أبحاثفكرة في مؤتمر

التعصب المذهبي – قراءة معرفية (من مؤتمر الدوحة لحوار المذاهب الإسلامية : دور التقريب في الوحدة العملية للأمة)

العدد 123

لا نريد أن نتخفى وراء شعار التقريب، لنهون من شأن الخلاف، ونقلل من خطورة التعصب المذهبي، ولا نريد أيضًا أن نتكيء على العوامل الخارجية لتفسير خلاف اتسعت شقته، وأمتد قرونًا تكاد تستوعب تاريخ الإسلام كله،

فالخلاف بين الشيعة والسنة أمر واقع، والخلاف بين الشيعة والشيعة أمر واقع، والخلاف بين السنة والسنة أمر واقع، وهو في جانب منه مركوز في بنية معرفية اعتُبرت من الدين، أو في ذهنية ثقافية “شخصنت” الفقه بقدر بعدها عن الأدلة، ولا يتعلق الأمر بقضية “إمامة” مغلوبة أو خلافة مغصوبة، فقد غابت الإمامة، وسقطت الخلافة وبقى النـزاع على أشده، وكلما تفاقم الاستبداد، وتأزمت شئون الدنيا والدين في المجتمع، انتفض من كل فرقة عدد قليل من فقهاء العقل في محاولة لرأب الصدع، ولم الشمل، وسرعان ما ينفرط العقد ويعود كل فريق إلى معسكره يحتمي بمشاهد زائفة، وعصبية لا يبقى ضيق صدرها مكانًا للحوار، وهي حالة يصفها باقتدار العلامة محمود شلتوت في كتابه “مقارنة المذاهب” الصادر عام 1936 يقول: “إن المتأخرين حينما تحكمت فيهم روح الخلاف وملكتهم العصبية المذهبية، راحوا يضعون من القوانين ما يمنع الناس من الخروج عن مذاهبهم، وانتقلت المذاهب بهذا الوضع عن أن تكون أفهامًا يصح أن تناقش فترد أو تقبل، إلى التزامات دينية لا يجوز لمن نشأ فيها أن يخالفها، أو يعتنق غيرها، وحرّموا بذلك النظر في كتاب الله وسنة رسوله، أو حرّموا العمل بثمرة النظر فيهما، ونشأ عن ذلك أن فترت الهمم، ووقف الفقه الإسلامي، واشتغل علماء المذاهب بالانتصارات المذهبية، واختصار المطولات، وشرح المختصرات، وهكذا حرم الناس الفقه، وحرموا ملكة الفقه”. وقد وصل الانغلاق الفقهي مداه، عندما يرد في باب “التعزير” من كتاب “الدر المختار” – والأصل في الأحناف أنهم عقليون – أن من ارتحل إلى مذهب الشافعي يعزر، ويرد في باب “الترجيح” في كتب الأصول عند الشيعة الإمامية قديمًا وحديثًا، أنه عندما تتعذر أدوات الترجيح أمام الفقيه يرجح بمخالفة “العامة” أي أهل السنة.

إن المسألة الفقهية في باب الخلاف أعمق من كونها تنوعًا في الفروع لتصبح بنية معرفية، تنتهي إلى ما أسماه – الشيخ أبو زهرة – بالافتراق النفسي، فقد كانت كل طائفة تحسب نفسها مسلمين منفصلين عن الآخرين، وكل فرقة تحسب أن أتباعها وحدهم هم المسلمون، وقد وجدنا – كما يقول أبو زهرة – في بعض كتب الشيعة أنهم لا يعدون غيرهم من المسلمين مؤمنين، وإن كانوا يعدونهم من أهل القبلة، ووجدنا أن الشيعة لا يقبلون شهادة واحد من السنة ولو كان عدلاً في ذاته مستقيم السيرة، ويقبلون شهادة الشيعي ويردون بها شهادة السني، ولو كان الشيعي فاسقًا في ذاته – ويوجد مثل ذلك عند السنة – ولا نريد أن نقول إن ذلك حق أم باطل، ولكن نقول إنه فرقة في النفوس.

والذي يتابع الفقه الشيعي الإمامي في مصادره المبكرة عند “الشريف المرتضى” وشيخ الطائفة “الطوسي”، بل وحتى في مرحلة التجاوز النقدي لشيخ الطائفة عند “ابن زهرة” في “الغنية” و”ابن إدريس” في “السرائر” فإنه يجد بنية معرفية تلتحم مع منظور عقائدي، فهي تقرأ “الآخر” الذي هو المذاهب غير الإمامية، باعتبارها الجماعة المحقة، لا لجهل بما للآخر من مصادر وتراث، بل لموقف، فكثير من فقهاء الإمامية الأوائل “كالجنيد”، والشيخ “المفيد”، و”الشريف المرتضى”، و”الطوسي”، لديهم استيعاب للفقه السني، وهناك تلمذة متبادلة في عصور الهدوء والمسالمة، ولكنه استيعاب لا يفضي إلى قبول بل رفض، ولا يتمثل إلا في محاولة دائبة للتهميش والاستبعاد، مورست والشيعة يعانون بغية صنع تاريخهم السياسي، ومورست حديثًا ولهم دولة على رأسها فقيه، ولها يد طولى أبعد من الجغرافيا التي تمتلكها، وأقل من الطموحات التي تعمل عليها، وهذا ما جعل “فهمي هويدي” المفكر القريب من المشهد الإيراني – دون تقاطع معه – يقول “لا عذر لدولة الفقهاء التي تعلن التقريب بين المذاهب، بينما هناك غياب كبير لأهل السنة في خريطة السلطة… وحضورهم رمزي في مجلس الشورى”، فإذا تأملنا الخريطة مرة أخرى في ضوء المشهد العراقي المأزوم، يبدو الاستبعاد أكبر من موقف عقائدي، بل هو عنف منظم يهلك الحرث والنسل، ويجعل المراقب الحصيف يقول إن حملة هذه العقلية إذا دخلوا قرية أفسدوها. إنها بنية معرفية تجعل من السياسة جوهر المذهب، ومن الإمامة أصلاً من أصول الدين، ويحمل جهادها عبر التاريخ رسالة الدفاع عن الإمام، وقيادة الدولة المذهبية نيابة عنه، لقد تحدث الشيخ “كاشف الغطاء” – وهو من رواد جماعة التقريب – ليبين الفارق الجوهري بين الشيعة والسنة منتهيًا إلى التهوين منه يقول: “نعم أعظم فارق جوهري، بل لعله الفارق الوحيد بين الطائفتين: السنة والشيعة، هو قضية الإمامة حيث وقع الطرفان منها على طرفي الخط، فالشيعة ترى أن الإمامة أصل من أصول الدين، وهي رديفة التوحيد والنبوة، وأنها منوطة بالنص من الله ورسوله، وليس للأمة منها من الرأي والاختيار شيء، كما لا اختيار لهم في النبوة، بخلاف إخواننا من أهل السنة فهم متفقون على عدم كونها من أصول الدين…. ولكن مع هذا التباعد الشاسع بين الفريقين في هذه القضية هل تجد الشيعة تقول إن من لا يقول بالإمامة غير مسلم، أو تجد السنة تقول إن القائل بالإمامة خارج عن الإسلام…”. هذا ما يقوله الإمام كاشف الغطاء وهو حديث حسن النية، ليس غريبًا على رجل همه وحدة المسلمين في مواجهة أخطار داهمة، ولكنه أيضًا حديث فيه تبسيط للقول بالإمامة ونتائجه، لأن مآلات الأفكار ينبغي ألا تغيب عن الجالسين في مقدمة الصفوف، فما سل سيف في الإسلام وعليه أحد شفرة من قضية الإمامة، وهي لم تنتج فقهًا متعارضًا في العبادات والمعاملات، فهذا لم يكن ولن يكون، ولكنه صنع تاريخين الأول كتبه من شاركوا في الحدث، والثاني صنعه من قرأوا الحدث كل من زاويته، ولأن من شاركوا في الحدث لم يتركوا إلا شذرات من الخطب والكلمات والأحاديث، فإن من قرأوا الحدث صنعوا منه ركامًا من التأليف والتصانيف، حشروا فيها كل ما يدعم نظرتهم للحدث، فامتلأت بالأساطير، وبالزيف، وبتاريخ هو في كثير منه عكس ما حدث في التاريخ، ولكن بقى أمران لم يتغيرا في نظرية المعرفة عند الشيعة الإمامية:

الأمر الأول: أن السياسة هي قلب التشيع وجوهره وهذا ما يكاد يجزم به “باقر الصدر” في مجمل كتاباته عن التشيع بوجه عام وفي دراسته الصغيرة عن التشيع بوجه خاص، وهذا الأمر علة وسبب لمظاهر كثيرة عقائدية ومذهبية وسياسية.

الأمر الثاني: وهو العداء للخلفاء الراشدين والطعن على كثير من الصحابة، وقد تدرج العلامة “كاشف الغطاء” في تبسيط الأمر ليصل به في التحليل الأخير إلى إنه اجتهاد وإن كان عن خطأ، والمجتهد المخطئ له أجر والمصيب له أجرين”.

يقول “كاشف الغطاء”: لعل قائلاً يقول أن سبب العداء بين الطائفتين أن الشيعة ترى جواز المس من كرامة الخلفاء أو الطعن فيهم، وقد يتجاوز البعض إلى السب والقدح مما يسيء إلى الفريق الآخر ويهيج عواطفهم خشية العداء والخصومة بينهم.

أما “أولاً” فليس هذا من رأي جميع الشيعة وإنما هو رأي فردي من بعضهم ولا يصح معاداة الشيعة أجمع لإساءة بعض المتطرفين منهم.

“وثانيًا” أن هذا على فرضه لا يكون موجبًا للكفر والخروج عن الإسلام بل أقصى ما هناك أن يكون معصية وما أكثر العصاة في الطائفتين ومعصية المسلم لا تستوجب قطع رابطة الأخوة الإسلامية.

“وثالثًا” قد لا يدخل هذا في المعصية أيضًا ولا يوجب فسقًا إذا كان ناشئًا عن اجتهاد وإن كان خطأ، فإن من المتسالم عليه عند الجميع في باب الاجتهاد أن للمخطيء أجرًا وللمصيب أجرين”.

والرأي عندي أن هذا تبسيط من الشيخ “كاشف الغطاء” لا يرد تهمة ولا يكشف غمة ولا يبني وحدة أخوة، وهو أيضًا يناقض رأي الأئمة أنفسهم.

فالقول بأن هذا رأي القليل من الشيعة لا يجد لها سندًا عند المتابع للمكتبة الشيعية في الأصول والفروع، وفي كتب التفسير والحديث والمناقب والخرائج والجرائح، والحديث في ذلك يطول، إنه ثقافة شيعية صنعها تاريخ طويل تجعل من الطعن في الصحابة قربة، وتجعل من العيش مع السني – الفكر والتاريخ والبشر – غربة.

ولعل أخطر ما في الطعن في الصحابة – الذين خالفوا الوجهة الشيعية – هو استبعادهم من مجال الإسناد الديني، فلم يعودوا أمناء على نقل الأحاديث، بل إن مجرد دخولهم في سلسلة الإسناد، يجعل مسانيدهم خارج النص الإسلامي المعترف به، ولا يقال إن الشيعة الإمامية يأخذون بما يطلق عليه “الموثقات” من روايتهم، فالتوثيق هنا لا يعني الثقة في الصحابة بل في الكفيل الشخصي الذي تلقى روايته بالقبول وهو بالضرورة شيعي، إن توسعة مفهوم السنة عند الإمامية ليشمل أقوال الرسول وأقوال الأئمة، وهو ما ارتفع به “محمد تقي الحكيم” – ترجمة للموقف الشيعي كله – إلى أصل عقائدي في كتابه “سنة آل البيت”، يؤكد النظرة الواحدية في العقل الإمامي الفقهي، الذي يعتمد الأعلمية بالنص، وهي للإمام المعصوم، والأعلمية بالضرورة وهي للفقيه الجامع للشرائط في الفضاء المعرفي للفقه، أي إعلاء الموقف وليس الانتصار للدليل، والحوار الرفيع المستوى الذي أداره باقتدار “محمد تقي الحكيم” في كتابه “سنة آل البيت” سواء مع المحدثين “كابن حجر”، أو المفسرين “كالرازي”، أو حتى الفقهاء من المعاصرين كالعلامة الشيخ “أبي زهرة”، هذا الحوار بمنهجه العقلي واختياراته من الفروع يؤسس لعقل فقهي غالب “بعصمة الإمام” ومتغلب بأعلمية “الفقيه الولي”، ولا يقال أنني أختزل العقل الفقهي الشيعي في بنية واحدة، فأعلم أن الصراع قد احتدم بين المدرستين الأصولية والإخبارية، رغم انتصار الأصوليين في آخر الأمر بجهود “الوحيد البهبهاني”، وعبقرية “الشيخ الأنصاري”، ولكنه صراع اختلط بالسياسة، وانتهى به الأمر إلى ادعاء احتكار الحقيقة التي أصبحت حائرة بين المتخاصمين، ولم يعد الحوار بينهما حول النقل الذي هو وظيفة الفقيه الوحيدة – عند الإخباريين – حتى دون تمحيص ونقد، وبين الاجتهاد العقلي الذي هو وظيفة الفقيه المتعالية عند الأصوليين، وقد انتهى الأمر بالفريقين كما يقول محقق “أمل الآمل” إلى تكفير كل فرقة الفرقة الأخرى، وهو أمر يلحظه بوضوح كل قارئ لشيخ الإخباريين المتأخرين “محمد أمين الأستراباذي” في كتابه “الفوائد المدنية”، والرأي عندي أن المعركة كانت سياسية.

ولا يعني رفض الإخباريين لحجية العقل إلا ما كان له مبدأ حسي أو مبدأ قريب من الحس، ولا اعتماد الاجتهاد العقلي عند الأصوليين، أن الاتجاه الأول كان مع السلطة والثاني كان عليها، بل إن بعض المؤرخين يشير إلى المفارقة بين موقفين للاتجاه الأصولي: الموقف الأول للأصوليين حيث اعتبر بعضهم أن تأييد الحكم الصفوي متوافق مع دور المجتهد في المؤسسة الدينية “الكركي، والمجلسي” ثم الموقف اللاحق الذي بدأ مع نهاية العهد الصفوي ثم تقوى مع العهد القاجاري والذي يعتبر دور المجتهد – المرجع – ينبغي أن يمارس من خلال استقلالية الحوزة العلمية وليس من خلال المؤسسة الرسمية.

ولعل ذلك ما دعا أغلب فقهاء “جبل عامل” إلى الحذر من الالتحاق ببلاط الشاه. وقد تجلى المنظور السياسي في معارك عدة مثل “المشروطة” “وثورة التنباك” وغيرهما. وفي هذا الاتجاه ينبغي التنبيه على صفحة غائبة في دراسة الفقه الشيعي – خاصة الحديث والمعاصر – وهو صفحة تتعلق بما أشار إليه البعض من تمايز وافتراق بين الفقهاء الشيعة العرب في تجربتهم الحياتية ومواقفهم وواجباتهم وآرائهم الفقهية والكلامية، وبين العديد من الفقهاء على الجانب الإيراني، خاصة وإن عددًا من فقهاء “جبل عامل” كان على صلة وثيقة بالمصادر السنية الذين تلقوها على أعلام المدرسة المصرية في الفقه، وقد أشاد كثير من العامليين بهذا الدور، ولم يدرس بعد تأثير الفقه السني في هذا الموقع الشيعي الهام، ولكن اختيار كتاب “زين الدين العاملي” “الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية”، ليكون الكتاب الشيعي الأول من مطبوعات وزارة الأوقاف المصرية تحت مظلة التقريب، لم يكن مجرد مصادفة ولكنه في نظري كان عن عمد ووفقًا لمعيار.

وفكرة التقريب في حد ذاتها طرحت في عهد مبكر وربما يعود تاريخها الفعلي إلى “نادر شاه” في أواخر النصف الأول من القرن الثامن عشر، حيث اقترح مشروعًا تقريبيًا يعلن فيه الفقه الإمامي مذهبًا خامسًا إلى جوار المذاهب السنية الأربعة، ولكن السلطان العثماني رفض الاقتراح ورأى فيه طموحًا “لنادر شاه” يمتد إلى “استانبول”، مستهدفًا زعزعة “الشرعية السنية”، من تحت البلاط السلطاني، ولم يكن الرفض مذهبيًا، فالدولة العثمانية السنية فكرًا، والحنفية مذهبًا، تعترف رسميًا بالمذاهب الأربعة، وتسمح عرفيًا لفقه مغاير شيعي وإباضي ليصبح مرجعية في بعض المجتمعات المحلية(1) .

فإذا كانت محاولة “نادر شاه” لم تنجح في حضور الفقه الإمامي كمذهب خامس على الخريطة الرسمية للمذاهب في الدولة العثمانية، فإنه أصبح كذلك في الواقع الاجتماعي، من خلال الرعوية العثمانية التي أعطيت لفئات تعددت انتماءاتها المذهبية ومنها الانتماء الشيعي، بل أكثر من ذلك فإن زين الدين العاملي كما يذكر “وجيه كوثراني” في كتابه “الفقيه والسلطان” جعل من مسألة الانخراط في رعية السلطنة العثمانية، وتأجيل مسألة الإمامة واستتباعاتها السياسية كجزء من معتقد “غيبة الإمام”، والاستقلال عن المشروع السياسي الصفوي في إيران، جعل من ذلك كله طريقًا لأن يجعل من الفقه الإمامي المذهب الفقهي الخامس، مع الحرص على تثبيت مواقع مقلديه، ونشر تقاليده. والحقيقة أن “زين الدين” مثّل نقلة في التعامل مع المذاهب السنية ليس فقط باعترافه بأنهم جزء من مشيخته، وأن كتاباتهم تعد جزءًا رئيسيًا من ثقافته الفقهية، بل باعتماده على أقوال الصحابة والتابعين وأعلام المذاهب السنية باعتبارها فقهًا يؤخذ منه ويقلد، وليس مجرد اقتران بآراء المذاهب السنية إلى جوار آراء المذهب الإمامي مع ترجيح رأي المذهب في كل حال، وهذه أغلب المادة المقارنة التي يقدمها الخلاف العالي عند “الطوسي” وغيره من أعلام فقه الخلاف في المرجعية الإمامية.

وعلى الرغم من أن المدرسة الأزهرية – وهي الأكثر تأثيرًا في العالم الإسلامي – كانت تعيش حالة مخاض فكري في أواخر القرن الثامن عشر، خاصة فيما يتعلق بالخروج من حالة الاحتقان المذهبي، والإلغاز التأليفي في الحواشي والتقارير، وتبعية الاهتمام بالمذهب في ضوء إمكان التحرك الوظيفي، رغم ذلك كله، فإن الساحة الأزهرية كانت أكثر تسامحًا من غيرها وأسبق في قبول الشيعي إلى ساحاتها الدراسية، وبقصد “التفقه” لا “التمذهب”، وله مثل غيره مستحقاته الوقفية ورعايته العلمية، وقد انعكس هذا التوجه إيجابًا على دراسة الفقه الإسلامي، فمنذ بداية القرن العشرين، اتجه الشيخان “أحمد إبراهيم” و “أحمد أبو الفتح”، وكلاهما من علماء مدرستي الحقوق والقضاء الشرعي، إلى مقارنة مذهبية يحتل فيها الفقه الإمامي مكانة الترحيب به، والتوجيه إلى مصادره، والدعوة إلى الاستفادة تشريعيًا من ثروته في الفروع، وهو اتجاه سرعان ما ترجمه الشيخ “المراغي” – أستاذ العلامة “محمود شلتوت” – إلى نصوص تشريعية تفاعلت مع المصالح الاجتماعية، وأصبحت جزءًا من القانون الحاكم لمجتمع سني، ولم ينظر إلى هذه الفروع باعتبارها نبتًا جاء من بيئة غريبة، وإنما اعتبرت جزءًا من فقه المسلمين الذي يقوم على وحدة المصادر وتنوع المناهج، ولم يكن الفقيه السني في حاجة إلى “أسلمة” للحل المختار، فهو إسلامي المنشئ والمصدر والغاية، وتقدمت النظرة إلى المذاهب باعتبارها وحدة متكاملة، وليس تفاريق مذهبية وهي نتاج العقل الفقهي الإسلامي، ويستوعب الفقه المقارن مذاهب المسلمين شيعية وسنية وفي مقدمتها المذهب الإمامي، وتجلى ذلك في كتاب “مقارنة المذاهب” للعلامة “محمود شلتوت” في أوائل الثلاثينات وبالتحديد في عام 1936، وتجلى في دراسات أخرى كثيرة – لم ترصد بعد – يحتل فيها الفقه الإمامي مكانة في التاريخ العقلي.

ولقد حاولت في كتابي “نظرية الفقه في الإسلام”، اختبار التقسيم المتداول لتاريخ الفقه بقصد استخدامه في كتابة تاريخ الفقه الشيعي، واهتديت إلى تقسيم مخالف للعصور لا أظنه يصلح لغير الفقه الإمامي، حيث تم تقسيم التاريخ الفقهي إلى ثلاثة عصور.

عصر ولاية الرسول: وينتهي بانقطاع الوحي.

عصر ولاية الأئمة: وينتهي بانقطاع العصمة.

وعصر ولاية الفقيه: ويبدأ مع الغيبة، ولا ينقضي إلا بالظهور.

وهو تقسيم لا نرتضيه لمجمل الفقه الإسلامي، الذي يحسن تقسيمه وفق البناء الأصولي.

وعلى الرغم من أن دعوة التقريب بجماعتها التي أنشئت في مصر قد ساهمت في الإقرار الرسمي لدخول الفقه الشيعي إلى كلية الشريعة، إلا أن وجوده العملي سبق هذا التاريخ بعقود، ولعل ميزة هذا الإقرار الرسمي أنه جاء في إطار منهجي يتعلق بما أسماه الفقهاء الخلاف العالي، وفي ذلك يقول العلامة “محمد محمد المدني”: “ينبغي أن يفهم هنا الفرق بين دراسة مذهبيْ الإمامية والزيدية على سبيل الاستقلال، ودراستهما ضمن الفقه المقارن، فليس الذي قرره الأزهر هو دراسة هذين المذهبين استقلالاً، على معنى أن تكون المذاهب التي تدرس في كلية الشريعة ستة، هي الأربعة السنية المعروفة، والاثنان الشيعيان الإمامية والزيدية، لا ولكن الذي تقرر من أول يوم، والذي كان موضع بحث من أول يوم، هو إدخال هذين المذهبين في منهاج “الفقه المقارن”، ودراسة الفقه المقارن تقوم على أساس ضروري، هو أن يدخل الباحثون فيه غير متأثرين بحكم سابق، ضد هذا المذهب أو ذاك، ولذلك يجب أن يخلع الباحث العلمي ثوبه المذهبي قبل أن يدخل قاعة الدرس، وإلا كان الزعم بأن ما يفعله مقارنة بين المذاهب زعمًا غير صحيح، بل كان ذلك أشبه بالظهور بالمظاهر التمثيلية… إن هذا الدرس يجب أن يكون على أساس الإنصاف والمعدلة، وخلو الذهن من حكم سابق، وإلا لم يكن درسًا، ولا منهجًا علميًا محترمًا، إن البحث والدليل والبرهان هو الأساس في الحكم، وليس هناك من يزعم أن مذهبًا من المذاهب الإسلامية حق كله، وأن مذهبًا آخر باطل كله، وإنما كل مجتهد متعرض لأن يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه”.

والذي اختطه الأزهر طريقًا هو الحل العلمي لتخطي عقبة التعصب العلمي، وهو حل لم تعترف به منهجًا بعض الحوزات العلمية، لأن بنيتها المعرفية تجعلها الفرقة المحقة، وترى من واجباتها الدينية – الدعوة إلى مذهبها – وإلا فماذا تستفيد الحوزة العلمية في “قم” من عدد لا يقل عن ثلاث مئة باحث، و – البعض يزيدهم إلى أكثر من سبعمائة -، جئ بهم من “تونس” إلى “قم” ليعتمدوا شيعة إمامية، بعد أن يتركوا وراء ظهورهم مذهبهم المالكي، وما هي قيمة هذا التحول إلا من خلال دلالاته؟ وماذا يستفيد المجتمع الإسلامي من تلك القسمة الطيزي؟، وهل هي عودة إلى إرث تاريخي كان موقف المالكية المغاربة فيه مناهضًا للاتجاه الشيعي في القرن الرابع الهجري كم يروي “المقدسي” في “أحسن التقاسيم”؟ أسئلة مشروعة تمنينا أن تغيب من مشروع النهضة الإسلامية، ليبقى الشيعي شيعيًا، والسني سنيًا، في ظل وحدة إسلامية تستهدف إحياء عناصر المقاومة والصمود في عصر تكالبت الأمم فيه علينا، خاصة وأن الدولة العثمانية – وربما كان ذلك سياسة منها – لم تشأ إلزام إمبراطوريتها الواسعة بمذهب واحد رغم التزامها كدولة بمذهب رسمي.

إن الذهنية المعرفية عند مؤسسي المذاهب الفقهية السنية توصد الباب أمام التعصب المذهبي، وتجعل العصبية لونا من التقليد الأعمى الذي يأباه مؤسسو المذاهب، وترفضه قواعدهم المنهجية.

“فأبو حنيفة” كان يقول: “لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي”، وأوصى الإمام “الشافعي” تلميذه “المزني” قائلاً: “يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول وانظر في ذلك إلى نفسك فإنه دين”.

وقال الإمام “أحمد بن حنبل” لأحد مجالسيه “لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الأوزاعي، ولا النخعي ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا القرآن والسنة”.

ويعقب العلامة “محمد المدني” على هذه النقول قائلاً: “وهذه النظرة المنصفة تغيب أحيانًا عن بعض أهل العلم، أو تغمرها العصبية أو المصلحة الشخصية، فيشتد الخلاف، وينقلب لجاجا وخصومة، وربما أدى إلى قطيعة”، وهو ما عزل المذاهب كلٌ في منظومته القواعدية، فلم ينفتح ولم يتجدد ولم يواكب عصره ومشكلات زمانه، وهكذا شهدت العصور المتأخرة في ميدان الفقه ظواهر كان لها أثر واضح في انقسام الناس بحسب البلدان والمناطق إلى مذاهب تجمدت وتصلبت ومن هذه الظواهر كما يقول الدكتور “محمد المبارك” في كتابه “المجتمع الإسلامي المعاصر”.

“1- اهتمام الفقهاء بالفروع والجزيئات – وبعضها افتراضي خيالي غير واقعي – أكثر من اهتمامهم بمقاصد الشريعة وأهداف الإسلام، وهذا الاهتمام بالجزئيات – وهي بطبيعتها خلافية بسبب الخلاف في ثبوت أصل النص إن كان من السنة أو فهمه وتأويله – جعل الخلاف فيها بنظرهم خلافًا ذا شأن كبير، فإذا اجتمع الخلاف في جزئيات كثيرة ولاسيما في أحكام العبادات كان سببًا في شيء من البعد بين المذاهب المختلفة قد يصل إلى حد الجفاء مع المخالفين في تلك الجزئيات، وليس كل مذهب من المذاهب كما انتهي إليه الأمر إلا مجموع كل هذه الجزئيات الخلافية.

2- اهتمام فقهاء كل مذهب بالأحكام التي استخرجها إمامهم وأتباعه أكثر من اهتمامهم بأدلتها الأصلية من الكتاب والسنة، ولذلك تدور أبحاثهم – إذا بحثوا في الأصول والأدلة – على التماس أدلة الكتاب والسنة المؤيدة لرأي إمامهم ومذهبهم بدلاً من أن يكون هدفهم التماس ما ترجحه أدلة الكتاب والسنة من الآراء والأحكام، وبذلك بقى كل مذهب في قوقعته الخاصة دون أن يحاول الحوار والتفاعل مع المذاهب أو الآراء الأخرى على صعيد الإسلام العام، وبمقاييس الكتاب والسنة لا غير.

3- اقتصار أهل كل مذهب على النظر إلى الإسلام من خلال مذهبهم حتى كان مذهبهم – في اعتبارهم العملي – هو الإسلام، ولو أنهم يقولون نظريًا أن جميع المذاهب معتبرة ومأخوذة من الإسلام.

4- أن التمسك بجزئيات المذهب في العصور المتأخرة وإغفال الكليات والمبادئ العامة الماثلة في الشريعة أو إغفالها، وإهمال العودة إلى أدلة الكتاب والسنة أدى بطبيعة الحال إلى نوع من الانغلاق في إطار المذهب، وبالتالي إلى التعصب المذهبي الذي حل محل الشريعة التي هي أوسع من المذهب، وليس المذهب في الأصل إلا فرعًا منها وفهمًا لها من فهوم كثيرة.

5- انتهت المذاهب بطريقتها التي سلكتها، في البعد عن النظر إلى الأدلة وفي الانحصار في المذهب والتعصب له، إلى وقوف الاجتهاد الذي يقتضي بطبيعته الرجوع إلى الأدلة الأصلية واستخراج المبادئ والقواعد الكلية والتجرد من العصبية للمذهب، والأخذ بما يثبته الدليل.

6- ظهر في العصر الحديث نهضة محمودة أساسها العودة إلى الكتاب والسنة ومعرفة الأدلة ومختلف الآراء في المسائل الفقهية، وتوسعت هذه الحركة ووضع في خطط كليات الشريعة في أكثر من بلدان العالم الإسلامي مادة الفقه المقارن، وهو يشتمل على استعراض آراء المذاهب وأدلتها في المسائل الفقهية، كما وضعت بعضها مادة فقه الكتاب والسنة، ولاشك أن فقه مذاهب الأئمة المجتهدين كنـز ثمين يستفاد منه في هذا المجال خلافًا للانحصار في مذهب واحد، إلا أن من المؤسف أن بعض طلاب العلم الذين أنعم الله عليه بالإطلاع على هذه  الطريقة تولدت لديهم عصبية جديدة دفعتهم إلى النظر إلى المذاهب وأتباعها نظرة ازدراء وجفاء بل وعداء، وربما نالوا بألسنتهم أئمة المذاهب أنفسهم، في حين أن مخالفتنا لإمام من الأئمة المبنية على دليل أقوى من الكتاب والسنة لا تقتضي الغض من مكانته والانتقاص من فضله، ولا يجوز أن نعامل أتباع هذه المذاهب الاجتهادية، ولو كانوا مخطئين بروح الحقد والعداوة والبغضاء، وإنما الخلاف في الأسلوب والطريقة، وفي الأحكام والفروع، وتصحيح خطتهم لا يكون بالطعن والمهاجمة العنيفة، وإذا كانت دعوة المخالف لأصل الدين إنما تكون الحكمة والموعظة الحسنة فما بالك بالمسلم المؤمن؟”.

إن العلاقات بين المذاهب انتهى بها المطاف في صورتها المعاصرة إلى اتجاهات ثلاثة:

الاتجاه الأول: يرى العودة إلى “اللامذهبية” التي كان عليها مسلمو العصر الأول، فلم تكن المذاهب إلا قيدًا على النص، وأصبحت عند المتأخرين التزامًا بمذهب لا ينبغي الخروج عليه، وإلزامًا برأي راجح أو مرجوح لا ينبغي اختيار غيره من مذهب آخر، ورأى هذا الاتجاه أن التمذهب بدعة، والتمسك به ضلالة.

والرأي عندي أن هذا الاتجاه قراءة خاطئة للعقل الفقهي،الذي بنى على تعددية الآراء، وتباين في المناهج، وليس من مصلحة أحد هدم البناء الفقهي – وهو رصيد وثروة لا توجد عند أية أمة – تحت وهم الرجوع المباشر إلى الكتاب والسنة، وهي عودة لا تنهي الخلاف ولا تمنع من الاختلاف الذي هو من طبيعة الحياة العقلية في الإنسان.

الاتجاه الثاني: يريد إسلامًا بلا مذاهب، وهو يختلف عن الاتجاه الأول لأنه يدعو إلى البدء في حركة توحيد بين المذاهب واسعة النطاق تبدأ بتوحيد المذاهب السنية، ثم المذاهب الشيعية ثم توحيد المذاهب الشيعية المعتدلة مع المذاهب السنية، ثم توحيد بقية المذاهب كالدرزية والإسماعيلية وغيرها، وهو اتجاه يحسب له حسن نيته، واستهدافه وحدة المسلمين، ولكنه محاولة ساذجة، فالأبنية الفقهية ليست ثقافة عامة، وليست عقلاً جمعيًا، وإنما هي بناء كلي متماسك له مصادره وقواعده، وله مناهجه وأساليبه، وتذويب المذاهب على هذا النحو يعني التضحية بالرصيد المذخور من تراثنا العقلي مقابل وهم اسمه الوحدة الثقافية.

الاتجاه الثالث: الذي يتبنى التعددية المذهبية في مجال التفكير، ويحاول الحد منها في مجال التطبيق، وهو اتجاه ارتضيه، وأنادي به وأعمل عليه، إن الأفق العقلي الفقهي يتحرك في مجالات منهجية ثلاثة:

الأول: منهجية  الاستنباط :

وهي تنظر إلى الفقه الإسلامي باعتباره مذاهب متعددة، وأساليب متنوعة، لكل مذهب طريقته في الفهم وترتيبه للمصادر، ونفيه أو إثباته لبعض المصادر التبعية، وفي ذلك ما فيه من إثراء للحياة الفقهية بكم من الفروع والجزئيات تكاد تستغرق كل تفاصيل الحياة اليومية للإنسان، وهذا ضروري ومطلوب ويجب أن يبقى.

وتقوم هذه المنهجية على قاعدتين:

القاعدة الأولى: النظر إلى الفقه الإسلامي باعتباره مجموعة من المذاهب باقية ودارسة، سنية وشيعية، وأباضية وغير ذلك.

القاعدة الثانية: التعامل مع المادة الفقهية بميزان قوة الدليل، فما قوى دليله كان راجحًا، وما لم يعلُ دليله كان مرجوحًا.

الثاني: منهجية التقنين:

وهذه تعتبر الفقه الإسلامي وحدة متكاملة، لا تفاريق مذهبية، وهو رصيد مفتوح أمام كل مشرع ليأخذ منه ما يراه أوفق لزمانه ومكانه وأشخاصه.

وهذه المنهجية أيضًا تقوم على قاعدتين:

القاعدة الأولى: جواز التلفيق بين الآراء في المذهب الواحد، وبين المذاهب المتعددة.

القاعدة الثانية: الترجيح في بعض الأحيان بالمصلحة وليس بقوة الدليل، وهي مصلحة قد تجعل الراجح مرجوحًا، والمرجوح راجحًا.

والتشريعات المعاصرة في العالم الإسلامي تكاد تجتمع على بناء التشريعات المستمدة من الشريعة الإسلامية وفق هذه المنهجية وباستخدام ضوابطها وقواعدها.

الثالث: منهجية التطبيق:

وتعني تنـزيل الأحكام الشرعية من تجريد الأمر والنهي، إلى تحديد الوصف والقيد، وهي مهمة صعبة يتسع فيها نطاق أهل الاختصاص، وهي مذلة أقدام دائمًا، ولها قاعدتان:

القاعدة الأولى: القبول بالتدرج إذا تعين سبيلاً للعمل بالشريعة، فما لا يدرك كله لا يترك كله.

القاعدة الثانية: القبول بسلطة ولي الأمر باعتبارها وسيلة الإلزام فيما لا يلزم بذاته من الأحكام، فالخطاب النصي ليس قضائيًا دائمًا، بل هو قد يكون قضاء وديانة، وقد يكون ديانة لا قضاء، وقد يكون قضاء لا ديانة، وفي كل الأحوال فإن سلطة ولي الأمر محكومة بقيدين هما:

1- لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

2- تصرف ولي الأمر منوط بمصلحة الرعية.

فلا يصح اختياره للحكم الذي به يرتفع الخلاف، إلا إذا صح اختياره حاكمًا حتى مع وجود الاختلاف.

ولعلى بعد هذا الطواف أكون قد أحسنت وضع المسألة، لنحسن إيجاد الحلول لها، وذلك عن طريق رفع التناقض في بنية المعرفة الإسلامية، وهو ما يلخصه العلامة “أحمد حسن الباقوري” بقوله: “قضية السنة والشيعة هي في نظري قضية إيمان وعلم معًا.

فإذا أردنا أن نحل مشكلاتها على ضوء من صدق الإيمان وسعة العلم فلن تستعصي علينا عقدة ولن يقف أمامنا عائق.

أما إذا تركنا – للمعرفة القاصرة واليقين الواهي – أمر النظر في هذه القضية والبت في مصيرها فلن يقع إلا الشر.

وهذا الشر الواقع إذا جاز له أن ينتمي إلى نسب أو يعتمد على سبب فليبحث عن كل نسب في الدنيا وعن كل سبب في الحياة إلا نسبا إلى الإيمان الصحيح أو سببًا إلى المعرفة المنـزهة، فأما أنها قضية علم فإن الفريقين يقيمان صلتهما بالإسلام على الإيمان بكتاب الله وسنة رسوله، ويتفقان اتفاقًا مطلقًا على الأصول الجامعة في هذا الدين فيما نعلم، فإن اشتجرت الآراء بعد ذلك في الفروع الفقهية والتشريعية فإن مذاهب المسلمين كلها في أن للمجتهد أجره أخطأ أو أصاب.

وأما أنها قضية إيمان فإنني لا أحسب ضمير مسلم يرضى بافتعال الخلاف وتسعير البغضاء بين أبناء أمة واحدة ولو كان لعلة قائمة”.

وأبعد ما يصل إليه مذهب عن الصواب، أن يعتبر “الحقيقة” احتكارًا لا باب له إلا باب إمامه، وأن يعتبر الجنة “محجوزة” لصراطه المستقيم، ولم نعد اليوم أمام صراع مذهبي تتبناه تيارات وفئات فحسب، وإنما نواجه سلطان فقيه يعتلي قمة دولة ونظام، فليست ولاية الفقيه المطلقة معلقة في فضاء “المولى النراقي” و”عوائد أيامه” وإنما وصلت ذروتها في التطبيق عند “الإمام الخميني” باعتباره “الفقيه الحاكم”، وتباعدت المسافة بين الفقيه السني ودوره، والفقيه الحاكم ووظيفته، وقد تضيق المسافة بين الفقيه السني وبين أهل المعارضة المطلقة لهذه الولاية من فقهاء الشيعة المعاصرين – وهم يعتبرون امتدادا لفقهاء القرن الرابع – من أمثال السيد “محمد الروحاني”، و”السيد القمي” -، وقد تضيق بصورة أقل مع الذين يرونها مجرد ولاية في الأمور الجزئية والحسبية، أو حسبية قبل المكنة وتنفيذية بعد التمكين، ويمثلها بالمعنى الأول السيد “الخوئي”، وبالمعنى الثاني السيد “محمد حسين فضل الله”.

ولكن المسافة تتسع بل والتلاقي ينقطع بين الفقيه السني والفقيه الإمامي عندما تدخل ولاية الفقيه في عصر الغيبة إلى الحيز السلطاني الذي يعتبر الدولة امتيازًا خاصًا للفقيه كما يرى “الشهيد الصدر”، – ولعل ذلك يفسر موقف الصدريين الحالي في العراق -، واتجاه ولاية الفقيه المطلقة التي تعطي سلطة لا متناهية للفقيه في عصر الغيبة، وفي كل المجالات كما يرى “الخميني”، و”منتظري”، ومنظرو حزب الدعوة، وهذه بنية معرفية لا تجعل الفقيه ينفرد بالسلطة، وينفرد بالنيابة العامة عن الإمام الغائب فحسب ولكنه أيضًا ينفرد “بالأعلمية” الأمر الذي ينفرط معه أي عقد للتقريب بين المذاهب تحت وطأة مشروع سياسي ديني له مفاهيمه وطموحاته.

إن تلاقي الأكفاء لا يبدأ بشعار توحيدي، أو بكلمة ترحيب ، تزكي شخصًا، أو تمدح فكرة، إنه تعامل مع الجذور بإعـلان خرائط جديدة، يتم فيها حذف التشوهات، وتبرئة الساحة من خطاب الإدانة الذي يعتبر التراشق باللعنات من مقام الرضا، وتحريرنا من شطحات الغلاة، ومن تمرد المتطرفين في أي جانب، وتلك مهمة صعبة تحتاج إلى أولى العزم من النخبة المفكرة، وتحتاج إلى تكوين نفسي خاص، وإلى تحصيل علمي صحيح ورحب.

وليس مهمًا أن نجلس دائمًا على كرسي الاعتراف، فالمعاصي كما يقول أحد أئمة آل البيت ليست لها رائحة، وهذا يفتح الأبواب على مصاريعها لتصحيح المسار، وتجفيف منابع الخوف والقنوط والتعصب، والقضاء على مصادر التوهين والتفريق والتشهير، لنقود أنفسنا إلى وحدة أصبحت بالنسبة لنا من ضرورات الدين والدنيا، قبل أن تطوي صفحتنا تحت وهم قيادة العالم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر