أبحاث

نحو آفاق تربوية في عرض التاريخ الإسلامي على الشاشة الصغيرة

العدد 8

إن التعامل مع تاريخنا الإسلامي، من خلال الأطر الفنية عموما والعروض التليفزيونية على وجه الخصوص، يحقق –إذا ما استكمل شروطه الأساسية- نتائج قيمة على المستوى التربوي فضلا عما يقدمه لجمهور المشاهدين من متعة نفسية وحسية وإشباع لنزعاتهم الجمالية الصرفة التي تئول بدورها إلى مردود إيجابي فعال.

إن سلم القيم التربوية التي ينشدها العمل التليفزيوني الهادف سلم واسع المدى كثير الدرجات، يمنح الأديب والفنان مقدارا واسعا من الحرية والعفوية في الاختيار والتركيز دونما أي قدر من التوتر والوعظية والمباشرة.. إن بمقدوره أن يتحرك عبر هذا المدى الواسع لكي يقف عند هذه “القيمة” التربوية أو تلك، حيثما وجد في وقفته تساوقا عفويا منغما مع هيكل عمله الفني ومعطياته وجزئياته، وحيثما رأى تناسبا وانسجاما في اللون والإيقاع والتكوين بين ما يسعى إلى تحقيقه وتعميقه وبين طبيعة نسيج إبداعه الفني: لحمته وسداه.

ونستطيع بقراءة ذكية لكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وبتتبع عميق لحركة الجماعات الإسلامية عبر تاريخها الطويل أن نتبين العديد من هذه القيم التي تصلح دونما تعسف لأن تكون محاور لأعمال فنية تليفزيونية مبدعة تعتمد وقائع وأحداث تاريخنا المزدحم الكثيف.

هنالك السعي من أجل تحقيق النقاء الروحي، وتأكيد التوازن الفعال بين العقل والروح والجسد، بين العلم والإيمان.. وهناك العمل من أجل تنمية قيم البطولة وتعميق مواقف الرفض والثورة، يقابلها العمل من أجل التحقق بالصفاء والانسجام والإحساس الغامر بالتعاون مع سنن الكون والعالم ونواميسه وموجوداته.. وغير هذا وذاك الكثير من القيم التي يتوجب غرسها وتنميتها في كيان الفرد المسلم والجماعة المسلمة من أجل تعزيز شخصيتها وتأكيد ذاتها الحضارية وتمكينها من الوقوف على قدميها لمجابهة صراع العقائد والأفكار والدول والحضارات في عالم يضيع فيه ويفنى من لا يملك شخصية ولا ذاتا..

هنالك على سبيل المثال لا الحصر –ضرورات الالتزام الخلقي بمفهومه الواسع… الاستعلاء على الدنس والمغريات.. تكوين النظرة الشمولية التي ترفض التجزئة والتقطيع.. التوحد بين المعتقد والممارسة، أو النظرية والسلوك… تنمية الحس الجمالي الخالي من الشوائب.. تغطية الفراغ الواسع الذي تمنحه الحضارة المعاصرة بترفيه منضبط.. تجاوز الرومانسية المريضة والذاتية المنغلقة من جهة، ورفض القطيعة البكماء والجماعية الصماء من جهة أخرى.. إدانة الهروب والانزواء أو الذوبان والاندماج..

هناك التنمية العاطفية والوجدانية وفق طرائق سليمة.. امتصاص وتصعيد الطاقة الجنسية المكبوتة.. حل وتفكيك الخوف والإحساس بالنقص وفقدان الثقة.. وسائر العقد والأزمات النفسية التي تجنح بالشخصية عن الحد الأدنى من السوية المطلوبة.. مجابهة القلق البشري المدمر ومنح اليقين.. مجابهة الإحساس العبثي الغاشم وطرح البديل الإيماني في الغانية والجدوى..

وهناك –فوق هذا وذاك- تحقيق الاقتران الشرطي السليم بين الفن والقيم، وطرح بدائل إسلامية مقنعة لمعطيات الفنون الوضعية في ميدان القيم التربوية: الراغماتية، الوجودية، المثالية المادية..

ولن ننسى بطبيعة الحال ضرورات المجابهة الإبداعية لعمليات الهدم والتشويه والتدمير الصهيونية التي نستطيع أن نتلمس أبعادها في معطياتهم النظرية والتطبيقية على السواء.

إنه سلم قيمي واسع الامتداد، كثير الدرجات، ما دام أن الإسلام جاء لكي يغطي تجربة الحياة البشرية بأسرها في امتداديها الأفقي والعمودي على السواء، وما دام أنه –أي الإسلام- كان وسيظل بمثابة موقف متكامل ورؤية شاملة لدور الإنسان في العالم بكل ما تتضمنه هذه العبارة من معنى.

ومن ثم فإن لنا أن نتصور المدى الواسع الذي يمكن أن يتحرك فيه الفنان وهو يعتمد في مقابل هذا وقائع وأحداثا تاريخية هي بمثابة عينات مكثفة لهذه التجربة البشرية أو تلك، ولهذا الموقف أو ذاك وصولا إلى دلالاته التربوية الهادفة.

ومنذ أن وصل التليفزيون بلادنا، وانتشر في عواصمنا وأقاليمنا وشاشته الصغيرة تشهد حشدا متزايدا من العروض الفنية التمثيلية أو المسرحية أو التشكيلية، التي تعتمد وقائع تاريخنا الإسلامي وأحداثه وتجاربه.. ولكن كم من هذه الأعمال حقق هدفا تربويا لملايين المشاهدين المتجمهرين حول هذا الجهاز عبر أوقات فراغهم، يحيط بهم أبناؤهم وبناتهم وإخوانهم وزوجاتهم، الذين أصبح التلفاز بالنسبة إليهم بمثابة زائر يومي مؤثر لا يستطيعون مفارقته وغيابه! كم من هذه الأعمال أنشا قيما بنائية في نفوس الأطفال والصبيان، ونمى وعدل قيما أخرى في نفوس الشباب، وحاور ودارى قيما ثالثة في نفوس الرجال والشيوخ والنساء؟ أكثر من هذا: كم من هذه الأعمال لم يمارس خطيئة بهذا الاتجاه أو ذاك، فيهدم قيما سهرت المؤسسات الأخرى كالعائلة والمدرسة والمسجد على خلقها وبنائها، وينشئ قيما أخرى نقيضة تماما تؤول في نهاية الأمر إلى عملية فوضى أخلاقية وتفكيك تربوي ودمار اجتماعي؟ ولن نتكلم هنا –بطبيعة الحال- عن الأعمال الفنية التاريخية الترفيهية الصرفة التي تعالج المواقف بأسلوب سطحي مباشر، فلا هي تبني ولا هي تهدم وتفكك، وإنما يجيء مفعولها موقوتا بالمدى الزمني الذي تستغرقه، فلا تخلف بعد عرضها أثرا.

وهكذا نجد أنفسنا بإزاء مجموعة شروط تتوجب ملاحظتها والأخذ بها إذا ما أردنا أن نشهد عرضا مسرحيا أو تمثيليا مستمدا من دائرة التاريخ الإسلامي ومستهدفا تحقيق نتائج ومردودات إيجابية، قد لا تكون المتعة الصرفة والإشباع الجمالي سوى جوانب محدودة منها فحسب.

وأول هذه الشروط هو الالتزام: أن يمتلك الفنان –أولا- تصورا شاملا متكاملا صحيحا للكون والحياة والتاريخ والإنسان، من خلال الرؤية الإسلامية المتفردة، يوازيه انفتاح وجداني وتوتر نفسي لا ينضب له معين إزاء الكون والحياة والتاريخ والإنسان.. ومن بعد هذا يجيء الالتزام عفويا، متساوقا، منسابا.. علاقته بالإبداع الفني لا تقوم مطلقا على القسر والتكلف والإكراه، ولا تعترف أبدا بالمدرسية أو الوعظية أو المباشرة.

إن الالتزام بمفهومه الواسع هذا، والذي يرفض التسطيح والإرشاد والخطابية، هو الذي يستطيع أن يتعامل مع وقائع التاريخ الإسلامي وأحداثه وتجاربه تعاملا فنيا جماليا أصيلا، فلا يقف عند حدود الواقعة التاريخية يعرضها بتفاصيلها وجزئياتها، كما نشهد في الكثير من الأعمال التليفزيونية، الأمر الذي يجعلها لا تعدو أن تكون “درسا” تاريخيا لا تتعمق إسقاطاته الضمائر والعقول والنفوس، وإنما يتجاوز –الفنان الأصيل- الواقعة إلى ما وراءها من قيم ودلالات ورموز وإرهاصات فيكثفها بقدرته على التركيز، ويشحنها بوجدانيته وتعبيريته، ويجعلها تمنحنا بعفوية بالغة، وبتأثير عميق في الوقت نفسه، المزيد من القيم التربوية البنائية التي تسهم –بشكل غير مباشر- في تنمية حياتنا وإغناء خبراتنا وتعزيز شخصيتنا الحضارية وتأصيلها.

وثمة حشد كبير من الفنانين الذين ينتمون لعدد من المذاهب الوضعية، وبخاصة المادية التاريخية، يعتمدون مفهوم الالتزام الفني لتأكيد وتعزيز قناعاتهم الخاصة على حساب معطيات التاريخ الإسلامي نفسه، ويخرجون على الناس بأعمال تليفزيونية، تمثيلية أو مسرحية، تحمل نفسا ماديا طبقيا صرفا، كانوا على استعداد –من أجل بعثه في أحداث تاريخنا- لأن يغيروا حتى بداهات هذا التاريخ ويعيدوا صياغة مواده الأولية من أجل أن تعينهم على تكوين الصورة الفنية التي يلزمهم بها انتماؤهم المذهبي.. رغم أنها تند بكلياتها وتفاصيلها عن روح هذا التاريخ وملامحه وبنيته وشخصيته المتميزة، وملامحه المتفردة.

وهكذا يبدو أن الالتزام، كما هو الحال بالنسبة لكثير من المواقف البشرية، سلاح ذو حدين، ولن يكون وقوفنا بوجه هذا السيل التحريفي المدمر الذي يغير معالم تاريخنا بدلا من أن يستعيدها ويستوحيها، والذي يدمر أسس تربيتنا بدلا من أن يبنيها وينميها، لن يكون وقوفنا جادا فعالا إلا بإبداع مزيد من الأعمال الفنية الإسلامية الملتزمة من جهة، وتأكيد وتعميق معطياتنا النقدية، من خلال “نظرة إسلامية” في الجمالية والنقد، من جهة أخرى.

وفي مقابل هذا الالتزام “المعكوس” نجد حشدا من الفنانين الذين لا ينتمون لأي فكر أو عقيدة، يأتون إلى ساحة التاريخ الإسلامي، فيختارون بعض وقائعه، ويعيدون صياغتها وتركيبها وعرضها فنيا من زاوية رؤية شخصية مزاجية حينا، تجارية مرتزقة أكثر الأحيان.. فإذا بأخطر وقائع هذا التاريخ تتحول في جوهرها إلى قصص حب جارف وغرام ملتهب يكون بمثابة السبب الأكبر والأهم وراء الأحداث والإنجازات التاريخية الكبيرة بما فيها المعطيات العقيدية الصرفة.. وإذا بالعديد من الشخصيات التاريخية التي نزفت –عبر كفاحها الطويل- عرقا غزيرا ودما كثيرا، وانتهى بها الأمر –في بعض الأحيان- إلى الاستشهاد، إذا بها لا “تتحرك” في كفاحها هذا إلا من خلال عاطفة حب جارف وهيام عنيف أسر بالمحبوب.. رغم أن العناصر “الدرامية” التي تعد إحدى المقومات الأساسية للعمل الفني المبدع قد لا تقوم في أحيان كثيرة على علاقات التقابل المأساوي بين الحبيب والمحبوب.. وما أكثر ما تتواجد هذه العناصر في أنماط أخرى من التجارب التي يزخر بها تاريخنا بدءا من الصراع الذاتي ضد قوى التفكيك والتدمير للشخصية البشري، من أجل تحقيق توحدها ونقائها وانسجامها، وانتهاء بالسعي الدائب للتحقق بالقرب من الله.. المحبوب الأكبر والأعظم.. مرورا بالممارسات الجهادية على الجبهات الواسعة ضد الطواغيت التي تسعى إلى سحق مطامع الإنسان والجماعة المسلمة… هذا فضلا عما تتضمنه الكثير من الوقائع التاريخية من عناصر “المفاجأة” و”البطولة” و”المأساة” والاحتدام العاطفي أو الوجداني، والتي يمكن للفنان أن يكتشفها عبر تجواله في ساحات هذا التاريخ فيصنع منها أعمالا فنية إبداعية مؤثرة.

فإذا ما غادرنا شرط الالتزام الذي يتوجب أن يكون حذرا –كما رأينا- من منزلقي الوعظية والتحريفية، وتفحصنا الشروط الأخرى لجعل الواقعة التاريخية في خدمة الفن وبالتالي في خدمة القيم التربوية، كان لا بد أن نشير إلى ضرورة تجاوز التكرار الممل والوقوف الدائم عند مساحات بالذات من تاريخنا الخصب، الطويل، رغم أن العناصر “الدرامية” في هذه المساحات قد لا تكون أكثر كثافة وتعبيرية عن مساحات ووقائع أخرى لم تمتد إليها –حتى الآن- يد فنان..

إن الأهمية الدينية الصرفة لبعض وقائع تاريخنا ومساحاته تحمل ولا ريب أهميتها العقيدية والتاريخية، ولكنها قد لا تطاوع ضرورات الإبداع الفني، وبالتالي فهي إما أن تفقد قدرتها التعبيرية وتأثيراتها وتتحول إلى عملية سرد تاريخي فحسب، وإما أن يجد الفنان نفسه مضطرا لكسر بعض الحواجز التي تحتمها الاعتبارات الدينية نفسها، فيقع في أخطاء ما كان سيقع في أسرها لو أنه عرف كيف يختار الوقائع والأحداث.

إن على الأدباء والفنانين اليوم أن يبحثوا عن مساحات جديدة في أمداء تاريخنا المتدفق، الثر… وإنهم –يقينا- واجدون هناك من الوقائع والأولويات ما يمكن أن يصنعوا منه أعمالا فنية عظيمة قد تحقق من القيم الجمالية والتربوية الأكثر والأعمق.

هنالك –أيضا- ضرورة تحقيق قدر كبير من “التواصل” بين التاريخ والواقع، أي بين الماضي والحاضر.. أن يسعى الفنان إلى كسر الجدار الزمني لتعصير الواقعة التاريخية، أو لنقلنا –بالمقابل- إلى قلب التاريخ لمعايشة وقائعه والتفاعل مع معطياتها.. إن تحقيق هذا التداخل الزمني يمثل ضرورة فنية وموضوعية في الوقت نفسه.. ضرورة فنية لأنه يجعلنا نقف في قلب الواقعة التاريخية التي تملك حينذاك، ومن خلال التكنيك الفني المتمكن، قدراتها الكبيرة على التعبير والتأثير.. وضرورة موضوعية لأنه سيخرج الفعل التاريخي من سكونيته وأسره الزمني ومتحفيته وتسطحه، ويعيد إليه الحياة كفعل دائم التدفق والتمخض.. فعل يتحرك باستمرار لكي يصب في بحر وجودنا الراهن فيغنيه ويحفزه ويجعله أكثر أصالة بتلقيه الدم الحار من رحم تاريخه هو، وماضيه هو، فلا يغدو هجينا..

لقد تعامل كتاب الغرب وفنانوه الجادون مع تاريخهم، وبمجرد أن نلقي نظرة متمعنة على نتاجهم التمثيلي والمسرحي في هذا المجال، فإننا سنجدهم يتجاوزون –في كثير من الأحيان- الوقوف السالب أمام الواقعة التاريخية.. الوقوف الذي يسجل حركة التاريخ في جانب ما من جوانبه تسجيلا فوتوغرافيا، فلا هو يضيف شيئا جديدا، ولا هو يسعى إلى إعادة تركيب الواقعة بما يجعلها أكثر تأثيرية من مجرد عرضها المتحفي الصرف.. لقد تجاوزوا هذا الموقف لأنهم لا يريدون أن يقدموا لنا عروضا “تعليمية” عن تاريخهم، فلتلك العروض رجالها ومجالاتها المدرسية المعروفة، ولكنهم يسعون إلى تحقيق قدر من التوافق بين رؤية الفنان البعيدة وأمانة العالم والتزامه.. بين الذات والموضوع.. بين ما كان وما هو كائن وما يمكن أن يكون.. إنهم يتجاوزون عملية وصف الأحداث وصفا عرضيا، لكي يتوغلوا باتجاه العمق لاستجاشة كل القيم النفسية والتربوية التي يمكن أن يحدثنا عنها الفعل التاريخي وهو يتمخض في صيرورته الدائمة عن مزيد من القيم والمؤثرات والتشكيلات التي تهم الإنسان المعاصر وتلامس واقعه وأحلامه وأمانيه.

إننا نقرأ على سبيل المثال: “بكت” لجان آنوي و”الأرض كروية” و”ليالي الغضب” لسلاكرو و”أنطونيوس وكليوباترا” لشكسبير و”العادلون” و”كاليغولا” لكامي و”هنري الرابع” لبيرندللو و”الذباب” لسارتر و”تاج على ميتة” و”مالاتستا” لمونترلان.. فنجد أنفسنا أمام أنماط “حركية” من التعامل مع الواقعة التاريخية تتمثل فيها الشروط التي يتوجب على الفنان المسلم، الذي يسعى إلى اعتماد التاريخ الإسلامي في بناء أعماله، أن يفيد منها ما وسعته الإفادة، لاسيما وأن تاريخنا الخصب يتضمن من الوقائع والأحداث ما يمكن أن يمنحنا المزيد من الدلالات المكثفة والقيم الموحية والمؤثرات التي ترفض أن يأسرها زمان أو مكان.

إن العمل الفني الذي يعتمد الأرضية التاريخية ليس –من جهة أخرى- ترفا فكريا أو جماليا محضا، لكي يفصل التاريخ عن الواقع ويعرضه كما لو أنه عالم قائم بذاته لا يمنحنا إلا “جمالية” نسبية قد لا يكون لها أي تأثير تربوي فعال على تجربتنا الحية المعاشة. ومن ثم فإن تحطيم الفاصل الزمني وتحقيق التواصل بين تجربتنا الماضية وحياتنا الراهنة سيؤول إلى إغناء العمل الفني وتجاوز حدوده الجمالية الصرفة إلى الفعل والتغيير والبناء.

إن الفنان “المادي” يمارس هذا الأسلوب وهو بصدد خلق مؤثرات فكرية وتربوية من خلال إبداعه الفني.. ومعنى هذا أن يتحول تاريخنا إلى “أداة” تتداولها أيد “غريبة” لم تتواصل مع هذا التاريخ ذلك التواصل الطبيعي الذي يرفض التزييف والتحريف.. إن تاريخنا يتحول على أيديهم إلى حاضرنا لكي يعانقه.. لكنه بعد أن يصل مرحلة اللقاء والعناق هاتين يكون قد أضاع هويته وفقد شخصيته.. وفي مقابل هذه الخطيئة، وكبديل عنها، يجب أن يتحرك الفنان المسلم فيكسر جدار الزمن ويصل بين الماضي والحاضر، بين التاريخ والبين الواقع لكي يمنحنا، من خلال إبداعه الفني، القيم الكبيرة التي تمكننا من تأصيل شخصيتنا وحماية ذاتنا الحضارية في مواجهة غزو فكري وتربوي لن يلقي سلاحه قبل أن يمحو هذه الشخصية محوا ويدمر هذه الذات تدميرا.

وثمة –فضلا عن هذا- مشكلة إيجاد بديل فني مناسب لتغطية الفراغ الذي يحتمه اختفاء بعض الشخصيات الخطيرة ذات المكانة القيادية المتقدمة في تاريخنا كالأنبياء عليهم السلام وكبار الصحابة رضي الله عنهم.. لقد استطاع بعض الفنانين –فعلا- تجاوز هذه المشكلة دون أن يلحق ذلك أي ضرر يذكر بأعمالهم. ولكن الاتجاه السائد الآن –على مستوى التليفزيون والسينما- هو المزيد من “رفع الحرج” في عرض شخصيات كهذه بشكل مباشر، الأمر الذي تترتب عليه نتائج تربوية سيئة بالنسبة للصغار بوجه خاص.. إنهم –على سبيل المثال- يرون الرجل الذي قام قبل شهر أو شهرين بدور “خالد بن الوليد” رضي الله عنه يظهر في تمثيلية أو مسرحية تالية فاسقا شريرا أو متملقا ذليلا.. وهم يرون المرأة التي قامت بدور “الشيماء” أخت الرسول عليه السلام تبرز في عمل آخر بدور امرأة ساقطة.. فيحدث ذلك في تصوراتهم الكثير من الكسور والشروخ، هذا فضلا عن أن أي ممثل معاصر لن يكون مهما بلغ من نقائه الخلقي وسمو تجربته، بالمستوى الذي يمكنه من تجسيد دور هذا الصحابي أو ذاك.. ومن ثم فإن على الفنان المسلم أن يجد بديلا فنيا، يتميز بالمرونة والدوام، لمنع تكرار هذا الظاهرة والتعويض عن الفراغ الذي يتمخض عنها. ولن يتم هذا إلا بتعاون كافة عناصر العمل الفني التمثيلي: المؤلف والسيناريست والمخرج ومهندس الديكور والممثل.

إن هذا يقودنا إلى قضية أخرى وهي أننا في تخطيطنا للإفادة من الشاشة الصغيرة في هذا المجال يجب أن نذكر أن العمل “التمثيلي” ليس إنجازا بسيطا يترتب نجاحه على هذا الظرف أو ذاك ولكنه جهد “مركب” لن يمضي إلى هدفه ويتحقق غايته المرجوة إلا من خلال تضامن وتكامل عدد من العناصر الفعالة التي ذكرناها قبل قليل، وإنها لا بد أن تملك حدا أدنى –على الأقل- من الرؤية المشتركة والالتزام.

ورغم ذلك يبقى النص هو الأساسي، حجر الزاوية التي لا بد منها لقيام العمل الفني الجاد الملتزم. فالمؤلف هو الذي “يضع” هذا العمل، يختار مواده الأولية، ويحدد أبعاده الزمنية والمكانية، ويضع صيغته شبه النهائية، وينفخ فيه من روحه فيمنحه وجوده وشخصيته.. وإن كل ما سيتم بعد ذلك على أيدي الفنانين، وبخاصة المخرج والممثل سوف لن يعدو عملية تحويل لهذا العمل الأدبي من صيغته التعبيرية التي تقوم على الكلمة إلى صيغة تعبيرية تقوم على الحركة.

تبقى بعد هذا مسألة مهمة كنا قد ناقشناها في مقدمة مسرحية “المأسورون”، ولا بد من مناقشتها هنا أيضا نظرا لارتباطها الوثيق بالموضوع، تلك هي طبيعة العلاقة بين الشكل والمضمون في العمل التمثيلي. والسؤال يطرح نفسه مرة أخرى: هل ثمة ضرورة لإعادة صياغة الشكل المسرحي أو التمثيلي بما يتفق والمضامين الإسلامية؟ وهل ثمة ارتباط عضوي حيوي بين التصور والتجربة الإسلاميتين وبين الشكل المسرحي أو التمثيلي الذي تحتلاه؟

ويجيء الجواب –هنا كذلك- بنعم ولا…

نعم، لأن الخلافات الجذرية بين المضمون الإسلامي وسائر المضامين الدينية والوضعية، على درجة من العمق تمد تأثيرها المباشر على الشكل المسرحي الذي سيتخذ مجالا لطرح هذه المضامين فنيا.. وهذا التأثير المباشر سيظل يزداد امتدادا وعمقا وتشابكا بين الشكل والمضمون كلما ظهرت إلى الوجود مسرحية أو تمثيلية إسلامية جديدة.. إلى أن يأتي يوم نجد فيه أنفسنا وجها لوجه أمام وحدة عضوية لا يمكن فصمها بين المضمون والشكل في المسرح الإسلامي، خاصة أن الإسلام يفرض على الإخراج المسرحي أو التمثيلي –كما رأينا- تعديلات ذات أهمية بالغة يجب مراعاتها إذا ما أريد للعمل الفني أن يحافظ على طابعه.. وتحفظات في انتقاء عناصر التمثيل وأزيائهم، وفي حجب بعض الشخصيات ذات المكانة الخاصة عن الأنظار والاكتفاء بنقل أصواتهم أو اعتماد عناصر تمثيلية أخرى (كالمنادين، الكورس، تكنيك المسرح داخل المسرح) لننقل إلى المشاهدين ما يدور خلف المشاهد من أحداث. وفي تصميم الديكور وتحديد طابعه العام، وفي تنظيم المؤثرات الصوتية واختيارها.. كما أن المضمون –من جهة أخرى- يفتح مجالات جديدة وآفاقا واسعة أمام المخرج، ويدخل إلى الخشبة شخوصا وأدوارا لم تألفها المذاهب الأخرى، ويحتم عليه استخدام مزيد من الإمكانات والمؤثرات والوسائل المسرحية، وأن يجري تغييرات أساسية في التكنيك لكي يستطيع الاستجابة لهذه المطالب من جهة، ولكي يغطي على التحفظات من جهة أخرى.

إن ارتباط المضمون بالكل المسرحي أصبح من الأمور المألوفة في عالم التمثيل في العصر الحديث، وبخاصة في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.. لا سيما بعد التجارب التي مارستها المذاهب الجديدة في ميدان الشكل المسرحي، كمحاولات “برشت” في مسرحه الملحمي و”بيتر فايس” في مسرحه التسجيلي” و”بكت” و”يونسكو” و”آداموف” و”جينيه” في مسرحهم الطليعي (مسرح العبث واللامعقول)… وكلما ازداد رواد هذه المذاهب وتلاميذهم عطاء، ازداد التشابك بين مضامينهم المسرحية وأشكالهم، الأمر الذي يدفع إلى القول بأن المسرح الإسلامي سيكون أشد ارتباطا بين الشكل والمضمون، نظرا للخلاف الجذري الحاد بين منهجه وتصوره، وبين المناهج والتصورات الأخرى، هذا فضلا عن الخلافات في الشكل نفسه، بينه وبين المذاهب الأخرى. مما ذكرنا ببعض جوانبه قبل قليل.

وتحديد ملامح الشكل المسرحي أو التمثيل الإسلامي ليس من شأن النقاد الدارسين بقدر ما هو من شأن الكتاب المسرحيين أنفسهم. فما دام “الشكل” مسألة دينامية، فإن المعطيات التمثيلية نفسها هي ستحدد بمجموعها –في مستقبل قريب أو بعيد- ملامح هذا الشكل. ولو صادف أن وجد النقاد –الآن- تراثا مسرحيا إسلاميا لكان بإمكانهم أن يستنبطوا هذه الملامح.. إلا أن معظم ما هو موجود من أعمال مسرحية لا يتعدى –إلا في القليل النادر- المسرح التاريخي الكلاسيكي الذي يعتمد اقتطاع فترات وعينات من التاريخ –أبطالا وأحداثا- لعرضها على المسرح أو الشاشة الصغيرة. وهذا الاتجاه يستوي فيه المسرح التاريخي الإسلامي وغير الإسلامي وليس له أي تأثير على صياغة الشكل.

إن الذي نعنيه هو المسرح الذي ينبثق عن التصور والتجربة الإسلاميتين اللتين عرضنا بعض ملامحهما في الصفحات الماضية، وهما يمكن أن يبرزا في مسرحية معاصرة، كما يمكن أن يبرزا في مسرحية تاريخية بشرط أن يتجاوز هذا النوع تقاليده الكلاسيكية القديمة –كما رأينا- ويعتمد الأساليب التي تستنطق من التاريخ كل ما يمكن أن يقول، محطمة الجدران التي تخنق الوقائع والدلالات، ومعتمدة على تجاوز حدود المكان والزمان والتناسق الكمي للأحداث.. فإلى أن يتم إنشاء المسرح الإسلامي الأصيل –بكل أبعاده وشروطه- لن يتاح لأي ناقد أن يحدد –مسبقا- ما ستكون عليه ملامح الشكل.. والقضية –مرة أخرى- قضية فنية دينامية، وليست تصميما مدرسيا، هندسيا، تعطى ملامحه مسبقا.

أما الجواب “لا”.. أي أنه ليس من الضروري إعادة صياغة الشكل المسرحي أو التمثيلي بما يتفق والمضامين الإسلامية، فيقوم على أن الشكل المسرحي في أساسه ظل محتفظا بعناصره الرئيسية، رغم تبدل المذاهب والاتجاهات التي توزعته ابتداء من عصوره الأولى وحتى السنين الأخيرة.. ولقد ظلت هذه العناصر الرئيسية تمثل قاسما مشتركا أعظم، ليس بمستطاع أي مذهب مسرحي الاستغناء عنها، مهما بلغ من التطرف و”الإغراب” في تحيط القواعد التقليدية.. هل لمذهب مسرحي أن يستغني عن الممثل بشكل دائم؟ هل بإمكانه تجميد الحركة أو التعبير وهل بإمكانه تجريد العمل المسرحي من الأضواء والظلال والمؤثرات الصوتية؟ ثم –وهذا هو المهم- هل بإمكانه إزالة الحواجز الثلاثة المحيطة بالمساحة المحدودة المسماة “خشبة المسرح”؟! هذه الوسائل وغيرها ظلت باقية على مر الزمان، رغم التقلبات التي شهدتها الحركة المسرحية منذ عصر التراجيديا اليونانية وحتى المسرح التسجيلي ومسارح العبث واللامعقول.. ومن ثم فإن على المسرح الإسلامي أن يلتزم هو الآخر هذا القاسم المشترك للشكل المسرحي، ومن خلاله يمكن للمخرج أن يعيد صياغة العوامل المسرحية: من طريقة إخراج وتمثيل وتصميم للديكور، واختيار للمؤثرات الصوتية، وتوزيع للأضواء والظلال، بما ينسجم والمضامين الجديدة التي يطرحها المسرح الإسلامي.

ثم إن أية محاولة جادة لإيجاد فن تمثيلي – تليفزيوني إسلامي، يعتمد “التاريخ الإسلامي” أرضية لإبداعه، لا بد أن تضع في حسابها الخطوات أو الاعتبارات التالية:

(1) تهيئة “النصوص” الملائمة التي تنبثق عن رؤية إسلامية شاملة وفهم جيد لحركة التاريخ الإسلامي وملامحه الأساسية، توازيها قدرة فنية إبداعية تمارس التعامل مع الواقعة التاريخية وفق الشروط التي عرضنا لها قبل قليل.

(2) تهيئة الكوادر الفنية الملتزمة: السيناريست، المخرج، مهندس الديكور، الممثل، وحتى المنتج، لكي يجد النص الفني “الأيدي” التي تستطيع أن تحوله، دون مسخ أو تحريف أو تشويه، إلى عمل تمثيلي مبدع. وهذا يتطلب بطبيعة الحال، إيجاد مؤسسات أكاديمية إسلامية للفنون، تأخذ على عاتقها مهمة إعداد هذه الكوادر وتعميق خبراتها وتخصصاتها، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظروفنا الراهنة، ويبقى نمو هذه الكوادر يعتمد بالدرجة الأولى على التزام بعض الدارسين الذين تخرجوا –أو لا يزالون- في هذه الأكاديمية أو تلك، مستفيدين من مفردات مناهجهم وتخصصاتهم، طارحين عليها رؤاهم، معيدين تركيب خبراتهم المدرسية الصرفة بما ينسجم وموقفهم الشمولي –كفنانين ملتزمين- من الكون والحياة والتاريخ والإنسان. وإذا كان الكثير من الأكاديميات الفنية يعمل في إطار مدرسي صرف لا يميل يمينا ولا شمالا، فإنها تغدو بالتالي مجرد خبرة حيادية قد يفيد منها الفنان لتعزيز إمكاناته وتعميقها، أيا كان انتماء الفنان ماديا أو قوميا أو إسلاميا.

ولكن لما كان النص هو حجر الزاوية كما بينا، فإن بمقدوره أن يمرر –بقدر كاف “من الأمانة” التي تحفظ ملامحه وشخصيته- عبر سلسلة الفنانين “التكميليين”، وخاصة إذا كان النص على درجة من القوة الفنية تؤهله لأن يفرض شخصيته تلك، بأبعادها المختلفة، على هؤلاء الفنانين التنفيذيين الذين سيعملون جهدهم على تحويل رؤية المؤلف وموقفه إلى عمل مرئي.. والحق أن المخرج –الذي يقف على قدم المساواة مع المؤلف في كثير من الأحيان- لا يعدو عمله -على ما فيه من الخطورة- أن يكون عملية تحويل إبداعي للنص المكتوب إلى حركة تعبيرية مرئية.. فكل ما قد يصدر عنه من معطيات ليست سوى محاولة “تكييفية” لتحقيق هذا الهدف الذي لن يخرج بالنص عن إطار التزامه ورؤيته.

ونستطيع القول –من ثم- بأننا بمجرد تهيئة الأديب المسلم الذي يعرف كيف يتعامل فنيا مع الواقعة التاريخية، وينتقيها، ويعصرها.. نكون قد قطعنا ثلثي الطريق. بل يحدث أحيانا أن يفيد النص الإسلامي من خبرات سائر الفنانين وبخاصة المخرج والممثل، الذين لم يمارسوا الالتزام إلا بمفهومه المهني أو الأكاديمي، فيزداد النص من خلال هذه المهارات العريقة قوة وإبداعا. وإننا بمجرد أن نتذكر –على سبيل المثال- بعض الحلقات الممتازة من سلسلة “عروس اليمامة” فسنعرف كيف يقدر النص الممتاز على اعتماد طاقات إخراجية وتمثيلية فذة لا تعرف عن الالتزام بمفهومه الفكري شيئا، ولكنها من خلال إخلاصها لعملها، ومن خلال مهاراتها وخبراتها التي نماها العمل الدائم الطويل، تقدر على تحقيق رؤية النص وإبداعيته بشكل قد يفوق –أحيانا- قدرات مجموعة من الفنانين الملتزمين، ولكن حديثي عهد بالعمل في حقول الفن.

(3) القيام بعملية مسح شاملة لكافة النصوص التي اعتمدت الواقعة التاريخية الإسلامية في بنائها، وبغض النظر عن مواقف مؤلفيها وطبيعة التزاماتهم الفكرية، من أجل فرز هذه النصوص وتبويبها على ضوء الرؤية الإسلامية.

إن جهدا كهذا سيمنحنا ثمرتين اثنتين، أولاهما تتمثل بالإفادة من خبرات الآخرين وتفحص مواطن القوة والضعف، وملامح الخطأ والصواب، وثانيتهما تقوم على تنمية قدراتنا الإبداعية والنقدية على السواء، من خلال التعامل مع هذا الحشد الكثيف من النصوص. ولعلنا نجد من بين هذه النصوص، فضلا عن هذا وذاك، ما هو أقرب إلى الرؤية الإيمانية عموما والإسلامية على وجه الخصوص، ما دام أن المؤلف قد تعامل مع تاريخنا وعقيدتنا أساسا، ذلك التعامل الفذ الذي يعتمد خبراته الغنية ويجنب نتاجه الوعظية والتلقينية والمباشرة    التي قد نجدها لدى الكتاب الإسلاميين الناشئين.

(4) في مقابل هذا يتوجب القيام بعملية مسح شاملة أخرى لكافة المعطيات التليفزيونية في هذا المجال: تمثيليات ومسلسلات ومسرحيات، من أجل تبويبها وفرزها هي الأخرى على ضوء الرؤية الإسلامية نفسها في محاولة للإفادة من التجارب المختلفة من جهة، ولتنمية قدراتنا الفنية من جهة أخرى، وللحصول على نماذج وأنماط “تطبيقية” قد تكون أكثر صلاحية وجدوى من بذل الجهود لتقديم نماذج جديدة من خلال خبرات جديدة، على أهمية هذه المسألة وضرورتها.

ونحن نستطيع أن نشير هنا –على سبيل المثال لا الحصر- إلى بعض هذه النماذج التي تختلف في مواقفها، قربا وبعدا، من زاوية الرؤية الإسلامية: عذراء مكة، عروس اليمامة، عرس في السماء، رجال فوق الصخور، نور إلى الأبد، إبراهيم الخليل، عبد المطلب، مصعب بن عمير، خالد بن الوليد، الخندق .. وغيرها كثير.

(5) وفضلا عن هذا وذاك، يتوجب القيام بعملية مسح شاملة لتاريخنا الإسلامي نفسه مساحاته جميعا: أبيضها وأسودها، مضيئها ومظلمها، حيث مواقع النصر ومنعطفات الهزيمة.. من أجل تبين الوقائع التاريخية التي يمكن أن تكون الأرضية المناسبة للعمل الفني.. ولا ريب أن عمليتي المسح السابقتين ستفيداننا في تجاوز التكرار حيثما كانت هناك وقائع قد عولجت فنيا بما فيه الكفاية.. وفي إعادة الكرة حيثما جرت محاولات تحريفية خطيرة على حساب الواقعة التاريخية، وحينما قدمت أعمال وعظية مباشرة جاءت على حساب “تأثيرية” الواقعة وشحناتها التعبيرية. كما ستفيداننا في منحنا المؤشرات الدقيقة لبناء أعمال فنية على وقائع تتميز بالجدة والبكارة، لم يسبق وأن تعامل معها مؤلف أو فنان.

وثمة اقتراح يمكن طرح في هذا المجال: أن يقوم عدد من المؤرخين والفنانين الإسلاميين بإعداد “ورقة عمل” قابلة للمناقشة والتعديل تتضمن جدولا مفصلا بالوقائع والشخوص والأحداث التاريخية التي يمكن اعتمادها في بناء أعمال فنية تليفزيونية هادفة ومؤثرة في الوقت نفسه، مع الإشارة إلى ما قدم وسيقدم من أعمال فنية عن هذه الواقعة أو الشخصية أو تلك، لغرض تحاشي الازدواجية والتكرار.. ومع تثبيت المؤشرات التي تنسق المساحات والوقائع التاريخية حسب أهميتها وبكارتها وقيمتها التعبيرية، وتشعل الضوء في طريق المخرجين والممثلين وسائر الكوادر الفنية لكي يكونوا أكثر استشرافا للموضوع وقدرة على الاختيار والإبداع.

(6) ومن المجدي –كذلك- القيام بمحاولة “تجريبية” –إذا صح التعبير- في دعوة كافة الأدباء والفنانين الإسلاميين، وأولئك الذين يملكون الاستعداد لطرح إبداعهم من خلال الرؤية الإسلامية أن يتقدموا بما يقدرون عليه من أعمال أدبية وفنية ملتزمة من أجل إغناء النص الفني الإسلامي وتنويعه، وتوسيع آفاقه، ومن ثم فتح الطريق أمام الكوادر الإخراجية والتمثيلية التي ستجد نفسها أمام حشد غني من هذه النصوص يمكنها من الاختيار والإبداع. وهذا يوجب –في الوقت المناسب- توجيه الدعوة إلى عدد من المخرجين والممثلين، أفرادا أو فرقا، وإغراؤهم، بشكل أو آخر، في الإقدام على تنفيذ واحد أو أكثر من هذه النصوص المطروحة للعمل، فجماهير أمتنا، مهما انحرفت بها، وبرؤيتها وأذواقها، رياح التشريق والتغريب، فستظل دائما تحمل في أعماقها، وفيما وراء التراب الذي أسقطته تلك الرياح، بذرة الانسجام والتناغم والتجاوب العميق مع كل ما هو إسلامي أصيل، لأنه سيأتي ولا ريب انعكاسا لمطامحها وآمالها، وتأكيدا لثقتها بنفسها، وتأصيلا لشخصيتها ووجودها.

إن جماهير أمتنا هي ابنة أربعة عشر قرنا من حركة التاريخ الإسلامي وتمخضه الدائم.. وهي تحن دائما إلى أن ترجع إلى أمها بعد رحلة تغرب طويل آذتها وأشقتها.. تعود لكي تجد نفسها.. وتعانق توحدها وتلتقي بمصيرها هناك.. وليس أقدر من الإبداع الفني على تحقيق هذه العودة الإيجابية وهذا البعث الحركي لمعطياتها التاريخية.. ليس أقدر من الفن على نفخ الروح في قلب السكون وتفجير الحياة في أوردة التاريخ وشرايينه

وهكذا فإنه حتى على المستوى النفعي “البراغماتي” الصرف، يجد الفنان شهرته ونجاحه في مدى قدرته على تحقيق هذا التناغم بين جماهير المسلمين وبين رؤاهم ومطامحهم وحنينهم من خلال إبداعه الخاص.. ناهيك عن “الالتزام” الفكري الذي يوجب على الفنان أن يتحرك في إطار عطاء هادف أصيل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر