أبحاث

التأصيل الإسلامي لأسباب المشكلات النفسية الاجتماعية

العدد 106

أولاً: مقدمة :

لا يخفى على المتتبع الواعي للمسيرة الفكرية لمشروع إسلامية المعرفة أن الحديث عن أية (تطبيقات) محددة (لمنهجية) التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية في دراسة أي من الموضوعات التي تندرج في إطار تلك العلوم في هذه المرحلة من عمر المشروع يعتبر أمرًا سابقًا لأوانه إلى حد كبير، ذلك أن أخص ما يتميز به (المنهج) إنما يتمثل في الاتساق والتتابع والانتظام..
الأمر الذي يستحيل معه القفز فوق أية مرحلة من المراحل إلى ما يليها دون مبررات علمية أو منطقية كافية.. لكن الحقيقة التى قد يكون من الممكن الدفاع عنها هي أن مراجعة الصورة الكلية لتقدّم المشروع من الناحية (العملية) قد توجد أحيانًا ظروفًا واقعية تبرر شيئًا من التغاضي عن بعض متطلبات حركة الفكر المنهجية استجابة لمتطلبات حركة المشاركين بالفكر من الناحية البشرية .. فنحن نواجه اليوم موقفًا قد أصبح فيه الكثيرون من المشاركين في المشروع يتساءلون .. وماذا بعد؟

لقد انتهينا إلى الاقتناع التام بالمبررات العلمية التى تقوم عليها فكرة إسلامية المعرفة، كما تبين لنا بوضوح أن جوهر هذا المفهوم إنما يكمن في التكامل بين معطيات الوحي ومنجزات الخبرة الإنسانية، ثم إننا ندرك أن هناك تصورات مطروحة بالفعل تقدم خطوطًا عريضة لمنهجية يمكن أن يتحقق بها هذا التكامل بين هذين النوعين من العلوم، ولكن هذه الإنجازات جميعًا تبدو للكثيرين معلقة في فضاء التنظير ما لم يتم تطبيق هذه المنهجية بشكل محدد ملموس، تتبين معه معالم هذه العملية المستمرة (إسلامية المعرفة) التى نأمل أن تنتهي بنا إلى تجاوز الفصل التعسفي الذي لا زال قائمًا بين ما يسمى بالعلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية والذي لم يعد له ما يبرره .

والواقع أن من يطالبون بنتائج تطبيقية ملموسة للمنهجية التى تجسد الأطر التصورية العامة لفكرة إسلامية المعرفة قد يكون لهم بعض العذر؛ ذلك أنهم يرون أنه بالرغم من وضوح الإسهامات الباكرة للرواد الأوائل فيما يتعلق بمفهوم إسلامية المعرفة وبمكوناته الأساسية، فإنه لم يحدث تقدم كبير على صعيد ترجمة تلك الأطر التصورية إلى إجراءات منهجية تتم من خلالها عملية أسلمة المعرفة، وتنتقل بها إلى مرحلة البحوث التطبيقية المنظمة التى يمكن أن تكون بدورها بمثابة النواة التي يكون لها من إمكانات التراكم حولها ما يسمح لكل باحث أن يبدأ من حيث انتهى إخوانه على الوجه المألوف في مسيرة العلم.

والمشاركون في جهود إسلامية المعرفة يدركون أنها في جوهرها عملية بحثية طويلة الأمد قد تتطلب عقودًا من الزمان ( أو على أكثر التقديرات تشاؤمًا: أجيالاً من الباحثين) لظهور ثمارها، ولكنهم يشعرون أيضًا أن هذا أمر يمكن فهمه فقط بشرط واحد: أن يستشعر المشاركون في المشروع أن هناك بالفعل تقدمًا يذكر (مهما كان بطيئًا) بشكل مطرد في طريق راشد يمكن أن يجتمع حوله الباحثون عن الحق متجردين، اما عندما يفتقدون هذا الشرط أو أحد جانبيه فإنهم سرعان ما يتشككون في إمكان المشروع ذاته أو حتى في المنطق الذي قام عليه !! وهو أمر قد ظهرت بالفعل له بعض البوادر ، فلا زال البعض إلى يومنا هذا يتحدثون مثلاً عن غموض المفهوم، أو عن ضبابية الرؤية، بل إن الأشد من ذلك خطورة أن نسمع من أحد من يُعتد بآرائهم من الإخوة المتخصصــين في العلوم الشرعية (ممن يتوقع منه غير ذلك المقال) أن (العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية كالزيت والماء لا يمكن المزج بينهما) ، فهنا ندرك أن التشكك في إمكان التكامل منهجيًّا ، وعدم رؤية أمثلة لتطبيق هذا المنهج التكاملي عمليًّا، قد يتحول إلى تشكك في مفهوم إسلامية المعرفة ذاته، كما قد يؤدي (بحسن ظن) إلى السعي الحثيث إلى التحول بأولويات المشروع إلى ما لم يخطر ببال رواده أو ببال أحد من أفراد الجمهور الواسع المخاطب بالمشروع، ظنًّا بأن في ذلك الإنقاذ للمشروع!

ومن هنا، فإن الهدف من هذه الورقة – في ضوء ما تقدم – ليس إلا مجرد الاستجابة لتلك الحاجة المحددة، وذلك بتقديم بيان عملي ملموس نحاول فيه تطبيق منهجية إسلامية العلوم الاجتماعية (في أحد أوجهها فقط كما سنبين فيما بعد) في دراسة أحد الموضوعات الذي نظن أنه يمكن أن يمثل همًّا مشتركًا للجميع في زمان كثر فيه الحديث عما يعانيه الناس من أمراض اجتماعية Social Ills ألا وهو:

أ- النظر في أسباب وقوع الأفراد في المشكلات الشخصية أو ما يطلق عليه عند أهل الاختصاص المشكلات النفسية / الاجتماعية Psychosocial    Problems.

ب – طرق مساعدة الأفراد على تجاوز تلك المشكلات من منظور إسلامي .

وحتى بالنسبة لهذا الهدف المحدود فإنه من الضروري أن نشير إلى أنه لم يكن بالإمكان استيفاء متطلبات كل جانب من جوانب البحث المنهجية على الوجه المرغوب، فاقتصرت المحاولة هنا على ما يشبه اللمحات التى تشير إلى ما يمكن أن يقوم به أي باحث في كل خطوة من الخطوات، أكثر من أن يكون استقصاء للموضوع ذاته بأي حال من الأحوال .

وتنقسم الورقة في ضوء ذلك إلى ثلاثة أقسام، نعرض في القسم الأول منها باختصار للمسلمات الأساسية التي ينطلق منها البحث ليكون القارئ على بينة من أمره في تقويمه لتلك المسلمات ولما بني عليها من نتائج، ونحاول في القسم الثاني تقديم تشخيص محدد للمشكلات الشخصية أو النفسية / الاجتماعية التى تواجه الأفراد في ضوء معطيات الوحي من جهة ومنجزات الخبرة الإنسانية في نطاق العلوم الاجتماعية من جهة أخرى، ثم ننتقل في القسم الثالث للحديث عن الطرائق المهنية التى يمكن أن يستخدمها الأخصائيون الاجتماعيون وغيرهم من المشتغلين بالتوجيه والإرشاد للمساعدة في علاج تلك المشكلات في ضوء تلك النظرة التكاملية .

ثانيا: المفاهيم الأساسية والمنطلقات العامة للمنهجية المقترحة

مفهوم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية

لا يخرج مفهوم إسلامية المعرفة عند تطبيقه في نطاق المساحة التي تشغلها العلوم الاجتماعية في الوقت الحاضر عما قدمه الدكتور إسماعيل الفاروقي -يرحمه الله- في عام 1982، حيث عرّف أسلمة العلوم على وجه الإجمال بأنها (إعادة صياغة العلوم في ضوء الإسلام)، وخصوصًا عندما فصّل ذلك فأوضح أن تحقيق أهداف أسلمة العلوم يتطلب:

1- فهم واستيعاب العلوم الحديثة في أرقى حالات تطورها ، والتمكن منها، وتحليل واقعها بطريقة نقدية لتقدير جوانب القوة والضعف فيها من وجهة نظر الإسلام .

2- فهم واستيعاب إسهامات التراث المنطلق من فهم المسلمين للكتاب والسنة في مختلف العصور، وتقدير جوانب القوة والضعف في ذلك التراث في ضوء حاجة المسلمين في الوقت الحاضر، وفي ضوء ما كشفت عنه المعارف الحديثة .

3- القيام بتلك القفزة الابتكارية الرائدة اللازمة لإيجاد (تركيبة) تجمع بين معطيات التراث الإسلامي وبين نتائج العلوم العصرية بما يساعد على تحقيق غايات الإسلام العليا .

المنهجية العامة للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية

يمكن تقسيم منهجية إسلامية المعرفة عندما تطبق في دراسة أحد الموضوعات التى تقع في عصرنا هذا في نطاق العلوم الاجتماعية (كالموضوع الذي بين أيدينا) إلى مرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى مرحلة التنظير، والمرحلة الثانية مرحلة البحوث، ولكل مرحلة منهما خطواتها على الوجه التالي:

المرحلة الأولى: مرحلة بناء الإطار النظري المتكامل ، وتتضمن:

(1) مسح إسهامات العلوم الاجتماعية المتصلة بالموضوع، وذلك عن طريق:

1- حصر النظريات والقضايا والتعميمات والمفاهيم المتصلة بالموضوع في الكتابات العلمية التى تمثل الوجهة السائدة في فهم الموضوع The Paradigm وفي الآراء المنشقة عليها (بوجه خاص) .

2- إلقاء نظرة نقدية فاحصة على تلك الإسهامات (بنوعيها) في ضوء التصور الإسلامي للكون والإنسان والوجود.

3- استبقاء المفاهيم والتعميمات والأطر النظرية التى صمدت للنقد والتى تتمشى مع التصور الإسلامي، واستبعاد ما بني من تلك المفاهيم على مسلمات خاطئة.

(2) حصر البصائر التى تتضمنها معارف الوحي والتراث الإسلامي ذات الصلة بالموضوع، وذلك من خلال:

1- استقصاء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتصلة بالموضوع، والكشف عن المقصود بها في كتب التفسير والشروح المعتبرة .

2- حصر إسهامات علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين مما يرتبط بالموضوع، مع تعريضها لنظرة نقدية فاحصة تضعها في إطار الظروف التى ظهرت تلك الإسهامات في نطاقها.

3- الجمع بين البصائر المختارة من بين تلك المصادر جميعها مما يطمئن إليه عقل الباحث وقلبه؛ توصلاً إلى ما يشبه أن يمثل -في نظره- التصور الإسلامي لموضوع الدراسة .

(3) بلورة الإطار التصوري الجامع بين بصائر الوحي وما صح من ثمار الخبرة الإنسانية:

1- إعادة ترتيب المشاهدات المحققة التى توصل إليها المشتغلون بالعلوم الاجتماعية من خلال البحوث العلمية المنضبطة، وإعادة تفسيرها في ضوء الأطر النظرية المستمدة من معارف الوحي من جهة، وباستثمار الأطر النظرية المستبقاة من تراث العلوم الاجتماعية بعد ثبوت اتساقها مع التصور الإسلامي من جهة أخرى .

2- صياغة ذلك الإطار التصوري المتكامل (الجامع لبصائر الوحي وما صح من ثمار الخبرة الإنسانية) في شكل أنساق استنباطية تسمح باستخلاص فروض يمكن التحقق من صدقها ومعرفة مدى اتساقها مع السنن الإلهية في الأنفس وفي الآفاق .

المرحلة الثانية: مرحلة البحوث والممارسة المنضبطة لاختيار الإطار التصوري المتكامل وتطويره ، وتتضمن:

(1) استنباط فروض مستمدة من الإطار التصوري (أو النظري) المتكامل الذي تم التوصل إليه في نهاية المرحلة الأولى، والتحقق من صحة تلك الفروض من خلال البحوث العلمية المنضبطة، وكذلك استنباط مبادئ مبنية على تلك الأطر التصورية يتم اختبارها في إطار الممارسة المهنية في مهن المساعدة الإنسانية (كالخدمة الاجتماعية والتوجيه والإرشاد النفسي ) .

(2) إذا ثبتت صحة الفروض ومبادئ الممارسة المهنية فإن ثقتنا في الأطر التصورية المتكاملة التى بدأنا بها تزداد من جهة، كما أن محتواها يزداد تفصيلاً وتمايزًا من جهة أخرى .

(3) إذا لم تثبت صحة الفروض، أو عجزت مبادئ الممارسة المهنية عن تحقيق الإصلاح المتوقع في الأفراد والمجتمعات ، فإنه يتم القيام بمراجعة الإجراءات المنهجية والممارسات التى اتبعت لإعادة التأكد من سلامتها، أو إعادة النظر في الأطر التصورية المتكاملة التى انطلقنا منها وتعديلها في ضوء المشاهدات المحققة.

(4) يستمر إجراء البحوث والممارسات المهنية على هذا المنوال، ويتم نشر نتائجها في الدوريات العلمية، وبذلك تتعرض للنقد العلمي بين الأفراد العلميين المتخصصين، ويؤدى هذا التنامي العلمي إلى التراكم الكمي والكيفي للنتائج الصحيحة، حيث تصب ثمار هذا كله في كتب جامعية رصينة مؤصلة إسلاميًّا .

وفي ضوء ما سبق يتبين لنا على الفور أن أي حديث في الوقت الحالي عن تطبيق منهجية إسلامية العلوم الاجتماعية لا يمكن أن ينصب إلا على المرحلة الأولى فقط من مراحل عملية التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وهي المرحلة المتصلة بمحاولة بناء نظرية تكاملية تكون بمثابة نقطة الانطلاق لبرامج للبحوث أو للممارسة المهنية المنضبطة (في المرحلة الثانية) بغرض التحقق من صحة تلك الأطر النظرية، فهذا – وهذا وحده – هو الضمان لاتساق تلك الأطر النظرية مع الحقائق المشاهدة والسنن الإلهية المودعة في هذا الوجود والحاكمة عليه والقابلة للملاحظة من جهة نتائج فعلها .

ثالثا : تطبيق المنهجية المقترحة في

دراسة موضوع الطبيعة البشرية

إن أية محاولة تطبيقية لمنهجية إسلامية المعرفة في نطاق العلوم الاجتماعية كتلك التي بين أيدينا لا يمكن أن تتم في فراغ، ونجاح التطبيق إنما يتوقف في الحقيقة على قدر استناد المحاولة إلى تصور واضح للطبيعة البشرية والحياة الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي، ويلاحظ أن هذا الموضوع لم تتم خدمته حتى الآن بطريقة منظمة تصلح للاستفادة منها بشكل مباشر، ومن أجل ذلك فإنه يتعين علينا قبل النظر في تطبيق المنهجية المشار إليها للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية في دراسة أسباب وقوع الناس في المشكلات النفسية الاجتماعية أن نقوم بتطبيق مبدئي لتلك المنهجية ذاتها لدراسة الطبيعة البشرية والحياة الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي، وفيما يلي نشير إلى بعض الملامح لما يمكن أن يسفر عنه مثل هذا التطبيق من نتائج:

(1) نلاحظ أولاً أن المشتغلين بالعلوم الاجتماعية الحديثة لا يرون في الإنسان إلا كائنًا ماديًّا لا يخرج عن كونه امتدادًا للظواهر الطبيعية الأخرى، فلا ترى فيه النظرية السلوكية إلا أنه آلة منتظمة ( وإن كنت شديدة التعقيد)، ولا ترى فيه المدرسة التحليلية إلا أنه حيوان تدفعه غرائزه ( وإن عبرت هذه الغرائز عن نفسها بطرق مختلفة)، أما من (اكتشفوا) أخيرًا أنه (إنسان) (الاتجاه الإنساني) فقد اعترفوا بتأثير الجوانب العقلية / المعرفية في سلوكه، ولكن حتى هؤلاء قد توقفوا بدورهم دون الاعتراف بأي مكان للروح المتجاوزة لحدود المادة كأحد المكونات الأساسية للطبيعة الإنسانية، أما القوة الرابعة في علم النفس والمتمثلة في اتجاه تجاوز – الذات Transpersonal Psychology فإنها وإن بدأت في السنوات الأخيرة تعالج الموقف بتركيزها الواضح على الدور المحوري للعوامل (الروحية) مما يقترب أكثر وأكثر من الفهم الصحيح للنفس الإنسانية إلا أنها تتناول هذا المفهوم بطريقة شديدة العمومية .

(2) ولكننا من جهة أخرى نجد أن التصور الإسلامي يميز بين مفهومين للإنسان ( راجع : الراغب الأصفهاني)، الإنسان بالمعنى العام وهو (كل منتصب القامة مختص بقوة الفكر واستفادة العلم) والإنسان بالمعنى الخاص وهو (كل من عرف الحق فاعتقده والخير فعمله بحسب وسعه) ، والناس يتفاضلون في التصور الإسلامي بهذا المعني، وبحسب تحصيله تُستحق الإنسانية التى تعنى (فعل المختص بالإنسان) ، فتحصل له الإنسانية بقدر ما تحصل له العبادة التى لأجلها خلق .

(3) الإنسان في التصور الإسلامي إذن (كائن فريد) خلقه الله -سبحانه وتعالى- مبدع هذا الكون وصاحب التصرف المطلق فيه ، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وقد اقتضت مشيئته تعالى خلق الإنسان لغاية أو لوظيفة رئيسة تتمثل في ( عبادة الله) المتضمنة لمعرفته وتعظيمه وطاعة أمره والقيام بما شرع لعمارة الأرض التى استخلفه فيها.

(4) الإنسان مخلوق من عنصرين: (جسد) من طين و(روح) نورانية من أمر الله تحل في الجسد فتحييه، وينتج عن اندماج الروح والبدن (نفس) تدبر هذا المخلوق وتعطيه وحدته وتكامله.

(5) يترتب على الطبيعة المادية الطينية للجسد وجود ميل طبيعي في النفس للإفراط وتجاوز الحدود، وذلك لغرض محدد هو المحافظة على بقاء الإنسان واستمرار وجوده حيًّا، مما ينتج في النفس صفات (كنفاذ الصبر والاستعجال) لما ليس عندها، (والشح والبخل) بما عندها ، ( والبطر والفرح والعُجب) بما تراها تميزت به عن الآخرين، ( والجزع واليأس والهلع) عندما تفقده، (والمراء واللدد في الخصومة) إن تنازعته مع الغير وهكذا .

(6) إذا ترك لتلك الصفات التجاوزية الفرصة لأن تعبر عن نفسها تعبيرًا حرًّا غير مقيد فإنها تصبح غير وظيفية Dysfunctional بمعنى أن تَبنِّي تلك الصفات على نطاق واسع وبشكل مطرد يتعارض مع متطلبات بقاء الإنسان في حياة اجتماعية تعاونية منظمة، مع أن استمرار تلك الحياة الاجتماعية لازم لإشباع حاجاته المتعددة؛ لأنه لم يخلق قادرًا على إشباعها منفردًا أبدًا .

(7) هنا يأتى دور الطبيعة (الروحية) للإنسان، والتى تمثل عنصر ارتباط الإنسان بربه وخالقه، والتى تقوم بمعادلة أو موازنة offset تلك الاتجاهات التجاوزية التى تتصف بها المكونات البدنية، وهذه الموازنة إنما هي ما يعطي الإنسان قيمته الحقيقية كإنسان، ويتجلى هذا الدور من خلال ما يلي :

أ – يتصف الله – خالق الإنسان والكون – بكل صفات الجلال والكمال، فهو سبحانه القوي القادر، العليم الحكيم، المنتقم الجبار، وهو أيضًا الرءوف الرحيم، الغفور الودود .

ب – عرّف الله -سبحانه وتعالى- خلقه به وهم في عالم سابق على الوجود في هذه الدنيا، فأشهدهم على ربوبيته ووحدانيته وهم في عالم الذر، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الأعراف: 172) كيلا يحتج أحد بعد ذلك بأنه كان عن هذا من الغافلين.

جـ ـ ثم إنه سبحانه – إيقاظًا وتدعيمًا لما أودعه كامنًا في  هذه الفطرة- قد أرسل الرسل مذكرين ومبشرين ومنذرين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فمن حافظ على صفاء فطرته (على حالة الإشهاد) ونقاء سريرته فإنه يسارع عند سماع الرسل إلى التصديق والانضمام إلى أهل الإيمان، وأما من التوتْ فطرته فإنه يلتصق بالأرض منضمًّا إلى أهل التكذيب والضلال ، وهذا هو جوهر (الاختبار الإنساني) في هذه الحياة ، وهو أيضًا المحك الذي في ضوئه تتحدد (نوعية حياة) الإنسان .

د – فأما من آمن برسالات ربه، ثم اهتدى بإرشاد الرسل، فوعى رسالته ووظيفته في هذه الحياة، وعرف حق ربه، فوقف عند أمره ونهيه ، فإن ثمرة ذلك تتمثل في ضبط تلك الصفات التجاوزية البدنية وكبح جماحها {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21)إِلاَّ الْمُصَلِّينَ(22)الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ(23)وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (المعارج: 19- 24) وذلك إضافة إلى تحقيق الفلاح في الآخرة {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: 40- 41) والعكس صحيح على كل المستويات وبكل المقاييس .

(8) ثم إن الله -جل وعلا- راد الناس إلى معاد، ومحاسبهم على ما استخلفهم فيه، فمجازيهم على أعمالهم في حياة أخرى هي في التصور الإسلامي(الحياة) الحقيقية، أما الدنيا بكل ما فيها فإنها دار ابتلاء واختبار في مدى ودرجة الالتزام بواجبات العبودية الحقةلله .

(9) ومحور الحياة الروحية للإنسان هو (القلب) الذي يمثل الرابطة بين (المعرفة والاعتقاد) من جهة (والسلوك والإرادة) من جهة أخرى، وقد عرّفه الإمام الغزالي بأنه هو (الروح الإنساني المتحمل لأمانة الله ، المتحلي بالمعرفة ، المركوز فيه العلم بالفطرة، الناطق بالتوحيد بقوله: (بلى شهدنا) ، وهو بهذا محل معرفة الله -عز وجل-) فإذا قام القلب بوظيفته الروحية المتمثلة في معرفة الله -عز وجل- وحبه وعبادته وذكره وإيثار ذلك على كل شهوة، استقامت حياة الإنسان ككل، فجاء سلوكه متمشيًا مع ما يرضى خالقه وبارئه، ومثل هذا الإنسان يحيا حياة طيبة مليئة بالطمأنينة والسكينة، ويعيش مَنْ حوله منه في راحة، حتى إذا جاء أوان الارتحال عن هذه الدنيا كان مآله نعيم الآخرة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (النحل:97) أما إذا مرض القلب فلم يقم بتلك الوظائف فإن ذلك يكون مدعاة لاضطراب حياة الإنسان ككل، فيعيش معيشة ضنكًا (مهما تقلب في زخارف الدنيا) ، وكان الناس منه في بلاء وشر، ثم هو في الآخرة من الخاسرين {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) .

(10) من هذا يتبين أنه لا يمكن بأي حال فهم (الإنسان) أو تفسير سلوكه في حياته الفردية أو الاجتماعية إلا في ضوء ذلك البعد الروحي المتصل (بوعي) الإنسان بوجود ربه ومليكه، و(معرفته) بصفات الخالق وأسمائه  وكمالاته ، وما يترتب على ذلك من نوع (صلته) وصفة ارتباطه بالله عز وجل، ودرجة استعداده لملاقاته في (اليوم الآخر) يوم البعث والجزاء ، فهذا البعد الروحى هو الذي يعطى حياة الإنسان معناها الحقيقي، وهو ما يميز التصور الإسلامي بوضوح ويباعد بينه وبين غيره من التصورات البشرية المادية التى تقف عند حدود الحياة الدنيا {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْم} (النجم:30) فالتصور الإسلامي إذن يؤكد فكرة المحافظة على نقاء الفطرة وسلامتها، على أساس أنها هي التى تحفظ على الإنسان سلامة قلبه، وعلينا أن ننتبه هنا إلى أن نوع الحياة المنطلقة من مثل ذلك (القلب السليم) تختلف اختلافًا يكاد يكون كليًّا عن نوع الحياة التي طُمس فيها على القلب، فالإنسان الذي صفا قلبه واستقامت فطرته يكون توكله على الله لا على نفسه أو الآخرين ، ويكون أنسه بالله ووحشته من الناس، فيعيش حياة مختلفة وجوديًّا عن غيره من مرضى القلوب ، فحياته الداخلية مطمئنة هادئة.. لا تفجعه الفواجع … ولا تطغيه النعم .. وإنما هو يعيش بين الصبر والشكر على مستوى يستحيل أن يتوفر لغيره ممن كبرت الدنيا في عينه .. ممن يصاب بالجزع والنكد إذا فقد من دنياه شيئًا ولو قليلاً، ولا يأبه بضياع أخراه بكليتها، أنسه بالناس وبما في يده من أعراض زائلة .. ووحشته من الله ومن كل ما يذكره به .

(11) يحتل مفهوم (مجاهدة النفس) مكانًا محوريًّا في الحياة الداخلية للإنسان المسلم، فالنفس (المتمثلة في تيار الوعي الإنساني) تتنازعها قوتان : الدوافع المادية البدنية الأرضية التى تلح على الإشباع المباشر، وتنزع إلى الظلم والتجاوز في ذلك ، والنوازع الروحية التى تتوق إلى القرب من خالقها وإرضاء بارئها الذي تستشعر حبه وتشفق من غضبه وعقابه، والتى ترتفع بالإنسان إلى آفاق تضمحل معها قيمة إشباع الحاجات الدنيا إلى حد كبير .. آفاق تصل إلى حد استعذاب الاستشهاد في سبيل الله (رغم أنه يعنى زوال النفس الواعية المكونة من البدن والروح)، كما يعني فناء البدن، على أساس أن هذا يعني صعود الروح الباقية إلى حياة الخلود في النعيم والرضوان من رب العالمين .

(12) بالقدر الذي تسود الفطرة السليمة العارفة بربها المتصلة به يكون التوافق بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين خلق الله ، بل بينه وبين الوجود كله، وبينه وبين ربه، ويتنزل الدعم والتأييد على الإنسان من (ملائكة) الرحمن {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِـــرُوا بِالْجَنَّــةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (فصلت : 30 – 31 ).

(13) وبالقدر الذي تسود فيه دفعات الغرائز الدنيا وتكبت فيه الفطرة السليمة يكون اضطراب الإنسان داخليًّا، ويكون شعوره بعدم التوافق مع الخلق، وبالتنافر مع هذا الوجود، وتتنزل (الشياطين) بالتحريض والتزيين لضمان استمرار الإنسان في هذا الطريق المهلك {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (مريم : 83) أي تهزهم وتستفزهم باطنيًّا (الطيب بن عاشور ، 1984) .

رابعًا : التأصيل الإسلامي لأسباب المشكلات النفسية/ الاجتماعية

مفهوم المشكلات الفردية أو النفسية / الاجتماعية

يتفق المشتغلون بالعلوم الاجتماعية ومهن المساعدة الإنسانية عمومًا على أن الإنسان مدني بطبعه، بمعنى أنه -بطبيعة تكوينه- محتاج للحياة في جماعة أو مجتمع يتعاون فيه مع غيره على إشباع حاجاته وحاجاتهم، ولكن الحياة في جماعة تتضمن الدخول في عدد هائل من التفاعلات الاجتماعية التى لابد من تنظيمها، مما يؤدي إلى ظهور عدد من النظم الاجتماعية (كالنظام الأسرى والنظام الاقتصادي والنظام التعليمي.. الخ) التى يضم كل منها عددًا من المؤسسات التى يتم في إطارها إشباع الحاجات الإنسانية، ثم إن التفاعلات التى تتطلبها عملية إشباع الحاجات في نطاق كل منها تحاط بمجموعة من المعايير والقيم التي تضبطها، والتى يتم ترتيب جزاءات اجتماعية على مدى موافقة الأفراد لها أو مخالفتها ثوابًا وعقابًا، والذي يعنينا -هنا- هو أن النظم الاجتماعية في النهاية تتضمن مجموعة من المكانات الاجتماعيةStatus  التي يحتلها الأفراد بحسب موضعهم في ذلك النظام (مثل مكانة الأب، الابن، الزوجة في النظام الأسري، أو مكانة التلميذ، المعلم في النظام التعليمي، وهكذا ..) ، ثم إن المجتمع يرتب توقعات للأدوار Role Expectations التي ينبغي على شاغل كل مكانة من هذه المكانات أن يقوم بها، فإذا تصرف شاغلو المكانات في الواقع على الوجه المتوقع منهم فيما يتصل بأداء أدوارهم فيقال عندئذ أنهم متوافقون اجتماعيًّا، أما إذا عجز الأفراد عن القيام بمتطلبات شغلهم لمكاناتهم الاجتماعية (الأب الذي يقصر في رعاية أبنائه، التلميذ الذي يتكرر رسوبه أو يتعاطي المواد المخدرة، العامل متكرر الغياب عن العمل أو المعرض للحوادث بصورة متكررة …) فهنا يقال أنهم غير متوافقين اجتماعيًّا Maladjusted ، وعادة ما يصحب ذلك اضطراب في العلاقات الاجتماعية بينهم وبين من ترتبط مكاناتهم الاجتماعية بهم (النزاع بين الزوج الزوجة ، مشاجرات التلميذ مع زملائه أو معلميه …) ، وهنا يبدأ الحديث عن وقوع الفرد في المشكلات الفردية أو الشخصية أو المشكلات النفسية / الاجتماعية Psychosocial أي المشكلات التى تتفاعل فيها شخصية الفرد بجوانبها البدنية والنفسية مع قوى البيئة الاجتماعية.

وبطبيعة الحال، فإن حياة الأفراد – أي أفراد – لا يمكن أن تخلو من بعض المواقف الصعبة أو حتى الإشكالية التى يتمكن الفرد من التعامل معها سواء بمفرده أو مستعينًا بأفراد أسرته أو أصدقائه، ولكن بعض المواقف والصعوبات والمشكلات الشخصية قد تستمر وتستعصى على تلك المحاولات والجهود الذاتية للحل، وهنا قد يلجأ الفرد إلى إحدى المؤسسات الاجتماعية المتخصصة طلبًا للمساعدة، ولكنه أيضًا قد لا يفعل ، وهنا قد تتفاقم المشكلة وتؤدي إلى مضاعفات تهدد استمرار العلاقات الطبيعية مع المحيطين بالفرد، فيخرج الموقف من الاختيار إلى الاضطرار عندما يتم تحويل صاحب المشكلة (من جانب مدير المدرسة أو قاضي محكمة الأحداث مثلاً) إلى الأخصائي الاجتماعي أو إلى فريق المساعدة المهنية الذي قد يضم غيره من الأخصائيين النفسيين أو المشتغلين بالتوجيه والإرشاد [سنستخدم اصطلاح (الأخصائي) للدلالة على هؤلاء المتخصصين] لدراسة حالته وعلاجه، وعادة ما يطلق على الفرد الذي يتقدم طالبًا المساعدة بنفسه أو محولاً من الجهات المختصة اصطلاحًا (العميل)، وتكون المهمة الأولى التى تواجه الأخصائي هي محاولة فهم الظروف والعوامل النفســية والأســـرية والبيئيــة (الجيرة، المدرسة، مكان العمل .. الخ) التى تفاعلت في الموقف حتى انتهت إلى تلك الصورة الإشكالية، ثم إنه في ضوء تشخيص المشكلة على هذا الوجه يعمل الأخصائي على وضع خطة علاجية تمكن العميل ليس فقط من تجاوز الموقف الإشكالي المباشر بل والعمل على إحداث التغييرات الملائمة في اتجاهات العميل وسلوكياته ليصبح أكثر قدرة في المستقبل على القيام بأعباء حياته بنفسه في حدود المكانات الاجتماعية التى يشغلها ، وفي نطاق توقعات الأدوار الاجتماعية المرتبطة بتلك المكانات، وفي ضوء هذا يتبين لنا أن نجاح الفريق العلاجي إنما يتوقف إلى حد كبير على توافر قاعدة نظرية متماسكة لتفسير تلك المشكلات تكون أساسًا للتشخيص ولتحديد طرق التدخل العلاجية الفعالة لمساعدة العميل على مواجهتها .

موقف العلوم الاجتماعية الحديثة من فهم أسباب المشكلات النفسية / الاجتماعية

إذا رجعنا إلى الكتابات النظرية الحديثة للتعرف على التفسيرات التى تقدمها لنا مشكلات الشخصية أو النفسية / الاجتماعية Psychosocial Personal التى تواجه الفرد فإننا سنجد أن القليل من تلك الكتابات قد اهتم بهذا المستوى من المشكلات الشخصية، ولكننا نجد بدلاً من ذلك عددًا كبيرًا من النظريات الجزئية المتنافسة التى تفسر هذه المشكلات أحيانًا كمشكلات (نفسية بحتة) حتى وإن أعطت قدرًا هامشيًّا من الاعتبار للجوانب الاجتماعية، أو أحيانًا أخرى كمشكلات (اجتماعية بحتة) يندر أن تعطى القدر الملائم من الاهتمام للأبعاد النفسية ، ومن هنا – ورغم هذا الثراء النظري – نجد أن أيًّا من تلك الأطر النظرية لم تفلح في تقديم صياغة تفسيرية متكاملة لهذا النوع من المشكلات، فنرى -على سبيل المثال- أن بعض الكتاب يرون أن المشكلات إنما ترجع في أساسها إلى الصراع النفسي (بين جوانب النفس المختلفة)، كما يرى آخرون أن المشكلات عبارة عن سلوك يتم تعلمه من خلال مثيرات بيئية خارجية، ولكننا نجد -من جهة أخرى- من يركزون جهودهم على تحليل المشكلات على أنها مشكلات (اجتماعية) فيميزون بين عملية التفكك الاجتماعي Social Disorganization وبين السلوك الانحرافي Deviant Behavior ، ويرون أن هاتين الفئتين متشابكتان متفاعلتان في الواقع، تؤدي كل منهما إلى الأخرى ، بحيث إنك إذا تعرضت لدراسة أي مشكلة واقعية فستجد ما يشير إلى كل منهما ولكن بدرجات متفاوتة .

ويقارن بعض المؤلفين بين التفكك الاجتماعي والسلوك الانحرافي بقولهم أنه (إذا كانت نظرية التفكك الاجتماعي تركز على التغير الاجتماعي وما يؤدي إليه من اضطراب المعايير والنظم الاجتماعية … فإن نظرية السلوك الانحرافي تركز على انحراف الفرد عن المعايير الاجتماعية ) ، وبلغة أخرى فإن تفسير السلوك الانحرافي يقوم على الافتراض بأن المعايير الاجتماعية العامة في المجتمع سليمة، ولكن لسبب أو لآخر فإن الأفراد لم تتم تنشئتهم تنشئة اجتماعية صحيحة تضمن التزامهم بتلك المعايير. ثم إن هناك عددًا من النظريات المفسرة للسلوك الانحرافي، تقوم إحداها على أن تنشئة الفرد قد تتم أحيانًا في إطار (ثقافة فرعية انحرافية)Deviant Subculture  كما في حالة من ينشأون في أحياء متخلفة تشيع فيها المعايير الانحرافية، بينما ترى الأخرى أن السلوك الانحرافي يرجع إلى متابعة الفرد لمعايير يراها المجتمع والثقافة الفرعية انحرافية ولكنها تعتبر سوية في نظر جماعة مرجعية أخرى Reference Group يتوحد معها الفرد ويتخذها مرجعًا موجهًا لسلوكه، كما ترى نظرية ثالثة أن السلوك الانحرافي يكون متوقعًا عندما تحول أوضاع بنائية مستقرة في المجتمع  -وبشكل مضطرد – دون إتاحة الفرصة لبعض فئات المجتمع للحصول على الوسائل المشروعة التي تمكنهم من تحقيق الأهداف المرغوب فيها وفق الإطار الثقافي السائد (Anomie theory) وهكذا.

وبصفة عامة فإننا نلاحظ أن التفسيرات التى تقدمها لنا تلك الأطر التصورية تتسم بالتركيز على الآليات والعمليات الاجتماعية من جهة، وبالنسبية الثقافية من جهة أخرى، فالتركيز على التغير الاجتماعي والتفكك الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية والضبط الاجتماعي يجعل المشكلات الاجتماعية الواسعة النطاق تبدو وكأنها أمر طبيعي تحتمه ميكانيكية هذه الآليات الاجتماعية التى لا ترحم، وأما التفسيرات التى تركز على دور المعايير الاجتماعية والثقافات الفرعية فإنها تبدأ وتنتهى من القيم الاجتماعية السائدة أيًّا كانت تلك القيم، فتحيل التفسير إلى قضية فنية بحتة تتم فيها مضاهاة توجهات الثقافات الفرعية والسلوكيات الفردية أمام القيم التي تبنتها الثقافة الحاضرة في المجتمع، أما نقد تلك القيم المجتمعية من منظور أرقى فإن هؤلاء العلماء يرونه خارج نطاق مهمتهم .

فإذا انتقلنا إلى الكتابات المهنية في محيط الخدمة الاجتماعية كإحدى مهن المساعدة الإنسانية، فإننا سنجد أنها تعكس الأطر التصورية السابقة التى وجدناها عند المتخصصين في علم الاجتماع، مع محاولة لإيجاد قدر من التكامل بينها وبين ما يقدمه المتخصصون في علم النفس تفسيرًا للمشكلات ذات الطبيعة النفسية التى تواجه الأفراد، والواقع أنه يمكننا – مع المخاطرة بالوقوع في قدر من التبسيط الزائد – القول بأن كتابات الخدمة الاجتماعية تنظر لأسباب هذه المشكلات الفردية أو الشخصية على أنها تتمثل فيما يلي :

1- النقص أو القصور في إشباع الحاجات الإنسانية (مع تعريف الحاجات تعريفًا ضيقًا يكاد ينصب أساسًا على الحاجات المادية ثم ما يتبعها من حاجات نفسية واجتماعية ) وما يترتب على ذلك القصور في إشباع الحاجات من إحباط وعدوان .

2- ما يترتب على استمرار القصور في إشباع الحاجات من مشكلات في العلاقات مع الآخرين وفي التوافق الاجتماعي، وهو ما يعبر عنه بالمشكلات المتصلة بعملية (أداء الوظائف الاجتماعية) Social Functioning .

3- العمليات الاجتماعية الأشمل التى تحيط بهذا كله كالتغير الاجتماعي وما يؤدي إليه من تفكك اجتماعي Social    Disorganization يتصل بقصور النظم الاجتماعية عن القيام بوظائفها بكفاءة .

وتتفاوت المحاولات المختلفة للتنظير بعد ذلك في تركيزها على عامل أو آخر من تلك العوامل، أو حتى في التركيز علي الديناميات التى تندرج تحت أي عامل منها بذاته، أو في تشكيلة العوامل التى تجمع بينها كأسباب للمشكلات ، في حين يرى غيرهم أن المشكلات ترجع إلى تفاعل العوامل الذاتية مع العوامل البيئية. والآن ما هو موقفنا كمسلمين من هذه التفسيرات لأسباب المشكلات الفردية أو المشكلات الشخصية أو النفسية / الاجتماعية ؟

إن من الطبيعي أن مناقشتنا لهذه القضية ينبغي أن تكون مبنية بشكل مباشر على ما توصلنا إليه في دراستنا لطبيعة الإنسان بمختلف جوانبها المادية والروحية، وتوضيحنا لديناميات التفاعل بين تلك القوي الداخلة في تكوين ذلك الإنسان ، وبيان تأثيراتها على العلاقات بين الناس.

الدوافع والحاجات الإنسانية:

رأينا -فيما سبق- أن تفسير المشكلات النفسية / الاجتماعية يدور أساسًا حول فكرة إشباع (الحاجات الإنسانية) – أو بالأحرى الحرمان من إشباعها – وما يترتب على ذلك من إحباط وعدوان، يتفاقم تحت تأثير الانقطاع في عملية التنشئة الاجتماعية أو اضطراب المعايير الاجتماعية، مما يؤدي في النهاية إلى المشكلات في العلاقات الاجتماعية ، وفي أداء الوظائف الاجتماعية ، فإذا تأملنا توصيف تلك الحاجات الإنسانية في الكتابات المعاصرة فإننا نجدها تنحو (بصفة عامة) منحى ماديًّا متطرفًا قاصرًا على هذه الحياة الدنيا ينسجم مع النظرة للطبيعة الإنسانية على الوجه الذي ألمحنا إليه، ويحتل إبراهام ماسلو مكانًا خاصًّا جدًّا فيما يتعلق بنظرية الدوافع الإنسانيةA Theory of Human Motivation التى قدمها عام 1943، والتى لا زالت توجه فكر المشتغلين بالعلوم الاجتماعية ومهن المساعدة الإنسانية إلى اليوم، حيث رأى أن الدافعية تحركها (الحاجات الإنسانية الأساسية) The Basic Needs التى رتبها في شكل هرم متدرج Hierarchies of Prepotency قاعدته الحاجات الفسيولوجية Physiological Needs ( كالحاجة إلى الطعام والشراب والجنس ) يليها حاجات الأمن أو السلامة Safety Needs ( من المرض أو ما يهدد الحياة) يليها الحاجة إلى الحب والتعاطف والانتماء Love  Needs ثم الحاجة إلى احترام الذات والشعور بالاحترام والتقدير من جانب الآخرين Esteem Needs ، وأخيرًا الحاجة إلى تحقيق الذات Need for self – Actualization أي تحويل إمكانات الفرد واستعداده إلى واقع متحقق بالفعل. وبالرغم من أن ماسلو في أخريات حياته قد عدل نظريته في بحث مهم نشره عام 1967م بعنوان (نظرية في الدوافع الأرقي) ATheory of Metamotivation حيث ذكر أنه قد تبين له أنه حتى بعد أن يحقق الإنسان ذاته فإنه يظل مدفوعًا بحاجات (روحية) تدفع الناس لتكريس حياتهم لرسالة نبيلة أو واجب أو مهمة (خارج أنفسهم) يضحون بكل شيء من أجلها، إلا أنه لنزعته التطورية لم يسلم أبدًا بأي وجود متمايز للروح، واعتبر أن الأمر لا يخرج عن كونه نوعًا من الحيوانية الأرقى! وحتى مع هذا فإن نظريته الأخيرة هذه لم تلق من الذيوع معشار ما لقيته نظريته القديمة .

وفي ضوء هذا العرض يتبين لنا بوضوح أن العلوم الاجتماعية الحديثة تبدو وكأنها قد عقدت العزم وجمعت الهمة على ألا ترى في الإنسان إلا كيانه المادي في نطاق هذه الحياة الدنيا كما رأينا ، وأن تعتبر أن الإنسان لا يمثل إلا امتدادًا تطوريًّا لعالم الحيوان [لاحظ أن بحوث ماسلو وتجاربه في مقتبل عمره منذ 1932م قد اقتصرت تمامًا على دراسة سلوك القردة العليا وغيرها من أنواع الحيوان] ، أما النظرة الإسلامية للحاجـــات فإنهـا تقوم بدلاً من ذلك -على ما فصلناه عند الحديث عن الطبيعة الإنسانية- على أساس أن هناك حاجة أولية مهيمنة على جميع الحاجات -لأنها ضامنة لإشباعها جميعًا- أولاً، وهي الافتقار إلى الله عز وجل والمتضمنة في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر: 15) حيث يفسر ابن كثير (أنتم الفقراء) بقوله (أي أنتم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، كما فسر الفخر الرازي (إلى الله) بأن في هذا إعلامًا من الله بأنه لا افتقار إلا إليه، وأن هذا يوجب عبادته لكونه مفتقرًا إليه سبحانه، وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره، فالإنسان في حاجة إلى الله لأنه سبحانه وتعالى هو الذي خلقه وسخر له ما في السموات وما في الأرض ليستخدمها بحقها لإشباع حاجاته الدنيوية، وكل إنسان كائنًا من كان في حاجة إلى شكر الله – بعبادته – حتى تقضي احتياجاته في الدنيا وفي الآخرة أيضًا .

وإذن فالإسلام ينظر للحاجات المادية وغير المادية على أن لكل منها مشروعيته، ولكنه ينظر لإشباع كل الحاجات جميعها من منظور لا يتوقف فقط عند حدود هذه الحياة الدنيا، بل يربط دومًا بين كل ما في الدنيا وبين الآخرة التى هي د ار القرار، فيجعل إشباع الحاجات الدنيوية (وسيلة) طيبة للقيام بمهام العبودية لله ولا يجعل ذلك الإشباع غاية في ذاته . وإذن فإنه على عكس ما يظن المتخصصون في العلوم الاجتماعية المعاصرة ( إضافة إلى ما في أقوالهم من حق) فإنه من الممكن القول أن حاجات الإنسان في المنظور الإسلامي تقع في فئتين رئيستين على الترتيب الآتي :

1- الافتقار إلى الله عز وجل، والحاجة إلى الارتباط به والاستمساك بحبله المتين، باعتبار أن هذا الارتباط بالله فيه الضمان لإشباع كل حاجة في هذه الحياة الزائلة المتحولة، بل وفيما وراءها مما يعتبر الحياة الحقيقية الدائمة.

2- الحاجات المادية والنفسية والاجتماعية (الدنيوية) ، التى أفاض في وصفها وتحليل أبعادها أولئك المتخصصون في العلوم الاجتماعية، والتى تتصل بإشباع الحاجات الفسيولوجية والحاجة إلى الأمن والحب والتقدير والمكانة وصولاً إلى تحقيق الذات .. الخ .

المنظور الإسلامي المتكامل لتفسير أسباب المشكلات النفسية/ الاجتماعية

يقوم المنظور الإسلامي على الارتباط الوثيق بين هذين النوعين من الحاجات ، بشكل يتوازى مع الارتباط الوثيق بين الروح والبدن، اللذين منهما يتكون الإنسان، ولكن مع أولوية النوع الأول من الحاجات وهيمنته علي الوجود الإنساني ككل . وفي ضوء ذلك الفهم بإمكاننا القول – بصورة مبدئية – بأن التصور الإسلامي لتفسير المشكلات الفردية أو المشكلات الشخصية النفسية/ الاجتماعية يقوم على مبدأين أساسين يمكن صياغتهما في شكل قضايا يمكن من خلالها استنباط فروض قابلة للاختبار، منها فيما يلي :

المبدأ الأول : إن انقطاع أو ضعف صلة الإنسان بالله عز وجل يعتبر في ذاته سببًا (ضروريًّا وكافيًا وحده) لوقوع الفرد في المشكلات الشخصية والمشكلات المتصلة بالعلاقات الاجتماعية في هذه الحياة الدنيا، كما يكون فوق ذلك سببًا للهلاك في الآخرة، ويصدق ذلك عند كل مستويات إشباع الفرد للحاجات الدنيوية المذكورة .

وتفسير ذلك : أن انقطاع الصلة بالله أو ضعفها يؤدي إلى افتقاد إشباع النوع الأول من الحاجات، ألا وهو افتقار الروح إلى الارتباط بخالقها وبارئها الذي ليس لها من دونه من ملجأ أو ملاذ ، هذا من جهة، كما أن انقطاع الصلة بالله أمر يجلب سخط الله وغضبه وخذلانه للعبد من جهة أخرى، فالإنسان إذا افتقد اليقين بالله سبحانه وتعالى ، وإذا ضل عن طريق الله الذى اشترعه لعباده، فإنه يتخبط في إشباع حاجاته الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية ) على غير هدى من الله، فيبالغ مبالغة شديدة في الجزع من أي نقص في إشباع تلك الحاجات التى هي عنده غاية الغايات، وفواتها لا يعوض لا في عاجل ولا في آجل (في الدنيا والآخرة)، فتتأثر بذلك حالته الانفعالية ، وقد يمتد التأثير إلى إحداث أعراض بدنية / نفسيةPsychosomatic  ، وعلى الجانب الآخر .. فإن من توفرت له الموارد الوافرة لإشباع حاجاته المادية يميل إلى الطغيان والتجاوز، فيكون بذلك سببًا في المشكلات لنفسه ولغيره، ومن ذلك نستنتج أن نقص المعرفة واليقين بالله تعالى يؤدي إلى وقوع المشكلات سواء أشبعت الحاجات المادية على أرقى مستوى أو كان الحرمان والافتقار إلى الموارد .

والأدلة الشرعية على صحة هذا المبدأ لا حصر لها، ولكننا نكتفى هنا بهذه الآيات الكريمة من سورة طه {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى(126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه : 123 – 127) .

المبدأ الثاني: إن القصور في إشباع الحاجات الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية) سبب ضروري – ولكنه ليس كافيًا وحده – لوقوع الفرد في المشكلات الشخصية والمشكلات المتصلة بالعلاقات الاجتماعية، وذلك على أساس أنه حتى في حالة وجود مثل ذلك القصور في الموارد المادية مع حسن الصلة بالله سبحانه وتعالى فإن المشكلات التى يواجهها الفرد تكون أقل حدة بكثير – ويتوقف الأمر على درجة ونوع تلك الصلة بالله جل وعلا .

وتفسير ذلك : أن المنظور الإسلامي يقوم على أن للإنسان ولا شك حاجاته الدنيوية التى بها قيام حياته واستمرارها، ولكن هذه الحاجات تتسم أيضًا بأنها شديدة النسبية نتيجة لما يتميز به الإنسان من مرونة مدهشة في هذا الصدد، فإذا نظرنا إلى الحاجة إلى الطعام كمثال لوجدنا أن الإنسان في الأساس تكفيه (لقيمات يقمن صلبه) ولكنه مع ذلك قد يتجاوز في طلبه إشباع الحاجة تجاوزًا كبيرًا بحيث تتطلب الكثير والكثير لإشباعها . ومن هنا فإن الناس عندما يواجهون بظروف يفتقدون فيها من الموارد ما يشبع حاجاتهم الدنيوية فإنهم قد يتعرضون للمشكلات، ولكن درجة الشعور بالإحباط وحجم العدوان المصاحب لهذا الشعور يتوقف على عوامل متعددة .

ويبدو لنا أن التصور الإسلامي يقوم على أن أهم هذه العوامل – مرة أخرى – هو نوع صلة الإنسان بربه ، فالإنسان الذي يوقن بأن له ربًّا يملك خزائن كل خير في الأرض أو السماء، وأنه الكريم المرتجى عفوه والمأمول عطاؤه، ولكنه أيضًا يؤمن بأن الله يعطي ويمنع وفقًا لحكمته وعلمه بما يصلح خلقه، فإنه لابد أن يوقن إما بقرب الفرج في العاجل وبضمان التعويض عما فاته في الدنيا، وإما بالأجر العظيم الذي وعده الصابرون في الآخرة ، بما يؤدي إلى الاطمئنان النفسي الذي يقلل معدلات التوتر والإحباط والعدوان التى تصاحب بشكل طبيعي نقص إشباع الحاجات، بل وقد تؤدي إلى استبعاد مثل هذه المشاعر والاتجاهات كلية في بعض الحالات وعند بعض الأشخاص.

ونود أن نذكّر هنا بأن غرضنا الأساسي في هذا البحث ليس هو حصر أو استنفاد العوامل المؤثرة في إحداث المشكلات النفسية / الاجتماعية بقدر لفت الأنظار إلى العوامل الفريدة التى  يتميز بها التصور الإسلامي عن التصورات الوضعية الشائعة بيننا اليوم، بما يؤدي – إن شاء الله تعالى – إلى مناقشة تلك الصياغات وإجراء الحوار حولها، بما يمهد الطريق أمام إجراء الدراسات والبحوث التى تختبر تلك الأطر النظرية .

خامسًا: التدخل المهني لعلاج المشكلات النفسية / الاجتماعية من منظور إسلامي

يتضمن التدخل المهني لعلاج المشكلات الفردية أو النفسية / الاجتماعية في التصور التقليدي للخدمة الاجتماعية جانبين أساسيين يترابطان فيما بينهما أشد الترابط وهما :

1- تقدير الموقف أو الحاجة أو المشكلة أو السلوك Assessment في ضوء افتراضاتنا الأساسية حول الطبيعة الإنسانية، وفي ضوء النظريات المفسرة للسلوك الإنساني في محيطه الاجتماعي، وفي ضوء فهمنا للأسباب العامة لتلك المشكلات، واسترشادًا بالنسق القيمي للمجتمع وأهدافه العامة، ويتضمن ذلك:

أ – جمع البيانات الدقيقة حول الوضع الراهن الذي يعايشه العميل بدءًا من وصف الشخصية .. إلى مسح الظروف البيئية.. إلى توصيف طبيعة العلاقات بين الشخص والبيئة في الوقت الحاضر.

ب – مقارنة الوضع الراهن بالسمات المعيارية التى تحدد ما هو (طبيعي) أو (سوي) بالنسبة لمن هم في مثل خصائصه الديموجرافية في ضوء النظرية (أو النظريات) المعتمدة .

جـ – الانتهاء بتحديد مناطق أو مواضع الافتراق عن النمط المعياري، ومضاهاتها بمتلازمات الأعراضSyndromes  التي تتضمنها نظرية الممارسة Practice Theory  .

2- التدخل المهني Intervention الذي يستهدف إحداث تأثيرات محددة، باستخدام الوسائل والأدوات المناسبة، في ضوء تقدير الموقف، وفي إطار النظريات العلمية والنسق القيمي والفلسفة العامة للمهنة والمجتمع .

ومن الواضح أن هذه المهام تنطلق من النموذج العام لحل المشكلات Problem – solving في ضوء الدراسة المنظمة للموقف، وأنها مصاغة بشكل عام يسمح بتطبيقها بشكل مرن في ضوء الأطر الثقافية والدينية للمجتمع، إدراكًا من المنظرين للاختلاف والتنوع الشديد بين المجتمعات في هذا الصدد، من هنا فإن (بنية) هذا النموذج تسمح بشكل كبير بتحميله من الداخل (بالمحتوى) النظري والقيمي الملائم للمجتمع المعين الذي تتم الممارسة في إطاره … وفي ضوء ذلك فإنه من الممكن استخدام التصور الإسلامي بسهولة ويسر لكي يكون نقطة الانطلاق في هذا النموذج دون أي تعسف، كما أننا لسنا في الواقع بأية حاجة إلى إجراء أية تعديلات جوهرية عليه من هذه الناحية (بنية النموذج) وإن كنا بحاجة لإعادة نظر شاملة في (المحتوى) الشائع في الكتابات التقليدية عند غيرنا .

محتوي عملية تقدير الموقف

في المنظور التقليدي

محور الاهتمام فيما يتصل بحل المشكلات الشخصية أو النفسية / الاجتماعية في المنظور التقليدي هو (العلاقات الاجتماعية) أو ( التفاعلات التى تتم بين الناس وبيئاتهم) أو (أداء الوظائف الاجتماعية) ، حيث ينصب الاهتمام على تحسين قدرة الناس على  القيام بمطالب حياتهم، والمساعدة على تخفيف مشكلاتهم وكروبهم، ومساعدتهم على تحقيق آمالهم الفردية والجمعية.وقد بذل الكثيرون من المنظرين جهودًا لتحديد ماهية تلك الصعوبات والمشكلات والحاجات التى تتدخل الخدمة الاجتماعية للمعاونة في مواجهتها، فرأى البعض أن مشكلات العملاء إنما تدور حول أداء الأدوار Role Performance وخصوصًا فيما يتصل بما يلي:

1- قصور أو نقص الإمكانات المادية، سواء منها ما اتصل بضعف في القدرات الشخصية الذي يعوق أداء الأدوار، أو ما اتصل بنقص في المعرفة والتدريب والإعداد .

2- اضطرابات الشخصية.

3- تناقض متطلبات الأدوار الاجتماعية، كعدم القدرة على التوفيق بين عدد من الأدوار المهمة، أو عدم القدرة على الارتفاع إلى مستوى توقعات الآخرين، أو غموض توقعات الأدوار وتناقضها .

وقد قدم آخرون تصنيفًا للمشكلات التى تتصدى لها الممارسة ، يقوم على أساس النظر للمشكلات على أنها في جوهرها تمثل ( رغبات غير مشبعة) ، وفي ضوء ذلك يمكن تقسيم هذه المشكلات إلى الفئات الآتية:

1- الصراع في العلاقات الشخصية بين الأفراد .

2- مشكلات في العلاقات مع المنظمات الرسمية .

3- صعوبات في أداء الأدوار الاجتماعية.

4- صعوبات في اتخاذ قرارات هامة.

5- اضطرابات انفعالية نشأت كردود أفعال لمواقف صعبة .

6- نقص الموارد .

7- اضطرابات نفسية وسلوكية أخرى.

والمتأمل للطريقة التى ينظر بها الأخصائيون الاجتماعيون لمشكلات العملاء – والتى في ضوئها يتم التدخل المهني للخدمة الاجتماعية في المجتمعات المعاصرة – سرعان ما يتبين له أن محور الاهتمام فيهما جميعًا يدور حول أمرين أساسيين :

أ – إشباع الحاجات الدنيوية .

2- مواجهة ما يرتبط بنقص الإشباع من صعوبات في العلاقات مع الآخرين -أيضًا في نطاق هذه الحياة الدنيا- أو ما يرتبط بهذا كله من اضطرابات في النفوس والعقول تنغص على الناس عيشهم .

ولا يجادل إلا مكابر في أهمية العوامل المذكورة، فهي تتصل اتصالاً مباشرًا بنوعية الحياة والمعاناة اليومية للناس ، وهي تستحق أن يبذل الأخصائيون الاجتماعيون وغيرهم من المهنيين المتعاونين معهم جهودهم للمساعدة على مواجهتها، ولكن الأسئلة التى تطرح نفسها بقوة هنا – في ضوء ما تعرضنا له فيما سبق – هي :

1- هل يمكن فهم مشكلات العملاء – حتى ما اتصل منها بإشباع الحاجات المادية والدنيوية بصفة عامة – دون دراسة مدى تأثيرها بالجوانب الروحية المتصلة بصلة الإنسان بربه ؟

2- هل يمكن أن يبني التدخل المهني لمساعدة العملاء على مواجهة تلك المشكلات الدنيوية ذاتها مع الإصرار على إغفال تلك العوامل الروحية؟

3- وحتى لو سلمنا جدلاً بأنه بالإمكان فهم تلك المشكلات الدنيوية والمساعدة على حلها مع إغفال العوامل الروحية، فأي نوع من المعونة تلك التى نقدمها للناس والتى تأخذ بأيدي العملاء  في سعيهم لتجاوز عقبات تافهة تعترض دنياهم الزائلة ولا تأخذ بحجزتهم عن الوقوع فيما يؤدي إلى غضب الله وعقابه الأليم في دار الخلود والبقاء؟

(محتوى) عملية تقدير الموقف في التصور الإسلامي

لقد تبين لنا من استعراض أنواع الصعوبات والمشكلات والحاجات والمواقف التى تتدخل الخدمة الاجتماعية لمواجهتها في المنظور الغربي الحديث أن هذه المواقف تتمثل عندهم أساسًا في نقص إشباع الحاجات المادية والنفسية والاجتماعية ، أو في معاناة صعوبات في العلاقات الاجتماعية، أو في وجود مشكلات تتصل بأداء الوظائف الاجتماعية ، أو في ظهور مشكلات انفعالية متصلة بهذه المواقف أو بعضها. وقد انتهينــا إلى أن هذه المشــــكلات أو المواقف التى تتطلب التدخل جميعًا إنما تتوقف في المنظور الغربي عند حدود هذه الحياة الدنيا من جهة، كما أنها تفرغها -حتى في نطاق هذه الحياة الدنيا- من أي محتوى روحي يتعلق بصلة العميل بربه .

ولكننا قد انتهينا أيضًا -فيما سبق- إلى أنه لا يمكن فهم هذه المشكلات والصعوبات بالاقتصار على دراسة الحاجات الدنيوية وحدها – أشبعت أو لم تشبع – وإنما يكون هذا الفهم ممكنًا إذا استطعنا أولاً وقبل كل شيء أن نتعرف على (نوع صلة الإنسان بربه) المبنية على مفهوم (الشعور بالافتقار إلى الله سبحانه وتعالى) باعتبار أن هذا الشعور يكون أساسًا لارتباط الإنسان بخالقه ورازقه ، على أساس أن رضاء الله سبحانه وتعالى عن العبد فيه كفالة إشباع كل تلك الحاجات الدنيوية  (إن شاء الله ذلك ، وهو أعلم بعباده وبما يصلحهم) إضافة إلى تحقيق النجاة والفوز العظيم في الحياة الآخرة ، ولكننا توصلنا أيضًا إلى أنه لا يجوز – في المنظور الإسلامي – إغفال إشباع الحاجات الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية) وإن كان إشباعها ينبغي أن يكون إشباعًا متوازنًا لا يجعل منها أبدًا هدفًا في ذاتها، بحيث لا تكون أكبر هم العبد ولا تكون مبلغ علمه .

وبهذا فقد انتهينا إلى أن المنظور الإسلامي يستوعب الاهتمامات والحاجات الدنيوية للإنسان التى أسرف المنظور الغربي في التركيز عليها، ولكنه يقدرها حق قدرها دون زيادة أو نقصان، ثم يضعها في موضعها الصحيح من حاجات الإنسان في الدنيا (المتضمنة لأشواقه الروحية) ومن حاجاته المتصلة بالحياة الأخرى.

وبناء على ما تقدم، فإن عملية تقدير الموقف في المنظور الإسلامي ينبغي دون شك أن تتضمن دراسة ما يتصل بالحاجات الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية ) غير المشبعة، أيضًا ينبغي أن تتضمن قبل هذا وبعده تقدير الموقف فيما يتعلق (بنوع صلة العميل بربه) سواء من النواحي المعرفية المتعلقة بصحة الاعتقاد والسلامة من البدعيات والشركيات، أو من النواحي القلبية الوجدانية أو السلوكية التعبدية بالمعنى الضيق للعبادات وبالمعنى الواسع (للعبادة) الذي يشمل طاعة الله فيما أمر ونهى في كل جوانب الحياة.

وقد يبدو هذا المطلب غريبًا في عيوننا التى عاشــت طويلاً في رحـاب -أقصد في ضيق- منطلقات البحث الإمبيريقية (التى تقتصر على دراسة ما هو محسوس) والتى تحصر الدراسة (العلمية) في نطاق السلوك (الموضوعي) الظاهر على الوجه الذي وصل إلينا من الغرب العلماني، ولكن عجبنا قد يزول عندما نرى أن بعض كبار رجال الخدمة الاجتماعية الغربيين أنفسهم قد بدأوا في المطالبة بالاهتمام بالنواحي الروحية والأخلاقية عند تقرير الموقف ودراسة العميل وبيئته .

حيث دعا بعضهم إلى توسيع نطاق مفهوم الشخص – في البيئة Person – in – the – Environment الذي يعتبر محور ارتكاز الخدمة الاجتماعية لكي يشمل ليس فقط دراسة علاقات العميل مع البيئة الاجتماعية ، وإنما أيضًا مع العالم فوق – الإنساني، أو مع (الحقيقة المطلقة) ، كما يطالبون بضروة التوصل إلى معايير لتقدير درجة الارتقاء الروحي والأخلاقي للعميل Moral and Spiritul development بل إن بعضهم قد اقترح بالفعل بعض المعايير التى يرى أنها تصلح مبدئيًّا لتقييم أو قياس درجة الارتقاء الروحى للعملاء مثل:

أ – درجة رضاء العميل عن حياته .

ب – درجة الاهتمام والحدب التى تشيع في علاقات العميل مع الآخرين .

جـ – القدرة على إدراك المعاني الأخلاقية السامية (في المواقف المعقدة).

د – الاستعداد لتقبل فكرة حتمية الموت والمرض وما يشابهها مما يتحدى شعور الإنسان بمعنى الحياة وهدفها.

وعلى أي حال فلا شك أننا مطالبون ببذل جهود كبيرة لبلورة أدوات تصلح لقياس مثل هذه المفاهيم لاستخدامها في تقدير موقف العملاء من الناحية الروحية أو الدينية، والواقع أنه لا يبدو أن هناك ما يمنع من استخدام اصطلاح (مستوى التدين) أو اصطلاح (درجة الارتقاء الروحي) للتعبير عن (فكرة نوع صلة  العميل بالله سبحانه وتعالى) التى تعيننا في تقدير موقف العميل والتى – في التصور الإسلامي – تتضمن كما أسلفنا العناصر التالية:

1- المعرفة بالله والاعتقاد بوحدانيته وبكمال هيمنته على كل ما في الوجود.

2- هيمنة تلك المعرفة على القلب بما يحييه، وعلى الوجدان بما يسخره ليسير طائعًا وفقًا لمقتضيات هذه المعرفة وذلك الاعتقاد .

3- تقوى الله سبحانه وتعالى ، الناشئة عن حياة القلب وتسخير الوجدان، والتى تنعكس في صورة طاعات وأعمال صالحات.

وإذن فإننا نتوقع أن تتسم عملية تقدير الموقف في التصور الإسلامي بالشمول، فتضم ما يتصل بالحاجات الدنيوية المادية كما تضم ما يتعلق بالنواحي الروحية المتصلة بصلة العميل بربه، ومن الطبيعي أننا لن نركز هنا على تفصيلات ما يتعلق بالنوع الأول من الحاجات (الدنيوية والمادية والنفسية والاجتماعية) على اعتبار أن المراجع التقليدية تفيض بها، ولكننا سنركز بدلاً من ذلك على النوع الثاني (المتصل بالحاجات الروحية) وبالتفاعل بينهما .

وفي هذا المقام فإننا نتوقع أن تنتهي نتيجة عملية تقدير الموقف بالنسبة للعملاء إلى ظهور واحدة من الحالات الثلاثة الآتية:

الحالة الأولى: أن يكون العميل صحيح الاعتقاد (مقيمًا على التوحيد الخالص بريئًا من الشركيات والبدعيات)، وأن يكون هذا الاعتقاد الصحيح عميقًا بدرجة يهيمن معها على القلب والوجدان ، ويكون مقترنًا بسلامة الفطرة ونقائها ، وهنا فإننا نتوقع أن يكون السلوك في جملته مطابقًا للشرع، مستهدفًا ما يرضى الله سبحانه وتعالى، كما نتوقع أن مثل هذا الشخص إذا ابُتلى بشيء من الخوف أو الجوع أو بنقص في الأموال والأنفس والثمرات فإنه يكون من الصابرين المحتسبين الطامعين في حسن العوض من الله في الدنيا، الموقنين بحسن الجزاء في الآخرة، ويترتب على ذلك أن يكون سعيه لمواجهة أية مشكلات تصادفه سعيًا متزنًا غير مشوب بالجزع أو الفزع أو الخوف أو الاضطراب ، وأما إذا ابتلى هذا الشخص بفتنة الوفرة في النعم والخيرات فإن هذا لن يؤدي به إلى الطغيان أو التجاوز أو الوقوع في المحظورات (اللهم اجعلنا من هؤلاء بفضلك ورحمتك) .

الحالة الثانية: أن يكون العميل صحيح الاعتقاد أيضًا، ولكن هذا الاعتقاد الصحيح محدود الأثر على القلب والوجدان، بمعنى أن الشخص يواجه حالة من عدم الارتباط بين الفكر والعاطفة ، فأقواله تعبر عن اعتقادات صحيحة، ولكن هذه الأقوال لا تصل إلى تحريك القلب والوجدان، مما يعنى عجز هذا النوع من الاعتقاد عن جمع الهمة بالقوة الكافية في اتجاه فعل المأمورات واجتناب المحظورات ، وهنا فإننا سنلاحظ اضطرابًا في السلوك؛ لأن مداخل الشيطان على مثل هذا الشخص تكون كثيرة، وميله مع ما تهوى النفس شديدًا ، فنجد العميل يخلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا ، وبالتالي فإن استجاباته عندما يواجه الابتلاء بالشر أو الابتلاء بالخير تتفاوت تفاوتًا كبيرًا.

الحالة الثالثة: أن يكون العميل سقيم الاعتقاد، يختلط التوحيد عنده ببعض الشركيات أو البدعيات ، وهنا فإننا نتوقع أن يكون مثل هذا الشخص مصابًا بأمراض القلوب التي وصفها الكثيرون من أهل العلم، سواء ما كان منها من أمراض الشبهات أو أمراض الشهوات ، فثقة مثل هذا العميل في الله وصدق التوكل عليه تكون محل نظر شديد، كما أن احتمالات انخراطه في التجاوزات في إشباع الشهوات تكون كبيرة، ومن هنا يكون الخذلان نصيبه، فنجده يصاب بالهلع والجزع الشديد عند الابتلاء بالنقص كما يصاب بالشح والطغيان {أن رآه استغنى}، وفي كل الأحوال فهو مصدر للمشكلات لنفسه ولغيره.

والآن ما هي الاستراتيجية العامة والأدوات والأساليب الفنية التى ينبغي أن يستخدمها المعالج أو الأخصائي الاجتماعي المسلم للتدخل المهني لمساعدة العملاء الذين يقعون في كل فئة من الفئات السابقة؟

استراتيجيات وأدوات التدخل المهني

مرة أخرى فإننا نذكّر بأن طريقة التدخل المهنى للخدمة الاجتماعية في نطاق التصور الغربي يمكن توصيفها في كلمات قليلة على الوجه التالي:

1- تقديم الموارد الناقصة التى يمكن أن تشبع حاجات العملاء .

2- إصلاح العلاقات الاجتماعية المضطربة .

3- مساعدة العملاء على أداء أدوارهم الاجتماعية .

4- تقديم المعونة النفسية والتشجيع الكافي لطمأنة العملاء أنهم ليسوا وحدهم .

فإذا نظرنا إلى الكيفية التى يتم من خلالها تقديم تلك الخدمات لوجدنا على رأسها :

1- تكوين (العلاقة المهنية) بين الأخصائي والعميل، وهي علاقة مساعدة مهنية تقوم على تقبل العملاء كما هم، مع إشعارهم بالرغبة في مساعدتهم، مما يمهد الطريق أمام تقبل العملاء للخطة العلاجية، فهي بمثابة المعبر الذي تنتقل فوقه خدمات المؤسسة ودعم المجتمع .

ب – استخدام موارد المؤسسة والمجتمع في إشباع حاجات العميل الدنيوية، ســواء في ذلك المجتمــع المحلي (القرية – الحي – المدينة) أو المجتمع الأكبر، تستوى في ذلك الموارد الحكومية أو غير الحكومية .

أما أساليب ومهارات التدخل أو العمل المباشر مع العملاء في هذا الإطار فهي متعددة يذكر منها مهارات الدراسة، الملاحظة ، فن المقابلة، الاتصال اللفظي وغير اللفظي، القدرة على فهم المشاعر، القدرة على المشاركة الوجدانية، تقدير نقاط القوة في الشخصية، فهم خريطة المؤثرات البيئية، القدرة على وضع الخطط العلاجية، التوضيح ، التشجيع والتدعيم، المواجهة، الوساطة ، الدفاع ، المفاوضة ، المساندة، فهم المجتمع المحلي، القدرة على تعبئة الموارد لمصلحة العميل، تعديل البيئة، المتابعة، التقويم .

ورغم أهمية هذه الاستراتيجيات العامة وتلك الأساليب الفنية فإنها ليست كافية للاستجابة لمتطلبات العمل المهني في التصور الإسلامي على الوجه الذي رأيناه في الفقرات السابقة حول نتائج عملية تقدير الموقف، والتى تأخذ الأبعاد الروحية في الاعتبار، ومن هنا فإنها -مرة أخرى- بحاجة إلى الاستكمال في بعض الجوانب، كما أنها حتى بالنسبة لما يعتبر منها ذا فائدة كبيرة لابد من أن توضع في نصابها في الموقع الذي يمليه التصور الإسلامي .

فمن الواضح ابتداء أنه ينبغي لنا أن نستصحب نتائج عملية تقدير الموقف بالصورة التى انتهينا إليها في الفقرات السابقة، وهنا فإننا سنتبين أن كل فئة من الفئات الثلاثة من العملاء ستتطلب نوعًا مختلفًا من التدخل المهني الذي يلائمها، ولعله قد تبين لنا أن هذه الأنواع الثلاثة تتدرج فيما بينها تصاعديًّا فيما يتصل بدرجة حاجتنا للتركيز على نوع صلتها بالله كأساس للمساعدة على مواجهة النواحي الإشكالية في موقفها .

إن النوع الأول -على العكس من النوعين الثاني والثالث- سيُعتبر نوع الحياة الروحية عنده من نقاط القوة التى يمكن استثمارها لزيادة فاعليته في مواجهة الموقف أو الصعوبة التى صادفته، ومن هنا فإننا سنمر على هذا النوع مرورًا سريعًا لكي نركز على النوع الثاني باعتباره أكثر حاجة للمساعدة في هذه الجوانب الروحية من النوع الأول ، ولما كان النوعان الثاني والثالث من جهة أخرى مشتركين في معظم الخصائص العامة مع حاجة الأخير لنوع إضافي من المساعدة لتصحيــح الجــوانب الاعتقاديـــة فإننا -لتجنب التكرار- سنركز في النوع الثالث على هذه المشكلة الإضافية مكتفين بما أوردناه مما هو مشترك في التعامل مع النوع الثاني من العملاء. ونود أن نعيد التأكيد هنا مرة أخرى على أن الاستراتيجيات والأدوات التى نصفها فيما يلي لا تستبعد الاستراتيجيات والأدوات الفنية التقليدية، ولكنها من جهة تستكملها ومن جهة أخرى تضعها في مواضعها الملائمة بعد أخذ الأبعاد الروحية في الاعتبار .

النوع الأول : حالة سلامة الاعتقاد، مع حياة القلب، وصفاء الفطرة:

يلاحظ أن الأخصائي لا يُتوقع أن يواجه صعوبة كبيرة في العمل مع مثل تلك الحالات للأسباب الآتية:

1- أن هذه الحالات لن تكون معقدة بتفاعلات نفسية، أو مشوشة بمضاعفات وجدانية منعكســـة عن المشــــكلات أو الصعوبات الدنيوية المعتادة .

2- أن تعامل هذا النوع من الأشخاص مع الأخصائي أو مع غيره يتصف عادة بالاستقامة والبعد عن الالتواء ، مما يتوقع معه التزام العميل بالصدق، وإمكانية الاعتماد على التزامه بالخطط العلاجية.

3- أن عناصر القوة في الشخصية تكون كبيرة مما يتيح مدى أوسع من فرص العمل مع العميل لتجاوز الموقف الحالي .

وهنا تتمثل الاستراتيجية المستخدمة في تقديم العون المادي أو المتصل بالعلاقات الاجتماعية أو غيرها بحسب الحاجة :

1- ففي حالة احتياج العميل إلى موارد مادية فإنه من المناسب هنا الاكتفاء بتقديم (العون المادي) حيث لن توجد عادة مضاعفات انفعالية أو روحية من النوع الذي يتطلب معونة أكثر عمقًا .

2- وفي حالة مواجهة العميل لصعوبات في العلاقات مع آخرين نتيجة لعدم كفاية خبراته ومهاراته الاجتماعية، فإنه من المناسب هنا تقديم العون الاجتماعي المتمثل في (التدريب على المهارات الاجتماعية) اللازمة لمساعدته على مواجهة تلك الصعوبات .

3- وقد يحتاج العميل من هذا النوع إلى ( معونة تيسيرية) من نوع التوسطBrokerage  أو الدفاعAdvocacy  أو المفاوضة Negotiation عند التعامل مع المنظمات الرسمية التى يخرج التعامل معها عن نطاق خبراته السابقة.

النوع الثاني: حالة صحة الاعتقاد دون هيمنته على القلب:

إن مثل هذا العميل عندما يواجه مشكلات أو صعوبات في حياته الدنيوية، أو عندما يعاني – دون إدراك كامل – من الآثار المترتبة على عدم التزامه القلبي والسلوكي بما (يعرف) أنه الحق يكون في حالة من القلق والاضطراب والتردد، فهو قد يتذكر ما يقضى به سلامة اعتقاده فيصبر على مواجهة المواقف الصعبة حينًا، ولكنه يعود للجزع أحيانًا كثيرة؛ لأنه يسلم نفسه لنفسه أكثر من تسليمها لخالقه ومولاه، والصعوبة الأولى التى تواجه الأخصائي الاجتماعي المسلم في العمل مع هذا العميل تكمن في مقاومته الشديدة للاعتراف بالتقصير في حق نفسه وفي حق ربه، أو في الاعتراف بأن الخطة التى اختطها  لنفسه في الحياة تبتعد في جوانب جوهرية عما يُلزمه به اعتقاده الصحيح، وكلما فاتحه الأخصائي في هذا الأمر فإن العميل يسابقه في ترديد (الأقول) التى تعبر عن عقيدة صحيحة، مع دفاعات شديدة يحاول أن يمنع بها نفسه أو الأخصائي من النفاذ إلى حقيقة ولائه القلبي غير المستقر .

ويرجع السبب في مثل هذا التشبث الزائد بالاعتمادية على النفس والثقة بها – الذي يحول دون كمال الاستسلام لله -عز وجل- والاعتماد عليه والانطراح في ساحة رحمته، إلى ما سبق أن عرضناه حول الطبيعة الإنســـانية ، فلقد ذكرنا -فيما سبق- أن الإنسان مكون من مادة( بدن) وروح، وأن المادة تأنس بالإشباع المادي البدني، وتطمئن بما تجمعه وتكنزه مما تظنه يضمن لها استمرار بقائها ووجودها ويحول دون فاقتها واحتياجها إلى الناس، وعلى العكس فإن الروح ، من جانب آخر، إنما تأنس (فقط) بالقرب من الله، وتطمئن بالصلة به سبحانه، ولكن هذه الصلة بالله، والعبادات والطاعات طريقها، ليس من نفس الطبيعة المادية التى يتشوف لها البدن والنفس بالتبعية.

والإنسان بحكم قرب الإشباعات الدنيوية من نفسه على هذا الوجه يميل إلى الظن بأن السعادة تتحقق طرديًّا مع ازدياد إشباع مرغوبات النفس، بمعنى أنه كلما ازداد إشباع الحاجات البدنية الدنيوية كلما ازدادت السعادة، ولا يخطر بالبال – إلا بتوجيه وتعليم وخبرة شخصية وتدريب – حقيقة أن الإنسان كــائن معقـــد يحوى إلى جـانب البدن (الذي يسير وفقا للقاعدة المذكورة) روحًا قد تسير في (عكس الاتجاه) بمعنى أنه كلما أغرق الإنسان وتجاوز في إشباع حاجاته الدنيوية كلما قلت سعادته (الكلية) وكلما قل الإشباع ازدادت السعادة الكلية ( أي التى تشمله كله ككائن حي مكون من بدن وروح).

وإذن فإن العلاج هنا يتمثل أساسًا في معاونة العميل على مقاومة أنس النفس (الجبلي) بالماديات لإفساح المجال أمام أنس الروح بالعبادات والطاعات التى تفتح الطريق أمام حسن الصلة بالله سبحانه وتعالى ، ومن هنا يصبح (التحكم في النفس) والسيطرة عليها لتوجيههــا نحو خدمــة الإنسـان الكلي (بدنًا وروحًا) بدلاً من خدمة حاجات البدن وحدها هو المفتاح لحل الموقف الإشكالي ، فبه يتمكن المرء من الإمساك بزمام نفسه وقيادتها في الطريق الذي يحييها، ومن ثم يتمكن من الإمساك بزمام حياته كلها ليوجهها بنعمة الله إلى ما يرضى الرب، ولكن هذا يتطلب عملية إعادة تعليم ضد التيار كما يقولون، أي تغيير التوجه البشري ضد ما تهواه النفس، أي تحويلها من الاعتماد على المخلوقين (الذات – الآخرين) لجلب ما يظن الإنسان أنه ينفعه (المال – الجاه – الشــهـــوات) إلى الاعتمــاد على الله -سبحانه وتعالى- والاطمئنان إلى أن في ذلك أكبر ضمان لتحقيق كل المرغوبات على الوجه الذي يرضى الرب ويحقق أكبر حاصل ممكن من الخير الكلي في الوقت ذاته .

ويتطلب التعامل مع هذا النوع من العملاء استخدام استراتيجية متعددة الأوجه، تستهدف معاونة العميل على إعادة النظر في حياته واستعادة توازنه، يتولى الأخصائي في إطارها الأخذ بيد العميل خلال كل مرحلة أو وجه من أوجهها على النحو التالي :

1- إنشاء العلاقة المهنية القائمة على الأخوة في الله بين الأخصائي والعميل :

إن (العلاقة المهنية) بتوصيفها التقليدي لا تستوعب ما يتطلبه المنظور الإسلامي للممارسة من اهتمام الأخصائي بالعميل كاهتمام الأخ بأخيه الذي يرعى مصلحته ويرقب الله فيه ، والحق أن عمق التأثير المرغوب في العملاء لمساعدتهم ليس فقط على مواجهة مشكلاتهم وصعوباتهم الحالة بل ومساعدتهم أيضًا على إصلاح حياتهم وإقامتها على طريق الله ، يتطلب التركيز منذ البداية على إقامة هذا النوع الخاص من العلاقة المهنية – علاقة في الله ولله وبالله . فالأخصائي يتخذ زمام المبادرة في إنشاء هذه العلاقة منذ المقابلة الأولى مع العميل، ثم هو يتعهدها ويرعاها طول الوقت؛ لأنها هي أساس النجاح في تحقيق الأهداف النبيلة التى يريد الأخصائي تحقيقها ، وذلك للاعتبارات الآتية:

أ – أنها حجر الزاوية في تقبل العميل للأخصائي .

ب – أنها الأساس في قبول تدخل الأخصائي فيما يعتبر من أخص وأخفى جوانب حياة الإنسان : الجانب الروحي – الاعتقادي .

جـ – وهي الأساس في تقبل الخطة العلاجية من جانب العميل.

د – وهي من العوامل المساعدة على التزام العميل بتنفيذ الخطة العلاجية .

ولكن هذا المستوى من (العلاقة المهنية) بهذا المعنى الموسع يثير التساؤل حول نوع توجه المعالج أو المرشد أو الأخصائي الاجتماعي القادر عليه ، ويشير بوضوح إلى أهمية اختيار أولئك المهنيين وإعدادهم الإعداد الكافي ليكونوا هم أنفسهم من أهل السلامة في الاعتقاد، والحياة في القلب، والاستقامة في السلوك، وكلما اقترب المهنيون المساعدون من هذا النموذج المثالي كلما ازدادت احتمالات نجاحهم في العمل من منظور إسلامي .

هناك قضية أخرى تتصل بكيفية تعامل الأخصائي الاجتماعي المسلم مع ما قد يحدث من رفض بعض أنواع العملاء للتعاون مع الأخصائي على هذا المستوى المتعمق الذي يتطلبه العمل في المنظور الإسلامي، وهنا نقترح أن يكون لدى الأخصائي الاستعداد دائمًا للعودة للتعامل مع العميل – في مثل هذه الحالة – إلى مستوى التعامل الأكثر سطحية والذي ألفناه  في الكتابات التقليدية للخدمة الاجتماعية والذي يقتصر على الأمور الدنيوية القريبة، على أن يتم هذا الانتقال – إذا حدث – بنفس راضية ودون أي غضاضة أو مرارة من جانب الأخصائي، انطلاقًا من الإيمان بأن (الهدى هدى الله) وبأن الله سبحانه وتعالى (يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطى الدين إلا لمن يحب) وضمانًا لعدم انقطاع العلاقة بين الأخصائي والعميل، بل إنه من الممكن القول أن عملية الرجوع إلى المستوى المألوف من التعامل بنزاهة وتجرد من جانب الأخصائي لا يزيد العميل إلا اطمئنانًا إليه ، وقد يكون هذا هو الضمان لعودة العميل لطلب المعونة في الوقت الذي يناسبه، وبالإيقاع الذي تحتمله حالته .

2- مساعدة العميل على الاعتراف بأنه يواجه مشكلة لا يستطيع حلها وحده، ومساعدته على الاعتراف بأنه بحاجة للمساعدة، والاعتراف بأن حل المشكلة يتطلب ما هو أكثر من مجرد الحصول على المساعدة السطحية المألوفة، فقبول العميل بكل هذه الحقائق شرط لابد منه لتوافر الرغبة والعزم على تحقيق التغييرات الجذرية التى يتطلبها العلاج من المنظور الإسلامي، ولعل مما يعين الأخصائي في هذه المهمة أن يدرك أن العميل ما دام يواجه في الوقت الحالي صعوبة أو ضائقة أو مشكلة فإنه يكون مهيأ للتخلي عن حال الشعور الزائف بالسيطرة على وجوده {أن رآه استغنى} الذي يرتبط في أحوال السلامة بشيء من الكبر الذي يعوق الاعتراف بالقصور أو التقصير، ومن هنا فإن الموقف الإشكالي قد يكون من مظاهر رحمة الله به، إذ إنه يعطيه الفرصة لرؤية الواقع من منظور جديد، فيقبل المساعدة في توجيه حياته بشكل أكثر عمقًا في اتجاهات أكثر صحة وأقرب إلى تحقيق رضاء الله سبحانه وتعالى .

3- البدء في إجراءات تقديم العون والمساعدة لإشـــباع الحاجــات الدنيوية (المادية والنفسية والاجتماعية) التى تتطلبها مواجهة الموقف العاجل الذي يعاني منه العميل على الوجه المعهود في الممارسة المهنية التقليدية ، وذلك حتى يطمئن العميل من جهة لرغبة الأخصائي الحقيقية في مد يد العون له ، وحتى لا يتوهم أن العمل من منظور الإسلام يتنكر لإشباع الحاجات الإنسانية الطبيعية أو ينكرها .

4- مساعدة العميل -في الوقت ذاته- على إعادة النظر في الطريقة التى يسوس بها حياته حاليًا، وإدراك العلاقة بين الطريقة التى يحيا بها وبين الوقوع في المشكلات ، ليتبين له أنه يسير في طريق مسدود ، طريق الاعتماد على البشر بدلاً من الاعتماد على رب البشر، وليتبين له أنه لاخيار أمامه – إذا لم يحدث التغيير المرغوب – إلا استمرار السير في طريق الشقاء النفسي والمعاناة الروحية، في مقابل ما يمكن أن يحققه من خير بالتغير والسير في طريق التوكل على الله -سبحانه وتعالى- والرضا بحكمه، على أساس أنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد ، وأنه لا يرضى لعباده إلا الطاعة والامتثال لأمره وإلا خذلهم ووكلهم إلى أنفسهم وإلى حياة من الضياع والخسران في الدنيا وفي الآخرة .. فإذا أراد الله للعميل التوفيق فأراد معرفة الطريق، فيتم الانتقال معه إلى الخطوة التالية، وإن أعرض ونأى بجانبه ولم يُرد إلا الحياة الدنيا، فإن الأخصائي – بعد أن بذل جهده – لا يكون أمامه إلا التسليم بموجب {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (القصص: 56) ، ثم تنبيه العميل إلى أنه على استعداد دائمًا للمساعدة ، والدعاء له بخير، مع تجنب ما يوحي بالإزراء به أو توجيه اللوم إليه.

5- بدء برنامج ( التنمية الروحية) المتدرجة مع العملاء الذين استجابوا لما يحييهم، والذي يستهدف إزالة الران الذي أحاط بالقلب، واستعادة صفاء الفطرة ونقائها، والذي يتم من خلال التدريب على القيام بمقادير محسوبة من كل من العبادات والطاعات، في إطار مواقف الحياة العادية، ويلاحظ أن نجاح هذا البرنامج في هذه المرحلة مرهون باقتناع العميل بحاجته إلى التغيير، واقتناعه بحاجته إلى الانتقال من الحياة التى تركز على الحاجات الدنيا وحدها إلى الحياة التى تركز على الحاجات (الكلية) للإنسان – أي إلى إحياء روحه مع عدم التنكر لحاجات بدنه ، وهذا يقتضى مساعدة الأخصائي للعميل على اختيار المستوى الملائم كمًّا ونوعًا من بين الوسائل والأدوات الآتية، والسير به بشكل متدرج في معارجها بحسب وسعه ووفق درجة استعداده، في الوقت نفسه الذي يتم فيه التعامل مع الموقف الإشكالي، ويتم فيه تقديم الخدمات المادية والعينية المناسبة لمن هم في مثل حالته :

أ – العبادات: يلاحظ أن العبادات عمومًا لا يترتب عليها أي إشباع للحاجات البدنية أو الدنيوية ، وأنها تتضمن على العكس من ذلك توقفًا (محسوبًا) ومتكررًا بصفة منتظمة عن ممارسة الحياة العادية وعن إشباع الحاجات المادية، وهذا يؤدي بالتدريج إلى إفساح المجال أمام سيادة الروح على متطلبات الوجود الأخرى في تلك الأوقات، فالإنسان يدخل في العبادة، ولنضرب لها مثلاً هنا بالصلاة – يدخلها كائنًا دنيويًّا عاديًّا يسود تيار الشعور عنده الانشغال بمتطلبات البقاء الدنيوية المعهودة، ولكنه مع الدخول في نية الصلاة ثم البدء في القراءة يبدأ في الالتفات عن هذا النمط الدنيوي المعتاد إلى مناجاة ربه، مشبعًا بذلك لحاجات روحــه ، ويتدافع النوعـــان من الوعي (الانشغال بما هو أرضى دنيوي، والتطلع إلى ما هو أكثر دوامًا : الارتباط بالله عز وجل) وكلما كسب أحدهما أرضًا ازدادت قدرته على مدافعة الآخر وهكذا، فإذا صدق العزم فإن الموقعة تنتهي وقد ازدادت الروح هيمنة على الحياة، وكلما اعتاد الإنسان الاستغراق في العبادة اعتاد سيطرة الروح على متطلبات البدن، واعتاد تحمل المشاق النفسية والبدنية التى يتطلبها حسن التعامل مع الناس، وارتفعت عنده عتبة الإحباط النفسي ، فابتعد عن تجاوزات الجبلة الطينية من جزع وهلع وشح وكبر، فيحسن توافقه مع نفسه ومع الناس نتيجة لارتقائه في مدارج السالكين إلى الله سبحانه وتعالى.

ب – الطاعات: تتفق الطاعات العملية والأعمال الصالحات (مثل صلة الأرحام، وإكرام الجيران والضيفان، والسعى في مصالح الضعفاء) مع العبادات في أنهما تتطلبان جهادًا للنفس لحملها على إفساح المجال للروح، والسير في غير طريق الإلف والاعتياد، وغير طريق الراحة البدنية والدعة، ولكنهما تختلفان من حيث إن العبادات تقصد بطريق مباشر إلى إخلاء تيار الشعور من الاهتمامات الدنيا صعودًا إلى الاهتمامات الأعلى مع حد أدنى من اشتغال البدن، في حين أن الطاعات والأعمال الصالحات تحتاج لكي تتم اشتغال البدن بكليته مع احتلال الاهتمامات العليا لتيار الشعور ولو بشكل جزئي؛ لأن الطاعات لا يمكن أن تبدأ أصلاً ولا أن تستمر إلا بنية وبدافع من قوة روحية (واعية) مريدة لإتمام أعمال الخير، وبهذا فإن العبادات والأعمال الصالحات إنما هما طريقان لتحقيق نفس الهدف الواحد، ألا وهو إحكام هيمنة الروح ( الساعية إلى الصلة بخالقها) على الحياة (الكلية) للإنسان، بحيث تبتعد به عن استمرار ذلك الميل الطبيعي إلى التجاوز الناتج عن الخضوع لمطالب الجسد الدائمة الإلحاح .

ج – الذكر والتلاوة: معلوم أن العقل البشري لا يكف عن العمل والتفكير، والعقل مناط الوعي، وحجم النشاط العقلي الواعي يفيض كثيرًا عما يحتاجه التفكير فيما تتحقق به مطالب البقاء الدنيوية، وفائض النشاط العقلي إما أن ينفق فيما خلق له من ذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتمجيده، أو أن يهدر في التفكير فيما هو أدنى من ذلك كثيرًا، ولذلك فقد نهى القرآن الكريم عن الغفلة وتوعد الغافلين بأشد العقوبات؛ لأن الغفلة قمة النكول عن القيام بحقوق الخالق الذي خلق العباد لطاعته وذكره وتسبيحه، دون أن يحرمهم في الوقت ذاته من التفكير وإعمال النظر فيما يصلح به أمرهم من شئون الدنيا، ومن هنا فإن معاونة الأخصائي للعميل على مداومة الذكر وتعهد القرآن الكريم بالتلاوة والتدبر تعنى مساعدته على الارتباط المتواصل بخالقه من الناحية العقلية – ومن جهة الوعي – مما يدعم تأثير العبادات والطاعات، ومما يؤثر في القلب فيلزمه الاطمئنان والاستقرار بدلاً من التشتت والاضطراب {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين} (الإسراء: 82) .

6- إعادة النظر في المشكلة الأصلية وفي طرق الاستجابة لمواقف الحياة في ضوء جديد: إذا نجحت جهود الأخصائي والعميل في تحقيق مستوى أرقى من النمو الروحي عند العميل فإنه يكون الآن مستعدًّا لما يلي:

أ – مراجعة المشكلة أو الموقف الذي احتاج بسببه إلى المساعدة، والتعرف على الأسباب الحقيقية لمشكلاته الآن، وقد تخلص بفضل الله من الانفعالات التى تكبل العقل أو تشوش عليه، ثم اتخاذ الإجراءات الواقعية لمواجهة المشكلة أو الموقف وفقًا للخطة العلاجية التى يتفق عليها مع الأخصائي .

ب – مراجعة توجهاته في الحياة بطريقة جذرية، واستعادة توازنه فيها، بما يكفل له بإذن الله سيطرة على نفسه ليسير في طريق الله ضمن وفد عباده الصالحين .

7- التدعيم والتثبت: إن تحقيق أي مرتبة أرقى من مراتب الحياة الروحية لا يعني الثبات عليها، فالقوى المؤثرة إيجابًا وسلبًا في التكوين الإنساني فعالة متحركة على الدوام، ومن هنا فإن من الضروري معاونة العميل على حماية مواقعه وتثبيت دعائمها ، بل والعمل الدائب نحو كسب مواقع جديدة وذلك من خلال :

أ – التاكيد على الثقة في الله جل وعلا، وتوقع التوفيق منه سبحانه وتعالى لمن أقبل على سلوك طريقه، والاطمئنان إلى معونته ونصره لمن أطاعه واتقاه، مما يؤدي إلى تثبيت قلب العميل، ومعاونته على الاستمرار على النهج حتى يلقي ربه غير مبدل .

ب – توقع الدعم من ملائكة الرحمن لأولئك الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، بما يزيد الثقة في سلوك الطريق إلى الله سبحانه وتعالى ، مع البِشْر والتفاؤل الذي يرفع الروح المعنوية، ويقوى المناعة الداخلية، ويساعد على بلوغ الغاية .

ج – التحذير من نزغات الشياطين ، والتعرف على الطرق التى يتخذها الشيطان وقبيله لإضلال البشر، وبيان الطرق التى يتم التحصن بها من تأثيره، وذلك لمساعدة العميل على إغلاق أبواب النكوص والتراجع، ثم مساعدته على الثبات أو المضي قدمًا بإذن الله .

النوع الثالث : حالة فساد الاعتقاد وسقم القلوب :

يتمثل العلاج في هذه الحالة أساسًا في العمل على تصحيح العقيدة أولاً حتى ينفتح الباب أمام إمكانية إصلاح القلب، ويتضمن ذلك تحديد مناطق الاختلال في الاعتقاد ، التى ترتب عليها متابعة الأهواء والشهوات، التى تسببت بدورها في حدوث المشكلات السلوكية التى يواجهها العميل، ثم العمل على إزالة تلك الاختلالات، وإعادة تعليم العميل ما ينبغي أن يحل محلها من سليم الاعتقاد سواء قام الأخصائي بذلك بنفسه أو بالتعاون مع أهل العلم ممن هم أقدر منه على ذلك الأمر. وعلى كل حال فإن العمل مع هذا النوع من العملاء يتطلب إلماما كافيًا من جانب الأخصائي بأشكال الانحرافات العقدية الهامة الشائعة في منطقة عمله، كما يتطلب تمرسًا في فهم الجوانب المتصلة بها والرد عليها في نطاق علوم أصول الدين. ويلاحظ أنه بعد إتمام مرحلة تصحيح العقيدة من الشركيات والبدع والخرافات، فإن على الأخصائي الاجتماعي المسلم أن يسير في تدخله المهني وفقًا للاستراتيجيات التى سبق وصفها بالنسبة للعملاء من النوع الثاني، والتى لا نحتاج إلى تكرارها هنا مرة أخرى.

خاتمة

لقد حاولنا في هذه الورقة تقديم مثال عملي لتطبيق (المرحلة الأولى) من مراحل منهجية إسلامية المعرفة على أحد الموضوعات المهنية المتخصصة في محيط الخدمة الاجتماعية وغيرها من مهن المساعدة الإنسانية، وبالتالى فإنه سيكون من الميسور على القارئ المتخصص متابعة الموضوع سواء من جهة (المحتوى) أو من جهة (إجراءات التطبيق) للمنهجية، أما القارئ غير المتخصص فقد لا تعنيه بعض تفصيلات المحتوى، والطبيعي أن ينصرف الاهتمام في هذه الحالة إلى عملية التطبيق وإجراءاتها ، ولهذا فإننا قد اختططنا طريقًا وسطًا في العرض رجونا أن يحقق هدفنا المحدود، فلم نقصد استيفاء الموضوع عرضًا كما ينبغي لحاجة القارئ المتخصص ، ولم نهتم كثيرًا بالتوثيق التفصيلي للمادة المعروضة حتى لا نقطع السياق أمام القارئ غير المتخصص، وذلك اعتمادًا على أن من شاء الرجوع إلى المادة العلمية التفصيلية من المتخصصين فيمكنه الرجوع إلى موضع آخر بسطنا القول فيه حول تلك القضايا . (رجب ، 2000) .

ولكن من الضروري أن نؤكد الآن مرة أخرى على ما سبق أن ذكرناه من قبل من أن هذه محاولة (جزئية) بمعنى أنها تقتصر على المرحلة الأولى من المراحل المنهجية لعملية إسلامية المعرفة ألا وهي مرحلة (التنظير) كما قدمنا، والتى نحاول فيها إيجاد نوع من التكامل بين معطيات الوحي ومنجزات الخبرة الإنسانية بالنسبة لهذا الموضوع، وأن نؤكد أن مثل هذه المحاولة إنما تمهد السبيل أمام المرحلة الثانية ألا وهي مرحلة (البحوث والممارسة) للتثبت من القيمة العلمية والعملية لهذا الاجتهاد البشري من جهة، ثم لتطويره وتفصيل محتواه وزيادة تمايزه من جهة أخرى، وذلك على الصورة المتعارف عليها في حركة العلم وتقدمه الدائب .

ولقد يكون من المفيد أن نعطى هنا بعض الأمثلة لبعض التساؤلات البحثية والقضايا المستمدة من هذا الإطار التصوري المتكامل الذي عرضنا بعض عناصره في الصفحات السابقة، والتى يمكن استنباط فروض منها يتم اختبارها في (مشروعات بحثية) وكذلك بعض الأمثلة للقضايا التى يمكن اختبارها من خلال (الممارسة المهنية) في العمل المباشر مع العملاء الذين يواجهون هذا النوع من المشكلات . فأما بالنسبة للتساؤلات والقضايا القابلة للاختبار فمن أمثلتها ما يلي :

1- هل توجد علاقة بين درجة الارتقاء الروحي ( أو درجة التدين) عند الفرد وبين احتمال (عدم) الوقوع في المشكلات الشخصية أو النفسية / الاجتماعية؟

2- وإذا ثبت وجود هذه العلاقة فأي  مكونات هذا المفهوم أكثر ارتباطًا (قدرة على التنبؤ) بالوقاية من المشكلات الشخصية أو النفسية / الاجتماعية ( أداء العبادات، أنواع الطاعات الملموسة، الاتجاهات النفسية المميزة للارتقاء الروحي .. ) ؟

3- ما هي العوامل التى تفسر (تكرار) وقوع الأفراد في المشكلات الشخصية أو النفسية / الاجتماعية ، وما هو موقع العوامل الروحية بين هذه العوامل ؟

4- كيف تتفاعل العوامل الروحية مع بقية المتغيرات السوسيولوجية الأخرى لإحداث أعراض المشكلات الشخصية النفسية / الاجتماعية؟

5- مع ثبات درجة الارتقاء الروحي: هل يتناسب احتمال الوقوع في المشكلات الشخصية أو النفسية/ الاجتماعية طرديًّا مع نقص إشباع الحاجات الدنيوية التى يعتبرها الفرد أساسية ؟

6- دراسات تقويمية لتقدير مدى فاعلية العلاج من المنظور الإسلامي في مواجهة أنواع محددة من المشكلات: السلوك العدواني، المشكلات الدراسية، الجريمة، إدمان المخدرات … الخ .

7- دراسات تقويمية لتقدير مدى فاعلية العلاج من المنظور الإسلامي مع أنواع العملاء: بحسب السن (الأحداث، المراهقـــون ، البـــالغون) ، نمط المعيشة (الريف، الحضر) ، التعليم ( المتعلمون، غير المتعلمين) .

8- دراسات تقويمية لتقدير مدى فاعلية العلاج من المنظور الإسلامي بحسب درجة حدة المشكلة التى تم تحويل العميل بسببها.

وأما بالنسبة للقضايا التى يمكن اختبارها والممارسات التى يمكن بلورتها تطويرًا للنموذج الإسلامي في التدخل المهني من خلال ( الممارسة المهنية) في العمل المباشر مع العملاء الذين يواجهون هذا النوع من المشكلات فمن أمثلتها:

1- إلى أي مدى يستجيب العملاء لمحاولة الأخصائي التعمق لتقدير الموقف فيما يتصل بنوعية حياتهم الروحية.

2- ماهي تحديدًا أشكال وصور المقاومة التى يبديها العملاء من النوع الثاني لجهود الأخصائي عند محاولة مساعدتهم على إدراك وجه الارتباط بين مشكلاتهم وبين نوعية حياتهم الروحية.

3- ما هي الأساليب الفنية التى يمكن أن يتبعها الأخصائي عند ظهور كل صورة من صور المقاومة.

4- حصر ألوان الاحتياج والقصور المحددة التى عادة ما تواجه العملاء من النوع الأول، وتحديد أنسب الأساليب التى تستخدم في معاونتهم.

5- تصنيف العملاء من النوع الثاني إلى فئات أكثر تفصيلاً بحسب درجة النقص في هيمنة الاعتقاد على الوجدان والسلوك، ودراسة أنسب الأساليب للتعامل مع كل صنف .

هذه فقط بعض الأمثلة التى ذكرت بغرض الدلالة على الاتجاه الذي يمكن للبحوث والممارسة أن تسير فيه، وكما ذكرنا فإن نتائج هذه البحوث والممارسات؛ إذ يتم نشرها في الدوريات العلمية المتخصصة ، وإذ يتم مراجعتها ونقدها والحوار حولها بين المتخصصين، ستمثل البدايات الحقيقية الأولى للمادة العلمية المؤصلة إسلاميًّا على وجه الحقيقة؛ لأنها تكون – عندئذ – قد خضعت للتمحيص، وتم التأكد من مطابقتها للشواهد والسنن الإلهية في الأنفس والمجتمعات.

والله الموفق والمستعان، وهو نعم المولى ونعم النصير.

قائمة جزئية بالمراجع

– أجروس وستانسيو (1989) العلم في منظوره الجديد [1984] ترجمة كمال خلايلي (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون الآداب) .

– ابن عاشور، الطاهر (1984) تفسير التحرير والتنوير (تونس : الدار التونسية للنشر) .

– رجب ، إبراهيـــم عبـــد الرحمــن (2000) الإســـلام والخدمـة الاجتماعية (القاهرة : الثقافة المصرية للطباعة والنشر).

– رجـــب، إبراهيــم عبـــد الرحمن (1996) (منهج التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية) المسلم المعاصر، السنة 20، العدد 80، مايو/ يوليو 1996.

– الدباغ، عفاف إبراهيم (1994) المنظور الإسلامي لممارسة الخدمة الاجتماعية (الرياض : مكتبة المؤيد).

– الشناوي، محمد محروس (1991) (الأهداف العامة لمساعدة الأفراد على مواجهة مشكلاتهم النفسية كما تعرضها نظريات الإرشاد والعلاج النفسي الغربية) ، بحث قدم للندوة الأولى للتأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة.

– الفاروقي ، إسماعيل (1982) (أسلمة المعرفة) ، المسلم المعاصر، العدد 32، 1402هـ.

– Anderson, Joseph (1981) Social Work Methods and Processes (Belmont, California: Wadsworth).

– Berger, Robert & Federico Ronald (1985) Human Behavior : A Perspective for the  Helping Professions , 2nd ed. (New York: Longman)

– Canda, Edward (1988) “Spirituality, Religious Diversity and Social Work Practice” Social Casework. April 1988, p.p 238 – 247.

– Merton, Robert (1976) The Sociology of Social Problems” in Robert Merton and Robert Nisbet eds. Contemporary Social Problems. 4th ed., ( New York: Harcourt, 1976).

– Northen, Helen (1987) “Assessment of Direct Practice” in, Encyclopedia of Social Work, 18th ed. Vol. 171 – 183.

– Rubington, Earl and Martin Weinberg, The Study of Social Problems, 5th ed. (New York: oxford Univ. Press, 1995) .

– Williamson  ,  John , et al  . (1974) Social Problems (Boston: Little, Brown & Co).

(*) هذه صورة معدلة من ورقة قدمت في حلقة دراسية نظمتها كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا موضوعها (نحو برنامج تكاملي لمناهج البحث العلمي بين معارف الوحي والعلوم الإنسانية) ، سبتمبر 1997 ، ونشرت صورة مختصرة منها في مجلة العلوم الاجتماعية (جامعة الكويت) مجلد 26 ، العدد 4 ، 1998 .

(**) أستاذ الخدمة الاجتماعية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا سابقًا وبجامعة الملك سعود بالرياض حاليًا  .

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر