أبحاث

القرآن الكريم والمسألة الاجتماعية

العدد 10

إن الإسلام، في قرآنه وسنة نبيه، يطرح قواعد هامة وخطوطا عريضة يريد بها أن يشكل الأرضية الصلبة التي تتحرك عليها العلاقات الاجتماعية، والتي يمد جذورها في أعماق النفس وبنية العالم وفي صميم النظرة إلى

الكون.. وصحيح أنه يطرح في الوقت نفسه تفاصيل وجزئيات عن قضايا يومية ومسائل اجتماعية بالذات، ويلامسها ملامسة تامة إلا أن الإطار الكبير، والرؤية الشمولية التي يرسمها الإسلام لموقف الإنسان في العالم، وطبيعة دوره فيه، والغاية التي خلق لها والمصير الذي يسعى للتحقق به من خلال ممارساته الواقعية، هذه الرؤية هي التي تهمنا ونحن نرسم بعض آفاق العدل الاجتماعي كما جاء بها هذا (الدين القيم). ولنبدأ بمسألة (الترف) و(الغنى الفاحش) كظاهرتين نقيضتين لفكرة العدل الاجتماعي.
إن (الترف) ممارسة (مدمرة) سواء للجماعة كلها التي تسكت عليها وتغض عنها الطرف، أو تغلو في انهزاميتها فتتملق وتتقرب وتداهن، أو للمترفين أنفسهم الذين يعمي الثراء الفاحش -وما ينبثق عنه من ممارسة مرضية متضخمة مبالغ فيها- بصائرهم، ويطمس على أرواحهم، ويسحق كل إحساس أخلاقي أصيل في نفوسهم، ويحجب عنهم -وهذا هو الأهم والأخطر- كل رؤية حقيقية لدور الإنسان في الدنيا (موقفه في الكون) وطبيعة العلاقات المتبادلة بين عالمي الحضور والغياب، والمادة والروح، والطبيعة وما وراء الطبيعة، والأرض والسماء.
فيما أكسب الترف نفوسهم وحسهم من خشونة وثقل وغلظة، ثقلوا فهبطوا فانقطعوا عن كل رؤية بعيدة أو إيمان جاد يتجاوز بهم عالم الحضور إلى الغياب، والمادة إلى الروح، والطبيعة إلى ما وراءها والأرض إلى السماء، والعلاقات المنفعية إلى المواقع الأخلاقية التي يتميز بها بنو آدم عن عالم النمل والنحل والحيوان. وهذا التحليل القرآني يقف في تضاد كامل مع الفرضية الماركسية التي تقول إن الدين لا يعدو أن يكون جزءا من الأخلاقيات والممارسات البرجوازية.
(وقال الملأ من قومه- الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا- ما هذا إلا بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون. ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون). فها هي كلمات الله تبين لنا البعد المتبقي والأهم لما يئول إليه الترف: إنكار النبوات والقيم الغيبية، وكفر بها وتكذيب بلقاء الآخرة، وعدم مقدرة على استخدام مقاييس دقيقة في وزن الحوادث والدعوات والأشياء، غير مقاييس الطعام والشراب.. ثم حكم وقتي خاطئ سريع، بعد هذا، يرى أن الالتزام بأي نداء يخرج الإنسان عن دائرة علاقاته المنفعية المباشرة، ويصده عن الانغمار في الطعام والشراب، إنما هو صفقة خاسرة، تماما وفق المنطق الذي يعتمده التجار!!

ذلك أنه إذا اختفى العدل وانعدم التوازن ظهر الغنى الفاحش والترف. وإذا كان القرآن الكريم قد عالج (الترف) -والغنى الفاحش بطبيعة الحال- كمسألة هدامة في كيان أي مجتمع، تنبثق عنها دوما مواقف سالبة رجعية، وإجرامية كافرة، فمعنى هذا أنه يريد مجتمعا متوازيا كبديل لحتمية ظهور الترف في (حالة اجتماعية غير متوازنة).. ولقد مد القرآن تحليله للظاهرة إلى أعماق النفس وإملاء العلاقات الاجتماعية مادية وروحية وفكرية وأخلاقية، وتقدم بها صعدا صوب الآفاق البعيدة والتحليلات الشاملة لكي ما يلبث أن يلقي أضواء ويقول كلمته في حجم الدور الذي يلعبه الترف إزاء مسيرة الحضارات ونموها وعوامل سقوطها ودمارها.

وما كان للمترفين، حماية لمواقعهم تلك ، إلا أن يحرنوا، ويتمنوا على حركة التاريخ المحتمة أن تحرن معهم وتسكن. وهم في مواجهة أية دعوة جديدة، تدعو الإنسان للتقدم خطوات إلى الأمام يرفضون شعارات (السكون) و(الرجوع) إلى الوراء خوفا من أن تجرفهم الدعوة بعيدا عن أماكنهم. وفي أكثر من موضع يحدثنا القرآن عن (رجعية) هؤلاء المؤمنين: (بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون. وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قل: أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون). وتكون الغلبة دوما لكلمة الله (فانتقمنا منهم، فانظر كيف كان عاقبة المكذبين؟).

وفي آيات أخرى ينقلنا القرآن الكريم، بسرعة، كشأنه في كثير من الأحيان، إلى يوم الحساب ليبين لنا المصير الذي سيئول إليه المؤمنون، وليواجهنهم بالجرم الكبير الذي كانوا يمارسونه دوما في مسيرة الحياة الدنيا. وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا: بل مكر الليل والنهار، إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون. وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين: قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون). فكأن كلمة الكفر معلقة -وقد أخلدوا إلى الأرض- على ألسنتهم!! ليس هذا فحسب، بل إنهم -وقد حملهم الترف إلى مواقع السلطة- (والعلاقة الجدلية قائمة أبدا -عدا التجربة الإسلامية الأصيلة- بين الترف والسلطة، فإما أن يقود الترف إلى السلطة أو أن تقود السلطة إلى الترف)، اعتمدوا مواقعهم تلك فأصدروا أوامرهم المشددة إلى الجماهير والاتباع، ليلا ونهارا، أن يكفروا بالله وأن يجعلوا له أندادا، ولن يكون هؤلاء الأنداد المعبودين من دون الله سوى أولئك الذين نقلهم الترف إلى مواقع الشرك والطغيان. كما أنهم -وقد جوبهوا بالنداء الجديد- راحوا يحتمون بالأموال والأولاد معتقدين أنهم بمنأى عن العذاب، قريبا كان أم بعيدا. وهو إحساس نفسي مؤكد لمن تخدعه (الكثرة) فتسوقه إلى الاعتقاد بقدرته على البقاء في موقعه بمواجهة أية دعوة جديدة. ولكن هذه المقاييس النسبية الخاطئة، تتهافت عبر حركة التاريخ الشاملة التي يسوقها الله بإرادة الإنسان. وتتبدى هذه الحماية الكاذبة -التي هي ليست سوى امتحان إلهي موقوت- على حقيقتها!!

ومرة أخرى يعرض علينا القرآن صورا حية شاخصة لهؤلاء وهم يتخبطون في العذاب وينالون جزءا لا يعدو أن يكون من جنس عملهم نفسه (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال. في سموم وحميم، وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم. إنهم كانوا قبل ذلك مترفين. وكانوا يصرون على الحنث العظيم. وكانوا يقولون: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون؟ قل: إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم. ثم إنكم أيها الضالون المكذبون. لآكلون من شجر من زقوم. فمالئون منها البطون. فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب إلهيم).

وما أعدل الجزاء الإلهي، أن المؤمنين الذين كانوا يتنعمون في حياتهم الدنيا بألوان الطعام والشراب، والناس يتضورون جوعا وعطشا، والذين كانوا يقضون ساعات الحر اللاهب في الظلال الباردة الطيبة، والمعدمون يسحون عرقا. ها هم أولاء الآن ينزلون المكان الذي أعد لهم سلفا، والذي توحي كل كلمة من كلماته البارعة المصورة بجو البحر والاختناق (في سموم وحميم. وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم).. ويأكلون كما تأكل الأنعام، لأنهم في حياتهم الدنيا ما كانوا ليغايروا الأنعام في تهافتهم على الطعام والشراب. ولكنهم إذا كانوا هناك (يلتهمون) أطيب ما تمنحه الأرض، فإنهم هنا يملئون بطونهم بأسوأ ما تطلعه الجحيم (شجر الزقوم) أو (شراب الحميم). وتختم هذه الآيات المروعة حديثها عن مصير هؤلاء وهي تشير بكلتا يديها: (هذا نزلهم يوم الدين).

وهذا لا يعني أبدا (تعليق الجزاء على جريمة الترف إلى يوم الحساب وتجميد الإرادة البشرية عن العمل لوقف الجريمة وإعادة حالة التوازن) وما جاء القرآن الكريم لينفخ روح القعود والكسل في نفوس الناس، ومن السذاجة البالغة أن يمر هذا في البال كمجرد خاطر، وهو الذي تنزلت آياته تباعا لتؤكد مسئولية الإنسان الكاملة عن كل (فعل) يمارسه هو أو نمارسه (الجماعة) التي ينتمي إليها ويندمج فيها وتشتبك مصائره بمصائرها.. على العكس تماما، إن القرآن لا يكتفي بعرض المسألة من جانب واحد، ويبين ما في تجربة (الترف) من قبح وكفر وظلم وإنكار.. وما سيئول إليه أصحابها من مصير يوازيه بشاعة ممارستهم تلك، يوم الحساب، وإنما ينتقل إلى الجانب الآخر، ويندد بالجماعة التي لا (تتحرك) لوقف الجريمة عند حدها، وبالجماهير التي تنظر إلى قلة من طغاتها تمارس المنكر فلا ترفع يدا ولا تنطق بكلمة. وبالناس الذين يرون رأي العين الدمار الذي يقودهم صوب النهاية المحتومة، بسبب ما يمارس بين ظهرانيهم من فساد، فلا يتجمعون للمجابهة والإصلاح قبل فوات الأوان.. (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، إلا قليلا ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).

وبلهجة السخرية يتحدث عن أولئك (الخاضعين) الذين يرتضون موقف الذل والتبعية لطغاتهم ومترفيهم (وقالوا: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا).

ويخطو القرآن الكريم خطوة أخيرة في تحليله لمسألة الترف، لكي يبين لنا على مستوى حركة التاريخ، وقيام الدول والحضارات وسقوطها -المسئولية الثنائية المشتركة التي يمارسها طرفا المسألة: المترفون والمعدمون، في السير بالجماعة أو الأمة أو الدولة أو الحضارة، أو القبيلة -التي ترد دائما كوحدة اجتماعية معينة- نحو الدمار.. المترفون الذين يزدادون ترفا وظلما وطغيانا وفسوقا، والمعدمون الذين يقف بعضهم (ساكنا) إزاء الجريمة، بينما يسعى بعضهم الآخر إلى الإسهام بالجرم وتعزيزه بتملقهم وتذللهم ومعاونتهم على الشر في شتى مساحاته النفسية والأخلاقية والاجتماعية. ولن يكون بعد ذلك إلا أن تتخذ الإرادة الإلهية -وفق سننها الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل- طبقة المؤمنين أنفسهم، وهم في قمة السلطة، وسيلة لإحلال الدمار بأمة أو جماعة فقدت كل مبررات وجودها واستمرارها (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا، وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح، وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا).

ثم ما يلبث القرآن أن يبين أن (عطاء الله) مفتوح للجميع وأنه ليس مقصورا على فئة دون فئة، وليست الملكية أو عدمها حتمية مقفلة ليتنعم بها ناس ويحرم آخرون. ثم إن المسألة المادية أو العطاء، ليس في نهاية الأمر المقياس الموضوعي الصارم لتقسيم الناس إلى درجات، إنما هو الإيمان الذي يناط به التفضيل الحقيقي وتنال بواسطته الدرجات الحقيقية الكبيرة عند الله. وتبقى الأرزاق والأموال، يبقى عطاء الله، متاح الأسباب للناس جميعا، مؤمنين وغير مؤمنين (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها، وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم مشكورا. كلا نمد: هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا، انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا).

وفي مكان آخر يعرض علينا القرآن صورة لمجموعتين من الناس تقف موقفا متناقضا إزاء (عطاء الله). والمجموعة الأولى تقدر هذا العطاء المتقلب المتغير الذي لا يدوم، حق قدره، فتأخذ بدورها مراكز العطاء بالمقابل، وتمنح بعض أو جل ما وهبها الله إياه قبل أن يزول هو أو تزول هي. وتتخذ من هذا العطاء سلما تسارع في الصعود على درجاته إلى الخير والحق والعدل. والمجموعة الثانية تتنكر لصاحب هذا العطاء، وتستأثر وتعطي وتتخذه سلما إلى مراكز السلطة والقوة والفجور، وحرمان الألوف ممن لا يجدون رزقهم في مواطن الظلم والإثراء والترف والطغيان.. لكن هذه الفئة المترفة ما تلبث أن تتلقى الصفعة عاجلا أم آجلا (والذين يؤتون ما آتوا، وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون.. حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون. لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون. قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون. مستكبرين به سامرا تهجرون).

وتبقى سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير تعمل عمليها في حركة التاريخ، وتتخذ من المؤمنين أداة تسوق بها القرى والدول والجماعات والأمم نحو مصائرها المفجعة (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين. فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون. لا تركضوا!! وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا: يا ويلنا إنا كنا ظالمين).

و(الغنى الفاحش) الذي يقترب من الترف بدرجة أو أخرى، يتعرض هو الآخر لحملات القرآن الصارمة في أكثر من موضع، ويتلقى ضرباتها في أكثر من زاوية. إن القرآن يحدثنا في إحدى آياته عن العلاقة المتبادلة بين الغنى والطغيان، وكيف أنه لا مفر من هذا المصير السيئ الذي يئول إليه أصحاب الألوف والملايين، يحدثنا بلهجة الزجر والتصنيف (كلا!! إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى). وفي آية أخرى يندد بأصحاب الغنى والجاه، وكيف أن الله سيسوقهم بممارساتهم الخاطئة الظالمة الأنانية الطاغية التي تنبثق بالضرورة عن الغنى الفاحش، إلى الطرق المسدود حيث السقوط الذي لن تجدي أموال صاحبه وأكداسه في إنقاذه منه (وأما من بخل واستغنى. وكذب بالحسن. فسنيسره للعسرى. وما يغني عن ماله إذا تردى).

وفي آية ثالثة ينقلنا نقلته السريعة المعهودة إلى يوم الحساب لنلتقي بأصحاب الملايين وذوي السلطان الذين كان الناس -يومها- يتضورون جوعا وهم متخمون، فلم يتحركوا لإشباع جوعتهم. نلتقي بهم لكي نرى ما الذي حل بهم، وما هو الطعام الذي سيملئون به بطونهم الفارهة.. هناك (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول: يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. يا ليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليه. هلك عني سلطانية. خذوه فغلوه. ثم الجحيم صلوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين. فليس له اليوم ها هنا حميم. ولا طعام إلا من غسلين. لا يأكله إلا الخاطئون).

وآية أخرى تحملنا إلى عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يتلقى عتاب الله سبحانه، إذ تصدى لأحد أغنياء مكة وطمح أن يجلبه إلى حظيرة الإيمان، وأعرض عن فقير أعمى، هرع إليه لكي ينتمي إلى ندائه. ويبين له كيف أن (الذكرى) أجدى مع هؤلاء منها مع أولئك وفي أغلب الأحيان: (عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى. أو يذكر فتنفعه الذكرى؟ أما من استغنى فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى؟) وخامسة تجتاز بنا المسافات إلى أواخر العصر المدني حيث النفير العام الذي أعلنه الرسول صلى الله عليه وسلم لقتال الروم (عام 9 هـ) في المعركة المعروفة بتبوك فتلقى مسئولية التخلف على (الأغنياء) الذين رفضوا أن يستجيبوا للنداء (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون). وآية سادسة تعرض علينا -بسخرية واستهجان- إحدى مقولات اليهود المارقة، أرباب الذهب والفضة، وهي مقولة مضحكة حقا، لكن بريق الذهب ورنين الفضة يعميان ويصمان (لقد سمع الله قول الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء‍‍‍. سنكتب ما قالوا -وقتلهم الأنبياء بغير الحق- ونقول: ذوقوا عذاب الحريق).

وفي مواضع أخرى عديدة من كتاب الله تتدفق الآيات متحدثة هذه المرة عن أرباب المال، مترفين وأغنياء، فاضحة إياهم، منددة بهم، ملقية قوارعها على مواقفهم الرجعية والمنفعية إزاء الدعوات الجديدة، صافعة صلفهم وغرورهم، ممزقة الأستار عن حماية المال والبنين التي يحتمون بها دائما ويتوهمون أنها تخلصهم من عقاب الله، واضعة إياهم -هذه الآيات- وجها لوجه أمام مصائرهم، مبينة لهم أن اعتدامة المال عليهم ليس من مصلحتهم في معظم الأحيان (يحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات، بل لا يشعرون). (ويل لكل همزة لمزة. الذي جمع مالا وعدده. يحسب أن ماله أخلده. كلا لينبذن في الحطمة). (تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى نارا ذات لهب) (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون).

ويدعو نوح في قلب المحنة (رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا).

ويدعو موسى عليه السلام بعد قرون طويلة (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) ولن تغني عنهم أكداسهم من المال وأتباعهم من الأبناء والمواشي إذا دمدم عليهم في الدنيا أو جاء دورهم من الحساب (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) (وقالوا: نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين. قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال: لأوتين مالا وولدا. أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا؟ كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا. ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) (ذرني ومن خلفت وحيدا. وجعلت له مالا ممدودا. وبنين شهودا. ومهدت له تمهيدا. ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا) (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذين خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون).

هنالك الحوار الشيق الذي ورد في سورة الكهف بين صاحب المزارع الواسعة وبين صديق لا يكاد يملك شيئا ولقد انتهى الأمر بأولهما إلى البوار فليس الغنى والثروة في منطق الإسلام بالشيء الأبدي الدائم كما يتصور كثير من الرأسماليين ولا بالحتمية التي تفرضها (ظروف الإنتاج) كما يتصور كثير من الماديين إنما هي مسألة وقتية معرضة للزوال في أية لحظة قد يساء فيها التصرف، ويمارس الطغيان إزاء جماهير الناس، والصلف والغرور إزاء إرادة الله السريعة الحاسمة التي لا تبقي ولا تذر. ومن منا لم يقرأ -كذلك- قصة (قارون) اليهودي الثري الذي كاد الذهب يخرج من أنفه وأذنيه (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين، قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون. فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون. فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين).

وسوء التصرف هذا، والطغيان إزاء (حقوق) الفقراء والمعدمين هو الذي قاد الأخوة الثلاث أصحاب المزرعة الذين سموا -لاتساعها وإمدادها واكتظاظها- بأصحاب الجنة‍‍ إلى البوار (إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليم طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم، فتنادوا مصبحين، أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين، فانطلقوا وهم يتخافتون، أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين) 17- 24 من سورة القلم لكن إرادة الله سبقتهم فحصدتها قبل أن تحصدها الأثرة والجشع والطغيان.

وبينما تنصب الأوصاف القاسية السيئة على الفقراء والمعدمين في المجتمعات التي يسودها الترف والطغيان فيسمون بالأوباش والأراذل والسوقة والأدنياء والمتطفلين إلى آخره، ينعكس الموقف في القرآن الكريم حيث توجه أخس الكلمات إلى (أصحاب المال) المارقين ويرمون بأقسى النعوت.

ها هي إحدى الآيات تتحدث عن أحدهم مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم (ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم، أن كان ذا مال وبنين، إذا تتلى عليه آيتنا قال أساطير الأولين، سنسمه على الخرطوم) ولا نجد في القرآن في مقابل هذا أي نعت أو صفة قاسية تلحق بالفقراء والمعدمين، وكل ما ورد عنهم إنما جاء على لسان الكفار والمترفين أنفسهم من تسمية هؤلاء بأراذل القوم، وأنهم طليعة من يتبع الأنبياء وهم يدعون أقوامهم إلى الإيمان (قالوا: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) (وما نراك إلا اتبعك الذين هم أراذلنا بادي الرأي) وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه.

وكأن أرباب المال هؤلاء كانوا يدركون ما وراء الدعوات الجديدة التي ينادي الأنبياء للانتماء إليها من تغيير في العلاقات الاجتماعية وأسلوب جديد في التعامل مع (المال) فكانوا يطرحون دوما سؤالهم الاستنكاري هذا (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء).

ونجيء أخيرا إلى الآية التي يحسم القرآن فيها الموقف إزاء المترفين والأغنياء وأرباب المال الذين يقفون بمواجهة (العدل) الذي جاءت الأديان لتحققه في هذا العالم. الآية التي سنعود إليها مرة أخرى والتي تقودنا إلى أكثر من أفق (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).

وفي مقابل هذه الحملة الشاملة الحاسمة الرهيبة على ظاهرتي (الترف) والغنى الفاحش في التجربة الاجتماعية، ما الذي يقدمه القرآن الكريم عن الفقر والفقراء والمساكين والمعدمين؟ هل هي دعوة للتبرع لهم والإحسان إليهم فحسب؟ فأين إذن السلطة الإسلامية؟ وهل يمنع هذا الأسلوب (الأدبي) دونما ضمانات تشريعية، ظهور وتضخم طبقة المترفين وتحول المال إلى دولة للأغنياء؟ ما الذي دفع القرآن الكريم إلى أن يعرض في عشرات المواضع مسألة (الإنفاق) على الفقراء و(الحض) على إطعامهم بكل ما يتضمنه فعل (الحض) من قوة وفاعلية لتحقيق هذا الهدف، وهو إشباع الجائعين وسد حاجاتهم الأساسية ومن أولى من السلطة المشرعة والمنفذة بالتخطيط لهذا المطلب الحيوي الخطير وتنفيذه في عالم الواقع بما تمتلكه من قوة وفاعلية.

صحيح أن (الاتفاق) الفردي و(الصدقة) الاختيارية و(التكافل) الاجتماعي وغيرها من فاعليات العطاء التي يمارسها المسلم إزاء إخوانه تمثل جزءا أساسيا من برنامج العدل الاجتماعي في الإسلام وتغطية مساحة واسعة من نداءات القرآن في هذا المجال وتلعب دورا كبيرا في إحداث التوازن والانسجام والتعاون والترابط بين أفراد المجتمع المسلم وفئاته وتجتث أدران الحقد والكراهية والشر لكي تزرع بدلا منها علائق التكافل والمحبة والخير لا سيما في الفترات التي تغيب فيها السلطة فيتعرض الفقراء والمعدمون للموت جوعا فتمتد إليهم اليد التي لا (تتبرع) و(تمن) ولكن تعطي وتواسي وتندمج وتتعاون لكي تنقذهم من هذا المصير المفجع. وأي منا لم يمارس بنفسه أو يشاهد إخوانه ورفاقه المؤمنين يحصون أموالهم سنة بسنة لكي يقتطعوا منها حق السائل والمحروم ويقدموها وزيادة دونما جلبة ولا ضوضاء. ومع ذلك فلا يعدو أن يكون هذا (العطاء) على أهميته مساحة محدودة فحسب من المساحات الشاسعة لبرنامج العدل الاجتماعي الذي رسم القرآن والسنة خطوطه العريضة ونفذ الرسول صلى الله عليه وسلم الراشدون رضوان الله عليهم مخططاته الفذة وبنى الفقهاء والمجتهدون على هذا وذاك مقولاتهم ونظرياتهم العجيبة المنفردة.

في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن الكريم ترد الدعوة لإطعام الفقراء والمساكين وسد حاجاتهم الأساسية، وفي أكثر من أربعين موضعا يرد التأكيد على فريضة الزكاة والصدقات وتقييم رافعيها والتنديد بما نعيها. وفي أكثر من سبعين موضعا يتردد في ذكر الإنفاق وتسلط عليه الأضواء من كافة زواياه، وفي أكثر من موضع يجئ التأكيد على أن هذا العطاء ليس تبرعا ولا منة ولكنه حق للسائلين والمحرومين (وآت ذات القربى حقه والمسكين وابن السبيل) (والذين في أموالهم حق للسائل والمحروم) (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده). وفي آيات أخرى يرد الحض على إشباع الجائعين وسد حاجاتهم الأساسية كجزء أصيل من متطلبات الإيمان كممارسة الصلاة سواء بسواء، وأن التوقف عن هذا (الحض) يخرج أصحابه من حظيرة الدين ويدمغهم بالكذب (أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون، ويمنعون الماعون) (أنه كان لا يؤمن بأن الله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين، فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون) (كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على طعام المسكين).

ولن يكون (الحض) ما دام قد اقترن بالإيمان وأصبح وقفه وقفا لحركة الدين نفسه لن يكون بكلمات متثائبة تقال وبين دفع بقايا الطعام إلى المساكين الذين يقفون وراء الأبواب خائفين متوسلين. إنما بالفعل الدائم والحركة المستمرة وبالثورة -إذا اقتضى الأمر- لتحقيق هذا المطلب الأساسي.. تماما كما أن الصلاة فعل دائم وحركة مستمرة وأنها بمجرد تحولها إلى الظل وإلى أن تعد وممارسة جانبية تدمغ صاحبها بالنفاق.. وهذا هو الذي دفع أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن يشهر السيف بوجه مانعي الزكاة ويعلن (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة). ولا يتصورن أحد أن كثرة ورود الفقراء والمساكين وأبناء السبيل في القرآن الكريم يجئ بمثابة تأكيد لأبدية ظاهرة (الفقر والحرمان) التي هي كما معروف اجتماعيا مسألة (نسبية) لأن كثرة ورود الكفر والشرك واللات وهبل والعزى، ووأد البنات وأكل مال اليتيم، وممارسة الربا أضعافا مضاعفة، وشرب الخمر ولعب الميسر وعبادة الناس، لا تحمل أية دلالة على أبديتها!! ثم إن القرآن الكريم لا يمكن أن يناقض نفسه فيدعو إلى (تأييد) ظاهرة يشن هو نفسه الحملة عليها، ويصل بها في إحدى آياته إلى أن يربطها بالشيطان وبما يأمر به ويدعو إليه من الفحشاء (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم الفحشاء).

وثمة آيات أخرى تصل بنا إلى آفاق أبعد في مسألة التوازن الاجتماعي: الآية التي تتطلب من المسلمين دولة وجماعة أن (يتحركوا) مقاتلين مجاهدين لإنقاذ الستضعفين من أيدي ظالمين وجلادين وتعطي الإشارة إلى أن (السيف) هو الحكم الأخير عندما تعجز كل الأساليب الأخرى عن وقف الظلم وتخليص البائسين. وأن الجهاد -تلك الثورة المسلحة- هي الحركة التي تنقل المقاتل المسلم إلى كل ميدان يمارس فيه الظلم ضد الإنسان أيا كان شكل هذا الظلم وأيا كانت دوافعها (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا).

وهذه الآية التي يطرحها القرآن ليتحرك المسلمون على ضوئها على المستوى الجماعي تقابلها آية أخرى تدعوهم إلى أن يتحركوا على المستوى الفردي كذلك وأن يقتحموا العقبة هكذا، بكل ما يتضمنه (فعل) الاقتحام من قوة وعنف وإرادة لا بد منها جميعا لاجتياز الحاجز (وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يومٍ ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذات متربة) تحرير المستبعدين وإطعام الجائعين ذلك هو الهدف الذي يقتحم المؤمن من أجله الحواجز بقوة وعنف وحزم وإرادة!!.

والآية التي تطرح نفسها كسؤال خطير أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام أي مشرع مسلم يجئ بعد الرسول صلى الله عليه وسلم (ويسألونك ماذا ينفقون) ويجئ الجواب الدائم غير الموقوت بينا صريحا (قل العفو) والعفو هنا هو كل ما زاد عن الحاجة ونتذكر هذا المبدأ الخطير في التسوية الاجتماعية عندما نستمع إلى إحدى كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بأس أن نوردها هاهنا (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له) ويقول شهود العيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.

وهنالك الآية التي تأمر المسلمين دولة ومشرعا وجماعة ألا يسمحوا لأموالهم التي لكل فئة منهم حق معلوم فيها والتي جعلها لهم سببا من أسباب البقاء والنماء أن تذهب إلى (السفهاء) بهذا التعبير الصريح في تنديده (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) والآيات التي تقطع الطريق على أية محاولة لطمس حقوق الناس في أموالهم لكي يزداد أصحاب السلطة والواجدون غنى والفقراء والمعدمون فقرا وتسمى هذه المحاولة التي يمكن أن تتم بألف أسلوب بالإثم والعدوان والظلم والإجرام أكثر من ذلك نسمها بقتل النفس. وليس كفقدان العدل الاجتماعي معولا ينزل على بنية المجتمعات فيفتتها ويدمرها ويمحوها (ولا تأكلوا أموالكم بينكم وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا).

والآية التي تصبب حمما من نار على طبقة (رجال الدين) من الأحبار (الرهبان) الذين اشتروا بعقيدتهم ثمنا قليلا وراحوا يدخلون على الناس باسم الدين ليأكلوا بأموالهم ويضخموا بها حجم كنوزهم من الذهب والفضة وكان القرآن الكريم يفتح أعين المسلمين جيدا ويستفز وعيهم الدائم كي لا يتيحوا لظاهرة هدامة كهذه أن تبرز في مجتمعهم وبين ظهرانيهم مهما كانت على درجة من الضآلة والخفاء، ويندد بكل من تحدثه نفسه بممارسة الأسلوب الذي مارسه الأحبار والرهبان طويلا. وهذا -وغيره من الأساليب- يفسر لنا انعدام ظهور المرتزقة بالدين في تاريخنا وظهور نقيض هذا تماما: رجال الفكر الإسلامي وهم أشد الناس فقرا وتواضعا واندماجا في حياة الناس العاديين ورفضا لمواقع السلطة وإنكارا لإغراء الذهب والفضة ليس هذا فحسب بل إن القرآن يوجه تحذيره الرهيب إلى المسلمين أنفسهم ألا يكتنزوا الذهب والفضة وأن ينفقوها في سبيل الله، وأنه بدون هذا وذلك فسوف تنقلب عليهم وبالا يوم الحساب.

وأي مترف أو غني تستحيل حياته إلى تكديس للمال، والناس يتضورون جوعا دون أن يتحرك بأمواله لوقف ظاهرة الجموع والحرمان فإن له أن يتصور هذا الخطاب موجه إليه وإنه غريب عن المجتمع الإسلامي الذي ينتمي إليه بل إنه مارق عن حكمه وأهدافه، (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) (وترى كثيرا منهم -أي اليهود- يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون. لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون).

وفي آيات أخرى من سورة الفجر يتكرر هذا التنديد بجمع المال وأكل التراث، ويرتبط عفويا بعدم إكرام اليتامى والحض على إطعام الفقراء، مبتدأ بكلمة الزجر القرآنية العنيفة كلا (كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما) ونحن لا نستطيع إلا أن نلحظ السمة الجماعية المشتركة في فعل (تحاضون) والمفهوم الحركي الكامل في صيغته المبالغة.

والآيات الكثيرة التي تأمر بربط (الإشباع) (الاعتدال) والتقوى والعمل الايجابي الصالح وتنهى عن الإسراف والطغيان والفساد في الأرض، واتباع خطوات الشيطان تعمق في أذهان المسلم العارف والمشرع وتحذرهما في الوقت نفسه من حتمية هذه العلاقة المتقابلة بين عدم تنظيم الإشباع وبين كل ما يتمخض عنه ظلم (اجتماعي) يتمثل بالإسراف والطغيان والفساد في الأرض. وليس ثمة مجتمع تتحكم فيه قلة من الذين يملكون بكثرة من الذين لا يملكون وتتخم فيه بطون معدودة وتتضور الملايين يخلوا من سمات الإسراف والطغيان والفساد في الأرض، ذلك (الإفساد) الذي يتلبس وسط هذا التناقض الاجتماعي الغريب ويتخذ -وقد اختفى التوازن- ألف وسيلة لدعم المجتمع وعرقلة الحركة الحضارية ووضع العراقيل في طريقها (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) (كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) (كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان) (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله” و(يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) و(كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى).

والآية التي تبين للناس جميعا أن الأرض قد ذللت لهم بإرادة الله سبحانه وتدعوهم إلى أن يتحركوا في أمدائها (ويأكلوا) من رزقها ولا معذر بعدها لجائع قاعد لا يجهد ومسحوق لا يتحرك (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) والآية التي تقرن مأساة الجوع بكارثة الخوف وتبين لهم كم هي عظيمة المنة التي يمنها الله على الناس عندما ييسر لهم سبل الشبع والأمن (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

والآيات التي تأمر المسلمين بأن يتجاوزوا أخطاءهم ويكفروا عنها باعتبارها أعمالا سالبة وذلك بتقديم ما يقابلها ويعوض عنها من عطاء باعتباره عملا ايجابيا يمنح المجتمع ما خسره بممارسة الأخطاء. وأي فعل أولى بهذا العطاء من إطعام الجائعين وتحرير المستعبدين (لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) (أو كفارة طعام مسكين أو عدل ذلك صياما).

والآية التي تبين أن طبيعة الحياة الدنيا وفلسفتها العملية تقوم على (التفاضل) بين الناس في الرزق وأن حكمة الله سبحانه وتعالى هي التي قادت إلى هذا انسجاما مع طاقات الناس وقدراتهم واهتماماتهم وحرصهم ومدى تحملهم للمسئولية ومقدار يقظة ضميرهم، وتمشيا مع متطلبات التطوير والتنوع والتغاير في مسيرة الحضارات البشرية في كل زمان ومكان ورفضا للمنطق المثالي الذي يتخيل الناس وقد تساووا في أرزاقهم (مطلق) التساوي ذلك المنطق اللاواقعي الذي قدمت لنا التجربة المادية ارتطامه الصريح في ميدان التنفيذ وفي مدى العلاقات الفعلية في المجتمع إلا أن آية كهذه وهي لبنة من لبنات كتاب الله المعجز لا تقف عند حد تسليط الضوء على هذا الجانب الواقعي من الصورة الاجتماعية فهي في شقها القريب الناقب سرعان ما تبين أن المال الذي هو في أساسه ملك للناس جميعا يلغي أي تصور قد يدور في أذهان الذين يملكون كثيرا من أنهم وحدهم أصحاب الحق في هذا المال، لأن الطرفين فيه سواء، هكذا بهذه الصراحة القرآنية المعهودة، وإن أي غبن قد يعتري هذه الحقيقة إنما هو جحود بنعمة الله (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت إيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون).

ويعود القرآن الكريم ليطرح مرة أخرى وهو يتكلم عن تهيئة الأرض لاستقبال الحياة البشرية في فجر التاريخ الجيولوجي البعيد مسألة التساوي بين الناس في (القوت) الذي منحه الله لهم جميعا (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين). ليس هذا فحسب بل إن القرآن الكريم ينعي على الكفار تصورهم الساذج أن الله سبحانه ما دام قد كتب (الجوع) على طائفة من الناس فإنه ليس بمقدور واحد من خلقه أن يطعمها!! بهذه السذاجة التي كثيرا ما دارت في أذهان القانعين والزاهدين، وتمنح في المقابل مبررا مضحكا ولكن ذو فوائد جمة للمالكين الذين لا يبذلون أي جهد في إنقاذ الذين لا يملكون فما دام الله هو الذي أجاعهم فليس بمقدور أحد من خلقه أن يشبعهم (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعمه من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين).

وهذا ينقلنا إلى مسألة ذات أهمية بالغة في قضية (العدل الاجتماعي) إن لم تكن محورها الأساسي وعمودها الفقري، تلك هي قضية إشباع حاجة الإنسان الأساسية ألا وهي (الطعام) ونحن نستطيع أن نميز بين المذاهب التي أعارت هذا الجانب الحيوي اهتماما بدرجة أو بأخرى، وتلك التي لم تكترث له البتة، وظلت معلقة في سماواتها وأخيلتها ومثالياتها بمجرد أن تلقي نظرة سريعة على عدد المرات التي وردت فيها المفردات ذات العلاقة المباشرة أو غير المباشرة بالموضوع من أكل ورزق وطعام وشراب والمناخ الذي وردت فيه وليس لباحث جاد يقرأ كتب عدد من الفلاسفة والمفكرين كجمهورية أفلاطون وبوتوبيا وتوماس مور ومدينة أوغسطين المقدسة ومدينة الفارابي الفاضلة ولا يرى فيها إلا اهتماما عابرا بمسألة الأكل والطعام والرزق والشراب، ثم لا يحكم عليها بأنها لا تولي اهتماما مصيريا حاسما لإشباع إحدى أهم حاجات الإنسان الأساسية. وليس لباحث جاد كذلك أن يقرأ كتاب الله ويلتقي بعشرات بل مئات المواضع التي وردت فيها مفردات هذه المسألة إلا أن يستنتج أن الإسلام جاء لكي يضع هذه المسألة الحيوية في مقدمة برامجه التغييرية، ويوليها اهتماما مصيريا حاسما!!

في حوالي مائة موضع في القرآن ترد كلمة (الأكل) بتصريفاتها المختلفة، وفي حوالي خمسين موضعا ترد كلمة (طعام) بتصريفاتها المختلفة، وفي حوالي ثلاثين موضعا ترد كلمة (شراب) بتصريفاتها المختلفة وفي حوالي مائة وعشرين موضعا ترد كلمة (الرزق) بتصريفاتها المختلفة ليس هذا فحسب، بل إن (المناخ) الذي كانت هذه الكلمات ترد فيه في كثير من الأحيان، والأرضية التي تحركت عليها عبر الآيات والسور تبين لنا بوضوح كامل ووفق أساليب القرآن اللغوية والبلاغية، مدى الأهمية المولاة لهذه المسألة الحيوية التي هي من أشد المسائل أهمية في تاريخ الإنسان. هذا في الوقت الذي نجد فيه (مناخات) و(أرضيات) كلمات، الطعام والشراب والأكل في عدد من المذاهب والأديان الأخرى المحرفة تفوح بروائح الاحتقار والرفض والدنس والاشمئزاز. ولكن أنى لهؤلاء أن يهربوا من صيحات أجوافهم الجائعة التي لو ألقت حصى وأحجارا لطحنتها.

ومن ثم كان التناقض المحزن الذي عرفه التاريخ مرارا: أن يأكل هؤلاء ويشبعوا ويتجاوزوا الشبع إلى التخمة ويتجاوزوا التخمة إلى التكديس بينما أتباعهم وعبدتهم يتضورون جوعا وهذه الفرضية المحزنة بالنسبة لأصحاب المذاهب (المتطهرة) والأديان الروحية (والمحرفة) وبعض الحركات الصحفية المتطرفة والتي استهجنت الحديث عن الطعام والشراب انعكست تماما في القرنين الأخيرين وبشكل أشد إيلاما، في المذاهب المادية التي رأت في المعدة بدء حياة بني آدم ومنتهاها ورفعت مسألة الطعام والشراب إلى مصاف القداسة فإذا بعدد من الناس يأكلون فيشبعون فيتخمون فيترفون فيكدسون، وإذا بالجماهير الساحقة من الناس تكدح وتتصبب عرقا وتموت مسغبة جوعا، لكي تقدم لسدنة (الحرم المقدس) الجدد الأضحيات والقرابين!!

المهم أن الإسلام هذا الدين (الوسط) أولى هذه الحاجة الحيوية كما أولى الحاجة الجنسية تماما، اهتمامه الجاد الكبير، وهذا أمر طبيعي تماما لأن الله سبحانه الذي خلق الإنسان وصاغ وظائفه العضوية وقدر حاجاته الأساسية أدرى بمتطلبات هذه الحاجات وضرورة تلبية نداءاتها الأبدية المستمرة وأعلم بطبائع الإنسان التي إن لم تنسق وتنظم وترتب ضماناتها فإنها سوف تدمر نفسها بالأثرة والإسراف بينما يموت الآخرون جوعا أو تقتلها بالحجب والكبت والحرمان، فتشد بهذا عن منطق التكوين البيولوجي للإنسان.

واهتمام القرآن الكريم بالمسألة التي تحت أيدينا يبتدئ أول ما يبتدئ -كما قلنا- في هذا العدد الكبير من المواضع التي وردت فيها مفردات المسألة وعباراتها، وفي المناخ والأرضية التي تحركت عليها هذه العبارات والمفردات وتنفست!! واليكم -بعد ذلك- نماذج محدودة فحسب من هذا العرض القرآني لمسألة الأكل والطعام والشراب.

الأكل: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون). (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا مما في بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عمائمكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا والأنعام التي خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) (لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون) (ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون) (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها) (الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون) (ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون) (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون).

(أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون؟ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون) (اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا) (وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم) (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم) (كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض) (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون) (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) (كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى) (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).

الطعام: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون….) (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء….) (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين).

(ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

(الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين) (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام) (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) (فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا. وعنبا وقضبا. وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا. متاعا لكم ولأنعامكم).

الشراب:

(أفرأيتم الماء الذي تشربون. أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون. لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) (فكلي واشربي وقري عينا) (نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون).

(يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) (ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون).

يتقدم بنا القرآن الكريم خطوات واسعة أخرى في ميدان (العدل الاجتماعي) واضعا في كل خطوة يخطوها وآية يطرحها معلما من معالم هذا الميدان ومبدأ من مبادئه الأساسية التي تقوم عليها جزئيات التنفيذ ويومياته المتغيرة المتحولة إلا أن القاعدة تبقى دوما هي القاعدة.. يتقدم بنا صوب حقيقة أخرى لا تقل عن سابقاتها إن لم تفقها على الإطلاق تلك هي أن الناس خلفاء الله في أرضه وأن أموالهم ليست في (ملكيتهم) ابتداء إنما هي (مال الله) استخلفهم فيه لينظر ماذا يصنعون به وفي أي الوجوه يسخرون قيمته ويعتمدون (منفعته) بإرادتهم الخاصة وحريتهم التي منحهم الله إياها تمييزا لهم عن كثير من خلائقه ومعنى هذا أن بني آدم جميعا يملكون حقهم المشروع في هذا المال وأن (وكالته) أو (تفويضه الاجتماعي) المؤقت ليس أبديا لأية فئة من الناس لا تمس شروط توظفيها عليه، ولا تعدل في تصريف قيمه ومنافعه (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).

والقرآن الكريم يربط هذا (الموقف) الاجتماعي بنظريته الشاملة عن دور الإنسان في الأرض، ذلك الدور الذي يقوم في أساسه على (خلافته) عن الله في هذا العالم (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها…) (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره).

ومسألة استخلاف الناس في الأموال وفي ملكيتهم له ابتداء، تزداد وضوحا وتأكيدا بمجرد أن نلقي نظرة سريعة على المواضع التي وردت فيها كلمة (رزق) في القرآن بتصريفاتها المختلفة ففي جل تلك المواضع البالغة حوالي المائة والعشرين موضعا يرد فصل (الرزق) مرتبطا بمصدره الحقيقي ومالكه الأول والأخير: الله سبحانه وفي معظمها ترد الدعوة الموجهة للإنسان بأن ينفق ويعطي من رزق الله هذا وأن عليه أن يتذكر دوما أن هذا المال ليس ماله وإنما هو مال الله وبدون هذا الإنفاق والعناء فإنه سوف يقدم الإشارة على أنه -فردا أم جماعة- غير مستحق هذا المال: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه) (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) (وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض) (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) (له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا) (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (إن هذا لرزقنا ما له من نفاد) (وكأي من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم).

وما كنا لنا أن نغادر كتاب الله قبل أن نقف قليلا عند آيات (الحشر) الحاسمة في هذا المجال، الآيات التي تحمل دعوة الله الصريحة إلى رسول الله والمؤمنين أن (ينظموا) مسألة (توزيع المال) بشكل لا يقود إلى حصره في يد القلة وحجبه عن الكثرة الساحقة وهذا أمر طبيعي تماما ما دام القرآن قد حدثنا -كما رأينا- عن الصورة الكالحة القاتمة للمجتمع الذي تكون كلمته الأولى والأخيرة للمترفين (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب. للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون. والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربك إنك رءوف رحيم).

إن كلمات الله سبحانه في هذه الآيات من سورة الحشر وهي تأمر بتوزيع الفيء على كافة الفئات (المحتاجة) في المجتمع الإسلامي الوليد، تقدم برنامج (عدل اجتماعي) سار على هديه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون رضوان الله عليهم وإن عبارة (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) هي غاية ما يمكن أن يطرح -في مجال كهذا- أمام المشرع الإسلامي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر