أبحاث

الجماعة الوطنية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية

العدد 151

(1)

موضوع المقاصد هو موضوع المصالح الكلية المطلوب تحقيقها أو مراعاتها، والمقصد هنا كما هو معروف هو ما شُرِع الحكم التشريعي لأجله وهو ما يتغياه الشارع من غايات، وعلم المقاصد كما يظهر هو الوقوف على المعاني والحكم الملحوظة من الشارع في التشريعات بعامة، كلها أو الغالب منها.

وتدرك المقاصد كما هو معروف، إما بتصريح من الشارع في نص من النصوص، أو بإدراك العلة لحكم من الأحكام المعنية، كما تدرك باستخلاص الحكم من التشريعات وصولاً إلى المعاني العامة لها، والغالب هو التوسل إلى درك المقاصد من خلال منهج الاستقراء، والاستقراء منهج علمي يبلغ من الدقة والإحكام أنه هو وسيلة البشر والعلماء منهم لإدراك قوانين الطبيعة في الفيزياء والكيمياء ونحوهما، وهو يتعلق بتتبع الجزئيات والفروع في الظواهر لإدراك أمر كلي يصدق على جميع الكليات أو أغلبها.

وثمة فارق يبدو بين العلل والمقاصد في التعامل مع الأحكام التشريعية، وهو فارق يتعين مراعاته، لأن العلة في اصطلاح أهل الفقه وأصوله هي الأمر الظاهر المنضبط الذي يدور معه الحكم وجودًا وعدمًا، ولذلك وبموجب ظهورها وانضباطها تفيد تعدية الحكم في الحالة المنصوص عليها إلى غيرها مما لم يرد نص بشأنها، وذلك إن توافرت العلة في هذه الحالة الأخيرة، بينما المقاصد تدرك من الحِكَم والغايات والمصالح الكلية مما لا يبلغ مبلغ العلل في درجة الظهور والانضباط، لأنها تفيد نظرًا شموليًا للنصوص، ونحن نهتدي بقاعدة أن العام ظني الدلالة في عمومه والخاص قطعي الدلالة في خصوصه، ومن ثم فإن عمومية المقاصد تجعلها من المرجحات عند الاختلاف بين ما يحتمل النص من الآراء المتعددة، وهي من المرشدات في تبين مدى الملاءمة في درك النوازل لإنـزال الحكم المنصوص عليه في كل حالة بعينها.

والمقاصد تربط بين الأحكام الشرعية وبين الأهداف الاجتماعية في تنـزيل الأحكام على الواقعات المعاصرة، ومن هنا نلحظ أن المقاصد مثلاً، فيما يتعلق بنظم الحكم، تشكل الآصرة التي تصل علم السياسة بهذه الأحكام، وهي فيما يتعلق بنظم الإدارة تشكل الآصرة التي تصل بين الأحكام التشريعية وبين علوم الإدارة، وفيما يتصل بأحكام المعاملات بين البشر فإن المقاصد تشكل الآصرة لها مع علوم الأخلاق والمجتمع.

وكل ذلك يجري في إطار الترجيحات بين الآراء والمعاني التي تحتملها نصوص التشريع وتفيد التنوع في استخلاص الدلالات من الأحكام، كما أنه يجري أيضًا في إطار إدراك الوصف الشرعي للنوازل التي يراد أو ينظر في إيقاع حكم التشريع عليها، كما أن المقاصد تجد مجالها الفسيح في مجال السياسات الشرعية، حيث لا جزم بأمر من الشارع ولا نهي، فتقرر السياسات من ولي الأمر بما يصلح شأن الناس، وكذلك في مجال تقييد المباحات حثًا عليها أو تكبيلاً، مراعاة للصوالح والغايات المستحدثة.

وإن للمقاصد دور بديع في وصل الأحكام الشرعية بعضها ببعض، وإخراج كل حكم منها من ضيق النظر المحدود والصالح الذاتي والتناثر الجزئي، إخراجه من ذلك الحيز المحدود إلى فسيح النظر العام للقيم والمبادئ والأصول التي تعطي المعاني السامية لسائر الأنشطة الجزئية والتفصيلية، وتضفي على هذه الأنشطة من معنى الرسالية السامية، وتنقلها من جفاف التصرفات الصماء إلى رغد النظر الإيماني، بالحق والعدل والصالح العام.

ثمة العديد من النقاط التي يتعين الإشارة إليها، من جوانب البحث المتعددة فيما تجب الإشارة إليه، وعندما يكون موضوع الحديث هو المقاصد ويتعلق بالجماعة الوطنية، فإن ذلك يقترب بالأمر كله من علوم السياسة والمجتمع، مما يتوجب معه إيضاح هذا المجال وبيان ماهية الجماعة الوطنية المقصودة بالنظر. كما أن النظر في المقاصد بشأنها يستدعي النظر فيما تبني عليه المقاصد من أفكار تمليها النصوص. وبحسبان أن “الجماعة الوطنية” مفهوم سياسي، فالأمر يستدعي بحث الممارسات التاريخية التي تتعلق بهذا الجانب من حيث الدلالة الفكرية، وكذلك مكونات الجماعة الوطنية في صورتها المعاصرة وموقف الأحكام التشريعية منها.

(2)

الجماعة الوطنية هي: الجماعة السياسية، وأقصد بها هذه المجموعة من البشر التي تتحدد وفقًا لتصنيف معين يقوم على وصف فعّال يصدق عليهم ويميزهم عن غيرهم من المجموعات البشرية، وذلك متى كانت الأوضاع التاريخية قد رشحت الجماعة المصنفة بهذا الوصف بأن تقوم بوظيفة محددة لحماية صالحها المشترك بعيد المدى.

فثمة وصف يلحق بالجماعة ويميزها عن غيرها، وثمة وظيفة تؤديها الجماعة المتميزة بهذا الوصف، وإن البشر يجمع بينهم العديد من الأوصاف تمتاز بها جماعاتهم، وهي أوصاف تشكل معايير للتصنيف، بعضها يكون عامًا وبعضها خاص، وبعضها يكون حيويًا لوجود الجماعة وبعضها أقل حيوية، وبعضها أدوم في استمراره الزماني وبعضها أوقت نسبيًا.

والجماعة تشكُّل تاريخي تنشأ وتقوم عبر مراحل تاريخية متميزة، وهي باعتبارها تشكّل تاريخي تقوم بالأوصاف التي تتميز بدرجة عالية من العموم والدوام، فتشمل في عمومها مجموعات واسعة من البشر، وتمتد في دوامها إلى ما يجاوز حياة الجيل الواحد والأجيال المعدودة، وتحسب آثارها لا بالآحاد المعدودة من الأفراد ولا بما تحيط به أعمار الرجال.

ولم تتفتق التجارب التاريخية للبشر في هذا الشأن، إلا على أوصاف معدودة تولِّد هذه الدرجات العالية من العموم والدوام، وهي علاقات النسب أولاً التي تشكلت بها القبائل، ثم ما جاوز ذلك من عامل اللغة والدين، وكل ذلك في إطار من التجاوز الجغرافي الذي يمكن من التعامل المستمر، وفي إطار من الامتداد التاريخي الذي تنشأ به الأنا المشتركة.

تتجمع هذه الأوصاف في الأفراد، وتتداخل دوائر الانتماء إليها بين الجماعات، ثم يكون على أحداث التاريخ ما يرجح وصفًا على وصف في تشكل الجماعة، فيصير هو الوصف الحاكم لغيره الذي تتكون به الجماعة السياسية.

أن المجتمع، أي مجتمع، يتكون من وحدات انتماء أو دوائر انتماء لا حصر لها، وهي تتنوع من حيث معيار التصنيف الذي جمع الأفراد في كل منها، فيكون أساسها الدين أو المذهب أو الطريقة الصوفية أو الملة أو المشرب الثقافي أو الطائفة، أو يكون أساسها اللغة أو اللهجة أو نوع التعليم أو المهنة أو الحرفة، أو يكون أساسها معيار العمل الوظيفي لجيش أو لجامعة أو غيرهما، أو يكون أساسها الإقليم أو الحي أو القرية أو الجهة، أو يكون أساسها النسب لقبيلة أو عشيرة أو أسرة.

وبسبب تنوع معيار التصنيف فهي تعتبر وحدات انتماء جامعة، ولكنها ليست بالضرورة وحدات مانعة، بمعنى أن المندرج في إحداها لا يندرج طبعًا في غيرها من جنسها، ولكنه يندرج في غيرها من غير جنسها لاختلاف معيار التصنيف الذي ميز كلاً منها عن الأخريات، ومن ثم فهي وحدات أو دوائر متداخلة ومتشابكة، وتشكل ملفات غير منفصلة.

وهذه الوحدات أو الدوائر ليست متداخلة فقط، ولكنها متغيرة ومتحركة بين بعضها البعض، كشأن كل الظواهر الاجتماعية، فهي ليست ثابتة الحدود على الدوام، وإن منها ما يضمر أو يضيق، ومنها ما ينمو أو يتسع، ومنها ما تضعف قوته الجاذبة. كما تختلف وتتنوع العلاقات بين بعضها البعض، بما تزكيه أوضاع المجتمع وظروف التاريخ وما يطرأ من أحداث. ولكن يبقى من كل هذه معايير التصنيف الذي تقوم به الجماعات السياسية – حسبما تكشف الخبرة التاريخية – يبقى عامل الدين والمعتقد الذي قامت جماعات سياسية دينية من المسيحية والإسلام إلى الماركسية، ويبقى عامل اللغة الذي قامت به جماعات سياسية قومية، وكذلك عامل النسب الذي قامت به قديمًا المجتمعات القبلية.

هذا عن الجماعة السياسية، والأصل تاريخيًا أن تقوم الدولة على أساس جماعة سياسية متبلورة ومحددة، وذلك لأن الدول هي التكوين المؤسسي الوظيفي الذي يدير شئون الجماعة، فيكون حارسًا لأمنها في مواجهة مخاطر الخارج عليها، ويكون حاميًا لعلاقات التوازن بين القوى والجماعات الفرعية التي تشملها الجماعة السياسية، ويكون مشرفًا على أنشطتها الأخرى، ولكن هذا الأصل العام قد نجد الكثير من الأمثلة التاريخية التي تنتقص منه بفعل غوائل الصراعات، اعتداءً واستعمارًا وإخضاعًا.

(3)

المواطنة: في ظني، هي صفة للفرد الذي ينتمي لجماعة سياسية معينة تكون قد قامت على أساسها الدولة، أي هي الصفة التي تتعلق بالفرد بما توافر فيه من وصف سياسي قامت الدولة على أساسه. إن الدولة بموجب حاكميتها للجماعة السياسية وإدارتها لشئونها العامة تكون ذات سطوة عليها، وبهذا الأداء يظهر في المقابل وصف المواطنة، بحسبانه وصفًا سياسيًا يتحدد به الطرف الآخر في العلاقة داخل الجماعة. وفي الفكر السياسي القديم كان الطرف الآخر في العلاقة مع الدولة هم الرعية بحسبان ما يتعلق بواجب الدولة في رعاية شأنهم، ثم تطورت العلاقة النظرية بين الدولة الحاكمة وبين المحكومين إلى ضرورة أن يكون المحكومون مشاركين في الحكم بأسلوب تنظيمي ما، مثل الانتخابات ووجوه الرقابة المتعددة وتداول السلطة، فصار المحكوم الطرف الآخر في العلاقة مع الدولة الحاكمة هو المواطن، وظهر مفهوم المواطنة بحسبانه وصفًا يشير إلى المحكوم المشارك في الحكم ويعتمد أساسًا على كونه أصل الجماعة السياسية، المعرَّفة باسم “الوطن”.

ومن هنا يتعين القول بأن وصف المواطنة، باعتباره وصفًا بالطرف الآخر في العلاقة مع الدولة، هذا الوصف يتعين أن يصدق على كل من تشملهم الدولة بحاكميتها ويخضعون لولايتها. والمعيار هنا لا يتعلق فقط بالوصف الذي قامت به الجماعة السياسية وتميزت عن غيرها، ولكنه يتعلق بالنطاق الذي قامت على أساسه الدول وأخضعته لحكومتها، ذلك لأن صور اشتمال سلطة الدولة على جماعات سياسية تضم أقليات بها، هي صور متحققة في الواقع وتسفر عنها الحقيقة التاريخية في العديد من العلاقات من الحالات الماضية والحاضرة.

ومن ثم يتعين الجزم بأنه حيث تضم الدولة لسلطانها جماعات من البشر لا يتصفون بالوصف الذي اتصفت به الجماعة السياسية الأغلب – حيث تقوم هذه الحالة وهي عديدة- يتعين أن يكون وصف المواطنة صادق التحقق في كل من يضمهم سلطان الدولة، وإن اختلفت أوصافهم السياسية، إن لم يكونوا يتصفون بالوصف السياسي الذي قامت الدولة على أساسه.

الأصل النظري أن تقوم الدولة على أساس جماعة سياسية واحدة، تحددها وتتحدد بها، فتهيمن على من يصدق عليهم وصفها الجامع، وحدهم ودون غيرهم. والدولة في القانون الدولي العام تتضمن شعبًا وإقليمًا وحكومة، وهذه العناصر الثلاثة تضعها الصياغة القانونية على ذات مستوى الأهمية، ولكن هذه الصياغة ليست دقيقة، لأن ثمة عنصر أساسي هو الركن الركين للدولة وهو الشعب، أي الجماعة السياسية، وثمة مجال ضابط لهذا الركن بالنسبة لسيادة الدولة وهيمنتها وهو الإقليم، وثمة نتيجة لذلك وهو الحكومة. وإذا كان مناط الدولة شعبها وجودًا وعدمًا حسب الأصل، فإن هذا الأصل لم يتحقق دائمًا بسبب ما يعرفه تاريخ الشعوب من كر وفر ونصر وهزيمة وقوة وضعف.

ولذلك إذا اشتمل إقليم الدولة على غير واحدة من الجماعات السياسية، أو اشتملت أشطارًا من جماعات سياسية بموجب ما حدث من تقسيمات للحدود السياسية أملتها علاقات القوى بين الدول الأقوى، فإن ذلك يعكس خللاً في موازين العلاقات بين المواطنين داخل الدول المعنية، وهنا يبرز دور “المواطنة” بحسبانه وصفًا حاكمًا للعلاقة بين دولة وشعب، بمعنى لزوم أن يكون هذا الوصف هو مناط إيجاب الواجبات واستحقاق الحقوق، ومناط المشاركة في الشئون العامة.

فإذا كانت الدولة تقوم على جماعة سياسية واحدة، وجب أن تصاغ مؤسساتها من حيث التكوين العضوي لها، ومن حيث الشاغلين لمناصبها الرئيسية وذوي الإرادة والنفوذ فيها والقابضين على مفاتيح حركتها، وجب أن يكونوا ممن يضمهم الوصف الغالب الذي قامت على أساسه الدولة، وألا يقوم مانع من شغل مناصبها ممن لا يتوافر فيهم الوصف العام المذكور، ولا أن يقوم العرف العملي المطبق ولا القانون النافذ من منع ذوي الانتماءات الفرعية من تولي مناصب الدولة وشغلها، ما دامت انتماءاتهم الفرعية مندرجة في شمول الانتماء العام الذي تبلورت به الجماعة السياسية وانبنت به الدولة.

(4)

وفي النظر الإسلامي، سعيًا لتلمس المقاصد في هذا الشأن، فإن من أول ما نتلقاه من أصول الإسلام في هذه المسألة بطريق مباشر، هو “الصحيفة”، أوردها ابن هشام عن ابن إسحاق في السيرة النبوية، وهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول عهده بالمدينة، وهي ذات دلالات سياسية وفكرية ترشدنا إلى الطريق الصواب في التعامل مع الجماعات البشرية، وفي تحول دوائر الانتماء من دائرة سابقة حاكمة لغيرها إلى دائرة لاحقة محكومة بغيرها، وتوضح ما نسميه الآن الجماعة السياسية على أول عهد الإسلام بالمدينة ونشوء دولة المسلمين فيها.

ونحن نتعامل مع نص الصحيفة هنا، لا بوصفه مجرد حدث تاريخي  تُستدعى منه خبرة الأحداث والتصرفات، ولكن يجري التعامل معه بحسبانه ذا دلالة نصية عابرة للأزمان، تُستدعى عبر الزمن على النوازل المتشابهة، وهذا مما يسعه مفهوم المقاصد فيما نتصور، ويكون ذلك لا بطريق إنـزال حكم النص مباشرة، ولا بطريق القياس لحكم غير منصوص على حكم منصوص، ولكن يطريق استخلاص المقاصد، لأن المقاصد إنما يمكن الوصول إليها لا من النصوص وعللها وحكمها فقط، بل يمكن ذلك عبر أحداث تاريخ الرسالة المحمدية في عهد الرسول عليه السلام، ونحن هنا لسنا أمام مجرد تاريخ من التاريخ، ولكننا أمام حدث ذي أهمية بالغة، لأنه من أوائل ما تشكلت به الجماعة الإسلامية في صورتها السياسية عقب الهجرة.

ورد بالصحيفة أنها كتاب من الرسول صلى الله عليه وسلم “بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم”، فهو كتاب بين جماعات ممن ذكر يجمعهم الإيمان والإسلام، وذكرت الصحيفة “أنهم أمة واحدة من دون الناس”، فهم بأقوامهم وجماعاتهم المتعددة صاروا أمة أي جماعة، وهم مع تعدد انتماءاتهم الجماعية صاروا جماعة ذوي انتماء واحد، ثم بينت الصحيفة أن المهاجرين من قريش “على ربعتهم يتعاقلون بينهم” أي أنهم على حالهم وعلى تضامنهم، ومن ثم فإن الانتماء الشامل للإيمان والإسلام يقر بقاء الانتماءات السابقة بوصفها انتماءات فرعية.

ثم عددت الصحيفة الأقوام، قومًا قومًا “وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين”، فلكل من الطوائف المعينة بذاتها هذا التكافل، ثم يرد بعد ذلك الانتماء الأعلى “ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين…” ثم ذكرت “وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس” تأكيدًا على الانتماء الأشمل برابطة الإيمان والإسلام، بحسبانها تؤسس لما نسميه اليوم الجماعة السياسية والمواطنة.

وإذا كانت الجماعة السياسية قد قامت على أساس الدين الإسلامي، فهي وقتها جمعت من غير المسلمين من أهل يثرب، فذكرت الصحيفة “وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم…”، ثم ورد بالصحيفة “أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم…”، وكذلك ليهود بني النجار وغيرهم ممن عددتهم الصحيفة بأسمائهم، بحسبان كل منهم مثل يهود بني عوف، وذكرت أن بينهم وبين المسلمين “النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والبر دون الإثم.. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة…”.

من هذا نلحظ ما يلي:

– إن ثمة جماعة سياسية نشأت بجامع الإيمان والإسلام كما عبرت الصحيفة، وهي نشأت من العديد من الجماعات التي كانت قد قامت على الجامع القبلي، وإنها نشأت لا بين المسلمين من هذه القبائل فقط، ولكنها ضمت أيضًا مهاجري مكة وأهل يثرب.

– أن هذه الجماعة السياسية الناشئة، لم تلغ الجماعات السابقة التي كانت قد قامت على الانتماء القبلي، ولكنها ضمتها إليها وألحقتها بها، فصارت القبيلة انتماءً فرعيًا داخل الجماعة الدينية السياسية.

– إن الجماعة السياسية التي قامت على أساس ديني اعتقادي، ضمت داخلها من لا يتبعون هذا الدين من اليهود أقوامًا وأقوامًا، وذلك على سبيل المساواة في الحقوق والواجبات.

– إن أساس قيام هذه الجماعة السياسية الجديدة، هو الحماية من المخاطر الخارجية عليهم مع تحقيق التساوي والتكافل بين بعضهم البعض جماعات وأفرادًا.

– أن هذه الجماعة الناشئة بما تضم من جماعات فرعية قامت على أساسها الدولة. وهي أول دولة عرفها الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(5)

بالنسبة للجماعة السياسية، فعادة ما ينظر فقهاء المسلمين القدامى – مثل الماوردي- إلى المسلمين بحسبانهم جماعة سياسية واحدة، الأصل أن يحكمها إمام واحد، وهم يستندون في ذلك إلى حال المسلمين في صدر الإسلام، ورفضهم منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون للأمة أكثر من إمام واحد. لذلك كانت النظم الغالبة عليهم عند النظر في تعدد الأئمة أنه فتنة، لأنه لا يقوم نظر سليم يعتمد على أن يكون للأمة أكثر من حاكم واحد، وغالب ما ورد في أحاديثهم عن تعدد الجماعات الإسلامية، إنما ورد بمناسبة الحديث عن تعدد الخلافة، وهو أمر غير جائز، لأنه يعني القول بإمكان قبول حاكمين لدولة واحدة، وهو تصور يستحيل على الفقه القانوني قبوله، شرعيًا كان هذا الفقه أو وضعيًا.

لذلك نجد الماوردي في “الأحكام السلطانية والولايات الدينية” يقول: “وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم فجوزوه”. (الماوردي، أبو الحسن علي بن عمر ابن حسن البصري، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، القاهرة، 1978، ص9).

ثم تكلم بعد ذلك عمن يكون الإمام منهما إن حدث هذا التعدد، فهو لم يتصور إمكان قيام وضع “شرعي” تتعدد فيه الجماعات الإسلامية السياسية، ولا إمكان أن تنشأ الدولة غير مطابقة للجماعة السياسية الواحدة، على ما نرى ذلك في العصر الحديث، وبخاصة منذ انتهاء الخلافة بين سنتي 1922 – 1924.

وبعد انتهاء الخلافة، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تعرض لهذا الأمر السيد محمد رشيد رضا في كتابه “الخلافة أو الإمامة العظمى” (سنة 1922)، فتكلم أولاً بطريقة السلف في الخلافة وشرائط توليها ونصب الخليفة وغير ذلك، ثم تكلم عن “وحدة الخليفة وتعدده”، فهو لم يبدأ بالحديث عن الجماعة السياسية إنما بدأ بالحديث عن الحكومة، ثم عرض لوحدة الحكومة أو تعددها. وإن رسم السياق على هذا النحو ينتهي بالناظر إليه إلى أن في التعدد فتنة ونـزاعًا على السلطة بين أكثر من شخص أو أكثر من قوة في بلد واحد، وهو نـزاع إن جرى لابد أن ينتهي إلى الواحدية، ولكن السيد رشيد رضا أعقب ذلك بذكر آراء في الفقه الإسلامي الحديث تجيز عقد الخلافة لإمامين، من ذلك قول القائل: “لا يجوز العقد لإمامين في صقع متضايق الأقطار، أما في متسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد”. وقول القائل: “التعدد للضرورة أقوى من قول الجمهور بإمامة المتطلب للضرورة”، ثم نقل عن السيد صديق حسن خان: “إن كانت واحدية الإمامة الإسلامية قائمة على اختصاصها بإمام واحد”، وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه…”، ثم ذكر أن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب، وكذلك أهل ما وراء النهر بالنسبة لليمن… وهكذا، وقد أسمى رشيد رضا هذا القول “هو اجتهاد وجيه”، ولكنه انتهى إلى أن جمهور المسلمين على أن تعدد الإمامة غير جائز، وإن التعدد يكون للضرورة بشرط ثبوتها، ثم حث المسلمين على تحرير بلادهم من سيطرة الأجانب لاستعادة الوحدة بينهم (رضا، السيد محمد رشيد، الخلافة أو الإمامة العظمى، القاهرة، 1922).

وقد أشار شيخ الإسلام الأخير بالدولة العثمانية، الشيخ مصطفى صبري، الذي نـزح من تركيا الكمالية بعد انتهاء الخلافة، أشار في كتابه “النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة” إلى موضوع  تعدد الحكومات الإسلامية: “قلنا عدم جواز التعدد إنما هو من جهة مزاحمة كل من الحكومات الإسلامية بالأخرى فتنتقص قوة الكل أو لا يتكون شيء منها رأسًا… فإذا جاز تعدد الحكومات الإسلامية، بأن كان ذلك ضرورة ببعد الشقة ولم يمنع التعدد تكون كل منها برأسها فلا مانع إذًا من تعدد الخلافة والخلفاء، نعم إن الأصوب والأنفع اتخاذ واحد منهم خليفة أعظم يعم نفوذه على الجميع…”. (حلمي، د. مصطفى حلمي، الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية، وبه نص كتاب الشيخ مصطفى صبري، القاهرة، 1985، ص146).

وأشار إلى أن هذا الأخير هو ما تمناه السيد محمد رشيد رضا، وأن مراجعة آراء الشيخ مصطفى صبري تظهر أن معنى الخلافة عنده هو الاحتكام إلى الشرع الإسلامي.

وفي الدراسة التي كان أعدها الدكتور عبد الرزاق السنهوري عن “الخلافة وتطورها لتصير عصبة أمم شرقية” (السنهوري، عبد الرزاق، le califat, sonevolution, versune société des nations orientales. A. Sanhoury, paris, 1926، انظر أيضًا: “فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية” للدكتور السنهوري ود.توفيق الشاوي، القاهرة، 1977)، في سنة 1926، أشار إلى مبدأ وحدة الخلافة وحالات الانفصال عنها، وأسمى الخلافة الواحدة خلافة صحيحة وغيرها خلافة ناقصة، وذكر أن الخلافة الصحيحة هي الخلافة الواحدة، وهي حسب الأصل لا تقبل تفردًا في الدول ولا الخلفاء، واستند في ذلك إلى عبارة الماوردي سابقة الذكر مشيرًا إلى أن هناك من شذ فأجاز التعدد أو ذكر أن ثمة رأي لفقهاء جدد يتكلم عن إمكانية تعدد دول الخلافة وحكوماتها في ظروف معينة، وأن أساس هذا الرأي الجديد هو فكرة الضرورة، بحسبان الاعتبارات الواقعية قد تغلبت.

لا يتسع المجال للاستطراد في هذه المسألة، إنما قصدت أن أشير إلى عدد من الأمور إشارة موجزة، وهي أن الفقه الإسلامي التقليدي في عمومه لم يركز على مسألة الجماعة السياسية، إنما كان تركيزه الرئيسي على الخلافة، وإنه في صدد التعرض لوحدة الحكومة أو تعددها نظر إلى الأمر فأنكر ما يفضي إلى النـزاع، وإلى صراع الشرعيات إذا تعدد المتولون للحكم، وإن من أجاز التعدد شَرَطه ببعد المسافات وربطه بالإمكانية الواقعية.

وقد أشرت في ذلك إلى ثلاثة أعمال، جمعها ثلاثتها أنها كتبت ونشرت في النصف الأول تقريبًا من عشرينات القرن العشرين، عندما ألغيت الخلافة الإسلامية بزوال الدولة العثمانية منذ 1922-1924، وإعلان الجمهورية التركية، وأن كلاً من الكُتَّاب الثلاثة كان يميل إلى النظر التقليدي بالنسبة لوحدة الخلافة ووحدة الجماعة الإسلامية، ولكن ثلاثتهم – مع هذا الميل- كشف عن وجود رأي آخر يقر بالتعدد ولم يعتبره خارج محيط الأصول الفقهية الإسلامية، وإنما نظر إليه في ضوء حالات الضرورة التي يتعين أن تقدر بقدرها أو في ضوء ما يفرضه الظرف الواقعي من أحكام أو في ضوء ما تقصر دون تحققه الإمكانات.

والحال أن الوحدة المبتغاة أو المستهدفة، إن كانت تحققت في صدر الإسلام، وإن كانت تصلح هدفًا تتغياه أمة المسلمين في كل حين، وتستهدفه مستقبلاً بأسلوب أو آخر من أساليب التنظيم الدولي والتحالف، فإن الواقع التاريخي من قبل إلغاء الخلافة في عشرينات القرن العشرين، قد عرف تعددًا متتابعًا، عرف تعاصرًا بين الحكم العباسي في بغداد والحكم الأموي في الأندلس، وعرف تعاصرًا بين حكم العباسيين أيضًا وحكم الفاطميين في مصر والمغرب، وعرف تعاصرًا متعددًا بين الصفويين والعثمانيين، ودول المماليك وهكذا. فلم يكن التنائي الجغرافي فقط هو سبب التعدد، إنما كان يستند أيضًا إلى أسباب تاريخية أو إقليمية أو مذهبية، كل ذلك يدخل في إطار ما رآه الفكر التقليدي من أوضاع الضرورة، وهو ما ينبغي النظر إليه اليوم في ضوء أوضاع الواقع ومعالجاته، فننظر في الجماعة السياسية وما تجتمع من الأسباب التاريخية لصياغتها على نحو أو آخر في تشكل الجماعات السياسية.

(6)

ونحن إذا راجعنا مفهوم الجماعة السياسية لدى بعض من كبار مفكري الإسلام السياسيين المعترف بريادتهم في القرن العشرين، نلحظ مثلاً أن أبا الأعلى المودودي ينظر إلى القومية بحسبانها مرادفة للتعصب العرقي، وأنها الأساس الذي تقوم عليه روح المحاربة بين الأمم (المودودي، أبو الأعلى، بين الدعوة القومية والرابطة الإسلامية، القاهرة، ص1-16). ولكن كتابات المفكرين المصريين ذوي الاعتبار والذيوع لا تنظر إلى القومية بهذا الغلو، والدكتور يوسف القرضاوي يرفض في القومية ما يراه من أثر الفكر العلماني فيها وأنها تقدم رابطة الأرض على رابطة الدين، ولكن من جهة أخرى يرى أن ما تنادي به من تجمع للشعوب العربية هو نواة طيبة للاقتراب الإسلامي الأعم، ويستند في ذلك إلى أقوال للأستاذ حسن البنا، ويرى ارتباط الشخصية العربية بالإسلام ارتباطًا عضويًا. (القرضاوي، يوسف، حتمية الحل الإسلامي، الجزء الأول، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، الجزء الثاني، الحل الإسلامي فريضة وضرورة…). وكذلك نلحظ في كتابات الشيخ محمد الغزالي، أنه ينتقد في القومية كونها مفهومًا وجامعًا وَفَد من الغرب ليحل محل العقيدة لتفكيك وحدة المسلمين، ولكنه يقول: إنه إن عاش الإسلام في كنف الحكم القومي فلا بأس به، والمسألة لديه هي مدى اقتران الإسلام بالعروبة في بلادنا. (الغزالي، محمد: من هنا نعلم، القاهرة، 1970، حقيقة القومية العربية، القاهرة، 1937).

ويبدو من هذه الإشارة السريعة أنه إن كان ثمة ما تلتقي فيه نظرة الغزالي والقرضاوي مع المودودي في تركيبة الجماعة السياسية الدينية، فإن ثمة بونًا واضحًا يفصل بين النظرتين من حيث المورد التاريخي السياسي ومن حيث المآل التطبيقي، وأبو الأعلى يرى في الجامع القومي صنوًا للبلاء، لأنه كان صاحب دعوة انسلاخية يزكي بها انسلاخ مسلمي الهند من هنديتهم، فكان تحقيق الانتماء الإسلامي لديه لا يتم إلا بنفي الهندية، وألجأه ذلك إلى أن يحيل الجامع القومي إلى محض كونه جامعًا لسلالات عرقية، رغم عدم صحة هذا الزعم على إطلاقه بطبيعة الحال، ورغم أن مفكرًا إسلاميًا ذا شأن كبير، هو مالك بن نبي، يرى أن انسلاخ مسلمي الهند عن الهند قد أضر بالمسلمين وبالهند أيضًا، على أن المتصور الآن مما ذكر هو أن فكر المودودي بشأن الجماعة السياسية لا يصح فصله عن رؤيته لظرفه التاريخي، ولا عما أراد أن يوظف فيه هذا الفكر في ظرفه التاريخي.

وعلى خلاف نظرة المودودي نلحظ أن الجانب العربي صدر في نظره إلى القومية عما عايش من واقع تاريخي، فهو يرفض كلا الجامعتين الطورانية والعربية عندما نمتا تفكيكًا وتفتيتًا للجماعة الإسلامية في القرن التاسع عشر، ثم يقبلهما متحفظًا عليهما لما يمكن أن تفضي إليه مستقبلاً من تجميع لوحدات إقليمية مبعثرة، ومن ثم تكون العبرة في النظر المتعلق بالجامعة السياسية هو ما تفضي إليه من تجزئة وتفكيك أو من توحيد وتجميع.

ونحن نلحظ في هذا الجانب، أن جوهر ما هو مطلوب مما لا يمكن التغاضي عنه هو أن يكون الحكم إسلاميًا، وأنه حسبما يذكر الشيخ الغزالي “لا جناح على الحكم القومي إن مكن للنظام الإسلامي أن يعيش في ظلاله”. وهذا الاقتراب عينه هو ما نلحظه في كتابات شيخ الإسلام التركي مصطفى صبري، الذي رفض حكم مصطفى كمال أتاتورك وعاش بمصر بعدها، فهو يذكر عن الخلافة أنها حكومة مقيدة بأحكام الإسلام وأن “صفة الخلافة موجودة في جميع الحكومات الإسلامية المستجمعة بشرائطها على قدر الإمكان، وإن كان العرف العام على امتياز واحدة معينة من تلك الحكومات بها…”، “فاللازم في تحقيق الخلافة رعاية الحكومة لشرائطها الإسلامية، فيكون اتصاف الحكومات الإسلامية بالخلافة على قدر تلك الرعاية…”. (المرجع السابق، ص145، 146)، ولذلك أجاز التعدد.

ومن ذلك يبدو لي أن جوهر ما يتعلق بالحكم الإسلامي ليس هو النطاق الإقليمي ولا النطاق الشعبي الذي تتحدد به الحكومة أو الجماعة السياسية، وإنما هو متعلق بالمرجعية الشرعية الإسلامية كمرجعية يصدر عنها النظام والمعاملات.

ومتى كان ذلك كذلك، وكان الموقف الإسلامي يقبل تعدد الحكومات باعتبار ذلك مما تتسع له الآراء الشرعية الصادرة عن الإسلام، وحتى إذا كان التعدد هنا تعددًا تفرضه الضرورة ويقدر بقدرها ويبقى لحينها، فإن الضرورة هنا يتعين أن نفهمها على أنها هي ما يفرضه الواقع من ضوابط تحدد حركية التشكل التاريخي للجماعات البشرية وما يقدم من حكومات، ويبقى الأساس الذي يقوم عليه الموقف الإسلامي هو الانصياع للمرجعية الشرعية الآتية من القرآن والسنة في ضبط نظم الحكم والمعاملات والعلاقات.

بمعنى أن النظر الإسلامي في هذا الشأن الذي يرد الحديث عنه، إنما يتعلق بمرجعية النظم والمعاملات التي تحكم الجماعة، فيتعين أن تصدر في النظر الإسلامي عن الإسلام، وأما وحدة الجماعة السياسية وتعددها ونظام المواطنة وعلاقة الدولة بذلك ونطاق حاكميته فهما مما يتسع النظر الإسلامي بشأنها للحركية التاريخية وما تفرضه من فروض مرحلية وما تمليه من إملاءات في كل حين. ونحن وحدنا لا نصنع التاريخ، ونحن نشارك في صنعه حسب القدرة والجهد، ولكننا لا نملك إلا بذل الجهد مع التعامل مع الواقع التاريخي في كل حين.

(7)

ويمكن الحديث في هذا الموضوع كذلك بذكر المقاصد العامة للشريعة الإسلامية حسبما ترد في كتب هذا العلم ووصلها بموضوع المواطنة، من حيث تجنب الفتنة ودفع الحرج والأخذ بموجبات الضرورة والاعتدال في التشريع والأخذ بسنة التدرج، ولكن ما يحسن التعرض له بتركيز أدق هو ما يتعلق بالمسائل المختلف عليها التي تنجم عن الإقرار بجماعة سياسية عامة تشمل المسلمين وغيرهم، ويُستبقى مبدأ المساواة التامة في كل جوانبها، ذلك أنه لا أحد يجادل من خلال الفكر الإسلامي في قيام جماعة سياسية تكون مرجعيتها الشريعة الإسلامية ويكون فيها من غير المسلمين من تتشكل منهم الجماعة مع المسلمين، إنما الخلاف هو فيما يترتب على ذلك من قدر المساواة في الحقوق والواجبات، ولا يظهر أيضًا أن أحدًا ذا اعتبار ينكر المساواة في وجوه النشاط والمعاملات الخاصة، فإن المستقر الظاهر أن لهم ما للمسلمين وأن عليهم ما على المسلمين.

ولكن وجه النظر يتعلق بالولايات العامة، وهل يتساوى غير المسلمين مع المسلمين في شأن أهلية القيام بها؟ وما مدى هذه المساواة والمشاركة بينهم في شأنها؟

ينقل أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه (“الأموال”، تعليق: محمد خليل هراس، 1981) عن محمد بن كثير أن “أحق ما اقتضى به ووقف عليه حكم الله تبارك وتعالى، وأحق الوصايا بأن تحفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: “من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه، من كانت له حرمة في دمه فله في ماله والعدل عليه مثلها، فإنهم ليسوا بعبيد فتكونوا من تحويلهم من بلد إلى بلد في سعة، ولكنهم أحرار أهل ذمة، يرجم محصنهم على الفاحشة، ونساؤهم نساءنا من تزوجهن منا القسم والطلاق والعدة سواءٌ” (ص167). وخلاصة القول كما يذكر الدكتور عبد الحميد متولي نقلاً عن الشيخ عبد الوهاب خلاف: “إن وضع غير المسلمين من أهل الذمة في البلاد الإسلامية لم يكن يخضع عبر عصور التاريخ للاعتبارات الدينية فحسب، بل كان يخضع كذلك للاعتبارات السياسية، وأخصها مدى ما يبدونه من الولاء والصفاء للدولة وللمسلمين”. (بحوث إسلامية، منشأة المعارف، 1979، ص45).

وترتبط أحكام في القرآن بهذه الأمور وبمناسبتها وأوضاع إعمالها، حسبما ينقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن ابن عباس أن قول الله تبارك وتعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ)، قال: “كان ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنـزل الله تبارك وتعالى: (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) بما يمكن من الفداء”. (ص129).

فثمة أمور هنا:

أولاً: أن الجماعة السياسية حتى وإن كانت تشكلت بالجامع الثقافي الإسلامي، فهي تقبل وجود غير المسلمين بالمشاركة فيها، فما بال إن قامت الجماعة السياسية على أساس من اللغة الواحدة وضمت في رحابها من تجمعهم اللغة أو الإقليم مع تعدد دياناتهم.

وثانيًا: أن غير المسلمين يشاركون في هذه الجماعة التي تضمهم بغير ظلم وبالمساواة في شئون الحياة، وأن ما يتعلق بالمشاركة فمرجعه إلى الولاء والصفاء مما نلحظه في أحكام الصحيفة المدنية السابق الإشارة إليها.

فإذا كانت المواطنة هي صفة الفرد في الجماعة التي قامت على أساسها الدولة، فقد وجب – تحقيقًا لهذه الصفة في شمولها على نطاق الجماعة – أن تتوافر بموجب المواطنة المساواة في المراكز القانونية والسياسية لكل من شملتهم الجماعة واتصفوا بصفتها التي قامت على أساسها الدولة، حتى من كانوا على تنوع وتباين في انتماءاتهم الفرعية المندرجة في الوصف العام للجماعة الوطنية.

ونحن نعرف أن صيغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 1948م ينص في مادته الأولى على أن “يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق…”، وهذه الصيغة المشهورة تكاد أن تكون هي ذات صيغة العبارة التي نقلت عن عمر بن الخطاب: “بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”، ويؤكد معناها أن قائلها – رضي الله عنه- لم يكن مفكرًا ولا كاتبًا، إنما كان حاكمًا، وقالها في عز سطوة الحكم والولاية ليلزم عمال دولته بها، وأنه لم يكن يمثل شعبًا مقهورًا إنما كان يرأس القوة الإسلامية الغالبة، وأنه قالها ليحمي بها غير المسلمين المغلوبين.

وهذه العبارة بقيت يتناقلها عبر القرون والأجيال تلاميذ المدارس وصبية الكتاتيب في بلاد المسلمين، وهذا أحمد عرابي زعيم ثورة 1881م في مصر، يقف بجواده يواجه حاكم مصر في ميدان عابدين في 9 سبتمبر 1881م ويقول له: “لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارًا ولن نستعبد بعد اليوم”، ولم يكن عرابي قد طالع إعلان الاستقلال الأمريكي في سنة 1776م، ولا إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي في 1789م، إنما كان يردد ما عُرِف عن عمر مما تعلمه في قريته وهو صبـي.

والقرآن الكريم عندما يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى) (الحجرات:13) إنما يشير إلى وحدة النشأة للناس كافة، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوصي المؤمنين في خطبة الوداع: “أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب”، ثم يؤكد أن لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على أبيض إلا بالتقوى. وبهذا يتقرر أصل التساوي بين البشر جميعًا حسب خلقهم الأول، وبقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتقرر أن التفاضل بين الناس بعد ذلك، إنما يَرِد من الفعل الإرادي للبشر وهو التقوى، وبهذا فإن الناس لا يتفاضلون إلا بما في مكنة كل منهم من وجوه الخيارات الإرادية المتاحة للناس والتي ترد بشأنها تبعة الثواب والعقاب.

والمساواة تعني منع التمييز بين الناس بوصف يعلق بهم أو بسبب يلحق بهم، دون أن يكون لإرادتهم دخل في هذا التعلق أو الإلحاق، وأن يقوم هذا الوصف أو السبب لديهم على وجه الإطراد، دون أن يكون في مكنتهم بالعمل الإرادي أن يرفعوه أو أن يتجاوزوه، وأن يقوم أي من هذه الأوصاف أو الأسباب لدى جماعات من البشر تشترك فيه، وتلك هي الأسباب والأوصاف المتعلقة بالجنس أو بالعنصر أو لون البشرة أو اللغة الأصلية أو العقيدة التي نشأ القوم عليها.

والمساواة تعني أن تنظر الجماعة إلى الأفراد والجماعات الفرعية المكونة لها والمندرجين فيها، تنظر إليهم بحسبانهم محض أفراد فيها، لا يميز فردًا عن الآخرين إلا أن تكون أوصافًا مكتسبة كشروط التعليم والخبرة والمهارات، أو على الأقل – إن لم تكن أوصافًا مكتسبة – أن تكون أوصافًا مفارقة وغير لصيقة بالفرد التصاقًا شبه دائم، كشرط بلوغ سن معينة للتمكن من أمر معين أو تولي عمل معين، فالسن إن لم يكن شرطًا مكتسبًا فهو شرط مفارق، يطرأ على الإنسان ويتجاوزه.

ومن ذلك فإن المساواة بمعنى أن لغير المسلمين ما للمسلمين وعليهم ما عليهم هو أمر يطمأن إلى قيامه ضمن مقاصد الشرع الإسلامي، ولكن تبقى مسألة الولايات العامة، فيما يتعين النظر فيه الآن.

(8)

نستطرد من ذلك إلى نقطة أحسبها هامة، ذلك أن من سوابق الفتاوى وأقوال السلف ما تقوم به قرائن على تزكية حكم معين بحسبانه هو ما لا محيد عنه، ويلاحظ ذلك كثيرًا فيما كتب عن أحوال غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، كما ستجئ الإشارة إن شاء الله، ولكن علينا في هذا المجال أن ننظر لأية فتوى أو قول لواحد من الفقهاء أو حتى للصحابة أو التابعين، ننظر إلى قوله أو فعله، ليس فقط بمقتضى القياس المنطقي للحكم الذي يزكيه، ولكن ننظر كذلك في واقع الحالة التي كان ينظرها وتقديره لها في إطار الظروف المحيطة.

وأنا عن نفسي أوضح للقارئ أنني فقهت القانون في مواقع القضاء والإفتاء، أي في مواقع إدراك أثر القول على الحالات المرئية والملموسة والمعيشة، وتعلمنا من شيوخنا في القضاء ما كان يعبر عنه بعض المتفقهين منهم يرحمه الله بقوله: “إذا تداخلت مشروعية الأمر في مناسبته وجب لكي يكون الأمر مشروعًا أن يكون مناسبًا”.

ونحن نقرأ لابن القيم الفصل الشهير الذي أورده في كتابه (أعلام الموقعين، الجزء 3) بعنوان: “في تغير الفتوى واختلافها حسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات والعوائد”، وهي في نظرنا تتعلق بالأفعال أو بالأحكام على الأفعال بما تعتبر رحمة أو عدلاً او مصلحة أو حكمة.

ونلحظ أن الاختلاف إنما يجد سنده في الغالب من ترجيح آراء للإفتاء أو القضاء مما تسعه النصوص وترجحه مقاصد الشرع الحنيف، ومن ثم عينيات هذه الفتاوى والأقضية إنما تعتبر في الغالب مما أنتجتها الترجيحات المقاصدية، دون أن تعتبر بذاتها ثابتة على مر الزمان والمكان وتنوع الأحوال والمصالح المتجددة والمتغيرة، وهذا ما يميز بين الشريعة والفقه، لأن الفقه اجتهادات بشر يصيبون ويخطئون، وصوابهم في تطبيقات تتصل بأوضاع اجتهاداتهم، بينما الشريعة ثابتة بما تشمله من سعة وقدرة على استيعاب التنوع في الاجتهاد في إطار ضوابطها وحدودها.

يقول ابن القيم: “إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره” (ص4)، وبهذه العبارة الهادية أن الحكم المختار للفتوى قد لا يختلف فقط اختلاف زمان ومكان ومصلحة عامة، ولكنه قد يختلف اختلاف تقدير ووزن، بما نسميه مناسبة الأمر أو ملاءمته، فالأمر الذي ننكره يرى ابن القيم أنه قد يزول أو يخلفه ما هو أنكر أو أقل إنكارًا، فثمة تقدير لما سيخلفه بعد زواله وثمة ربط للحكم بمآلاته وتأثر الفتوى بوجه التقدير لما هو ملائم ومناسب.

ويضرب العالم الكبير الأمثلة لذلك من سقوط حد السرقة عام المجاعة (ص10)، وصدقة الفطر حسب قوت المخرجين (ص12)، ورد صاع من التمر من المصراة (ص13)، وطواف الحائض بالبيت (ص14)، وكل ذلك للتخفيف عن المكلفين امتثالاً لقاعدة أن الأمر إذا ضاق اتسع، وهو يشير إلى رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس بحسبان ذلك من وجوه اختلاف المكان بين المعمول به في المدينة وبين الجاري في مصر (ص83)، وكذلك يشير إلى فتويين لعمر بن عبد العزيز بين المدينة والشام عن الشهادة بشاهد ويمين (ص85)، ثم يتكلم عن المقاصد تغير أحكام التصرفات (ص98).

والملاحظ هنا أن الاختلاف في الرأي وفي الإفتاء سائغ على النحو المشار إليه، في إطار ما تسعه نصوص الأحكام من وجوه الرأي والنظر، وهذا لا يتعلق فقط في الاختلاف في فهم عبارات النصوص ومعناها المستفاد من سياقها، ولكنه اختلاف في إطار ما تسعه النصوص في تطبيق على الواقع المتنوع بموجب اختلاف مصالح ورؤى الجماعات الفرعية في إطار الصالح العام المشمول بصالح الجماعة الوطنية، لأن الأمر ليس أمر منع وجواز فقط، ولكنه أمر تقدير وجوه النفع المتصور في الأوضاع السياسية المحيطة والأحوال الاجتماعية المعيشة.

والمقاصد هنا حاكمة فيما تسعه النصوص من ترجيحات من الآراء، وبخاصة بالنسبة للمسألة السياسية التي تتعلق بالجماعة الوطنية وتكونها وحفظها لمصالح المندرجين فيها من الجماعات والأفراد.

(9)

ثمة نصوص في القرآن الكريم تتعلق بالولاية، ويُستند إليها عادة في بيان قصر ولاية الحكم في الجماعة على ذات الأكثرية المسلمة فيها ممن تضمهم الجماعة الوطنية، وهنا يتعين النظر فيما إذا كانت هذه النصوص لها هذه الدلالة الصارمة التي تفضي إلى هذا المعنى وحده.

وقد ورد بسورة آل عمران: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) (الآية 28)، وقد ورد بتفسير المنار للسيد رشيد رضا إشارة إلى من يتكلمون في الدين بغير علم فيستندون إلى الآية وما في معناها عن النهي العام أو الخاص باعتبار أنه لا يجوز للمسلمين أن يحالفوا أو يتفقوا مع غيرهم، “وفاتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان محالفًا لخزاعة وهم على شركهم”، ثم ينقل صاحب المنار عن الأستاذ محمد عبده أن النهي عن اتخاذ الأولياء (مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ)، لأنها تعني “تفضيل الكافرين على المؤمنين وإعانة للكفر على الإيمان”. ويؤكد ابن كثير في تفسيره للآية على أن النهي في هذه الآية هو نهي من موالاة الكافرين واتخاذهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين.

وورد في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (آية: 51)، ويشير تفسير المنار إلى ابن القيم وأن غير المسلمين كانوا ثلاثة أقسام، قسم صالح النبـي وقسم لم يصالح ولم يحارب وقسم حاربه، وإن الآية نـزلت لَما قاوم بنو قينقاع الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر القرطبـي أنها نـزلت في قصة يوم أحد.

وورد بسورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (الآية 57)، يذكر تفسير المنار بالنسبة لأهل الكتاب: “أنه ينهى عن موالاتهم بوصف فيهم ينافي الموالاة كاتخاذهم دين الإسلام هزوًا ولعبًا…”. وبالنسبة للكفار فإن كان القصد “الولاية” بفتح الواو فالنهي يكون عنهم جميعًا، وإن كان بالكسر للواو فيكون النهي للهازئين منهم بالإسلام فقط. وذكر ابن كثير أن الإشارة لمن أوتوا الكتاب لبيان الجنس، أما القرطبي فيفهم منه الإشارة إلى التفرقة.

وورد بسورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً) (الآية 144)، ويذكر تفسير المنار أن المقصود أنهم “يوالونهم وينصرونهم من دون المؤمنين… حذر الله تعالى المؤمنين أن يحذوا بعض ضعفائهم حذو المنافقين في ولاية الكافرين من دون المؤمنين، أي من غير المؤمنين، وعلى خلاف مصلحتهم”، وأشار إلى أن هذه الولاية كانت لنصرة اليهود والنصارى الذين كانوا حربًا على النبـي والمؤمنين، بمعنى أنه لا يشمل من ليسوا كذلك كالذميين الذين استخدمتهم الدولة في أعمالها الحربية والإدارية، وإن لهؤلاء حكم آخر، وأظهر ابن كثير في تفسيره عبارة (مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ثم تحدث عن المنافقين.

وورد بسورة النساء أيضًا: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) (الآية 138، 139)، ويذكر تفسير المنار “أي الذين يتخذون الكافرين المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارًا، متجاوزين ولاية المؤمنين وتاركيها إلى ولايتهم وممالأتهم عليها لاعتقادهم أن الدولة ستكون لهم”، وذكر القرطبي أن المقصود من يبتغون موالاة بني قينقاع، وأكّد ابن كثير على عبارة (مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، ورجح سيد قطب في تفسيره أن المقصود على الأرجح هم اليهود.

وورد بسورة الممتحنة: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الآية 9)، والنص ظاهر في بيانه نطاق النهي.

وكذلك ما ورد بذات سورة الممتحنة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) (الآية 1)، ويشير القرطبـي في تفسير الآية إلى قصة حاطب بن أبي بلتعة وإخباره مشركي مكة عن بعض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك أشار ابن كثير مشيرًا إلى الكفار “الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصادمتهم ونهى أن يُتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء…”، وكذلك أشار سيد قطب في تفسيره في “ظلال القرآن” إلى هذا المعنى، وأشار في ذلك إلى نوع من ازدواج الولاء الذي يتعين الحذر منه.

يظهر من ذلك المعنى الذي أظهره الشيخ عبد الوهاب خلاف مما سبقت الإشارة إليه، وهو أن موضوع معاملة غير المسلمين في بلاد المسلمين لم يخضع للاعتبارات الدينية وحدها، بل خضع للاعتبارات السياسية أيضًا، وأخصها مدى ما بدا من الولاء والصفاء للدولة وللمسلمين، وإن الأمر في سياق المقاصد المنبئة عن الغايات والمصالح إنما يستفاد من إدراك وجوه الصوالح العامة التي تسفر عنها اعتبارات الزمان والمكان وغيرها، بمراعاة أن المقاصد هنا تتعلق بالمصالح العامة والغايات الكلية المستقرأة من خصوص الأحكام، وأنها في انطباقها يترجح رأي على رأي آخر مما تسعه النصوص وتنبئ عنه، إنما تراعي أوضاع انطباق الحكم على الحالات التي تجِدّ والنوازل التي تتراءى.

وإن ما سبق ذكره من آيات القرآن الكريم، إنما هي أحكام تتراءى وجوه التفسير لها في ضوء مناسبات إعمال النص. ومن المعلوم والمفهوم طبعًا أن الحالة أو الحالات الواقعية التي عاصرت صدور النص التشريعي، هذه الحالة أو الحالات ليست هي سبب صدور النص، وإلا لم يكن النص نصًا تشريعيًا يتصف بالعمومية والتجريد، وإلا لكان النص مجرد واقعة تاريخية يستأنس بها فيما يستأنس من تجارب التاريخ دون أن تكون لها صفة الإلزام التشريعي، إن الأمر ليس كذلك ولكنه يتعلق بحالة أو حالات واقعية كانت مزامنة لصدور النص وكانت من مناسبات صدوره، وبهذه المثابة تكون هي أو مثيلاتها “مناسبة” لإعمال النص، أي تعتبر مثيلاتها شرطًا لتوافر أوضاع إنـزال حكم النص على الحالات المستجدة الشبيهة، ونحن لسنا مع من يخطئ في تفسير بعض نصوص الأحكام فيحولها إلى محض وقائع تاريخية، ويفقدها وضعها كنموذج قابل للتكرار والانطباق في الحالات المماثلة لحالة تطبيقها الأول، ولكننا أيضًا في ظروف قيام أوضاع المعاصرة بين صدور النص وأوضاع معينة وتغيير صياغات نصوص الأحكام الصادرة في حالات متنوعة، ومع ما تفيده عبارات النص من سعة في المعاني وتنوع يطيق تعدد الآراء، مع كل ذلك نرى أن نجعل مناسبات صدور النص مما يلقي الضوء عليه في تفسير نطاق إعماله على الحالات المخصوصة التي تجد، فيترجح بذلك الرأي القائل بأن تصير الأوضاع المشابهة من الشروط التي يتعين توافرها لإنـزال حكم النص على الحالات المستجدة.

(10)

ويؤكد هذه المعاني الأخيرة وما نستخلصه من نصوص “الولاية” من حيث الدلالات اللغوية والتشريعية، فهي دلالات أعم وأكثر من أن تنحصر في معنى وحيد يضيق عن استيعاب العديد من السياسات العامة والسلوكيات الخاصة التي قد تستدعيها الصوالح العامة في تنوعها وتجددها وتتاليها عبر الزمان والمكان.

لقد وردت مادة “ولي” في لسان العرب بمعان عديدة، فالولي هو الناصر وهو المالك المتصرف، والولاية تشعر بالتدبير والقدرة، وهي السلطان والنصرة، والأولى هو الأحق وهو الأوفى والأقرب، والمولى هو الحليف أو ابن العم أو الناصر أو الجار أو الشريك، ويوليه أي يحابيه أو يحبه، ومولى القوم أي منهم، والمولى هو الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق، والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعهد والمعتَق، والمنعم عليه، والولاية بفتح الواو هي النسب والنصرة والصفة، والولاية بكسر الواو هي الإمارة، والولي هو الصديق والنصير، والموالات ضد المعاداة، والمولى هو المالك وهو العبد، ويلي أي يلصق ويداني، وولَّى أي ابتعد. (لسان العرب، الجزء 15، دار صادر ودار بيروت، 1968، من ص215 إلى ص406).

ووردت ذات المعاني أيضًا في تاج العروس، وورد به أن التولية قد تكون إقبالاً كما ذكر القرآن الكريم: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، أو تكون انصرافًا كما ورد في القرآن الكريم: (ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)، ثم ذكر “فهذه واحد وعشرون معنى للمولى أكثرها جاءت في الحديث، فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه”. (تاج العروس، الجزء 10، دار صادر، بيروت 1966، الناشر دار ليبيا للنشر والتوزيع ببني غازي، ص398 إلى ص400)، وكذلك ورد في القاموس المحيط أن من معاني اللفظ المعتِق بكسر التاء والمعتَق بفتح التاء، ومن معانيه المالك والعبد. (ترتيب القاموس المحيط، الجزء 4، الطاهر أحمد الزاوي، دار الكتب العلمية، 1979).

ومن هذا نلحظ أن لفظ الولاية يرد من جذر لغوي له كل هذا الثراء في المعاني التي يشير إليها وكل هذا التنوع الهائل، وهو يستفاد معناه المحدد في كل مناسبة من السياق الذي استخدم فيه ومكانه في نص العبارة المقولة، فيتحدد معناه والمقصود منه وفقًا للدرجة والقدر الذي يكشف عنه السياق، وهو يبقى له – في إطار المعنى المستخدم في سياق العبارة- قدر معتبر من السعة والمرونة وتنوع درجات المعاني التي تمكن من إنـزال حكمه على ما يستجد عبر السنين والقرون والأزمان، من تغيرات في أوضاع ولايات الناس على الناس، من ولاية الأب على ابنه إلى ولاية الحاكم المستبد على شعبه، إلى ولايات نظم وحكومات القرون الوسطى إلى ما يحل محلها في العصور الحديثة، ومن ولايات الغرب إلى ولايات الشرق، ومن شيوخ القبائل إلى نظم الديمقراطيات الشعبية، ومن القيادات الفردية إلى القيادات الجماعية.

وهذا درس قرآني نتعلم منه أساليب صياغة النصوص بقدر ما تمكننا منه طاقتنا على الاستيعاب البشري لدروس القرآن الكريم، كما استخدم القرآن لفظ “القروء” في بيان عدة المطلقة، استخدامًا يدور بين الطهر والحيض، ليكون في اختلاف المعنيين بين ثلاثة من كل منها يتخللها اثنان من الأخرى، ليكون في ذلك اختلافًا يسع تنوع احتياجات الناس حسب الأعراف والعادات السائدة لديهم في جماعاتهم، وهذا جميعه من وجوه قول سفيان الثوري: “لا تقل اختلفوا بل قل: توسعوا”، ورحم الله عبد الوهاب الشعراني الذي أشار في كتابه “الميزان الكبرى” إلى أن عين الشريعة هي الآراء كلها وأن أي رأي منها وحده هو شريعة غير كاملة، ذلك أن الاختلافات تؤدي إلى وجوه تشديد ووجوه تخفيف مما يناسب في درجة اختلاف البيئات وتنوعها.

وفي هذا السياق تلزم ملاحظة أن المقاصد يتعين أن تكون من الشمول والعموم بحيث تسع هذا التنوع والثراء في المعاني لتحيط بالجماعات البشرية في أحوالها السياسية والاجتماعية والوطنية وغيرها، وتستجيب لدواعي المصالح التي تجدُّ في سياق هذا التنوع.

(11)

وثمة من يجحد الإمكان الشرعي لتولي غير المسلمين شأنًا من شئون الولاية في الجماعات التي يتشاركون فيها مع المسلمين، وقد أقيمت على ذلك الحجج المستمدة من الأحكام وسوابق التاريخ، وهي أمور يتعين العرض لها والنظر في وجه الاحتجاج بأي منها في الدلالة على ما سبق الحديث بشأنه.

وفي الكتاب الشهير لابن قيم الجوزية “أحكام أهل الذمة” يورد فصلاً عن المنع من استعمال اليهود في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم، فحدث عن رجل أراد أن يخرج مع النبـي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وهو مشرك فرفضه النبـي صلى الله عليه وسلم إلا إذا أسلم، وأصر الرجل على طلبه وأصر عليه الصلاة والسلام على رفضه حتى أسلم الرجل، وإن كان النبـي صلى الله عليه وسلم يقول: “أنا لا أستعين بمشرك” (ص208).

ويتعين في تفهم هذا الحدث النظر في أن غزوة بدر كانت أولى غزوات المسلمين مع المشركين بعد أن أُخرج المؤمنون من مكة مهاجرين مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يكونوا جربوا بعد قوتهم إزاء المشركين ولا جربوا بعد مدى مناصرة أهل يثرب لهم في حرب تقوم ولم يعرفوا ما يبيت لهم، وكانت شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل القتال عظيمة، فإذا جاء التشدد في اشتراط الإيمان بين المحاربين مع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أمر مرتبط بظرفه، أو هو أمر لا أقول إنه غير مقصود الاقتداء وأنه لا يعتبر سنة تتبع، لا أقول ذلك وإنما أقول: إن ظرف الحدوث يصير شرطًا للاتباع، فيصير الحكم تشريعًا قابلاً للتكرار والانطباق على ما يستجد من أحداث بشرطه.

وذكر ابن القيم أيضًا أن كان لأبي موسى الأشعري كاتب نصراني، وحدث عنه عمر بن الخطاب فأثناه عمر عن استخدامه مذكرًا إياه بالآية الكريمة عن عدم استخدام اليهود والنصارى أولياء (ص210).

ولا يغيب عن الذهن أنه مع الاعتبار برأي عمر، فإن الموقف الآخر كان لأبي موسى الأشعري وهو من هو بين الصحابة ولم يرى عيبًا في استخدام من استخدم، ونحن هنا بين رأيين أو موقفين لعمر وأبي موسى، والنظر يقتضي القول بأنه إما أن يكون رأي أبي موسى مرجوحًا فعدل عنه ولكنه يبقى له اعتباره الفقهي، وإما أن يكون نفاذ رأي عمر بموجب ولايته أمور المسلمين وليس بموجب راجحية رأيه.

وذكر ابن القيم أيضًا أن بعض عمال عمر استشاره في استعمال غير المسلمين لخبرتهم، فقال له عمر: “لا تدخلوهم في دينكم ولا تسلموهم ما منعهم الله منه ولا تأمنوهم على أموالكم” (ص211)، ومن الجلي أن قول عمر كان أدخل في السياسة الشرعية منه في الرأي الفقهي حول الحل والتحريم النصي، فقد أمر بعدم إدخال أولئك في الإسلام مما لا يصح في الظروف العادية، وهو رأي يحتاج لاجتهاد خاص من جانب عمر كما حدث منه في وقف حد السرقة عام المجاعة، وأن أحدًا في الأوضاع العادية لا يملك منع أحد من الدخول في الإسلام فيكسب الداخل عصمة نفسه وماله، ولكن حداثة العهد بالحرب والفتوحات وقلة المسلمين العددية في الأمصار المفتوحة وموجبات بناء الدولة في أول عهدها، هو ما اقتضى كل هذا القدر من الحذر.

وقد كان عمال الدولة الإسلامية الحديثة في الأمصار المفتوحة يواجهون قلة الخبرة، سواء في الإدارة والحكم عامة وبناء مؤسسات الدول، أو بالنسبة للأقوام المفتوحة أمصارهم أو حديثي العهد بالإسلام وحكومته، وقد طلب معاوية من عمر أن يستخدم نصرانيًا لا يجد صالحًا غيره، فرد عليه عمر: “مات النصراني” (ص211)، اعتبره ميتًا وغير موجود، وذلك من شدة حذر عمر وهو القابض على السلطة المركزية في الحجاز من أن ينفلت الأمر من يده لو شاع استخدام غير رجاله في هذه الأمصار الجديدة عليهم، وكان عمر ينصح أبا هريرة بأن يعود مرضى المسلمين ويشهد جنائزهم، ويفتح بابه لهم ولا يستعين بمشرك (ص212)، أي يوثق صلته بعماله حتى يحفظ على إدارة الدولة الجديدة تماسكها.

ويذكر ابن القيم نهي عمر بن عبد العزيز عن استخدام غير المسلمين في أعمال الكتابة والجباية مستندًا إلى الآية الكريمة التي تتحدث عمن يتخذون (دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) (ص212)، وهذا نهي عن الاستخدام يجاوز في سببه مجرد اختلاف العقيدة، كما يظهر جليًا، ثم يذكر أن شكا جماعة من المسلمين أيام أبي جعفر المنصور من ظلم النصارى وعسفهم فأخرجهم أبو جعفر (ص214)، ودلالة الخبر هنا ليست في أن أبا جعفر أخرج ظالمين أسخطوا الناس منهم فهذا طبيعي، ولكن دلالته أن أبا جعفر استعمل النصارى وولاهم ولم يخرجهم إلا لأنهم ظالمون، كما ذكر ابن القيم أيضًا أنه في أيام الخليفة المهدي الذي جاء بعد أبي جعفر قويت شوكة أهل الذمة (ص245).

ثم يتحدث ابن القيم أيضًا عمن كان متوليًا من غير المسلمين أمورًا عامة في عهد هارون الرشيد والمأمون والمتوكل والمقتدر بالله والآمر بالله، وهو حديث يفيد وجودهم في وظائف عامة (ص124.. إلخ)، وهذا الحديث يفيد عدم قيام مستند فقهي يمنع من ذلك على طوال حقب وعهود، وأن ذكرها يفيد عبرة تاريخية رآها الكاتب دون أن تدل على حكم فقهي، وقد أورد الآية الكريمة التي تنهي عن اتخاذ بطانة من دون المسلمين: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)، والتي تنهي عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المسلمين وتنهي عن اتخاذ (عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء).

وقد ذكر كتاب الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية لمحمد بن عبد الله الجلعود (الجزء 2، من ص791، 799) أمثلة كثيرة لا أظنها تخرج عما ذكره ابن القيم في ضوء ما أعرض له في هذا الحديث، والغالب فيها كلها أنها وقائع تاريخية تحولت لدى من يستشهد بها إلى فقه بغير مستند فقهي يقتصر عليها ولا يسع غيرها من الحجج مما تسعه النصوص السابق البيان عنها. والحاصل أن منشأ الخلاف حول هذا الأمر لم يكن أساسه حجية النصوص المانعة من رأي آخر غير ما اتبع، ولكن كان مما رجحته أوضاع السياق الواقعي وملاءماته.

(12)

ننتقل إلى كلمة سريعة عن المواقف الحالية من الناحية الفكرية، التي تتعلق بالمساواة بين المواطنين المندرجين في الجماعة الوطنية من مختلفي الأديان، وإن الحديث عن الفكر السياسي الذائع الآن حديث صعب، لأن حصره يكاد يكون من الصعوبة بما يبلغ درجة عدم الإمكان وخاصة في هذه الفقرة الموجزة، والكتّاب بفضل الله كثر والكتابات عديدة والاتجاهات تتنوع وهي أوسع من أن يحاط بها في دقة، ويمكن فقط بقدر من التجريد والتعميم الذي لا يبرأ من تهمة الإخلال، يمكن بذل المحاولة لزمِّ الموضوع، وبهذا القدر من التبسيط نعرض لثلاثة اتجاهات عامة رئيسة مع التمثيل لكل منها ببعض رموزها الأساسية:

– أولها الاتجاه الذي يرى أن الدولة الإسلامية دولة عقائدية لابد أن تجري تمييزًا بين المسلمين وغيرهم، ومن ثم يكون لغير المسلمين حق التوظف في الوظائف العامة فيما عدا المناصب الرئيسية لرئاسة الدولة والمجالس النيابية، ويمكن توليهم أعمال الخبرة المهنية في المحاسبة والهندسة وغيرها. وأوضح أصحاب هذا الاتجاه هو أبو الأعلى المودودي، ورأيه ينسجم مع دعواه السياسية التي قامت على أساس انسلاخ المسلمين من الجامعة الهندية القومية إلى إنشاء دولة لهم تقوم على الإسلام بحسبانه الجامعة السياسية الواجبة التشكل، وقد كان الانسلاخ من القومية الهندية بدافع الإسلام لا يتضمن توحيد مسلمي الهند مع غيرهم من خارج الهند. وهو يقسم القاطنين في الدولة الإسلامية قسمين، قسم يؤمن بمبادئها وهم المسلمون، وقسم لا يؤمن بها وهم غيرهم وأنه يتعين التفرقة بينهم، وإن غير المسلمين ثلاثة أنواع: من دخلها بالصلح أو المعاهدة، والمغلوب الذي فتحت أرضه عنوة، ومن انضم بغير حرب ولا صلح. ولم ير المودودي قسمًا هامًا جدًا وهو من شارك المسلمين من غير المسلمين في حروب التحرير ومعارك الاستقلال الوطني ضد المستعمرين الأوروبيين، وأنشأ هذا القسم مع المسلمين جامعة وطنية جديدة بنيت على أساسها الجماعات الوطنية المعاصرة في آسيا وأفريقيا. ويتصل باتجاه المودودي وإن لم يبلغ مبلغه من الشدة ما تصادفه من كتابات سعيد حوى عندما ينكر على الذميين وظائف الشورى والسيادة.

– وثاني هذه الاتجاهات، نجده في الكثير من كتابات الشيخ يوسف القرضاوي وهو يقر مبدأ المساواة بين المواطنين، وأن الذمة تعطي ما يعرف الآن بالجنسية، ولكنها لا تؤهل لوظائف الخلافة وإمارة الجيش والقضاء، وذلك لغلبة الصفة الدينية على ما يتعلق بالإمارة ورئاسة الدولة وقيادة الجيش، ومن هذا الاتجاه أيضًا الدكتور إسماعيل الفاروقي باستبعاده غير المسلمين من المراكز التي تتطلب اتخاذ القرارات، مثل القضاء والسلطة التشريعية، وكذلك الأستاذ عبد القادر عودة، الذي ذكر أن المسلم هو من يقتنع بالإسلام والذمي هو من يلتزم بأحكام الإسلام، وكذلك الدكتور عبد الكريم زيدان وهو يجيز اشتراك الذميين في انتخاب رئيس الجمهورية والمجالس النيابية، وإعطاء عقد الذمة للجنسية.

– والاتجاه الثالث يقر بالجماعة الوطنية في إطارها الواقعي الحاصل ويسوي في الحقوق كافة بين المسلمين وغيرهم في الأمور كافة، ويذكر الأستاذ عمر التلمساني المرشد السابق للإخوان المسلمين بمصر أن القانون الذي يطبق على الأغلبية هو ذاته القانون الذي يطبق على الأقلية مع تولي الوظائف العامة من أصغرها إلى أكبرها، ويذكر الأستاذ راشد الغنوشي أن مبدأ المساواة ثابت إلا فيما يتعلق باختلاف العقائد، وأن المجتمع الإسلامي وإن كان عقائديًا فهو مفتوح لكل العقائد والأجناس، ويتمتع الجميع فيه بحقوق المواطنة، وأن أساس العلاقة مع الدولة هي المسالمة، لأن العدل بمعنى المساواة هو الأصل في جميع حقوق المواطنين، ومدار تولي الوظائف العامة هو الكفاءة والأمانة، عدا ما تقتضيه طبيعة الدولة الإسلامية بالنسبة للوظائف ذات الطبيعة الدينية.

وفي هذا الاتجاه الثالث يذكر الدكتور محمد سليم العوا أن الكثرة الدينية لا توجب حقًا وأن القلة الدينية لا تمنع حقًا، وأن الأمر في النهاية أمر المصالح التي تتعلق بالجماعة، وأن ادعاء اقتصار الحق السياسي أو ممارسة السياسة على أهل دين معين في دولة متعددة ذوي الأديان هو ادعاء لا تسنده أصول الشريعة، وإن عقد الذمة انتهى بسقوط الخلافة، وبذات المعنى يذكر الأستاذ فهمي هويدي أن القاعدة هي أن الحكم للأغلبية والحقوق للأقلية، وأن حق الأغلبية في الحكم لا يخل بالمساواة، وأن الإسلام صنّف الناس على أساس صفة المسالمة والمحاربة، وفرق بينهم وبين مسالم ومحارب وأن الحربيين فقط هم الأجانب.

(13)

والخلاصة فيما أرى:

أن فكرة المساواة بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب في بلادنا، كانت متحققة في غالب الفقه الإسلامي بالنسبة للحقوق الخاصة والفردية، بموجب أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، إنما تقوم المشكلة في الفقه الإسلامي فيما يتعلق بالولايات العامة، أي الحق في تولي مناصب الدولة والوظائف القيادية ذات القرار النافذ، سواء في القضاء أو الجيش أو الإدارة العامة أو غيرها، وهذه المسألة هي التي كانت تحتاج إلى اجتهاد فقهي يوطئ من أكنافها في إطار المواطنة وما اتبعت في مجتمعاتنا الحديثة من تكوينات سياسية أنشأتها حركات الاستقلال الوطني والمقاومة الوطنية التي تشارك فيها المسلمون والمسيحيون من أهالي بلادنا، وقد تشكلت جماعاتنا السياسية المعاصرة على وفق النتاج الواقعي والتاريخي الذي أسفر عنه هذا الامتزاج، فحُقَّ للجميع أن يقيموا دولهم وفق هذا التشكل وأن تقوم المواطنة فيهم بموجب صفة المشاركة في هذه الجماعة، ووجب من ثم أن يقوم الاجتهاد في البحث عن إمكانات الفقه الإسلامي بما يتحقق به المساواة في الشئون العامة، وتكون مساواة تستقى من مرجعية الفقه الإسلامي ومستجيبة للواقع المعيش.

وحاصل المسألة أن الإمام – ذا الولاية العامة – في الفقه الإسلامي مشروط فيه التدين بالإسلام لأنه مقيد بأحكام الشريعة، وهذه السلطة التقديرية -كما يصورها فقهاء الإسلام- بالغة السعة والشمول، وهي جماع أنشطة الدولة من تدبير الجيوش إلى النظر في الأحكام وتقليد القضاة وجباية الضرائب وقبض الصدقات وإقامة الحدود وحماية الدين وصيانة البيضة وإشاعة الأمن وتحصين الثغور وجهاد من عاند الإسلام، وذلك كله حتى تسير الحجيج إلى مكة في موسم الحج.

وسواء سلطات الإمام أو الوزراء أو الأمراء أو الولاة، فهي سلطات تُقلَّد لصاحبها في عمومها أو خصوصها لينفرد بها بنفسه، وكل من هؤلاء في نطاق ولايته يُعمل إرادته الفردية ومشيئته الخاصة لتنفَّذ بموجب صدورها عنه، ومن هنا يبدو الفارق بين هذا التصور في أعمال الولاية قديمًا وبين التصور المعاصر الذي تنبني فيه نظم الإدارة والسياسة في المجتمع الحديث، وإن سلطات “وزير التفويض” المفوض من الإمام حسب التصور الفقهي التقليدي، هي سلطات لا يملكها اليوم وزير ولا رئيس للوزراء ولا مجلس الوزراء كله في النظام البرلماني.

وإذا كان الفقه الإسلامي التقليدي قد شرط التدين بالإسلام في الإمام ووزير التفويض، فنحن لا نجد اليوم في خريطة توزيع السلطات رئيسًا ولا وزيرًا يملك ما نيط بالإمام أو الوزير المفوض من صلاحيات، لأن سلطات هؤلاء قد توزعت على العديد من الهيئات الدستورية أو الإدارية، التي تتداول فيما بينها العمل العام الواحد وتتقاسمه مراحل حتى ينشأ كاملاً عبر نشاطها جميعها، كما تتبادل الرقابة فيما بينها من أعمال.

وكذلك نلحظ من الناحية الإدارية التنظيمية (لا الدستورية فقط)، إنه لم تعد السلطة المحددة بالتنفيذ مجتمعة في يد فرد أيًا كانت قدراته وإمكانياته، ولا باتت مرتبطة بتوافر العلم الفردي والمعارف الذاتية لموظف فيما يتعلق بالأحكام الشرعية وأمور الحرب وشئون الخراج ومظالم المحكومين، لأن المعارف ذاتها لم يعد في المقدور أن تتهيأ لمدير بموجب علمه الفردي، ولكنها تتجمع من أجهزة فنية متخصصة عديدة، يتوزع عليها العمل توزيعًا فنيًا متخصصًا، وتتكامل الرؤية بتجميع هذه المعارف وتصنيفها والتنسيق بينها.

وإن ما كان يكِلْه الفقه الإسلامي لأي من القائمين على الولايات العامة، قد صار اليوم موكولاً لهيئات تُنَظَّم على وجه يضمن تجميع الجهود المتعددة، ولم يعد الفرد سلطة طليقة في تدبيرأو تنفيذ، والسلطة تقيدها أحكام دستورية، وفي نطاق الدستور تقيدها القوانين، وفي نطاق القوانين توجد لها لوائح وأحكام تفصيلية وفي هذا النطاق المضيق تمارس السلطة التقديرية – في الغالب –  والمهم من الأمور لا كسلطة فردية، إنما تتخلق في الممارسة على نحو مركب، فيمر مشروع القرار السياسي أو الإداري عبر قنوات محددة ومتعددة ومن خلال هيئات متنوعة ومقررة سلفًا بالنظم المرسومة، وإذا صدر قرار فردي بعد ذلك فهو يصدر بهذا التوقيع الفردي تتويجًا لكل العمليات المركبة السابقة عليه، وهو في العديد من مراحله يصدر بأعضاء هيئة أو هيئات تتشكل من عدد من الأفراد يتخذون القرار مجتمعين.

ونجمل هذه النقطة بالقول بأن السلطة الفردية، سواء في السياسة أو في الإدارة، قد تغيرت على طريقين وعلى مبدأين، أولهما: توزيع السلطة بين العديد من الأجهزة والهيئات فلا يستبد بإعداد القرار وإصداره جهاز واحد ولا هيئة واحدة، إنما يتخلق من خلالها كلها. وثانيهما: حلول القرارات الجماعية محل القرار الفردي في المهم من الأمور، أو بعبارة أدق في كل الأمور ما عدا ما تَفُه وضؤل شأنه من الصغائر.

وسلطة الإمام التي صدرها فقهاء المسلمين فردية تمامًا، يتبين من تحليل عناصرها ومقارنتها بأوضاع اليوم أنها صارت موزعة على العديد من سلطات التقرير والتنفيذ والمتابعة والرقابة والتخطيط، وأنه استبدل بها القيادات الجماعية والقرارات الجماعية في العديد من صور اتخاذ القرار، كما استبدل بالعمل الفردي العمل الجماعي المعتمد على التخصص وتقسيم العمل، ولم يعد ثمة منصب واحد يشغله فرد واحد يمكن أن يجتمع له من السلطات ما يجتمع لمن كان يسمى عند الماوردي “وزير التفويض”، يكفي معرفة أن عزل وزير التفويض كان يستتبع عزل جميع من ولاهم من عمال التنفيذ، وأن هذا المنصب الذي شرط الفقه الإسلامي التقليدي في شاغله أن يكون مسلمًا لم يعد موجودًا في الواقع، والحال أن الفقه الإسلامي التقليدي لم يشترط فيمن سماه “وزير التفويض” أن يكون مسلمًا، وهو حسبما تحددت صلاحياته “يؤدي إلى السلطان ويؤدي عن السلطان ويشارك بالرأي”، ولا يظهر أن من عمال الدولة الحديثة اليوم ومن ولاتها من تجاوز سلطانه هذه الصلاحيات التي لم يشترط فقهاء المسلمين الإسلام فيمن يمارسها، أو بعبارة أدق فإنه يمكن الآن بناء مؤسسات الدولة الحديثة على الصورة التي لا تجعل أيًا من أفراد شاغلي مناصبها مالكًا زمام السلطة ومنفردًا بشخصه.

(14)

لقد حلت الهيئات محل الأفراد في تولي الولايات العامة، بما تتصف به الهيئة من جماعية في اتخاذ القرار وتعدد في جهات اتخاذه، وبما يتصف به شاغلو وظائفها من تأقيت فلا يدومون فيها، ومن تداول فلا يستقرون بها، وبما يقر في عقول الكافة أنهم يمثلون شخصًا معنويًا لا أصلاً عن ذواتهم، وإذا كان هذا الوضع غير حادث فعلاً في بلادنا، فإنه يمكن أن نحدثه، أو بعبارة أخرى فإننا نستهدف إحداثه كمعلم من معالم النهوض بأجهزة الدولة وأساليب إدارة المجتمع.

وما دام ذلك كذلك، فيبقى السؤال، إذا كان صاحب الولاية قد صار هيئة وليس شخصًا طبيعيًا، فهل يمكن أن يكون له دين؟ إن الهيئة بوصفها المعنوي لا تصلي ولا تصوم… إلخ، والجواب على ذلك أن دين الهيئة هو مرجعيتها، والمرجعية هي الأصل الفكري المرجوع إليه فيما يصدر عنها من نشاط ومدى التزامها بهذا الأصل بحسبانه موردًا لشرعية ولايتها على الناس، وما دامت “الهيئة” مرجعيتها إسلامية فقد صارت الولاية بها إسلامية في الفقه الإسلامي.

وإن مسألة تصور أن يكون للهيئة دين وأن يكون دينها هو الإسلام، قد صارت في ظني مسألة مستقرة في النظر الفقهي الإسلامي، وقد كان ذلك إبداعًا فكريًا وفقهيًا قام به الشيخ محمد بخيت المطيعي المفتي الأسبق للديار المصرية عندما كان عضوًا بلجنة وضع الدستور المصري في سنة 1923م، إذ كان هو من اقترح على لجنة وضع الدستور أن ينص فيه على أن “دين الدولة هو الإسلام”، فوافقت عليه اللجنة بالإجماع وفيها من فقهاء القانون ومن الليبراليين ومن المسيحيين، وقد اطرد ذكر هذا النص في دساتير مصر التالية كلها كما اطرد ذكره في دساتير الدول العربية، وأقر الجميع به وطالبوا بإيراده إن لم يكن واردًا، وإبقائه إن كان واردًا، بما يمكن معه القول بأن فقهاء الشريعة الإسلامية المحدثين قد أقروا بهذا الحكم وبأن “الهيئة” يمكن أن تتصف بالدين، ومعنى دين الهيئة هو مرجعيتها الشرعية.

لذلك فإن الدستور عندما ينص على أن دين الدولة هو الإسلام، يكون قد أسبغ الولاية الشرعية على مؤسسات الدولة، بمعنى أنه يتعين عليها أن تلتزم باتباع هذه الشرعية والصدور عنها وعدم الصدور عما ينافيها. ويكون أصل الصدور عن الشرعية الإسلامية قد تقرر، ولا مانع بعد ذلك أن تجمع مؤسسات الدولة بين المسلمين وغير المسلمين من المواطنين باعتبارهم شاغلين مناصب هذه المؤسسات وبما يفيد أنهم متساوون في “التأدية إلى السلطان” أي إبلاغه بالمعلومات و”التأدية عن السلطان” أي تنفيذ قراراته “والمشاركة بالرأي”، والسلطان هنا هو الهيئة وليس الأفراد المشكلين لها.

والحال أن الدستور عندما يؤكد على إسلامية الدولة، فهو يؤكد أيضًا على حقوق المساواة بين المواطنين جميعًا، ويؤكد الحقوق المتساوية المستفادة من مبدأ المواطنة، وهو بهذا الجمع بين النص على إسلامية الدولة وأن مرجعيتها هي مبادئ التشريع الإسلامي، وبين النص على المساواة بين المواطنين، هو بهذا الجمع إنما يكون قد اعتمد من وجهة النظر الإسلامية ما يؤكد على المساواة بين المواطنين، ويكون قد أقر بأن المساواة بين المواطنين هي ما يعتمده من المبادئ المستندة إلى الفقه الإسلامي، والمعروف في أصول الفقه الإسلامي أن لولي الأمر – إمامًا كان أو قاضيًا- أن يرجح من الآراء التى يسعها الفقه الإسلامي ما يرى ترجيحه، فيصير هذا الرأي هو مكتسب الشرعية في الحالة العينية التي رجح فيها، وذلك كله ما دامت وجوه النظر الفقهي تسع هذا النظر.

والحمد لله

* * *

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر