أبحاث

إشكالية التراث وتدريس العلوم السياسية فى الجامعات العربية

العدد 151

1 – التعريف بموضوع الدراسة وصعوبات توظيف الفكر السياسى العربى الإسلامى كخبرة تراثية:

موضوع هذه الدراسة هو مدى ما يستطيع الفكر السياسى العربى الإسلامى -كخبرة تراثية- أن يقدمه من  إسهامات مباشرة فى بناء نظرة متكاملة للتحليل السياسى.
والتحليل السياسى في هذه الدراسة يشير إلى ثلاثة ميادين متميزة: التنظير السياسى المجرد أولاً، ثم تحليل المشكلات السياسية للواقع العربى ثانيًا، ثم منهاجية تدريس العلوم السياسية فى الجامعات العربية ثالثًا. بعض هذه النواحى سبق أن أصّلنا مدخلاتها فى مؤلفنا عن سلوك المالك فى تدبير الممالك، ونقصد بذلك على وجه التحديد الفكر السياسى العربى الإسلامى كمرحلة أساسية من مراحل الفكر السياسيى وكمقدمة للفكر السياسى القومى المعاصر، ما يغنى عن إعادتها هنا(1). كما إن تدريس الفكر القومى فى جميع جامعات العالم المتقدمة يخضع لتقاليد معروفة ليست فى حاجة لأن نعيد ذكرها. ما يستحق التذكير به هو أن الفكر السياسى العربى الإسلامى هو أحد مراحل تطور الإدراك السياسى فى هذه المنطقة، وبهذا المعنى – وبغض النظر عن تقييمه – لابد أن يندرج فى وضع متميز لدراسة الفكر القومى السياسى كأحد عناصر الثقافة اللازمة لإعداد المتخصص فى العلوم السياسية.

وتنطلق هذه الورقة من محاولة التحديد الواضح لخصائص الخبرة السياسية الإسلامية. خاصة وأن هذه الخصائص سوف تقودنا إلى اكتشاف مدى إمكانية مساهمة تلك الخبرة فى بناء نظرية سياسة متكاملة والإجابة على السؤال: ماذا تستطيع هذه الخبرة الماضية أن تقدمه من حلول للمشاكل المعاصرة للمجتمع العربى؟

بعبارة أخرى فإن هذه الخصائص سوف تسمح بتوظيف البعد النظرى والبعد العملى لذلك التراث فى إطار الثقافة السياسية.

قبل أن ننطلق لإبراز هذه الخصائص يجب أن نكون على وعى بالصعوبات التى تواجه تلك المحاولة. أولى هذه الصعوبات يرتبط بالتاريخ العام للمجتمع الإسلامى، فالتاريخ الإسلامى حتى هذه اللحظة لا يزال يعتمد على مدارس المؤرخين الغربيين ويجتر ما يقدمونه من منجزات. مما لا شك فيه أن بعض هذه المنجزات جدير بالاحترام ولكن أغلبها إنما ينبع من إدراك ذاتى لا يعكس حقيقة الواقع العربى. فهو إدراك تسيطر عليه مجموعة من التقاليد التى شوهت المفاهيم الإسلامية والعربية، ويكفى أن نذكر – على سبيل المثال – أن عالما معروفا بحياده كالإنجليزى (مونتجمري وات) لا يتردد فى أن يعلن بصراحة أن الإسلام لم يعرف نظرية لحقوق الإنسان. كذلك علينا أن نتذكر أن هناك فارقا جوهريا بين فهم الغرب للإسلام والذى جاء وليد تراكمات صدامية ابتداء من العصور الوسطى، وفهم الإسلام لنفسه ولذاته، ولنذكر – على سبيل المثال- نظرة الإسلام إلى الأقليات الدينية من أهل الكتاب وإلى الرسل السابقة على محمد عليه الصلاة والسلام. كذلك علينا أن نضيف بأن مؤرخى الإسلام ذاتهم، وبصفة خاصة فى القرون الأولى، شوهوا بلا وعى الفترة السابقة على الدعوة الإسلامية بوصفها بالجاهلية.

إن وصف الجاهلية إنما ينبع من نظرة أساسها أن كل ما قبل الإسلام لا يعكس إلا التخلف ولا ينبض إلا بالوحشية وانعدام الأخلاقيات، ولكن التحقيق التاريخى قد أثبت —بل ومن منطلق النصوص القرآنية ذاتها— أن هذه النظرة مبالغ فيها، وأن العالم العربى قبل الإسلام عرف حضارة فكرية وتنوعا عقائديا، جميعها جدير بالاهتمام.

يضاف إلى هذه الصعوبات عدم وجود تاريخ علمى للفكر السياسى الإسلامى بأى معنى من معانيه حتى هذه اللحظة. وقد يفسر ذلك تعدد التطبيقات الإسلامية وتنوع الخبرات التى تندرج تحت هذا المفهوم. وقد يفسره أن الفكر الإسلامى لم يكن سياسيا بالدرجة الأولى، وإنما كان فى أصله وبنيانه فكرًا اجتماعيًا، ولكن هذا لايمنع أن الصعوبة قائمة ولا بد أن تواجه.

2- خصائص الخبرة الإسلامية وإدراجها فى إطار النماذج الكبرى فى تاريخ الإنسانية:

ماهى خصائص الخبرة الإسلامية؟ لو حاولنا إدراج هذه الخبرة فى إطار النماذج الكبرى فى تاريخ الإنسانية نستطيع أن نجعلها تتميز بخمسة عناصر لم تعرفها أى خبرة سابقة أو لاحقة لها. الأمر الذى يعطيها طابعا متميزا.

(أولا) الاستمرارية.

(ثانيا) التعدد والتنوع فى التطبيقات.

(ثالثا) الكلية والشمول فى الإطار العام للخبرة.

(رابعا) الإيقاع المختلف فى مراحل الخبرة.

(خامسا) الجمع بين عنصرين لم تجمع بينهما أى خبرة أخرى فى تفاعل مستمر؛ الدين والعقل.

أول ما يميز الخبرة الإسلامية هو عنصر الاستمرارية بمعنى أن الخبرة السياسية منذ بداية الدعوة الإسلامية وحتى هذه اللحظةلم تنقطع، وقد يبدو لأول وهلة أن هذا القول يتضمن شيئا من المبالغة، ولكن الواقع أن التحليل العميق والتفصيلي يؤكد استمرارية عناصر الخبرة الإسلامية، هذه الخبرة فى حقيقة الأمر تتضمن أكثر من دائرة واحدة، فهناك الدائرة الكلية الشكلية، وهى مفهوم الخلافة، وهناك الدائرة الكلية الموضوعية، وهى فكرة الأمة وما يرتبط بها من قناعة جماعية بالانتماء إلى حضارة متميزة، ثم هناك الدائرة الميكروكزمية والتى تدور حول عنصر القيادة من جانب وعنصر سلوك المحكوم من جانب آخر. وإذا تعمقنا في التحليل سنجد أن العنصر الوحيد الذى اختفى كلية هو عنصر الخلافة ولكن الوعى الجماعى بفكرة الأمة ظل سائدًا مع تقلبات من الوعى إلى اللاوعى ثم عودة من اللاوعى إلى الوعى. نفس الأمر بالنسبة لعنصر القيادة والذي فى جوهره لا يزال يعكس مفهوم الزعامة كما عرفتها تقاليد الجماعة الإسلامية، أما سلوك الفرد ورغم جميع الغزوات الحضارية التي تعرض لها فلا يزال ينبض بتراث الدولة العباسية وهى الدولة العالمية؛ حيث بغداد عاصمة العالم، وحيث إرادة خليفة بغداد هى صانعة السلام فى العالم، بل إنها النموذج الوحيد للدولة العالمية فى معناها الحقيقى فى تاريخ الإنسانية؛ كما أنها نموذج للدولة الشعوبية التي تقودنا إلى مفهوم الدولة القومية ولكن بمعنى متميز لم تعرفه سوى الحضارة الإسلامية، إنها نموذج للقومية المتضامنة حيث مبدأ التضامن ينبع من مفهوم الإسلام الذى يربط مختلف الشعوب التى قدر لها أن تشكل أرضًا متماسكة تحت إرادة خليفة واحد وهو الخليفة العباسى.

ثم قامت الدولة العثمانية والتي مثلت استمرارية للدولة العباسية فصهرت الوجود العربى كإرادة سياسية فى مجتمع أكثر اتساعا، ولم تنطلق من مفهوم الاستعمار كما يزعم البعض.

الذى يعنينا أن نذكر به أن هذا التعدد والتنوع يسمح بإثارة مشاكل لم تعرفها أى خبرة سياسية أخرى، منها – على سبيل المثال – مشكلة الرق. فالرق فى المفاهيم الغربية يعنى إهدار حقوق الإنسان، ولكنه فى المفاهيم العربية الإسلامية سوف يشير فى لحظة معينة إلى إعداد المرء ليصير صالحا لممارسة الحكم والسلطة، ولو على مستوى المساندة السياسية. ونظام المماليك ليس إلا تطبيقا واضحا لهذا المفهوم.

هذا التعدد والتنوع يندرج فى إطار للخبرة الإسلامية؛ بمعنى أن هناك عناصر معينة تتماسك حولها جميع تطبيقات هذه الخبرة وهى التى تضفى على هذه الخبرة مذاقا خاصا، ومن ذلك اللغة العربية والتي يشير التمسك بها إلى عنصر الاستمرارية التاريخية.

إن مشكلة العالم العربى المعاصر الأساسية هى عدم قدرته على دمج العناصر الاستمرارية بواقع القرن العشرين، هذه الاستمرارية تبرز واضحة لو قارنا بين الخبرة اليونانية والرومانية من جانب والخبرة الإسلامية من جانب آخر، فقد انتهت روما من حيث الواقع فى القرن الخامس الميلادى، أما النظام السياسى اليونانى فقد اختفى منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وما تعيشه أوربا اليوم وبصفة خاصة إيطاليا واليونان لا صلة له بالتراث التاريخى لأى من هذين المجتمعين.

غير أن الاستمرارية تحوي مظاهر للقوة والضعف فى آن واحد: القوة فى ثبات الوعى الجماعى وفى تماسك وصلابة إرادة الانتماء، والضعف فى الخوف من التجديد وعدم القدرة على التطويع.

الناحية الثانية والتى يتحدد فى ضوئها معنى الاستمرارية هو أن الخبرة الإسلامية تقدم مزيجا من التطبيقات المتعددة والمتنوعة التى تكاد أن تكون متناقضة. وتكشف المتابعة التاريخية عن ستة نماذج واضحة كل منها يملك إطاره المتميز: الدولة القومية فى العصر الأموى، الدولة العالمية فى العصر العباسى الأول، الدول الشعوبية فى العصر العباسى الثانى، النموذج العثمانى ابتداء من فتح مصر فى القرن الخامس عشر، النموذج الإسلامى فى الهند وبصفة خاصة خلال القرن التاسع عشر فى الصراع الإسلامى العنيف ضد الاستعمار البريطانى، ثم النموذج البربرى فى شمال إفريقيا.

كل من هذه النماذج له طابعه المتميز، فالدولة الأموية تمثل نموذجا للمفهوم القومى للوجود السياسى؛ إنها مفهوم العروبة التى تستند إلى عنصر العصبية، وقد أضحت الطبقة العليا الحاكمة طبقة متجانسة تملك أصولها القرشية وتسعى لخلق الدولة الواحدة العنصرية.

ولكن لم يستطع ذلك النموذج أن يمارس عملية الصهر الحضارى فى النطاق اللغوى، وهو عنصر أساسى من عناصر الإدراك، وقد تجلى هذا القصور في ظهور النموذج الفارسى، حيث صار للفكر الشيعى دلالة متميزة ومختلفة ومنطق له طبيعته الخاصة.

لقد تعودنا فى تاريخ المجتمعات الخلافة الكبرى أن نميز بين مراحل ثلاثة: مرحلة التكوين ثم مرحلة الإيناع ثم مرحلة الانهيار والتدهور. تعبر المرحلة الأولى عن مرحلة البناء حيث توضع الأصول الأولى للحضارة، وتتحدد ملامح وأهداف المجتمع، المرحلة الثانية هي مرحلة الازدهار والفيضان حيث الجماعة وقد اكتملت قوتها تنطلق خارج حدودها القومية لتستوعب وتسيطر على شعوب اخرى. هذه المرحلة تبلغ حدا أقصى معين ينبع من القدرات الذاتية، وسرعان ما يعقب ذلك تراجع وانحسار ومن ثم تبدأ عملية انكماش وتقوقع وتخلخل فى الداخل، مؤذنة بمرحلة التدهور وهى خاتمة ذلك التطور حيث تنتهى الحضارة بالتقلص والاختفاء أو بميلاد حضارات جديدة لتعود الدورة وتهدأ مرة اخرى.

فى أغلب الأحيان تكون المسافات متساوية فى هذه المراحل الثلاث. فالحضارة الرومانية على سبيل المثال استغرقت قرابة ثلاثة قرون حتى وصلت إلى اكتمالها. مرحلة الايناع بدورها استغرقت ثلاثة قرون، وأعقبت ذلك مرحلة التدهور التى لم تتعد فى مجموعها ثلاثة قرون. وبصفة عامة نستطيع أن نعتبر حكم قيصر هو بداية الإيناع، وحكم كاراكلا بداية الانهيار.

لو نظرنا إلى الحضارة الإسلامية لوجدنا أنها قد اكتملت مع حكم معاوية، وعندما ترك معاوية السلطة كانت الدولة قد بدأت فى مرحلة الإيناع؛ إنها امبراطورية ودولة قومية متكاملة واضحة من حيث خصائص بنيانها، مقننة من حيث أهدافها السياسية فى النطاق الدولى، وقد بدأت فى الانهيار عقب نهاية العصر العباسى الأول وعلى الأكثر فى بداية القرن الرابع الهجرى. وهذا يعنى أن عصر التكوين استغرق أقل من نصف قرن وأن هنالك توازن بين عصر الإيناع وعصر الانهيار الذى انتهى بدخول هولاكو بغداد وقتل الخليفة العباسى.

هذا الايقاع المختلف لابد وأن يطرح تساؤلات: كيف تم بناء تلك الدولة بتلك السرعة حتى أنها خرجت من الصحراء القاحلة لتضع حدا لأعظم إمبراطوريات العالم القديم ولتقضى على إمبراطوريتي الفرس والروم وتغزو شمال إفريقيا وتصل للمحيط الأطلسى فى قرابة خمسين عاما؟ سؤال لم يستطع أحد أن يقدم إجابة مقنعة وشافية له حتى اليوم.

يأتى عنصر آخر ويكمل هذا الإطار المتميز للخبرة الإسلامية وهو الجمع بين الدين والعقل فى تفاعل مستمر.

لا يمكن وصف الخبرة الإسلامية بأنها قائمة على الدين فقط، فالقرآن وممارسات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفرضا أى نظام سياسى ولم يضعا أى قواعد ملزمة تقيد من إرادة البشر فى اكتشاف نظامهم السياسى، وتركا الجماعة والفقيه بعقله ومنطقه يؤصلا أحكام الوجود السياسى. ورغم أن الدين أداته العقل والمنطق إلا أن القرآن والسنة تركا مجموعة من المبادئ والقيم واجبة الاحترام والتقديس فى كل مكان وزمان، وهكذا جاءت هذه الخبرة نسيج متكامل من الإرادة الإلهية والقدرة البشرية، من التوجيه المنـزّل والعقل المفكّر.

ولو قارنا الخبرة الإسلامية بالخبرات الأخرى لما وجدنا هذا التوازن فيها، فإما أن يطغى الدين على العقل فيحيل الإرادة البشرية إلى متغير تابع، وإما أن يطغى العقل على التعاليم الإلهية فينتهى بفصل الدين عن الدولة باسم العلمانية وما فى حكمها.

هذه الخصائص تعطى للخبرة الإسلامية مذاقا متميزا كنموذج للواقع السياسى، والواقع اننا استخدمنا هذا النموذج فى تحليلاتنا السياسية واستطعنا من خلاله —فى تنظيرنا لأكثر من متغير واحد من متغيرات الوجود السياسى— أن نقدم إسهامات ما كنا نستطيع أن نصل اليها إلا عن طريق الخبرة الإسلامية. ولنذكر أهم تلك الإنجازات:

3- الخبرة الإسلامية وعملية التنظير السياسى:

نستطيع على وجه التحديد أن نحيل لثمانية نواحى كل منها قادرة على أن تجد فى النموذج الإسلامى للممارسة السياسية الكثير من عناصر التحليل والإبداع التى هى جديرة بأن تكون موضع تعميق وتأصيل:

أولاً: نظرية وظائف الدولة.

ثانيا: نظرية الدولة الاتصالية.

ثالثا: التمييز بين الدعاية والدعوة فى تقاليد التعامل النفسى.

رابعا: نظرية الدولة العالمية.

خامسا: تأصيل مفهوم الأمة كمحور للبناء السياسى للدولة الإقليمية.

سادسا: نموذج التنمية القومية.

سابعا: مفهوم النظام الدولى الجديد.

ثامنا: وظيفة العلماء فى المجتمع المتقدم.

سوف نعرض لهذه النواحى الثمانية فى عجالة سريعة لنبرز موضع الخبرة الإسلامية من بنائنا لعملية التنظير السياسى.

نظرية وظائف الدولة:

أول هذه النواحى وأكثرها أهمية نظرية وظائف الدولة، فمن المعلوم أن الفكر التقليدى يقوم على أساس التمييز بين الوظائف التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومن المعلوم أن هذا التمييز ترجع جذوره إلى الفكر الفرنسى اللاحق للثورة والذى ساد القرن التاسع عشر ولم يعد يجد قبولاً (وبصفة خاصة من الفكر الألمانى)، وأن المحاولات بخصوص تقديم بديل لهذا الفكر التقليدى عديدة ولكنها غير موفقة.

المحاولة التى قدمناها فى مؤلفاتنا عن نظرية القيم، والتى نشرت فى أول صياغة لها فى أوائل الستينيات (من القرن العشرين) فى المجلة القومية للعلوم الاجتماعية فى مصر، تنطلق من نظرية وظائف الدولة كما صاغتها تقاليد الخبرة الإسلامية، والتى تدور حول أن الدولة حارسة للقيم، وإذ إننا فى نظرية القيم ميّزنا بين القيم الجماعية والقيم الفردية، وجعلنا القيم الفردية تنبع من مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة، فقد كان من الطبيعى أن نشكل بهذا المعنى نظرية وظائف الدولة، وقد ميّزنا بين الوظيفة الأصيلة والوظيفة التابعة. تشير الأولى إلى الوظائف التوزيعية والتطويرية والاتصالية، وتشير الثانية إلى الوظيفة الجزائية(2). وتصب في الوظيفة التوزيعية مفاهيم العدالة والمساواة، فيما تتعلق الوظيفة التطويرية بمبدأ الحرية والتعامل مع الواقع الاجتماعى.

نظرية الدولة الاتصالية:

نظرية الدولة الاتصالية هى جزئية فى نظرية وظائف الدولة وأساسها أن مفهوم الدولة الحارسة التقليدى لم يعد له موضع، وأن الفكر السياسى الذى ساد تقاليد العالم الغربى والذى فرّغ الدولة من كل مفهوم حركى باسم الشخصية المعنوية لم يعد له موضع. الدولة حقيقة حية وهى تعايش الفرد فى كل تنقلاته وتحركاته، إنها أداة ثابتة تخلق الرابطة الدائمة بين الماضى والحاضر والمستقبل من خلال العملية الاتصالية.

إن العملية الاتصالية ليست قاصرة على علاقة الحاكم بالمحكوم، وإنما تتعدى ذلك إلى علاقة الدولة بالمجتمعات الأخرى الخارجية. وهنا يبرز مفهوم الجهاد كأحد عناصر السياسة القومية فى التراث الإسلامى.

نظرية الدولة الاتصالية التى تسمح لنا بفهم الواقع المعاصر ما كنا نستطيع صياغتها لولا الخبرة الإسلامية وبصفة خاصة لولا ذلك النموذج الذي صاغته الدولة الأموية.

الدعاية والدعوة:

التمييز بين الدعاية والدعوة والذي يرتبط بدوره بنظرية الدولة الاتصالية، قادتنا إليه خبرة الحركة الصهيونية، فتحليل تاريخ الدعاية الصهيونية —وبصفة خاصة عقب بداية الحرب العالمية الثانية— أبرز لنا كيف أن تلك الحركة الصهيونية قامت على أساس التمييز بين الدعاية والدعوة، فالدعاية وجهت إلى غير اليهودى لإقناعه بعدالة القضية اليهودية، أما الدعوة فوجهت إلى اليهودى لإقناعه بضرورة الانتماء للحركة الصهيونية بما فى ذلك العودة إلى فلسطين من أجل إنشاء الدولة الجديدة.

هذا التمييز توصلت إليه الحركة الصهيونية بفضل تحليل الخبرة الإسلامية وبصفة خاصة الدعوة العباسية والدعوة الفاطمية، الدعاية تقوم على الكذب او التلاعب بالنفسية البشرية، أما الدعوة فهى تقوم على أساس تعميق الإيمان وخلق الترابط بين الشخصية والممارسة. هذا التمييز جديد فى تاريخ التعامل النفسى فى العالم الغربى، حتى إن كلمة “الدعوة” لا تجد لها مرادفا مباشرا بأى لغة أوربية، ولابد من أن نستخدم كلمة مركبة للتعبير عنها مثل كلمة “نشر الإيمان”.

نظرية الدولة العالمية:

إن تحليل الدولة العالمية لا يزال ينقصه الكثير من التأصيل النظرى والبنيان الفكرى، ولا نجد له إنجازات واضحة إلا فى الفقه الكاثوليكى الذى يعود للعصور الوسطى، بل وحتى فى ذلك الفقه كانت تستخدم كلمات تعكس نسبية معينة ككلمة (الملكية العالمية).

الدولة العباسية فترة حكم هارون الرشيد، ورغم أنها لا تزال بحاجة إلى الكثير من التحليلات العميقة، تطرح لنا مفهوما واضحا وتطبيقا صريحا لمفهوم الدولة العالمية في الخبرة الإسلامية. إن متابعة هذا النموذج فى الفقه السياسى الكنسى، وبصفة خاصة فى فترة العصور الوسطى أثناء الحروب الصليبية، يفتح بابا واسعا لتحليل قنوات الاتصال بين الممارسة الإسلامية والفكر السياسى الغربى، بما فى ذلك الحروب الصليبية نفسها بوصفها إحدى هذه القنوات. وقد تناولنا هذه الناحية فى تقديمنا لمؤلف شهاب الدين ابن أبى الربيع، ولكن ما قدمناه لا يزال فى حاجة إلى كثير من الإضافات.

تأصيل مفهوم الأمة:

إن مفهوم الدولة القومية يقوم على أساس الترابط بين المجتمع والإقليم والإرادة. فالمجتمع القومى مجتمع واحد متجانس عنصريا، لغته واحدة، وأصله واحد، وخبرته التاريخية واحدة، تجمعه إرادة التعايش المشتركة فى إقليم ينتمى إلى ذلك المجتمع ويوصف بأنه الإقليم القومى. فى أعقاب الحرب العالمية الثانية بدأ يبرز مفهوم جديد للمجتمع القومى حيث الوحدة القومية لا تعكس الأصل الواحد أو اللغة الواحدة فقط وإنما الحضارة الواحدة، كما أصبح الانتماء إلى إقليم متميز يعبر عن تكامل اقتصادى معين. بهذا المعنى بدأ الحديث عما يسمى الدولة الاقليم، أى الدولة التى ينبع تكاملها من مجموعة متغيرات؛ أولها الوحدة الحضارية وثانيها الانتماء الإقليمى وثالثها التكامل الاقتصادى. بهذا المعنى نستطيع اليوم الحديث عن الاتحاد السوفيتى أو الولايات المتحدة الأمريكية كدول قومية. نفس الأمر ينطبق على منطقة غرب أوروبا فى سعيها لخلق الوحدة الأوربية.

ولكن الأمر الذى لا شك فيه أن هذا الإطار الفكرى يتضمن نوعا من التناقض: إذ كيف نصف دولة بأنها “دولة قومية” وهى تتضمن العديد من القوميات؟ الخبرة الإسلامية تسعفنا، لأن تأصيل مفهوم الأمة كمحور للبناء السياسى لمجتمع الإقليم القومى يسمح بتخطي هذا التناقض، فالأمة لا تفترض الوحدة العنصرية ولكنها تفترض وحدة الإدراك والحضارة واللغة. وهكذا فإن الخبرة الإسلامية تسمح لنا ببناء إطار فكرى لما تعود الفكر السياسي أن يسميه بالدولة الإقليم أو الدولة الإقليمية.

نموذج التنمية القومية:

يقدم المجتمع الإسلامى فى فترة ازدهاره نموذجا متميزا للتنمية. إن المتابعة التاريخية لنماذج التنمية فى العالم الغربي تفصح عن حقيقة مزدوجة: التنمية يغلب عليها الطابع الاقتصادى أولاً، وثانيًا أنها قد ارتبطت بفئة معينة قادت العملية الإنمائية، هذه الفئة هى الطبقة الصناعية الجديدة فى بريطانيا وهى ملاك الأراضى الزراعية، أى الارستقراطية، فى ألمانيا، وهى رجال المهن الحرة فى فرنسا، وهى القيادة الحزبية فى الاتحاد السوفيتى، ولكن الواقع الإسلامى يطرح لنا نموذجا مختلفا حيث المتغير الاقتصادى ليس هو المتغير الأساسى وحيث العملية الإنمائية يقودها المجتمع بجميع عناصره. ولذا وصفنا النموذج الإسلامى بأنه نموذج التنمية القومية الشاملة.

إن المجتمع الإسلامى عقب وفاة الرسول وابتداء من عصر عمر بن الخطاب قبل بأجمعه التحدى وسعى لاحتواء جميع المجتمعات المحيطة به، ولم يجعل هدفه الأساسى فى هذا السعى مجرد اكتساب الثروة وإنما تحقيق الرسالة التى وضعت فى عنقه. وهكذا خلال ثلاثين إلى أربعين عاما استطاع أن ينتقل من الحالة الفطرية البدائية إلى حالة التوسع والسيادة والتحكم فى المصير الإنسانى. هذه الناحية طرحناها بتفصيل كامل فى ندوة “الظاهرة الإنمائية فى العالم العربى” التى عقدت فى بغداد عام 1984.

مفهوم النظام الدولي الجديد:

من المعروف أن العالم المعاصر يعانى أزمة حقيقية حيث النظام الدولى السائد لا يتجانس مع حقيقة الأوضاع التى تعيشها الأسرة الدولية.

إن الحديث عن “نظام دولى جديد” هو حديث قديم ومتداول. وقد طرح فى أكثر من بعد؛ نظام دولى اقتصادى جديد، نظام دولى إعلامى جديد، إلا أن نقطة البداية الحقيقية هى أن العالم المعاصر يعيش واقعا يختلف عن المبادئ المعلنة؛ أول هذه المبادىء مبدأ المساواة بين الدول، إذ كيف تتساوى دولة كالولايات المتحدة ودولة كمالطا؟ وكيف يمكن القول أن دولة كجيبوتى تملك نفس الحقوق التى تملكها دولة كالاتحاد السوفيتى؟ من جانب آخر فإن العالم المعاصر يعرف صراعا أيديولوجيا انتهى بتقسيم العالم إلى معسكرين لكل منهما قناعاته الفكرية، وأساليبه لاحتواء الطرف الآخر.

فى هذا الإطار المعقد يصير التساؤل مشروعا: هل يستطيع الإسلام أن يقدم جديدا؛ أقل مستوياته أن يخلق إطارا تلتف حوله دول عدم الانحياز، وأعلاها أن يصل إلى التأثير وتشكيل مفهوم النظام الدولى الجديد. واقع الأمر أن تفعيل هذه الآمال والآمانى لا يزال بعيدا، وقد ناقشنا ذلك فى مؤلفنا عن “الإسلام والقوى الدولية”.

وظيفة العلماء فى المجتمع:

الواقع أن هذه الوظيفة ليست فى حاجة لتقديم النماذج من المجتمعات الغربية ذات التقاليد الواضحة فى هذا الخصوص. بل إن هذه التقاليد أضحت أمرًا مسلمًا به فى المجتمعات الشيوعية أيضا. أما من هو في أمس الحاجة إلى التأكيد على هذه الوظيفة فهو العالم العربى المتخلف. وهذه الوظيفة ترتبط بكل من البعدين التنظيرى والتطبيقى لوظيفة التراث الإسلامى فى التحليل السياسى.

4- الخبرة الإسلامية وتحليل الواقع العربى المعاصر:

الملاحظة الأخيرة التى يثيرها البحث فى علاقة التراث الإسلامى بالفكر السياسى المعاصر تدور حول إمكانية العودة إلى ذلك التراث لاستلهام نواحى الخبرة المرتبطة بحل مشاكل الواقع الذى تعيشه الجماعة العربية المعاصرة.

مما لا شك فيه أن طرح الموضوع بهذه البساطة لابد أن يثير كثيرا من التساؤلات والصعوبات المنهاجية والتطبيقية، أول هذه الصعوبات مردها خصائص الفكر الإسلامى، الصعوبة الثانية ترتبط بمنهاجية التعامل مع التراث من هذا المنطلق. الصعوبة الثالثة تنبع من حقيقة التطور الفكرى المرتبط بخلق التقارب بين الممارسة العربية الإسلامية القديمة والممارسات العربية والشعوبية المعاصرة. هناك ناحية واحدة ليست فى حاجة إلى مناقشة وهى تلك المتعلقة باكتشاف الذات، ما يعود بنا إلى ما أثرناه فى مقدمة هذه الدراسة بخصوص الفكر السياسى الإسلامى كمقدمة للفكر القومى. فاكتشاف الذات مسالكه متعددة ولكن أهم هذه المسالك يدور حول البحث السلوكي التاريخى عن تكرارية ردود الفعل.

لقد تعود الفقه أن يصف ذلك بأنه منطلق لفهم الطابع القومى من أصوله التاريخية، والواقع أن هذا الفهم ينطلق من افتراض واضح: حين تتحد المتغيرات أو تكاد لابد أن تتحد النتائج وتتطابق أو على الأقل تتشابه وتتقارب.

فى إطار الطابع القومى، هناك وحدة عنصرية ثابتة ومتغيرات جغرافية وجيوبوليتكية وثقافية ثابتة ولا تحتمل التغير إلا فى عنصر واحد هو مستوى التطور الحضارى، ومن ثم فإن الدلالة لابد وأن تملك وزنها النسبى على الأقل.

وهكذا فإن دراسة الخصائص السلوكية فى التاريخ العربى الإسلامى تسمح بفهم للطابع القومى العربى، بل إن متابعة هذه الناحية بعمق معين —فى بعدها اللغوى ومن خلال المقارنة— لابد وأن تزيد من تأكيد النتائج: كيف تفسر أن مجتمعات أقبلت على الحضارة العربية مفهوما ولغة فإذا بها تقطع كل صلة بتاريخها السابق أو تكاد كما حدث فى العراق وسوريا ومصر، بينما مجتمعات أخرى لم تخضع لعملية الاستيعاب اللغوى إلا خلال فترة محدودة لتعود فتنفض عنها ذلك الإطار الشكلى وتستعيد ماضيها السابق على التلاحم الإسلامى العربى كما حدث فى جميع أجزاء ما وراء النهرين ابتداء من أرض فارس؟

أول هذه الصعوبات ترتبط بخصائص الفكر السياسى الإسلامى، فهو فكر تابع، لا يمثل أى استقلالية، لأنه فى حقيقة الأمر يندمج فى إطار أكثر اتساعا وهو الإطار الاجتماعى، ولكنه فكر كفاحى يفرض على الذات مفهوم الجهاد، وينطلق من نظام متكامل للقيم ذات الدلالة الدينية، كذلك هو فكر شمولى لا يفرق فى التعامل بين الداخل والخارج ولا يعرف مفهوم التخصيص القومى، إنه فكر عالمى. على إن أخطر ما يميز الفكر السياسى الإسلامى بهذا الخصوص هو أنه لم يتكامل ويكتمل على يد أعلام الفكر الإسلامي إلا فى مرحلة متاخرة، بحيث يمكن القول بأنه قبل القرن الرابع الهجرى لم يكن ثمة مجال للحديث عن تلك الشوامخ المتألقة التى تعودنا أن نقف إزاءها ونحن بمعرض الحديث عن التراث السياسى الإسلامى. وهنا تكمن أول ملاحظة بتعين على المحلل السياسى المعاصر أن يدخلها فى اعتباره، ألا وهي أن الفكر الإسلامى العربى بمعنى التراث ليس محصورا في إنتاج هؤلاء الأعلام فقط بل إن البحث فى إنتاجهم عن حلول للمشاكل المعاصرة لن يسعفنا ولن يقدم شيئا، خاصة وأن هؤلاء الأعلام قد تجردوا من واقعهم وعصرهم وارتفعوا عن مستوى النسبية وصاغوا تراثا عاما، وإلا فأين الفارابى من مشكلة الشعوبية؟ وأين ابن سينا من مشكلة انهيار الدولة الإسلامية؟ وأين ابن رشد من ظاهرة الصراع الحضارى فى الأندلس؟ وأين الغزالى من ظاهرة الحروب الصليبية؟ وأين ابن خلدون من مشكلة التفتت القومى فى المجتمع العربى والتجزئة فى الجسد السياسى؟

والواقع أننا نستطيع أن نجد فكرًا سياسيا قابلاً للصياغة النظرية قبل أن يظهر إنتاج هؤلاء الأعلام وابتداء من فترة الرسول صلى الله عليه وسلم ذاته، وذلك بشرط أن نقبل تعريف “الفكر” على أنه الإدراك بأوسع معانيه، حينها سنجد أن للإدراك السياسى فى التاريخ العربى الإسلامى مصادر متعددة: منها كتب الحكمة، الرسائل، الخطب، الوصايا. فهذه هى المصادر التى يجب أن نستقى منها مفاهيم الفكر السياسى الإسلامى كمصادر لمناقشة وحل المشاكل.

المبادئ الحاكمة للفكر السياسي الإسلامى:

الواقع أن إحدى الخصائص المميزة للتراث الإسلامى هو أن تعامله مع المشاكل والمواقف إنما كان ينبع دائما من مبادئ معينة يصوغها على ضوء التعاليم المنـزلة، وبما يتفق مع الواقع الإسلامى، ثم من خلال تلك الأقلمة والتوفيق يتولى عملية اكتشاف الحلول، إنه منطق الفقه المتماسك الذى يجعل أساس بنائه وتصوره هو الانطلاق من نظام القيم القرآنية. أيضا فى التعامل مع المشاكل السياسية لم ينحرف الفكر السياسى الإسلامى عن هذه المنهاجية.

ويمكن القول بصفة عامة بأن أربعة مبادئ اساسية سيطرت على التأصيل الفكرى الإسلامى لحل المشاكل السياسية: مبدأ التضامن ثم مبدأ الاجتهاد وإعمال العقل، ويكمل ذلك مبدأ استقبال الخبرات الأجنبية وتطويعها ويسود البنيان بأجمعه مبدأ المبادرة الفكرية.

مبدأ التضامن يستمد مصادره من الواقع السابق على الدعوة الإسلامية، القرآن ذكره صراحة وضمنا: (وما كان الناس إلا أمة واحدة). أما الممارسة فقد سجلت هذا المبدأ فى جميع المواقف، وبصفة خاصة خلال فترة الحكم الأموى،

مبدأ الاجتهاد وأعمال العقل دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وحثت عليه جميع التقاليد وانطلقت منه المدارس الفقهية، وكان لابد وأن يؤثر فى الإدراك السياسى.

مبدأ الاستقبال والتطويع ينبع من طبيعة الدعوة الإسلامية، فهى لا تلغى ما سبقها، بل إن القرآن ملئ بالقصص الذى يتضمن الكثير من العبر الخاصة بالتاريخ السابق على الدعوة. كما عرف الفقه وقبل شرعية ما أسماه “شرع من قبلنا” كأحد مصادر التشريع واستخلاص الأحكام.

المشكلة الثانية وتتعلق بموضوع المنهاجية، إن كل فكر يملك منهاجيته، كذلك كل واقع سياسى له خصائصه، وكل مشكلة لها منطقها. تحليل التراث السياسى الإسلامى بالمعنى السابق ذكره يجب أن يفترض المتابعة التاريخية ليس من منطلق الانتقال من الماضى نحو الحاضر ولكن على أساس الارتفاع من الحاضر نحو الماضى.

وبعبارة أخرى نحن نتصور منهاجية تقوم على أربعة مراحل متميزة، المرحلة الأولى بناء نموذج للواقع المعاصر بمعنى تقنين المتغيرات الأساسية للمشكلة السياسية فى المجتمع العربى الذى نعيشه في الواقع المعاصر، وعقب بناء هذا النموذج نصعد تاريخيا من الحاضر إلى الماضى حتى نجد النماذج الأخرى المشابهة لذلك الواقع، وإذ نجد تلك النماذج المشابهة نتولى معالجة كل منها بنفس المنهاجية التى اتبعت فى تقنين الواقع المعاصر، وقد أضفنا فى المخرجات الحلول التى تقدمها الخبرة التاريخية. فى مرحلة رابعة ننتقل إلى الخبرات الأخرى غير الإسلامية نبحث عن نماذج أخرى مشابهة أو مرادفة. هذه الحصيلة هى المقدمة للإجابة عن التساؤل: ما مدى صلاحية حل معين لتطبيقه فى الواقع المعاصر؟

لو عدنا إلى المشكلة السياسية فى المجتمع العربى الإسلامى وتساءلنا على ضوء النموذج الأكثر تداولا -وهو الذى يبدأ بالدعوة الإسلامية وينتهى مع نهاية العصر العباسى الأول- لوجدنا أن عناصر المشكلة السياسية فى ذلك المجتمع تدور حول أربعة عناصر: أولها مشكلة بناء الدولة، برزت واضحة مع أربعة خلفاء: عمر بن الخطاب ثم معاوية وأكملها عمر بن عبدالعزيز وسمح لها بالانتقال إلى المفهوم العالمى هارون الرشيد. ثم مشكلة خلق المجتمع السائد والمسيطر، وقد فرضت وجودها على الدولة الأموية بمعنى العصبية وعلى الدولة العباسية بمعنى الشعوبية. ثم مشكلة تنظيم العلاقة بين القيادة العربية والشعوب المنطوية تحت الإسلام، وقد فشل الفكر الإسلامى فى وضع قواعد واضحة وصريحة للتعامل معها، وأخيرا مشكلة التعامل مع الشعوب التى لم تنصهر بعد فى بوتقة الإسلام.

المبدأ الرابع وهو جوهر الفكر الإسلامى يقوم على المبادرة الفكرية بالخلق والإبداع التى أساسها الشجاعة المعنوية وعدم الخوف من إبداء الرأى. حرية الرأى على المستوى الفردى ظلت مكفولة وتمثل القاعدة الأساسية حتى زمن الخليفة المتوكل. ورغم أن العصر العباسى الأول عرف فى مرحلة معينة الإرهاب الفكرى بصدد مشكلة خلق القرآن، إلا أن حق المواطن كفرد —وليس كجماعة— فى أن يناقش أى رأى كان دائما مكفولا، والدعوة إلى الاجتهاد حتى فى حالة الخطأ حثت عليها التقاليد فى جميع مراحل الدولة.

هل هذا الإطار التاريخى وهذا النموذج الأولي للواقع الإسلامى يسمح بتقديم حلول من منطلق تلك الخبرة لمواجهة مشكلة الواقع الذى يعيشه المجتمع العربى فى نهاية القرن العشرين؟ مما لا شك فيه أن الفكر السياسى العربى المعاصر لم يؤد وظيفته، وقد أثبت خلال نصف قرن من الفشل المتتالى عدم القدرة على التجديد، وقد تعرضنا لهذه النواحى فى مواضع أخرى، وأبرزنا كيف أن الفكر العربى خلال نصف القرن الماضى تميز بأربعة خصائص جعلته يتحمل بدرجة معينة مسئولية التدهور الذى لا تزال تعيشه الأمة العربية، فهو أولا مقلد وغير أصيل، وهو ثانيا مبالغ برفض الاعتدال، وهو ثالثا عبد للسلطة يجرى ورائها ولا يقودها، وهو رابعا غير حساس لمشاكل مجتمعه. والسؤال الذى نطرحه هو: كيف تستطيع الخبرة الإسلامية أن تساهم فى وضع حد لهذه النقائص؟

لا نريد أن نكرر حقيقة التحديات التى يتعين على الإرادة العربية أن تواجهها لتتخطى حالة التمزق التى تعيشها الأمة العربية، فقد حللناها فى موضع آخر، ولكن الذى يعنينا بصفة خاصة أن نبرز كيف أن النموذج العربى الإسلامى التاريخى قادر على أن يقدم بعض معالم الخبرة الصالحة لفهم الواقع العربى المعاصر.

ما هى مشاكل المجتمع العربى المعاصر؟

عديدة هي المشاكل ولكنها تتبلور حول مشكلتين أساسيتين: بناء الدولة الواحدة الموحدة من جانب ووضع حد لحالة التمزق القومى من جانب آخر.

الأولى تندرج تحتها مشاكل الإصلاح والوحدة والتنمية والقيادة، والثانية تقودنا إلى مشكلة الصراع العربى الإسرائيلى، هل هذا الواقع يختلف عن واقع العالم الإسلامى خلال العصر الأموى؟ ألم يكن الصراع التاريخى وهو يواجه من جانب عملية بناء الدولة الجديدة، ومن جانب آخر مشكلة تنظيم العلاقة بين القيادة العربية والشعوب المنطوية تحت لواء الإسلام؟ وهل لا يمكن النظر إلى مشكلة الصراع العربى الإسرائيلى على أنها بدورها مشكلة تنظيم علاقة بين قيادة عربية وشعب يجب أن ينطوى تحت لواء تلك القيادة لينصهر فى إرادة المنطقة بحيث يختفى طابعه الصهيونى وينتهى به إلى أن يكون إحدى الأقليات المتواجدة فى هذا العالم العربى؟ أليس هذا أحد الحلول القابلة لأن تطرح للمناقشة ولو مرحليا وعلى ضوء تلك الخبرة التاريخية؟

أسئلة كثيرة كل منها فى حاجة إلى دراسة منفصلة.

* * *

 

المصـادر

(*) قدم البحث باسم معهد البحوث والدراسات العربية فى ندوة تدريس العلوم السياسية بالوطن العربى المنعقدة بلارنكا من 4/8 فبراير – 1985.

(**) أستاذ النظرية السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة، ورئيس الدراسات القومية بمعهد البحوث والدراسات العربية – ببغداد. www.facebook.com/7amedrabi3

(1) حامد ربيع، سلوك الممالك فى تدبير الممالك، جزء أول، 1980، جزء ثانى، 1983 (مطابع الشعب).

(2) حامد ربيع، نظرية القيم، محاضرات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، مكتبة القاهرة الحديثة، 1975.

(3) حامد ربيع، الإسلام والقوى الدولية، دار الموقف العربى، 1981.

(4) حامد ربيع، الدعاية الصهيونية، معهد الدراسات والبحوث العربية، القاهرة، 1975.

(5) حامد ربيع، التجديد الفكرى للتراث الإسلامى وعملية إحياء الوعى القومى، دار الجليل، دمشق 1982.

(6) حامد ربيع، الفكر السياسى وموقعه من أزمة المجتمع العربى، فى هجرة العقول، معهد الدراسات والبحوث العربية، بغداد تحت الطبع.

(7) حامد ربيع، التطور الاجتماعى فى الوطن العربى: بين رصد الماضى وتحديات المستقبل، تقرير اليونسكو،1983

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر