أبحاثفكرة في مؤتمر

عقبات في طرق التقريب (من مؤتمر الدوحة لحوار المذاهب الإسلامية : دور التقريب في الوحدة العملية للأمة)

العدد 123

والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وبعد،

فقد أثمرت جهود العلماء والمفكرين والمصلحين اتجاهًا عامًا نحو التقريب بين المذاهب الإسلامية، وميلاً عامًا نحو تغليب لغة الحوار المنطقية، وترجيحها على أية لغة أخرى انسجامًا مع توجهات

الإسلام الأصيلة وتناغمًا مع الميل العالمي نحو هذا الأسلوب فيما بين الحضارات والثقافات والأديان.

والواقع أن كل النصوص الإسلامية والمفاهيم والأحكام الشرعية تدفع نحو اعتماد هذا الأسلوب مما يفسح المجال نحو تحقق مثل هذه النتيجة.

ونحن إذ نستبشر خيرًا بهذا الأمر نعتقد بلزوم تعميقه في الأذهان والنفوس لأنه اتجاه علمي ونفسي وخلقي في آن واحد، يريد أن يتعالى فيه الإنسان المسلم على خلافه في الرأي مع الآخر، ويتغاضى عما يرتبه هذا الخلاف من مقتضيات التنوع في السلوك وصولاً إلى الموقف الموحد من التحديات الكبرى التي تواجهها الأمة، وكذلك من الأمور الداخلية التي هي لوازم الشخصية الواحدة لها.

وتستلزم عملية التعميق هذه القيام بكل ما من شأنه تحويل الرغبة في التقارب وبالتالي في التفاهم إلى ملكة وخلق اجتماعي أصيل وعام، بحيث يعود معه كل صوت تبعيدي حالة نشاز وخروجًا على الجماعة وسعيًا خارج الدائرة وتحركًا خارج السرب تنفر منه الطباع وتتقزز منه النفوس.

ولن يتحقق هذا الهدف إلا إذا قام العلماء والمفكرون بعملية الاستيعاب الكامل للفكرة أولاً ودراسة تاريخها وآثارها في مسيرة الأمة التاريخية والحضارية ثانيًا، وتوعية الجماهير بها وبآثارها ثالثًا، ونقل الفكرة – بالتالي – إلى الممارسة العملية اليومية المستمرة حتى تتحقق تلك الملكة ويسود ذلك الخلق المطلوب.

وربما تطلب الأمر تنفيذ مشروعات اجتماعية مشتركة في المجالات البحثية أو الاجتماعية وغيرها.

ولعل أهم نقطتين يجب التركيز عليهما في البين هما:

أ- استقصاء الدوافع الدينية والاجتماعية وحتى السياسية باعتبارها مقتضيات التحرك نحو التقريب في الفكر والتوحيد في العمل.

ب- معرفة العقبات والموانع التي تقف بوجه ذلك.

أما النقطة الأولى فليست هي محط نظرنا فعلاً رغم أهميتها، ويمكن الاستعانة فيها بأساليب القرآن الكريم المتنوعة في الدفع نحو الوحدة من خلال الدعوة المباشرة، وتركيز روح التعامل العقلاني والحوار المنطقي مع الآخر، والتذكير بتوحد العدو – رغم تناقضاته – في جبهة المواجهة مع الأمة الإسلامية، والنتائج الإيجابية للوحدة، والسلبية للتمزق وأمثال ذلك وله حديث مفصل يذكر في محله.

وأما النقطة الثانية فهي موضع تركيزنا هنا رغم أننا بملاحظة محدودية الزمان لا نستطيع التوسع في الأمر.

الموانع في طريق التقريب:

ولعل أهمها ما يلي:

أولاً: العامل الخارجي:

فمن الواضح تمامًا أن أعداء هذه الأمة يخلقون كل الظروف التي تؤدي لتمزيق هذه الأمة ويقفون في وجه كل ما يعمل لتوحيدها. وقد لاحظنا أن الاستعمار الغربي عمل خلال فترة احتلاله للعالم الإسلامي، وخصوصًا في الفترة التي احتل فيها العالم الإسلامي كله تقريبًا، وقضى على آخر دولة إسلامية شمولية في الربع الأول من القرن الميلادي العشرين، لاحظنا أنه اعتمد سياسة ثلاثية تستهدف:

1- إبقاء الأمة على تخلفها العلمي والاقتصادي والثقافي والتعليمي وغير ذلك.

2- إشاعة الحالة العلمانية الغربية على الروح الإسلامية في العالم الإسلامي إلى جانب تحريك النزعات القومية والعنصرية، ولكن سرعان ما فشل مشروعه مما دعى بعض الكتاب المعاصرين لتسميته بـ “النصر سريع الزوال للعلمانية (1920-1970)”.

3- تمزيق العالم الإسلامي إلى دول وشعوب متفرقة، وتحريك العنعنات المذهبية الجغرافية والقومية والعنصرية وحتى التاريخية، كل ذلك خوفًا من هاجس الوحدة الإسلامية الذي يجري الحديث عنه والتخوف منه باستمرار من قبل القادة والمفكرين والكتاب الغربيين، ويتم التنظير لصراع دائم مع العالم الإسلامي على أساسه تقول الكاتبة هانتر في مقدمة كتابها: “قامت الرواية التي ألفها جون بوشان، وكان لا يزال رائدًا في استخبارات الجيش البريطاني عام 1916م، على فرضية قيام ثورة إسلامية، من شأنها، إذا ما اندلعت، أن تقلب مجرى الحرب العالمية الأولى في غير مصلحة القوات الحليفة.

كتب بوشان في روايته، العباءة الخضراء The Green Mantle : “الإسلام عقيدة قتالية، إذ لا يزال ذلك الشيخ يقف في المحراب حاملاً القرآن بيد والسيف المشهور في اليد الأخرى، فإذا افترضنا أن هناك أملاً بالخلاص يعيد الروح حتى إلى الفلاحين في المناطق النائية ويدغدغ أحلامهم بالجنة فماذا سيحدث يا صديقي؟ ستفتح جهنم أبوابها في هذه الأرجاء عما قريب. لدي تقارير من العلماء في كل مكان، صغار التجار في جنوب روسيا، وتجار الأحصنة في أفغانستان والتجار التركمان، والحجاج في الطريق إلى مكة، والأشراف في شمال أفريقيا، ولابسي جلود الغنم من المغول، والفقراء الهندوس والتجار اليونانيين في الخليج، فضلاً عن القناصل المحترمين الذين يستخدمون الشيفرة، هؤلاء جميعًا يجمعون في رواياتهم التي يرسلونها إليّ على الأمر نفسه، أن الشرق في انتظار إشارة إلهية”.

بعد ذلك بنحو ثلاثة أرباع القرن، عبر المعلق السياسي الأمريكي، تشارلز كراوثمر، عن مخاوف مماثلة عندما قال إن الولايات المتحدة تواجه خطرين جيوسياسيين محتملين، يتأتى أحدهما من المنطقة نفسها التي ذكرها جون بوشان في روايته، فهو يتخذ “شكل عالم إسلامي متحد تحت راية أصولية على النمط الإيراني تخوض صراعًا وجوديًا ضد الغرب الكافر”(1).

وها نحن نشهد دور اليد الأجنبية الممتدة لتحرك النزاعات الطائفية في باكستان والعراق وأفغانستان ولبنان وسائر البلاد التي يتعايش فيها أتباع المذاهب، وربما استخدمت وسائل الإعلام والأقلام والألسنة المأجورة لتحقيق الهدف.

ثانيًا: المصالح الشخصية لبعض الزعماء والحكام:

وهو أمر شهدناه في عصور الظلام الماضية، ونشهده اليوم أيضًا حيث يستغل البعض نفوذه ليثير العامة بل ربما بعض المنتسبين لأهل العلم لتحريك الإحن والنزاعات الطائفية.

يقول أحد الكتاب المؤرخين واصفًا بعض حروب الطوائف بتحريك من السلطات الحاكمة: “وكانت لا تمر سنة دون عنف بين ما وصف بفرق السنة وفرق الشيعة في سائر أرجاء المنطقة العربية الإسلامية، فقد تولى الترك بأنفسهم عام 239هـ عمليات القمع الطائفي ضد الشيعة… وكان أكثر الضحايا من منطقة (الشاكرية) ببغداد وبنتيجتها هوجم السجن المركزي وأحرق أحد الجسرين الواصلين بين جانبي الكرخ والرصافة”.

ويستمر في الحديث عن دور حكومات الطوائف في تحريك الفتن في مصر، وعن الاقتتال الطائفي بعد قيام حركة الزنج في سواد جنوب العراق، وامتداد النزاع إلى المدينة المنورة وإلى طبرستان، وتواصلت إلى شمال أفريقيا وهكذا(2).

وهناك كتب كثيرة تتحدث عن هذه الظاهرة كمقدمة ابن خلدون وغيرها.

ويكفي أن نذكر بدور النزاع العثماني الصفوي في خلق الفتن الطائفية الداخلية وإضعاف الأمة الإسلامية مما جر بالتالي إلى أن تفقد شوكتها وعزتها أمام التحديات.

ثالثًا: التكفير:

وتعد هذه الظاهرة من أهم العقبات بوجه التقريب، ورغم إن الإسلام وضح تمامًا الحدود الفاصلة بين الكفر والإيمان، وحددها بدقة فإن هذه الحالة الغريبة حدثت بقوة.

فعن عبادة بن الصامت قال رسول الله r: “من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل”.

وفي رواية “أدخله الله من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء” وروى الشيخان والترمذي: “من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله حرّم الله عليه النار”(3).

وروى سماعة عن الإمام الصادق (ع) قوله: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس(4).

وربى الرسول الكريم r أتباعه على التعامل العقلاني والحوار المنطقي والقبول بالتعددية الاجتهادية إذا كانت على أسس شرعية منضبطة.

إلا أن هذه الظاهرة حدثت في ظل ظروف عصبية في مطلع الأمر كما في قضية الخوارج.

ورغم أن الأمة عبرت هذه الحالة وعادت إلى التعامل المنطقي في عصر أئمة المذاهب، وقدم الأئمة أعظم صور منطقية وربوا أتباعهم عليها ولكن العوامل الكثيرة الأخرى قادت إلى عودتها من جديد.

وإني أعتقد أن أهم ما قاد لهذه الظاهرة هو ما يمكن تسميته بمؤاخذة الآخر بلوازم كلامه رغم أن هذا الآخر لا يؤمن بهذه الملازمة مطلقًا.

فقديمًا كفّر الخوارج عليًّا عليه السلام معتقدين أن لازم موقفه من التحكيم كفره والعياذ بالله.

فقد ذكروا أنه شك في نفسه حين قال للمحكميْن: “انظرا فإن كان معاوية أحق بها فأثبتاه، وإن كنت أولى بها فأثبتاني” فإذا هو شك في نفسه ولم يدر أهو أحق أم معاوية فنحن فيه أشد شكًّا”.

ورد الإمام عليهم بقوله: “فإن ذلك لم يكن شكًّا مني، ولكن أنصفت في القول، قال الله تعالى: }وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{ [سبأ: 24].

ولم يكن ذلك شكًّا وقد علم الله أن نبيه على الحق”(5).

وبعد عصر الأئمة دبت هذه الحالة بوتيرة أوسع وذلك كما لاحظناه في الاختلاف حول (زيادة الصفات على الذات الإلهية)، و(التحسين والتقبيح العقليين) حيث رأى الطرفان المتنازعان أن الطرف الآخر يقوده رأيه إلى الكفر، وهكذا نجد هذه الظاهرة في قضايا كثيرة من قبيل (التوسل) و(الشفاعة) و(البداء) وحتى في مثل (الاستحسان) و(القياس) و(المصالح المرسلة) وغيرها، في حين لو احتكم الجميع إلى الحوار المنطقي لاكتشفوا على الأقل لدى الطرف الآخر ما يبرر له الإيمان بهذه القضية أو تلك وربما اكتشفوا أن النزاع لفظي لا حقيقة له.

وزاد الجهل والتعصب الطين بلة حيث يدخل في عملية الفتوى من ليس أهلاً لها فيفتي بغير ما أنزل الله، وهذا ما شهدناه بكل وضوح في الحركات التكفيرية في عصرنا مما أدى إلى سفك الدماء البريئة على نطاق واسع باسم الدفاع عن الدين والأمة وهما من هذه الحالة براء.

رابعًا: التشكيك في نوايا الداخلين في الحوار فإنه لا يحقق الجو الهاديء المطلوب، ويدفع لنوع من التهرب أو المماطلة أو تلمس العثرات مما يمنع من تحقق النتيجة المطلوبة، وهذا ما شهدنا نظيره في عمليات الحوار بين أتباع الأديان نتيجة ما يحمله كل طرف من تراكمات ذهنية عن الآخر، فالطرف المسيحي مثلاً يحمل أحقاده الصليبية وإيحاءات المستشرقين بما يسمونه بـ (الهرطقة الإسلامية) وما يدور في نفسه من هواجس الصحوة الإسلامية التي تنافس مشروعه في السيطرة، في حين يحمل الطرف الإسلامي سوابق ذهنية كبيرة عن خدمة التبشير المسيحي للاستعمار على مدى قرون.

ولكن العمل الجاد والتوجه للتعليمات الإسلامية الهادية والداعية لحسن الظن في الأخ المسلم يمنع من أن يلعب هذا العامل دوره في المنع من التقريب خصوصًا إذا تم على مستوى العلماء العاملين الذين خبر بعضهم بعضًا في مجالات العلم والإخلاص والعمل في سبيل الأمة بمجموعها.

خامسًا: التهويل والتضخيم واستحضار الماضي والتهجم على المقدسات وعدم احترام الآخر:

وكل واحد من هذه الأمور يمكن أن يشكل بنفسه مانعًا من تحقق الحوار المطلوب وبالتالي الوصول إلى التقريب، وقد وجدنا النصوص الإسلامية تتضافر في المنع من هذه الأمور:

فقوله تعالى: }قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ{ [سبأ: 46] يمنع من الحوار في الأجواء الانفعالية المصطنعة.

وقوله تعالى: }قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ{ [سبأ: 25] يمنع من الانشغال بالماضي ويفرض احترام الآخر، وذلك أيضًا واضح في الآية التي تنهى حتى عن سب آلهة المشركين.

سادسًا: أضف إلى كل ذلك أن اختلاف مناهج الاستدلال وطرق الاستنباط يمنع من التقارب في النتائج فينبغي السعي إلى ما يأتي:

1- الفراغ من المفروضات المسبقة قبل بدء عملية الحوار.

2- الاتفاق على منهج واحد للاستنباط وليس هذا الاتفاق أمرًا صعبًا.

3- تحقيق محل الحوار بدقة لئلا ينظر كل طرف إلى قضية ومفهوم لا ينظر إليه الطرف الآخر.

وهناك موانع أخرى من قبيل:

1- اعتبار القول الشاذ علامة على المذهب كله.

2- أخذ تصورات المذهب من أقوال خصومه.

3- دخول من ليس أهلاً في عملية الحوار.

4- اتباع الأساليب الملتوية للظفر بالآخر.

وغير ذلك مما لا يسعنا المجال للتعرض له ولكن يجب حذفه حتى نصل إلى التقريب المطلوب بل الضروري في عالمنا الملتهب.

الهوامش

(1) مستقبل الإسلام والغرب، شيرين هنتر، تعريب زينب شوربا ص111 .

(2) قصة الطوائف للدكتور فاضل الأنصاري ص233 .

(3) ذكرتها الصحاح في أول ما ذكرته من روايات وجمعها صاحب جمع الفوائد في مطلع كتابه.

(4) الكافي، ج2 ص25.

(5) الاحتجاج للعلامة الطبرسي ج1 ص 444 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر