أبحاث

تحليل اقتصادي لوعاء الزكاة

Economic Analysis of Zakat - العدد 108

تمهيـد

1- وعــاء الزكــاة مصطلح يقصـد به الأموال التي تجب فيهــا الزكــاة. هذا المصطلح لم يستخدمه الفقهــاء الذين كتبوا عن الزكاة إلا أننا لا نجد سببـًا يمنع اســـتخدامه في كتاباتنــا الحديثــة عن الزكــاة. هذا المصطلح (الوعــاء) شــائع الآن استخدامه في الفكـر المالي، والزكـاة هـي نظــام مــالي، إننــا نجد في مصطلح وعـاء الزكــاة تحديــدًا فنيًّــا؛ ممــا يدعم استخدامه؛ وذلك لأنـه يسـع الدخل ويسع الثروة ويسع الأنشطة الاقتصادية، وهـي المصطلحات المألوفــة في الكتابات الاقتصادية والمالية.

2- التحليل الاقتصــادي لوعـاء الزكـاة لـه أهميتـه، بـل إنـه يمكن القول: إنــه لا يمكــن إعطـاء حكــم زكـوي صحيح للدخول والثروات والأنشطـة الجديدة إلا إذا كنـا نعرف التحليل الاقتصادي للأمـوال التي وجبت فيهـا الزكــاة في عصر التشريع، وكذلك طبيعة الدخول والثروات في الاقتصاد المعاصر.

3- تتأكد أهمية التعرف على التحليل الاقتصــادي للزكــاة إذا عرفنــا طبيعـة التشــريع في الأمـوال التـي تجب فيهــا الزكـاة وفي مصــارف الزكــاة. مصـارف الزكــاة تحـددت تحديدًا قطعيًّــا في القرآن الكريم في قـول الله عـز وجـل} إِنَّمَـا الصَّدَقَــاتُ لِلْفُقـرَاء وَالْمَسَــاكِينِ وَالْعَـامِلِينَ عَلَيْهَـا وَالْمًؤَلَّفَـةِ قُلُوبُهُـمْ وَفِي الرَّقَابِ وَالْغـارمِينَ وَفِي سَبيل اللهِ وَاِبْن السَّــبيل فَريضَــةً مِنَ اللهِ وَاللهٌ عَلِيمٌ حَكِيم{ (التوبة: 60).

أمـا بشــأن الأموال التي يجب فيهـا الزكـاة فإنهـا لم تتحـدد في أنواعهـا على هـذا النحو المفصل. يتفق الفقهـاء على أن الأموال التي تجب فيهــا الزكـاة تتحدد بالقاعدة التاليــة: في كل مــال نام زكـاة. تحديد وعـاء الزكـاة على هذا النحو فيه حكمـة ســامية تجعل الزكـاة معجزة تشــريعية اقتصاديــة، إن الأنشــطة الاقتصاديـة ومصــادر الدخول وأشـكال الثروات متجددة ومتطورة ولو تحددت الأموال التي تجب فيهـا الزكـاة في عصر النبي ﷺ تحديـدًا مفصـلًا فإنهـا كـانت ســتحدد بنـاء على الأموال الموجودة في هـذا العصر، وبالتــالي كـان ســيمنع أن يدخـل في وعــاء الزكــاة الأنشــطة الاقتصاديــة والدخـول والـثروات التي تستجد بعد ذلـك، ولزيادة توضيح هذا المعنـى نقـارن بين الحيـاة الاقتصادية في عصر النبي ﷺ والحياة الاقتصادية في عصرنـا، هذه المقـارنة تكشف عن أنه توجد اختلافــات جذريــة في أشــكال الأنشطة الاقتصادية وفي مصـادر الدخول وفي أنـواع الــثروات، ولم يكن متصورًا  أن تذكـر أنـواع هـذا التطور في الحيــاة الاقتصـاديــة. ولنـا أن نتصــور مـا كان يمكن أن يحدث لو أن الرسـول ﷺ قال: تجب الزكــاة في شــركات الطيران أو في شــركات الاتصــالات، هـذه وغيرهـا لم يكن من الممكن تصورهــا للمعاصرين للرسـول ﷺ بل ولمن جاء بعدهم بقرون كثيرة حتى عصرنا الحديث.

4- لزيــادة الاقتناع بأهميــة التحليل الاقتصادي لوعاء الزكـاة نشير إلى الآتي: لو ســئل فقيــه عن الحكم الشــرعي لما يعرف باسـم طفل الأنابيب فإنه لا يمكن أن يعطي إجابة صحيحة إلا إذا شرح له طبيب كيف تتم هذه العملية، وهل هي بين زوجـين أم لا، بنفس المنهج نقول: إن الزكــاة تشــريع اقتصادي ومالي، والاقتصــادي هو الذي يستطيع بيان طبيعة مـا يسـتجد من دخول وثروات وأنشـطة اقتصاديـة. وكذلك بيـان مـا تناظره من الأموال التي فرضت عليهــا الزكـاة في عصر النبي ﷺ، والمنـاظرة في طبيعة الدخل أو الثروة وليست في نوعه.

5- التحليـل الاقتصادي الـذي نقدمه عن وعـاء الزكـاة سوف نجعلـه خاصًّـا بالأموال التي دخلت في وعـاء الزكـاة في عصر الرســول ﷺ وفي عصـر الخلفاء الراشــدين، نســتهدف مـن ذلك تحقيق هدفين. الأول هو اكتشاف الطبيعة الاقتصاديـة للأمـوال التي فرضت عليهـا الزكـاة في هـذا العصر، الهدف الثاني هو اسـتنباط المعايير الاقتصاديــة التي على أسـاسهـا نصنف هـذه الأمـوال من حيث نوع المـال (دخل أو ثروة)، ومن حيث النصاب، ومن حيث المعـدل.

6- التوفيــق في تحقيـــق الهدفــين المذكوريـن في البند (5) ســوف يكون أسـاسـًا لتقديم بحث آخر يســتهدف هدفــين جديديــن، الهـدف الأول هـو تحديد الطبيعــة الاقتصادية للأموال التي استجدت في عصـرنـا من حيث كونها دخلًا أو ثروة، وبالتــالي إعطـاؤهـا حكمـًا زكويًّـا، الهدف الثــاني هو إثبــات قدرة الزكاة على استيعاب كل الأموال التي تســـتجد مع التطـور. هـذا الأمر كلــه مؤسس على القاعدة الزكويـة: في كل مال نـام زكـاة، كمـا أنه يتأسس على أن الزكـاة عبـادة ماليـة، وصفـة المالية جعلـها تقبل القياس.

7- ســوف نحـاول أن نحقق من هذه الدراسـة هدفـًا كليَّا رئيسيًّا هو: إثبات أن الزكـاة معجزة تشريعية اقتصادية.

8- قبل أن نختم هذه المقـدمـة من الضروري أن نشير إلى موضوع المراجع، هذا البحث هو تحليـل اقتصادي لـلأموال التي وجبت فيهــا الزكـاة في عصر الرسول ﷺ وعصر الخلفاء الراشـدين. وهو تحليل نقدمه لأول مرة ولا نرجع فيـه لباحث آخر؛ لذلك لن تظهر مراجع لهذا التحليل الاقتصادي.

جـاءت بالبحث إشــارات إلى فقه الزكــاة، وهـذا الفقــه يوجد في جميع الكتب التي كتبت عن الزكــاة قديمــًا وحديثـًا، أي أنـه يمكن القول: إن فقـه الزكــاة المذكـور في بحثنــا ينطبق عليــه القول الآتـي: إنــه من المعلوم في الدين بالضرورة في الزكـاة، وما دام الأمر على هـذا النحو لذلـك لم نذكـر مراجـع لهذا العنصر الفقهي.

أولًا: الذهب والفضـة:

1- فرضـت الزكــاة على الذهب والفضـة، ونريد أن نتعرف على الطبيعة الاقتصاديـة لهـذا النـوع من الأموال. التحليل الاقتصادي لهذا المـال يبيـن أنـه ثــروة wealth، والثروة تعرف بأنهـا: كل مـا يمتلكــه الشــخص ويكون مقومـًا وتكون له قيمـة تبادلية، الذهب والفضة لهمـا قيمة تبادلية، فإذا امتلكهـما شخص فإنهمـا يصبحان جزءًا من ثروته.

2- يتفق الفقهــاء على أن النقـود الورقيـة وغيرهـا تعامـل زكويًّـا معاملـة الذهــب والفضــة. وذلك لأنهـا ثروة (ســائلة). من فقـه الزكـاة نعــرف أنـه يشـترط لوجوب الزكـاة في هذه الثـروة أن يمــر عليهــا عــام كــامل. المعنى الاقتصــادي لذلك هو أن هـذه الـثروة ظلـت مكتنزة، أي عاطلة لمدة عـام كــامل، إنهــا لم تشــارك في الحيــاة الاقتصادية للمجتمع، إنهـا لم تعمل، لم تنتج، لم يسـتفد منهـا صاحبهـا، وكذلك لم يستفد منهـا المجتمع، بعبــارة اقتصـادية إنهـا ثروة أو ادخـارات لم تستثمـر.

3- ونحن نحاول التعرف على الطبيعة الاقتصاديـة لهذه الـثروة نقترح أن ندخل في الاعتبـار قول الخليفـة الثـاني عمر بن الخطاب رضى الله عنــه: «اتجــروا بمـال اليتيم حتى لا تأكلـه الصدقـة». النتيجة التي تــترتب على هـذا القـول أن هذه الثروة لو اتجر بها، أي أصبحت مشغلة، أصبحت عاملــة، أصبحت منتجـة، أصبحت مفيدة لصاحبهـا وللمجتمع فإنهـا ســوف تأخذ حكمــا زكويًّـا آخر غير الحكم الذي تخضع له إذا ظلت ثروة عاطلة.

ثانيـًا: الزروع والثمـار:

1- الزروع والثـمار متولـدة عن اسـتغلال ثروة وهي الأرض. المصطلح الاقتصـادي الذي يســتخدم هو الدخل Income، يعرف الدخــل بأنــه العــائد الذي يحصل عليــه الشـخص الذي يقدم عمــلًا (الأجـر) أو يقدم رأس مــال أو يقدم أرضـًا. الأرض بهذا التعريف تكون مصـدرًا لدخل.

2- التحليل الاقتصادي لهذا النوع من الأموال التي دخلت في وعـاء الزكـاة يبين أن الثـروة إذا كانت عاملـة، أي منتجة، أي مفيـدة لصاحبهـا وللمجتمع فـإن الزكــاة لا تفـرض على عين الثروة وإنمـا تفـرض الزكـاة على الدخل الـذي يتولد من تشــغيل هذه الـثروة. بعبــارة أخرى الثروة التي تصبح أصلًا رأسماليًّا منتجـًا لا تفرض الزكـاة على عين هذا الأصل وإنما تفرض على الدخل الذي يتولـد منه.

3- ونحن نحـاول التعرف على الطبيعة الاقتصـاديــة لهـذا النوع من الأموال الزكويــة نقــترح أن نـأخذ في الاعتبار المناقشــة الفقهية عن الموضوع الآتي:

الزكــاة هـل هـي حـق الأرض أو حـق الزرع أو حقهمـا معـًا؟ أيـًا كـان الرأي الذي يرجـح في هذه المناقشة فإن الدلالة الاقتصاديــة لــه أن هنــاك ثـروة وهي الأرض، وأن هنـاك دخلًا وهو الزرع النـاتج من الأرض، وأن الزكــاة على الدخل وليست على الثروة.

4- نحـاول أن نمد المناقشـة إلى بيـان الحكمة الكامنة وراء منع فرض الزكـاة على الثورة التي أصبحت أصلًا رأسماليًّا منتجــًا. الحكمـة في ذلك هـي المحافظـة على الأصـول المنتجة، وبالتــالي تحفظ الطاقـة الإنتاجيـة للمجتمع. أيضـًا يدخل في هـذه الحكمــة أن إعفــاء الأصـول المنتجـة من الزكــاة يشـجع النـاس على تحويـل ثرواتهــم المعطلـــة إلى أصـول رأسماليـة منتجة تدفع الزكـاة على الدخل المتولد منهـا، وبذلك يســتفيد صـاحب الـثروة، ويســتفيد المجتمع على وجـه العموم وفقراؤه على وجه الخصوص.

ثالثـًا: عروض التجارة:

1- تعرف عروض التجــارة بأنهـا: مـا يعد للبيع والشراء بقصد الربح. ونحاول أن نعطي أمثلـة من الحياة الاقتصادية في عصـرنــا على مــا يدخل في عروض التجارة: السلع الغذائية كلها التي يتاجر فيها تدخل في عروض التجـارة، شخص يتاجر في العقارات هذه عـروض تجارة، شخص يتاجر في السيارات هذه عروض تجـارة، شـخص يتاجر في الأسـهم هذه عروض تجــارة، شخــص يتاجر في الحيوانات هذه عروض تجارة.

2- المناقشــات الفقهيـة حول زكــاة هـذا النوع من الأمـوال تبـين أن التـاجر يكون عنده نوعـان مـن الأصول، النوع الأول الأصـول الثابتـة وهي التي تكون لازمـة لقيـام النشـاط التجاري ولكن لا يتــاجر فيـهـــا مثــل المبــاني والآلات والتجهيزات. نعطى أمثلة لتوضيح هذا النوع من الأصول: شركة قامت للاتجـار في السـلع الغذائية يلزمهـا مبنى وتجهيزات مثل أرفف وغيرهـا، ثلاجـة لحفظ ما يلزم حفظه، سيارة صغيرة لنقل البضائع. هذه أمثلــة لمـا يدخل في الأصول الثابتـة. هـذا النوع لا تدفع عنـه زكـاة. نرى أن نجري تحليــلًا اقتصـاديًّا عن طبيعــة هذا الأصـل وكيفيــة مســاهمته في النشــاط، هذه الأصول الثابتة لا شـك أنهـا تســاهم في توليد الدخل الذي تحصل عليــه هذه الشـركة، وهـي ثروة بالمعنـى العام وإن كـان يقـال عنهــا بالتعبير الاقتصادي الاصطلاحي: رأس مـال ثـابت Capital Fixed. بنـــاء علـى هـذا التحليــل الاقتصادي نستنتج أن هذه الأصول هي ثـروة عـاملــة، ثـروة منتجـة، ثروة تعود بالفــائدة على صاحبهــا وعلى المجتمع، ولذلك فإنـه لا تفرض الزكــاة عليها في عينهـا وإنمـا تفرض الزكــاة على الدخل الذي ينتج من تشغيلهـا.

من المفيد أن نـذكـر أن هذه الأصول تتنــاقص قيمتهــا ســنويُّا بســبب اســتخدامهـا، وهـذا مـا يقـال عنــه: الإهـلاك، وسـوف تكون قيمـة الإهلاك جزءًا من التكلفة التي يتحملهـا المشـروع والتي تخصـم من الدخل.

3- النـوع الثـاني الأصـول المتداولـة، وهي في الشركة التجارية تكون ممثلة في الســلع التي يتــاجر فيهـا، وقبل أن نقـدم تحليـلًا اقتصاديًّـا لهـذا النـوع من الأصول نرى أن نشــير إلى أن مصطلح الأصول المتداولــة Circulating Capital يقصـد به في الاصطــلاح الاقتصــادي المـواد التي تجرى عليهـا عمليــة تحوير لتصبح صالحة للاستعمال أو صالحة لإنتاج خدمة.

التحليــل الاقتصـــادي للأصـول المتداولــة؛ أي الســلع التي يتـاجر فيهـا يكشف عن أنهـا ليست دخلًا تولد من تشغيل ثروة (رأس مال ثـابت) وليست ثروة مكتـنزة عاطلـة لا تنتـج، كمـا أنهـا ليســت ثروة من قبيل رأس مـل ثـابت تنتج سلعة أخرى، إنهـا ليست ثروة مثل الأرض مثلًا مطلوب المحافظة عليهـا لتظل تنتج سلعـًا أخرى، كمـا أنهـا ليست مثل الأصـول الرأسماليـــة الثابتـــة التي تنتج تسهيلات أو خدمـات لازمة للنشاط. الدخل الـذي يتولـد عن هـذا النـوع من الأصول يحدث عندمـا تبــاع؛ أي عندمـا تنتقل ملكيتها إلى شخص آخر.

هـذا كلـه يكشـف عن عنـاصر مميزة لهـذه الأصـول المتداولــة، أهـم مـا نرى التـأكيد على إبـرازه بشــأن هذه الأصول هو أنهـا ثـروة، ولكنهـا ليســت مكتنزة وهي ليست رأس مال ثابت أو أصولًا ثابتة.

المعاملــة الزكويــة لهذه الأصــول من حيث فـرض الزكـاة عليهــا بمعدل 2.5% يشــير إلى أنهـا اعتبرت مشــابهة للثروة الســائلة: النقود والذهب والفضـة. نســـتطيع القول بــأن تكييف الأصول المتداولــة في زكــاة عروض التجـارة على هـذا النحو يجعلنـا أمام وجــه من وجوه الإعجــاز التشـــريعي في الزكــاة، إن الأصول المتداولة تولد دخلًا عندما تنتقل من يد إلى يد أي أنهـا تظل ثروة سـائلة.

قد يرد اعـتراض مؤداه أن النشــاط التجـاري يلزم لـه ــ كمـا قلنـا ــ مشـاركة الأصـول الثـابتــة، أي رأس مــال ثـابت، وسبق أن قلنا: إن الإهلاك في رأس المـال الثـابت يكون أحـد عناصـر التكلفــة التي تخصم من الأربــاح، نضيف إلى ذلك القـول الآتـي: الدخـل الذي يتولد عن هذه الأصول هو ما يســاوى الإهلاك، أي النقـــص الـذي حــدث في هذه الأصول. أي أن هذه الأصول لا ينتج منهــا دخل صــاف بحيث يزكى، ولو حدث ذلك فإنه كان ســيزكى بنسـبة 10%، وهي زكــاة الدخــل المتولـد عن أصـل رأسمـالي. يضــاف أيضـًا أن هذه الأصول لا تدخــل في وعــاء زكــاة عروض التجارة، وهذا يعنـى انه احتفظ بـأحد المبـادئ الماليــة في تشــريع الزكـاة وهو عدم فـرض الزكــاة على الأصل الرأسمــالي الذي ينتـج وذلك للمحافظـة على القـدرة الإنتاجية للاقتصـاد.

4- النتيجة التي نصـل إليهـا من خلال التحليل الاقتصــادي لهذا النــوع الثـالث من الأموال التي تفرض عليهــا الزكــاة هي أن الأصل الرأسمالي الثابت المنتج لا تفرض عليــه زكــاة، وأن الثـروة تفرض عليهـا الزكــاة بمعدل 2.5%، ويمكن أن نغــير صياغــة هذه النتيجــة على النحو الآتــي: الــثروة التي تحولـت إلى أصل رأسمــالي ثـابت منتج لا تفرض عليهــا الزكــاة وإنما الزكـاة على الدخل المتولد منـه، أمـا الثروة التي لم تتحول إلى دخل فإنه تفرض عليهـا الزكـاة في عينهـا بنسبة 2.5%.

رابعـًا الثروات الحيوانية:

1- يمكن أن نجمع عناصر في فقه زكاة الثروة الحيوانية في الآتي:

أ- الأغنام والماعز إذا بلغ عددها أربعين يكون مقدار الزكاة واحدة منها. وإذا حولنا هذا إلى معدل مئوي يكون 2.5%.

ب- نصــاب الإبـل يبـدأ من خمس وتكون فيهـا شـاة، وهـذه في قيمتهـا أقل من جمل واحد .. وتتدرج الأنصبة حتى إذا كـان عدد الإبـل من 25 – 35 فإنه يكـون فيهــا بنـت مخــاض، وهـي أنثى الإبل التي أتمت سنـة واحدة. فإذا كـان عدد الإبل من 36 – 45 يكـون فيهــا بنت لبـون، وهي أنثى الإبل التي أتمت سنتين ودخلت في الثالثة، سميت بذلك لأن أمهـا وضعت غيرهـا وصـارت ذات لـبن نســـتطيع القــول: إن بنـت اللبون أصبحت جمـلًا. عندمـــا نحول ذلك إلى معدل مئوي فإننـا نجد أنه حوالـي 2.5% ثم يتطور المعدل بعد ذلك.

ج- القــول المشهــور في زكــاة البقر أن نصابهــا يبـدأ بثلاثــين، وفيهــا تبيع، وهو ما لـه سنة، فـإذا بلغ العدد أربعين ففيهـا المسـنة، وهي مـا لهـا سنتان. من ملاحظة الثروة الحيوانيـة يمكن القول: إن المسـنة أصبحت بقرة، ولذا فـإنـه يستنتج أن المعدل الذي تفــرض به الزكــاة على البقر يبدأ بنســـبة 2.5% ثم يتطور بعد ذلك.

دـ جمع النتائج التي جـاءت في (أ) و (ب) و (ج) يعطــي النتيجــة التاليــة: المعدل الـذي فرضت بـه الزكــاة على الإبل والبقر والغنــم هو حوالي 2.5%. هذه النتيجـة يمكن تعميمهـا على النحـو الآتي: المعـدل الـذي تفرض بـه الزكــاة على الثروة الحيوانيـة هو 2.5%.

2- نحـــاول عمـل تحليــل اقتصـــادي للثروة الحيوانيـــة التي تفــرض عليهــا الزكـاة:

(أ) الحيوانات العاملــة: يتأسس فقه الزكــاة على أن الحيوانـات العاملــة لا تفــرض عليهــا الزكــاة. التحليل الاقتصادي لها هو أنهـا تحولت من ثروة إلى أصل رأسمــالي منتج. هـذا يعنى استمرار القـاعدة التي سـبق استنتاجهـا وهـي: الـثروة التي تتحــول إلى أصـل رأسمــالي منتج لا تفرض عليهــا الزكــاة. وبـالعودة إلى زكــاة الزروع والثمــار نعرف أن الثروة التي أصبحت أصلًا رأسماليًّا منتجًا تفرض الزكـاة على الدخل منهـا. والســؤال هـو: الثروة الحيوانيــة العاملــة التي أصبحت أصلًا رأسماليُّـا منتجـًا مـا هو الدخــل الذي ينتج منهـا. الدخل النـاتج منهـا سـوف يكون مدمجـًا مع دخــل أصـل رأسمــالي آخر. والمثــال الآتـي يوضـح ذلـك: الثـــروة الحيوانيــة العاملة في القطاع الزراعي سوف تكون لهـا مســاهمة في الدخل النـاتج في هذا القطــاع، ومن المعــروف أن الدخل في هذا القطاع يخضع للزكـاة بمعدل 5 أو 10%. وهـذا ســوف يطبق على كل الدخـل الذي هو في الحقيقـة متولد عن الأرض وعن مسـاهمة العنـاصر الأخرى التي شـاركت في هذا النشــاط مثل عمل الإنسان وعمل الحيوان وعمل الآلة.

(ب) الحيوانات السـائمة (التي ترعى في كلأ مباح): بناء على فقه الزكـاة عن هـذا النوع من الحيوانـات فإنـه تفرض الزكــاة على عينهـا. التحليــل الاقتصـادي يبـين أن هـذه ثـروة لم تتحـول إلى أصل رأسمــالي منتـج وبذلـك فرضت الزكــاة على عينهـا.

3ـ النتائج التي وصلنـا إليهـا بشـأن الزكـاة على الحيوانات تجمع في الآتي:

الحيوانات العاملــة التي تعمل كـأصل رأسمــالي منتج لا زكــاة في عينهــا، أمــا الحيوانــات الســائمة غـير العاملة فإنهــا تكيف على أنهــا ثروة لم تتحول إلى أصل رأسمــالي منتج؛ ولذلك تفـرض الزكـاة على عينهـا. هذا هو الشـق الأول في النتيجة، الشق الثاني في النتيجة هو أن الزكــاة على الثروة الحيوانية تبدأ بمعـدل 2.5%. وإن كنــا نقول: إن هذا المعـدل يحتاج إلى مناقشــة تفصيليـة في بحث مستقل لمعرفـة بدايتـه وتطوره، وما إذا كــان متفقــًا مع معدل الزكــاة في الأمــوال الأخـرى أو مختلفــًا عنــه، وإذا كان مختلفــًا فلمــاذا؟

خـامسـًا: المعادن:

1ـ زكـاة المعـادن أخـذت مســاحة واسـعة في المناقشــات الفقهية: منهـا المناقشــة التي دارت عن مصطلح الركـاز وهو يشمل المعـادن أو يقتصـر على الكنز الـذي هو دفين الأمم السـابقة. ومنهـا ما يتعلق بمصـرف هـذا النوع مـن الزكــاة: هل يصـرف في مصـارف الزكــاة الثمانية المعروفـة أو يصرف مصروف الفيء أي في المصــالح العامــة للمســلمين. هذه الأسبــاب وغيرهـا عكســت نفسـها في نصـاب زكـاة المعــادن وفي المعدل الذي تفرض بـه وفي الحول وفي المصـارف التي تصرف فيهـا.

2ـ المناقشـة عن زكـاة المعـادن يجب أن تأخذ في الاعتبـار الفقـه الواسـع عن ملكيـة المعـادن، وهـل تكون ملكيــة خاصـة أو ملكيــة عـامــة؟ الرأي الـذي يـترجح من المناقشـات الفقهية أن المعادن لا تدخل في الملكيــة الخاصــة وإنمــا تكون ملكيتهـا عامـة، وعامـة تعنى أنهـا لمصـالح جميع المسلمين، وفي هذه الحالـة لا تكون فيهـا زكـاة.

3ـ زكــاة المعــادن تبحث إذا كانت داخلـة في الملكية الخاصة. وفي هذه الحالـة يثـار عدد من الأســئلة حول النصــاب والمعدل والحول. بشأن المعدل فـإن الآراء تدور حـول 20% أو 2.5%. القـائلون بـأن المعدل 20% لهم أدلتهـم والتي منها الربــط بـين المعـدن والفـيء. كذلك القائلون بأن المعدل 2.5% لهم أدلتهم. الـرأي الذي يتبنــاه البحث هو أن الأمر يبحث على أنـه زكــاة وليس فيئًا.

4ـ نحــاول الآن التعـرف على مـا إذا كـانت زكـاة المعادن هي زكـاة على ثروة أو على دخل. الدخل هو ما يحصل عليه الشخص نتيجة تقديمـه عمـلًا أو رأسمال أو أرضـًا، وعــادة مــا يكون دوريًّـا. التحليل الاقتصــادي الـذي يعتمد هذا التعريف للدخـل يجعل المعــادن لا تدخل فيـه. بعبــارة أخرى: إنـه لا يمكن إدخال المعــادن في هـذا التعريف للدخل. في مقــابل مصطلح الدخــل فــإن هنــاك مصطلح الثروة، وتعـرف الـثروة بأنهـا: كل مـا يمتلكه الشخص وتكون له قيـمة تبادليـة. المعدن الموجود في باطن الأرض يخضع للملكيــة. إن الذي اســتخرجه امتلكــه بمقــابل دفعــه، وعمليــات استخراجه لا تغير مـن طبيعته من أنـه ثـروة محـازة، كمـا أن لهذا المعدن قيمة تبادلية. وعلـى هذا الأسـاس فإن التـحليل الاقتصادي يبرر ويقبل أن تكون المعادن داخلة في تعريف الثروة، أي أنهـا ثروة.

5ـ عندمــا يقبل إدخــال المعـادن في الثروة بناء على التحليل الاقتصادي فإن الزكـاة عليهــا تكون بنســبة 2.5%؛ وذلـك لتكون في تلاؤم مع أنـواع الثروات الأخرى التي دخلت في وعـاء الزكـاة وفرضـت عليهـا بمعدل 2.5%، كمـا يقبل أن يكون نصـابهــا نصــاب النقود والذهب والفضة (مـا قيمته 85 جـرام من الذهب الخـالص) فإننا فيمـا يتعلق بــالحول فإننا نقــدم التحليل الاقتصـادي التـالي في محاولـة لاســتنتاج رأي حول هذا الموضوع.

المعدن كــان محــازًا في يد الـذي اســتخرجه (مالك البـئر أو المنجم أو الأرض) واستخراجه هو تمكين للانتفاع بـه وليس إنتاجًا لـه. بنـاء على ذلك فإن زكـاة المعدن تكون عند استخراجـه، أي أنـه لا يشـترط مرور حول عليــه بعد استخراجه. إن شـرط مرور حول بعد استخراج المعدن يعنى مضاعفة للحولية لمن تجب عليه الزكـاة، وهذا يكون بمثـابة ميزة لـه على أنواع الزكوات الأخرى، وهذه المـيزة ليس لها مبرر أو تفسير من أي نوع. وهذه العمـليــة تتضمن ضيـاع حقوق الفقـراء لمدة عـام، وهـذا أيضـًا لا يمكن الدفاع عنه.

6ـ فقــه زكــاة المعــادن يدور حول الآتـــي: المعــدل 20% أو 2.5%، ويشــترط مرور حول أو لا يشترط، يشـترط فيــه النصاب أو لا يشترط، التحليل الاقتصادي الذي سـبق تقديمـه عن أن المعـادن ثروة ولأجل أن يشبع شــرط التلاؤم مـع أنـواع الزكوات الأخــرى التي يكون وعاؤهـا الثروة فإنه متــاح لنــا الآن أن نقوم بالترجيحــات التالية: يشترط النصاب لوجوب الزكـاة في المعـدن وهـو 85 جـرام من الذهب الخـالص، وأن المعدن الـذي تفرض بـه الزكـاة هو 2.5%. وباعتبار أنهـا كانت ثروة محـازة تحت الأرض قبل استخراجهـا فـإن حولهـا يكون عند استخراجهـا، أي لا يشتـرط مرور حول جديد بعد نقلهـا إلى ظاهر الأرض أي استخراجهـا.

سادسـًا: جدول عرض النتائج:

في هذا البحث قدمنــا تحليلًا اقتصـاديًّا للأمـوال التي فرضـت عليهـا الزكـاة في عصر النبي ﷺ وعصر الخلفاء الراشـدين نجمع النتائج التي وصلنا إليهـا في الجدول التالي:

جدول (1)

التحليل الاقتصادي لوعـاء الزكـاة في عصـر التشـريع

نوع المـال التصنيف الاقتصـادي الحكم الزكـوى المعـدل
1ــ الذهب والفضـة ثروة لم تتحول إلى أصل رأسمالي منتج تفرض الزكاة على عين الثروة 2.5%
2ــ الزروع والثمار دخل من ثروة تحولت إلى أصل رأسمالي منتج (الأرض) تفرض الزكاة على الناتج 5 أو 10%
3ــ عروض التجارة الأصول الثابتة ثروة تحولت إلى أصل رأسمالي منتج لا تفرض الزكــاة على عين الـثروة التي تحولت إلى أصل رأسمالي منتج ـــــــ

 

الأصول المتداولة: ثروة لم تتحول إلى أصـل رأسمالي منتج (سلع يتم تداولهـا) تفرض الذكاة على عين الثروة 2.5%

 

4ــ الحيوانات الحيوانات العاملة: ثروة تحولت إلى أصل رأسمالي منتج لا تفرض الزكـاة على عين الثروة ـــــــ
الحيوانات السائمة: ثروة لم تتحول إلى أصل رأسمالي منتج تفرض الزكـاة على عين الثروة 2.5% (تقريبـًا)
5ــ المعـادن ثروة لم تتحول إلى أصل رأسمالي منتج (صناعة استخراجية: انتقال الثروة من باطن الأرض إلى ظاهرهـا) تفرض الزكـاة على عين الثروة 2.5%

 

سابعـًا: عنـاصر إعجـاز:

يمكن أن نؤسـس أو نسـتنتج من التحليـل الاقتصـادي لوعـاء الزكـاة عنـاصر إعجـاز في الزكـاة. بعض عناصـر الإعجـاز يتعلق بالجانب التشريعـي، وبعضـها يتعلق بالجـانب الاقتصـادي أو بغيرهمـا. وفيمـا يلـى نقدم عنــاصر الإعجـاز التي اكتشـفناهـا.

1ـ كشـف التحليل الاقتصادي أن وعــاء الزكــاة هو الدخـل أو الثـروة. العنـصر الإعجــازي في ذلك أن النظم الضريبيــة لم تقصر الضريبـة على الدخل أو الـثروة إلا حديثـًا؛ أي بعـد مجـيء الإسلام بقرون كثيرة.

ليس للعنصر الشــخصـي دور في الزكــاة، بعبــارة أخــرى: إن الزكـاة لا تفرض على الشخص، وإنما تفرض على الدخل أو الـثروة. جعل الالــتزام المـالي ليس واقعـًا على الشخص يجعل الزكاة في عصرهـا معجـزة، بل ويجعل الزكـاة قـدوة للنظم الضريبيــة. نقــول في هذا الصدد: لو أن المســلمين عملـوا على كشـف هـذا العنصـر وإظهــاره فإنهم كانوا بذلك سيغيرون تاريخ الإنسـان مع النـظم الضريبيــة التي قهـرتــه بأســاليب متعددة، ومنهـا أنهـا فرضت الضريبـة على شخصـه. لـو أن المسلمين أذاعوا أن الزكــاة لا تكون إلا على الدخل أو الثروة لاختصـروا رحلـة الإنســان في معانـاة تطوير النظـم الضريبيـة. نضيف: لو أن المسلمين قدموا للعالم التنظير الاقتصادي للزكاة وأنها لا تكون إلا على الدخل أو الثروة لأصبحوا بذلك هـم صانعو التطور في النظم الضريبيــة، ولـو حـدث ذلك لكـان العـالم الإسلامي هو مصدر تطور العلوم الضريبيــة التي تـأخذ العوالم الأخرى منه، ولكان قد تغير الحال القائم الآن من أن المسـلمين يأخذون التقدم في العلوم من غيرهـم.

في هـذا السيـاق يكون مفيدًا أن نشير إلى الجزية، إنهـا كانت مقابل الدفاع عن الذين يدفعونهـا.

أيضًا من المفيد الإشارة إلى زكاة الفطر، إنها لتحقيق التكافل بين المسلمين في شهر الصوم.

2ـ كشــف التحليل الاقتصـادي أن الزكــاة إذا كــانت على الـثروة فإنهـا تفـرض بمعـدل 2.5%، أمـا إذا كـانت على الدخـل فإنهــا تفـرض بمعدل 5 أو 10%. هــذا الأمــر اضطــرد في جميع الزكوات: ذهب وفضـة، عروض تجـارة، زرع وثمــار، معــادن. اضطراد المعدل اضطــرادًا كـاملًا على هـذا النحـو يحمـل وجهـًا مـن وجوه الإعجــاز؛ وبعبــارة أخــرى: يجعل الزكــاة معجزة اقتصـادية، الاضطراد في نفسـه معجـزة اقتصـاديـة لأنه يجعـل الزكــاة متنـاســقة متلائمــة، بيـن عناصـرهـا انسـجـام. ولا يعـرف التاريخ المـالي نظـامـًا ضريبيـاَّ من صنـع الإنســان يشــبع الاضطراد والانسجــام والاتسـاق والتلاؤم على هـذا النحـو.

هـذا العنـصر الإعجــازي في الزكــاة يتــأكد ويتقــوى إذا أضفنــا أن الزكــاة تشــمل أنواعـًا متعـددة من الدخـول والثـروات، وبعضهــا ليس من السـهل التعـرف على طبيعته من حيث هو ثروة أو دخل. الذهـب والفضـة واضح فيهـمـا أنهما ثروة، لكن المعادن فيها خفـاء، وعروض التجـارة فيهـا خفـاء. ومع هذا الخفــاء الـذي لا يكشــفه إلا تحليـل اقتصــادي متعمق فــإن الأمـر في الزكـاة اضطـرد بانضباط حيث فرضت الزكـاة على مـا هو ثـروة بمعـدل 2.5% وعلى مـا هو دخـل بمعدل 5 أو 10% (على الإجمـالي أو الصـافي).

هـذا العنصــر الإعجــازي في الزكــاة يتأكد ويتقـوى عندما نأخذ في الاعتبار الزكــاة في الحيوانات. اعتبـار الحيوانات السـائمة ثروة لم تتحول إلى أصل رأسمـالي بحيث تتمـيز عن الحيوانات العـاملة التي اعتبرت أنهـا أصل رأسمــالي منتج ــ هـذا الأمر لا يكشــفه إلا تحليل اقتصـادي متعمق. زكــاة الحيوانــات السـائمة على أنهـا ثروة يضيف عنصـرًا إلى الإعجـاز في الزكـاة من حيث اضطرادهـا.

هـذا العنصر الإعجــازي في الزكـاة يتـأكد عندمـا نـأخذ في الاعتبــار زكــاة عـروض التجــارة. التمييز بـين الأصـول الثابتــة والأصـول المتداولــة وتكييف الأصول المتداولــة على أنهــا ثروة لم تتحول إلى رأسمـال منتج ــ هذا الأمر لا يكشفـه إلا تحليل اقتصـادي متعمق.

3ـ كشـف التحليل الاقتصادي عن أن الثروة التي تحولت إلى أصل رأسـمالي منتـج لا تفرض عليهــا الزكــاة في عينهــا وإنمـا تفرض الزكــاة على الناتج منهـا؛ أي على الدخـل. الأمـر على هذا النحو يعنى أن تشــريع الزكــاة يحفظ الأصول الرأسماليــة التي يقوم عليهــا الإنتـاج في المجتمع. وحفـظ الأصـول الرأسمـاليــة التي يقـوم عليهـا الإنتــاج يحفظ للمجتمع فعاليتـه وكفاءتـه الاقتصـادية، وهـذا بدوره يؤمـن الاسـتقرار الاقتصـادي للمجتمع، ويؤمن لـه التقـدم الاقتصــادي المضطـرد.

وحفـظ الأصـول الرأسماليــة التي يقوم عليهـا الإنتـاج في المجتمع يحفظ للمجتمع الـتراكـم الرأسمالي الذي تكون في المراحل السـابقـة. حفظ الأصول الرأسماليــة التي تراكمت يعتــبر أكبر حـافز على عمل ادخــارات جديدة تتحـول بدورهـا إلى تراكم رأسمالي جديد.

نشير في هـذا الصدد إلى أن حجم أو كميــة الــتراكم الرأسمــالي للمراحل الســابقة، ومعدل الــتراكم الرأسمـالي ــ الأمـران معـًا يمـيزان بـين الاقتصــادات المتقدمـــة والاقتصــادية المتخلفــة. الاقتصـادات المتقدمة تتميز بحجم تراكـم رأسمــالي كبير وبمعدل ادخار عال والذي يتحول بدوره على معدل تراكم رأسمـالي عـال.

بنــاء على هـذا التحليـل الاقتصــادي لـدور الزكـاة في حفظ الأصـول الرأسمالية المنتجة في المجتمع، وبالتالي دور الزكـاة في حفظ الــتراكم الرأسمــالي، وعلاقــة الـتراكم الرأسمـالي بالتقدم الاقتصـادي ــ بنـاء على هـذا كلــه نســتنتج أن الزكـاة معجزة تشـريعية اقتصـادية. هذا الإعجـاز الاقتصـادي للزكـاة بدأ منذ خمسـة عشر قرنـًا قبل أن يتكلم الاقتصــاديون عن أثر الضرائب على الادخــارات، وبالتالي على الـتراكم الرأسمــالي في المجتمع، وقبل أن يتكلمــوا عن علاقــة الضرائب بالـتراكم الرأسمالي.

اكتشــاف هـذا الوجــه الإعجــازي الاقتصــادي للزكـاة يجعلنــا نقول: إن الاقتصــاديين الـذين يشغلون بكيفية عمـل الادخــارات وبالتالي تكويـن الــتراكم الرأسمــالي في المجتمع يجــدون النمــوذج التعليمي لهـم في الزكـاة.

نعتقد أن مـا كتبنـاه عن هـذا الوجـه الإعجــازي لا يزيد عـن كونــه بدايـة تعريف بـه، وهو وجـه إعجـاز يحتاج لدراسـات كثيرة متنوعـة. هـذا الأمر تظهر آثــاره الإِيجـابيـة عندمــا يوجـد المجتمع الاقتصــادي الـذي يطبق الزكــاة وتتـاح بيانات إحصـائيـة عنـه بحيث تجـسد الأثر الإيجـابي للزكـاة على الادخـارات وتحويل هـذه الادخــارات إلى أصـول رأسماليــة منتجة، وبالتالي إلى تراكـم رأسمـالي.

هـذا الوجـه الإعجازي للزكـاة والذي يتعلق بــالدور الإيجــابي للزكـاة على الادخــارات، وبالتالي على التراكم الرأسمـالي يؤدى أو ينتـج وجهـًا إعجازيًّا آخـر، هـذا الوجــه الإعجــازي الجديد يتعلق بعلاقــة الزكــاة بالاســتهلاك والادخــار. ومن المعـروف أن الضرائب التي تتضمن تحويلات من الأغنيـاء إلى الفقــراء تـؤدى إلى زيـــادة الميــل للاستهلاك، ولكن الزكـاة بنــاء على التحليل الـذي قدمنـاه تـؤدى إلى زيـادة الميل للادخـار، يتأكد هـذا الأمـر عندمـا نشير إلى أن الزكـاة ضد الاكتناز، وهـذا يستلزم نقص الميل للاسـتهلاك. هـذ الأمـر على هذا النحو هو وجــه من وجوه الإعجــاز التشريعي الاقتصادي في الزكـاة. الزكـاة تنقض الرأي الاقتصـادي القـائل بـأن التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء تؤدى إلى زيادة الميل للاستهلاك ونقص الميل للادخـار.

الوجهــان الإعجـازيــان الســابقان للزكاة ينتجـان وجهـًا إعجـازيًّا ثالثـًا. من المعروف في الدراســات الاقتصـادية أن الضرائـب التي تتضمن تحويلات من الأغنيــاء إلى الفقراء تضـر بالتنميــة الاقتصاديــة، وهـذا الأمـر يجيء عند إدخــال الادخـارات في الاعتبـار. الزكـاة تتضمن تحويـلات مـن الأغنيــاء إلى الفقراء، ولكنهـا مفيدة للتنميــة الاقتصـادية، وهذا الأمر يجيء من أثر الزكــاة على الادخارات وبالتـالي على التراكم الرأسمالي.

أوجه الإعجـاز الثلاثة السـابقة للزكـاة تنتج وجهـًا إعجـازيًّـا رابعـًا من أوجــه الإعجـاز التشــريعي الاقتصــادي. الزكـاة تخلق مجتمعـًا لمتغيراته الاقتصـادية طبيعتهـا الخاصـة. يتبين هـذا الوجـه الإعجــازي عندمــا نحلل المتغــيرات الاقتصـاديـة: الاسـتهلاك، والادخـار ولازمـه، وهو الاسـتثمار، وبالتـالي الـتراكم الرأسمــالي. الزكــاة باعتبارهـا تتضمن تحويلات من الأغنياء إلى الفقـراء تـؤدى إلى زيـادة الاسـتهلاك. وهذا مسـلم به اقتصـاديًّا بسبب أن الزكـاة تؤدى إلى تحويل جزء مـن دخـول الأغنيــاء حيــث ميلهـم للاســتهلاك منخفض إلى الفقراء حيث ميلهم للاستهلاك مرتفع، وبالتـالي يزيد الميل للاستهلاك للمجتمع كله. التحليل الاقتصادي يرتب على ذلك أن تنخفض الادخارات، وبالتالي التراكم الرأسمالي في هـذا المجتمع. لكن التحليل الذي قدمنــاه عن منع فرض الزكــاة على الثروة التي تحولت إلى أصـل رأسمـالي منتج أثبت أن الزكـاة تؤدى إلى زيـادة تحويـل الثروات المكتنزة العاطلـة إلى أصـول رأسماليـة، أي زيـادة معـدل التراكم الرأسمــالي، وهذا لا يجيء إلا من زيـادة الاسـتثمـارات التي تؤسس بدورهـا على زيادة الادخارات.

التحليـل على هـذا النحو يثبـت مـا سـبق قولـه وهو أن الزكـاة تخلق مجتمعـًا اقتصـاديًّـا لمتغيراتـه الاقتصـاديــة طبيعتهـا الخاصة.

4ـ كشـف التحليل الاقتصـادي أن الـثورة التي لم تتحـول إلى أصل رأسمـالي منتج؛ أي ظلـت عاطلـة تفرض الزكــاة على عين هـذه الثروة. النتيجـة التي ترتبت على ذلك أن هذه الـثروة تتنـاقص وتتـآكل باسـتمرار فرض الزكـاة عليهـا طالمـا أنهـا تبلغ النصـاب.

الزكــاة ركـن من أركــان الإســلام’ يؤديهـا المسلم عبادة لله سبحـانه وتعالى، هذا لا يمنع أن يتحقق مـن خلال الزكـاة أو يــترتب عليهــا آثـــار اقتصـاديــة واجتمـاعيـــة، وهـذا يتيح النظـر فيهـا وتحليلهـا لمعرفـة هـذه الآثــار. بنــاء على ذلك يقبل القول بـأن الزكـاة على الثروة التي لم تتحول إلى أصـل رأسمــالي منتج؛ أي ظلت عاطلــة تعمــل أو تـؤدي أن يعمل مالك هذه الثروة على استثمـارهـا ليتحقق منهـا عــائد، أي دخل، وبهذا يحــافظ مالك هـذه الثـروة على أصلهـا ويدفع الزكــاة من الدخـل الذي يتحقق من استثمـارهـا.

النتيجــة التي تــترتب على فرض الزكـاة على عين الثـروة العاطـلة لا تقتصر من حيث آثارهـا على مالك الثروة وإنمـا المجتمع تتحقق لــه فـائدة مـن ذلك، إن اقتصـاد هـذا المجتمع ينمو ويتقدم ويتطور حيث كـل ادخـاراتــه تتحول إلى أصول رأسماليـــة تعمل في جميع المجــالات الاقتصــادية.

أثـر إجبـار الزكــاة الثـروات على أن تتحول إلى أصول رأسماليـة منـتجة يمكن أن يكون لـه أثره على طبيعــة سـلوك الشخص نفسـه، الشـخص الذي يتفـاعل مع الزكــاة تفــاعلًا إيجابيًّـا صحيـحـًا يكتسب عـادة أن يكون هو وثروتـه، أو أن يكـون مع ثـروته قوة منتجـة في المجتمع تعـمل علـى الارتقــاء الاقتصــادي بالشخص وبمجتمعه.

هـذه التربيـة السلوكية للشخص وهي أن يكون منتجـًا نســتطيع أن نـمد تفاعلاتـها إلى نوع النشـاط الاقتصادي من حيث طبيعته الإنتـاجية. نحـاول بيـان ذلك من موضوع الربـا. المرابي لا يقوم بنشـاط اقتصـادي منتج حقيقة. إنه يقرض بالربا ويجلس منتظرًا ما يحصـل عليـه من دخـل مـن هذه العمليـة، إنـه على هذا النحو لا يعمل. مـا يقـال عن الربـا يقـال عن القمـار والميسـر وغيرهمـا.

إن إجبــار الزكــاة الـثروات على أن تتحول إلى أصول رأسماليــة منتجـة يمكن أن يكون لـه أثره على نوع النشــاط من حيث هو حـلال أم حــرام. عمــر بن الخطـاب رضى الله تعــالى عنــه قـال: اتجروا بمـال اليتيم حتى لا تأكلـه الصدقة. هـذا القول له صلتـه المبـاشرة بأن الزكـاة تحفـز على تحويـل الـثروات العاطلــة إلى رءوس أموال منتجة. الشخص المأمور بالاتجـار بمالـه ليدفع زكـاتهـا لا يتوقع منه أن يعمل في نشــاط اقتصــادي محرم مثل الاتجـار في الخمـور وغيرهـا ممـا هو محرم شرعـًا.

5ـ بناء على فقـه الزكـاة فـإن المنزل الـذي يسـتخدمه الشـخص لسـكناه والسـيارة التي يســتعملها في تنقلاتــه والأجـهزة التي يـستعملهـا في منزلـه وما يشبه ذلك .. كـل هذا لا تفرض عليـه الزكــاة. فقـه الزكــاة على هذا النحو يحفظ للشــخص هـذه الـثروات التي تســتخدم لتوفـير الخدمــات الضروريـة اللازمـة لحياته.

الزكــاة بهـذا الفـهم وبـهذا التحليل الاقتصـادي تحفظ للشــخص فعاليتــه الطبيعيــة والتي يكون لهـا توظيفاتهـا المتعــددة، ومنهـا التوظيـف في المجــال الاقتصــادي. إعفــاء هـذه الـثروات من الزكــاة ضمـانة للإنســان لمـا يحفظ عليـه حياته.

ونحن نقدم الزكــاة بهذا الفهم وبهذا التحليل نذكر مـا كانت عليــه الضرائب في الإمبراطوريــات التي كـانت قائمـة عندمـا جاء الإسـلام بتشريع الزكـاة. لقـد عــانى الإنســان من الضرائـب في هذه الإمبراطوريــات التي كانت تصيبـه في ضرورياتـه. بـل إن معانـاة الإنســان من الضرائب اسـتمرت إلى الأزمنـة الحديثة. وفي عصـرنـا لا يمكن القـول إن معانـاة الإنســان مع الضرائـب قد انتهت وزالت.

ونحن نقـدم الزكــاة بهذا الفهـم وبهذا التحليل نشـير إلى أن المسلمين في أيديهـم أن يرقوا بالإنســـانية إذا قدموا للعــالم الزكـاة بفهم شمــولي كـامل لقيمها. بحيث يوظف الإنسـان قيم الزكــاة في الضرائب ويدخل في ذلك ما يتعلق بالضرائب وما يلزم لضروريات الحياة.

تفـوق الزكـاة بإعفـائهـا الثروات التي توفر للإنسـان ضرورياته ليس أمـرًا تاريخيًّـا فحسب، وإنمـا هو أيضـًا تفوق معـاصر، وسـوف يظل تفـوقــًا في المستقبل؛ لأنه تشـريع من الله عز وجل.

6ـ حُلي النسـاء من الذهـب والفضة تعفى مـن الزكـاة. بصدد هذا الموضوع نشـير إلى أن الفقهـاء يتكلمون عن حلي المثل. نحـاول أن نتعـرف على السـلوك القيمي الذي نرتبـه على هـذا الموضوع.

الزكـاة ركن من أركـان الإسلام وتشـريع يستهدف مواجهـة حالة احتياج تصيب مسلمـًا. تشريع الزكـاة وهو بهذا الفهم لم يفرض على حلـي النســاء بشــروط الفقـه المعروفـة. والإســلام لم يسـتخدم تشــريعـًا يواجـه حـالة احتيـاج للتضييق على النـاس بمنع النســاء من التحلي بمـا اعتادوا عليه من حلي ذهب وفضة.

ونحن نتكلـم عن الزكــاة من هذا الجانب فإننا نذكر دائمـًا بالنظم الضريبية التي تحت سـتار أو شـعار حالـة احتياج فإنهـا قـد تضرب الناس في أعز ثرواتهـم، تضرب هـذه الثروات ضريبًّيــا. بل إننـا عندما ندخل النظم الاشتراكيـة في الحوار فإننا نكتشـف أن هذه النظم استخدمت المصـادرات الكـاملة لهذه الثروة.

المسلمون مع تشريع الزكـاة في مأمن من هذه الإجراءات التي كثيرًا ما كانت غـير صحيحة، والتـي كثيـرًا مـا عكست أغراضـًا شخصية.

ونحن نتكلم عن الزكــاة من هذا الجـانب المتعلق بحلي النسـاء فإننا نستطيع أن ندخل في المناقشــة قيمــة من قيم الإسلام المعروفة وهي قيمـة التيسير على النـاس ومنـع المشـقة عليهم، حتى ولو كانت هذه المشقة متعلقة بمنع ما هو تعود عليــه الناس من تحلى النسـاء بالذهب والفضـة. إن إعفــاء حلي النســاء من الذهب والفضة من الزكـاة راعى الطبيعة البشـرية حتى في هذا الجانب الترفيهي.

7ـ الحديث عن إعفـاء حلي النسـاء من الذهب والفضـة يجعلنـا نمـد المناقشـة إلى حلي الرجــال. حلي الرجـال لا تعفى من الـزكــاة فـإذا بلغت النصـاب تجب فيهـا الزكــاة. نمـد المناقشــة إلى أواني الذهب والفضـة والتحف، هذه أيضـًا لا تعفى من الزكــاة، فـإذا بلغت النصـاب، وهو مـا قيمتــه 85 جـرام مـن الذهـب الخــالص وجبت فيهـا الزكـاة. بعض الفقهـاء شدد في حلـى الرجــال والأواني مـن الذهب والفضـة والتحف فقـال: إن المعتـبر فيهـا القيمــة وليس الـوزن. وقد عللـوا ذلك بإتقــان الصناعــة واحتيــاج ذلك إلى مهــارات عاليـة في صـانعهـا. يعنى ذلك لو كـان وزن الآنية من الذهب أقل من 85 جـرامـًا، ولكن قيمتهـا بسبب دقة الصنـاعة فيهـا تسـاوى قيمته 85 جرامـًا من الذهب الخالص فإنهـا تجب فيهـا الزكـاة.

وجبت الزكــاة في حلى الرجــال لأن التحـلي بذلك ليـس من الفطـرة بل هو منــاقض للفطرة. ينطبق هذا أيضـًا على الأواني من الذهب والفضـة أو اتخــاذهمـا تحفـًا.

نستطيع أن نقـول: إن الزكــاة وظفت لإصـلاح الفطـرة، وظفت لإجبار الرجل على العـودة إلى الفطـرة. وظفت لجعل السـلوك الإنســاني متلائمــًا مع الفطرة الصحيحـة. هـذا الأمـر نحب أن نؤكـد عليه وأن نـبرزه، وذلك لأنه لم يظهر في الدراسـات السـابقة عن الزكــاة فقهـًا أو اقتصــادًا. إننــا بــإبراز هـذا الجـانب في الزكـاة نثبت أن للزكـاة تأثيرًا إيجابيًّـا على الجـانب الســلوكي للملــتزم بالزكــاة. وبالكشــف عن هذا التأثــير للزكــاة فإننـا نثبت اتســاع الآثـار المترتبـة على الزكـاة. أثـار اقتصـادية، وآثـار اجتماعيــة، وآثـار سلوكيـة، بل ويمكن أن نمد ذلك إلى آثـار سياسيـة. إن اكتشــاف هـذا الأثر للزكــاة على تقويم الســلوك يوسع من أوجــه إعجـاز الزكــاة، وبعبــارة أخرى يثبت أن وجهـًا جديدًا من أوجـه الإعجـاز الكثيرة لهـا. وهـكذا يثبت ويتأكد المعنـى الـذي نريد أن يتشـبع به المسلم وأن يـترسخ في وجـدانـه وهو أن الزكـاة معجزة تشـريعية اقتصادية.

***

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر