أبحاث

الفلسفة والواقع في البيئة الإسلامية

العدد 61

تمهيد :

     ساءلت نفسي كثيراً, كلما خطوت في دراسة الأنماط الفكرية الفلسفية : هل كانت البيئة الإسلامية ذات الصبغة الدينية في حاجة إلى فلسفة ؟ والذي أوحى إلي بهذه التساؤلات أنه يبدو للناظر أن المشكلات الرئيسية التي استلهمت فكر الفلاسفة, والتي لا يزالون فيها على رؤى متباينة, قد جاء الدين وحسمها, بحيث لم يبق لسائل أن يسأل بعد ذلك.

وإذا لم يكن للدين إلا الدور الحاسم في تحديد الإطار العام الذي يمكن للعقل أن يجول فيه ويصول – وهو عالم الشهادة – واختصاصه هو بعالم الغيب, لكفاه هذا الدور, وكأنه أراد أن يبرز للعقل أن مطامحه في ما وراء عالم الحس لا يمكن أن تثمر يقيناً يطمئن إليه العقل أو يرضى به القلب.

     غير أن المسألة لا يمكن أن تقف بالباحث عند هذا الجانب من القضية – قضية العلاقة بين العقل والدين – لأن الواقع يرينا أن أنماط التفكير لدى المتدينين ليست سواء, فمنهم من يقف عند حدود ظاهر النصوص لا يتجاوزها, خشية أن يكون في هذا التجاوز ما لا يكون مراداً لقائل النص, ومنهم من يتجاوز هذا الظاهر إلى معنى يقبله في حدود ما تقره الضوابط اللغوية, ومنهم من يتجاوز ذلك بكثير فيرى أن النصوص ليست إلا رموزاً لتأويلات ومعان كثيرة, ويرى أن في هذا حيوية للنص واستيعابه لكل الأفكار المتعلقة به.

     هذا ما يتعلق بالجانب النظري للقضية, أما الجانب العملي فقد أظهر أن العقلية الإسلامية قد أحدثت نوعا من الانسجام التام بين مطالب الواقع العملية والفكر الوارد, بل لم تقف عند هذا الحد فقد أضافت وطورت وأبدعت حتى ظهر من الرموز العلمية في البيئة الإسلامية شخصيات كبيرة لا زالت الدراسات تدور حول مُبْدَعاتها حتى العصور المتأخرة.

     ذلك هو الإطار الممهد لما أريد أن أقول, وإذا كان واقع تراثنا يرينا أن الجانب النظري من تفكير المسلمين, ونعني به الفلسفة التي استلهمت الفكر اليوناني بخاصة والفكر الفلسفي الوارد عامة, يتضاءل من الناحية الإبداعية, إذا قورن بالجانب العملي من هذا التراث, وأعني به ما خلفته العقلية الإسلامية في مجال الطب والفلك والكيمياء والفيزياء والرياضيات والموسيقى الخ.. فهل يعني هذا أن أحد جانبي الفكر الفلسفي لدى المسلمين – وهو الفكر النظري – لم يكن مستجيباً للواقع بنفس القدر الذي أحدثه الجانب الآخر وهو الجانب العملي ؟ هذا هو محور البحث.

     ماذا نعني بالواقع ؟

نعني بالواقع هنا الوجود الخارجي المستقل عن الذات العارفة, وما يحتاجه هذا الواقع, بغية تطويره وترقيته من الجانبين الروحي والمادي بحيث لا يمكن عزل أحد الجانبين عن الآخر, كما يصور منهج الإسلام الصحيح.

طبيعة البحث :

    يظهر مما سبق أن البحث سينظر في مدى استجابة الفكر الفلسفي النظري, الذي شغل به فلاسفة الإسلام أنفسهم, لواقع الأمة الإسلامية ؟ وفي نفس الوقت إلى مدى استجابة الفكر العملي لواقع تلك الأمة. وإذا كان من المعلوم أن بعض فلاسفة الإسلام قد جمعوا في تفلسفهم بين الجانبين معاً, فإننا سنرى إلى أي مدى كان الفيلسوف الواحد منهم مبدعاً في جانب وأقل إبداعاً في الجانب الآخر.

خطوات البحث :

1-    الاتجاه النظري للتفلسف عند المسلمين.

أ‌-       التفلسف لذاته.

ب‌-  التفلسف الموفق بين العقل والوحي.

ج- مظاهر الإخفاق أو النجاح في هذا الفرع.

2-    الفكر العملي الإبداعي لدى المسلمين.

أ‌-       مطالب الواقع.

ب‌-  أسباب نفسية.

ج- أسباب حضارية.

3-    مظاهر الإبداع في هذا النوع.

4-    تقويم عام.

التفلسف لذاته :

     لا نعدو الصواب إذا قلنا إن الإنسان كائن متفلسف, نعني بذلك أنه – وهو موصوف بالعقل- لا يمكن أن يمر على مسألة تستوقف نظره إلا ولابد أن يقف عندها, ومحاولة تصوره لحلول المشاكل, هي فلسفة على نحو ما. والأمم كالأفراد لها فلسفتها ورؤاها للمشاكل التي تصادفها. ولا يمكن أن نتصور أمة فيها مجموعة من أصحاب العقول السليمة إلا ولابد أن يكون تفكيرهم في المسائل التي تعرض لهم, فكرية كانت أو عملية. ومن ثَم لا نحفل كثيراً بالأحكام التي تَوَجَّه بها أصحابها إلى الأمة الإسلامية, حين رموها بالسذاجة في التفكير والبساطة في النظر, بعد أن تبين أن هذه الأحكام لا دليل عليها, وأن التعصب والتجني كان وراءها.

وفي تقديري أن الأمة الإسلامية لو لم يصادف مفكروها أمامهم فكراً وارداً لكان لهم فكرهم المستقل المنبعث من البيئة والواقع, بل إن تاريخ الإسلام يرينا أنهم فكروا ونظروا وأنتجوا فكراً يتلائم مع واقعهم, قبل اتصالهم بالفكر الوارد, بغض النظر عن نوعية هذا الفكر وطبيعته, فالعلوم الإسلامية التي نشأت في عصر مبكر, والتي اتسمت بالأصالة والعمق, وامتازت أيضاً بخلوها من مظاهر أي فكر دخيل كعلوم اللغة والفقه والأصول والحديث وعلوم القرآن, أقول كل هذه العلوم تكشف عن عقلية فاهمة هضمت ما أمامها واستوعبته ونظمت قواعد هذه العلوم في شكل منهجي علمي. وقد تطورت في مراحل لاحقة بفعل العامل الحضاري وتقدم الزمن والاحتكاك بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم الأخرى.

     ولنا أن نشير في هذا الصدد إلى علمين معرفين في تراثنا الإسلامي نشآ في عصر متقدم جداً, ونعني بهما, علم الحديث وأصوله, وعلم أصول الفقه. لقد ظهرت في ثنايا هذين العلمين بشكلهما الأول, إرهاصات المنهج العلمي بالمعنى الصحيح. ومن المعلوم أن وجود منهج دقيق للبحث, إنما يعني أن الأمة التي تتعامل بمنهج كهذا, تكون ذات وجود عقلية طلعة منظمة, يمكن أن تبدع أكثر وأكثر كلما تقدم بها الزمن, ولو قدر لها أن تطلع على ثقافة غيرها, فإنها تفيد منها بالقدر الذي يتلاءم مع بيئتها وواقعها, وليس في هذا عيب على الإطلاق بل إن العيب في انغلاق الأمة على نفسها, وعدم تفاعلها بغيرها من الأمم الأخرى ذات النتاج العلمي, الصالح لرقيها ونهضتها.

     والمطلوب هنا أن تظل الأمة مرتبطة بواقعها وجذورها, ولا تنسلخ من عوامل بقاء ذاتيتها على نقائها وصفائها.

     لقد مثل الإمام الشافعي بحق – الدور الرائد لوضع قواعد التفكير لدى المسلمين, في تشييده لعلم أصول الفقه, حتى قيل فيه إنه بالنسبة للفكر الإسلامي مثل أرسطو بالنسبة للفكر اليوناني(1) ولم يكن وحده في الميدان, بل سبقه وزامنه وأتى بعده الكثير من المفكرين الإسلاميين, الذين يعدون بكل تجرد وموضوعية علامات بارزة في إطار الحضارة الإسلامية مثلوا أمتهم وواقعهم أصدق تمثيل(2) . 

     وإذا كان علم أصول الفقه من الناحية الفنية يُعني بوضع القواعد الكلية وتحديد الإطار العام الذي يساعد على استنباط الأحكام من أدلتها وهذا في حد ذاته أمر نظري – فإن النظرة البعيدة ترينا أن الثمرة العملية الواقعية لهذا العلم لا تخطئها الرؤية الثاقبة, ذلك لأن الأحكام الشرعية إنما ترتبط بالواقع وهو مجالها ومظهر وجودها, والدين في شموله, إنما يمثل مجموعة من الضوابط والقواعد التي تنتظم الحياة في كل جوانبها ومرافقها, وتعتبر أصوله بمثابة المحاور التي يدور حولها عمل العقل المنفعل بالوحي, والهدف الأسمى للدين إيجاد الانسجام والالتئام في واقع المجتمع, وهو ما يعبر عنه بالسعادة الدنيوية, ومتى كان المجتمع كذلك, ظفر أيضاً بالسعادة الأخروية.

     ولهذا العلم – علم أصول الفقه – ارتباط وثيق بأظهر العلوم الإسلامية الأخرى, وخاصة علوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم اللغة, وفي نسيجه المتلاحم من هذه العلوم يبين لنا إلى أي مدى تتجه العلوم الإسلامية النظرية إلى الحياة الواقعية لتضبط حركتها وَفق منهج الحق تبارك وتعالى, هي إذا نظرية ذات أهداف عملية واقعية, تستجيب لحركة المجتمع, حتى يظل موصولاً بالله رب العالمين.

التفلسف الموفق بين العقل والوحي :

     وجدت العقلية الإسلامية نفسها أمام أنماط جديدة من الفكر, بعد أن ترجمت هذه الأنماط إلى نطاق اللغة العربية, وانبهر بعض المفكرين – وبخاصة أصحاب الاتجاه المشائي في الإسلام – بهذا الفكر, واعتقدوا أنه النموذج الأعلى لنِتاج العقل البشري, لما له من دقة في التنظيم والاستيعاب, ولما يحتوي عليه من تحليلات وتصورات للمشاكل على نمط جديد, وهو فقي نفس الوقت له صلة بالدين, تبدو متفقه معه في بعض الأحيان ومختلفة معه في أحيان كثيرة. ولما كان الإسلام هو العقيدة المشتركة لهؤلاء الفلاسفة, فإنهم اعتقدوا أنهم مضطرون لرفع التناقض المادي بين الدين والفلسفة, وكان محور تفلسفهم – غالباً – هو هذا الإطار, وهنا يمكن أن نقول: هل كان عمل هؤلاء الفلاسفة في هذه القضية أمراً لازماً ؟ وإذا كان كذلك فهل نجح هؤلاء فيما راموه من إيجاد انسجام بين عناصر الفكر وعناصر الدين ؟ إن الإجابة على هذين السؤالين تحدد واقعية التفكير المشائي لدى المسلمين أو عدم واقعيته, وبالتالي تبين ما إذا كان هذا النوع من التفلسف استجابة ذاتية تعبر فقط عن مطامح أصحابها الفكرية أو أن ذلك كان استجابة لواقع الأمة, بعد أن أصبح الإسلام هو إطارها الفكري العام.

     يعلم دارس الفكر الفلسفي الإسلامي في جانبه المشائي أن خير من يمثل هذا الفكر في مشرق الأمة الإسلامية هما الفيلسوفان الكبيران : الفارابي وابن سينا, وفي مغرب الأمة الإسلامية, ابن باجة – ابن طفيل – ابن رشد, مع التفاوت في درجة هذا التمثيل. ولا نستطيع في هذا البحث أن نأتي على كل المحاولات التي أبرزت تفلسفهم في نطاق مهمتهم التي رسموها لأنفسهم, وهي التوفيق بين الدين من جانب والفلسفة من جانب آخر, بل سنختار بعضهم كممثلين لهذا الاتجاه في بعض القضايا, لنصل إلى النتيجة التي ننتظرها. وسيكون الفارابي وابن سينا الممثلين لهذا الاتجاه.

نماذج من القضايا التي شغلوا أنفسهم بها :

     هذه القضايا هي :

أ‌)       العلاقة بين الله والعالم.

ب‌)  الأسس النفسية والفلسفية لقضية النبوة.

ج) طبيعة الإنسان وماهيته.

د) مصير الإنسان.

     سنتناول موقف الفارابي من القضيتين الأوليتين, وابن سينا من القضيتين الأخيرتين, لينكشف لنا من خلال هذا التناول الموقف العام للفكر الفلسفي الإسلامي في صورته النظرية المشائية ومدى بعده أو قربه من واقع الأمة وروحها وثقافتها, التي تنطلق من مصدري الإسلام: القرآن والسنة, في صورة لا ترى عليها مسحة الفكر الدخيل.

العلاقة بين الله والعالم :

     الفارابي من القائلين بثنائية الوجود : الوجود الواجب ( الله ) والوجود الممكن ( العالم ) وهذه الثنائية في طبيعة الوجود أمر حتمي, لازم لضروريات العقل, إذ لا يتصور للوجود حداً ثالثاً, كما لا يتصوره واجباً كله أو ممكناً كله, لأن الواقع – أيضاً – يحتم ذلك. وليس لنا أن نقف عند الأمور الظاهرة لنقول إن الفارابي هنا استخدم مصطلحي واجب الوجود وممكن الوجود وهما ليس من نِتاج الثقافة والبيئة الإسلامية, كبديل للفظي ( الله ) و( الكون ) الإسلاميين, ذلك لأنه لا مشاحة في الاصطلاح, فالمعاني هي المقصودة أولاً وليست الألفاظ. وإنما الذي يعنينا هنا, هو العلاقة الزمانية بينهما.

     إن الإسلام يقرر صراحة ( توحد ) الحق تبارك وتعالى في الأزل, كتوحده فيما لا يزال وفي الأبد { هو الأول والأخر والظاهر والباطن .. (3) } وآيات الخلق التي تبين ارتباط هذه العملية بالزمان, كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة, قال تعالى : { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام …. (4) } { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين, وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها  وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين   ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتينا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين   فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (5) }. وفي الحديث الذي رواه (البخاري ) وغيره من الثقات عن عمران بن حصين قال : قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم, جئناك لنتفقه في الدين, ولنسألك عن أول هذا الأمر, قال : كان الله ولم يكن شئ “معه ” وفي رواية ” غيره ” وكان عرشه على الماء, وكتب في الذكر كل شئ وخلق السموات والأرض (6).

     وإذا حللنا هذه النصوص نجدها توحي بالخلق المباشر من العدم المحض, وليس لأحد أن يقول بخلاف هذا, المهم إلا أولئك الذين أشربت نفوسهم حب ثقافة ذات تصورات بعيدة عن فكرة الخلق المباشر التي جاء بها الإسلام, وليست هذه التصورات حجة أمام سلطان القدرة الإلهية المطلقة التي تهيمن على كل قوانين الوجود, لأنها من نتاجها وآثارها.

     ثم إن القول باستحالة الخلق المباشر من العلم المحض, فوق كونه مظهراً من مظاهر عدم الإدراك لطبيعة الذات ” الإلهية ” في صفتها الفاعلة المؤثرة على الوجه المطلق, هو كذلك عمل من عمل الوهم كما تنبه إلى ذلك حجة الإسلام الغزالي, في معرض رده على القائلين بالقدم الزماني للعالم (7).

     هذه هي الصورة كما بينها الدين. والفارابي يرى أنها قابلة للتعديل والتأويل حتى ينسجم الدين مع الفلسفة, أورد في ذلك كثيراً من النصوص في كتابه ( عيون المسائل ) وغيره من الكتب الأخرى, تفيد التساؤل بين ( واجب الوجود ) كعلة وبين ( ممكن الوجود ) كمعلول من حيث الزمان, يعني بذلك : التلازم الضروري في الوجود بين الطرفين, اطراداً – في زعمه – للتلازم بين المعلول وعلته.

     يرى الفارابي أن ( الواجب ) لذاته قديم قدماً ذاتياً وزمانياً معاً, فأما القدم الذاتي فمعناه الاستغناء وعدم الاحتياج, وأما القدم الزماني فيعني به : عدم أولية الوجود.

     وأما ( الممكن ) لذاته فقديم قدماً زمانياً فقط, وأما من حيث الذات فهو ( محدث ) بمعنى أن وجوده ليس من ذاته بل من غيره, وإذاً فهو طارئ على ذاته وأما من حيث الزمان فهو ملازم لعلته, فلا تفاوت بينهما من هذه الناحية.

     وفكرة ( الحدوث ) الذاتي و ( القدم ) الزماني للعالم, هي التي اعتقد الفارابي أنه بها يرفع التناقض البادي بين الدين والفلسفة, فلم يقل بقدم المادة قدماً ذاتياً كما هو الشأن في الفلسفات المادية عموماً, وفي نفس الوقت لم يقل بالحدوث الزماني للعالم حتى لا يترتب على هذا القول المحالات الآتية :-

1-    تجدد إرادة.

2-    تجدد قدرة.

3-    تجدد غرض.

4-    تجدد طبيعة.

ولما كانت هذه كلها مستحيلات في حقه تعالى, فإن التنزيه يقتضي القول بالقدم الزماني للعالم.

     هذه هي صورة العلاقة بين ( الله ) و ( العالم ) كما يرى الفارابي, ونعتقد من جانبنا أنه قد أرضى فيها الفلسفة على حساب الدين, ولا نقصد من ذلك أن الفكرة صحيحة في ذاتها, بل إن ما اعتقده محالات تترتب على القول بالحدوث الزماني لا تخضع للنقد العلمي, وهذا ما قال به الغزالي في الرد عليه وعلى ابن سينا, حيث قرر أن المحالات التي تصورها هذان الفيلسوفان عند القول بحدوث العالم حدوثاً زمانياً, هي مجرد تحكم أو تصور للمسألة على غير وجهها الصحيح, وإذاً فدعوى الضرورة في تصورهم هذا, ليست صحيحة.

    يقول الغزالي في ذلك : ” بم تنكرون على من يقول إن العالم حدث بإرادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه, فإن اعترض على هذا بأن العلة الموجبة تقتضي وجود معلولها معها, فكما يستحيل حادث بغير سبب وموجب, يستحيل كذلك وجود موجب قد تم بشرائط إيجابه وأركانه وأسبابه, حتى لم يبق شيئاً منتظراً ألبته, ثم يتأخر الموجب, بل وجود الموجب عند تحقق الموجب بتمام شروطه ضروري وتأخره محال كاستحالة وجود الموجب بلا موجب.

     ثم يقرر الغزالي أن استحالة إرادة قديمة متعلقة بإحداث شئ, بعد أن لم يكن حادثاً, إما أن تكون معروفة بضرورة العقل, وإما أن تكون قضية نظرية, فإن كانت الأولى فلِمَ لم تجمع عليها كل العقول ؟ ! وإن كانت الثانية فأين الحد الأوسط الذي يربط بين طرفي الدعوى ؟ (8).

     ثم يواصل الغزالي رده لفكرة الترابط العلمي بين الله والعالم فيقول ” استبعدتم حدوث حادث من قديم, ولا بد لكم من الاعتراف به, فإن في العالم حوادث ولها أسباب فإن استندت الحوادث إلى حوادث مثلها, فهذا محال, وليس ذلك معتقد عاقل, ولو كان ذلك ممكناً لاستغنيتم عن الاعتراف بالصانع … وإذا كانت الحوادث لها طرف ينتهي إليه سلسلتها, فيكون ذلك الطرف هو القديم, فلابد إذاً على أصلكم من تجويز صدور حادث عن قديم (9).

     وينتهي من هذا الموقف إلى بيان أنه لو سلمنا بأن الله ( علة ) والعالم ( معلول ) فليس يعني ذلك أن الله علة طبيعية, يصدر عنها معلولها بالطبع الذي لا يتخلف, بل الله علة ( مختارة ) ولما كان كذلك فمن حقه أن يفعل في أي وقت يشاء, واعتقد أن الغزالي هنا كان معبراً عن واقع يتغلغل فيه صوت الحق تبارك { وربك يخلق ما يشاء ويختار … } { فعال لما يريد } .

     هنا تُظهر الآيات أن فعل الحق سبحانه تابع لإرادته ومشيئته, ومن أخص خصائص الإرادة الترجيح والاختيار بين البدائل الممكنة.

     إن الفارابي في هذا المقام لم يكن متسقاً مع بيئته, ولم يكن منسجماً مع تراثه بل كان للفكر الوارد سلطان على نفسه, ولم تكن محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة هنا إلا نوعاً من إخضاع الدين لعناصر الفكر الفلسفي, وهي في نفس الوقت لم تكن ناضجة من الناحية العقلية, فما ظَنَّهُ براهين تعضد موقفه حين قرر قدم العالم على الصورة التي ذكرناها, لم تكن إلا أوهاماً أو تحكمات كما قرر حجة الإسلام.

     ويتصل بهذه المسألة قضية أخرى هي : كيف صدر العالم عن الله ؟

     إن حل الفلسفة لهذه المسألة كان من السذاجة بمكان, ظهر فيها ضحالة الفكر الفلسفي الوارد, وبخاصة لدى الأفلاطونية المحدثة, كما بان منها أن العقلية الإسلامية المشائية, لم تعط لنفسها في كثير من المواقف الفكرية حق الانتقاء والاختيار مع ما يتلائم مع واقع البيئة الإسلامية.

     لقد عبر عن هذه المسألة بنظرية الصدور أو الفيض.

     إنه يقرر أن الله سبحانه وتعالى لديه منذ الأزل صور الأشياء ومثلها, وقد فاض عنه – منذ الأزل أيضاً – مثاله المسمى ( الوجود الثاني ) أو العقل الأول.

     وتأتي بعد ذلك عقول الأفلاك الثمانية, التي تصدر عنها الأجرام السماوية وهي التي تسمى في الدين ( بعالم الملأ الأعلى ) وفي المرتبة الثالثة يوجدالعقل الفعال المسمى في الدين ( روح القدس ) ثم تأتي النفس في المرتبة الرابعة, ثم صور الكائنات المادية في المرتبة الخامسة, ثم تأتي المادة في المرتبة السادسة.

     وإذا أردنا أن نستبين رأي الفارابي في المقابلات الدينية لنظرية الفيض هذه حتى يمكننا أن نبحث عن نقاط الالتقاء بين التصورين ( الديني ) والفلسفي ( للقضية التي معنا, فإننا نلاحظ أنه يقرر أن هناك عوالم ثلاثة في نظر الدين ( عالم الربوبية ) و ( عالم الأمر ) و ( عالم الخلق ) فالعالم الأول ليس فيه إلا الواحد المطلق ( الله ) ومن ملاحظة هذا الواحد لذاته تصدر قدرته, وعنها ينشأ علمه, ومن مجموع الثلاثة : الواحد والقدرة والعلم يتكون عالم الربوبية.

     أما عالم الأمر فيلي عالم الربوبية.

   وهو متكثر في ذاته, وهو متصل بطرفين أحدهما أعلى, وهو عالم الربوبية والآخر أدنى وهو عالم ( الخلق ) ووظيفة عالم الأمر نقل أثر ( الواحد ) إلى عالم الخلق المتكثر كثرة لا نهاية لها, يقول الفارابي في ذلك : ” لا تظن أن القلم آله جمادية, واللوح بسط مسطح والكتابة نقش مرقوم, بل القلم ملك روحاني, والكتابة تصوير الحقائق, فالقلم يتلقى ما في الأمر من المعاني, ويستودعه اللوح بالكتابة الروحانية, فينبعث القضاء من القلم والتقدير من اللوح, أما القضاء فيشتمل على مضمون أمره الواحد, والقدر يشتمل على مضمون التنزيل بقدر معلوم, ومنها يسبح إلى الملائكة, التي في السموات, ثم يفيض إلى الملائكة التي في الأرض, ثم يحصل المقدر في الوجود (10).

     يظهر من هذا التحليل أن الفارابي يحاول جاهداً تفسير انبثاق العالم المتكثر عن الله الواحد على نمط يقربه جداً من الفكر الوارد وبخاصة الفكر الأفلاطوني المحدث, وإذا كان قد مزج في تصويره هذا بين المصطلحات الدينية والمصطلحات الفلسفية, فإنه ظل مخلصاً للفكر الفلسفي؛ لأن الدين يقول بالخلق المباشر, كما سبق أن بينا والفلسفة تتوقف في قضية صدور الكثير عن الواحد, وليس هناك إشكال على الإطلاق في أن يصدر الكثير عن الواحد كما قرر الدين؛ لأن القدرة الإلهية من خصائصها التأثير في الممكنات إيجاداً أو إعداماً حسب ما تقتضيه الإرادة التي وظيفتها التخصيص والتكييف.

     وصدق الله العظيم إذ يقول : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } (11).

     ومن الباحثين القدامى والمحدثين من يرى أن الفارابي بتصويره لنظرية الفيض هذه, وبرسمه لعالم المتوسطات بين الأول والعالم المتكثر, قد مال كثيراً إلى التفسير الحراني للمسألة, ذلك التفسير الذي يخضع العالم الأرضي لعالم الأفلاك والكواكب, فقد قرر هذا : المفكر الإسلامي المعروف, ابن تيمية (12) في كثير من كتاباته عن فلاسفة الإسلام, كما قال بنفس الحكم من المحدثين الدكتور جبور عبد النور والدكتور محمد البهي (13).

     وإذا كان الأمر هكذا فيكون الفارابي قد بعد عن واقع الأمة مرتين, أولاهما عندما استشعر نفس الإشكال الذي استشعرته الأفلاطونية المحدثة في العلاقة بين الله ( الواحد ) والعالم (الكثير)(14).

     وثانيهما عندما ارتضى الحل الصابئي لذلك, وهو الذي قرر أن عالم الأفلاك والكواكب هو المؤثر في العالم الأرضي.

     ومع تسليمنا بأثر الفكرين الأفلاطوني المحدث والصابئي على الفارابي في هذا المقام, فليس لنا أن ننساق وراء منطق أولئك الذين يبدو من كلامهم ربط الرجل بالفكر الوثني الصابئي.

     ذلك لأن فكرة العقول لا يستريح إليها الدَّيِّن الموحد, ولكنها في حقيقة الأمر كما يصورها الفارابي, تنتهي بإسناد التأثير من خلق وقضاء وقدر وغير ذلك من أنواع التأثير, إلى الواحد وَحده مطلقة, لأن الحق سبحانه هو الذي أعطى للمتوسطات أسباب تأثيرها فيما تؤثر فيه (15), وهذا ما نرتاح إليه تماماً, وإذاً فالجهد الذي بذله الفارابي في تصوير المسألة, كان يرجع أساساً إلى محاولة إيجاد أرض مشتركة بين الفكر البشري والحل الديني لقضية العلاقة بين الواحد والكثير, على صورة ترضي العقل والدين معاً.

     وإذا كنا قد لاحظنا أن التمثل كان واضحاً في تصوير الفكر البشري لها, مقابلاً بالصورة التي بينها الدين, فقد كان من المتوقع من مفكر مسلم كالفارابي أن يؤسس النظرية على ما لا يخالف الدين ولو في الشكل ولكن يبدو أن انبهار بعض العقول بالفكر الوارد قد غشى على فكرهم وأبعدهم كثيراً عن منهج القرآن في تناول القضايا, ذلك المنهج السهل المتسق مع حقائق الفطرة, كما يقول المرحوم الدكتور محمد إقبال (16).

الأسس النفسية والفلسفية لقضية النبوة :

     أثار الفكر المنحرف الذي مثله كل من ابن الراوندي والرازي الطبيب ومن شايعهما شكوكاً في حقيقة النبوة, تقرر أن مجئ الأنبياء كان عبثاً, لأن الناس بسبب مجيئهم انقسموا إلى شيع وأحزاب, ومن الناحية الأخرى فإن العقل كاف في إدراك المنهج الذي بغنيه عن مدد السماء, وقد صور القاضي صاعد الموقف الفكري لمحمد بن زكريا الرازي قائلاً : ” تقلد آراء سخيفة, وذم أقواماً لم يفهم عنهم, ولا هدى بسبيلهم, وهو إلى جانب تقصيره في الدين كان يكيد للأديان, ويطعن على النبوة ” (17) كما ألف ابن الراوندي ( مخاريق الأنبياء ).

     وقد أبلى المفكر الشيعي أبو حاتم الرازي بلاء حسناً في الرد على الطاعنين على النبوة في كتابه ( أعلام النبوة ) (18) كما ظهرت كتابات لبعض مفكري المعتزلة وأهل السنة تقيم النبوة على أسس من الأدلة النظرية, لعل أظهرها كتاب ( تثبيت دلائل النبوة ) للبيهقي, وكتاب (الشفاء) للقاضي عياض.

     ومما لاشك فيه أن الآراء الهدامة سريعة العدوى, ينفعل بها أصحاب النفوس الضعيفة والعقول السقيمة, ولو لم تشكل هذه الآراء تياراً خطيراً على الدين, لما رأينا هذه الكتابات المتعددة التي أشرنا إلى بعضها.

     غير أن تأسيس النبوة على قواعد نفسية وفلسفية, لم تظهر قبل كتابات الفارابي, وهي مهمة وجد نفسه أهلاً لها, وجديراً بتدعيمها, وهذا الاندفاع إلى تلك الساحة يرينا مدى الاهتمام الفكري والنفسي للفيلسوف لمسألة تشكل أصل الدين وأساسه, ذلك لأن تقويض النبوة, إنما

يعني الإطاحة بالأديان من أساسها, لأنها تمثل مهمة الوساطة بين ( مرسل ) هو الله و ( مرسل إليهم ) هم من يظهر فيهم الرسول, ولا يمكن أن يتصور العقل اتصال السماء بالأرض إلا عن هذا السبيل, وقضية كفاية العقل في أن يرسم للإنسان منهج حياته, قضية مرفوضة, لأن العقل الذي يقررها هو نفسه قاصر وعاجز, فكيف يدعي لنفسه الكمال والاستغناء.

     لم يجد الفارابي سبيلاً للرد على هذا التيار إلا أن يؤسس القضية على قواعد نفسية فلسفية, فاهتدى إلى نظرية أعتقد أنها صحيحة, تقوم على القول بأن القوة المتخيلة في الإنسان, متى كانت صحيحة, وكانت المحسوسات الواردة من الخارج غير مستوية عليها, استيلاء يستغرقها, ولم تخضع هذه المتخيلة للقوة الناطقة, فإنها يمكن أن تطلع على ما في العقل الفعال من علوم ومعارف, ويكون لديها اقتدار على التنبؤ بالمستقبل, وكلما كانت هذه القوة أقوى وأشد, كان اطلاعها وأنباؤها أكثر وأعم, حتى إذا انتهت إلى درج من الكمال, كان لها نبؤة بالأشياء الإلهية.

     ولا يمتنع إذا بلغت قوة الإنسان المتخيلة نهاية الكمال, أن يقبل في يقظته عن العقل الفعال, الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات, ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها …. فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة, وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة (19).

     والناظر المدقق فيما أورده الفارابي من نصوص يصور بها قضية النبوة يعجب لأمرين واضحين, أحدهما : تأسيس عملية التنبؤ على نصاعة القوة المتخيلة وانعتاقها من تأثير القوة الناطقة, وثانيهما, ما يفهم من لازم كلامه أن القوة الناطقة هنا أقل إدراكاً لعملية الاطلاع على ما في العقل الفعال من القوة المتخيلة, وهذا ما يتوقف فيه العقل.

     ونعتقد من جانب آخر أن تصوير المسألة على هذا الشكل يفتح باب الادعاء على مصراعيه لكل من تطاوعه نفسه الضعيفة.

     وهذا وذاك مما لا يقره الدين, ذلك لأن المسألة من أولها إنما هي اصطفاء واختيار من الله سبحانه, والله يعلم حيث يجعل رسالته.

     وهو يصنع رسله على عينه وفي هذا إغلاق لباب التنبؤ الكاذب مرة أخرى لم يكن الفارابي هنا – على الرغم من شرف مقصده – معبراً عن واقع يدين بأن النبوة اختيار مطلق من الله سبحانه بمقاييس ترجع إلى ذاته, ويصدق الواقع كل نبي, أن مجيئه كان على صورة لا يمكن تجاوزها, مما يتأكد معها أنها هبة من الله لمن يعلم أنه أهل لتحمل هذه التبعة العظمى.

طبيعة الإنسان وماهيته كما يصورها ابن سينا :

     ألح ابن سينا كثيراً على النظرة الروحية للإنسان, وهو بصدد دراسة النفس الإنسانية وقواها, حتى يمكن أن يقال على حد تعبيره إن البدن ما هو إلا سجن للنفس, وأن عليها أن تفلت من إساره, وتعرج إلى عالم القدس والتطهر, إذا أرادت السلامة.

     وقد تنوعت البراهين التي ساقها في هذا المقام, ومنها ما توجه به إلى إثبات وجودها وجوداً مفارقاً للبدن, ومنها ما ساقه لإثبات روحيتها وعدم ماديتها, ومنها ما أتى به للدلالة على خلودها, ودراسة ابن سينا للنفس تعتبر بحق أوسع الدراسات التي ظهرت في نطاق الفكر الإسلامي, وقد كانت ملهمة لكثير من الدراسات التي أتت بعده, سواء منها ما كان في الشرق أم في الغرب, وقد تأثر ابن سينا بالمدارس الفكرية قبله وأخذ منها ما يراه أهلاً للاقتباس, وركب من العناصر التي أخذها, نظريته في النفس.

     ومن المفكرين الذين أخذ عنهم : أفلاطون – أرسطو – أفلوطين, بعض المذاهب الشرقية الدينية.

     وإطالة ابن سينا النفس في إثبات روحانية النفس وخلودها, يدل من غير شك على أن الرجل ينظر إلى الإنسان وماهيته نظرة روحية, وحسبنا أن نقف عند الأدلة التي قدمها في هذا السبيل وهي :-

1-    النفس تدرك المعقولات, وليس هذا من خواص البدن؛ لأن الصورة المعقولة إذا وجدت في العقل لم تكن ذات وضع بحيث تقع إليها إشارة تجزؤ أو انقسام أو شئ مما أشبه هذا المعنى, وهذا يدل على أن الذات القابلة للمعقولات لا يمكن أن تكون جسماً.

2-    أن النفس تدرك الكليات, وتدرك ذاتها دون آلة. أما الحس فإنه لا يدرك ذاته, بل يحس شيئاً خارجاً عنه.

3-    أن استمرار العمل, وقوة المحسوسات الشاقة المتكررة توهن الآلات الجسدية وتضعفها, وربما تفسدها, كالضوء للبصر, والرعد الشديد للسمع, وعند إدراك القوى لا يقوى على إدراك الضعيف.

4-    أن أجزاء البدن تأخذ في الضعف بعد منتهى النشوء, وذلك دون الأربعين أو عندها, والنفس إنما تقوى بعد ذلك في أكثر الأمر (20).

     هذه هي الأدلة التي ساقها ابن سينا على روحانية النفس, ونحن لا نناقشه في ذلك فالقضية محل اتفاق بين كل المؤمنين, غير أن الذي يستوقف الباحثَ, الذي ينظر إلى الأمور من واقع ثقافة الأمة وما جاء به دستورها, وهو القرآن الكريم, ملاحظة أن الرجل هنا كان واقعاً تحت تأثير الفكر الفلسفي أكثر من تأثره بالروح العامة للقرآن؛ لأن هذا الكتاب يقرر ثنائية الإنسان, وينظر إليه من خلال تركيبه في صورته الأولى كما جاء في قوله تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } (21).

     ودعوة الإسلام إلى الحفاظ على البدن بتحريم تناول الخبيث, والدعوة إلى تناول الطيب وتوجيهه إلى الانضباط في الأكل والشرب وعدم الإسراف فيهما, وطلبه أن يُعني المسلم ببدنه, بالرياضة والراحة وعدم الإرهاق, كل هذه تظهر لنا أن الإسلام ينظر إلى الإنسان تلك النظرة الثنائية المتعادلة, فإذا أضفنا إلى ذلك, تحريم الإسلام للرهبانية وتعذيب الجسد, والدعوة إلى أن يكون المسلم قوياً في جسمه كقوته في روحه وشخصيته, لتبين لنا إلى أي حد تتأكد النظرة الصحيحة للإنسان من منظور الإسلام, بل يمكن أن يقال على سبيل الإجمال, إن كليات الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة, إنما اتخذت من الإنسان بهذا المعنى محوراً, يشكل الإطار العام, الذي يعني به, في عقله – ونفسه – وبدنه, وعرضه, وماله, وحياته, وآيات التكريم التي وردت في القرآن الكريم متوجهة إلى الإنسان, في مثل قوله تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } (22) إنما تعني تكريمه ككيان عام.

     وآيات القصاص التي تمثل جانباً من القانون الجنائي في الإسلام, والتي تتناول الأحكام فيها بدن الإنسان أو بعض أعضائه إنما تؤكد هذا المعنى.

     وعناية الإسلام ببدن الإنسان بعد أن تُجاوِزَه الروح, إنما يؤكد هذا أيضاً.

     وليس لقائل أن يقول إذا كان الإسلام يقر الثنائية على هذا الشكل, فأين المفارقة بين نظرته هذه وبين نظرة ابن سينا بخاصة, والفلسفة الروحية عامة, في هذا المقام ؟

     والإجابة على هذا السؤال واضحة, ذلك لأن الفلاسفة يرون أن بدن الإنسان هو المثبط لانطلاق الروح, وكأنه ليس من خلق الله, مما يتبين معه أن الثنائية التي يقول بها هؤلاء, ومنهم ابن سينا, ليست إلا ثنائية شكلية, لأن النفس أو الروح هي الإنسان على الحقيقة.

     وهناك نصوص لابن سينا تربطه إلى حد بعيد بأصحاب الفلسفة الطبيعية في هذا المقام, إذ يرى أن جسم الإنسان إنما ينشأ من امتزاج العناصر الأربعة, يقول في ذلك ” إن جميع العناصر الأربعة بطبقاتها طوع الأجرام الفلكية, …. وإذا امتزجت العناصر امتزاجاً أكثر اعتدالاً, نشأ عنها بسبب القوى الفلكية نبات, وإذا زاد اعتدال المزاج استعد لقبول النفس الحيوانية … حتى إذا أمعن في الاعتدال قبل النفس الإنسانية (23).

     ويظهر أثر النظرة غير المتعادلة إلى الثنائية الإنسانية كما يرى ابن سينا ومن معه في موضوع له خطره ونعني به : كيفية البعث, وهذا ما سنبينه الآن.

مصير الإنسان :

     ابن سينا من القائلين بالخلود, وهو قاصر على الروح وحدها في دار الجزاء, وهذا الموقف منه نتيجة طبيعية لنظرته إلى طبيعة الإنسان على الصورة التي سبقت, وقد غلَّب الروح الفلسفية على الروح الدينية, مما يتأكد معه أنه لم يكن معبراً عن واقع متدين, يؤمن بحقيقة ما جاء به الشرع في هذا المقام, وهو البعث الثنائي للإنسان الروحي والمادي معاً, وكذا الجزاء.

     وقد بين القرآن, كما أظهرت السنة المطهرة حقيقة البعث وماهيته, وهو بنفس الثنائية بالنظر إلى طبيعة الإنسان, في نصوص ظاهرة الدلالة على معانيها, ففي القرآن نرى مثل قوله تعالى :

     { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } (24).

     وشهادة الأعضاء عند الحساب, تعني أن البعث واقع على الروح والجسد معاً, وفي الحديث الصحيح ” تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً … “.

     وإن ابن سينا يزعم أن نصوص الشرع الواردة في هذا المقام قد ترضي رغبات العوام أما الحكماء فغايتهم من البعث والجزاء, إنما هو المعنى الروحي فقط.

     يقول في ذلك : ( يجب أن يعلم أن المعاد منه ما هو مقبول من الشرع, ولا طريق إلى إثباته إلا من طريق الشريعة, وتصديق خبر النبوة, وهو الذي للبدن عند البعث, ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني, وقد صدقته النبوة, وهو السعادة والشقاء الثابتتان بالمقاييس التي للأنفس, وإن كانت الأوهام منا تقصر عن تصورها الآن.

     والحكماء الإلهيون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية, بل كأنهم لا يلتفتون إليها ) (25).

     ولما كان تخريج القضية على هذا النحو يتعارض مع ظاهر الشرع في تأكيد المعاد الجسماني بأكثر من شاهد ودليل, فإن القول بأن الحكماء لا يلتفتون إلى هذا النوع, ويتأولون النصوص – وهي ظاهرة الدلالة لا تقبل التأويل – قد يوحي إلى المفكر المسلم, الغيور على دينه, بأن وراء هذا التأويل غرضاً لا يليق بذات الحق تبارك وتعالى, كما لا يجوز في حق رسوله عليه الصلاة والسلام, وهو أن هذه النصوص الظاهرة, إذا كان ظاهرها غير مراد – وهو لازم موقف ابن سينا ومن معه – فإن مقتضى هذا أن تكون مجرد تصوير حسي لأمر معني, وإثارة خيال المخاطبين بها, حتى يمكنهم إدراك الأمر البعيد, وأما في الواقع المرتقب فلن يكون شئ من ذلك الظاهر, وهذا ما لا يرضى به شرع الله, كما يرضى به عقلاء هذه الأمة.

     وإذا كان من المقرر بين المحققين أن المعول عليه في السمعيات هو ظاهر الشرع بعد أن تأكد بالبرهان وجود الله وضرورة النبوة, فكيف يصح من حيث المنهج من مفكر مسلم كابن سينا أن يصول ويجول في دائرة, يستخدم فيها روح التفلسف في الوقت الذي نرى النص الشرعي قد حسمها ؟

     ثم إن ما ذهب إليه لا يثبت أيضاً أمام العقل الواعي.

     وأهم ما يمكن أن يرد به عليه هنا, هو أن دعواه بأن النصوص المتصلة بهذا الموضوع, إنما هي أمثال فريدة, على حد أفهام الخلق, مثلها النصوص المتشابهة التي ينبغي أن تؤول, أقول : هذه الدعوى غير صحيحة, إذ الألفاظ الواردة في التشبيه, تحتمل التأويل على عادة العرب في الاستعارة, والقرائن تؤيد ذلك, كما دلت العقول على استحالة المكان والصورة الجارحة … وأما ما جاء في وصف الجنة والنار وتفصيل أحوالهما, فقد بلغ مبلغاً لا يحتمل التأويل, فلم يبق إلا حمل الكلام على حقيقته.

     وإذا كان ابن سينا قد نظر إلى القضية في ضوء النظرة العقلية القاصرة, التي تستبعد إعادة الأجسام إلى الحياة الثانية بعد أن ترمي وتبلى, فإن هذا منه يدل على عدم شعوره الكامل بالقدرة الإلهية, وهذا موقف إن ظهر من مفكر طبيعي ينظر إلى الأمور من خلال القوانين التي تحكم المادة, فلن يكون مستساغاً من مفكر مسلم, كان المفروض أن يوقن بأن قوانين المادة, هي من صنع خالق المادة, وهو يطوعها كيف يشاء, وفي أي وقت يختار ويريد.

     لقد نازع الغزالى ابن سينا في هذا المقام, وبين أن ما ساقه من أدلة على نظريته إلى المعاد والجزاء ليست برهانية (26), وانتهى من هذه المعركة بما أقره المتكلمون عموماً من أن مسألة المعاد والجزاء بالمعنى المزدوج أمر ممكن في ذاته, لأنه لم يقم دليل على استحالته, بعد أن تبين تهافت أدلة القائلين بالروحية فقط, فإذا اقترن بالإمكان الذاتي النص الصحيح, الظاهر الدلالة, فليس للعقل مدخل حينئذ لأن الأمر يكون خارجاً عن مجاله, متجاوزاً لطبيعته.

تقويم :

     هذه بعض المسائل التي تعرضت لها العقلية الإسلامية, ومن خلال ما سبق يظهر لنا أن هذا النوع من التفلسف لم يكن موفقاً دائماً, فقد كان المفكر المسلم واقعاً تحت تأثيرين متعادلين, أحدهما وارد, وهو الفكر الفلسفي والآخر داخلي, وهو حقائق الدين التي جاءت بها النصوص القطعية, وفي تغليبه للروح الفلسفية على الروح الدينية, تجاوز للواقع الذي اصطبغ بالدين, ومحاولة لمزج الفكر الإسلامي بعناصر غير متكافئة, ذات روح وصبغة لا تتفق مع البيئة الإسلامية.

     إن المفكر الذي يعبر عن بيئته أصدق تعبير, هو ذلك الذي يعمل في الإطار العام الذي اتخذته البيئة ( أيديولوجية ) لها, ولما كان الإسلام هو أيديولوجية هذه الأمة, بحقائق الظاهرة, وبقضاياه التي جاء الشرع موضحاً لها, فإن محاولة تجاوزه بإيثار نمط فكر لا يتفق معه إنما يعد خروجاً على الواقع والبيئة, وتفلسف لا يرضي عقل الأمة وقلبها.

     ولن ندعي أن تفلسف هؤلاء كان بهذه المثابة في كل قضية تعرضوا لها, فهناك كثير من المسائل الفلسفية التي نبغوا فيها, مما لا صلة لها بالدين نفياً أو إثباتاً.

     وبخاصة في المجال الرياضي والطبيعي وغيرهما مما سنكشف عنه في الجزء التالي من البحث.

الفكر العلمي الإبداعي لدى المسلمين :

(1)مطالب الواقع الجديد :

     انفتح المسلمون على الثقافات التي عاصرت ظهورهم كأمة, واقتضى واقعهم أن يكون للفلسفة الطبيعية نصيب أوفى من ثقافتهم العامة, قرأوا مؤلفات أوقليدس وبطليموس, وبقراط وجالينوس.

     وبعض كتب أرسطو في الجانب العملي الطبيعي, وأخرى ترجع إلى المذهب الأفلاطوني الجديد, والفيثاغوري المحدث, وتعاليم الرواقين, ويبدو أن إحساسهم العميق بضرورة تطوير الحياة العملية بجانب الحياة الروحية التي تكفل الدين بترقيتها هو الذي دفعها إلى ذلك, بل لا نكاد نجد فارقاً في إطار الحياة الإسلامية بين ما يسمى ديناً وما يسمى علماً, فالدين علم لديها والعلم دين كذلك.

     ولم يكن المسلمون محدودي الأفق, يؤثرون الانغلاق على أنفسهم, بل ترسخت في وجدانهم قضية الإفادة التي بها ترقى الحياة, مهما كان مصدرها, الحكمة ضالتهم, والمقصود بها هنا كل مفيد للحياة أنى وجدوها فهم أحق الناس بها (27), وقد عبر عن هذا ما قاله المسعودي إن “الواجب ألا يوضع إحسان محسن, عدواً كان أو صديقاً, وأن تؤخذ الفائدة من الرفيع والوضيع(28).

     وما كان لأمة كالأمة الإسلامية أن تمنع نفسها عن طلب العلم النافع لترقية الحياة, ودينها يأمر بإعمار الأرض واستغلال طاقاتها, بل طاقات ما فوق الأرض, هادفاً من وراء ذلك إلى تحقيق سيادة الإنسان على الكون, حتى يستأهل معنى الخلافة عن الله رب العالمين.

     وقد مزج الإسلام بين الجانب المادي للحياة وبين الجانب الروحي فيها, بحيث لا يمكن الفصل بينهما عند النظرة الثاقبة.

     فجميع عناصر الكون المادية, يجعل منها الإسلام دلائل وشواهد على الخالق سبحانه وتعالى وعلى حكمته وحسن تدبيره وسعة قدرته, وإذاً فالكون مَجْلَى للإله, وآفاقُه الرحبة الفسيحة ميدانٌ يستلفت الأنظار, ويأخذ بالعقول, حتى يتعمق الإيمان في نفس المؤمن, فإذا انضم إلى الآفاق الكونية, ما أودع في النفس من أسرار, فإن إدراك عظمة الخالق من خلال هذين المجالين, تؤكد الإيمان وتقويه, وتبين أن الله هو الحق, وقد صدق الله العظيم حيث قال : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد } (29).

     إن تاريخ الإسلام يرينا أن المسلمين لم يقفوا بالبحث العلمي – بعد أن فهموا وهضموا علوم الأوائل في الجانب العملي – عند ما تقتضيه حاجتهم العملية, التي لم تكن تستلزم إلا قليلا من علم الحساب, يفيد في تقسيم الفرائض وفي شئون التجارة إلى جانب قليل من علم الفلك يضبطون به مواقيت العبادات, بل سارعوا يجمعون الحكمة من كل صوب (30) متجاوزين المطالب المحدودة إلى الإيغال في العلم بدرجة تجعلهم أهلاً لأن تكون أمتهم أمة حضارية.

     ولم يكن المنهج الذي أقره الإسلام في هذا الجانب, إلا على مستوى يمكن أن يثمر معه البحث العلمي في كل جنباته, فقد جعل الإسلام للعقل مجالاً هو ” عالم الشهادة ” يستكشف فيه أسرار الخالق, وعناصر هذا المنهج تتجلى فيما يلي : –

1-    إيثار التجربة على النظر فيما يتعلق بالأمور الحياتية الدنيوية. ( منهج عمل تجريبي ).

2-    الدعوة إلى السير في الأرض, والاعتبار بما حدث للأمم السابقة ( منهج تاريخي استردادي ).

3-    قياس الأشياء والنظائر عند اتحاد العلة الجامعة بين التماثلين ( منهج قياس استدلالي ).

4-    عدم الفصل بين عنصري الحياة الدين والدنيا.

5-    إبراز الحقائق في مواجهة الخرافة والأسطورة.

     وبهذا المنهج تصطبغ الحياة الإسلامية كلها بصِبغة روحية, وتغدو نمطاً فريداً تتوازن فيه أشواق الروح مع مطالب البدن, على مستوى الفرد, وعلى مستوى الأمة, فتسود القيم العليا, كبديل للقيم الهابطة التي يحدثها الفراغ الروحي, حين يتناول العلم الحياة من جانب واحد, هو الجانب المادي.

     هذا هو الواقع الذي أحدثه الإسلام, بهذه النظرية المتعادلة إلى الحياة, وإذاً فترقية الحياة في نظره إنما يكون بالعلم العملي المرتبط بالقيم الإيمانية الصادقة, ومفهوم هذه النظرة أن العلم الذي لا ترقى به الحياة في جانبيها الروحي والمادي معاً, هو علم قاصر وضرره أكثر من واقعه, ولعل الواقع يصدق تلك النظرة, بعد أن رأينا أن التقدم العلمي المعاصر, الذي انزوى معه الجانب الروحي, أصبح خطراً يهدد البشرية كلها.

     وحتى نكون أكثر تحديداً فيما نحن بصدده, نقول : إن العلم الصحيح الذي يتعامل مع الحقائق الثابته لم يكن مسئولاً عن النتيجة التي أصبح عليها إنسان اليوم, وبخاصة في بلاد الغرب.

     وإنما المسؤول عن ذلك هم أولئك الذين يطوعون العلم ويسخرونه لخدمة أغراض لا تخدم العلم, وهي في نفس الوقت خطر على الدين ومن ثَم خطر على الإنسان (31).

والعلم إن لم تكتنفه شمائل

                تعليه كان مَطِيَّة الإخفاق

(2)أسباب نفسية :

     نعتقد أن ضرورة التلائم مع الواقع الجديد الذي صوره الإسلام للحياة الإسلامية في مجالها الرَّحب, الذي تتعانق فيه الروح مع المادة, لم يكن إلا تعبيراً عن عوامل نفسية اعتملت بها نفوس المتدينين, وقد تشوق المسلم إلى أن يقرأ أسرار الخالق منشورة في كتاب الخلق, كما يقول (ديبور) وهذا أمر مرتبط بقضية الإيمان كما سبق أن أشرنا وهو أيضاً مسألة نفسية عقلية وجدانية؛ فكأن تطلع المسلمين إلى اكتشاف أسرار الكون بالنبوغ في العلم, فريضة إيمانية بجانب كونه نزعة نفسية.

     وحَسْب المسلم أن يكون هذا منطلقه في طلب العلم, وهنا تسقط كل العوامل التي تنحو بالبحث العلمي منحى غير صحيح من الهوى والغرض, والتفسير غير الملائم لقضاياه والتطبيق المزيف لقوانينه.

(3)أسباب حضارية :

     ترجم المسلمون علوم الأوائل إلى اللغة العربية, وكان الدافع الحضاري من بين الأسباب التي حملتهم على ذلك, فقد تطلع بنو العباس – وهم الذين تم تحت سلطانهم ترجمة كتب الأولين- إلى أن يصلوا بالبلاد في ظل حكمهم إلى نظام حضاري متقدم, وقد كان لنشأة الفرس في كنفهم الأثر الواضح في ذلك, والفرس أمة ذات حضارة عريقة.

     وقد هيأ الواقع الجديد للأمة, الذي اتسم بالحرية الفكرية, للعلم أن ينبت ويترعرع. وأفاد المسلمون من غيرهم في هذا المجال وربطوا ما أفادوا منه بتطلعهم الحضاري, وأضافوا وطوروا, لإحساسهم بأنهم أصحاب رسالة, من خصائصها أن تكون سباقة في كل من مجالي المعرفة, النظرية منها والعملية.

     ومن الأسباب الظاهرة التي نهضت بالعلم التجريبي في ظل الإسلام, أن هذا الدين نفسه يحض عليه, ويدعو إليه, ويعطي للعلماء منزلة لا تدانيها منزلة غيرهم, بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك, فيجعل النبوغ في العلم بمعناه العام, طريقاً إلى زيادة خشية العالم لله رب العالمين.

     فيقول القرآن في ذلك : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها, وغرابيب سود    ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماءُ إن الله عزيز غفور } (32). والآيتان معاً جامعتان لكل أنواع العلم تقريباً, ففي أولاهما حديث عن الماء وخواصه وأثره, وهو محل دراسة لبعض ال     الكيميائية والطبيعية, ومصدره – وهو السماء – مجال لدراسة العلوم الفلكية, وأثره في الأرض والإنسان وسائر الكائنات الحية, ساحة لعلم طبقات الأرض والزراعة, وأجناس الإنسان والحيوان والنبات, والحديث عن الجبال وما فيها من صخور متنوعة, محل لكثير من العلوم المشتركة, ثم يعقب على ذلك كله بأن العلماء الذين تخصصوا في هذه العلوم, هم أشد الناس خشية لله.

     من هذا يظهر أن الإسلام نفسه يدعو إلى العلم الذي ترقى به الحياة وتتحضر, في ظل قيم عليا أرساها الدين في شكل أحكام شرعية, لتأخذ حياة البشر طريقها نحو الترقي في سلم السعادة والظفر.

    لم يكن انفعال أولي الأمر من بني العباس بالدافع الحضاري كعامل حاسم في الانفتاح على العلوم الكونية, وما رأوه من تشجيع القرآن على العلم, إلا تعبيراً عن واقع الأمة في تطلعها نحو أهدافها, واستجابة لعوامل دخيلة حركها الدين وزكاها وأمر بتنميتها وتطويرها.

     إن عالمية الإسلام في نطاقيه : الزماني والمكاني, تحتم أن يكون له دور بارز في تطوير الحياة وترقيتها, وإلا كان ديناً مغلقاً, ومن ثَم كان انفتاح المسلمين على ثقافة غيرهم بمعناها الشامل, بعد أن انفتحت أمام سلطان الإسلام الروحي الأمصار والديار, أمراً يمت بأوثق الصلة إلى طبيعة الإسلام نفسه. وقد فقه المسلمون هذا المعنى, فكانوا في العلم العملي الذي يهدف إلى الحقائق العلمية المجردة, أنبغ منهم في بعض النواحي النظرية, التي جعلوها منظوراً, وقعت من خلاله عقولهم على بعض قضايا الدين فكان مصيرهم ما بيناه فيما سبق.

     وقبل أن أترك هذا المقام أنقل هنا نصاً أورده القاضي صاعد في كتابه ( طبقات الأمم ) يعبر أصدق تعبير عما نحن بصدده, يقول : ( لما أفضت الخلافة إلى المأمون, تمم ما بدأ به جده المنصور, فأقبل على طلب العلم من مواطنه, واستخراجه من معادنه, بفضل همته الشريفة, وقوة نفسه الفاضلة, فداخل ملوك الروم وأتحفهم, وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة, فبعثوا إليه بما حضره من كتب أفلاطون وأرسطو وبقراط وغيرهم من الفلاسفة, فاختار لها مهرة التراجمة, وكلفهم إحكام ترجمتها, فترجمت له على غاية ما يمكن, ثم حض الناس على قراءتها, ورغبهم في تعلمها (33) ).

مظاهر النبوغ العلمي عند المسلمين :

     لا أحب التوسع في تقدير أمجاد الأسلاف, حتى لا يستغرق ذلك طاقة الباحث النفسية فينسى هموم الحاضر, والواقع الأليم الذي تحيا فيه أمتنا, اللهم إلا بالقدر الذي يحيى في النفس بوارق الأمل نحو انبعاث جديد, تأخذ فيه الأمة بأسباب التحضر والرقي, مستلْهِمة هذا الماضي المشرق, فاتحة عقلها وفكرها على منجزات العصر, فتكون بذلك موصولة بالماضي وفي نفس الوقت نعيش حاضرها بكل منجزاته, تفيد من هذا وذاك؛ بما لديها من مواهب وقدرات, وهي والحمد لله كثيرة ومتنوعة.

     وحديث الباحث عن منجزات الحضارة الإسلامية في النطاق العملي الذي به ترقى الحياة, يوم كانت الحضارة الإسلامية هي القائدة والسائدة, لا يمكن أن يصب – ولو بالتركيز الشديد – في ورقات من بحث مثل هذا, لذا سأختار – نماذج تعبر عن الظاهرة العامة التي عبرت عن مضمون الحضارة الإسلامية, في بعض المجالات, وهي : الكيمياء – الرياضة – الطب.

أولاً : في الكيمياء :

     يكاد يتم إجماع المنصفين من المؤرخين على أن ( جابر بن حيان ) يعتبر بحق نابغة من المسلمين في علم ( الكيمياء ) وإذا كان الرجل قد استمد أصوله الفكرية من تراث اليونان, إلا أنه بنى عليها ما شاءت له قدرته العلمية أن يبني من علم جديد.

     وأول ما يلاحظ في منهج الرجل العلمي أنه تعرض لقضية لم تكن لها وجود ظاهر في تراث السابقين, تدل من غير شك على مدى انفعال المفكر بالبيئة التي ظهر فيها نبوغه وأعنى بها مصدر العلم, أيكون هذا العلم في فطرة الإنسان وطبعه, ويستخرج منه عند تهيئة الأسباب المناسبة لاستخدامه, ويكون التعلم هنا ضرباً من ضروب الكشف عما هو خبئ في النفس ؟ أم يكون بالتلقين وحفز العقل إلى إدراك المعلوم, ويكون للمعلم هنا الدور الأكبر في خلق شخصية المتعلم ؟ أم إن العملية التعليمية مزاج منهما معاً ؟ إن الفرض الأخير هو الذي ارتضاه جابر بن حيان, وكأنه بذلك أراد أن يخبرنا بأن مصدر التلقين والتعليم ينبغي أن يكون مرتبطاً برمز روحي, حتى ولو كان البحث في مجال الماديات, فقد صرح بأن العلوم تستفاد من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم (34). الذي يستمده من الوحي, وإذاً فليس العلم عقلاً فقط, ولكنه نقل, ليس هو بالمبتَكَر الأصيل النسبة إلى العالم المكتشف, بل هو تنزيل من السماء, وعلى هذا الضوء نفهم اسم ( الكيمياء ) ولماذا أطلق على الأبحاث التي قام بها جابر بن حيان, فهي لفظة معربة عن اللغة العبرانية وأصل اللفظ ( كيم يه ) ومعناه أنه من الله (35).

     هل يستطيع باحث أن ينكر – حينئذٍ – أن ابن حيان كان معبراً عن الروح الدينية العامة التي تصطبغ بها الأمة, وهو ينظر إلى علم الكيمياء الذي يتعامل مع ماديات وعناصر هذا الكون ليبحث في كيفية تراكيبها, والنسب بينها ؟ وأي فارق يمكن أن يكون بين منهج هذه طبيعته وآخر يركب من الشطط فيبحث في المادة بعيداً عن علتها البعيدة, ثم يزعم أن الكون تحركه قوانين المادة الذاتية لها, فتصبح النظرة الإلحادية هي الأساس لهذا النوع من البحث ؟ الفارق واضح تماماً.

منهجه في البحث :

     يُعبر عن منهج الرجل الذي يعني أولاً بالتجربة المباشرة, رافضاً السماع والقياس دون تجربه في مجال لا تصح فيه إلا المعاينة والمشاهدة – قولُه ( يجب أن تعلم أن نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه, بعد أن امتحناه وجربناه فما صح أوردناه, وما بطل رفضناه, وما استخرجناه نحن أيضاً وقايسناه على قول هؤلاء (36).

     إن الرجل هنا يعلق صدق النتائج العلمية على ( التجارب ) المباشرة. وما شغل به السابقون أنفسهم في هذا المجال, لابد من الاستيثاق منه, بإجراء التجارب عليه مرة ثانية, وهذه الطريقة وإن بدت غريبة؛ لأن مؤداها عدم الثقة في تجارب الآخرين, إلا أنها تدل على شدة الحرص بحيث تكون النتائج العلمية التي تتولد عن التجربة في موضع لا يرقى إليه الشك.

     ويتلخص منهج الرجل في ثلاث خطوات رئيسية :-

الأولى : أن يستوحي من مشاهداته فرضاً يفرضه ليفسر به الظاهرة المراد تفسيرها.

الثانية : أن يستنبط من هذا الفرض نتائج تترتب عليه من الوجهة النظرية البحتة.

الثالثة : أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة, ليرى هل تصدق أو لا تصدق على مشاهداته الجديدة, فإن صدقت تحول الفرض إلى قانون علمي, يركن إلى صوابه في التنبؤ بما عساه أن يحدث في الطبيعة عند توافر الظروف الملائمة (37).

     والناظر في هذه المراحل يرى أن الرجل كأنما يتحدث بلغة منهج البحث التجريبي الذي يتعامل به العلماء اليوم, مما يدل من غير شك على أنه كان بحق رائد البحث العلمي التجريبي الأول في نطاق الحضارة الإسلامية.

     وفي ثنايا المنهج التجريبي هذا, يظهر المنهج الاستنباطي, ذلك لأن التفسير المؤقت للظاهرة محل الدراسة – وهو الفرض العلمي – إنما يستنبط استنباطاً من بين عدة احتمالات أخرى تدخل في دائرة التفسير, يسترجع الباحث تجربتها مرة ثانية ويعزل منها ما لا يكون صالحاً للتفسير, ويستبقى ما يكون صالحاً.

     وتطرد النتائج التي تتمخض عن التجربة في كل مادة غائبة على ثلاثة أوجه :-

1-    المجانسة بين ما جرب وما لم يجرب, أي اتحاد المادة والظروف الملائمة.

2-    جريان العادة, وهو يعني بذلك ما يترسخ في ذهن الباحث من أن الظروف المتشابهة تنتج آثاراً متشابهة, بحيث يصبح ذلك أمراً غير قابل للتخلف.

3-    دلالة الآثار (38).

أخلاقيات العلماء :

    من أخطر القضايا في البحث العلمي, تجاوز الحقيقة العلمية, والجري وراء عوامل أخرى غير موضوعية, من هوى وتعصب وادعاء. وقد تنبه إلى هذا عالمنا الكبير, فنراه يذكر دستوراً للباحث العلمي يمكن إيجازه في :-

1-    إنصاف الخصوم.

2-    إنصاف الذات.

3-    المثابرة والدأب وعدم التسرع.

4-    الدراسة النظرية للموضوع قبل إجراء التجارب عليه.

5-    إبراز النتائج العلمية في الظروف المناسبة, ولمن يستأهلها.

6-    على صاحب التجربة العلمية أن يعرف سبب وعلة قيامه بالتجربة التي يجريها.

7-    على صاحب التجربة اجتناب ما هو مستحيل وعقيم.

8-    اختيار الزمن الملائم والفصل المناسب لإجراء التجارب.

9-    ألا تخدع الباحث الظواهر القريبة فيتسرع في الوصول بتجاربه إلى نتائجها.

10 – أن يتخذ الباحث مساعديه من أهل الثقة والخبرة, وأن يكون المعمل الذي تجري فيه التجارب معزولاً في مكان هادئ (39).

     هذا هو دستور الباحثين كما صوره ابن حيان, وذلك هو منهجه, يضاف إليه أن الرجل طالب البحث أن يكون عارفاً بدلالة الألفاظ على معانيها, ثم من طرف آخر يرى أن اللغة ينبغي أن يكون فيها من الألفاظ ما يكفي لاستيعاب أشياء العالم الخارجي, وفي هذا ما يدل على أن الرجل كان بصيراً بمدى العلاقة بين المعنى العلمي والمصطلخ الدال عليه.

     أما تطبيقات هذا المنهج لدى ابن حيان فقد أثمرت تقدماً هائلاً في مجال العلوم الكيميائية امتزجت فيها مباحث الفلك والرياضة والفيزياء, إلى درجة جعلت بعض الباحثين يقرر أن الدراسات الكيميائية في بلاد الغرب, كانت تعتمد أساساً على نتاج ابن حيان العلمي حتى العصر الحديث. وممن أعجب به كثيراً من مفكري الغرب, واختار بعض كتبه فأخرجها محققة إلى عالم الوجود ( بول كراوس ).

     مما تقدم يمكن أن نقول : إن رقي الحياة, يكمن وراءه بحوث علمية متطورة, تلبي حاجة الواقع, وتعكس آمال الأمة, في إطار قيمها العليا, وأهدافها الكبرى, ونعتقد أن ابن حيان قد مثل هذه المهمة خير تمثيل, وما سقناه عنه ليس إلا رمزاً لما يمكن أن يقال في هذا المقام, وحسبه أن ذكره لا يزال في الخالدين, الذين تعتز بهم حضارتهم, بل الإنسانية جمعاء.

     وتدل قائمة الكتب المنسوبة إلى عالمنا الكبير (40) على تلك المكانة التي تبوأها, في نطاق حضارته الإسلامية, بخاصة والحضارة الإنسانية عامة.

ثانياً : الرياضيات :

     النماذج التي نبغت في الرياضيات في نطاق الحضارة الإسلامية, كثيرة ومتعددة وسنختار فيلسوف العرب ( الكندي ) كواحد من هؤلاء, نستشف من نبوغه في الرياضيات مدى انفعال عقليته بواقعه ومطالب أمته.

     لقد آمن الكندي كما آمن أفلاطون من قبل بأن الرياضيات هي المدخل إلى العلوم كلها, وأنها العدة الأولى للفيلسوف, ومن لم يحسنها فلا ثقة بعلمه, والذي أوجب تعلمه أولاً من علومها هو الحساب, الهندسة, الموسيقى, الفلك, ولا غرابة في أن يكون العلمان الأخيران متصلين بالعلوم الرياضية لديه, إذ هما تطبيقات للحساب والهندسة معاً – فالفلك يبحث في علاقة الكواكب بعضها ببعض وأوضاعها الهندسية, ونسب تأثير بعضها وتأثره بغيره, وهذه كلها من صميم الرياضة, والموسيقى ألحان تصدرها أوتار ذات أطوال وسمك من رقة وغلظة, وهي أيضاً لها صلة بالحساب.

     ويظهر أن اعتبار هذه المجموعة من العلوم مصوِّرة للرياضة بمعناها العام, كان من اختيار ( الكندي ) لأن من أتوا بعده كالخوارزمي في تصنيف العلوم, قد أضاف إليها عدداً آخر من العلوم هو علم المناظر, الأثقال, الحيل.

     وإذا كان الكندي قد تأثر بهندسة إقليدس, ومجسطي بطليموس, والأعداد عند الفيثاغورية الجديدة إلا أنه أضاف وطور, وهذب وشرح, مما يدل دلالة واضحة على الرجل في هذا المجال.

     لقد ربط الرياضة بنظرية المعرفة ببراعة نادرة المثال, فيقرر أن أولى درجات المعرفة تبدأ بالمعرفة الحسية, عندما تباشر أدوات الحس محسوساتها الموجودة في عالم الواقع هذه الموجودات تسمى في الاصطلاح الفلسفي ( الجواهر ) وهي مرادفة للأجسام المركبة من مادة وصورة, وهناك نوع آخر من الجواهر المجردة, وهي الأنواع والأجناس الكلية, التي تقال على الجواهر المحسوسة, وتسمى ( بالجواهر الثانية ) وهذا النوع من الجواهر هو موضوع المعرفة الفلسفية الحقيقية, غير أن الوصول إلى الجواهر الثانية لا يتم إلا عن طريق العلم بالجواهر الأولى, والحس لا يباشر المحسوس إلا بتوسط الكمية والكيفية, والكمية والكيفية أهم مقولتين بعد مقولة الجوهر وعلى أساس الكم والكيف ترتب العلوم الرياضية, فالحساب والموسيقى يردان إلى الكم, والهندسة والفلك يردان إلى الكيف. ونص عبارة الكندي في ذلك : ” لأن الباحث عن الكمية صناعتان, أحداهما صناعة العدد, فإنها تبحث عن الكمية المفردة, أعني كمية الحساب, وجمع بعضه إلى بعض, وفرض بعضه من بعض, وأما العلم الآخر منهما فهو علم التأليف, فإنه إيجاد نسبة عدد إلى عدد, ومعرفة المؤتلف منه والمختلف … والباحث عن الكيفية أيضاً صناعتان : أحداهما علم الكيفية الثابتة, وهو علم المساحة المسمى هندسة, والأخرى علم الكيفية المتحركة, وهو علم هيئته الكل في الشكل والحركة, وهذا المسمى علم التنجيم ” (41).

     والدارس للكندي يلاحظ أن الرجل قد تأثر بالفيثاغورية كثيراً في الإرتماطيقا أو علم العدد, ونجاحه عندما اعتقد أن قوة بعض الأعداد وتميزها, يدل على هذا ما ذكره في رسالته في المصوتات الوترية – أنه سيجعلها خمسة فصول, كعدد العناصر الخمسة التي هي الطبيعة الكلية وعدد أصابع اليد الخمسة وعدد الكواكب الخمسة, وهذه الفكرة قد راجت كثيراً في الفكر الإسلامي بعد الكندي, وكان إخوان الصفا ممن تأثر بها وهي في نظرنا تعد ساذجة لأن العدد المجرم لا مفهوم له. وإذا حق لمفكر مسلم مثل الكندي أن يضرب مثلاً لاختيار العدد ( خمسة ) حتى يكون عدداً لفصول رسالته تشبيهاً بعدد أصابع اليد الواحدة, مستخلصاً من ذلك أن الحكمة الإلهية لا تختار إلا ما له ميزة عن غيره من الأعداد, فإننا نقول إن المعدود هنا هو المنظور إليه قبل العدد. ومن جهة أخرى فإن الفكر الرياضي لو تقيد بواقع أمامه لم يتبين الحكمة منه, فإن ذلك مدعاة إلى تقييد هذا الفكر والتحكم فيه.

     وخلاصة القول إن الكندي كان بحق مثلاً للفكر الحضاري المتقدم وقد نقل المستشرق ديبور عن ( كاردان ) أنه باكتشافه لنظرية التناسب بين الإحساسات بصيغة رياضية كان يعد أحد اثنى عشر عالماً نبغوا في الرياضة حتى عصره (42).

تطبيقات :

     نجتزئ من فلسفة الكندي الرياضية موضوعاً يدل من غير شك على أن الرجل استغل نبوغه الفكري في تدعيم عقيدته, مما يتأكد معه أنه كان معبراً عن واقعه ومدافعاً عن تراثه, ومنافحاً عن عقيدته.

     لقد دعمت الفلسفة المشائية عقيدة قدم العالم, وانتقلت إلى نطاق الإسلام عبر ترجمات كتب أرسطو الفلسفية, وانبرى المتكلمون لدحضها وإثبات أن العالم محدث, موافقة لظاهر النصوص الدينية التي جاءت لتبين ذلك, غير أن أدلتهم جدلية أكثر منها برهانية مما حمل فيلسوفنا على البرهنة على تناهي العالم بطريقة رياضية لا تقبل الجدل.

     لقد أثبت ذلك في رسالة ( وحدانية الله وتناهي جرم العالم ) وقد اعتمدت برهنته على مقدمات أولية ظاهرة بنفسها هي :-

1-    أن كل الأجرام التي ليس منها شئ أعظم من شئ متساوية.

2-    المتساوية أبعاد ما بين نهاياتها واحدة بالفعل والقوة.

3-    ذو النهاية لا نهاية له.

4-    كل الأجرام المتساوية إذا زيد على واحد منها جرم كان أعظمها, وكان أعظم مما كان من قبل أن يزداد عليه ذلك الجرم.

5-    كل جرمين متناهي العظم, إذا جمعا كان الجرم الكائن عنهما متناهي العظم.

6-    أن الأصغر من كل شيئين متجانسين يعد الأعظم منهما أو يعد بعضه.

     وهذه المقدمات تخضع لمبدأ التساوي – المقدمة الأولى والثابتة – ومبدأ عدم التناقض – المقدمة الثالثة – ومبدأ الكل أعظم من الجزء – المقدمة الرابعة والخامسة – ومبدأ القياس الرياضي – المقدمة السادسة (43).

     وعلى الرغم من أن هذه المقدمات بينة بنفسها – كما ذكرنا – إلا أن الكندي قد بالغ في إقامة البرهنة عليها.

     وقد استعمل هنا قياس الخلق في تطبيق هذه المبادئ على تناهي جرم العالم, ذلك لأننا فرضنا جدلاً أن العالم لا نهاية له من حيث الجرم, ثم اقتطعنا منه جزءاً متناهياً فيمكن أن نسأل حينئذٍ : ما بقي من جرم العالم بعض الجزء المفترض اقتطاعه, هل ظل على لا نهائيته أم تحول إلى نهائي, إن قيل بالأول فهذا خُلف؛ لأنه يؤدي إلى تساوي الناقص – جرم العالم بعد الاقتطاع – بالزائد – جرم العالم قبل الاقتطاع – ومتى ثبت أن جرم العالم متناه, فإن لازم ذلك من الزمان والحركة يكونان متناهين كذلك.

     ويضاف إلى ما تقدم أن الكندي قد طبق الرياضيات في الأدوية المركبة وفي الموسيقى وفي التناسب بين الإحساسات كما ذكرنا, وإذا كان الأمر كذلك فيكون قد جمع في فلسفته بين الجانبين العملي والنظري, وإذا كان لم يلاحظ عليه ما    حظ على المشائيين الإسلاميين بعده – الفارابي وابن سينا – عندما تعرضوا للتوفيق بين الدين والفلسفة, حيث ظل – إلى حد بعيد – محافظاً على ظاهر ما جاء به الشرع من نصوص فإننا لا نملك إلا أن نقول : إنه كان معبراً عن روح الحضارة الإسلامية أصدق تعبير ولم يوهن من قدره أنه كان واقعاً تحت تأثير المعتزلة في نظرته إلى قيمة العقل في فهم أصول العقيدة والدفاع عنها, فهم أيضاً أصحاب بلاء عظيم في مواجهة التيارات التي أرادت أن تنال من قضايا العقيدة.

     إن العدد الهائل من المؤلفات التي تركها الكندي تدل من غير شك على قمته الفكرية وبخاصة في مجال الرياضيات, وتربطه بكبار المفكرين العالميين, لقد أورد له ابن النديم قائمة من الكتب والرسائل, بلغت في مجموعها مائتين وواحداً وأربعين كتاباً ورسالة : في الحسابيات وحدها اثنا عشر كتاباً, وفي الكريات ثمانية كتب, وفي الموسيقيات سبعة كتب, وفي النجوميات تسعة عشر كتاباً, وفي الهندسيات ستة وعشرون كتاباً, وفي الفلكيات ستة عشر كتاباً (44).

     ماذا يمكن أن يقال عن مفكر مثل الكندي أكثر مما ذكرناه قبلا, من أنه كان بحق ممثلاً للحضارة الإسلامية, بل الإنسانية أصدق تمثيل.

ثالثاً : الطب :

     النابهون في الطب من مفكري الإسلام كثير, ويحار الباحث إذا اختار واحداً منهم ليكون ممثلاً للآخرين, لعلمه بأن لكل ميزة. لقد ارتبط الطب لدى مفكرينا بالحكمة, وتعني لديهم : الإصابة في القول والعمل, وكأنهم قد أخذوا على عاتقهم شفاء الإنسان في جانبين : الروحي الفكري, والفلسفة النظرية هي شفاء هذا الجانب. وعلوم الكيمياء والفيزياء والفلك والرياضيات الخ … هي المعالجة لهذا الجانب المادي للحياة العامة وأما الجانب الخاص بجسم الإنسان, فعلم الطب هو الكفيل بعلاجه. ودليلنا على ذلك ما نلحظه لدى ابن سينا كمثل لما نقول, لقد سمى موسوعته الفلسفية ( الشفاء ) يعني بذلك أن الفلسفة النظرية هي شفاء النفس وقواها, في مقابلة كتاب ( القانون ) في الطب الذي يعني بالبدن.

     وللخروج من هذه الحيرة سنختار ( الرازي ) الطبيب محمد بن زكريا ليكون ممثلاً لنبوغ المسلمين في الطب, وليدل اختياره على ما كان يستفيده الواقع من الفلسفة العملية التي أدت دورها أكمل أداء.

     أتقن الرازي صناعة الطب وما يحيط بها من دراسات, إتقاناً منقطع النظير, اهتدى فيه بالحكمة التي تضافرت على تكوينها القرون ووعتها بطون الكتب. فهي في نظره خير من التجارب الخاصة التي يكتسبها شخص واحد في حياته القصيرة (45).

     ومن المسائل الهامة في منهج الرازي الطبي, أنه لم ينظر إلى الإنسان المعالج نظرة مادية بحتة, بل اعتبر أن المدخل الحقيقي لأمراضه العضوية, إنما هو ( النفس ). إنه في ذلك الزمن المبكر جداً, قد اهتدى إلى ما يعتبره الطب الحديث والمعاصر كشفاً جديداً, وهو ( الطب النفسي), وله في ذلك كتاب ( الطب الروحاني ) اعتنى به المستشرق ( بول كراوس ) ومن شذراته : ” على الطبيب أن يوهم مريضه الصحة ويرجيه بها, وإن لم يثق بذلك, فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس “.

     بجانب إيمانه الكامل بالعامل النفسي كمدخل للعلاج, وكذا استصحابه لتجارب السابقين عليه, امتاز بمواهبه ( الإكلينيكية ) وتعني : الممارسة العملية, وملازمة المرض ومراقبة تطورات العلاج وتسجيلها.

     مؤلفه العظيم ( الحاوي ) يعد موسوعة طبية نادرة إذا قيست بزمانه, جمع خير آراء السابقين وخبرتهم, وأضاف إليه الكثير, وهذا الكتاب على شهرته, لا يمثل دائماً آراء الرازي الطبية, لأن غرضه من تأليف هذا الكتاب, هو جمع ما قاله السلف في ديوان واحد, وقد حوى بين أجزائه التي بلغت أربعة وعشرين جزءاً بعض الآراء التي لم تمحصها التجربة, لأنها إلى الخرافة أقرب, من ثم يرى العلامة الدكتور محمد كامل حسين أن آراء الرازي النهائية في مجال الطب ينبغي أن تلتمس من كتبه الأخرى.

منهجه في التأليف والعلاج :

     من كتب الرازي الطبية كتاب ( المرشد ) أو ( الفصول ) ويعد – بحق – نموذجاً للتأليف العلمي, من حيث عمق الفكرة, وترتيب المباحث ودقة التبويب, وفيه يبرز الأهمية القصوى للمصطلح العلمي واسم المرض, حتى يتمكن المعالج من التشخيص الدقيق يقول في ذلك : (اطلب في كل مرض هذه الرؤس, المسمى التعريف أولاً, ومثاله أن تقول : إن ذات الجنب هو اجتماع حمى حادة, مع وخز في الأضلاع وضيق في النفس, وصلابة في النبض, وسعلة يابسة منذ أول الأمر, ثم إنه تظهر فيها صفرة أو حمرة أو سوداء أو نحو هذه من الفضول القيمة لنوع ذلك المرض, فإن أصبت فذلك الرأس الأول المسمى التعريف, ثم اطلب العلة والسبب … ثم اطلب هل ينقسم لسببه أو نوعه أم لا … ثم اطلب تفضيل كل قسم عن الآخر … ثم العلاج … ثم الإنذار فإذا نظرت في كل علة في هذه الرؤس, واستوفيت ما فيها فقد أكملت ما يحتاج إليه منها.

     وقد أشرنا من قبل إلى أن الرجل كان يعني بالجانب ( الإكلينيكي ) وله في ذلك عبارات في غاية الدقة تؤكد منهجه العملي في العلاج يقول فيها : ” ليس يكفي لإحكام صناعة الطب قراءة كتبها, بل يحتاج مع ذلك إلى مزاولة المرض, إلا أن من قرأ الكتب ثم زاول علاج المرض, يستفيد من قبل التجربة كثيراً, ومن زاول المرض من غير أن يقرأ الكتب , يفوته ويذهب ثَم دلائلُ كثيرة لا يشعر بها البتة, ولا يمكن أن يلحق بها في مقدار عمره – ولو كان أكثر الناس مزاولة للمرضى – ما يلحقه قارئ الكتب مع أدنى مزازلة, فيكون كما قال الله عز وجل : {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون }.

     أي منهج في التأليف بعد هذا يمكن أن ينتظر من مؤلف مثل ( الرازي ) عاش في ضحى الحضارة الإسلامية, وأي تطبيق أدق من هذا يمكن أن ينتظر من معالج في هذا القرن أو بعد هذا القرن فضلاً عن أن يكون في القرنين الثاني والثالث الهجريين, اللذين سعدا بمطلع نجم هذا الطبيب العظيم. ثم أي قيمة يمكن أن يؤديها حكيم لمجتمعه أكثر مما قدمه الرازي؟ أجل لقد تخطى بعبقريته الطبية حواجز الزمن حتى عد أحد أعلام الطب في العالمين, وظل كتابه (الحاوي) منهلاً لكل وارد في الدنيا كلها حتى عصور متأخرة.

–         وبعد –

     فهذه جولة سريعة, كشفت عن مدى تحمل الجانب النظري للفكر الفلسفي, عندما اصطدم مع الواقع الجديد للأمة الإسلامية, بعد أن صبغها الدين بصِبغته العامة, وفي نفس الوقت أبانت عن مدى الاستجابة التي مثلها الجانب العملي للفكر الإسلامي, الذي كان بحق ممثلاً لروح الإسلام والحضارة الإسلامية. ثم : هل يمكن أن نستلهم تراثنا في جانبه الناصع المشرق, لنرقى بواقعنا, نتجاوز الجدل النظري إلى الحقائق العملية, إن صح ذلك منا كنا عمليين, وصح فينا قول من قال :

لسنا وإن كرمت أوائلنا

               يوما على الأمجاد نتكل

نبني كما كانت أوائلنا

              تبني ونعمل مثل ما عملوا

الهوامش

1-    انظر التحليل الممتاز لعناصر التفكير المنهجي في ( الرسالة ) للشافعي, في التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية للمرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق ص 244.

2-    انظر : د. النشار – مناهج البحث عند المسلمين ص 165.

3-    سورة الحديد : آية 3.

4-    سورة الحديد : آية 4.

5-    صورة فصلت : الآيات من 9 – 12.

6-    العقيدة الطحاوية ص 139 ط بيروت سنة 1399 ه.

7-    تهافت الفلاسفة ص 88.

8-    تهافت الفلاسفة ص 99.

9-    نفس المصدر ص 105.

10-  نصوص الحكم ص 164.

11-  سورة يس آية 82.

12-  ابن تيمية : بغية المرتاد ص 270.

13-  د. محمد البهي – الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ص 365.

14-  والقرآن يحسم المسألة بقوله تعالى : { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا } الكهف 51.

15-  نفس المرجع ص 368.

16-   تجديد الفكر الديني في الإسلام ص 125.

17-  طبقات الأمم ص 75.

18-  انظر : المناظرات بين أبي حاتم الرازي وأبي بكر الرازي مقتبسة من كتاب ( أعلام النبوة ) في رسائل الرازي الفلسفية – نشرة يول كراوس ص 291 ط القاهرة سنة 1939.

19-  آراء أهل المدينة الفاضلة ص 93.

20-  الشفاء ج 1 ص 215.

21-  سورة الحجر : آية 29.

22-  سورة الإسراء : آية 70.

23-  النجاة ص 257.

24-  سورة النور : آية 24.

25-  النجاة ص 477.

26-  تهافت الفلاسفة ص 297.

27-  يروى عن على بن أبي طالب أنه قال : ” الحكمة ضالة المؤمن, فخذ ضالتك ولو من أهل الشرك “.

28-  مروج الذهب ج 7 ص 164.

29-  سورة فصلت : آية 53.

30-  ديبور : تاريخ الفلسفة في الإسلام ص 85.

31-  انظر : الدين في مواجهة العلم لوحيد الدين خان ص 36 – الترجمة العربية.

32-  سورة فاطر : الآيات 27, 28.

33-  طبقات الأمم ص 35.

34-  كتاب الخواص الكبير, المقالة الحادية والعشرون من مختارات كراوس ص 215, وانظر جابر بن حيان : سلسلة أعلام العرب – د. زكي نجيب محمود ص 47.

35-  نفس المصدر.

36-  المصدر السابق.

37-  د. زكي نجيب محمود : جابر بن حيان ص 58.

38-  نفس المصدر ص 64.

39-  نفس المصدر ص 80.

40-  يذكر المؤرخون له أربعة وخمسين كتاباً معظمها في الكيمياء. انظر : ابن النديم الفهرست ص 500 – د. زكي نجيب محمود – جابر بن حيان ص 28.

41-  انظر د. أحمد فؤاد الأهواني – الكندي فيلسوف العرب ص 109, 110, سلسلة أعلام العرب عدد 26.

42-  يقول ديبور : ” على أن كاردان أحد فلاسفة عصر المهضة اعتبر الكندي لقوله بهذه النظرية واحدا من اثنى عشر مفكرا هم أنفذ المفكرين عقولا في تاريخ الفلسفة في الإسلام ص 119 الترجمة العربية.

43-  د. الأهواني – الكندي فيلسوف العرب ص 79 وما بعدها.

44-  نفس المصدر.

45-  ديبور : تاريخ الفلسفة في الإسلام ص 90.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر