك تأثيرا على مسيرة السلوك الشبابي!!

-وفي علاج مشكلة “التبرج” و “الكرة” يجب أن نلجأ إلى تحليل عملي لكلا الظاهرتين والأسباب المؤدية لهما مستعينين بعلماء الاجتماع- حتى ننتهي إلى البديل المقترح!! وفي مواجهة الأغاني المائعة والتمثيليات الخليعة يجب أن نبحث في أمر الفنون الإسلامية البديلة والعمل على إقامة الشركات والمؤسسات الإسلامية التي يجب أن تنشأ لتقديم الفنون الإسلامية… في المسرح والتمثيلية والرواية وما إلى ذلك في إطار شرعي مدروس!!

-وفي مواجهة البنوك الربوية يجب أن نبدأ في تشجيع ظاهرة البنوك الإسلامية والمؤسسات الإسلامية التجارية.. وحبذا أن تنشأ هذه المؤسسات بالجهود الفردية، بحيث تكون أشبه بمشروعات اقتصادية محلية تحقق لونا من التكافل الاجتماعي!! وهذا لا يعني بالطبع إغفال الجهاد الإسلامي.. بل هما يكملان بعضهما.

تطوير مهام المحتسب:

وكما يجب تطوير أساليب الحسبة، والانتقال بها إلى الأساليب العصرية، ونعني بها أسلوب البدائل وأسلوب العمل بروح جماعية وأسلوب استخدام معطيات العلم الحديث كذلك يجب تطوير واجبات الحسبة وتوسيع مساحتها في المجتمع الإسلامي.

ولن يتحقق تطوير مساحة الخدمات التي تقوم بها الحسبة إلا إذا تحقق للمحتسبين الالتصاق الكامل بأفراد المجتمع.. وذلك يتحقق عندها يتحول المحتسب إلى أخصائي اجتماعي ومصلح شعبي في آن واحد.. إن المحتسب في هذه الحالة سيعيد إلى (رجل الدين) مكانته، وسيمزج في هذه الحالة بين وظيفتي (رجل الدين) و (عالم الدين)؛ ذلك لأن عالم الدين كان أقرب ما يكون إلى المفتي وإلى الواعظ النظري الذي لا تتصل حياته ولا رسالته –بأسلوبه هذا- بحياة الناس العملية من قريب أو بعيد.. أما (رجل الدين) فقط أصبح في المفهوم الإسلامي مصطلحا يطلق على كل الناس الذين يقومون بالدعوة إلى هذا الدين –هذا نظريا- أما عمليا فلم يكن هناك رجال دين في الحقبة الأخيرة إلا في النادر…

فعودة المحتسب إلى وظيفته المزدوجة (كعالم ومصلح) إنما هي عودة الفعالية إلى وظيفة أساسية من الوظائف الإسلامية القيادية. وعلى سبيل المثال فإن مساجد المسلمين –بعد أسواقهم- في حاجة إلى محتسبين لإعادة النظر في جمالها ونظافتها وملاءمتها لمستوى النظافة الحديثة في عصر أصبح فيه الاهتمام بالجمال أداة من الأدوات الضرورية وأصبحت القذارة رمزا للهمجية والتخلف!!

وديننا قد سبق هذه الحضارة الحديثة، وأمر بالوضوء عند كل صلاة، وبالاغتسال في كثير من الظروف.

وهذه مهمة جديدة يجب أن توكل مراقبتها إلى المحتسبين!! ونظافة الشوارع، والمرافق العامة، بل ونظافة الناس في صلاة الجمعة، والعيدين، والاجتماعات العامة، نظافتهم في هيئتهم وسلوكهم… هذه المهام يجب أن توكل –كذلك- إلى المحتسبين!! والنظر في المظالم غير المنظورة كتعويق مصالح الناس أو الابطاء فيها وطغيان بعض الجيران على بعض، وفوضوية الشارع الإسلامي، وكثرة الصخب واللعب فيه، مما يحول دون الإنتاج والتحصيل، ويجعل الشوارع ملاعب للصغار، ولبعض الكبار!! إن هذه وظائف جديدة –كذلك- تضاف إلى مهام المحتسب ولا يستهين أحد بهذه الوظائف، ولا يقولن إن غير المحتسبين يتولونها، فالحق أن منهج المحتسبين غير منهج غيرهم، ووظيفتهم تمهيد قوي لانجاح كل الوظائف الأخرى.. وإن الصورة الكريهة التي تبدو عليها المجتمعات الإسلامية بالنسبة للغرب ولمستوى العصر بعامة قد أساءت إلى الإسلام كل الإساءة.

بل إن بعض الأوربيين الذين يسلمون، أو الذين درسوا الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها يذهلون للفارق الشاسع بين ماضينا وحاضرنا.

وقد حاول بعض الذين أسلموا أن يعيشوا في بلاد إسلامية، ولكن صدورهم لم تتسع لهذه المفاسد الاجتماعية المنتشرة في واقع المسلمين، سواء في أخلاقهم أو في شوارعهم.

ولو سألت أي سائح أمريكي أو أوربي كما تقول المهدية (مريم جميلة) اليهودية الأمريكية التي اعتنقت الإسلام: كيف يجد البلاد الإسلامية وشعوبها؟ فسوف يجيبك بدون اختلاف: ما أقذرها؟

والحقيقة المحزنة كما تقول مريم “مرجريت ماركوس سابقا” إن هذا النقد مصيب في أغلب الحالات لدرجة أن المهتدين الجدد للإسلام من الأصول الأوربية يصلون إلى شفا الردة أحيانا لهذا السبب نفسه.

-أفلا يستحق إذن هذا الجانب الجمالي –وهذه بعض آثاره- أن يدخل ضمن مهام الحسبة!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر