أبحاث

فكرة النظام العام في مجال الأحوال الشخصية

العدد 113

البحث في هذه الجزئية من الدراسة أمر به ما به من تركيب وتعقيد، وذلك رغم ما يتمتع به من يسر ظاهر. فأما ذلك اليسر، فلمحدودية الأحوال الشخصية وتحيزه انحصارًا في مسائل الحق القانوني للأسرة بمتعلقاتها من زواج بتداعياته وطلاق بآثاره،

 وهذه جلها مما يكاد ينحسم أمره في نطاق علاقته بالنظام العام، فاستقرار أوضاعها منذ زمن بعيد ممتد إلى ما قبل التنظيم القانوني الحديث، متدثر بمرجعية الشريعة الإسلامية هاديًا وحاكمًا وضابطًا، يجعل من شأنه تماسه بالنظام العام أمر يكاد يكون مستقرًا ومتواتراً، لذا فلا نصادف في قضاء المحاكم الشرعية وما بعد إلغائه في دوائر الأحوال الشخصية أن في الأحكام القضائية المتعلقة بالأحوال الشخصية في المسلمين، ما يمثل إبداعًا قضائيًّا في مقام تأصيل مفهوم النظام العام الوضعي، أو إضافة علمية في مجال هيكله كالتي شهدناها في قضاء القانون العام الإنشائي بهذا النطاق. وأما التركيب والتعقيد الذي يصادف البحث في هذه الجزئية، إنما مرده أمور مرتبطة، أولهـا : منهجي نتاج ما وصل إليه البحث المنقضي داخل الإطار النظري لمفهوم النظام العام في هيئته الوضعية وإنكارنا لوجود هذا المفهوم بهذه الهيئة في البناء المنظومي للشريعة الإسلامية، بحسبان الأخيرة هي المرجع لأحكام الأحوال الشخصية، وثانيها : يتعلق بتساؤل أصل يطرح نفسه عن التصور الذي سوف نعتمده أساسًا للحكم على قضاء الأحوال الشخصية، هل هو التصور الوضعي لفكرة النظام العام، بحسبان ذلك القضاء في النهاية إنما هو قضاء وضعي محسوب على المنظومة القانونية القضائية الفاعلة وداخل تفاعلاً بها مقيد بأوضاعها ومفاهيمها، أم أنه التصور الشرعي للمرجعية الإسلامية العليا على نحو ما تقدم بالباب السابق، بحسبان كون قضاء الأحوال الشخصية مما يعد موضوعيًّا قضاء شرعيًّا، يرتد إلى أحكام الشريعة الإٍسلامية مرجعًا وضابطًا، وثالث هذه الأمور المتشابكة، يكمن في طبيعة قضاء الأحوال الشخصية ذاته، هل هو قضاء وضعي بحسبانه جزءًا من نظام قضائي وضعي قائم يطبق قوانين الأحوال الشخصية الوضعية ابتداء التي هي من عمل المشرع الوضعي، أم هو قضاء شرعي بحسبان مرجعية الشريعة الإسلامية للأحكام الوضعية التي يطبقها. أما رابع هذه الأمور فهو التسمية التي سوف نطلقها عن الأصول والكليات التي يعتد بها قضاء الأحوال الشخصية ضابطًا لمسائل الأحوال الشخصية هل تعد نظامًا عامًّا من المنظور الوضعي أن تعد إطارًا مرجعيًّا شرعيًّا من المنظور الإسلامي.

وخـامس تلك الأمـور، موقف المحكمة من الدستور، وهو موقف به الكثير مما يستدعى العرض والمناقشة.

ولفض هذا التشابك، سوف نعرض لعدد من الأمور، نحسبها مقدمات للبحث في هذه الجزئية، فنلتزمها ونعمل وفق هداها. والحق، أن هذه المقدمات لتكاد تكون توفيقية بين اعتبارات متباينة نحسبها معترضة للنطاق البحثي على ما تقدم بيانه، نحاول من خلالها إزاحة العديد من الانبهام ناتج هذا التشابك المعقد الذي ذكرناه، وذلك بالتهيؤ في مسافات وسطى بين أطراف التباين والإمساك بما يصلح قواسم مشتركة بين المختلفين، واضعين في الاعتبار أننا نتعامل مع نظام قانوني قائم فعلاً لا مع نموذج يراد امتثاله، الأمر الذي قد يكون من أثاره، مفارقتنا ــ في مسألة أو أخرى ــ لقليل من عناصر أي من التصور الوضعي لمفهوم النظام العام أو التصور الشرعي للإطار المرجعي الإسلامي، على ما انتهينا إليه بالباب السابق. ولا نكون بذلك ــ أي في حال حصول مثل هذا الافتراق ــ منكرين لما سبق وانتهينا إليه أو متناقضين وأصول أنبنى عليها نهجنا البحثي المتقدم، وإنما نكون منصاعين لواقع يفرض نفسه قسرًا لا يمكن انكاره ولا يجوز التغاضي عنه تجاوزاً.

أولاً:يتعين بداية الإشارة إلى المقصود بمسائل الأحوال الشخصية حسب نص المادة (13) من القانون رقم 147 لسنة 1949 بشأن نظام القضاء، المسائل المتعلقة بحالة الشخص وأهليته، ونظام الأسرة من زواج وخلافه ونسب، والمسائل المتعلقة بالولاية والقوامة والحجر والإذن بالإدارة والغيبة والمفقود، فضلاً عن مسائل المواريث والوصايا. ووهي جميعها مسائل ترتبط، وبشكل مباشر، بأخص مكونات الهوية الذاتية للفرد، ألا وهو ديانته أي معتنقه العقدي، الذي يتشكل وجدان الفرد وفق تعاليمه وتتكون الإنساق القيمية والحكمية والفلسفية للفرد على هدى من أحكام هذا المعتقد، مما لم يكن معه من سبيل لتجاهل وثوق هذه الروابط، فكانت الشرائع الدينية هي الحاكم الأعلى لمسائل الأحوال الشخصية بحيث يخضع كل فرد لأحكام قانونه الشخصي المتسق وتعاليم دينه الخاص، الأمر الذي أفرز حال من التعدد التشريعي في مسائل الأحوال الشخصية.

ثانيًا:إن قضاء الأحوال الشخصية قام بدور في غاية الأهمية على مستوى التقريب بين مفاهيم الفقه الإسلامي وأوضاع القانون الوضعي هذا من جانب، ومن جانب آخر قام بدور لا يقل أهمية على مستوى التعامل مع تشريعات الأحوال الشخصية لغير المسلمين لدمجها في النظام القانوني المصري الذي يجد من الشريعة الإسلامية أصلاً مرجعيًّا في هذا الخصوص.

ثالثًا:يتميز النظام القانوني لمسائل الأحوال الشخصية، بأنه كان يجد، ومنذ قبل التعديل الدستوري الذي تم في 22/5/1980 وبمقتضاه غدت الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، في الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي الحاكم بهذا النظام القانوني، وصارت الكليات الأصيلة لهذا النظام هي كليات وقطعيات الشريعة الإسلامية، ما انعكس بدوره على الوضع التشريعي للأحكام القانونية الضابطة للأحوال الشخصية لغير المسلمين، التي أصبحت بدورها منضبطة بأصول النظام الشرعي الإسلامي، على ما سوف يتبدى لاحقًا.

رابعًا :النظام القانوني لمسائل الأحوال الشخصية، وإن بدا نظامًا هجينًا يجد من التشريع مصدره الأول ومن الشريعة الإسلامية مصدر الثاني، إلا أنه وفي حقيقة كنهه هو نظام شرعي إسلامي خالص، إذ التشريع لا يعدو كونه تخير ولي الأمر لأحكام من داخل الشريعة الإسلامية لتكون واجبة التطبيق لزومًا، أي أنه ليس تشريعًا وضعيًّا بمفاد انفلات سلطان ولي الأمر حياله، وإنما هو تشريع يجد في الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي والوحيد، ولا يعدو دور المشرع حياله سوى الترجيح بين الآراء الفقهية وتخير أحدها تغليبا لها على باقيها، وعليه ومن هذه الوجهة فإن النظام القانوني للأحوال الشخصية هو نظام تشريعي إسلامي. وهذا كله باستثناء نظم الطوائف والملل غير المسلمة التي تخضع أحكامها المخصوصة والتي في النهاية منضبطة بإطار النظام العام الوضعي، الذي تعد الشريعة الإسلامية من روافده الأساسية.

خامسًا:أما قضاء الأحوال الشخصية، فهو وإن مر بتطور طويل من قضاء متعدد بعضه وطني كالمحاكم الشرعية والمجالس المحلية. وبعضه الآخر اجنبي كمحاكم القناصل، وبعضه الثالث مختلط وطني من حيث الشكل وأجنبي من حيث الواقع، مرورًا بقضاء موحد نسبيًّا عند إلغاء الامتيازات الأجنبية ومعها المحاكم المختلطة ومحاكم القناصل، وذلك في 1949 بموجب معاهدة مونترو الموقعة في 1937م؛ حيث بقيت المحاكم الوطنية وإلى جانبها المحاكم الشرعية للمسلمين والمجالس المحلية لغير المسلمين، إلا أنه تم توحيده كاملاً بصدور القانون رقم 462 لسنة 1955 في 21 من ديسمبر سنة 1955 الذي ألغى المحاكم الشرعية والمجالس المحلية وأحال اختصاصاتها إلى المحاكم الوطنية اعتبارًا من الأول من يناير سنة 1956م، وبذلك صار ثمة جهة قضائية واحدة هي المختصة بكافة مسائل الأحوال الشخصية، وإن كان هذا لا ينفي تعدد النظم المعمول بها لدى هذه الجهة القضائية حسب الملل والطوائف المختلفة. هذا الوضع أثر إيجابيًّا على قضاء الأحوال الشخصية القائم في الدوائر المختصة بالقضاء المدني العادي، إذ وجد ميراثًا قضائيًّا عظيمًا متخلفًا عن المحاكم الشرعية، لكنه من القضاء على هدى أحكام الشريعة الإسلامية بيسر دون تعسر، خاصة أن القضاء الشرعي كان قد قام قبل بدور هام في مقام تقريب الأحكام الشرعية من قواعد القانون الوضعية، الأمر الذي يسري على القضاء الوطني، ومن بعد، في تحديد ما لا يجوز مخالفته أو الخروج عليه.

سادسًا :البادي من الاستعراض المتقدم، وحركتي التطور التشريعي والقضائي في مجال النظام القانوني لمسائل الأحوال الشخصية، أننا بصدد وضع غير منتظم أو منضبط، فإنه ولئن كنا بصدد جهة قضائية واحدة تتولى شأن الأحوال الشخصية، فإننا أيضًا بصدد تعدد في النظم القانونية الحاكمة لهذا الشأن ما بين الشريعة الإسلامية الأصل وشرائع الملل والطوائف، فضلاً عن التداخل غير المنطقي لجهات الاختصاص بمسائل الأحوال الشخصية التي تقضي على أصل من الشريعة الإسلامية بباقي النظام القضائي الكامل الذي يقضى وفق مرجعيات وضعية متباينة والمرجعية الشرعية لمسائل الأحوال الشخصية، وذلك حال يفرز وضعًا في غاية التناقض، فكيف لمحكمتين داخل ذات النظام القانوني الموحد وبهيئة قضائية واحدة، أن تقضى كا منهما وفق مرجعية تخالف الأخرى. إلا إن وزعم التناقض البادي على ذلك النحو، فإنه لا يعدو كونه تناقضًا ظاهريًّا ولا يخبر عنه إلا مظهره، حال تنبئ حقيقة جوهرة عن خلافه، إذ الواقع القضائي والقانوني إنما يفصح عن امتزاج بقوائم بين هذا الكل المركب، امتزاج جيرنا معه بصدد منظومة متكافئة تهيأت أوضاع آلياتها على نحو متسق. وآية ذلك أن قضاء الأحوال الشخصية ومنذ العهد باختصاصه للمحاكم الشرعية، اضطلع بدور مشكور في تقريب أحكام الشريعة الإسلامية على أصل من مفاهيم وآليات ونظم القانون الوضعي حتى أنه عند صيرورة أمر الأحوال الشخصية إلى القضاء المدني العادي، كان الطريق ليكاد يكون قد مهد بالكامل أمام الأخير، من وجهة الامتزاج شبه الكامل لأحكام الأحوال الشخصية ذات المرجعية الشرعية الوحيدة بالنظام القانوني الوضعي القائم، ما لا يبدد معه أي مظهر لتناقض أو افتراق في خاصة هذا المجال، بل إن الواقع القانوني ليفصح عن استيعاب كامل وسليم من قبل النظام القانوني القائم، لأحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية. ومن جانب آخر، قام القضاء المدني العادي الموكول إليه بمهمة القضاء في مسائل الأحوال الشخصية بدور غير منظور في القيام بمحاولة استيعاب النظم القانونية الخاصة بالملل والطوائف المختلفة، داخل النظام القانوني القائم، وذلك بالتقريب بينهما، في ظل هيمنة المرجعية الشرعية الإسلامية، بوصفها المكون الأول والوحيد لإطار النظام العام الخاص بهذا المجال، وهذا الدور إن لم يفرغ منه القضاء بعد كاملاً، فقد فرغ من جانب كبير منه.

سابعًا :إزاء ما تقدم جميعه، ولما اتضح لنا من إطار النظام العام الوضع المتربع على القمة من المنظومة القانونية الوضعية، وكذا إطار المرجعية الشرعية العليا المتبوئة للمكانة المقدسة الأسمى للنظم القانوني الشرعي، وإزاء ما تي المتربع على القمة من المنظومة القانونية الوضعية، وكذا إطار المرجعية الشرعية العليا المتبوئة للمكانة المقدسة الأسمى للنظم القانوني الشرعي، وإزاء ما تظهره عبارات نص الفقرة الثانية من المادة السادسة من القانون رقم 462 لسنة 1955 سالف الإشارة من أنه «أما بالنسبة للمنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين والمتحدي الطائفة والملة الذين لهم جهات قضائية ملية، وتحت صدور هذا القانون فتصدر الأحكام ــ في نطاق النظافة العام ـــ طبقًا لشريعتهم».

ومن استعراض العديد من قضاء الأحوال الشخصية، يتبين أن دوراً تقريبيًّا هامًّا، اضطلع به هذا القضاء، في القيام بالتوفيق بين كل من إطار النظام العام وإطار لمرجعية الشرعية العليا، بحيث يمكن القول بأن قضاء الأحوال الشخصية تمكنه من تحيز مساحة الأحوال الشخصية القائمة بالإطار المرجعي الشرعي، وقام بدمجها بإطار النظام العام المحيط بالنظام القانوني الوضعي. ولعله في ذلك كان مدركًا ما سبق وانتهينا إليه قبل من التباين بين مفهوم النظام العام الوضعي ومفهوم المرجعية الشرعية العليا بالنظام الإسلامي، إلا أنه ولضرورات الواقع المعيش وما فرضه من إقصاء للشريعة الإسلامية من مجال التشريع القانوني لفترة شارفت القرن، لم يكن أمامه من بد، إلا الانصياع لهذا الابتلاء، ومحاولة الالتفاف عليه، بإعادة إحياء الشريعة الإسلامية مرة أخرى داخل النظام القانوني الوضعي، وذلك بتخريج أحكامها المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية، تخريجًا قانونيًّا وضعيًّا، مقربًا بين المنظومتين، عاملاً من خلال قواسمهما المشتركة، مستخدمًا في كل ذلك المصطلح الوضعي نزولاً على ضرورات الواقع، وذلك دونما إخلال بأحكام الشرعية الإسلامية وبضوابط التفسير والقياس الفقهي المعتمدة من قبل الفقه الإسلامي وأصوله، ومع استبقاء الحرص على الالتزام الكامل للاجتهاد في نطاق تسعة أحكام الشريعة دون خروج عليها أو افتئات، وإنما الأمر كان يتعلق بالتقريب في التصورات العامة وبالتركيز على المتشابهات بين المجالين الشرعي والوضعي ــ الأمر الذي يفسر ــ وعلى ما سوف يتبدى لاحقًا ــ إطلاق مصطلح النظام العام على ما عده من قطعيات أو كليات إسلامية لا خروج عليها، فذلك العمل ليس من قبيل انكار ما للشريعة الإسلامية من وجود مستقل بآلياتها الذاتية، وإنما هو من قبيل استغلال المتاح من آليات وضعة لفرض القدسية الواجبة على الكليات الإسلامية وقطعياتها.

ثامنًا:أما عن الأشكال المتعلقة بعمل المحكمة الدستورية العليا، فهو منفصل منهجًا عن عمل قضاء الأحوال الشخصية، ولذا سوف نرجئ التعليق عليه إلى أن نشرع في دراسته استقلالاً بنهاية البحث بهذه الجزئية (1).

قضاء الأحوال الشخصية

أولاً: حفظ الدين:

الإسلام هو خاتم الرسالات السماوية وخيرها جمعاء، هدى به المولى غز وجل البشرية قاطبة، فكان فرضًا حتمًا حفظه فضلاً عن العمل على نشره، وهي الرسالة الأصل التي كلف بها حملة لواء هذا الدين الهادي، لذا لم يكن ثمة بد من التقرير بذلك وانتهاج سبل مقتضاه، فكان التقرير فيما نصت عليه كافة الدساتير المصرية المتعاقبة من كون الإسلام دينًا رسميًّا للدولة، المادة 149 من دستور سنة 1923، والمادة 138 من دستور 1930، المادة 3 من دستور 1956، والمادة 5 من دستور 1964، والمادة 2 من دستور 1971، ورغم التباين الهائل بين هذه الدساتير في المفاهيم والتوجهات والأهداف، فقد بقي لواء الدين الإسلامي مشرعًا فوق هامة الدولة المصرية، حال يتعين انتهاج سبل مقتضى هذا الفهم، في الحفاظ على هذا الدين، هاديًا ونبراسًا منيراً، وذود عنه دفعًا لكل ما يتهدده أو يتهدد أي من أصوله القائم عليها. وهو ما تولى قضاء الأحوال الشخصية تأكيده في غير قضاء له، بحسبان الامتزاج الكامل بين الدين الإسلامي والدولة المصرية، فهما أمرٌ واحدٌ، لا انفصال لهما ولا انفصام لعراهما، تقرر أنه «واجب على المسلمين أن يعدو ما يستطيعون من قوة للدفاع عن الوطن وإرهاب أعدائه بل من أول واجب عليهم، إن سلامة الوطن قبل كل شئ وفوق كل شيء(2)، الأمر الذي يفيد تقرير هذا القضاء لقاعدة كلية، تمثُلُ قاعدة نظام عام في الفهم القانوني الوضعي، كما هي قاعدة كلية قطعية في الفهم الإسلامي الشرعي، ألا وهي صون الدين وزود عنه، وليس بأدل حفظًا لهذا الدين من الدفاع عن الوطن الذي يحمل لواء الإسلام، وتشهر جماعته أحكام الإسلام ومبادئه نهجًا قويمًا لها. بيد أن الإسلام لم يكن، ولن يكون، فقط شعارًا يتسع له الوطن، وتزدان به الجماعة، وإنما هو أحكام وضوابط وأصول ومبادئ يتعين أن تنتهجها الدولة وتتبعها الجماعة وهو المركب الذي عرف بالشريعة الإسلامية، فكان لمن يريد الإسلام دينًا أن يمتد خياره، لزومًا وحتمًا، إلى شريعته القويمة نهجًا ونبراسًا، وهذا ما قرره القضاء الشرعي في أن «الشريعة الإسلامية اعتبرت في الإسلام واعتناقه، وأنه بمجرد اعتناق الشخص له يُعطي أحكامه، بقطع النظر عن الباعث له»(3). وحفظ الدين ليس فقط سبيله الدفاع عنه وعن الوطن من العدوان وإنما يكون من باب أولى بحفظ إسلام الأفراد وإبقائه عليهم، فلا يرموا الإسلام ولا يتهموا بالخروج عنه دونما دلالة جلية قاطعة في إفادة هذا الأمر، فكان من قضاء الأحوال الشخصية أن أكد ذلك وعده من كليات الإسلام، إن «الإسلام يكفي في تحقيقه شرعًا وترتب آثاره عليه النطق بالشهادتين، قال ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ في جواب من سأله عن الإسلام أن تشهد أن لا إل إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا).

وقد أجمع العلماء على أن ما زاد عن الشهادتين من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلى آخر ما جاء بهذا الحديث، إنما هو لبيان الإسلام الأكمل وأنه يكفي في إجراء أحكام الإسلام الشهادتان. هذا هو الإسلام عند من مشرعه دينًا للناس، فلا محل فيه للبحث والنقاش، أما الإجراءات المتبعة الآن فهي إصدار إشهاد بالإسلام فلا تقوى على أن يكون الغرض نها ألا يكون الإسلام صحيحًا بدونها؛ لأن في ذلك مصادمة للمشروع والمعقول، وإنما الغرض منها مجاملة أهل الديانات الأخرى وضبط الأمر لمعرفة مدى التغييرات من دين إلى آخر ومنع الاحتيال باسم الإسلام لضياع حق الغير أو الإضرار به من ناحية أخرى، فإذا لم يكن ثمة احتيال فلا ضرورة للتمسك بتلك الإجراءات (4).

أي أنه من موجبات حفظ الدين، حفظ الإسلام على معتنقه، وذلك بعد إنكار عمن نطق الشهادتين ولم تصاحبه قرائن احتيال في إسلامه. وهو ما أكدته محكمة النقض قيما بعد بحسبان «الاعتقاد الديني مسألة نفسية وهو من الأمور التي تبنى الأحكام فيها على الإقرار بظاهر اللسان والتي لا يسوغ لقاضي الدعوى التطرق إلى بحث جديتها أو بواعثها ودوافعها، فإنه لا يجوز التعرض لحقيقة إسلامه وصحة إيمانه به»(5). ولذلك واستشعارًا من هذا القضاء لعظيم حفظ الإسلام على المرء، انتهى في قضاء له إلى إنه «إن كان في المسألة وجوه توجب الكفر ووجه واحد يمنحه فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع الكفر تحسيناً للظن بالمسلم»(6).

يبد أن صون قضاء الأحوال الشخصية، للدين الإسلامي بشحذ القوى للدفاع عنه وحفظه على معتنقه؛ وذلك نزولاً على أحكام الإسلام في هذا الخصوص، وعلى ما تقدم، انعكس بدوره على كافة أحوال تفريط المرء في إسلامه بالارتداد عنه، حيث قضى بأنه «من قرر بعد إسلامه أنه على غير دين الإسلام كان مرتدًّا شرعًا؛ لأنه خرج على الدين وأصبح خطراً على النظام العام، فتنزع منه أولاده، إن كانوا معه، وإذا طلب هو ضم أولاده إليه لا يجاب إلى طلبه»(7). أي أن هذا القضاء عد الارتداد خروجًا على النظام العام، وكيف لا، والإسلام هو دين الدولة الرسمي، هو الخيار العقدي والحضاري لجماعته الغالبة، فإذا كان هذا الإسلام يُعد من كبائر المعاصي الارتداد عنه، لم يكن ثمة من مناص عن اعتبار شأن الارتداد من قواعد النظام العام، حتى إذا ما حصل، كنا بصدد خرق جسيم للنظام العام الوضعي، خرق يتمثل في جرح هذا الفعل لأهم أركان المكون الضروري للجماعة المصرية الكائن المستوى الارتكازي لهيكل مفهوم النظام العام ألا وهو حفظ الدين وعدم التفريط فيه، كما يجرح، أهم أركان المكون الكلي للدولة المصرية للكائن بالمستوى الفوقي للهيكل المذكور التي عدت الإسلام دينها الرسمي، مما لا سبيل معه سوى الانصياع لأحكامه، التي تتأبى وتركه أو الارتداد عنه. وقد فصلت هذا الأمر محكمة الاستئناف التي أكدت على أن «المرتد تطبق عليه أحكام الشريعة الإسلامية ذات الولاية العامة على نحو ما نصت عليه المادة الأولى من القانون رقم 462 لسنة 1955 ولا تطبق عليه شريعة الأقباط الأرثوذكسي ــ المرتد إليها ــ لأنه بإسلامه التزم أحكام الإسلام ومنها أحكام الردة فهو إذا دخل في الإسلام وتبرأ من الأديان الأخرى ارتضى أحكام الشريعة الإسلامية، ومن أحكامها فسخ الزواج بينه وبين زوجته المستأنفة إذا هو ارتد عن الإسلام، ومن أحكامها أيضًا أنه إذا ارتدا فلا يقر على ردته ولا يعترف بديانته التي ارتد إليها، وهذا حكم متعلق بالنظام العام، قصدت به الشريعة الإسلامية حماية أبنائها والحفاظ على دينهم باعتباره خير الأديان وآخرها.

وليس في هذه القاعدة المتعلقة بالنظام العام تعارض مع حرية العقيدة التي نصت عليها المادة السابعة من الدستور المؤقت التي قررت قاعدة تكاد تجمع عليها الدساتير، وهي أن المواطنين سواء أمام القانون، وأنه لا تمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة؛ وذلك لأن حرية الاعتقاد شيء والآثار التي تترتب على هذا الاعتقاد من الناحية القانونية شيء آخر، وكل فرد حر في أن يعتنق ما شاء من الأديان في حدود النظام العام، وكذلك النتائج التي تترتب على هذا الاعتقاد فقد تكفلت القوانين بتنظيمها. فالمسلم تطبق عليه أحكام خاصة بالنسبة لمسائل الأحوال الشخصية، والمسيحي أو اليهودي إليها وفي حدود القانون واعتبارات النظام العام، وتطبيق قوانين واعتبارات النظام العام، وتطبيق قوانين خاصة على كل طائفة من الطوائف تبعًا لما تدين به ليس فيه تمييز بين المواطنين، بل على العكس فيه إقرار بمبدأ حرية الاعتقاد وتنظيم لمسائل الأحوال الشخصية اللصيقة بالشخص في حدود دينه وعقيدته.

ومن المسلم به في فقه الشريعة الإسلامية أن هناك أحكامًا قررتها الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ذات طابع متصل بالنظام العام بحيث لا يمكن المساس بها مثل حكم المرتد وفسخ زواجه، عاملاً بغير توقف على قضاء القاضي وعدم إقراره على ردته وعدم الاعتراف بديانته التي ارتد إليها، وحكم زواج المسيحي أو اليهودي أو البوذي أو الوثني بمسلمة، فمثل هذا الزواج باطل لمخالفته لقاعدة من قواعد النظام العام وهي عدم جواز أن تكون المسلمة تحت غير المسلم ولو كان كتابيًّا(8).

وهذا حكم قاطع في إجلاء موقف قضاء الأحوال الشخصية من الإشكال المتعلقة بحفظ الإسلام وصونه، وما يرتبه هذا من أحكام مرتبطة تترتب على هذه القاعدة الكلية التي كما تُعد قطعية في الشريعة الإسلامية هي قاعدة من قواعد النظام العام في النظام القانوني الوضعي.

وعلى ذلك وبسند قاطعًا حاسمًا، في حفظ الإسلام وصونه، فقرر أن «من استخف بشرع النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ فقد ارتد بإجماع المسلمين ولزمته أحكام المرتدين المسطرة في المتون والشروح والفتاوى المستغنية عن الشرح والتبين من وجوه الإهانة بالحبس وكشف الشبهة والقتل أن لم يجدد له إسلامه وغير ذلك من الأحكام»(9).

وعليه انتهى إلى أن «الرجل المسلم الذي يسعى في تنصير بناته المسلمات تبعًا لدين أمهن الذمية في مرتبة قومه مرتبة المستخف بالشرع وفوق مرتبة من فضل النصرانية على اليهودية والمجوسية في النظر الفقهي؛ لأنه اختار غير الإسلام دينًا لأولاده وفضل النصرانية على الإسلام، وقلب دينه بالفعل والقول والكتابة، فعمله أشد هولاً وأكبر جرمًا واكد في النصرانية، فهو مرتد يجب قتله وغير أمين على أولاده، ومفسد يجب نزع أولاده منه وسلب ولاية حفظه عنه»(10).

وقضى بأنه «حيث قرر المدعى أنه مسلم ونطق بالشهادتين وتزوج وهو معروف بأنه مسلم، والمقرر شرعًا أن مثل هذا يعد مسلمًا ويعامل معاملة المسلمين (كما في الدرر وابن عابدين بباب الردة) فإذا عاد إلى الأول كان مرتدًّا لأن المرتد هو المسلم الذي يغير دينه، ولا يعتبر بالمرة دين، لأن المرتد لا يرث أحدًا كما نص على ذلك في باب الردة بالجزء الخامس من البحر والجزء الثالث من حاشية رد المحتار والجزء الثالث من شرح الزيلعي على الكنز والجزء الرابع من فتح القدير والجزء الثلاثين من المبسوط، لأن الإرث صلة شرعية وبالردة يكون جانبًا على حق الشرع فيحرم من الميراث عقوبة له كالقاضي بغير حق»(11).

كما قضى بأن «الإجماع بين المسلمين انعقد على أن المرتد أو المرتدة لا يرث من غيره مطلقًا»(12).

والبين من هذا القضاء اخير، أن المحكمة استفادت حكمًا قطعيًّا في خصوص منع توريث المرتد إطلاقًا، وذلك استدلالاً بالإجماع، أي أنها أقامت قرينة قطعية الحكم بالاستناد إلى مصدره، وهو الإجماع، وبذلك ــ ووفق نهج قضاء الأحوال الشخصية القائم على التقريب بين القطعيات الشرعية والنظام العام ــ تغدو قاعدة منع توريث المرتد من النظام العام بحسبها من الآثار التي رتبها هذا القضاء على الارتداد، الذي يشكل، في ذاته وبذاته، خرقًا جسيمًا للنظام القضائي، مما يتعين معه أيضًا حرمان المرتد من الزوج اطلاقًا، إذ «الردة ــ وهي الرجوع عن دين الإسلام ــ بسبب من أسباب الفرقة، ومن أحكامها أنه ليس لمرتد أن يتزوج أصلاً لا بمسلم ولا بغير مسلم، إذ هي في معنى الموت وبمنزلته، والميت لا يكن محلاًّ للزواج وهي لو اعترضن الزواج رفعته وإن قارنته تمنعه من الوجود، وفقه الحنفية على أن المرأة إذا ارتدت ثم تزوجت لا ينعقد لها زواج، وإذا تزوجت ثم ارتدت انفسخ العقد ووجبت الفرقة بين الزوجين بمجرد تحقيق مسببها وبنفس الردة وبغير توقف على قضاء القاضي»(13).

ومن الزاوية الأخرى، وحثًّا من قبل هذا القضاء على استرداد المرتد لإسلامه ثانية بالعودة إليه بعد الاستتابة، قضى برد حقوق العائد للإسلام، إليه، بعد أن كان قد جرد منها بموجب ردته، ذاك أنه إذا كان «المرتد ــ وهو الراجع عن دين الإسلام ــ لا ملة له وهو لا يقر على ردته ولا على ما اختاره دينًا له، بل يستتاب ويؤمر بالرجوع إلى الإسلام، فإن هو عاد إلى إسلامه، عاد ماله إلى ملكه بعد أن كان قد زال عنه بردته، زوالاً مؤقتًا، وإذا كان الثابت من الدعوى أن الطاعن أقر في طلب استخراج جواز سفره بأنه هو مسلم، وإقراره هذا مفاده أنه تاب وعاد إلى إسلامه، وهي أمور تتصل بالعقيدة الدينية التي تبنى الأحكام فيها على الإقرار بظاهر اللسان ولا يجوز لقاضى الدعوى أن يبحث في بواعثها ودواعيها، وكان الحكم المطعون فيه لم يعول على هذا الإقرار وجرى على قضائه وراء البحث في علته والأسباب التي دعت إليه، فإنه يكون قد خالف القانون وأخطأ في تطبيقه»(14).

والبين مما تقدم جميعه، وبالاستخلاص المنطقي لاتجاه قضاءالأحوال الشخصية في مجال العلاقة مع الدين الإسلامي، أنه استقراء من جملة أحكام الدين الإسلامي ــ نصوصًا وإجماعًا واجتهادًا ــ إن حفظ الدين يستوى على القمة من مدارج الشرعية الإسلامية العليا، مما يستلزم وجوبًا نصبه مقصدًا أسمى، يتبوأ صدارة الاهتمام الجمعي، من هذا الاستقراء مصحوبًا باستنباط تحليلي وضعي لنصوص الدساتير المصرية، بما قررته من تعيين للإسلام بحسبه الدين الرسمي للدولة، ومدفوعًا بظروف حال تستدعي مزج المفاهيم الشرعية الإسلامية في المفاهيم القانونية الوضعية، بتخريج الأولى على الثانية، تمكن قضاء الأحوال الشخصية من تحريك مقصد حفظ الدين، بتنويعاته المختلفة، من الإطار المرجعي الشرعي إلى الإطار القانوني الوضعي، فأضحى حفظ الدين كل من الكليات الأصيلة بالاطار القانوني الوضعي، فأضحى حفظ الدين كل من الكليات الأصيلة بالاطار الأخير، ليبيت حفظ الدين قاعدة متعلقة بالنظام العام، لا تسكن وحسب المستوى الارتكازي من هيكل مفهوم النظام العام، وإنما، فضلاً، تتهيأ ضمن القواعد ساكنة الإطار الفوقي، بحسبان حفظ الدين لم يعد لينحصر ضمن الأولويات الجمعية، بل امتد ليصبح بصدارة أولويات التنظيم السياسي المؤسسي القائم على الجماعة.

وعليه وعلى هدى من ذلك، استطاع قضاء الأحوال الشخصية، تكشف عدد من قواعد النظام العام الفرعية، المرتبطة بهذا الأمر، التي تسكن المستوى الفرعي من هيكل مفهوم النظام العام، فغدا مستقرًّا قطعًا في الفقه القانوني الوضعي، بعد أن كانت هذه قطعية قاصرة على النظام الشرعي الإسلامي ــ أقول ــ غـدا مستقرًّا قطعًا النهي عن كل صور الارتداد عن الإسلام، وإن حكم المرتد هو ــ وعلى أقل التقدير ــ الموت المدني، غلا يبقى له من حال على ملكه، ولا زوج بعصمته ــ ذكراً أو أنثى ــ وتزول عنه ولايته على صغاره فينزعوا منه، وليس له من حق في زواج مستقبل وهو على حاله هذه، وأخيرًا ليس له من حق في الميراث. ولا ريب أن هذه الأحكام جميعا، لم تكن لتقرر بالمنظومة القانونية الوضعية، لولا تدخل قضاء الأحوال الشخصية الأمين علي الشريعة الإسلامية، أمانته على النظام القانوني الوضعي.

ثانيًا : حفظ حقوق الله

ذهب قضاء الأحوال الشخصية، في تأكيد كامل لقاعدة من القواعد الأصل التي ينبني عليها قضاؤه، إن «حق الله هو المعبر عنه حديثًا بالنظام العام»(15)، أي أن كل ما عده الفقه الإسلامي حقًّا خالصًا للخ ما به حق غالب لله، فهو بحكم اللزوم والضرورة، يكن من النظام العام الوضعي، فإذا كانت الحسبة «هي فعل ما يحتسب عند الله، وفي اصطلاح الفقهاء هي أمر بمعروف إذا ظهر تركه، ونهى عن منكر إذا ظهر فعله، وهي من فروض الكفاية وتصدر عن ولاية شرعية أصيلة ــ أو مستمدة ــ أضافها المشرع على كل من أوجبها عليه وطلب منه القيام بها، وذلك بالتقدم إلى القاضي بالدعوى والشهادة لديه أو باستعداء إلى المحتسب أو إلى المظالم لم (تبلغ النيابة العامة). ودعوى الحسبة تكون فيما حق الله أو فيما كان حق الله فيه غالبًا كالدعوى بإثبات الطلاق البتئن وبالتفريق بين زوجين زواجهما فاسد»(16)، إن «الحسبة اسم من الاحتساب وهو والأجر والثواب عند الله، وهي إنما تكون في حقوق الله تعالى، وهي الحقوق التي تعود منفعتها على العامة كلهم لا على أشخاص بعينهم»(17)، فمن ثم ــ والحال هذه ــ تضحى الحسبة من النظام العام الوضعي، حيث تتهيأ بالأساس في المستوى الارتكازي لهيكل مفهومه النظام العام، وهو المستوى الذي يضم القواعد التي تشكل الوجود الضروري لمكون الجماعة، بحسبان كون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إنما هما لصلاح شأن الجماعة بالأساس، فإذا كان ذلك، وكان «جمهور الفقهاء على عدم تقيد دعوى الحسبة بشرط الإذن أو التفويض من ولي الأمر»(18) أضحى القانون تعتوره عيوب عدم الدستورية، لتعارضه مع بعض من أحكام الشريعة الإسلامية، قسيمة القطعي، التي تكون بالنسبة لهذه الشريعة الغراء، مرجعيتها العليا التي لا انفكاك منها أو انفلات عنها، مرجعية تمتد بدورها إلى نظام القانون الوضعي، بحكم ما لنص المادة الثانية من الدستور، من تحكيم للشريعة الإسلامية ومرجعيتها الشرعية العليا على العمل التشريعي الوضعي، بوصفها ــ أي الشريعة الإسلامية ــ المصدر الرئيسي لهذا التشريع(19).

ثالثًا : حفظ الأسرة

كـان للأسرة دومًا وأبدًا، وضعًا متميزاً في المنظومة الإسلامية وخصتها الشريعة الإسلامية ببالغ اهتمامها، حتى صار فقه الأسرة من أوسع أبواب الفقه الإسلامي. هذه الأهمية المتعاظمة ينجلي مظهرها في القواعد الكلية العديدة التي انتظمت شؤون الزواج والطلاق والإرث وما يترتب على هذه الأمور من آثار، عالجتها الشريعة الغراء بنظم قطعية، مثلت مرجعية شرعية عليا للنظام الإسلامي. فكان لقضاء الأحوال الشخصية إسماهه غير المذكور، في الكشف عن تلك القطعيات التي انتظمت هذا الشأن، ممايزًا بينها وبين غيرها من الأحكام الظنية غير القطعية.

وأحكام هذا القضاء في شأن الأسرة، عديد تستعصى على الحصر، سبق وأن أشرنا آنفًا عند بحث شأن النظام العام في الشريعة الإسلامية، إلى العديد مما عُد قطعيًّا من أحكام شرعية في مجال الأسرة، لذا فلسوف نقصر بحثنا هذا على نماذج من قضاء الأحوال الشخصية، الذي أكد قضاء محكمة النقض القاطع في وجوب محلية المرأة لصحة الزواج، إذ «إن من شروط صحة الزواج محلية المرأة، وألا يقوم بها سبب من أسباب التحريم ومنها الجمع بين المرأة وخالتها فهما من المحرمات من النساء حرمة مؤقتة، والعلة من التحريم هي أنه لو فرضت كل منهما ذكراً حرمت على الأخرى، وبذلك فلا يصح الجميع بينهما لما هو ثابت من تحريم الجميع بين سائر المحارم بالكتاب والسنة والإجماع، ومن ثم فهذا التحريم بهذه المثابة يعد من موانع الشريعة المستوجبة للتفريق بين الرجال والمرأة المحرم، ولا فرق في ذلك بين ما إذا كانت محلية المرأة في عقد الزواج عامة أو أصلية، كما في الحرمة المؤبدة مما يعد شرطًا لانعقاد الزواج أو محلية خاصة أو فرعية كما في الحرمة المؤقتة مما تعد شرطًا لصحته»(20) إن لهذا القضاء دلالة منهجية هامة، في إطار الكشف عن القطعي من أحكام، فقد اتبعت المحكمة نهجًا منضبطًا في هذا الخصوص، فقامت بتبين أحكام المحرمات من النساء ومصادرها، حتى إذا ما تبين لها ثبوت هذه الأحكام في الكتاب والسنة والإجماع، دون خلاف حول دلالاتها الكلية أو الجزئية، انحسم أمر هذه الأحكام بحسبها قطعية يقينًا مما لا سبيل للانفلات منها أو الانفكاك عنها. وبذلك صرنا بصدد قواعد نظام عام، تقرر المحارم من النساء، وهي قواعد وضعية ذات مرجعية شرعية إسلامه، مخالفتها تقضى إلى انفكاك عقد الزواج، ووجوب التفريق بين الزوجين للحرمة، أي بطلان التصرف، وذلك كله رغم عدم إسباغ المحكمة في هذا القضاء لاصطلاح النظام العام في هذه القاعدة، إذ الأمر ليكاد يكون مستقرًا، حتى في المنطق المنهجي لقضاء الأحوال الشخصية، على أن إفادة القطعي إنما هي إفادة للنظام العام، حتمًا ولزامًا.

ومن أحكام الأسرة التي هي من آثار الزواج، تبعية الولد لخير الأبوين دينًا، إذ «الصغير تتبع خير الأبوين دينًا، فيكون مسلمًا لأمه بلوغه صدور إشهاد بذلك، بل يكفى أن يعتنق الإسلام، ولا يرجع فيه، ولا يؤخذ بقوله في ذلك»(21)وهذا القضاء يتكامل مع حفظ الدين على نحو ما رأيناه آنفًا. متأسس على عقيدة أصل في المعتنق الإسلامي، وهو أن الإسلام هو خير الأديان وأنه جب ما قبله، مما لا مناص معه من ترتيب كافة آثار هذا الاعتقاد، ومنها منع زواج المرأة المسلمة من غير المسلم. حتى لا تكون ثمة ولاية لغير المسلم على المسلم، فإن حصل الأمر بالمخالفة للشرع، وصرنا بصدد واقع لا يمكن تجاوزه بما أفرزه من ثمار تتمثل في ولادة أبناء، ظلت قاعدة خبرية الإسلام على غيره قائمة منتجة لآثارها، فيتم الحاجة هذا الولد بدين أمه وهو الإسلام. وهذه قاعدة تعتبر بذلك قاعدة نظام عام.

وكذلك من آثار الزواج، التي تُعد قطعية شرعًا، متعلقة بالنظام العام وضعًا، شأن العدة، إذ إنها «حق الشرع والولد، أما كونها حق الشرع، فلأن الزوجين لا يملكان إسقاطها، وأما كونها حق الولد فللحديث «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره»(22)فالمعلوم «أن المقرر فقهًا أن العدة مما لا تسقط بالإسقاط، لأنها تجب حقًّا لله تعالى وحقًا للزوج ــ جاء في كتاب كتابة المتخصصين لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد فرج السنهوري «فليس للزوج إبطال العدة عن زوجته وإن أسقطها وأباح لها التزوج بغيره حال قيامها لا تسقط ــ ولا يحل لها التزوج؛ لأن في إسقاط حق اسقاط لحق الله وهو لا يملكه»(23)فإذا كانت حقوق الله الخالصة؛ وكذا الحقوق التي يكون فيها حق الله غالبًا، هي من النظام العام، حسبما تواتر عليه قضاء الأحوال الشخصية، فمن ثم تضحى الأحكام المتعلقة بلزوم العدة من النظام العام الوضعي، وذلك بقطع النظر عن الخلاف الحاصل فقهًا في تفسير لفظ «القرء» بالنسبة لعدة المطلقة، إذ ما يعنينا في هذا الخصوص وجوب اعتداد المطلقة ثلاثة قروء، أيًّا ما يكون التفسير الذي يحمل عليه «القرء» أهو الحيض أم الطهر، بيد أنه لتجدر الإشارة في هذا الخصوص، إلى عدم جواز الخروج عند هذين التفسيرين إجمالاً، عند تعيين لفظ «القرء» لانعقاد الإجماع الفقهي على انحصار تفسير اللفظ في هذين المعنيين تحديدًا دون سواهما.

ومن أجلى ما يتبدى به دور قضاء الأحوال الشخصية، في الكشف عن القطعيات في مجال نظام الأسرة، قضاؤه في مسائل الإرث، إذ تواتر قضاء محكمة النقض على «أن كون الإنسان وارثًا أو غير وارث وكونه يستقل بالإرث أو يشاركه فيه غيره، إلى غير ذلك من أحكام الإرث وتعيين الورثة وانتقال الحقوق في التركات بطريق التوريث لمن لهم الحق فيها شرعًا، كل هذا مما يتعلق بالنظام العام. والتحيل على مخالفة هذه الأحكام باطل بطلانًا مطلقًا لا تلحقه الإجازة، ويحكم القاضي به من تلقاء نفسه في أية حالة كانت عليها الدعوى(24). وغير ذلك كثير على شاكلة هذا القضاء، يقطع جمعيه بما لأحكام الميراث المقررة شرعًا من قطعية شرعية، يحيلها إلى قطعية وضعية، بتهيؤها قواعد من النظام العام، مما ليس بالمكنة التحلل منها أو الانفكاك عنها أو التحايل عليها، ومثال هذه الصور «كاعتبار شخص وارثًا وهو في الحقيقة غير وارث أو اعتباره غير وارث وهو في واقع الأمر وارث، وكذلك ما يتفرع عن هذا الأصل من التعامل في التركات المستقبلة كإيجاد ورثة قبل وفاة المورث غير من لهم حق الميراث شرعًا أو الزيادة أو النقص في حصصهم الشرعية، ويترتب على هذا بداهة أن الهبة الصادرة من المورث في حال صحته لأحد الورثة تكون صحيحة لخروجها من نطاق التعريف بالتحايل على قواعد الإرث»(25). ولذلك كان «كل تحلايل على مخالفة هذه الأحكام باطل بطلانًا مطلقًا، ومن ثم فلا يسرى على هذا البطلان التقادم المنصوص عليه في المادة (140) من القانون المدني. ولا يقدح في ذلك القول اعتبار أن البطلان مطلقًا يتنافى مع أحكام إجازة التصرف من الورثة، ذلك أنه ليس للورثة أن يجيزوا التصرف باعتباره بيعًاو وإنما لهم أن يجيزوه على الاعتبار الصحيح بوصفه وصية، وفي هذه الحالة تجرى عليه أحكام الوصية التي يجيزها الورثة»(26)الأمر الذي انحسم معه بشأن أحكام المواريث، التي عمل قضاء الأحوال الشخصية على دمجها بالنظام العام الوضعي وذلك بحكم قطعيتها الشرعية.

قضاء المحكمة الدستورية العليا في شأن مسائل الأحوال الشخصية

قد يبدو إفراد مجال بحثي مخصوص، يعنى بقضاء المحكمة الدستورية العليا، في شأن ما خوصم دستوريًّا من نصوص تشريعية ولائحة تتعلق بمسائل الأحوال الشخصية، ــ أقول ــ قد يبدو ذلك مثيراً للتساؤل، بحسبان ما هو مستقر عليه ــ حقًا ــ من كون ما للمحكمة الدستورية العليا، من اتجاهات مستقرة متواترة، لا تميز في خاصيتها لفرع قانوني عن آخر، ولا استقلال لقوانين معينة باتجاهات قضائية دستورية مخصوصة خلاف ما هو مقرر من قبل هذه المحكمة، الأمر الذي يثير التساؤل عن إفراد بحث مستقل حول موقف القضاء الدستوري من مواد الأحوال الشخصية، وجدوى الأمر في ضوء ما سلف بيانه، وأليس بكاف للاستدلال في خصوص هذا القضاء بشأن مواد الأحوال الشخصية، بالاتجاهات العامة للمحكمة ومبادئها الكلية الحاكمة لعملها في كافة الدعاوى الدستورية بقطع النظر عن موضوعها.

بيد أن ذاك الاستبيان وما أثاره من تساؤل، لينقشع عنه غموض، بمطالعة قضاء المحكمة الدستورية العليا، في خاصة كل مجموعة من فروع القانون المرتبطة عضويَّا، إذ يتبين أن هذا القضاء وإن انطوى على اتجاهات عامة صبغت القضاء الدستوري، وغدت مميزًا له في كافة أحكامه بقطع النظر عن المادة موضع الخصومة، وهو ما يمكن تسميته بالمبادئ العامة المتواترة للقضاء الدستوري، إلا أن الخصوصية المعيارية لكل فرع من فروع القانون والوحدة الموضوعية التي تضم إلى جنباتها عدد من القوانين المرتبطة، ذلك، فرض على القضاء الدستوري تصورات قضائية مخصوصة لكل مجال قانوني انفرز عنه اتجاهات قضائية دستورية مخصصة، غدت تمثل مبادئ نوعية بالقضاء الدستوري. وعليه وإزاء المتقدم، وبمطالعة قضاء المحكمة الدستورية في شأن مواد الأحوال الشخصية وما ارتبط بها من مواد تشريعية ولائحة، تعلقت منهجيًّا بمسائل الأحوال الشخصية، وإن ل تعد منها مباشرة، استبان لنا اتجاه مخصوص لهذه المحكمة في خاصة هذا الشأن، ما لم يكن معه من بد للعرض إلى هذا النوع من القضاء، في محاولة لسبر غوره الموضوعي بعد العرض لنهجه العلمي وهو بصدد بلوغ منتهاه القضائي، باتًّا في دستورية أمر ما هو مطروح عليه من مواد وأحكام؛ ولذلك سوف يتشكل البحث في هذه الجزئية على أصل من درس لمنهج المحكمة الدستورية حيال فحص مواد الأحوال الشخصية من الوجهة الدستورية وتحديدًا في ضوء المادة الثانية من الدستور، التي ترسى الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيًّا للتشريع، أي في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية، ثم بعد، نعمد إلى مناقشة موضوعية لما انتهت إليه هذه المحكمة في عدد من أحكامها في خاصة هذا الشأن.

أولاً : منهج المحكمة الدستورية العليا حيال مواد الأحوال الشخصية

المستظهر من مراجعة جُل أحكام المحكمة الدستورية العليا، في شأن من مراجعة جُل أحكام المحكمة الدستورية العليا، في شأن ما عُرض أمامها من مواد تتصل بمسائل الأحوال الشخصية، أنه قد استقام لها نهجًا ثابتًا، اختصت به هذا الصنف من المادة التشريعية، منتهجة إياه بكل حال راقبت فيه دستورية أي من تلك المواد المتعلقة بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية، هذا النهج ابتنى كلية على سند من أحكام الشريعة الإسلامية، سواء أصول فقهها المستدل به على الأحكام الشرعية أن ما عُرض أمامها من مواد تتصل بمسائل الأحوال الشخصية، أنه قد استقام لها نهجًا ثابتًا، اختصت به هذا الصنف من المادة التشريعية، منتهجة إياه بكل حال راقبت فيه دستورية أي من تلك المواد المتعلقة بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية، هذا النهج ابتنى كلية على سند من أحكام الشريعة الإسلامية، سواء أصول فقهها المستدل به على الأحكام الشرعية أو فروعها الفقهية المختلفة التي تضم الأحكام الشرعية التفصيلية، هذا النهج من هذه الوجهة يكاد يتأصل على سند من أنه «لا يجوز لنص تشريعي أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعًا؛ لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً، ومن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعًا لتغير الزمان والمكان، إذ هي عصية على التعديل، ولا يجوز الخروج عليها، أو الالتواء بها عن معناها، وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا في شأنها، على مراقبة التقيد بها وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها، ذلك أن المادة الثانية من الدستور، تقدم على هذا القواعد أحكام الشريعة الإسلامية في أصولها ومبادئها الكلية؛ إذ هي إطارها العام وركائزها الاصيلة التي تفرض متطلباتها دومًا بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها، وإلا اعتبر ذلك  تشهيًا وأفكارًا لما علم من الدين بالضرورة. ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها وبدلالتها أو بهما معًا، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ولا تمتد لسواها، وهي بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان، لضمان مرونتها وحيويتها ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيمًا لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعًا، ولا يعطل بالتالي حركتهم في الحياة، على أن يكون الاجتهاد دومًا واقعًا في إطار الأصول الكلية للشريعة بما لا يجاوزها، ملتزمًا ضوابطها الثابتة متحريًا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية والقواعد الضابطة لفروعها، كافلاً صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال»(27).

وعليه وفيا استقام بسنده نهج المحكمة «ساغ الاجتهاد في المسائل الاخلاقية التي لا يجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقض كمال الشريعة ومرونتها، وليس الاجتهاد إلا جهدًا عقليًّا يتوخى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وهو بذلك لا يجوز أن يكون تقليدًا محضَا للأولين أو افتراء على الله كذبًا بالتحليل أو التحريم في غير موضعيها  أو عزوفًا عن النزول على أحوال الناس والصالح من أعرافهم وإعمال الناس والصالح من أعرافهم وإعمال العقل فيما لا نص فيه العقل فيما لا نص فيه توصلا لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بين عباده، مرده أن هذه القواعد تسعها الشريعة الإسلامية، إذ هي غير منغلقة على نفسها ولا تضفي قدسية على أقوال أحد من الفقهاء في شأن من شئونها ولا تحول دون مراجعتها وتقييمها وإبدالها بغيرها، فالآراء الاجتهادية ليس لها ــ في ذاتها ــ قوة ملزمة متعدية بغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالي اعتبارها شرعًا ثابتًا يتقرر ألا يجوز أن ينقضي. وإلا كان ذلك نهيًا عن التأمل والتبصر في دين الله تعالى، محتمل في كل اجتهاد، بل إن منأصحابه من تردد في الفتيا تهيبًا، ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف المتغيرة ولو كان مخالفًا لأقوال استقر عليها العمل زمنًا، ولئن جاز القول بأن الاجتهاد في الأحكام الظنية. وربطها بمصالح الناس ــ عن طريق الأدلة الشرعية النقلية منها و العقلية ــ حق لأهل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا الحق ثابتًا لولي الأمر يستعين عليه ــ في كل مسألة بخصوصها وبما يناسبها ــ بأهل النظر في الشئون العامة، إخمادًا للثائرة وبما يرفع التنازع والتنافر ويبطل الخصومة، على أن يكون مفهومًا أن اجتهاد السابقين لا يجوز أن تكون تصورًا نهائيًّا ومرجعًا وحيدًا لاستمداد الأحكام العملية منها، بل يجوز لولي الأمر أن يشرع على خلافها وأن ينظم شؤون العباد في بيئة بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة بأن يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله مستلهمًا في ذلك حقيقة أن المصالح المعتبرة هي تلك التي تكون مناسبة لمقاصد الشريعة متلاقية معها، وهى بعد مصالح لا تتناهى جزئياتها أو تنحصر تطبيقاتها، ولكنها تتجدد تبعًا لما يطرأ عليها من تغيير وتطور، ومن ثم كان حقًّا عند الخيار بين أمرين، مراعاة أيسرهما ما لم يكن إثًما، وكان واجبًا كذلك أالا يشرع ولي الأمر حكمًا يطبق على الناس أو يرهقهم من أمرهم عسرًا، وإلا كان مصادقًا لقوله تعالى }مَا يُرِيدُ اللَّــهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج{(المائدة : 6)، ولازم ذلك أن الاجتهاد حق لولي الأمر في الدائرة التي شرع فيها، ليكون كافلاً وحدة الشريعة ميسرًا لقواعدها بإمدادها دومًا بما يعين على اكتمال نمائها»(28).

وتصف المحكمة الشريعة الإسلامية بأنها تسع من المرونة ما يجعل أحكامها الفرعية مستجيبة دومًا للتطور «توخيًا لربطها بمصالح الناس واحتياجاتهم المتجدد وأعرافهم المتغيرة التي لا تصادم حكمًا قطعيًا، وهي مرونة ينافيها أن يتقيد المشروع بآراء بذاتها لا يريم عنها، أو أن يقعد باجتهاده عند لحظة زمنية معينة تكون المصالح المعتبرة شرعًا قد جاوزتها، وتلك هي الشريعة في أصولها ومنابتها، شريعة مرنة غير جامدة يتقيد الاجتهاد فيها ــ بما يقوم عليه من استفراغ الجهد للوصول إلى حكم فيما لا نص عليه ــ بضوابطها الكلية وبما لا يعطل مقاصدها.. ولئن صح القول بأن أهمية الاجتهاد لا يوازيها إلا خطره ودقته، فإن من الصحيح كذلك أن لولي الأمر الاجتهاد في الأحكام الظنية بمراعاة المصلحة الحقيقية التي يقوم برهانها من الأدلة الشرعية(29).

هذا المنهج الذي خطته المحكمة الدستورية العليا، إطارًا بحثيًّا لها في كافة شأن مواد الأحوال الشخصية التي راقبت دستوريتها، وعلى ما تقدم، يمكن إيجاز عناصره ــ في تمييز المحكمة ما بين القطعي من الأحكام ثبوتًا ودلالة، والظني منها سواء في الثبوت أو الدلالة أو كلاهما، وحال قررت قدسية ذلك النوع الأول من الأحكام مما يستعصي على الخرق أو التجاوز، قدرت جواز الاجتهاد الدائم فيما يتصف بالظنية من أحكام، بل إنها استوجبت في خصوصه ضرورة الاضطلاع بهذا الدور الاجتهادي؛ توصلاً لأنسب الأحكام اتفاقًا وصالح الناس. وترى المحكمة وجوب الاقتصار على ما سلف من اجتهاد وآراء، أو يتعين عدم الانحصار داخلها طالما أنها كانت في حضور مسائل ظنية، فهذا من قبيل التقليد الذي يبتعد عن مصالح الناس وأحوالهم، بل يتعين إعمال العقل ــ الاجتهاد ــ فيما لا نص فيه؛ توصلاً لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته، كما أنه ليس ثمة اجتهاد يكون أحق بالاتباع من آخر، فربما أضعف الآراء سند ليكون أنسبها وأكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، وتربط المحكمة، ربطًا كاملاً، بين صلاحية الحكم وبين قدرته على تحقيق صالح لناس، فليس بصالح الحكم الذي يشق على الناس أو يرهقهم منه أمرهم عسرًا .. وتمنح المحكمة ولي الأمر سلطان هذا الاجتهاد في ضوء ما قررته من ضوابط، وبما يصون المقاصد العامة للشريعة من حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

هذا المنهج الذي قدرته المحكمة الدستورية العليا، إطارًا للتشريع في مسائل الأحوال الشخصية وذلك في حدود ما يقضيه نص المادة الثالثة من الدستور، من كون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وابتغت إلزام نفسها به، فهو وإن صح في جملته مستقيمًا مع هدي الاستدلال القويم في الشريعة الإسلامية إلا إنه ورد نهجًا عامًّا مطلقًا، فجاءت عبارات المحكمة في شرحه خلوًّا من الانضباط اللفظي أو التحديد العملي، فكان ما كان من مآخذ على منهج النهج، يمكن إجمالها في الآتي:

اولاً :أن المحكمة وإن أصابت وجه الحق، بتمييزها ما بين القطعي والظني من الأحكام، مقررة قدسية هذا الصنف الأول من الأحكام العصى على الاجتهاد والممتنع عن التبديل أو التعديل، ومقدرة تحمل ذاك الصنف الآخر منها، غير المقطوع بثبوته أو دلالته أو بهما معًا، للاجتهاد، فحال يمثل الأول مبادئ الشريعة الإسلامية الكلية وأصولها الثابتة، يحقق الآخر، باحتماله للاجتهاد، مرونة هذه الشريعة وحيويتها، مانحًا إياها القدرة على التلاؤم مع ظروف الأزمنة والأمكنة بما يمكنها من تنظيم شئون العباد على نحو ما يكفل لهم مصالحهم المعتبرة شرعًا، ــ قول ــ إن كان ذلك كذلك موافقًا في جملته لمقتضى الشارع، إلا أنه ليجانب الصواب، تفيده عبارات الأحكام من عدم التفات لنوع من الأحكام الشرعية هي في حقيقتها قطعية اجتهادًا لا نصًّا، على ما أطلقنا عليه في الفصل المنقضي «قسـيم القطعي» ودلالة ذلك أن المحطمة لا تعتد بأمر تحسبه قطعيًا، إلا إذا ثبتت قطعية وروده، وقطعية دلالته، حال كون القدسي العصي على التبديل أو التعديل الممتنع على الاجتهاد، ليس منحصراً وحسب فيما ورد من أحكام لكتاب الله تعالى المقطوع بدلالته أو سنة نبيه المصطفى ـــ صّلى الله عليــه وسلـم ـــ المقطوع بثبوتها إليه فضلاً عن دلالتها، أو ثمة من الأحكام ما انعقد إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليه، وعد بتحقيق هذا الإجماع قوتها إليه فضلاً عن دلالتها، أو ثمة من الأحكام ما انعقد إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليه، وعد بتحقيق هذا الإجماع قطعيًا، كما أن من الأحكام ما بلغت اجتهاداً وانعقد عليها اتفاق فقهي، فصارت بذلك قطعية. مثل تلك الأحكام التي يمكن تسميتها «قسيم القطعي»(30)، من غير الممكن أو المتصور تجاهلها وعدم حسابها، في تقدير ما لا يمكن الخروج عليه.

وقد كان لهذا المنحى من قبل المحكمة أثره في غير قضاء لها، وليس بأدل على ذلك، ما انتهت إليه في شأن قرار وزير التعليم رقم 113 لسنة 1994 المفسر بالقرار رقم 208 لسنة 1994 في شأن الزي المدرسي(31)، حيث انتهت إلى أن القرار المشار إليه لا يناقض فيما قرره من وصف الزي المدرسي للطالبات نص المادة الثانية من الدستور، فحق الاجتهاد في المسائل الخلافية تقرر لولي الأمر بما ييسر للناس شئونهم وبما لا يعطل المقاصد تنظيم ولي الأمر في دائرة بذاتها لباس الفتاة على النحو الذي صدر به القرار المذكور وسند المحكمة في ذلك أن «لولي الأمر السلطة الكاملة التي يشرع بها الأحكام العلمية في نطاقها تحديداً لهيئة رداء المرأة أو ثيابها على ضوء ما يكون سائداً في مجتمعها بين الناس بما لا يصادم نصًّا قطعيًا. وإن كان ضابطها في أن تحققه الستر بمفهومه الشرعي» وفي لباس المرأة تذكر المحكمة أن «الشريعة في جوهر أحكامها وبمراعاة مقاصدها، تتوخى من ضبط ثبات المرأة إعلاء قدرها وبما لا يوقعها في الحرج إذا اعتبر بدنها كله عورة مع حاجتها إلى الخروج لمباشرة ما يلزمها من الأعمال التي تختلط فيها بالآخرين، وليس جائزاً أن يكون لباسها مجاوزاً حد الاعتدال ولا احتجابًا بكل بدنها ليضيق عليها اعتسافًا ولا إسدالاً بخمارها من وراء ظهرها، بل اتصالاً لصدرها، ومنحرها فلا ينكشفان مصداقًا للنصوص القرآنية، فلا يبدو من مظاهر زينتها إلا ما لا يعد عورة وهو وجهها وكفاها بل وقدماها عند البعض» ونذكر أيضًا أن «الرسول عليه الصلاة والسلام يصرح بأن بلوغ المرأة المحيض يقتضيها أن يكون ثوبها ساترًا لبدنها عدا وجهها وكفيها» ولنتأمل هذا القضاء في عباراته التالية «حق الاجتهاد في المسائل الخلافية مقرر لولي الأمر بما ييسر على الناس شؤونهم لا يناقض هذه المقاصد ــ المقاصد الشرعية ــ تنظيم ولي الأمر السلطة الكاملة التي يشرع بها الأحكام العملية في نطاقها تحديداً لهيئة رداء المرأة أو ثيابها على ضوء ما يكون سائداً في مجتمعها بين الناس بما لا يصادم نصَّا قطعيًّا»، الشريعة الإسلامية تتوخى من ضبط ثياب المرأة إعلاء قدرها بما لا يوقعها في الحرج إذا اعتبر بدنها كله عورة مع حاجتها للخروج لمباشرة ما يلزمها من الأعمال التي تختلط فيها بالآخرين»، «لبس جائز أن يكون لباسها مجاوزاً حد الاعتدال ولا احتجابًا بكل بدنها ليضيق عليها اعتسافا.

بداية، هذه العبارات تنطوي على تناقض بالغ للفهم الصائب للقطعي، فإذا كان ثمة حديث عن الرسول الكريم يقرر الستر الكامل لبدن المرأة عدا وجهها وكفيها وينهى إطلاقًا عن كشف ما عداها، وهو حديث قاطع الدلالة في ذلك دون ريب، بدعم سنة فعلية عنه، بحسبان أن ذاك كان هو الظهر السائد بعهده ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ بالنسبة لكافة نساء المسلمين، وذاك جميعه إنما يعد تبينيًا من قبل الرسول للآيات القرآنية المقررة }قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{(النور : 30 : 31)فضلاً عما تأكد من دلالة بهذا، من إجماع أمة اجماعًا متواتراً عبر الأزمان، من تعيين ثياب المرأة ولباسها على هذا النحو، بحيث لا ينكشف عنها سوى وجهها وكفيها، وزاد البعض قدميها مما هو موضع خلاف، فكيف نأتي بعد كل ذلك، ونقرر لولي الأمر سلطة كاملة في أن يشرع من الأحكام ما يتحدد به هيئة رداء المرأة وثيابها على ضوء ما يكون سائداً في مجتمعها بين الناس ــ على حد عبارة الحكم ــ بما لا يصادم نصًّا قطعيًّا، فالأمر هـا هنا ليس بشأن نص قطعي وحسب، وإنما بصدد مفهوم قطعي لثياب المرأة ولباسها، ليس ثمة معه سبيل لمجاوزته أو الخروج عليه، بل ولا اجتهاد في شأنه مطلقًا، فالأحكام حاسمة في تقرير الأمر، وليس لولي الأمر من أمر سوى الانصياع نزولاً على مقتضى هذا الحكم القطعي، ولعل ا يفسر هذا الاضطراب الشديد في ذلك الحكم، مفهومها للقطعي من أحكام، الذي ينحصر لديها وحسب في النص القطعي، أما ما يتوصل إلى قطعيته بالتركيب الاجتهادي لنصوص متعددة بعضها ظني الدلالة وبعضها ظني الثبوت، المصحوب بإجماع الأمة، فهذا خارج تقدير المحكمة، وهو عوار جسيم في تقدير المحكمة لمفهوم القطعي، ما كان لها أن تقع فيه. ومن جانب آخر، جرى الحكم بما يجاوز قليلاً المفاهيم الإسلامية الثابتة بلا خوف، فالحكم يقرر أن الشريعة الإسلامية تتوخى ضبط ثياب المرأة إعلاء لقدرها وبما لا يوفعها في الحرج إذا اعتبر بدنها كله عورة مع حاجتها للخروج لمباشرة ما يلزمها من أعمال، ويقرر أن سلطة ولي الأمر في تحديد هيئة رداء المرأة منضبطة بعدم تناقض المقاصد الشرعية، وهذا جميعه غير صائب مجانبًا لصحيح فهمنا لشرع الله، فمن المقطوع به أنه جسم الإنسان على الحرمة وليس الإباحة، مما لا مجال فيه لاجتهاد، فالتحريم والوجوب شرعًا لا اجتهاد فيهما، فإن قلنا : إن جسم الإنسان ــ رجل أو امرأة ــ على الحرمة امتنع إطلاقًا تحريك هذه الحرمة إلى الإباحة إو إلى الندب، كما أن المقطوع به أنه جسد المرأة تحديداً كله عورة عدا الوجه والكفين، فكيف يقال بأن الشريعة تتوخى ضبط ثياب المرأة شريطة ألا يضيق عليها في حاجتها للخروج لمباشرة ما يلزمها من أعمال، إذ كيف يمكن أن نحكم الخروج لمباشرة الأعمال ونجعله ضابطًا في أمر حسمه الشرع بأحكام قطعية، فذلك من قبيل تغليب المصالح المتوهمة على المصالح الثابتة قطعًا بموجب أحكام قطعية. كما أنه من المقاصد الشرعية حفظ العرض، ومما هو ثابت أن مما يدخل في العرض عورات المسلمين وتعيين فهوم العورة لما قرره الشرع وليس ما نقرره نحن حسب حاجاتنا العملية المتوهمة. ومن جانب ثالث، فالحكم يسوى ما بين مجاوزة الاعتدال في الملبس والاحتجاب الكامل لكل البدن، وهذا ما لم يقل به أحد قبل، فكيف تتساوى الخلاعة الفجور مع شدة الحرص على التزام نواهي الإسلام وأوامر الشرع الحنيف. ومن جانب آخر، فإن ما نتهى إليه هذا القضاء من عدم مناقضة قرار وزير التعليم المطعون فيه للمادة الثانية من الدستور المحكمة للشريعة الإسلامية بحسبها المصدر الرئيسي للتشريع على كافة القوانين واللوائح، استوى مجانبًا للصواب، إذ فضلاً عما سلف وذكرناه جميعه، فإن أمر احتشام المرأة فيما يزيد عن المقرر شرعًا، أي في الاحتجاب الذي يتجاوز الجسد بكامله إلى الوجه والكفين أيضَا، إنما هو مما يختص به الإنسان في مجاله المحجوز له بالمستوى الارتكازي من هيكل مفهوم النظام العام. إذ يتعين هذا المستوى في هذه المسألة، بأن يحدد ما يجب على المرأة ارتداؤه، بوصفه الحد الأدنى الذي لا يجوز عليها الانفلات منه إلى ما يدانيه، أما أمر التزيد عليه فهو مما أباحه الله تعالى للإنسان، إباحة أحسبها من حقوق العبد التي لا يجوز لولي الأمر الافتئات عليها والتدخل في شأنها.

وبذلك يصير الحكم المشار إليه وإذ انبنى على فهم خاطئ المشار إليه وإذ انبنى على فهم خاطئ لمفهوم القطعي، قد جانبه الصواب فيما انتهى إليه، مخالفًا بذلك أحكام قطعية تعد من كليات الإسلام التي حكمها الدستور بموجب نص المادة الثانية منه على كافة الأعمال التشريعية، قوانين أو قرارات لائحة.

ثانًيـا:يتـأصل منطق المحكمة الدستورية العليا، على أن النهج القومي ن المشرع يستلزم في كل اجتهاد يأتيه، كفالة المقاصد العامة للشريعة الإسلامية بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال، أي أنالمحكمة وإن اعتدت بالمقاصد الشرعية، بحسبانها غاية مراد الشرع الحنيف. فإنها تمضي قدماً في مجال تفصيل هذه المقاصد بحيث حصرتها في الأمور الخمس المتقدمة. وهذا النهج وإن صح في شق فلا يستمر على صحته في شقه الآخر. فبداية، كيف تحكم المقاصد الشرعية على ذاك النجو الضابط إجمالاً لاجتهاد ولي الأمر، بحسبان قطعيتها، حال كونها لا تعتد بالقطعي إلا ما ورد نصًّا فقط، لا ما استقرئ اجتهادًا، وما المقاصد الشرعية إلا عمل اجتهاد صرف. ومن وجهة أخرى، فإن الواجب الانتباه إليه، ضرورة التمييز بين أصل مفهوم المقاصد الشرعية وحاكميتها الضابطة. وبين تفاصيل ومفردات هذه المقاصد وأوجهه وبين تفاصيل ومفردات هذه المقاصد وأوجهها التي نروم صونها. فحال ينعقد الإجماع قطعيًّا على الأمر الأول، بحسبان أن ليس ثمة من ينكر على الشرع الحنيف استهدافه صلاح الناس وحسن عيشهم في إطار الالتزام الكامل بما يتحقق به، فضلاً الفلاح في الآخرة، وليس ثمة من خرج الكثير من الأحكام الشرعية على هدى من هذه المقاصد بالنظر إلى ما استهدفته من مصالح. إلا أن الخلاف إنما يظهر عند تعيين أفراد هذه المقاصد وتفاصيل المصالح الكلية المبتغاة، إذ ثمة من يزيد على هذه المقاصد الخمس التي عينتها المحكمة، أخرى، وثمة من ينتقص منها، وثمة من يعيد ترتيبها على نحو مختلف فيغلب بعضها على بعض عن التعارض، وهكذا. وهذه جميعها أمور تباينت في خاصتها الآراء، مما استحال معه الجزم بقطعيتها، وحالتئذ يتبقى لولي الأمر سلطان تعيينها حتى تصير بموجب امره قطعية، وهذا لم يحصل إلى الآن من قبله، مما كان يتعين معه على المحكمة التحفظ إزاء هذا الأمر، والاقتصار فيما تورده من قطعي عن هذه المقاصد، على مفهوم الكلي لهذه المقاصد دونها استزاده. خاصة أن ثمة من أوضاع الواقع الحديث، ما صار معه مستوجبًا لتعيين مقاصد أخرى، وإلزام ولي الأمر بها، كما ذهب الشيخ الطاهر بن عاشور، عند تعيينه لمقصدي الحرية والتعليم.

ثالثًا:يتأصل نظر المحكمة على أن الشريعة الإسلامية متطورة بالضرورة نابذة للجمود؛ لا يتقيد الاجتهاد فيها. فيا لا نص عليه ــ لغير ضوابطها الكلية وبما لا يعطل مقاصدها. من ثم تقرر أنه ولئن جاز القول بأن الاجتهاد في الأحكام الظنية وربطها بمصالح الناس حث لأهل الاجتهاد، فأولى أن يثبت هذا الحق لولي الأمر، على أن يكون مفهومًا أن اجتهادات السابقين لا يجوز أن تكون مصدرًا نهائيًّا أو مرجعًا وحيدًا لاستمداد الأحكام العملية منها، بل يجوز لولي الأمر أن يشرع على خلافها وأن ينظم شؤون العباد في بيئة بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة. وهذا الذي تؤصل عليه المحكمة نهجًا للاجتهاد، وإن وصم بما سلف وذكرناه من عيب تجاهل قسائم القطعي، أي القطعي من الأحكام المتوصل إليها اجتهادًا، بيد أنه يصمه عيب آخر، ألا وهو تبنيها لنهج اجتهادي من دون أن تعمل على رسم إطاره الكلي، فلا يبين من قضاء المحكمة ــ العديد في هذا الخصوص ــ ضوابط محددة للاجتهاد تلزم ولي الأمر وهو بصدد الاضطلاع بهذه المهمة الكأداء، أو تلزم بها نفسه وهي بصدد مراقبة عمل ولي الأمر بهذا الخصوص. فقط اكتفت بالتنويه إلى عدم جواز مخالفة الاجتهاد للقطعي ثبوتًا ودلالة بحسبان أنه لا اجتهاد إلا في إطار الظني، هذا من جانب، ومن آخر تشددت في وجوب التزام الاجتهاد والمستجد مصالح الناس فيجب أن يستوي ميسرًا لهم رافعًا للشقة عنهم. حال كون كلا الأمرين غير كاف ــ بل وغير صالح ــ كي يكون ضابطًا للعملية الاجتهادية. فالقول بالاجتهاد في مورد القطعي، لا يفيد ضبطًا للعملية الاجتهادية، وإنما وحسب يقرر لها ساحة في الفعل، وإنما وحسب يقرر لها ساحة النشاط، وهذا لا يصلح ضابطًا على الإطلاق.

وأما قاله وجوب تلاقي الحكم المجتهد فيه ومصالح الناس، بحيث يكون التيسير على الناس ورفع الشقة عنهم بما يتلاءم وواقعهم البيئي المعاشي هو ضابط العمل الاجتهادي، فهذا بدوره مردود وبأكثر من وجهة، بداية وليس ثمة حكم شرعي إلا ويبتغي مصالح الناس ورفع الحرج عنهم، فذاك هو القصد الشرعي الكلي من الرسالة المحمدية إلا أن أمر اختلاف حكم عن آخر في شأن مسألة معينة، إنما يكمن في المنهج الاستدلالي الذي سلكه كل معين للوصول إلىمبتغاه، ذاك أنه ولاختلاف المذاهب الفقهية في أصولها الاستدلالية، ومصادرها الشرعية التي تعتد بها، حصل اختلاف حتمي داخل الفقه فيا بلغوه من أحكام بشأن ذات الحوادث والنوازل، دون أن يكون بالمكنة نسبة العيب لأى من هذه الأحكام، بل لم يحصل في التاريخ الفقهي الممتد عبر قرون طوال. إن رمى أحد، أحد الأحكام، بعيب التشديد على الناس والتعسير عليه، ذاك أن لكل حكم منطقه الخاص، ومنهجه المستقبل، بحيث لا يغدو داخلان رمى أحد، أحد الأحكام، بعيب التشديد على الناس والتعسير عليه، ذاك أن لكل حكم منطقه الخاص، ومنهجه المستقبل، بحيث لا يغدو داخل حقله المعرفي المجتهد من خلاله، غريبًا أو متشدداً.

وصفوة القول في هذا الخصوص، أن قياس حكم ما، والحكم على جدته وصلاحيته، لا يكون بالمعيار النفعي للمصلحة المتحققة من ورائه، وإنما يكون بمدى استقامته اجتهادًا وبمدى اتفاق مصدره الاستدلالي مع المصادر الاستدلالية المتبناه من قبل ولي الأمر، هذا من وجهة، ومن أخرى التعويل على اتفاق الحكم وصلاح الناس، إنما هو لقياس عمل ولي الأمر والحكم على صلاحيته هو للاستمرار في الاضطلاع بنظام الحكم، فمناط تحكم ولي الأمر في شئون العباد، التزامه بالنهج الرباني الذي قرره له، من تحقيق لصالح الناس وحفظ لدينهم ودنياهم على نحو مت أمر المولى عز وجل، ومن ثم فثمة خلط وقعت فيه المحكمة ما بين مناط صلاحية ولي الأمر كما تقرره السياسة الشرعية والمناط صلاحية الحكم الفرعي الشرعي في مسألة معينة والذي تقرره ــ أي صلاحية ــ مصادر الاستدلال ومناهجه المقررة. ومن وجهة ثالثة، أنه ليس ثمة ريب في نبل وعدة المحكمة للاجتهاد، بحسبانه سبيل صلاح الناس، إلا إنها انساقت، وهي بصدد الدفاع عن دعوتها تلك في عبارات عدة جرت عليها مكانها، في سقطة الحط من قدر الآراء الفقهية المختلفة حضًّا على ضرورة تجاوزها إلى غيرها مما يمكنه التواصل إليه بالاجتهاد المستجد من قبل ولي الأمر، وهي سقطة من جانبها ما كانت لتقع فيها، إذ لا يخفى عليها، ما للتراث الفقهي الذي تحط من قدره، من أهمية بالغة، فهو ليس مجرد مجموعة من الأحكام الفرعية الجزئية في مسائل متباينة ناتجة عن وضع بيئي معين، يتعين ضرورة تعديلها بتعديل هذا الوضع البيئي، إذ إن التراث الفقهي لكل مذهب من المذاهب إنما هو ــ وبحق ــ مستودع النهج الاستدلالي الذي يقوم عليه المذهب، فإذا كانت مناهج الاستدلال المقررة لكل مذهب ومصادرها الاستدلال المقررة لكل ذهب ومصادرها الشرعية المعتمدة لديها، ثابتة بحسبانها السبيل الوحيد لبلوغ الأحكام الفرعية الجزئية، فليس ثمة من بد من مراجعة هذه الأحكام، بل ليس ثمة من سبيل للإحاطة بهذه المناهج دون مراجعة تلك الأحكام الفرعية الجزئية وتخريجها على أدلتها الكلية. وهذه عمليات استدلال لا فكاك منها ولا مناص عنها إن شئنا جدة معرفة حكم شرع بشأن أمر ما. فالأمر ليس بسهولة الحط من التراث والحض على الانفكاك لإبداع فقه جديد، وإنما الأمر يستلزم مسبقًا إدراكًا واعيًا، ومعرفة قويمة، بمناهج الاستدلال المختلفة التي يكن عن طريقها بلوغ المنتهى وإبداع فقه جديد ــ إن شئنا هذا.

وبعد فتلك كانت الملاحظات التي تبادرت لنا، على الأصل المنهجي الذي أفصت عنه المحكمة الدستورية العليا والذي ألزمت به نفسها وراقبت على هدى منه دستورية القوانين والقرارات.

قضاء الحكمة الدستورية العليا في مواد الأحوال الشخصية

يستوجب الأمر بداية، وقبل العرض لقضاء المحكمة الدستورية العليا في مواد الأحوال الشخصية، التنبه إلى أن غالب ما عرض على هذه المحكمة ن تلك المواد، لا يعدو كونه قواعد آمره، وقليله وحده هو ما يمكن الاعتداد به قواعد نظام عام، وإن كانت مما ينتمي إلى المستوى الفرعي لهيكل مفهوم النظام العام كما أسلفنا بالفصل الأول من الباب المنقضي، الأمر الذي يضئ معه، حارجًا عن النطاق البحثي بهذه الدراسة. مناقشة هذه الأحكام موضوعيَّا. إلا أن ثمة من هذه المواد الطعنية، مما اقبت المحكمة شأن دستوريته. حاولت المحكمة تخريجه موضوعيًّا على أصل المبادئ الكلية التي يتشكل منها الكيان الضروري للجماعة أو على أصل من أصول الكيان الضروري للدولة، ومن ثم تقدست تلك الأحكام، وعلى نحو ما تم، مفهوم النظام العام، مما استوجب معه العرض إلى نماذج منه ومحاولة دراسته تفضيلاً. والحق فقد صادف المحكمة صيح الصواب في كثير مما قضت به في هذا الخصوص، رغم تحفظنا آنف البيان على الأصل المنهجي الذي تبعته المحكمة من الوجهة الاستدلال الشرعي.

أولاً :الطعن على المادتين رقمي (18 مكررًا ثالثًا) و(20 فقرة أولى) من المرسوم بقانون رقم 25 لسنو 1929 المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985(32)، حيث ألزمت أولادهما الزوج المطلق بأن يهيئ لصغاره من مطلقته ولحاضنتهم مسكنًا مستقلاًّ مناسبًا، وقررت ثانيهما انتهاء حضانة النساء ببلوغ صغير سن العاشرة وبلوغ الصغير سن اثنتي عشرة سنة وأجازت للقاضي بعد هذه السن إبقاء الصغير حتى سن الخامسة عشرة والصغير حتى تتزوج في يد الحاضنة دون أجر حضانة إذا ما تبين اقتضاء صالحهما ذلك. هاتان المادتان فيما تعالجانه من مصالح خاصة لا يعدوان كونهما قواعد آمرة، ينتظم بهما المشرع علاقات خاصة، فيحدد أي المصالح الخاصة المتعارضة، أولى بالرعاية، وحدود هذه الرعاية، والحد الزمني الذي تمتد إليه هذه الرعاية في الاستمرار بتغليب مصلحة على أخرى يدعم مذهبنا ذاك في تعيين طبيعة المادتين المذكورتين، أن ليس ثمة بطلان مطلق يلحق أى أتفاق أو تصرف على مخالفة مقتضياتهما، فيجوز للحاضنة الاتفاق مع الزوج المطلق على عدم حضانة الصغار، ويجوز لها أيضًا النزول على مسكن الحضانة، وهذا جمعيه مما يؤكد على الطبيعة الآمرة لما تتضمنه المادتان من أحكام، دون أن ترتقيا لمصاف قواعد النظام العام.

بيد أن ذاك التكييف، هو قياس ظاهري للمادتين المعنيتين، قياس يعتمد كليًّا على المعالم الخارجية لأحكامها، حال أن الأمر يتبدل جزئيًّا، إن تمر سبر غور هاتين المادتين ودراسة حدود اتصالهما بالصالح الجمعي للجماعة، فحقيقة الأمر في خاصة هاتين المادتين، أنه ل يكن هدفهما الأوحد تعيين أي المصلحتين أولى بالتقدير، مصلحة الحاضنة أم مصلحة الزوج المطلق، وإنما كان هدفهما الأسمى «منع الخلاف بين الأب والحاضنة على نزع الحضانة في سن غير مناسبة بقصد كناية دون رعاية لصالح الصغار، وما يقتضيه الاستقرار النفسي اللازم لسلامة نموهم وحسن تربيتهم»(33)، ذلك أن «الحضانة ــ في أصل شرعتها ــ هي ولاية للتربية، غايتها الاهتمام بالصغير وضمان رعايته والقيا على شئونه في الفترة الأولى من حياته، والأصل فيها هو مصلحة الصغير، وهي تتحقق بأن تضمه الحاضنة، التي لها الحق في تربيته شرعًا ــ إلى جناحها باعتبارها أحفظ عليه وأحرص على توجيهه وصيانته، ولأن انتزاعه منها ــ وهي أشفق عليه وأوثق أتصالاً به وأكثر معرفة بما يلزمه وأوفر صبرًا. مضرة به إبان الفترة الدقيقة التي لا يستقل فيها بأمور والتي لا يجوز خلالها أن يعهد به إلى غير مؤتمن يأكل من نفقته ويطعمه نزرًا أو ينظر إليه شزرًا …… ولولي الأمر بالتالي أن يقدر ا يراه خيرًا للصغير وأصلح له، بمراعاة أن حقه في الحضانة لا يعتبر متوقفًا على طلبها فمن له الحق فيها، وأن ما يصون استقراره النفسي ويحول دون إيذائه ويكفل تقويمه، من المقاصد الشرعية التي لا يجوز المجادلة فيها، وأن النزول عن الحضانة بعد ثبوتها لا يحول دون العودة إليها، بل إن من المجتهدين من يقول بجواز حمل الحاضنة عليها ــ بافتراض اجتماع شروطها فيها ــ كلما كان ذلك ضروريًّا لصيانة الصغير وحفظة ــ وقد دل الفقهاء ــ باختلافهم في زمن الحضانة وعي الفترة الواقعة بين بدئها وانتهاء الحق فيها ــ على أن مصلحة الصغير هي مدار أحكامها، وأنها من المسائل الاجتهادية التي تتباين الآراء حولها كل من وجهة مقيد فيها بما يراه أكفل لتحصل الخير للصغير في إطار من الحق والعدل …… إلا أن استقرار أقوال هؤلاء وهؤلاء يدل على أن اجتهاداتهم في شأن واقعة انتهاء الحضانة، مدارها نفع المحضون ــ صغيرًا كان أم صغيرة، ويتعين بالتالي أن يصار إلى كل ما يصلحه ويكفل وقايته مما يؤذيه، وتربيته إنماء لمداركه ولإعداده للحياة»(34).

الأمر يبين معه وبحق، صواب ما بلغته المحكمة في قضائها ذاك، القائم على التمييز في مسألة دقيقة ما بين كفالة الصغير وحكايته والحفاظ عليه، وبين آليات تحقيق هذه الأهداف، أي أن الحكمة أقامت تفرقة غاية في الدقة ما بين ابتغاء صالح الصغير باعتباره أولى بالصون والرعاية، وبين الكيفية التي يمكن بها بلوغ هذه البغية.

فأما الأمر الأول فعدته المحكمة من المقاصد الشرعية التي هي من القطعيات التي ليس ثمة من فكاك من اعتبارها على القمة من مدارج المصالح الأولى بالرعاية.

وأما الأمر الآخر فلا يعدو قواعد قانونية آمرة ينتظم بها المشرع ــ ولي الأمر ــ هذا الشأن فيقوم بفض التعارض الذي يكن أن يرع ــ ولي الأمر ــ هذا الشأن فيقوم بفض التعارض الذي يكن أن يحدث إزاء تعارض في عدد من المصالح المرتبطة، وذلك على النحو الذي يوفر استعلاء لمصلحة الصغير في كفالته الأولى بالرعاية. وعليه، ومما تقدم، يتبين أن الحكمة الدستورية العليا، قد عدت كفالة الصغير وصونه من المقاصد الشرعية، أي قامت بتخريج هذه المصلحة، تخريجًا شرعيًّا، وكانت المقاصد الشرعية من القطعيات حكمًا(35)، مما يعدها من الكليات الإسلامية التي يرتكز عليها النظام الإسلامي، وكانت هذه المرتكزات الإسلامية بحكم المادة الثانية من الدستور، هي جزء من المكون الضروري للدولة بعد أن كانت وحسب مرتكزًا للمكون الضروري للجماعة، فن ثـم ــ والحـال هذه ــ غدت كفالة الصغير والصغيرة طوال فترة الحضانة من النظام العام.

أما أمر كيفية صون الصغير وتحقيق صالحه وفرض أفضل حماية له، فهو وإزاء عدم وجود أحكام قطعية حيالها، يصير لولي الأمر سلطة انتظام هذا الشأن بما يراه أوقع في توفير الغاية القصدية، إن «لولي الأمر الاجتهاد في الأحكام الظنية بمراعاة المصلحة الحقيقية التي يقوم برهانها من الأدلة الشرعية، وهو ما نحاه النص التشريعي المطعون فيه، ذلك أن السن الإلزامية للحضانة التي حددها ــ وهي عشر سنين للصغير واثنتا عشرة سنة للصغيرة لا تعدو أن تكون تقريراً لأحكام عملية في دائرة الاجتهاد بما لا يصادم الشريعة الإسلامية في أصولها الثابتة ومبادئها الكلية، إذ ليس ثمة نص قطعي فيها ــ في ثبوته ودلالته ــ يقرر للحضانة سنًا لا يجوز لولي الأمر أن يتخطاها، وإنما مرد الأمر في تعيينها إلى ا يترخص ولي الأمر في تقديره مقيدًا في ذلك بمصلحة المحضون بما يراه أكفل لها وأوعى لتحقيقها، وبما يحول دون إعناته، وهو فى ذلك لا يصدر عن نظرة تحكمية، بل غايته رفع الحرج وفق أسس موضوعية قدر معها أن مصلحة المحضون لازمها عدم ترويعه بانتزاعه من حاضنته بمت يخل بأمنه واطمئنانه، ويهدد استقراره»(36).

وعليه تكون المحكمة قد أصابت جادة الحق والصواب، بأن قررت ما في المادتين الطعنتين سالفتي الذكر من موافقة للمادة الثانية للدستور، وذلك بعد أن ردتهما إلى أصل شرعي مشترك بكل من المستوى الارتكازي لهيكل مفهوم النظام العام، فضلاً عن المستوى الفوقي له.

إلا أن هذا المتوصل إليه، من كون الحضانة هي بالأساس حق مقرر للمكفول بالحضانة؛ صونًا لصالحه وحماية لشأنه ورعاية لضعفه، أقول : هذا المتوصل إليه، إنما يتداعى بآثاره، فيصيب أمرًا كاد أن يكون مستقرًّا مفهومه، ألا وهو حق الحاضنة في النزول عن حضانتها، وجواز الاتفاق مع الأب المطلق على ترك الحضانة له أو لغيره ممن تنتمى لهم الحضانة شرعًا؛ إذ أنه طالما صارت الحضانة من النظام العام، فليس من سبيل للاختلاف حولها أو النزول عنها، خاصة أنها لم تتقرر لصالح المتنازل أو المتنازلة له، وإنما هي لصالح الغير وهو الصغير، وعليه فإذا كان مقدرًا شرعًا وقانونًا أن أصلح ما يكفل الصغير بقاؤه مع حاضنته المقررة شرعًا تعين حمل الحاضنة جبراً على ذلك ولو كرهت. وهنا يتبلور دور لولي الأمر ــ القضاء ــ إذ يكون جائزًا له رفع الصغار عن حضانة حاضنتهم إن تبدى له أن قرينة تحقق صالح الصغير باستبقائه ع حاضنته قد انتفت، لأي سبب من الأسباب، ومنها كرهها لحضانته الذي بلغ حد إهمالها إياه، بما يرفع القرينة الفرضية القائمة على تحقيق مصلحة الصغير في يدها، حالتئذ يصبح واجبًا على القاضي التدخل لتقويم اعوجاج الأمر، ومنح حضانة الصغير لمن يتقرر له الحضانة شرعًا غير حاضنته الأولى، وذلك نزولاً على حقيقة المقصد من الحضانة وهو كفالة الصغير وصونه وحفظ أمره وشأنه.

ثانيًا:ينبني على ما تقدم من فهم، وخاصة شأن الصغير المحضون، بحسبان كفالته مقصدًا شرعيًّا الأمر الذي فرض لزومًا حضانته على نحو معين شرعًا، وإبقاؤه هو وحاضنته بمسكن الزوجية إن لم يتمكن والده المطلق من أن يوفر له مسكنًا مناسبًا. هذا الفهم الذي أسكن صالح الغير المحضون بالمستويين الارتكازي والفوقي من هيكل مفهوم النظام العام على نحو ما تقرر آنفًا، حدا بالمحكمة الدستورية العليا في شأن الطعن الذي أقيم أمامها في المادة (18 مكررًا ثانيًا) منه المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية(37)التي تقرر أن نفقة الصغير على أبيه إن لم يكن له مال بحيث يستمر الأب ملتزمًا بها حتى تتزوج البنت أو تكسب ا يكفى نفقتها وإلى أن يتم الابن الخامسة عشر من عمره قادرًا على الكسب، فإن أتمها عاجزًا عن هذا الكسب لآفة بدنية أو عقلية أو بسبب طلب العلم الملائم لأمثاله ولاستعداده، أو بسبب عدم تيسر هذا الكسب استمر الأب مبزمًا بنفقته. أقول : هذا الذي تقدم حدا بالمحكمة المذكورة إلى التأكيد على موافقة هذا الأحكام فيما تفرض من التزامات على الاب لأحكام الدستور، ومن ثم رفضت الطعن المقام، حيث قدرت المحكمة أنه لا نزاع في أن نفقة الولد على أبيه لا يتحملها سواه ولا يشارك فيها غيره، ولئن صح القول بأن علاقة الشخص بذوي قرباه ــ من غير أبنائه تقوم في جوهرها على مجرد الصلة، ولو لم تكن صلة محرمية ــ إلا أن الولد بعض من أبيه أو هو جزؤه الذي لا ينفصل عنه وإليه يكون منتسبًا فبل يلحق غيره … وهذه الجزئية أو البعضية مرجعها إلى الولادة، وليس ثمة نفع يقابلها ليكون فيها معنى العوض، ومن ثم كان اختصاص الوالد دور غيره بالإنفاق على عياله ثابتًا لا جدال فيه، وبهذه الجزئية أو البعضية مرجعها إلى الولادة، وليس ثمة نفع يقابلها ليكون فيها معنى العوض، ومن ثم كان اختصاص الوالد دور غيره بالإنفاق على عياله ثابتًا لا جدال فيه، باعتبار أن الإنفاق عليهم كإنفاق الوالد على احتياجاته هو صونًا لحياته، ولأن عجزهم عن النظر لأنفسهم والقيام على حوائجهم يفرض بذاته نفقتهم التي لا يجوز لأبيهم أن يحجبها عنهم إعمالاً لقوله عليه السلام : (كفى بالمرء إثًما أن يضيع من يقوت).

وإذا كان متعينا على الوالد ايفاء نفسه حقها توقيًا لإهلاكها، فإن سعيه لضمان مئونة أولاده ــ وهم بعض منه ــيكون ولجبًا باعتبار أن الحاجة داعية إليه والمصلحة تقتضيه(38). وبذلك تكون المحكمة قد قطعت بلزوم الأب نفقة صغاره على النحو المقرر بالمادة الطعنية آنفة الذكر. إلا أن الأمر لم يقف عند ذلك، بل تعداه إلى اعتبار المحكمة عدم سقوط الحق في المطالبة بهذه النفقة ولو استطال أمد هذه المطالبة ذلك أن «الأصل في الولد ــ إذا كان بالغًا عاجزًا عن الكسب ــ حقيقة أو حكمًا ــ ألا يكون مغاضبًا لأبيه أو عصيًا حتى يتخلى عنه، فإن كان صغيرًا فإن الاتفاق على أن الأولى موالاة لشؤونه وإصلاح أمره، وسواء كان الولد بالغًا أو كان صغيرًا، فإن حبس النفقة عنه لمجرد مدة غير قصيرة على طلبها ــ لا يعدو أن يكون إعناتًا منطويًا على التضييق عليه بإنكار نفقة لازمة لحاجاته الضرورية المعجوز عن تحصيلها، ذلك أن الحقوق لا تنشأ إلا مترتبة على موجباتها التي يعكسها أن الولد ليس له مال يكفيه لسد الخلة ــ بمعنى دفع الحاجة ــ وبمقدار ما يكون من النفقة معروفًا، ولا يجوز بالتالي إسقاطها بعد قيام الحق فيها إلا بإيصالها إلى ذويها أو بالإبراء منها، ومجرد تراكمها عن مدة ماضية ليس كافيًا بذاته لترجيح قالة العدول عنها، إذ هي نفقة شرعية تقتضيها الضرورة، وبمراعاة أن مبلغها ليس سرفًا زائداً عما اعتاده الناس، وإن وجب ألا تقل عن حد الكفاية محددًا لأولاده على ضوء ما يليق بأمثالهم، ومن هذه الزاوية قيل بأن الوالد وإن علا لا يحبس دين لولده وإن سفل إلا في النفقة لأن في الامتناع عنها مع وجوبها ضياع لنفس مستحقها واتلاف لها(39).

وعليه فإن المحكمة برفضها اسقاط النفقة مهما استطال زمن المطالبة بها واستدلالها على ذلك بأن دين النفقة هو الدين الوحيد الذي يحبس الأب لأجله وفاء لدين عليه لولده، فإنها تكرس مفهومًا سبق وأكدته سابقًا، ألا وهو أن كفالة الصغير لمحض مصلحة هي بحكم اللزوم شرعًا والوجوب وضعًا، الأولى بالرعاية والصون، فهي من النظام العام، فإن كان ذلك كذلك، فبدهي ألا يجوز أسقاط الحق في المطلقة بهذه النفقة بمرور الزمن ومهما استطال أمده(40).

ثالثًا :ويرتبط بما تقدم، قضاء للمحكمة الدستورية العليا، أحسبه في غاية الأهمية، تدليلاً على فهمها لأمر شأن الصغير داخل المنظومة القانونية المحيطة بهذا الشأن، ومكانة صالحة مقارنًا بباقي الصوالح الأخرى المتعلقة به، هو قضاؤها في الطعن الذي أقيم أمامها، لدعوى عدم دستورية المادة 193) من لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس التي أقرها المجلس المللي العام، والمعمول بها اعتبارًا من 8/7/1938(41)، والتي كانت تقرر انتهاء الحضانة ببلوغ الصبي سبع سنوات وبلوغ الصبية تسع سنين، وحينئذ يسلم الصغير إلى أبيه أو عند عدمه إلى من له ولاية على نفسه، فإن لم يكن للصغير ولي، ترك عند الحاضنة إلى أن يرى المجلس من هو أولى منها باستلامه، وانتهت المحكمة بقضائها ذاك إلى عدم دستورية نص المادة الطعنية. وأقامت المحكمة حكمها بعد أن ردت فهمًا لماهية الحضانة على نحو ما تقد آنفًا، وبذات عبارات التي أوردتها غير قضاء سابق لها، على سند من أنه «لا تقيم الشريعة الإسلامية في مبادئها المقطوع بثبوتها ودلالتها ــ ولا شريعة غير المسلمين من الأقباط الأرثوذكس ــ التي حدد الإنجيل المقدس ملامحها الرئيسية ــ لسن الحضانة تخومًا لا يجوز تجاوزها، انطلاقًا من أن تربية الصغير مسألة لها خطرها، وإن تطرق الخلل إليها ــ ولو في بعض جوابها ــ مدعاة لضياع الولد، ومن ثم تعين أن يتحدد مداها بما يكون كافلاً لمصلحته، وأدعى لدفع المضرة عنه، وعلى تقدير أن مدار الحضانة مع نفع المحضون، وأن رعايته مقدمة على أية مصلحة لغيره» وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت الأسرة المصرية لا يصلحها اختيار سن للحضانة لا يكون محددًا وفقًا لتغير الزمان والمكان ولا يقيمها كذلك انتزاع الصغير أو الصغيرة من حاضنته إعناتاً أو ترويعًا، أو إغفال الفروق الجوهرية بين المحضونين تبعًا لذكورتهم وأنوثتهم، وخصائص تكوينهم التي تتحدد على ضوئها درجة احتياجهم إلى من يقومون على تربيتهم لمسئوليتها : وكان تعهد المحضون ــ صغيراً كان أم صغيرة ــ بما يحول دون الإصرار به، مؤداه أن يكون لحضانتهما، سن تكفل الخبر لهما في إطار من الحق والعدل. وشرط ذلك اعتدالها فلا يكون قصرهما نافيًا عن حضانتهم متطاباتها من الصون والتقويم، وعلى الأخص من الناحيتين النفسية والعقلية ولا امتدادها مجاوزاً تلك الحدود التي تتوازن بها حضانتهم مع مصلحة أبيهم في أن يباشر عليهم أشرافًا مباشراً. بل تكون مدة حضانتهم بين هذين الأمرين قوامًا، وهو ما نجاه المشرع بالفقرة الأولى من المادة 20 من المرسوم بقانون رقم 20 لسنة 1929 بعد تعديلها بالقانون رقم 100 لسنة 1985م من أن حق حضانة النساء ينتهي ببلوغ الصغير سن العاشرة وبلوغ الصغيرة اثنتى عشرة سن. ويجوز للقاضي بعد هذه السن إبقـاء الصغير حتى سن الخامسة عشر والصغيرة حتى تتزوج في يد الحاضنة لصغيرة حتى تتزوج في يد الحاضنة ــ ودون أجر حضانة ــ إذا تبين  ودون أجر حضانة ــ إذا تبين أن مصلحتهما تقتضى ذلك. وحيث إن تحديد سن الحضانة على النحو المتقدم، وإن هذا التحديد أوثق اتصالاً بمصلحة الصغير والصغيرة اللذين تضمها أسرة واحدة وإن تفرق أبواها. ولا يجوز في مسألة لا يتعلق فيها تحديد السن بأصول العقيدة وجوهر أحكامها، أن يمايز المشروع في مجال ضبطها بين المصريين تبعًا لديانتهم، ذلك أن الأصل هو مساواتهم قانونًا ضمانًا لتكافؤ الحماية التي يكفلها الدستور أو المشروع لجموعهم، سواء في مجال الحقوق التي يتمتعون بها أو على صعيد واجباتهم. والصغير والصغيرة ــ في شأن حضانتهما ــ يحتاجان معًا لخدمة النساء وفقًا لقواعد موحدة لا تمييز فيها. والأسرة القبطية هي ذاتها الأسرة المسلمة، فيما خلا الأصول الكلية لعقيدة كل منهما، وتظلهم بالتالي القيك والتقاليد عينها، وإلى مجتمعهم بفيئون، فلا يكون تقيدهم بالأسس التي يقوم عليها ــ في مقوماتهم وخصائها ــ إلا تعبيراً عن انتمائهم، إلى هذا الوطن واندماجهم فيه تربويًّا وخلقيًّا ودينيًّا، وما الدين الحق إلا رحمة للعالمين.

والبين مما تقدم:

1 ــ أن المحكمة الدستورية العليا، قد كونت عقيدة في خصوص شأن الصغير المحضون، تفيد إعلاءً مقدرًا لصالحه يفوق كافة الصوالح الأخرى المرتبطة، بحيث يغدون أمر كفالته على القمة من مدارج المشروعية القانونية الوضعية. وكان سبيل تكون هذه العقيدة، أمرين:

أولهما: ما استظهرته المحكمة استقراء من أحكام الشريعة الإسلامية، من أن كفالة الصغير المحضون وصونه، وحمايته، إنما هو المقاصد الشرعية، ومن ثم بغدو أمر كفالته على هذا النحو، أمرًا قطعيًّا لا مناص منه ولا فكاك عنه، ولذلك تكون المحكمة قد عدت كفالة الصغير من قواعد النظام العام التي تسكن المستوى الارتكازي بهذا المفهوم، بحسبها من موجبات المكون الضروري للجماعة.

وأما ثاني الأمرين فهوما ما استظهرته من المادة (10) من الدستور التي تقرر كفالة الدولة لحماية الأمومة والطفولى ورعاية النشء والشباب بتوفير الظروف المناسبة لهم لأجل قيمته ملكاتهم، وليس بأفضل حماية يمكن أن توجه لهؤلاء وهؤلاء من توفير أمس الظروف لمن يكون منهم محضونًا بما يكفل صالحه خير كفالة صونًا ورعاية وحفاظًا وحماية، وهى أمور جميعها ارتأها المحكمة آكدة في إفادة استعلاء صالح الصغير المحضون، ومنه غدت هذه المصلحة من النظام العام التي تسكن ــ فضلاً عن المستوى القومي المتعلق بمليات الدولة أيضًا، باعتبار أنها أحد المصالح العليا التي تنحو الدولة صوبها وترنو إلى توفير مقتضيات تحققها.

2 ــ وبذلك صار من النظام العام الداخلي، قاعدة كلية تفيد أن حق الصغير المحضون هي دومًا الأولى بالرعاية، وهي الأعلى مقارنة بكافة المصالح الأخرى المرتبطة.

3 ــ استظهرت المحكمة بالمسح الاستنباطي، لكافة أحكام الشريعة الإسلامية، أن ليس ثمة قاعدة قطعية ــ أو قيمة للقطعي ــ تتحدد بها السن المقرر شرعًا للحضانة، الأمر الذي قدرت معه، دورانه مع صالح المحضون وفيما يحقق، وهو ما يعهد إلى ولي الأمر لتقديره على نحو ما يتحقق به المقصد المرجو إليه.

4 ــ فإذا كان ولي الأمر، قد قدر صالحاً للمحضون في استمرار وضع حضانته حتى سن العاشرة للصغير والثانية عشر للصغير، مع جواز بقاء الصغير مع حاضنته حتى سن الخامسة عشر والصغيرة حتى تتزوج، إن ارتأى القاضي صالحًا للمحضون في ذلك، فقد استنبطت المحكمة الدستورية العليا من ذلك، إن هذه الاحكام إنما تمثل قاعدة فرعية من قواعد النظام العام التي تسكن المستوعى الفرعي الجزئي لهيكل المفهوم. وهي قاعدة نظام عام وضعية، قدرها المشرع حسب سلطانه المقرر له في هذا الخصوص.

5 ــ فإذا كان ذلك كذلك، وجاءت لائحة الأحوال الشخصية الأرثوذكس، مقررة لأحكام مخالفة لهذه القاعدة التي هي من النظام العام، غدا الأمر مستوفيًا لإلغائها والقضاء بع5 ــ فإذا كان ذلك كذلك، وجاءت لائحة الأحوال الشخصية الأرثوذكس، مقررة لأحكام مخالفة لهذه القاعدة التي هي من النظام العام، غدا الأمر مستوفيًا لإلغائها والقضاء بعدم دستوريتها لمخالفتها ليس فقط أحكام المادة (10) من الدستور على ما تقدم مصحوبة بالمادة (40) منه التي تقرر المساواة بين جميع المصريين في كافة الحقوق ــ وإنما فضلاً لمخالفتها لقاعدة من قواعد النظام العام التي يبنى عليها النظام القانوني الوضعي للدولة.

***

الهـوامــش

  • شرح مبادئ الأحوال الشخصية للمسحيين المصريين د/حسام كامل الأهوائي ــ دار النهضة العربية ــ طبعة 1982 ــ ص 9 وما بعدها.
  •  انظر قضاء المحكمة الدستورية العليا في شأن الشريعة الإسلامية لاحقًا.
  •  القضية رقم 1328 لسنة 34 شرعي جزئي ملوي. جلسة 24/7/1935 ــ تؤيد استئنافيًّا ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ لسنة 7 ــ ص 854.
  •  القضية رقم 521 لسنة 37 شرعي كلي مستأنف الإسكندرية ــ جلسة 1/9/1938 ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ لسنة 10 ــ ص 158.
  •  القضية رقم 1672 لسنة 32 ملوى ــ جلسة 31/10/1933 ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ السنة 7 ــ ص 836.
  •  نقض رقم 20 لسنة 26 القضائية ــ جلسة 7/5/1969 ــ لسنة 20 وبذات المعنى نقض رقم 44 لسنة 40 القضائية ــ 29/1/1975 ــ السنة 6.
  •  القضية رقم 3497 لسنة 46 شرعي كلي مستأنف مصر ــ جلسة 27/4/1948 ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ سنة 19 ــ ص ــ 318.
  •  القضية رقم 237 لسنة 45 أبو تيج ــ جلسة 14/6/1946 ــ تأيد استئنافيًّا ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ سنة 17 ــ ص 29.
  •  القضية رقم 51 لسنة 80 أحوال شخصية ــ استئناف القاهرة ــ جلسة 18/1/1964.
  •  القضية رقم 295 لسنة 48 العطارين ــ جلسة 20/4/1948 ــ مؤيد استئنافيًّا ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ لسنة 25 ص99.
  •  ذات القضاء سابق الإشارة إليه.
  •  القضية رقم 169 لسنة 34 كلي شرعي مصر ــ جلسـة 14/1/1936 مؤيد استئنافيًّا ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ لسنة 8 ــ ص 122.
  •  القضية رقم 10 لسنة 49 المحكمة العليا الشرعية ــ جلسة 23/10/1950 ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ السنة 22 ــ ص 198.
  •  نقض رقم 20 لسنة 34 القضائية ــ جلسة 30/3/1966 ــ السنة 17.
  •  نقض رقم 37 نقض رقم 37 لسنة 32 القضائية ــ جلسة 21/4/1965 ــ السنة 16.
  •  القضية رقم 2725 لسنة 46 شرعي جزئي الجمالية ــ جلسة 28/2/1948 ــ تؤيد استئنافيًّا ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ لسنة 20 ـ ص 222.
  •  نقض رقم 20 لسنة 34 القضائية ــ جلسة 30/3/1961 ــ السنة 17.
  •  القضية رقم 398 لسنة 41 شرعي كلي مستأنف مصر ــ جلسة 26/7/1942 ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ السنة 16 ــ ص 29.
  •  نقض رقم 20 لسنة 34 القضائية ــ جلسة 30/3/1966 ــ السنة 17.
  •  ويجدر ملاحظة ما تواتر عليه قضاء الدستورية من أن ما يصدر من قوانين ويسن من تشريعات، بعد التعديل الدستورى الذي تم في 22/5/1980، يتعين لزومًا حتمًا، تقيده بأحكام الشريعة الإسلامية، الأمر الذي يعد معه القانون المذكور خاضعًا لمجاله الزمني لنص المادة الثانية من الدستور، الذي حددته المحكمة الدستورية لتمكين مبادئ الشريعة الإسلامية على القوانين الصادرة بعد ــ رغم اعتراضنا على هذا التمييز الزمنى للنص الدستوري على نحو ما تقدم.
  •  نقض رقم 1028 لسنة 38 قضائية ــ جلسة 17/6/1968.
  •  القضية رقم 87 لسنة 49 شرعي جزئي دمنهور ــ جلسة 13/9/1950 ــ مؤيد استئنافيًّا ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ لسنة 22 ــ 493.

وبذات المعنى القضية رقم 290 لسنة 48 شرعي جزئي العطارين ــ جلسة 20/4/1948 ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ السنة 20 ـ جـ 341.

  1.  القضية رقم 1984 لسنة 952 شرعي جزئي السيدة ــ جلسة 24/6/1935 ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ السنة 24 ــ ص 93.
  2.  القضية رقم 60 لسنة 53 شرعي كلي مستأنف المنيا ــ جلسة 24 /6/1935 ــ مجلة المحاماة الشرعية ــ السنة 24 ــ ص 93.
  3.  نقض 2 لسنة 4 القضائية ــ جلسة 14 /6/1934. جلسة 23/12/1948، وبذات المعنى : نقض 355 لسنة 29 القضائية ــ جلسة 18/12/1973.
  4.  نقض 39 لسنة 29 القضائية ــ جلسة 9/1/1964.
  5.  القضية رقم 5 لسنة 8 قضائية دستورية ــ جلسة 6/1/1996 ــ الجريدة الرسمية العدد (3) في 18/1/1996 وبذات المعنى القضية رقم 7 لسنة 8 قضائية دستورية ــ جلسة 15/5/1993 ــ الجريدة الرسمية، العدد (22) في 5/6/1993.
  6.  القضية رقم 29 لسنة 11 قضائية دستورية ــ جلسة 26/3/1994 ــ الجريدة الرسمية، العدد (15) في 14/4/1994.
  7.  القضية رقم 7 السنة 8 قضائية دستورية ــ سالف الإشارة.
  8.  انظر الفصل الثاني ثم الباب الأول ــ شرحًا لفكرة «قسيم القطعي».
  9.  القضية رقم 8 لسنة 17 القضائية الدستورية ــ جلسة 18/5/1996 ــ الجريدة الرسمية العدد (21) في 30/5/1996.
  10.  القضية رقم 7 لسنة 8 القضائية الدستورية ــ جلسة 15/5 /1993 ــ الجريدة الرسمية، العدد (22) في 5/6/1993.
  11.  الحكم السابق.
  12.  ذات الحكم السابق.
  13.  ونقول قطعي حكمًا، لأنها في حقيقتها، قسيم للقطعي على نحو ما قدمنا. وهنا ثم ملاحظة منهجية على هذا الحكم، ذلك أنه إذا كان قد اعتبرت مصلحة الصغير من المقاصد الشرعية، وكانت المحكمة وكما سلف، قد قيدت نفسها بأن هذه المقاصد هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فثمت أي من هذه الأمور، يجرى حفظ الصغير، والراجح لدينا أنه ما كان ليجوز للمحكمة أن تقيد نفسها بمفرادات معينة حارت المقاصد بها، طالما أنه ليس ثمة إجماع حولها، حتى لا تتعرض لمثل هذا النقد بهذه الجزئية. إذ إنها لو لم تكن قد فعلت هذا، لما كان يمكن الوقوف أمام هذه الأمر بالملاحظة، ولكان غدا إقصاؤها حالتئذ صائبًا إطلاقًا.
  14.  ذات الحكم السابق.
  15.  القضية رقم 29 لسنة 11 القضائية دستورية ــ جلسة 26/3/1994 ــ الجريدة الرسمية، العدد (15) في 14/4/1993.
  16.  ذات الحكم السابق.
  17.  ذات الحكم السابق.
  18.  يبد أن هذا الذي ذهبت إليه المحكمة، وإن صادف استصوابًا من قبلنا، يتبقى تساؤلاً عما إذا كانت المطالبة بهذا الدين لا تخضع = البتة لأي مواعيد سقوط، كما هو مقرر إجمالاً على كافة صور المطالبات المطالبة، وهل بقاء هذا أن يتعدى بأثره إلى حد جعل كل دين منتج عن وضع متصل مباشرة بأمر من أمور النظام العام، ليستعصي بحكم هذه الوضيعة عن السقوط بالتقادم، وذلك تعميمًا للقاعدة المقول بها في حق المطالبة بدين النفقة.
  19.  القضية رقم 74 لسنة 177 القضائية دستورية ــ حلسة 1/3/1997 ــ الجريدة الرسمية (11) في 13/3/1997.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر