أبحاث

الأمن والتأمين : نظرة موضوعية

العدد 9

قضية التأمين -عندنا- واضحة كل الوضوح.. وهذا رأينا في كلمات:
* الأمن مطلب فطري.. وطالب الأمن ما تعدى.
* لا يجوز البحث في الحل والحرمة، من حيث طلب الأمن والحرص عليه، وإنما يكون البحث في أمور أخرى.. هي من الذي يقوم بكفالة الأمن للناس، وهل يجوز تحقيق ربح من القيام بهذه الوظيفة؟

* للأمن مجالات ثلاثة، بيانها: أمن داخل البلاد تتولاه الشرطة وما في حكمها.. وأمن على الحدود تتولاه الأسلحة التقليدية وكل مستحدث في شئون الكر والفر.. برا وجوا وبحرا- وأمن على الأسرة.. من لحظة تكوينها إلى مراحل نموها إلى انقضائها بفسخ العقد أو بالموت.
وفي هذه الميادين كلها… تنشط الدولة.. والدولة وحدها.
* التأمين التبادلي، جائز في غير ما تقدم بيانه من ميادين الوظيفة العامة.. أي وظيفة التأمين عندما تباشرها الدولة.
* يجب استبعاد “جهاز الثمن” من مباشرة التأمين… يستوي في ذلك أن يكون المؤمن هو الدولة.. أم جماعة متعاونة فيما بينها.
آراء العلماء المسلمين في التأمين:
ولا نعرف أحدا من فقهاء المذاهب المتأخرين بحث في عقد التأمين لمعرفة موقف الإسلام منه قبل العلامة محمد بن عابدين صاحب حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في فقه المذهب الحنفي؛ لأن هذا الضرب من التعامل لم يعرف في البلاد الإسلامية إلا في القرن الثالث عشر الهجري حيث قوي الاتصال التجاري بين الشرق والغرب إبان النهضة الصناعية في أوربا، وذلك عن طريق التأمين على السلع المستوردة من البلاد الأوربية بواسطة الوكلاء التجاريين الأجانب الذين كانوا يقيمون في البلاد الإسلامية لعقد صفقات الاستيراد فقد أدخل هؤلاء عقد التأمين مبتدئا من التأمين البحري على هذه الصفقات المستوردة.
وقد أورد ابن عابدين -في حاشيته على الدر المختار- بحثا قيما استخرج به حكم الشريعة في التأمين على الأموال؛ لأنه هو الذي كثر السؤال عنه في زمنه، معبرا عنه باسم (السوكرة)، وقد ساق الأدلة المقنعة في هذا الشأن.
آراء العلماء المعاصرين في عقد التأمين:
تناول بعض الأفاضل من العلماء المعاصرين هذا الموضوع لبيان الحكم فيه من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، وكان ذلك عن طريق البحث المستفيض المدعم بالأدلة أحيانا، أو عن طريق الفتوى والرأي الإجمالي أحيانا أخرى، والمتتبع لما كتبه هؤلاء العلماء، أو نقل عنهم، يرى أنهم انقسموا في هذا الشأن إلى ثلاثة فرق:
1- فذهب الفريق الأول –وهم الأكثر عددا- إلى عدم جواز هذا الضرب من التعامل مطلقا، أي سواء كان التأمين على الحياة، أو على الأموال أم كان ضد الأضرار الناشئة من المسئولية، ومن هذا الفريق المرحوم الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق، فقد حكم بمنع هذا التعامل في فتوى له ردا على سؤال ورد عليه من بعض العلماء المقيمين بولاية سلانيك بالدولة العثمانية في ذلك الوقت، ومن هذا الفريق أيضا الأستاذ الأكبر الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الجامع الأزهر السابق في فتوى له في هذا الموضوع، ومنه بعض علماء المغاربة الذين أشار إليهم محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي في كتابه الفكر السامي.
2- وذهب الفريق الثاني إلى جواز التعامل بكل أنواع التأمين، من غير تفرقة بين نوع ونوع بشرط أن يكون خاليا من الربا.
ومن القائلين بهذا الرأي الأستاذ مصطفى الزرقا في بحث ألقاه في أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في دمشق من 15- 20 شوال سنة 1380هـ (أول إبريل سنة 1961)، ونشر في مجلة دنيا القانون بالأعداد (الخامس والسادس والسابع)، (والثامن والتاسع والعاشر)، (والحادي عشر والثاني عشر) من السنة الثالثة 1961م.
ومن القائلين بهذا الرأي أيضا المرحوم الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتاب له عن المعاملات المستحدثة والدكتور محمد يوسف موسى.
إن التأمين بكل أنواعه ضرب من ضروب التعاون الذي يفيد المجتمع، والتأمين على الحياة يفيد المؤمن كما يفيد الشركة التي تقوم بالتأمين أيضا، وأرى شرعا أنه لا بأس به إذا خلا من الربا، بمعنى أن المؤمن عليه إذا عاش المدة المنصوص عليها في عقد التأمين استرد ما دفعه فقط دون زيادة، أما إذا لم يعش المدة المذكورة، حق لورثته أن يأخذوا قيمة التأمين (أي التعويض) وهذا حلال شرعا.
وذهب الفريق الثالث إلى التفرقة بين أنواع التأمين، فأجازوا بعض أنواعه دون بعضها الآخر ومنه من توسع في صور الجواز، ومنهم من ضيق فيها.
ومن هذا الفريق العلامة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي أستاذ العلوم العالية بالقرويين، فقد أجاز ضمان الأموال ومنع ضمان الأنفس.
ومن هذا الفريق أيضا الأستاذ أحمد طه السنوسي فقد نشر له بحث مستفي
ض في مجلة الأزهر سنة 1373هـ في العددين الثاني والثالث من المجلد الخامس والعشرين، وقد عالج في هذا البحث التأمين من المسئولية، وانتهى إلى جوازه قياسا على عقد الموالاة الذي اعتبره بعض الفقهاء سببا من أسباب الإرث، أما التأمين على الأشخاص والتأمين على الأموال فلم يتناولها لأن التشابه التام مع عقد الموالاة الإسلامي إنما هو في التأمين من المسئولية فقط.

ومن القائلين بالتفرقة أيضا وهم إلى المنع أقرب، الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو زهرة، فقد نشر تصريحا له في العدد الآنف الذكر من مجلة الأهرام الاقتصادي قال فيه:
(إن التأمين على السيارات مثلاً لضمان إصلاحها ليس حراما وإن كان في النفس منه شيء، والتأمين على الحياة نوع من المقامرة لأنه إن دفع شخص بعض المال ومات فبأي حق يستحق كل المبلغ؟ وإن عاش حتى نهاية مدة التأمين فإنه يأخذ المال الذي دفعه مع فائدة وهذا ربا).
هذه آراء العلماء إجمالاً، وها نحن نذكر بعض الأمثلة:
رأي المرحوم الشيخ محمد بخيت المطيعي:
قلنا إن المرحوم الشيخ محمد بخيت كان من بين القائلين بمنع عقد التأمين وحرمته بجميع أنواعه، وقد جاء حكم التأمين على الأموال في رده على سؤال موجه إليه من بعض العلماء المقيمين بولاية سلانيك التي كانت تابعة للدولة العثمانية ونشر هذا الرد ضمن ثلاث رسائل للمؤلف تحمل عنوان “ثلاث رسائل”.
وجاء فيه بعد الديباجة (ورد خطابكم تذكرون به أن المسلم يضع ماله تحت ضمانة أهل “قومبانية” تسمى قومبانية “السوكرتاه”، أصحابها مسلمون أو ذميون أو مستأمنون ويدفع لهم في نظير ذلك مبلغا معينا من الدراهم، حتى إذ هلك ماله الذي وضعه تحت ضمانهم يضمنونه له بمبلغ مقرر بينهم من الدراهم، وتستفهمون عما إذا كان له شرعا أن يضمن ماله المذكور إذا هلك بحرق أو نحوه أم لا يكون ذلك، وعما إذا كان يحل له ما أخذه من الدراهم إذا ضمنوا له ما هلك من ماله أم لا يحل ذلك، وعما إذا كان يشترط في حل ما يأخذه من الدراهم بدلاً من ماله الهالك أن يكون كل من القد وأخذ الدراهم المذكورة في غير دار الإسلام، أم يكفي أن يكون العقد في غير دار الإسلام، فإذا هلك المال الموضوع تحت الضمان كان لصاحبه أن يأخذ الدراهم المقررة بدلاً من ماله الهالك، ويستلمها في دار الإسلام من وكيلهم الذمي والمستأمن فيها، وعما إذا كان يحل لأحد الشركاء أن يعقد بغير دار الإسلام، ثم يعود بما أخذ إلى دار الإسلام أو يبعث به إلى شريكه أو وكيله بها، أم لا يحل ذلك أيضاً؟ وقلتم إن ذلك مما عمت به البلوى في الديار التي أنتم بها الآن.
وقد أجاب عن هذا السؤال بما ملخص:
إن المقرر شرعا أن ضمان الأموال إما أن يكون بطريق الكفالة أو بطريق التعدي أو الإتلاف، أما الضمان بطريق الكفالة فليس متحققا هنا قطعا؛ لأن شرطه أن يكون المكفول به دينا صحيحا لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء، أو عينا مضمونة بنفسها، بل يجب على المكفول عنه تسليمها بعينها للمكفول له فإن هلكت ضمن له مثلها في المثليات وقيمتها في القيميات. وذلك كالمغضوب والمبيع بيعا فاسدا، وبدل الخلع، وبدل الصلح عن دم عمد، وعلى ذلك لا بد من كفيل يجب عليه الضمان، ومن مكفول له يجب تسليم المال المضمون إليه، ومكفول عنه يجب تسليم المال عليه، ومن مكفول به يجب تسليمه للمكفولة له، وبدون ذلك لا يتحقق عقد الكفالة، ولا شبهة في أنها لا تنطبق على العقد المذكور فإن المال الذي جعله صاحبه تحت ضمان أهل القومبانية لم يخرج عن يده ولا يجب عليه تسليمه لأحد غيره، فلم يكن دينا عليه أداؤه، ولا عينا مضمونة عليه بنفسها يجب عليه تسليم عينها قائمة أو مثلها أو قيمتها هالكة، فأهل القومبانية لو ضمنوا يضمنون مالاً للمالك له وهو لم يزل تحت يده يتصرف فيه كيف يشاء فلا يكون شرعاً من ضمان الكفالة.
فعقد التأمين عن المسئولية يشبه عقد الموالاة من حيث إن في كل منهما التزاما بالموجب المالي الناشئ عن مسئولية أحد عاقديه، ففي عقد الموالاة التزم مولى الموالاة بدفع الموجب المالي الناشئ عن جناية الخطأ الصادرة من العاقد الآخر، وفي عقد التأمين التزم المؤمن (الشركة) دفع الموجب المالي الناشئ عن مسئولية المؤمن له، وفي مقابل هذا الالتزام يكون للملتزم في العقدين عوض مالي هو الميراث في عقد الموالاة، والمال الذي يدفعه المؤمن له في عقد التأمين.
وقد حصر الأستاذ السنوسي بحثه هذا في التأمين من المسئولية، أما التأمين على الأموال والتأمين على الأشخاص فلم يتناولهما لأن التشابه التام عنده مع عقد الموالاة الإسلامي إنما هو في التأمين من المسئولية.

فقد وجهت مجلة الأهرام الاقتصادي سؤالاً إلى عدد من علماء الشريعة والقانون عن التأمين والمستندات والأسهم منشورا في العدد (132) منها الصادر في 15 فبراير سنة 1961م، فأجاب الدكتور محمد يوسف موسى بقوله:

وأما الضمان بطريق التعدي أو الإتلاف فالأصل فيه قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194). فهذا الضمان إنما يكون على المعتدي كالغاصب إذا هلك مغصوبه، أو على المتلف كالشريك الموسر إذا اعتنق نصيبه في عبد مشترك وأتلف بالعتق نصيب الشريك الآخر، وأهل القومبانية لم يتعد واحد منهم على ذلك المال ولم يتلفه ولم يتعرض له بأدنى ضرر، بل إن المال قد هلك بالقضاء والقدر، ولو فرض وجود متعد أو متلف فالضمان عليه دون غيره، فلا وجه حينئذ لضمان أهل القومبانية من هذه الطريق أيضا.

وعلى هذا يكون هذا العقد عقد التزام لما لا يلزم شرعا، لعدم وجود سبب يقتضي وجوب الضمان شرعا، والضمان لا يجب على أهل القومبانية، والعقد المذكور لا يصلح سببا شرعا لوجوب الضمان، ولا يجوز أن يكون العقد المذكور عقد مضاربة كما فهمه بعض العصريين لأن عقد المضاربة يلزم فيه أن يكون المال من جانب رب المال والعمل من جانب المضارب والربح على ما شرطا، والعقد المذكور ليس كذلك، لأن أهل القومبانية يأخذون المال على أن يكون لهم، يعملون فيه لأنفسهم، فيكون عقدا فاسدا شرعا، وذلك لأنه معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار معنى.

رأي الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي:

هو يرى جواز التأمين على الأموال دون التأمين على الأنفس، وعنده أن الحاجة ماسة إلى النوع الأول بل الضرورة تقتضي به، وليس كذلك الثاني فيبقى على المنع. وقد عقد فصلاً في كتابه الفكر السامي تحت عنوان (مسألة عمت بها البلوى وهي الضمان المسمى “سكرتاه”) تصدى فيه بالرد على ثلاث فتاوى بتحريم التأمين صدرت من علماء زمانه، وخلاصة ما قاله أن المفتين الثلاثة قد اتفقوا على المنع، ولكن اختلفوا في تعليل هذا المنع، فمنهم من علل بالغرر، ومنهم من علل بالقمار، ومنهم من قال أنه ضمان. وهذا كله يجعل هذه الفتاوى الثلاث فاسدة. وله في مناقشتهم كلام طويل وإن كان لا يسلم من الاعتراض عليه.

رأي الأستاذ أحمد طه السنوسي:

يرى الأستاذ أحمد طه السنوسي أن عقد التأمين من المسئولية جائز شرعا، وقد نشر هذا الرأي في بحث مستفيض له في مجلة الأزهر سنة 1373هـ متسلسلاً في عددين هما الثاني والثالث من المجلد الخامس والعشرين.

وقد احتج الأستاذ السنوسي لجواز عقد التأمين عن المسئولية بقياسه على عقد الموالاة الذي يقرر فريق من العلماء أنه سبب من أسباب الإرث شرعا، ومن هؤلاء العلماء عمر وعلي وابن مسعود، وبمذهبهم أخذ أبو حنيفة وأصحابه.

وعقد الموالاة هو أن يعقد شخص مع آخر ليس له أقرباء عقد محالفة على أن يعقل عنه إذا جنى ويرثه إذا مات، فإن هذا العقد تنشأ عنه رابطة حقوقية بين عاقديه شرعا قوامها التزام العاقد الأعلى الذي يسمى مولى الولاة بأن يتحمل الموجب المالي عن جناية الآخر في حالة الخطأ في مقابل أن العقد الأعلى يرث الآخر إذا مات دون وارث.

رأي الأستاذ مصطفى الزرقا:

هو من أكبر الذين قالوا بالجواز المطلق للتأمين، وله في هذا الصدد بحوث عديدة، أما أدلته على الجواز فتتلخص فيما يلي:

1- أن عقد التأمين في جميع صوره وأشكاله عقد تعاون وتضامن اجتماعي؛ إذ إن الفكرة الأساسية فيه هي التعاون على ترميم آثار الكوارث الواقعة على الإنسان في نفسه أو ماله في مجال نشاطه العلمي، وذلك بطريق التعاون على تجزئة الكوارث وتفتيتها وتوزيعها على مجموع المستأمنين بدلاً من أن يتحمل أضرارها الشخص المصاب وحده، والتعاون في الخير أمر تقره الشريعة وتدعو إليه.

2- أن عقد التأمين يؤدي وظائف مهمة ونافعة، فهو يمنح الأمان والطمأنينة للمستفيدين على ماله ومستقبل حياته، وهذا الأمان هو أعظم ثمرات الحياة، وهو الذي من به الله على قريش بقوله {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.

3- أنه لا يوجد مانع شرعي يمنع من جواز هذا العقد؛ لأن الأصل في العقود الإباحة عند أكثر العلماء، وهو الراجح في الفقه الإسلامي، فللإنسان أحداث أي عقد تدعو الحاجة إلى إنشائه ما لم يرد بخصوصه نص يمنعه أو يخالف قواعد الشريعة العامة القطعية، وعقد التأمين لم يرد بخصوصه نص يمنعه، وليس فيه ما يخالف قواعد الشريعة، فضلا عن أنه تقتضيه حاجة الناس فيكون جائزا شرعيا.

4- وعلاوة على ذلك، يرى أن في أحكام الشريعة وأصول فقهها ونصوص الفقهاء ما يصلح أن يكون مستندا قياسيا واضحا في جواز عقد التأمين، وخص بالذكر من ذلك عقد الموالاة، وضمان خطر الطريق عند الحنفية، والوعد الملزم عند المالكية ونظام العاقلة في الإسلام، وضمان الأجير للحراسة، ونظام التقاعد والمعاش للموظفين.

(أ) أما عقد الموالاة فيرى أن يكاد يكون نصا صريحا في التأمين من المسئولية كما سبق بيانه في تلخيص رأي الأستاذ أحمد طه السنوسي.

(ب) وأما صحة ضمان خطر الطريق فيما إذا قال شخص لآخر: “اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن” فملكه فأخذ ماله حيث يضمن القائل، وهو ما نص عليه الحنفية في الكفالة، فهو يرى في ذلك النص فكرة فقهية يصلح بها أن يكون نصا استثنائيا قويا في تجويز التأمين على الأموال من الأخطار.

(ج) أما قاعدة الوعد الملزم عند المالكية فخلاصتها أن الشخص إذا وعد غيره عدة بقرض أو بتحمل وضيعة أو إعارة أو نحو ذلك مما ليس بواجب عليه في الأصل، فهل يلزم بالوفاء بوعده قضاء أم لا يلزم؟ اختلف فقهاء المالكية في ذلك على أربعة أقوال، فمنهم من يقول إن الوعد غير ملزم مطلقا، ومنهم من يقول هو ملزم مطلقا، ومنهم من يقول، هو ملزم إذا بني على سبب وإن لم يباشر الموعود ذلك السبب، كما لو قال شخص لآخر، إني أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، فإن الواعد ملزم ولو لم يتزوج الموعود، ومنهم من يقول إن الواعد لا يلزم بوعده إلا إذا بنى الوعد على سبب ودخل الموعود في ذلك السبب فعلاً، كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن شيء يريد شراءه فاشتراه فعلاً، أو مبلغ المهر في الزواج فتزوج ونحو ذلك، وهذا هو الراجح في المذهب من بين هذه الآراء الأربعة. أما عند الحنفية والشافعية فإن الوعد لا يكون ملزما.

وبناء على مذهب المالكية يرى تخريج عقد التأمين على أساس أنه التزام من المؤمن للمستأمنين ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل عنه أضرار الحادث الخطر الذي هو معرض له، أي أن يعوض عليه الخسائر، فقد نص أصحاب الرأي الرابع على أنه (لو قال شخص لآخر بع كرمك الآن وإن لحقتك من هذا البيع وضيعة فأنا أرضيك، فباعه بالوضيعة كان له على القائل أن يرضيه بما يشبه ثمن ذلك الشيء المبيع والوضيعة) قال ابن رشد: لأنها عدة على سبب، والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب، فهذا النص الصريح يمكن تخريج عقد التأمين عليه، لأن أقل ما يقال فيه أن التزام تحمل الخسارة عن الموعود في حادث معين محتمل الوقوع بطريق الوعد الملزم نظير الالتزام بتحمل خسارة المبيع عن البائع في المثال المتقدم.

(د) أما نظام العواقل في الإسلام فهو نظام وردت به السنة الصحيحة الثبوت وأخذ به أئمة المذاهب، وخلاصته أنه إذا جنى أحد جناية قتل غير عمد وكان موجبها الدية فإن الدية للقتيل توزع على أفراد عائلة القاتل الذين يجعل بينه وبينهم التناصر عادة، وهم الرجال البالغون الذين من أهله وعشيرته وكل من يتناصر هو بهم ويعتبر هو واحدا منهم فتسقط الدية عليهم في ثلاث سنين بحيث لا يصيب أحدا منهم أكثر من أربعة دراهم في السنة.

وهذا النظام كان معمولاً به قبل الإسلام فكانت عاقلة القاتل تتحمل عنه تكرما واصطناعا بالمعروف فجاء الشرع وقرره وجعله إلزاميا.

يقول الأستاذ الزرقا: إن نظام العواقل يهدف إلى غايتين الأولى تخفيف أثر المصيبة على الجاني المخطئ، والثانية صيانة دماء الضحايا الخطأ من أن تذهب هدرا لأن الجاني المخطئ قد يكون فقيرا لا يستطيع التأدية فتضيع الدية، وإذا كان الشرع قد قرر هذا النظام التعاوني بطريق التعاقد في صورة عقد التأمين لكي تخفف آثار الكوارث بتوزيعها على كثيرين.

وهل المصلحة التي يراها الشرع الإسلامي بالغة من القوة درجة توجب جعلها إلزامية بحكم الشرع تصبح مفسدة إذا حققها الناس على نطاق واسع بطريق التعاقد والمعارضة التي يدفع فيها القليل لصيانة الكثير وترميم الضرر الكبير من مختلف الكوارث.

(هـ) أما نظام التقاعد أو المعاش فهو يقوم على أساس أن يقتطع جزء من المرتب الشهري للموظفين في أعمال الدولة، حتى إذا بلغ سن الشيخوخة القانونية وأحيل إلى التقاعد أخذ وهو غير موظف عامل راتبا شهريا يبلغ أضعافا مضاعفة من المبلغ الذي كان يقتطع من راتبه شهريا ويستمر المرتب التقاعدي الجديد ما دام حيا مهما طالت حياته، وينتقل إلى أسرته التي يعولها من زوجة وأولاد وغيرهم بشرائط معينة بعد وفاته فما الفرق بين هذا النظام وبين التأمين على الحياة؟

إن في كليهما يدفع الشخص قسطا ضئيلاً دوريا لا يدري كم يستمر به دفعه وكم يبلغ مجموعه عند التقاعد، وفي كليهما يأخذ الشخص أو أسرته في مقابل هذا القسط الدوري الضئيل مبلغا كبيرا دوريا أيضا في التقاعد وفوريا في التأمين على الحياة يتجاوز كثيرا مجموع الأقساط، ولا يدري كم يبلغ مجموعه في التقاعد إلى أن ينقضي الاستحقاق، بينما هو محدود معلوم المقدار في التأمين على الحياة، فالغرر والجهالة في نظام التقاعد أعظم منها في التأمين على الحياة.

إن نظام التقاعد يقره علماء الشريعة ويعلمون به ويرونه أساسا ضروريا في نظام الدولة ومصلحة عامة لا بد منها، فلماذا يحسن وجود هذا النظام التقاعدي ترتيبا يقوم بين الدولة وموظفيها ولا يجوز نظيره تعاقدا ملزما بين الناس؟

(و) أما عقد الاستئجار على الحراسة فالأجير الحارس هنا وإن كان مستأجرا على عمل يؤديه هو القيام بالحراسة، فإننا نجد أن عمله المستأجر عليه ليس له أثر أو نتيجة سوى تحقيق الأمان للمستأجر على الشيء المحروس، واطمئنانه إلى استمرار سلامته من عدوان شخص أو حيوان يخشى على أن يسطو عليه، وليس كعمل الصانع فيما استؤجر على صنعه وعمل الخادم في الخدمة المستأجر عليها، فإن هذه أعمال محسة يقوم بها الأجير، أما الحارس فليس لعمله أي نتيجة سوى هذا الأمان الذي بذل المستأجر ماله للحصول عليه، وكذلك الحال في عقد التأمين يبذل فيه المستأمن جزءا من ماله في سبيل الحصول على الأمان من نتائج الأخطار التي يخشاها.

الحاجات وإشباعها

الحاجة نقص يتطلب التوفية أو ضغط يتطلب التفريج.. والأمن مطلب فطري، وطالب الأمن ما تعدى، ولا خلاف في أن توفير الأمن من الوظائف العامة التي تعرض لإشباع حاجات عامة كالعدل وتوفير فرص كسب المعاش، أما الحاجات الخاصة كالسعي في طلب الرزق وإقامة السكن الخاص فيتولاه الأفراد.

ولقد يذهب بعض الكتاب (المتخصصين في الدراسات المالية) إلى وجود قدر من التداخل بين بعض الحاجات العامة والحاجات الخاصة من زوايا كثيرة… ولكن هذا القدر من المسائل المختلف عليها لا يتناول الحاجات التقليدية كالحاجة للعدل والأمن وتوفير فرص العمل فهذه كلها محل اجتماع من حيث مسئولية ولي الأمر عن القيام بها –واستنادًا لما تقدم يتعين القول بأن رد المظالم وإقامة الحدود وتوفير الأمن للناس.. كل أولئك من شأن الدولة أو السلطات العامة أيا كانت التنمية التي يختارها مجتمع دون آخر.. وهي قطعا لا تدخل في نشاط الأفراد والشركات… فإن فعلوا فهم بذلك يتجاوزون الحدود وتخشى من جانبهم المظالم.

الأمن بوجه خاص

وإذا كان الأمن –من بين الحاجات العامة- هو محل النظر في بحثنا هذا فإنه جدير بمزيد من البيان فنقول: يقع الأمن في مجالات ثلاثة بيانها: الأمن داخل البلاد وتتولاه الشرطة والعسس والحراس، والأمن عند الحدود وتتولاه الأسلحة التقليدية المشهورة كأسلحة البر والبحر والجو وما قد يستجد من تطوير لهذا كله، بالإضافة إلى القوة البشرية التي تتولى توفير الأمن بمواجهة الأعداء، وتأمين النفوس على الحياة والرزق بالمقسوم والثروة المملوكة للأفراد وكفالة قدر من الغنى عن الناس للأسرة إن هي فقدت العائل أو إذا حل به مكروه بحادث أو بسبب المهنة…

إذن مجالات الأمن الثلاثة على وجه التحديد: أمن داخل البلاد، وأمن عند الحدود، وأمن على الأسرة في قيامها ونموها وانقضائها. هذا القدر من التقعيد العلمي لمجالات الأمن لا يثير خلافا… ومع ذلك نرى في واقع الحياة عجبا. فالمرتزقة مثلاً تكسب العيش بترويع الآمنين فيستخدمهم المعتدي أو المغتصب لكي يقيم دعائم سيطرته الظالمة. والفرق بين المجاهد الذي يدافع عن الدين والوطن من ناحية وبين المرتزق من ناحية أخرى هو فرق واضح. فالأول يتخذ في الحياة منهجا تطمئن إليه الفطرة السليمة وترضى عنه الشريعة. والآخر يكسب كسبا خبيثا ويقوم بدور لا يقره شرع ولا عرف. ومن هذه الأمثلة البسيطة يتضح لنا أنه إذا تدخل الأفراد والجماعات من الناس في مجالات توفير الأمن للمجتمع فإنهم بذلك يعتدون.

الدولة:

من أعجب ما اشتملت عليه الدراسات الحديثة في علم السياسة قول الثقات من الكتاب أن الثورة الفرنسية قامت في 14 يوليو 1789م. ومع ذلك تأخر تطوير نظرية الدولة وتثبيت دعائمها مائة عام بعد هذا الحادث (المجيد) في تاريخ الإنسانية. وكأنما كانت هذه الثورة مهبط الوحي الذي أنزل على الفرنجة في أرضهم. هذا في زعمهم. والذي نراه أن الدولة قد نشأت واكتملت في المدينة المنورة في العشرة الأعوام الأخيرة من الرسالة الخاتمة ووظائف الدولة كما نفهمها عن الشريعة السمحاء.. هي: أن تقف بين الفرد والفرد لرفع المظالم، وأن تقف بين الفرد والعالم الخارجي فلا ينزل الظلم برعاياها من فعل الخصوم والأعداء، وأن تكفل للأجيال تعاقبا وترابطا. يجعل وجود الأمة الإسلامية وجوداً متصلاً، وأن تقيم العدل بين الناس، وأن توفر أسباب الرزق الطيب لكل راغب فيه قادر عليه، وأن توفر الأمن داخل الحدود وخارجها، ولكل أسرة عاش عائلها أو سبق إلى الآخرة. هذه هي وظائف الدولة في أمة تؤمن بالله ورسوله وتجعل عقيدة التوحيد أساسا لكل خاطرة ولكل سلوك.

لذلك يرحب كاتب هذه السطور بالاتجاه الرائد الذي بدأ في بعض البلاد الإسلامية من حيث تدخل الدولة في ميدان النشاط التأميني والأخذ بنصيب من هذا النشاط الذي كان من قبل وقفا على شركات وهيئات محترفة تساندها رؤوس أموال جبارة وخبرة اقتصادية وأساليب إدارية كفلت لهذه الشركات والهيئات الهيمنة على أسواق رأس المال وعلى السيولة الدولية زهاء قرنين من الزمان حتى بدأت اليقظة التي نرى ملامحها في مؤتمرات علماء المسلمين وفي الاتجاه الحاضر الذي قضى بوضع الخبرات الاقتصادية والمالية في خدمة علوم الشرع.

الوظيفة والعضو الذي يؤديها:

في هذه الفقرة سنلتزم بالإطار الذي وضعناه للنشاط التأميني الراشد، أي أننا سنلتزم بالكلام عن الوزارة والمصلحة والمؤسسة، ثم ننتقل بعد ذلك إلى التأمين الذاتي الذي يتولاه طالب الأمن. بمعنى أن يجتمع طرفا العملية في شخص واحد هو طالب الأمن. إذ يؤمن نفسه بنفسه.

إذن لدينا نوعان من الأعضاء الذين يباشرون وظيفة التأمين، لا بقصد الربح. بل بقصد آخر سيتضح من سياق الكلام.

وعن النوع الأول نقول: ترى بعض الدول إنشاء وزارة متخصصة لشئون التأمين ومن هذا البعض مصر. على أن إنشاء وزارة متخصصة قد يتأخر بعض الوقت، وعندئذ يكفي أن يتولى هذا النشاط جزء من وزارة يقال له “مصلحة” ويتبع هذا الجزء وزارة قائمة بالفعل كوزارة الاقتصاد أو وزارة المالية. وكل هذا منهج سليم.

ومن الدول ما يعدل عن المصلحة والوزارة إلى المؤسسات العامة استنادا إلى المفهوم المشهور عن المؤسسات العامة من حيث أنها تجمع بين حيوية القطاع الخاص والترفع عن الكسب أسوة بما هو مستقر بكل من المصلحة والوزارة. وبعبارة أخرى أن المؤسسة العامة عند الذين يفضلونها تجمع بين الحسنيين: بين النشاط والحماس وحرية التصرف وهذه كلها من خصائص القطاع الخاص، وبين إسقاط المصلحة الذاتية وإسقاط كل محاولة للحصول على ربح صاف من النشاط الذي تباشره المؤسسة. وفي المراجع الوثيقة للتاريخ الاقتصادي تفصيلات بالغة الأهمية عن نشأة المؤسسات العامة في كل من فرنسا سنة 1842م. وفي إنجلترا سنة 1908م والأدوار التي مرت بها هذه المؤسسات وإن كانت صورها في بلد الأصل الأول “فرنسا” وبلد الأصل الثاني “انجلترا” ليست متطابقة تماما. ثم إن النتائج العملية التي حققتها المؤسسات الاقتصادية العامة (منها مؤسسة التأمين) قد وجدت من الدراسات القيمة ما يستحق الرجوع إليه، ومن ذلك دراسات الأستاذ “روبنس (Ruppins)” أستاذ الإدارة العامة بكلية الاقتصاد بجامعة لندن في مؤلفين اثنين صدرا سنة 1952م سنة 1962م وفي هذا المقام يعنينا من أمر الوزارة والمصلحة والمؤسسة شيء واحد هو ألا يكون تحقيق الربح الصافي هدفا لأي مفردة من المفردات سالفة الذكر الداخلة في تكوين الجهاز التنفيذي للدولة. دخولا تاما كما في حالة الوزارة أو المصلحة أو دخولاً جزئيا كما في حالة المؤسسة العامة. وحكمة ذلك أن الأمن لا يباع ولأهمية هذه العبارة الموجزة سنعود إليها بشيء من التفصيل في فترة تالية. ولكن قبل الانتقال إلى الكلام عن التأمين الذاتي نلاحظ مفردات أخرى تشبه المؤسسة العامة وتختلف معها من بعض الوجوه ومن ذلك: الهيئة العامة والمنظمة. ولقد نشأت هذه المفردات التي أشرنا إليها إشارات سريعة وهي المؤسسة العامة الاقتصادية والمؤسسة العامة النقابية والمؤسسة العامة التقليدية والهيئة العامة والمنظمة العامة والشركة العامة التي يمتلكها فرد واحد هو الدولة، نقول إن هذه المفردات تعتبر صورا مستحدثة من أشكال المشروعات وأجهزة التنفيذ. لقد نشأت هذه المفردات كلها في ظروف اقتصادية مضطربة فكانت غامضة عند الذين اقترحوها وبقيت كذلك غامضة عند الذين علقوا أو أخضعوها للبحث العلمي. فلا عجب إذن حين نرى الغموض يكتنفها في كل المراجع العربية. إذ هي كذلك غامضة في المراجع الأجنبية التي تصدر في مجتمعات مسئولة عن محاولة استحداث صورة من أشكال المشروعات والأجهزة تتفق والتيارات الاقتصادية التي بدأت مع الثورة: الفرنسية والصناعية والاجتماعية والسياسية والعسكرية التي تواكبت في مائتي عام مضت.

وعن التأمين الذاتي نقول وبالله التوفيق: التأمين الذاتي هو المخرج الذي لجأ إليه طلاب الأمن حين اشتدت عليهم وطأ الشروط المفروضة بمعرفة الشركات المحترفة. كما كان المخرج من المواقف الحرجة التي واجهها طلاب الأمن حين أخل المؤمن المحترف بالتزاماته. وفي هذا تفصيل بالغ الأهمية لأنه يحقق أمرين أحدهما وصف جانب من واقع التأمين في الحياة المعاصرة والأمر الآخر أنه يعتبر نواة صالحة لتنظيمات خاصة يباشرها الأفراد والجماعات في إطار من القانون وتحت إشراف الدولة. تمهيدا لمزيد من التدخل في الميادين الاحتكارية التي تستغلها شركات تحترف صناعة التأمين. وحين يجتمع للأمة مصالح حكومية أو وزارات للتأمين، ومنظمات ينشط فيها طلاب التأمين لرعاية مصالحهم الخاصة تحت إشراف الحكومة. فإن هذين العنصرين مجتمعين إذا زحفا على الحياة العملية للأفراد ودوائر الأعمال فإن ميدان التأمين الاستغلالي الذي كان من قبل وقفا على الشركات المحترفة يضيق. ومن سبق الأحداث أن نقول إلى أي حد يكون هذا الضيق. فلعله يختفي. أول لعل القدر الذي يبقى منه يتضاءل كما هي حال الجنود المرتزقة بالقياس إلى الجيوش المناضلة عن الحق المشروع.

ننتقل الآن: إلى التأمين الذاتي. وله عدة صور لعرضها فيما يلي بإيجاز:

الصورة الأولى: وفيها يتولى طالب الأمن الاستعداد لمواجهة الأخطار والحوادث المحتملة إن هي وقعت. ومن ثم يكون هو بذاته طالباً للأمن وهو بذاته المؤمن. ولهذا الأسلوب في مباشرة وظيفة التأمين تاريخ نجتزئ منه ما يلي:

ظهر هذا الأسلوب، أول ما ظهر في الولايات المتحدة قبل غيرها. ونجح إلى حد أزعج شركات التأمين. ولإيضاح طريقة العمل. نضرب هذا المثل:

لنفرض أن مصنعا يريد التأمين على موجوداته التي تبلغ قيمتها عشرة ملايين دولار أمريكي ولنفرض أن القسط السنوي 1% فإن القسط يكون في هذه الحالة مائة ألف دولار. فيقوم صاحب المصنع بتجنيب هذا المبلغ وتوظيفه في أوراق مالية. وبهذا ينتفع بخبرة الهيئات المحترفة عند تحديده للقسط المناسب. ثم يكرر هذه العملية سنة بعد أخرى وقد يزيد المؤمن القسط طواعية واختيارا ليستعجل تكوين المال المخصص لمواجهة الأخطار وقد ترتب على ذلك أمران:

الأول: أن بعض الأخطار وقع في السنوات المبكرة لتنفيذ الخطة وتعرض صاحب المصنع لخسائر فادحة. الأمر الثاني: أن شركات التأمين وضعت سياسة تريد بها القضاء على الفكرة في مهدها وذلك بالامتناع عن تأمين أي جزء من الأخطار التي يتعرض لها من يباشر التأمين الذاتي. ذلك أن بعض هؤلاء كان يحتفظ بجانب من القسط تحت يده فيما وصفناه بأنه مخصص التأمين وليكن هذا الجزء 0.20% من القسط ثم يدفع 0.80% من القسط إلى شركة محترفة، في مقابل مواجهتها لمثل هذا القدر من الأخطار إذا وقعت. وفي السنة التالية والتي بعدها. يرفع طالب الأمن النسبة التي يحتفظ بها ويهبط بالنسبة التي يدفعها إلى شركات التأمين المحترفة. وهكذا حتى يصل بعد فترة من الزمن إلى مركز مالي من حيث التأمين يسمح له بمواجهة الأخطار منفردا دون الحاجة إلى شركات التأمين المحترفة. وهذا هو ما تخشاه الشركات.

ولذلك عمدت إلى فرض الشروط القاسية لهذا النوع من الحالات بحيث يجد صاحب المصنع أنه لا مصلحة له في معاداة هذه الشركات. غير أن التقدم الاقتصادي خلال القرن العشرين من أوائله، وما صحب النشاط المالي والتجاري من تنظيمات إدارية واقتصادية قد أعاد للتأمين الذاتي البقاء والازدهار ومن ذلك أن عرفت الدوائر التجارية والصناعية الكبرى نظما حديثة يمكن وصفها بالتكتلات والاتحادات. فظهرت الاحتكارات. ومن بعدها التكامل الرأسي والتكامل الأفقي وشركات المجموعة والشركات الشقيقة والشركة الأم والشركات الوليدة.

ظهرت هذه التنظيمات الاتحادية في كل من أمريكا وأوربا. وعنها أخذ بعض بلاد العرب كالقطر المصري لعهد المرحوم محمد طلعت حرب أي فيما بين سنتي 1339- 1359هـ (1920- 1940م) حين قام بنك مصر ومجموعة شركات مصر التي أسسها محمد طلعت حرب. ولقد كان في ظهور هذه التجمعات أو التكتلات فرصة مواتية لنجاح التأمين الذاتي عن طريق التساند فيما بين أعضاء المجموعة الواحدة التي أسلفنا الإشارة إليها.

وقبل أن نترك هذه الصورة المهمة من صور التأمين من حيث تحديد الجهة التي تقوم به نقول إن التأمين الذاتي يهيئ للمصلحين فرصة ثمينة وعملية للخروج من الأوضاع الموروثة. بوضع خطة طويلة المدى تساعد فريقا من المجتمع (كالتجار والصناع) على مواجهة الأخطار بتنظيماتهم الخاصة.

الصورة الثانية: التأمين التبادلي: وهذه الصورة الثانية تعتبر امتدادا للصورة الأولى ولكنها مع ذلك حالة خاصة نضرب لها بعض الأمثال فنقول: عندما قامت الحرب العالمية الثانية وتعرضت سفن الحلفاء الغربيين للغرق بفعل الغواصات الألمانية رفعت الشركات المحترفة أقساط التأمين أضعافا مضاعفة في بضعة أيام حتى بلغت رسوم التأمين 12% عن المرحلة الواحدة ثم عمدت بعد ذلك إلى إسقاط المسئولية عن كاهلها إذا كان الضرر الذي يلحق بالسفن ناتجا عن النزاع المسلح وهو ما يسمى بشرط الحرب… ثم تعرضت إنجلترا إلى إغارات التدمير والإحراق التي ألحقت أضراراً جسيمة بالمدن الكبرى ومراكز الإنتاج والجسور والسكك الحديدية إلى آخر ما هو معروف من تاريخ الحرب العالمية الثانية، وتكررت مواقف شركات التأمين من حيث إنكار المسئولية عن تعويض الأضرار التي تنجم عن النزاع المسلح وقد وجد أصحاب المصالح المهددة (كأصحاب السفن والعمارات والسكك الحديدية) أنهم قد فقدوا الأمن الذي دفعوا له أثماناً طائلة طوال القرن التاسع عشر وإلى سنة 1940م، وعندئذ لجأت كل جماعة منهم إلى الدخول في تنظيم تبادلي يكفل لكل عضو فيه حق التعويض عن الأضرار التي تلحق به. ويكون التعويض قسمة بين كل أطراف الجماعة، وتعرف هذه الصورة من صور التأمين الذاتي بأنها تأمين تبادلي.

استطراد: تجدر الإشارة هنا إلى عبارة مشهورة يقال لها التأمين التعاوني وقد يطلقها البعض على ما وصفناه بأنه تأمين تبادلي، ونريد أن نلقي بعض الضوء على هذه المفردة “التعاون” التي زحفت على اللغة العربية المعاصرة. فنقول:

يتجه البعض إلى الربط بين التعاون المعروف في زمننا وبين الآية الثانية في سورة المائدة وقد وردت لفظة التعاون في هذه الآية مرتين ولم ترد في غير هذا الموضع من كتاب الله كله، واستنادا إلى هذا النظر السطحي للأمور قامت حملات الترويج للتأمين التعاوني والجمعيات التعاونية الاستهلاكية وبنوك التسليف التعاوني إلى آخر ما هو معروف. وإن حرصنا على الفهم الصحيح لكتاب الله جل شأنه يحملنا على التفرقة بين التعاون كمفهوم اقتصادي… وبين المفردتين الواردتين في سورة المائدة.

فأما عن المفهوم الأول وهو التعاون الاقتصادي فنقول إنه الأصل في كل ما نراه من صور تعم البلاد الإسلامية كالجمعيات والبنوك وجماعات التأمين، وقد نشأ التعاون الاقتصادي في الربع الأخير من القرن الثامن عشر أي من نحو مائتي عام وكان ظهوره في كل من إنجلترا وألمانيا. وكل من البلدين يدعي ميزة السبق إليه. فما هذا التعاون؟ إنه في المحل الأول ثورة على حرفة التجارة وكان أول هدف له القضاء على التجارة والتجار وذلك عن طريق إنشاء جمعيات تعاونية استهلاكية تتصل مباشرة بمراكز الإنتاج وتقطع أرزاق جميع الوسطاء. وبهذا تحقق العائد الذي يبقى لجماعات المستهلكين فيصيبون شيئا من الثراء بقطع دابر التجارة والتجار ثم ينتقلون بعد ذلك إلى مرحلة الإنتاج فيجمعون المدخرات والوفورات المالية التي تحققت. ويوجهونها إلى إنشاء مراكز تعاونية للإنتاج. وهكذا يتطور التعاون ويتدرج من القضاء على التجار إلى القضاء على الصناع.

ولسنا هنا بصدد مناقشة الفلسفة البائرة التي قامت عليها فكرة التعاون وشعاراتها الغثة. ومنها الكل للفرد والفرد للكل ومنها أيضاً فناء الذات في بقاء الجماعة. لسنا بصدد مناقشة شيء من ذلك ولكننا نقول إن هذا التعاون الاقتصادي بنشأته وتطوره هو الأصل في المبادئ اليسارية المتطرفة ومنها الاشتراكية والشيوعية، على أن التطبيق في بعض البلاد العربية قد انحرف عن الأصل الذي كان عليه التعاون أول مرة إلى ما هو أسوأ. ومن ذلك مثلاً أن الجمعية التعاونية الاستهلاكية المعاصرة والتي تنشط في بلاد عربية وبلاد إسلامية تتبع ما يلي: تقصر حق العضوية على طائفة بعينها هي طائفة الأعضاء، ثم تفتح أبواب الانتفاع بخدمات الجمعية لجميع الناس، ومن ثم يكون من حقهم غشيان الجمعية والانتفاع بها وبخدماتها كشراء السلع. وأما الأرباح التي تتحقق من البيع للأعضاء ومن البيع لغير الأعضاء فتذهب كلها إلى أعضاء الجمعية دون سواهم وهنا أول انحراف عن التعاون البريطاني والألماني ثم إن هذا العائد يوزع على الأعضاء وفقاً لمشترياتهم فبقدر ما تزيد مشتريات العضو يرتفع نصيبه من العائد –وهذا العيب في التنظيم الاجتماعي يرجع إلى أصوله التاريخية.

والخلاصة: أن التعاون الاقتصادي يكافئ المقتدر ويضعف من حصة الضعيف هذا بالنسبة للأعضاء ثم إنه يحرم الكثرة الغالبة من العملاء من حقهم في فائض الثمن الذي يسمى بالعائد وهو في الحقيقة ربح التاجر. ومن أربح التجار تكون الأرزاق ويتكرر استعمال الدخل. وبحسب التجارة شرفاً ما ورد بشأنها في الكتاب والسنة، ولتكملة هذا الاستطراد المهم دفعا للشبهات أن تحوم حول آية من آيات كتاب الله جل شأنه نقول: إن التعاون الذي ورد في سورة المائدة والذي تحض عليه الشريعة الغراء. له نظير في سورة العصر عند وصف الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم تواصوا بالصبر. والقول في تأويل كتاب الله وتفسيره إنما يستمد من أقوال السلف الصالح ومن ذلك ما ورد في تفسير الطبري بالجزء السادس ص 430 (المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1326هـ) إذ يقرر ما يلي: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” يعني جل ثناؤه وليعن بعضكم أيها المؤمنون بعضا على البر وهو العمل بما أمر الله به. والتقوى هي اتقاء أمر الله باتقائه واجتناب المعاصي، وقوله تعالى: “ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” يعني: ولا يعن بعضكم بعضا على ترك ما أمركم الله بفعله ولا على أن تتجاوزوا ما حد الله لكم في دينكم وفرض لكم في أنفسكم وغدكم- وإنما معنى الكلام لا يحملنكم بعض قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام. أن تعتدوا. ولكن ليعن بعضكم بعضا بالأمر وبالانتهاء إلى ما حده الله لكم في القوم الذين صدوكم عن المسجد الحرام. وفي غيرهم. والانتهاء عما نهاكم الله أن تأتوا فيهم وفي غيرهم “وفي سائر ما نهاكم عنه”. ولا يعن بعضكم بعضا على خلاف ذلك. وبما قلنا في البر والتقوى قال أهل التأويل أ هـ: ثم يقول كاتب هذه السطور: أين هذا المستوى الخلقي الرفيع الذي جاءت به سورة المائدة (في الآية الثانية)… من الدعوة السافرة إلى تخريب أرزاق التجار والصناع وربط الاستهلاك بالإنتاج ربطا مباشرا هو الصورة المبكرة للشيوعية أو الاشتراكية العلمية أو الماركسية فكل هذه أسماء لأفكار متقاربة اجتمعت على تحريم الملكية الخاصة والنشاط الإنتاجي الخاص واتخاذ الحرف لكسب المعاش كل هذا بعيد عن الشريعة السمحاء كل البعد.

ومع ذلك نقول إن علماء الأخلاق المحدثين هم الذين كتبوا عن التعاون بأسلوب منقطع الصلة عن الثورات الاقتصادية الهدامة ووصل هؤلاء العلماء إلى تكييف لهذه المفردة “التعاون” على نحو يقترب من أقوال المفسرين فقالوا إن التعاون هو الصورة المثلى لكل من السلوك الظاهر والسلوك الباطن لأفراد الناس عند التداعي إلى حشد الجهود وتوجيهها نحو تحقيق الأهداف الخيرة. وهي قسمان مميزان أحدهما إيجابي وهو البر بالناس وتقوى الله. والآخر سلبي رادع يوصي بالامتناع عن الوقوع في الإثم والقصد إلى العدوان على الآخرين، وإنما يصل هذا المستوى الأرفع من السلوك الظاهر والباطن في الحالات التي يكبح فيها الفرد جماح الغضب ويعفو ويصفح ويعمد إلى الرفق والبر ويأمر غيره بمثل ذلك في معاملة قوم أبغضهم لأنهم ظاهروا عليه أو بدءوا هم أنفسهم بالعدوان.

وأخيراً وصل علماء الأخلاق إلى التوصية بالسلوك الأرفع وهو “التعاون” وقالوا في وصفه ما يقترب مجرد اقتراب من أقوال السلف الصالح عندما يعرضون لمثل هذه الآيات التي ذكرناها ولمثل قوله جل شأنه “والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس”.

جدير بالذكر هنا أن الإشارة إلى صلاحية هذا النوع من العقود للتطبيق في المجتمع الإسلامي قد تكررت في أكثر من بحث جرت به أقلام المتشددين (فضلاً عن الأخذ بالتيسير على الناس) حتى لا يقال بأن الشريعة الإسلامية جامدة تضيق بالتطور الاقتصادي الكبير.

وأريد في خصوص ما تقدم أن أتساءل لعلي أرى الحكمة فيما يراه المجتهدون بشأن التأمين التعاوني وذلك:

أولاً: هل قامت في المجتمع الإسلامي حاجة إلى هذا التقعيد الذي يوصف بأنه مستحدث، وضاقت الشريعة الإسلامية بسد هذه الحاجة وفي أي مجال كان ذلك، الحياة أم حوادث السيارات أم خسارة المال بالحريق والكوارث؟

ثانياً: إذا كان المجتمع الإسلامي لا يعرف هذه الصورة التي لجأ إليها أقوام خلت أديانهم من النظم الاجتماعية والمالية والاقتصادية، فهل يجوز القول بأن الشريعة الإسلامية مفروض عليها أن تقعد لاجتهاد كل إنسان، وإن جاء بما أغنت عنه الشريعة، ونحن نعلم أنها وحدها صالحة للناس جميعاً –وأنه لا محل للاجتهاد ابتداء إذا كانت الصور الشرعية وافية بالغرض.

ثالثاً: إذا أجزنا التأمين التعاوني، فهل هو بديل من التكامل الإسلامي القائم على الزكاة والصدقات وما يلتزم به بيت مال المسلمين، أم أنه إضافة وتحسين لأن النظام الإسلامي غير واف بالغرض؟

ومتى كان الفقر أو الموت أو الأحداث والكوارث صوراً حديثة في المجتمع البشري- أي جديد في موت الآدمي وترك عياله من بعده واحتراق الدار بما فيها أو من فيها وغرق السفينة وثوران البركان وتشقق الأرض حتى تغيب فيها القرى كاملة، ما هو الجديد في هذا كله حتى يحتاج الناس إلى جديد من صور العقود؟ فإن كان حقا أن هذه العقود جديدة وصالحة (سواء أكانت للاستغلال أم كانت للتكافل الإنساني) فكيف خلت منها شريعة نعلم أنها من عند الله وأنها كاملة؟

أو لا يرى الباحث أن في إجازة التأمين التعاوني (كصور حديثة من العقود لصور قديمة وأزلية من الضرر) تسليماً ضمنياً بأن الشريعة قاصرة؟ وإلا فكيف أغفلت القديم الأزلي مما تزخر به الحياة البدائية، وكذا الحضارات جميعا؟

رابعاً: ما هو التكييف الشرعي لحق المضرور (أو ورثته) في الاستيلاء على مبالغ أودعها الآخرون، أهو التبرع؟ فأين الزكاة؟ وكيف لا تكون هذه وتلك كافية وهل جمعناها ووجهناها في مصارفها ثم قصرت فجاء المجتهدون لإجازة صورة حديثة من التكافل على أساس التبرع؟

فإن لم يكن التبرع هو أصل الحق في الاستيلاء على هذا المال، فهل هو المعارضة، أو ليس في هذا العقد غرر؟ وما من ضرورة ملجئة ولا أمر حازم مستحدث ألجأنا إلى هذه الإجازة؟

وما لم تكن الإجابات على هذه الأسئلة مقنعة، فإن الرأي الذي أقمت عليه إلى يومنا هذا، باقٍ إن شاء الله تعالى، ويتلخص في أن إجازة التأمين التعاوني يثير طائفة من الاعتراضات، أهمها:

1- أنه مشوب بالغرور، إذ لا حق للمغرور ولا لورثته في أموال الآخرين كأثر من آثار التعاقد. (يلاحظ هنا أن المعاملة رهان).

2- القول بأنه تبرع وبأن دوافعه إنسانية وبأنه خالٍ من استغلال الآخرين، قد يكون قولاً مسموعاً فمن غير البلاد الإسلامية.

3- ليس فيه جديد، وفي النظام المالي الذي جاء به الإسلام غناء عنه.

والخلاصة: أن كاتب هذه السطور لا يسمح لنفسه بالتجاوز عن خطأ مشهور يمس الفهم الصحيح لكتاب الله جل شأنه ومن ذلك: الزعم بأن التعاون الاقتصادي عموماً أوصت به الشريعة وجاء ذكره في سورة المائدة، وليس كذلك، ومن ثم تكون التسمية المفضلة عندنا من صور التأمين الذاتي هي “التأمين التبادلي”.

التأمين التجاري

لقد عرضنا فيما تقدم إلى التأمين المبرأ من استغلال حاجة الناس للأمن والمبدأ أيضاً من القصد إلى استغلال كوارث الناس وقلنا إن تحقيق ذلك يكون بإحدى وسيلتين أو بهما معا. فتتولى السلطات العامة بعض أنواع التأمين ويتولى أفراد الناس وجماعاتهم الدخول في تنظيمات للتأمين الذاتي. وننتقل الآن إلى التأمين التجاري وهو الغالب في العالم إلى وقتنا هذا فنقول: تتولى الشركات المحترفة لوظيفة التأمين دراسة الظاهرات الطبيعية والاجتماعية وجملة الحوادث التي تقضي على الأموال والأنفس، وتقوم بتصنيفها وتبويبها وتتبع في ذلك أدق الدراسات الرياضية وبعض النظريات المسلمة كنظرية الاحتمالات ونظرية الأعداد الكبيرة وتتخذ من هذا كله مادة للدعاية وتزعم بأنه من المستطاع بالدراسات الرياضية وبالجداول الخروج من متاهات الجهالة إلى اليقين ومن الأمثلة التي يضربونها ما يأتي:

يقولون إذا نظرنا إلى مائة ألف شخص في سن العشرين فإن أحداً لا يستطيع أن يقول متى يحل أجل زيد أم عمرو من هذا الجم الغفير من الناس. ولكن جمع البيانات الدقيقة عن المواليد والوفيات تقطع بأن من هذا العدد الذي ذكرناه سوف يموت حتما ألف ومائتان وتسعة وعشرون في سن الشباب قبل بلوغ الخامسة والعشرين من العمر. ونلاحظ هنا أن أحدا من خبراء التأمين لا يزعم لنفسه القدرة على القول بأن واحداً من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم سيكون بين الموتى أو بين الأحياء عند انقضاء خمسة أعوام على بدء الدراسة الميدانية. وهذا في الغالب لا يخرج عن السنين الكونية. فالله جل شأنه قد خلق الموت والحياة وفرض للأحياء آجالاً وأرزاقاً. فلا تثريب إذن على هذا النوع من الدراسات الميدانية. وبالتوسع في التطبيق الرياضي يمكن تحديد الأرقام المتفاوتة لكل خمسة أعوام تالية لسن الخامسة والعشرين إلى المتوسط العام للعمر وهو بين الخمسين والستين. ثم إن الأرقام تختلف في إحصاءات النساء عنها في إحصاءات الرجال كما تتفاوت من بيئة اجتماعية إلى بيئة أخرى: وهكذا نجد أن قدرا كبيرا من تحديد الأقساط يبنى على أسس رياضية وعلمية بالغة الدقة. ومثل ذلك يقال عن الحوادث بل عن كل نوع من أنواع الحوادث كالسرقات التي تقع نهارا وتلك التي تقع ليلاً والحريق صيفاً وشتاء. وهكذا.

ومحل النظر هنا أن الدعاية للتأمين وأن تقويم هذه الوظيفة كفرع هام من فروع النشاط الاقتصادي يقتصر على ذكر الحقائق العلمية، كتلك التي ضربنا بها الأمثال. ولا يجئ ذكر الآثار القريبة والآثار البعيدة المدى، كما لا يجئ ذكر الربح الوفير الذي يتحقق من ممارسة هذه الوظيفة. وهذا ما نشير إليه بإيجاز فيما يلي:

الآثار الاقتصادية للتأمين التجاري: فأما الآثار القريبة المدى فإنها معلنة وتتلخص في تخفيف وقع الضرر على الفرد، بفقد ماله، أو على الأسرة بفقد العائل فإذا اقتصر النظر إلى آثار التأمين على هذا الحد لجاز القول بأنه عمل خير ومفيد “ولكن الآثار البعيدة المدى أشد خطورة من كل ما عرفته المدنية المادية المعاصرة من وسائل إذلال الشعوب. ذلك أن شركات التأمين بوسائلها هذه تتحكم في مدخرات الأفراد والجماعات تحكمًا يجعل لها السلطان لا على الجماهير وحدهم بل وعلى الحكومات. ومعلوم أن الصهيونية العالمية لها سلاحان قاطعان، أحدهما التحكم في وسائل الإعلام كدور الطبع والنشر وشركات الصحافة في كل بلاد العالم وشركات إنتاج الأفلام ودور العرض ووكالات الأنباء وكل ما يمر بالخاطر من وسائل نقل المعلومات ونشرها والترويج لها. وفي هذا ترتكب الصهيونية من التزوير وتنكير الوقائع التاريخية والمعاصرة ما يضيق المجال عن ذكره في هذه العجالة. ومن أقرب الأمثلة التي مرت بكاتب هذه السطور إعداد مصور جغرافي تاريخي لأرض الميعاد التي تمتد في نظر الصهيونية من نهر الفرات إلى نهر النيل وأن المطلع على هذا المصور ليجد في مادته آثاراً ظاهرها العلم الصحيح وكتابها من أقدر كتاب العالم: وقد اقترنت المصورات الجغرافية الأثرية التي ترجع إلى ألوف السنين بشروح مستفيضة كما تدرج هذا المجلد الضخم بما احتواه من المعلومات عبر القرون حتى وصل إلى القرنين الأخيرين فزاد التفصيلات وجاء بالوثائق الدولية محرفة أو مشوهة أو مبتورة ومن بين يديها تعقيبات لا يخفى على القارئ كنهها، ومن بين دقائق الخطة المتبعة في إعداد هذا المصور الجغرافي التاريخي ونشره أن جعل ثمن النسخة الواحدة منه نحواً من ألف ومائتي ريال سعودي. مما يجع تداوله مقصوراً على المسئولين والأثرياء فلا يصل شيء من ذلك إلى الرأي العام وبهذا القدر نكتفي بخصوص وسائل الإعلام التي يتحكم فيها قادة الفكر الصهيوني وننتقل إلى سلاحهم الثاني وهو التحكم في السيولة الدولية أي التحكم في المال الحاضر، ومن أكثر فروع النشاط التجاري قدرة في هذا المضمار وظيفة التأمين التجاري بأنواعه الكثيرة كالتأمين على الحياة وضد الحوادث، والتأمين الصحي إلى آخر ما هو معروف ويكفي للتدليل على الوزن الكبير لموارد التأمين نقول إن شركة واحدة من شركات التأمين الكبرى تستطيع أن تمد الصناعات ودوائر الأعمال بأقدار من المال الحاضر تزيد في جملتها على ما تطبقه جملة المصارف في البلد المعين الذي تنشط فيه شركة التأمين هذه، وما بنا من حاجة إلى التحديد في مثل هذه الحالة الدقيقة ومن أجل ذلك سنعرض في الفقرات التالية بإيجاز لأهمية الدراسة الرقمية.

الدراسة الرقمية

في متابعة الكلام عن واقع التأمين لا ننسى الهدف الأكبر وهو تبيان حقيقة الحال لكل صورة من صور التأمين لعل في ذلك ما يساعد على القول بالإجازة أو بالمنع وسنضرب بعض الأمثال التي توضح أهمية دراسة الأوزان، أي دراسة الناحية الكمية أو الرقمية فنقول: أولاً من التحليل الذي أجراه روبرت ديجلس وجيروم ميلر في كتابهما عن أصول التأمين وأساليبه العملية يتضح أن صناعة التأمين في الولايات المتحدة تقع في الميادين الآتية بالنسبة المئوية المذكورة قرين كل ميدان.

التأمين على الحياة لصالح الورثة أو لصالح طالب الأمن إذا امتد به الأجل يستغرق من صناعة التأمين 30% والتأمين من أجل الحصول على معاشات ثابتة في السن العالية إلى أن يحل الأجل 20%- والتأمينات الخاصة بموظفي الدولة في الولايات المتحدة 2%- والتأمين ضد الحوادث مضافاً إليه التأمين الصحي 12% وتأمين الأعيان والممتلكات والأموال مضافاً إليه التأمين ضد الأحداث والخسائر الناجمة عن الحريق والغرق والسرقة 36%- وجملة ذلك 100%.

والواقع أن هذا التحليل لا يصل في التفصيل إلى الحد اللازم للدراسة الشاملة وإنما أردنا بذكر هذه الأرقام الإجمالية أن نبين بعض الأوزان ومنها أن البندين الأول والثاني وهما التأمين على الحياة ومن أجل معاشات السن العالية يؤلفان معا (30% + 20% = 50%).

ومعنى ذلك أن نصف صناعة التأمين يتجه إلى الحياة. فلو أن السلطات العامة سارت قدما في دراسة نظم المعاشات وتوفير الأمن للأسرة بعد فقد العائل على نحو ما أوصى به علماء المسلمين في مؤتمراتهم التي عقدت في دورات متتالية من سنة 1380هـ إلى الآن.. نقول لو أن الحكومات في البلاد الإسلامية سارت قدما في هذا الاتجاه الذي بدأته لكان حتما أن تضيق سوق التأمين التجاري في بلاد المسلمين بنسبة النصف وهذا الوزن المهم جدير بالنظر ويشجع على اتخاذ المزيد من الدراسة النظرية والتطبيقية العملية التي تهدف إلى إيجاد مظلة تمتد إلى الجانب الأكبر من المجتمع وفقا لما هو ثابت في السنة الشريفة كما في قوله عليه الصلاة والسلام (من ترك مالاً لورثته ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلى واليه) والضياع بكسر الصاد جمع ضائع مثل الجياع جمع جائع –على ما هو معروف من غير شك- وإنما نذكر كما أوصانا الحق تبارك وتعالى في قوله “وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ” وفي هذا الحديث الذي ذكرناه أكثر من حرف واحد بغير خلاف في المعنى.

ثم نقول ثانياً إن الغرر عنصر يدخل في اعتبار الفقه الإسلامي عند لزوم الاجتهاد بشروطه –ومن ثم كان تحديد القدر المعين من الغرر في كل صورة من صور التأمين أمراً جوهرياً لاستكمال القول في (واقع التأمين)، وعن الغرر وأوزانه نضرب بعض الأمثال:

في السفر بطريق الجو يزدحم العالم المتقدم بوفرة مذهلة. ونجد في الأبهاء والممرات الطويلة في المطارات الدولية، نجد ماكينات ومن حولها تعليمات واضحة إذا اتبعها المسافر فإنه يستطيع في نصف دقيقة أن يؤمن حياته بعشرة آلاف دولار نظير دولار واحد يسقطه في ثقب معد لهذا الغرض فتتحرك الأجهزة الداخلية لهذه الأداة وتوثق التأمين الثابت في مستند يكتب عليه المسافر اسم المستفيد بمبلغ التأمين والعنوان والصفة المميزة لهذا المستفيد ثم تطوي المستند بعد اعتماده أتوماتيكياً ويلقي بالمستند في صندوق البريد المجاور للجهاز الآلي سالف الذكر. وفي زاوية من مستند التأمين أو البوليصة نصح صريح على أن رسم البريد خالص مقدما بمعنى أن كل واحدة من هذه البوالص قد كانت محل اعتماد مصلحة البريد قبل عرضها على طلاب الأمن أو ستكون محل توقيع الرسم عليها بعد إرسالها بمعرفة طالب الأمن.

والخلاصة أن عملية تأمين الحياة في الرحلة المعينة بمبلغ عشرة آلاف دولار تتكلف دولار واحداً ولا تقف في سبيلها عقبة واحدة. فرسم البريد خالص والوثيقة مهيأة للطي والتصميغ وصندوق البريد مجاور وما على المسافر إلا أن يتخذ ما تقدم بيانه من إجراءات يسيرة وأكثر من كل ما تقدم تنتشر الفتيات بائعات الأمن في الأبهاء وبجوار مكاتب حجز المقاعد على الطائرات وتعرض الخدمة ذاتها بأسرع مما تؤديه الأجهزة التلقائية (الأوتوماتيكية) لأن هذه الأجهزة تستلزم بعض المراجعة لنصوص التعليمات المعلقة عليها، ومن ثم تستلزم الفهم والتصرف وفقاً لما هو مفروض على المسافر أن يفعله وهنا تكون خدمة الفتيات ذات أهمية خاصة. ثم يتجه المسافر إلى الطائرة ويصل إلى نهاية الرحلة ويفقد الدولار ولا يستحق المستفيد شيئاً من العشرة آلاف المؤمن بها على حياة المسافر، فكم يبلغ القدر هنا؟ هل يقدر الضرر بالدولار الواحد الذي دفعه المسافر نظير الأمن في رحلة واحدة أم يقدر الضرر بالملايين التي تجمعها شركات التأمين بمثل هذه الأساليب البارعة والمستندة إلى دراسات رياضية عالية الكفاءة.

وغني عن البيان أن المسافر يستطيع أن يضاعف مبلغ التأمين ضعفين أو عشرة أضعاف نظير مضاعفة الرسم الذي يدفعه في ثقب الأداة التلقائية أو في يد الفتاة بائعة الأمن.

ونقول ثالثاً عن التأمين الصحي ما يلي:

في بعض البلاد المتقدمة ولنضرب مثلاً بالولايات المتحدة تمارس شركات متخصصة وظيفة التأمين الصحي ويتراوح الرسم المقرر على الأسرة الواحدة بين 75 دولارا، 150 دولارا في العام الواحد. حسبما تكون عليه حالة الأسرة من حيث أنها تتألف من فرد واحد أو من زوجين وأطفال. ويبلغ عدد الأسرة في الدولة المذكورة نحواً من 70 مليون أسرة وجملة المبالغ التي تحصل عليها شركات التأمين الصحي نظير خدمتها هذه تصل إلى ما يقرب من ستمائة مليون دولار في الشهر الواحد. وللانتفاع بالتأمين شروط وأوضاع معلومة ويدخل عليها التعديل من وقت لآخر. ومن ذلك مثلاً أن علاج الأسنان بجملته وتفصيلاته مستبعد تماماً بمعنى أنه خارج عن التعاقد، وأثمان النظارات الطبية. ومن الجراحات ما تتحمل شركات التأمين تكلفته كلها أو بعضها ومن الدواء مثل ذلك. وينقضي العام وتشعر الأسرة بأنها قد لقيت من الخدمة الطبية ما يعوضها عما دفعت، رغم كل القيود التي أشرنا إلى بعضها –بل قد ينقضي العام والأسرة بمنجاة عن المرض والحاجة إلى قضاء أيام في المستشفيات. ومع ذلك تجد الأسرة بأنها لقيت من الاطمئنان ما يعادل الرسم الذي دفعته. وتدور عجلة الزمان والحال على ما تقدم بيانه. وبقياس رسم التأمين إلى دخل الأسرة في العام الواحد بالولايات المتحدة نجد أن الضرر الذي ينطوي عليه العقد من وجهة نظر المقتنع بالتأمين هو ضرر بسيط. وبخاصة أن الكثيرين ينتفعون فعلاً بالخدمات الطبية والفروق بين التكلفة الفعلية وبين الرسم هي فروق يسيرة بالزيادة أو بالنقص ولكن إذا نظرنا إلى حصيلة الرسوم التي تجمعها شركات التأمين الصحي وهي تبلغ نحوا من سبعة آلاف مليون دولار في العام الواحد. والفائض منها شيء كثير، فهل يقاس الضرر عند المؤمن أم عند المؤمن له؟

وهكذا… يتضح أن الدراسة الرقمية والإحصائية تزيد الواقع وضوحا وتحديدا. ولعلنا أطلنا كثيرا، ولكننا نريد أن ننفي مزاعم المروجين للتأمين التجاري. إذ قالوا: إنه كفاح العقول الجبارة المستنيرة في مواجهة قوى الحظ الغشوم الذي قد يصيب زيدا ويخطئ عمروا “ونقول هذا دعاية. أما الحق. فهو أن التأمين التجاري قمار قال بذلك: لورد مانسفيلد وقال به أيضا شارح القانون الإنجليزي للتجارة” ستيفن Steven “وشارح آخر اسمه” سلوتر Slater وقال به كذلك قاموس أوكسفورد. ولقد سبق أن أشرنا إشارة عابرة للمراجع الأجنبية في صفحة 16 من المذكرة الأولى المقدمة في (جماد أول 1394هـ)، ولكن أهمية الموضوع تقتضي أن نعود للمراجع ذاتها فنأخذ عنها بعض الفقرات. ومن ذلك.

يقول سلوتر (Slater) في كتابه عن قانون التجارة بإنجلترا ما يلي في صفحة 280 من طبعة سنة 1961م، “التأمين هو شراء الأمن” أما النص الإنجليزي فنورده أيضاً دفعاً لكل شبهة تصرف في الترجمة. قال “سلوتر”: (Insurance The Purchase of Security).

وقد أورد شارح القانون الإنجليزي للتجارة “جوردون بوري” الأستاذ بجامعة برمنجهام بانجلترا هذا النص في الطبعة الرابعة عشرة من شرح ستيفن. وقد جئنا بالبيانات الكاملة عن هذا المرجع في آخر الصفحة رقم 18 من مذكرتنا الأولى، وجدير بالذكر هنا أن هذه الآراء ثبت عليها الشراح الإنجليز فيما بين سنة 1920م وسنة 1965م- ولمزيد من البيان يمكن الرجوع إلى موضوع التأمين في الطبعة المذكورة (الرابعة عشرة) من صفحة 319 إلى صفحة 367.

إذن: شراح القانون الإنجليزي للتجارة، ومعاجم اللغة الإنجليزية بدورها. ثابتة على القول بأن التأمين بيع وشراء، ورهان وقمار. فكيف جاز لشراح القانون العربي أن يختلفوا… والآية الكريمة عندهم برهان ونور وهدى، إذ ضرب الله لنا مثلاً بالموقف الذي كاد فيه سيدنا يوسف أن يظلم. فقال تعالى: “وشهد شاهد من أهلها”.. لقد نشأ التأمين التجاري في مقهى “لويدز” ومن المعقول أن نستمع لآراء الإنجليز (قبل غيرهم) في أمر ابتدعوه، أما أن ندافع عنه نحن المسلمين بحجة عموم البلوى على حين أن المسئولين عن مولده يتهمونه فهذا ما لا نجد له سنداً من منطق البحث العلمي.

صور خاصة

في التأمين صور مستحدثة تستحق الوقوف عندها لدراسة الحاجة إليها وما تنطوي عليه من جهالة وغرر. وما تؤديه. مع ذلك من خدمة في النشاط الاقتصادي يصعب معها إسقاطها من الحساب. ومن ذلك مثلاً “التحويط”.

ويتلخص في أن التاجر أو الصانع يحرص على تأمين ربحه المشروع من عمله الذي لا غبار عليه، فيلجأ إلى العقود الآجلة. وكذلك الحال بالنسبة للمقاول.

ومن الصور الخاصة ما استجد من أسماء ومسميات تدور كلها حول تخفيف الآثار التي تقع على الفرد حال حياته أو تقع على أسرته من بعده. ولئن كانت هذه الصور تحمل أسماء خاصة بها. إلا أن طبيعتها من طبيعة “التأمين” نريد بذلك التأمينات الاجتماعية، والضمان الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي، والتأمين الهندسي… إلى آخر ما ينحته خبراء الصياغة من مفردات ومن عبارات. كما أن إعادة التأمين امتداد للوظيفة الأصلية وهي بيع الأمن وتوزيع المخاطر لقاء الثمن الذي يقال له “رسم التأمين” وكذلك نظام المعاشات.

والخلاصة:

أولاً: إن الخوف والقلق والارتياب، حالات خالط النفس البشرية، ومن حق كل فرد أن يسعى إلى إزالة أسباب هذه الحالات وعليه أن يتحرى الوسائل المشروعة للوقاية من آثار الأخطار.

ثانياً: الحوادث التي تصيب الأنفس والأموال تواكب الحياة البشرية من أول العهد بها وليس فيها جديد. فلا الموت ولا الغرق ولا الحريق ظاهرات مستحدثة. بل هي من سنن الكون. ولذلك لا يجوز القول بأن التأمين قد جاء لمواجهة الجديد من أحداث الزمان، ومن ثم يبدأ البحث على أسس من الإيمان بأن الشريعة قد وسعت هذا كله.. وإنما بأساليبها النقية العادلة.

ثالثاً: الأمن مطلب فطري، وتوفيره يدخل في نطاق الوظائف العامة التي تتولاها الدولة بأجهزتها، ومن الحالات ما يمكن للأفراد أن يواجهوه بالتكافل فيما بينهم تحت إشراف ولي الأمر، وفي نطاق الشريعة.

رابعاً: التأمين التجاري استغلال واسترباح، وهو بشهادة من ابتدعوه مناف للأخلاق ويتشابه والقمار.. ومن ثم كان انتشاره وبالاً على اقتصاد العالم. ويتعين العمل على الخلاص منه تدريجياً بتنفيذه ما تقدم من إشارة في البند السابق.

خامساً: يمكن تعميم الحكم في خصوص الربح من التأمين، فيقال مثلاً بأن عملاً كهذا لا يستقيم مع السلوك الراشد المنصف.. وفيما عدا هذا التعميم نرى أن يكون لكل صورة من صور التأمين المعاصر حكم خاص بها يصدر عن الجهات المأذونة الإفتاء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر