أبحاثملفات

الفكرة الإسلامية عند المسيري وآفاق قبولها عند الإسلاميين

Characteristics of Modernization in the Contemporary Islamic Thought : Bin Nabi & Al-Messeiri. العدد 129

تبدو الفكرة الإسلامية عند المسيري في الظل، فهي تأتي في سياق حديثه عن قضايا أخرى يمكن أن نستشفها منها، ويرجع ذلك في الواقع إلى أن المسيري يرى نفسه متخصصاً في الأدب وعلم الاجتماع، وعلم اجتماع المعرفة خاصة، الذي يهتم بدراسة النماذج الإدراكية والتفسيرية لواقع الحضارة الغربية والإسلامية، وهذا التخصص يجعله يحاذر من الخوض مباشرة في الحديث عن الفكرة الإسلامية، وربما لأن المسيري ظل بعيداً عن الحركة الإسلامية في مصر فهو لم يكن من بين أعضائها، ومن ثم فالفكرة الإسلامية لم تكن منطلقه الرئيسي وإنما هي جاءت في سياق ما يمكن أن نطلق عليه الجدل مع الذات والجدل مع الأفكار والنماذج التفسيرية، والجدل مع العصر والعالم ووقائعه، وذلك كله في سياق تأملات مفكر ينتمي بامتياز للإنسان وللإنسانية، ويمكننا القول أن انحياز المسيري للإنسان ولحريته وكرامته كان الجسر الذي عبر به إلى الإيمان بالنموذج الإسلامي الإيماني وحرره من ضيق المادية إلى رحابة الإيمان والإسلام.

والمسيري ابن التاجر الثري في مدينة دمنهور، والذي ينتمي إلى الطبقة الغنية المثقفة، صار لديه عقل نقدي يريد أن يقتنع ويريد أن يتعلم ويعرف، وهو ما قاده إلى الشيوعية حين ذهب إلى جامعة الاسكندرية، حيث وجد إجابات عن أسئلته لدي الشيوعيين بينما عجز عن ذلك رجال الدين أو الحركة الإسلامية التقليدية كالإخوان المسلمين، خاصة وأنه هو نفسه كان من الإخوان وقرأ فقه السنة وطالع بعض الأدبيات وشارك في الفعاليات الإخوانية، ولكن ذهابه إلى أمريكا ليدرس الدكتوراه هناك في الجامعة جعله يراجع النموذج الأمريكي المادي ويكتشف أنه نموذج ضد الإنسان ويؤدي إلى العدمية والحلولية التي تغيب معها المعايير والمسافات وتتلاشي الحدود بين اللاهوت والناسوت.

وفي سياق نقده للعلمانية والحلولية والنموذج المادي آمن بأهمية الإيمان والدين في حياة الإنسان، أي أن الفكرة الإسلامية عند المسيري جاءت عبر اختبار ومعاناة وعن طريق ما يمكن أن نسميه “التفلسف”، وهكذا يبدو لي المسيري وكأنه يعيد بعض نماذج الفلاسفة القدامي مثل “أبو حامد الغزالي” قبل أن يغادر الفلسفة إلى “إحياء علوم الدين”.

ولكنه مع تصاعد الإحياء الإسلامي وتراجع مقولات النموذج المادي الغربي وطرح نماذج معرفية بديلة، يقترب المسيري من الحديث بشكل مباشر عن الفكرة الإسلامية بحيث يفرد لها حيزاً مما يكتب أو يفكر ولكنها لا تزال بحاجة إلى أن يفرد لها المساحة التي تستحق من اهتمامه، وربما لو حاول المسيري أن يجد تخصصاً في العلوم التقليدية الإسلامية كالتفسير مثلا أو علم الكلام أو العقيدة ليطالعه ويقدم، من خلال رؤيته المتمكنة للعلوم الغربية، تفسيراً عصرياً من منظور علم اجتماع المعرفة، لكان ذلك استكمالاً لمسيرة مستحقة وهي خوض المسيري للعلوم الإسلامية بقدر ماتستحق منه وبقدر ما يمكنه أن يضيف إليها.

ويعد انضمام المسيري لحزب الوسط الجديد، الذي أسسه مجموعة من الإسلاميين الحركيين الذين كانوا ينتمون من قبل للإخوان، دليلاً علي أن المسيري يرى لنفسه أنه لا ينبغي له أن يكتفي فقط بالعلوم النظرية وإنما عليه أن يخوض غمار الممارسة الحركية، ومن ثم يأتي التساؤل عن قبول الفكرة الإسلامية عند المسيري لدي أبناء الحركة الإسلامية عبر خطاب إسلامي جديد يتجاوز الخطاب الإسلامي التقليدي، ففي النهاية وكما يقول المسيري نفسه” لا بد للمفكر من الممارسة والحركة”، فهل حزب الوسط وانضمام المسيري إليه يمكن أن يكون واسطة للانتقال بالحركة الإسلامية إلى نموذج إدراكي جديد، بحيث ينتقل فعل المسيري من “مخاطبة النموذج الإدراكي الغربي” ونقده وتفكيكه إلى “النموذج الإنساني الإيماني” إلى نموذج جديد للإدراك والتفكير لأبناء الحركة الإسلامية وأجيالها في المستقبل، وهم في التحليل النهائي الوعاء الحاضن للأفكار الذي يضمن لها انتقالها وحياتها واستمرارها من مجرد رؤى أكاديمية إلى رؤى حية حركية لها القدرة علي التوجيه والتأثير في المستقبل.

أولا: من المادية إلى الإيمان عبر الإنسان

يقول المسيري “حين أتأمل حياتي ككل أجد أن أهم ما فيها هو اكتشافي أن الحياة الإنسانية مركبة ومفعمة بالأسرار والثنائيات والتنوع وليست بسيطة أو سطحية أو أحادية، وأن الإنسان كائن فريد في العالم الطبيعي/ المادي ( جسد من طين ونفخة من روح الله)، ولعل رفض الواحدية وإدراك ثنائية الإنسان والطبيعة/ المادة هو مدخلي لفهم العالم من حولي ولفهم الآخرين ولفهم ذاتي، كما أرفض تقديس كل ماهو غير إنساني فأرفض عبادة الطبيعة أو التكنولجيا أو العقل أو العاطفة أو المثالية الخالصة أو الروحية الخالصة، فهذه كلها مكونات متكاملة متناقضة وأن الإنسان هذا الكائن الفريد يقع في نقطة تلاقي بين كل هذه العناصر، هو يضع كل ذلك في سياق فهمه لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر: 28، 29).

وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص: 77)، فأن لا أنكر الدنيا وضرورة فهمها والتمتع بها فهي المجال الذي يحقق الإنسان فيها حريته ويحقق إمكاناته، وأحاول قدر استطاعتي أن لا تستوعبني الدنيا تماماً ولا أذوب في اللذة الاستهلاكية فهما يدمران حدود الإنسان، ومحاولة تصور بناء الفردوس في الأرض ينقلب الأمر إلى جحيم لأن الإنسان كائن مركب لا يمكنه أن يعيش إلا داخل حياة مركبة لا هي بالمادية ولا الدنيوية ولا بالروحية الآخروية.

وعن مشروعه يقول المسيري: “إن مشروعي له بعد إنساني عام اكتسب التوجه الرباني بعد انتقالى إلى رحابة الإيمان، وقد تبدى هذا التوجه في كل مراحل مشروعي الحضاري الفكري سواء حين كتبت عن الصهيونية أو عن الأدب أو قصص الأطفال أو حتي غيرت معمار منـزلي وأثاثه”.

وفي سيرته الذاتيه يصف المسيري كيف تآكل النموذج المادي في فكره لحساب النموذج الإنساني عبر الحكمة “من عرف نفسه عرف ربه” وينتهي إلى القول “خلاصة الأمر أنني اكتشفت الدين كنموذج معرفي متكامل وليس مجرد جزء له أهميته في حد ذاته، وأدركت أن المكون الديني ليس مجرد قشرة وإنما هو من جذور الكيان والهوية، كما بدأت أشعر أن الدين ذو فعالية في الواقع المادي الذي نحياه وليس جزءاً مغلقاً من عالم الغيب،.. أي أن الدين أصبح تدريجياً في تصوري جزءاً من الكيان الإنساني وليس منفصلاً عنه”.

وفي سيرته يذكر المسيري التحولات داخل عقله ونفسه وهو ما أطلقنا عليه “الجدل مع الذات” – حول النموذج المادي وعجزه عن تفسير سلوك الإنسان وعواطفه ودوافعه، إلى أن عرج به فهمه للإنسان “الرباني” إلى الإيمان بالله “وبدلاً من الوصول إلى الإنسان من خلال الله، وصلت إلى الله من خلال الإنسان ولا يزال هذا هو أساس إيماني الديني وهو ما أسميه “الإنسانية الإسلامية” التي تنطلق من رفض الواحدية المادية وتصر علي ثنائية الإنسان والطبيعة/ المادة وتصعد منها إلى ثنائية الخالق والمخلوق، ولم يحدث التحول الكامل من الرؤية المادية الواحدية إلى هذه الثنائية إلا في أوائل الثمانينيات، أي أن عملية مقاومة الإيمان من جانبي دامت لما يزيد علي ربع قرن وبالتدريج تحول الإيمان إلى رؤية شاملة للكون وإطار للإجابة علي كل التساؤلات.

ثانيا: بزوغ الفكرة الإسلامية عند المسيري:

أوائل الثمانينيات هي التي عرفت تحول المسيري ليكون مؤمناً بالله وليكون مؤمناً بأن الإسلام هو هويته التي يري الكون من خلالها، وأن الإسلام منهج للحياة يشمل الدين والدنيا، يمكننا أن نشير إلى عدة مصادر لبزوغ الفكرة الإسلامية واكتمالها عند المسيري وهي:

2/1- العقل والتفلسف والتفكير التي جعلته ينتهي إلى أن المناهج المادية الغربية البسيطة لا تلبي أشواقه العميقة للإيمان ولا تفسر العديد من سلوكياته ودوافعه ومشاعره وتشوفه لمصدر أعلي من الإنسان وفوقه ومتجاوز له. فإيمان المسيري بالأساس هو إيمان عقلي فلسفي.

2/2- المخزون الذي اكتنزه داخله من التراث الديني الإسلامي وتجربته مع المجتمع التقليدي في دمنهور في الطفولة والصبا وتعرفه علي القرآن الكريم وقراءته له مرات عديدة ومطالعته للكثير من الأحاديث النبوية الشريفه وكتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق ومعرفته بالمذاهب الفقهية الأربعة الإسلامية والسيرة وتاريخ الإسلام ومن ثم فقد كان لديه كما قال لي “أرضية إيمانية يقف عليها دون أن يدري”، وهذا يجعلني أذهب إلى أن الفكرة الإسلامية لم تمت داخل المسيري ولكنها طمرت واختفت تحت مظاهر “فاوستيه” ذات طابع نرجسي متمرد، ولكنها ظلت تعمل وتؤثر في روحه وهو يقاوم حتى آب إلى ربه ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾ وصورة المسيري هي صورة مجتمعاتنا التي حاولت التمرد علي الإيمان والجري وراء الحداثة ولكنها تقاوم بيد إنها في النهاية لا بد من عودتها لربها، فوفقاً لنظرية المعرفة الإسلامية فإن الإنسان هو مرآة لتجلي صفات الله وأسمائه والمجتمع هو مرآة لتجلي صفات الإنسان الرباني فيه.

2/3- التوحيد وانكشاف معناه في عقل المسيري، ففي العقيدة الإسلامية نجد أن التوحيد ينقسم لتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، والربوبية تعني الإيمان بالخالق من حيث هو خالق الكون ومسيره ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ (لقمان: 25)، والألوهية تعني حق الله في المطلق في أن يضع لخلقه نظم حياتهم وهو الشرائع التي تضع لهم المناهج والقواعد ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ وتعني تسليم الإنسان لله بهذا الحق ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56) أي يطيعون ويلتزموا ما أحكم به وأشرعه، والأسماء والصفات معناها أن الله له ذاته وله صفاته وأن هذه الذات العلية بائنة عن الخلق وصفاته وإن تشابهت مع المخلوقين ولكنها تليق بجلاله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، ومن ثم فالتوحيد معناه إيمان الإنسان بإله ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ وهو أجل وأعظم من يحل بمخلوقاته، فالإسلام السني يرفض نظرية الحلول والاتحاد التي تعود بجذورها إلى الفلسفة اليونانية. وكما يقول المسيري “أدركت ما أسميه “النسبية الإسلامية” وهي الإيمان بأن الله هو وحده الثابت الذي لا يتحول وماعدا ذلك فمتغير وهو وحده الذي يحيط بكل شيء ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 58)، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ أما نحن البشر فلا نعرف إلا جزءاً من الحقيقة مما يسمح بتعدد الرؤي، والنسبية الإسلامية التي أدعو إليها لا تؤدي إلى العدمية، فهي نسبية لا تمتد إلى المرجعية النهائية ومن ثم لا تؤدي إلى عدمية مفرطة في المعاني والمرجعيات بحيث يصبح العالم بلا معني ولا مركز.

3/3- الاطلاع علي تحولات وخبرات إنسانية انتقلت من المادية إلى الإيمان مثل “مالكوم إكس” الذي تعرف عليه المسيري حين كان في أمريكا، وله تجربة التحول من العنصرية إلى الإسلام السني الذي فتح له آفاق جديدة من المعرفة والآفاق حررته من التعصب ضد الرجل الأبيض إلى الإيمان بالله والتسامح تجاه الإنسان ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13)، كما أن هناك تأثيرات لمفكرين إسلاميين أشار المسيري إليها مثل “مالك بن نبي” و”فضل الرحمن” و”سيد حسين نصر” و”سعيد رمضان البوطي” وغيرهم.

ثالثا: تجليات الفكرة الإسلامية في أعمال المسيري:

3/1- يشير المسيري إلى أن عمله الموسوعي عن “اليهود واليهودية والصهيونية.. نموذج تفسيري جديد” وصل إلى الطور الثالث ذات الطابع التأسيسي الذي يطرح نماذج تحليلية مترابطة ومصطلحات بديلة وبرامج بحثية جديدة بفضل رؤيته للإسلام الذي لم يعد مجرد عقيدة إيمانية وإنما منظور شامل للكون والحياة يمثل مرجعية يمكن للإنسان أن يولد منها نماذج تحليلية ذات مقدرة تفسيرية عالية، أي أن الإسلام كان هو المرجعية النهائية للمسيرة في عمله الموسوعي الأشهر، ويقول المسيري عن ذلك “في هذه الفترة 1984-1985 م ) تحول الإسلام بالنسبة لي من كونه مجرد عقيدة أومن بها إلى رؤية للكون أومن بأنه يمكن للإنسان أن يولد منها نماذج تحليلية ذات مقدرة تفسيرية عالية، كما أدركت أن الإسلام يعطي إجابات شافية عن الأسئلة النهائية، ورغم أن المسيري طرح أفكاراً جديدة يمكن أن نصفها “بأنها غير مألوفة” لدي الحركات الإسلامية ولدى عامة المسلمين عن اليهود واليهودية لكن الإسلام كان المرجعية له في كل هذا ” فحديثه عن “أنسنة اليهود” يستند فيه لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (النساء: 104)، وجداله حول عدم معاداة اليهود كيهود هو جدال يأخذ طابعاً دينيا ً، وهو يذهب إلى أن اليهود الذين ذكرهم الله في القرآن الكريم ليسوا هم يهود اليوم وإنما هي صفات مَن تتوافر فيه فإنه يكون يهودياً، وهو في كل هذا حريص علي أن تبقي فكرة المواجهة والجهاد مع اليهود حية ومبنية علي أسس إنسانية واعية.

3/2- يتبني المسيري فهماً للإسلام يقوم علي “الإسلام الحضاري” وهو الذي يري الإسلام أوسع من مجرد التفسير للنصوص وإنما يدخل فيه ما أبدعته الحضارة الإسلامية في الفنون والمعارف وطرق الحياة وهو يميز بين الأصولية والحرفية، فالأصولية ذات طبيعة تجديدية يتجاوز فيها الأصولي بعض الموروث ليعبِّر عن النص ولكنه يبقي بينه وبين النص مسافة يتحرك فيها عقله وجهده، بينما الحرفية تلغي المسافة بين النص والواقع ومن ثم تلغي عقل الإنسان وإرادته كفاعل يتمثل النص من خلاله في الواقع، ومن ثم كان حديث المسيري عن الجمال وعلاقته بالعقيدة وبالإسلام وعن الفنون وعلاقتها بالتوحيد، ولا ندري أكان المسيري يعتبر نفسه أصوليا بهذا المعني؟! وهو يقول: “ولعل هذا ينبه الداعين للإسلام إلى أهمية الفن الإسلامي والإسلام الحضاري إذ أن معظمهم للأسف لا يعرف إلا الجانب العقلي في الإسلام”.

3/3- في مقاله المهم عن الخطاب الإسلامي الجديد يبدو المسيري مختلفاً، فهو يناقش بوضوح منهج من يعبرون عن هذا الخطاب ويروي نفسه واحداً منهم، ومن ثم فهو مقال في “منهج قراءة تفكير المسيري” من منظور المدرسة الفكرية التي يمثلها وهي مدرسة إسلامية، ويحدد المسيري منهج هذه المدرسة في عدد من الخطوط العامة أهمها شكل استجابتها للتحدي الغربي فهي ترفض المركزية الغربية وهي تملك رؤية معرفية شاملة ترفع علي المستوي السياسي الجماهيري شعار “الإسلام هو الحل” وعلي المستوي الفلسفي يرفع شعار “الإسلام هو رؤية للكون”، ومن ثم فإن له موقف من السياسة والاقتصاد والاجتماع والمعرفة والأخلاق والجمال، فموقفه شامل وإنساني لا يقتصر فقط علي مخاطبة المسلمين وإنما مخاطبة الناس أجمعين، وهو يؤمن بالتدافع والحركة والتداول ومن ثم قبول التعايش مع الآخر والبحث في المشتركات معه ومن ثم الاهتمام بفقه الأقليات علي الجانبين المسلمين وغير المسلمين، والاجتهاد لصياغة نموذج معرفي إسلامي يمكن الاحتكام إليه في الفهم والتوصيف والتنبؤ والتوليد والتخريج والتنقيح ومعرفة العلل والأحكام.

3/4– نقد المسيرى لنموذج العلمانية الشاملة الذي يفصل الحياة والسلوك الإنساني عن القيمة هو في الواقع دفاع عن الفكرة الإسلامية، والتي تري أن الإسلام والتوحيد والوحي والشريعة هي الموجهة للإنسان وللمجتمع وللحياة كلها ولا يمكن فصل الحياة والإنسان والمجتمع والدولة عن استلهام القيم الإسلامية، فالمرجعية الإسلامية هي الإطار الذي يرجع إليه المسلم ويرجع إليه المجتمع والدولة ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (النساء: 59)، ومن ثم فإن الهجوم علي العلمانية الشاملة ونقدها واعتبارها نموذجاً مدمراً يفقد الحياة معناها ويحولها إلى تعبير دهري دنيوي هو انتصار للقيم والمعني وانتصار للمرجعية الإسلامية والأخلاقية، ولست أدري إن كان حديث الإسلاميين الجدد في مصر عن الدولة المدنية بمرجعية إسلامية قد تأثر بمفهوم المسيرى عن المرجعية – أعتقد أن هناك علاقة – فالمرجعية الدينية والأخلاقية هي التي تحقق للإنسان معني الاستخلاف – أن يكون خليفة الله في الأرض – ومن ثم العمران القائم علي تعميق إنسانية الإنسان وتحقيق حريته وكرامته. وهو يرى أن العلمانية الشاملة التي تحول العالم كله إلى مجرد أدوات مادية بدون غاية أو مآل تمثل خطراً علي المسلمين، وأن فهمها وتحليلها ومعرفة قدرتها علي اختراق حياة المسلمين في صيغة الاستهلاك وفي صيغة تفريغ الظاهرة الإسلامية من مضامينها القيمية الحقيقية وتحويلها لمجرد ظاهرة شكلية بلا مضمون يمثل تحدياً أمام قادة الحركات الإسلامية، فهو يري الاكتساح العلماني الشامل تهديداً خطيراً للإيمان الديني ومن ثم فإذا كانت الحركة الإسلامية تستهدف بشكل رئيسي الحفاظ علي بقاء الإسلام حيا في حياة الناس فإن جزءاً من صراعها وجدلها هو مع العلمانية الشاملة. وأعتقد أن موقف المسيري منحاز بالكامل للنموذج الإسلامي في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهو منحاز للشريعة الإسلامية عبر رؤية إسلامية معاصرة تأخذ في اعتبارها مستجدات العصر، وفي موقفه من قضية الحجاب ودفاعه عن المرأة المسلمة المحجبة من منظور حضاري في المعركة الأخيرة التي أثارتها تصريحات وزير الثقافة ما يدل دلالة قاطعة علي انحيازه للنموذج الإسلامي الإيماني في مواجهة النموذج المادي الغربي.

رابعا: آفاق قبول أفكار المسيرى عند الإسلاميين:

يعتقد المسيري أن الممارسة الحركية هي جزء من الإيمان سواء علي المستوي الفردي أو المستوي الجماعي الحركي، وهو يري أن المستقبل في العالم العربي والإسلامي للحركات الإسلامية، ويؤمن بفاعلية شعار “الإسلام هو الحل” علي المستوي السياسي والجماهيري، ويؤمن بشعار أن “الإسلام هو رؤية شاملة للكون” وهو بهذا المعني يقع في قلب الفكر والحركة الإسلامية معاً، وبانضمامه لحزب الوسط الجديد الذي أسسه إسلاميون فارقوا حركة الإخوان المسلمين لاختلافات في الرؤى والمنهج يعد المسيري في تقديرنا أهم قيادة فكرية في الحزب، ولأنه من أهداف الحزب استقطاب قطاعات واسعة من جماهير الإسلاميين الذين يؤمنون بخطاب جديد مختلف يمكن القول أن مرجعيته دينية ولكنه ليس دينياً وعظياً، فهو يناقش قضايا الاجتماع والسياسة والفكر والفن والسياسة بأدوات تلائمها وبلغة معاصرة، وفي الواقع فإن هذه النزعة اتسعت لتشمل قطاعات واسعة من أجيال الإسلاميين الجدد – أي الشباب الجديد الذي يدخل ضمن الحركة الإسلامية، فهو جيل مختلف له أسئلة ومنطق واهتمامات جديدة، ويحتاج إلى خطاب ولغة جديدة ومن هنا كان التساؤل المشروع إلى أي مدى يمكن للخطاب الذي يقدمه المسيري أن يكون مستجيباً لمطالب هؤلاء الشباب؟ وأية آفاق مستقبلية لهذا الخطاب في أوساط جماهير وقطاعات أوسع من مجرد الأكاديميين والباحثين الذين يمثل خطاب المسيري بالنسبة لهم كنـزاً لا ينضب من المعرفة والفهم ومن ثم التعلم؟، ففي التحليل النهائي فإن قيمة وحجم ما قدمه المسيري من جهد فكري يستحق أن يخرج إلى الحركة الإسلامية بكل قوتها وزخمها وعاطفتها ليتحول إلى أحد مصادرها الفكرية الموجهة للفهم والعقل الإسلامي فهل يمكن لهذا الأمل أن يتحقق ؟

4/1- تعد المقدمة التي كتبها الدكتور المسيرى لبرنامج حزب الوسط الجديد مدخلاً مهماً لما يمكن للمسيري، أن يضيفه إلى الفكرة الإسلامية فهو ناقش أهمية المرجعية الإسلامية للمجتمع المصري وفق ما ذهب إليه برنامج الحزب من أن “الإسلام هو المرجعية النهائية للمجتمع المصري” فهو يقول: “يرى البعض أن الحديث عن الإسلام كمرجعية نهائية هو دعوة إلى العودة إلى الحكومة الدينية وحكم الكهنوت وما شابه من مخاوف، وما غاب عن هؤلاء أن أي مجتمع بما في ذلك المجتمعات العلمانية رأسمالية كانت أم اشتراكية ديموقراطية كانت أم شمولية تتحرك في إطار مرجعية ما، فبدون هذه المرجعية لا يمكن للمجتمع أن يحدد أولوياته أو يسيِّر أموره لأنه سيفقد المعايير التي يمكن أن يحكم بها علي ما يحيط به من ظواهر وما يقع حوله من أحداث،… المرجعية النهائية أمر حتمي ومن لا يقرر لنفسه مرجعيته النهائية سيقررها له الآخرون.. والشريعة الإسلامية كمرجعية نهائية لا تستبعد أحداً، فالإسلام قرر وحدة الدين في أصوله العامة..” هذه المقدمة تعد اجتراحاً مباشراً من جانب المسيري للفكرة الإسلامية ودخولاً مباشراً في جانب من الصراع الحضاري والثقافي الذي يخوضه المجتمع المصري حول هويته، ويمثل ما قدمه المسيري إضاءة مهمة حول معنى المرجعية وكيف تكون؟ وهو سؤال مطروح بقوة علي الإسلاميين، فالمقدمة هي دخول مباشر وفي القلب للفكرة الإسلامية بحيث يمكننا أن نستجلى بوضوح الأرضية الثقافية والنضالية والاجتماعية التي يقف عليها المسيري، فالدخول المباشر وبوضوح للقضايا الإسلامية هو أحد أهم السبل لتعرف الأجيال الإسلامية علي الفكرة الإسلامية عند المسيري للتعلم منها وتبنيها.

4/2- قدم المسيرى إضاءات مهمة حول تفسير وفهم القرآن وكيفية التعامل مع النص القرآني باعتباره نصاً متجاوزاً ومقدساً، ومن ثم فدعوي امتلاك ناصيته أو معرفة المعني النهائي له هو تعبير عن السقوط في الحرفية، ومن ثم فهو يعارض التفسيرات العلمية والتاريخية التي تحاول المطابقة بين النص القرآني والواقع، فالقرآن حاكم للتاريخ والواقع، وكتابه المهم “اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود” يناقش موضوع العلاقة بين الدال والمدلول من المنظور التوحيدي والمنظور الغربي الحلولي، وهو كتاب فريد في بابه حيث يشير إلى العلاقة بين اللغة والتوحيد والحلول وكيف أنها في ظل التوحيد تكتسب دلالتها وتكون هناك علاقة بين الدال ومدلوله، أما في الحالة الغربية الحلولية فإن الدال يفقد مدلوله ويصبح معلقاً في الفضاء بلا معنى، والكتاب، رغم أهميته وقيمته، صعب وتحتاج الأجيال الجديدة إلى نماذج من التفسير أو استخلاص النماذج الإدراكية من الصور القرآنية بطريقة تفتح آفاقاً جديدة للنص القرآني، فالإسلاميون وأجيالهم في النهاية رغم أن الخطاب الثقافي وفنونه تتسع أهميته لديهم لكن في النهاية تمتين علاقة هذا الخطاب بالفكرة الإسلامية وليس محاولة استخلاص هذه الفكرة من ذلك الخطاب هو الذي سيفتح لهم آفاق جديدة لتقبل هذا الخطاب والارتباط به.

4/3- لا شك أن المسيري قدم نقداً تفكيكياً مهماً للنموذج المادي الغربي إلى الدرجة التي أفقدت هذا النموذج بريقه وهيمنته واستعلائه، واستطاع المسيري أن يقدم نماذج بديلة خاصة علي مستوي الصراع مع المشروع الصهيوني، ولكن لا يزال هناك مجالات تنتظر جهد المسيري وجهاده ولم يطرح فيها نماذج بديلة فهل يمكن أن يقدم المسيري مثلا “البديل الإسلامي”يتناول فيه قضايا مثل المرجعية والمواطنة والشريعة والديموقراطية والشورى والأصولية والحرفية والنسوية والأسرة والتوحيد والإسلام السني والأمة والأقليات المسلمة وغيرها من القضايا التي عالجها في سياق مشروعه لتفكيك النموذج الغربي دون أن يوليها أهمية لتعميقها بحيث يكون علم الاجتماع الديني هو رائده في طرحه لهذا البديل وليس فقط اجتماع المعرفة، فليس معقولا رغم غزارة الإنتاج الفكري للمسيري أن لا يكون هناك مؤلف واحد له يناقش الإسلام في علاقته بأي ظاهرة اجتماعية أو فكرية أو اقتصادية أو حضارية حتى عرفانية.

4/4- أستاذ علم الخطاب واللغة والأدب عليه أن يأخذ في اعتباره كمفكر إسلامي أن يتوجه ببعض خطابه لجمهور يحمل عقيدة ويحاول التعرف علي مزاج هذا الجمهور واللغة التي تناسبه والخطاب الذي يجذبه ويستثيره للعمل والحركة، ذلك لأن تعالى خطاب المسيري وأكاديميته يحرم قطاعات من الجمهور الإسلامي الحركي من الاستفادة منه والتعلم في أكنافه، وبقدر تحيز المفكر لما يحسنه ويجيده ويرضيه ويمتعه فإن الآمال المعلقة عليه من قبل جمهور يحبه ويقدر جهوده العلمية والفكرية والوطنية والإنسانية تجعله يتخلي عن هذا التحيز الذي يمكننا أن نصفه بالذاتي لينحاز إلى الناس والجماهير والفاعلين في المجال الحركي الإسلامي، وعلي سبيل المثال فإن قبول المسيري للعلمانية الجزئية تحتاج لنوع جديد من التأمل ذلك أن هناك نوع من الخلط بين العلمانية الجزئية “التي تحترم القيم في الحياة الخاصة وبين المبدأ الإسلامي الذي ينظم السلطة والدولة فلا فصل أصلا بين الدين والدولة في المرجعية الإسلامية، ومعركة الإسلاميين مع العلمانية بالأساس كانت حول علاقة الإسلام كمنهج شامل مع الدولة وربما يكون هذا الذي جعل الحديث عن عدم الفصل بين الدين والدولة وليس الدنيا، والعلمانية بمعني الفصل بين الدين والدولة تختلف عن واقعة “تأبير النخل” الذي قال فيها النبي r: “أنتم أعلم بشئون دنياكم”، فالنص يشير إلى أن المباح والمسكوت عنه مما لا دخل للدين في تنظيمه مجاله العقل والاجتهاد البشري الإنساني المحض، وهو نفس ما أشار إليه أستاذنا المسيري من أنه لا يحبذ أن يري رجال دين يناقشون قضايا ذات طابع فني، فالإسلام ليس كهنوتاً وبقدر ما تمثل الشريعة مرجعية للمسلمين فإن تعاطيها مع الواقع المتغير يختلف مع المبادئ والقيم والعقائد الثابتة والمجمع عليها، وهناك أدوات عديدة للاجتهاد مثل العرف والعادة والمصالح المرسلة والاستحسان وشرع من قبلنا والسياسة الشرعية والتي توسع في قدرة النص والشريعة علي التعاطي مع الواقع والمستقبل، وكل هذه الأدوات تعمل في سياق التفاعل بين الإنسان المسلم والواقع في سياق مرجعيته الشرعية ومن ثم الحديث عن القبول بعلمانية جزئية هو أمر يحتاج لمراجعة ويحتاج لا قتحام عالم العلاقة بين الشريعة والحياة وكيف تكون العلاقة بينهما.

والله أعلم

 

المراجع

هذه الدراسة طوفت بغالب ماوقع تحت يد كاتبها من كتب الدكتور المسيري ولأن هناك قدراً من التداخل بينها فسوف نحيل بشكل عام علي المراجع التي طالعتها هذه الدراسة فعلا:

(1) عمرو شريف، رحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية، قراءة في فكره ومسيرته، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، يناير 2006 .

(2) عبد الوهاب المسيري، اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، القاهرة، دار الشروق، ط2، 2006.

(3) ————-، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط1 يناير 2006.

(4) ————-، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، القاهرة: دار الشروق، ط1، يناير 2002 مجلدان.

(5) ————–، معالم الخطاب الإسلامي الجديد، علي موقع الدكتور عبد الوهاب المسيري علي الانترنت.

(6) ————–، رحلة في فكر علي عزت بيجوفيتش، علي موقع الدكتور عبد الوهاب المسيري نقلاً عن الأهرام بتاريخ 18-11-2003.

(7) ————–، نفس المرجع، نقلاً عن الأهرام بتاريخ 2/12/2003.

(8) ————-، مقدمة دكتور عبد الوهاب المسيري لأوراق حزب الوسط الجديد علي موقع حزب الوسط الجديد.

(9) ————-، الحجاب بين الدين والمجتمع، موقع المصري اليوم بتاريخ 2 ديسمبر 2006 م علي الشبكة.

(10) حسام تمام، حوار مع الدكتور المسيرى حول التدين والتفسير العلماني علي موقع الوحدة الإسلامية www.alwihdah.com نقلاً عن إسلام أون لاين. نت.

(11) حسام تمام، المسيرى ونقد التفسيرات الحرفية للقرآن، علي موقع إسلام أون لا ين. نت.

(12) سيرة ذاتيه للمسيري علي موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة.

(13) حوار لكاتب هذه الدراسة مع الدكتور المسيري بمنزله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر