أبحاث

الفوضى الأمريكية الخلاقة أو الإصلاح من خلال الفوضى

العدد 137- 138

“إن الحرب الدائرة الآن هي حرب أفكار، ولا بد أن تكون الغلبة فيها للولايات المتحدة”

الرئيس الأمريكي جورج بوش

يختلط في حديث الإدارة الأمريكية لإصلاح الشرق الأوسط عن طريق الفوضى؛ البعد الاستراتيجي بالبعد الأسطوري، كما تختلط لغة الحقائق مع لغة المجاز، فتتعدد ألوان الحقيقة، وتتداخل نبرات الخطاب. فكلام الإدارة الأمريكية عن الفوضى ليس عبثًا كله وليس جدًّا كله، وافتراض أن كل ما يصدر عن الخارجية الأمريكية بهذا الخصوص هو محض تضليل واختلاق مثله مثل افتراض أنها (أي الإدارة الأمريكية) تملك صياغة المستقبل وتقرير الحاضر. والحاصل أن استراتيجية الولايات المتحدة هي مزيج من الأسطورة والخطة، ومن المصلحة والرسالة، ومن الكذب والحقيقة.

ويرتب هذا تداعيات مربكة عند محاولة التصدي لهذه الأطروحة بالبحث النظري، الذي يبتغي الفهم المحض، على اعتبار أن الأبحاث الموجِّهة للسياسة لا مكان لها في وطننا العربي. فبادئ ذي بدء لا يصلح مع أطروحة مركبة من هذا النوع محاولة المعالجة من خلال اقتراب أحادي التوجه، يركز على السياسي أو الاقتصادي أو العسكري على نحو انعزالي، كما لا يجدي الوقوف عند حد المصرح به أو المعلن، وإهمال المسكوت عنه في أحاديث الإصلاح والفوضى، أو الإصلاح من خلال الفوضى؛ وإنما ينبغي مقارنة الأفعال بالأقوال، وقراءة الأحداث من خلال الأرقام، والأرقام من خلال الأحداث(1)، وصياغة هذه وتلك في إطار منظومة متكاملة يغذي بعضها بعضًا.

وإذا كان الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ فإن تقييم موضوع الإصلاح من خلال الفوضى لابد وأن يتأثر بغموض المساحة التي ينتمي إليها هذا الموضوع بشقيه؛ فقدر كبير من حديث الإصلاح يندرج تحت بند النوايا التي في الصدور، كما أن قدرًا كبيرًا من حديث الفوضى يندرج تحت بند المعلوم من أمور الواقع بالضرورة، والجمع بين المصطلحين لابد وأن يثير جدلاً لن يحسم بسهولة حول الفعل والمقصد من وراء الفعل.

ولكن أيًّا كانت الزاوية التي نحاول أن نستشرف أبعاد الموضوع من خلالها؛ فإن أسئلة كثيرة تعترضنا وتشوش رؤيتنا لها، فبداية ما هو التعريف الذي تتبناه الإدارة الأمريكية للفوضى؟ وهل يمكن أن تكون الفوضى مدخلاً للإصلاح؟ وكيف يمكن إدارة الفوضى؟ وهل لصناعة المفاهيم دور في ترويج هذا المفهوم؟ فيكون الموضوع برمته هو محض حرب نفسية؟ وهل يمكن تصور أن أمريكا قد اعتمدت فعليًّا خطة للفوضى أم أن الفوضى قد تولدت بفعل غياب الخطة أصلاً؟ وما هي منطلقات/ مرتكزات الفوضى الأمريكية الخلاقة؛ هل هي منطلقات عقائدية دينية، أم استراتيجية مصلحية؟

ثم… ألم يكن استمرار واستقرار ودعم الأنظمة المعتدلة في منطقة الشرق الأوسط أحد الأهداف الثابتة للإدارة الأمريكية. فلماذا تستعيض عنها الآن بخطاب جماهيري تعبوي؟ ولماذا تراهن الولايات المتحدة على أصوات ومواقف ملايين البشر؟ ألم يكن من الأيسر والأجدى والأسرع لها أن تشتري ولاء حفنة محدودة من رجالات النخب الحاكمة في المنطقة لكي تضمن استمرار مصالحها؟ وألم يكن هذا هو الوضع فعليًّا طوال عقود الحرب الباردة وما بعدها، فما الذي تغير حتى تغير الولايات المتحدة استراتيجيتها؟ وهل يمكن تصور الولايات المتحدة مدفوعة بوازع أخلاقي للقضاء على الاستبداد الذي شاركت في حمايته وزرعه في العديد من دول المنطقة؟ وهل يمكن أن تكون أمريكا بحق حامية لثورة الديموقراطية ومصدّرة لها لكي تعم بها العالم بأسره؟ وكيف تحول الخط الرسمي للسياسة الخارجية الأمريكية من الابتزاز باسم الديموقراطية إلى الابتزاز من أجل الديموقراطية؟ وما هو المسكوت عنه في إطار الأحاديث الأمريكية التي لا تنتهي عن الإصلاح؟ ومن هم الصامتون المستفيدون من كل ما يجري؟ وكيف تقيّم أمريكا حسابات التكلفة والعائد فيما يتعلق بالخسائر التي تتحملها بفعل عملية الإصلاح من خلال الفوضى؟ وما هو الأسلوب الذي يمكن أن تعتمده الإدارة الأمريكية للتعامل مع المنتوجات الجانبية للفوضى الخلاقة، إذا تمخضت هذه عما لا يتفق مع الاستراتيجية الأمريكية بعيدة المدى للمنطقة؟ وفي ضوء حقيقة كون الإسلاميين هم العامل الأكثر تكرارًا على مستوى تفاصيل كافة الحالات التي طالها إعصار الفوضى الأمريكي يثور التساؤل: هل أمريكا مستعدة للتعامل مع الإسلاميين كطرف سياسي مقبول وشرعي في إطار معادلة للسلطة تشبه تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، التي لا تفتأ تشيد بها في أي مناسبة.

تساؤلات عديدة لا تعِدْ هذه الدراسة بالإجابة عنها جميعًا؛ إذ هي تركز فقط على تلك الخاصة بتعريف الفوضى في الخطاب الأمريكي، وأهم المرتكزات التي تنهض عليها. ولكن قبل هذا وذاك تستعرض الدراسة الكيفية التي استقبلت بها أطروحة الفوضى الخلاقة في الأوساط الأكاديمية والفكرية العربية.

كيف فهمت الفوضى الخلاقة في الأجواء العربية؟

قدمت معالجات عربية متنوعة لتفسير وتأويل مصطلح الفوضى الخلاقة، وبيان ما إذا كان يعكس خطة حقيقية للولايات المتحدة إزاء المنطقة أم أنه حاصل لغياب الخطة أصلاً، أو بعبارة أخرى ما إذا كانت الولايات المتحدة تعلم أن سياستها تجاه المنطقة ستفرز هذه الحالة من الفوضى، أم أنها كانت تقدر أن الوضع سوف يكون مختلفًا. وفي هذا السياق تعددت التحليلات ما بين متهم للوزيرة الأمريكية التي دشنت هذا الشعار بالديماجوجية، وفبركة المصطلحات، وبين من يرى أن الفوضى يمكن أن تكون استراتيجية حقيقية، ليس المقصود من ورائها مجرد تجزئة وتفتيت دول المنطقة إلى دويلات عاجزة أمام التفوق النوعي للكيان الصهيوني؛ وإنما إحداث تحولٍ حقيقي في الخريطة الاستراتيجية للمنطقة برمتها.

الاتجاه الأول يعتبر أن استخدام تعبير الفوضى الخلاقة ما هو إلا لعب بالألفاظ، وقفز على الحقائق من خلال صك مصطلحات جديدة وغريبة في الوقت ذاته؛ فعلى حد البعض فإن: “هذه ليست هي المرة الأولى التي يتحفنا فيها الأكاديميون المتخصصون وصناع السياسة الأمريكية بمصطلحات من هذا النوع، فقد أصبح صك المصطلحات السياسية غير المألوفة حرفة أمريكية خالصة، ومجالاً محجوزًا لا يقدر أحد على الدخول إلى حلبة المنافسة فيه! ويبدو أن هذه الحرفة تحولت إلى صناعة تطرح منها في سوق السياسة ما تشاء بين الحين والآخر. … فالأوضاع التي يدركها الناس على أنها تنطوي على قدر ما من “عدم الاستقرار” أو “الغموض” أو “الفوضى”؛ هي بطبيعتها أوضاع سلبية، لكنها حين تأتي مقترنة بأوصاف أخرى ويصبح عدم الاستقرار “منضبطا”، والغموض “بناءً”، والفوضى “خلاقة”، فمن الطبيعي أن تتبدل الأمور وتتحول صورة السلبي إلى إيجابي والقبيح إلى حسن. ولأننا لا نسأل أنفسنا عادة ذلك السؤال البديهي حول صاحب المصلحة، فغالبًا ما يقع بعض مثقفينا بحسن نية -أو يتعمدون الإيقاع بنا بسوء نية- في مصيدة هذه المصطلحات الأمريكية المضللة”(2).

فيما ذهب آخرون إلى أن استخدام مصطلح الفوضى الخلاقة ليس مجرد لعب بالألفاظ والمصطلحات الأخاذة، ولكنه استجابة للخطأ الاستراتيجي الذي انزلقت إليه الإدارة الأمريكية بإعلانها الحرب على العراق بعد أحداث سبتمبر، والذي منعها من التراجع عنه صلفها الإمبراطوري وتعنتها الأيديولوجي الذي يُسأل عنه المحافظون الجدد.

فاستخدام هذا المصطلح إنما يشير إلى أن الإدارة الأمريكية تعترف بفشلها في استخدام التدخل العسكري المباشر، وأنها لذلك تسعى إلى تفجير الجبهات الداخلية، ولا تتردد في خلق حروب أهلية تسهل عليها إضعاف مقاومات الشعب واختراقه من الداخل. ومن هنا فإننا نلحظ تصاعدًا لعمليات العنف في سوريا ولبنان ومصر من جهة، وكثير من عمليات التفجير لا تزال طلاسم مستعصية على الحل والتفسير؛ فهي ليست موجهة ضد رموز من لون سياسي واحد، وأحيانًا تكون تفجيرات دون هدف واضح، ولا يوجد لها أي مبرر سوى زراعة الخراب والدمار. وتتبارى الإدارة الأمريكية تارة لتأييد تلك الحوادث، إذا ما وجدت أن ذلك في مصلحتها، وأحيانًا توجه إدانات قاسية لها وتعتبرها جزءًا من الحرب العالمية التي تشنها قوى الإرهاب. فالذي يحدد الموقف الأمريكي من تلك العمليات ليس هو طبيعتها الإرهابية، بل مستوى التماهي أو التعارض مع سياساتها في الهيمنة. فهي مع العمليات التي تحدث في سوريا، ولكنها ضدها في مكان آخر… والحقيقة إن مصطلح الفوضى الخلاّقة هو تغطية للفشل الأمريكي الذريع في المنطقة لدرجة أن الفوضى أصبحت مصلحة أمريكية مؤقتة(3).

وعليه؛ فإن الفوضى وفقًا لأنصار هذا الرأي ليست بخطة ولكنها ناتج سلبي لغياب الخطة، ومع ذلك فإن استخدام مصطلحات من هذا النوع هو في ذاته مخططًا، بما يعنى أن هناك نية سلبية من وراء استخدام هذا المصطلح(4، 5).

ومن الآراء ما يذهب إلى أن ثمة احتمال في أن تكون أمريكا إنما تستخدم سلاح الفوضى البناءة استخدامًا تكتيكيًّا؛ بمعنى أنها في الأصل تريد استقرار المشرق العربي حتى لا تعم فوضى العراق في محيط نفطي استراتيجي، وحتى لا تكون مضطرة مع حلفائها في الأطلسي وفي غيره إلى القتال “غير البناء” على جبهات عربية متفجرة. ومن هنا، فإنها لا تريد نشر الفوضى؛ وإنما فقط التلويح بها لنشر الرعب في الفضاء السياسي العربي، ومن ثم السيطرة نفسيًّا على مراكز القرار الرسمي والمعارض على حد سواء. وذلك قياسًا على ما قامت به من قبل من استغلالها لشعارات الحرية والديمقراطية من أجل تحقيق مقايضات مع الأنظمة السياسية العربية على حساب الكرامة والاستقلال والسيادة(6).

أما الاتجاه الثاني؛ فيذهب إلى أن الفوضى الخلاقة هي خيار واستراتيجية حقيقية للإدارة الأمريكية وليست مجرد ستار يخفي الفشل أو الرغبة في التفتيت، ولكنها رغم ذلك مغامرة كبرى، وقفزة غير مؤكدة العواقب نحو المجهول؛ وذلك لأنها سياسة تشبه استراتيجية اليد الخفية في مجال عالم الاقتصاد، والتي تؤدي إلى نتائج مرغوب فيها دون ضبط للأسس التي تعمل وفقًا لها؛ فالتنافس الحاكم لنظام السوق غير مرغوب فيه لذاته، ولكنه مرغوب فيه لآثاره، وكذا الفوضى قد لا تكون مرغوبًا فيها لذاتها، ولكن لما تؤدي إليه من نتائج، تفترض الإدارة الأمريكية أنها قادرة على الاستفادة منها أيًّا كانت.

فالإدارة الأمريكية تبدو على قناعة بقدرة الفوضى على أن تحدث في المجال السياسي نفس ما أحدثته “اليد الخفية” على الصعيد الاقتصادي، وذلك وفق قناعة بأن آليات السوق هي خير محرك لديناميات العمل السياسي، بما تقوم عليه من تنافسية وتعددية ومناورة؛ ولذا وصف البعض الاستراتيجية الأمريكية بأنها بمثابة مغامرة تاريخية، وسيلتها القفز إلى المجهول، والاعتقاد في قدرة صناديق الانتخابات أن تحمل ما تحمله الصناديق السوداء، على أمل أن تكون الفوضى خيرة: إذ تدفع الولايات المتحدة وأوروبا باتجاه الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط نتيجة يأسها من التطور الذاتي لشعوب تلك المنطقة، وحكوماتها الغارقة في الفساد والطغيان، ويتم ذلك بتبني آلية صناديق الانتخابات، مع الإيمان شبه العقائدي بالعملية الديمقراطية، بنفس المعايير التي أفرزت التغيرات الديمقراطية السلمية في أوروبا الشرقية وآسيا، وهذا ما طبقه الأمريكيون بالفعل في العراق؛ فرغم وجود القوات الأمريكية؛ فإن الانتخابات أفرزت أغلبية أصولية شيعية قريبة من إيران(7)!

الفوضى في الخطاب الأمريكي:

وفق التعريف الاصطلاحي؛ تتمثل المقولة الأساسية لنظرية الفوضى في أن أيّ تغير طفيف يلحق بمنظومة مفتوحة ومعقدة؛ قد يتحول إلى اضطراب هائل في محصلته، وذلك بفعل الحساسية الشديدة لهذا النوع من المنظومات للظروف المبدئية التي انطلق منها التفاعل بين المتغيرات المكونة لها. ويستخدم لتوضيح ذلك المجاز الشهير الذي يعرف بأثر الفراشة Butterfly Effect، (والذي يشير إلى أن الهواء البسيط الناتج من ضربات جناحي فراشة في أقصى الأرض قد يؤدي إلي حدوث إعصار ضخم في الجانب المقابل منها)(8).

وعلى الرغم من أن مصطلح فوضى يوحي بانعدام النظام، أو بالعشوائية المطلقة؛ فإن نظرية الفوضى تبحث في انتظام اللانظام، وذلك من خلال محاولة استكشاف النمط الذي يتم من خلاله التغير في الأنظمة الفوضوية على المدى الطويل جدًّا، ولهذا تعد الحواسب الآلية -بما تتيحه من إمكانات لاختزال الزمن أو تكرار التفاعل في مدى زمني معجل؛ هي العامل المساعد الأساسي في تطوير هذا الحقل البحثي، وانتشار تطبيقاته خلال النصف الثاني من القرن العشرين، خصوصًا من خلال إطاره الرياضي، بعدما ظل الجانب الفيزيائي هو المسيطر عليه طوال النصف الأول من القرن‏.‏

أما في مجال التطبيق السياسي، وكحال معظم المصطلحات المستخدمة في إطار هذا الحقل؛ فإن تعريف الفوضى يرتبط بتحديد المصدر الذي انبثقت عنه، والكيفية التي استخدم من خلالها المفهوم أو وظف بها. وفي هذا الصدد تختلف الآراء حول المصدر الأول الذي انبثقت عنه جذور الفوضى الخلاقة؛ إذ يشير البعض إلى أن أول إشارة إلى مضمون الفوضى الخلاقة قد جاءت على لسان وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد عقب قيام مجموعات من الرعاع بعمليات سطو وتخريب في مؤسسات الدولة العراقية، إثر سقوط بغداد في التاسع من أبريل عام 2003؛ حيث أعلن رامسفيلد آنذاك، في معرض رده على حملات الاحتجاج التي وجهت ضد إدارة الاحتلال في العراق بسبب وقوفها صامتة، وغضها الطرف عن عمليات النهب والسلب والحرق والتخريب، “أن العراقيين ليسوا معتادين على الحرية، وأن هذه هي أول فرصة لهم للتعبير عما يختلج في نفوسهم، وأن هذه العمليات “الفوضوية” “إيجابية وخلاقة وواعدة بعراق جديد”(9).

ثم تبلور المضمون النظري للفكرة في ورقة عمل قدمتها “مؤسسة واشنطن لسياسة الشرق الأوسط” (ذات الميول الصهيونية) إلى الخارجية الأمريكية، وملخص ما أوردته هذه الورقة هو الإيحاء بأن الأفضل لإدارة الرئيس جورج بوش أن تشجع حالة الغليان وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، ما دام خلاف الحكام مع المعارضين يؤدي إلى إنتاج حالات من الهدوء والطمأنينة على الساحة الأمريكية(10).

ومن جهة أخرى نعثر على مرادف لهذه الفكرة في تصريحات ومقالات العضو البارز في “معهد المشروع الأمريكي”(11) American Enterprise Institute مايكل ليدن Michael A. Ledeen، وهو أحد أصحاب النفوذ في دائرة المحافظين الجدد، وأحد أبرز الذين يعهد إليهم المركز بوضع التصورات والخطط التفصيلية‏ التي تبني عليها السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط عامة، والدول العربية خاصة.

وقد ارتبط اسم ليدن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بنظرية “التدمير البناء”(12)‏ Creative Destruction،‏ التي خرج بها كمحصلة لعمله في عام ‏2003،‏ مع مجموعة عمل من خبراء معهد المشروع الأمريكي‏،‏ والتي قامت بإعداد “مشروع التغيير الكامل في الشرق الأوسط”، والمقرر أن ينفذ في فترة عشر سنوات، ويشمل إجراء “إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية” شاملة في كل دول المنطقة، عبر استراتيجية الهدم ثم إعادة البناء(13).

ولكن وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس كانت هي صاحبة الفضل في تحول هذا التعبير إلى مصطلح صار الكثيرون يعولون عليه في محاولة فهم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة؛ ففي حديثها الشهير لصحيفة “الواشنطن بوست” الأمريكية ردت على استفسار حول كون التفاعلات التي تموج بها هذه المنطقة من العالم لا تترك مجالاً سوى للاختيار بين الفوضى، أو سيطرة الجماعات الإسلامية على السلطة، ولن تؤدي بالضرورة إلى انتصار الديمقراطية، بالقول: “إن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية؛ هي من نوع “الفوضى الخلاّقة”، التي ربما تنتج في النهاية وضعًا أفضل مما تعيشه المنطقة حاليًّا”(14)!!

وهكذا تراوح مضمون التصور الأمريكي لمفهوم الفوضى بين عدد من المعاني المتقاربة، ابتداء بتصريحات رامسفيلد التي سوت بين الفوضى وحرية التخريب، مرورًا بمقترحات معهد واشنطن ومعهد المشروع الأمريكي التي أوصت بنشر الفوضى في الشرق الأوسط، إما لتصدير المشاكل الداخلية في الولايات المتحدة، وإما لتهيئة البيئة الداخلية في بلدان الشرق الأوسط كمقدمة لتغييرها، وانتهاءً بتصريحات كوندوليزا التي اعتبرت انتشار الفوضى بمثابة ضريبة التحول نحو الديموقراطية.

غير أن تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية عادة ما يُنظر إليها على أنها هي التي أكسبت مفهوم الفوضى الخلاقة ذلك الزخم الذي مازال يتمتع به في الأجواء الصحفية ومراكز البحث؛ وذلك من حيث كونها قد أفصحت من موقع رسمي عن شروع الولايات المتحدة في البدء بتطبيق سيناريو حرب الأفكار، التي سبق وأعلن عنها البيت الأبيض في وثيقته الشهيرة التي أصدرها في سبتمبر 2002 بشأن استراتيجية الولايات المتحدة الأمنية، في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر(15).

وهكذا أخذ المفهوم مكانه على منصة إطلاق المفاهيم الصاروخية، في إطار معركة القيم والمبادئ التي أعلن الرئيس الأمريكي عن ضرورة خروج الولايات المتحدة منتصرة منها، وانضم مصطلح الفوضى الخلاقة إلى ترسانة المفاهيم الأمريكية، لينضاف إلى أقرانه من المفاهيم الموجهة من مثل “المجتمع المدني”، و”التعددية السياسية”، و”حقوق الإنسان”، و”تمكين المرأة”، و”حقوق النوع الاجتماعي”.

التحول من الاستقرار إلى التغيير:

توج تصريح كوندوليزا رايس إذن بداية مرحلة جديدة من مراحل السياسة الخارجية الأمريكية التدخلية في شئون العالم، والتي يلخصها التحول من سياسة فرض الاستقرار إلى فرض التغيير. وذلك كما تدعي الإدارة الأمريكية- نظرًا للاختلاف الذي طرأ على طبيعة العدو فيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر(16).

وقد استهل مثقِّفو الإدارة الأمريكية هذه المرحلة بممارسة حالة من التعبئة المكثفة، باتجاه دفع الخارجية الأمريكية إلى تشجيع وتأييد حركات “التغيير” التي تتوافق والمبادئ “الأمريكية” في منطقة الشرق الأوسط، وذلك قياسًا على ما قامت به في أوروبا الشرقية بين عامي 1989 و1991، أو في بلجراد في عام 2000، ويحذر هؤلاء الإدارة الأمريكية من أن تستمر في إحجامها عن مد مظلة مشروعها الديموقراطي لكي تظلل بها بلدان الشرق الأوسط.

ففي ذلك الحين امتنعت الولايات المتحدة عن المضي قدمًا في تصدير مشروعها الديموقراطي الذي شنته على أثر تفكك الاتحاد السوفيتي لكي تشمل به الدول العربية (الشرق أوسطية)، والتي ارتأت حينها أنها غير مهيأة بعد لركوب موجة الديموقراطية التي كادت أن تصل إلى سواحلها.

وفي هذا يقول روبرت ساتلوف:

“تاريخيًا كان السعي للحفاظ على الاستقرار عنصرًا أساسيًّا في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولكن جورج بوش كان أول رئيس يرى أن الاستقرار بحد ذاته عثرة في طريق المصالح الأمريكية في المنطقة؛ ولذا سعت الإدارة الأمريكية بعد أحداث سبتمبر نحو سياسة من عدم الاستقرار الخلاق، بناء على اعتقاد أن حماية المواطنين والمصالح الأمريكية سوف تتحقق من خلال إحداث تغييرات أساسية في أنظمة الشرق الأوسط، وفي هذا الاتجاه أخذت الولايات المتحدة عددًا من الإجراءات القسرية وغير القسرية، بدءًا من الحرب على أفغانستان والعراق، وصولاً إلى عزل ياسر عرفات وتشجيع رئاسة فلسطينية جديدة مسالمة يمكن التعويل عليها، ثم إلى الضغط بلطف على مصر والسعودية للمضي في طريق الإصلاحات(17)“.

وقد حاولت وزيرة الخارجية الأمريكية أن تمارس “الكذب الجميل”، عندما نفت أصلاً أن الشرق الأوسط كان مستقرًا قبل التدخل الأمريكي بأي شكل في مقال لها جاء فيه: “من يصدق حقيقة -بعد هجمات 11 سبتمبر 2001- أن الوضع في الشرق الأوسط كان مستقرًّا ومفيدًا ويستحق الدفاع عنه؟ كيف يكون من التعقل إبقاء الأوضاع كما هي في منطقة تفرخ وتصدر الإرهاب؛ حيث كان انتشار الأسلحة الفتاكة يزداد سوءًا، ولا يتجه إلى التحسن؛ حيث الأنظمة الاستبدادية تسلط فشلها على الدول والشعوب البريئة؛ حيث كانت لبنان تعاني تحت وطأة الاحتلال السوري، وحيث كانت السلطة الفلسطينية الفاسدة مهتمة بالحفاظ على بقائها أكثر من اهتمامها بتطلعات شعبها، وحيث كان مستبد مثل صدام حسين حر في ذبح مواطنيه، وزعزعة استقرار جيرانه وتقويض الأمل في السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟ إن افتراض أن الشرق الأوسط كان ممتازًا قبل أن توقع أمريكا استقراره المزعوم في حالة من الفوضى ليس إلا محض خيال مطلق“(18).

ولكنها سرعان ما عادت في سياق آخر واعترفت بأن هذا “الاستقرار الوهمي” كان من صنع الولايات المتحدة نفسها؛ وذلك عندما تحدثت أمام الجمهور الذي استقبلها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة قائلة: “إن الولايات المتحدة وعلى مدى ستين عامًا سعت إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديموقراطية، ولم تنجز أيًّا منهما. والآن تتبنى نهجًا مختلفًا… إن هناك من يقول إن الديموقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة إن العكس هو الصحيح”(19).

وهو نفس ما أكده ريتشارد هاس في خطابه أمام لجنة العلاقات الخارجية عندما صرح بالقول: “في بعض الأحيان، تجنّبت الولايات المتحدة النظر بتعمّق في الأعمال الداخلية للبلدان لصالح تأمين تدفق متواصل من النفط، ولكبح التوسع السوفيتي والعراقي والإيراني، وللتعامل مع القضايا المتصلة بالنزاع العربي/ الإسرائيلي، ومقاومة الشيوعية في شرق آسيا، أو تأمين حق الحصول على القواعد لقواتنا العسكرية. وهكذا، ولإهمالنا تقديم المساعدة لتعزيز المسار التدريجي نحو الديمقراطية في العديد من علاقاتنا الهامة -بخلقنا ما يمكن تسميته “الاستثناء الديمقراطي” – فاتتنا فرصة مساعدة تلك البلدان لكي تصبح أكثر استقرارًا، وأكثر ازدهارًا، وأكثر سلامًا، وأكثر تكيّفًا مع ضغوطات عالم في طور التعولم. ليس من مصلحتنا أو من مصلحة الشعوب التي تعيش في العالم الإسلامي أن تواصل الولايات المتحدة هذا الاستثناء. سوف تتعامل السياسة الأمريكية بنشاط أكبر لمساندة الاتجاهات الديمقراطية في العالم الإسلامي أكثر من أي وقت مضى”(20).

الاستقرار الذي تتنصل منه الإدارة الأمريكية الآن هو إذن الاستقرار الذي تسببت في فرضه بالقوة لعقود طويلة، والذي طالما كتم تحته ضغوطًا من التطلعات الشعبية، والتي تفجرت عندما لاحت الفرصة في وجه الولايات المتحدة نفسها، فيما نجا من عواقبها حلفاؤها من النظم الصديقة.

وعمومًا لم يكن أحد يتخيل أن تكون أمريكا في يوم من الأيام عدوًّا للاستقرار الذي طالما عملت على فرضه بكل الطرق، ولم يكن أحد يتخيل أن تضحي أمريكا بحلفائها المقربين من قادة وزعماء هذه المنطقة، وأن تتبنى استراتيجية للفوضى – تصفها بالخلاقة- في منطقة الشرق الأوسط، التي طالما اعتبر ساستها أنها من المناطق الاستثنائية في العالم.

ولكن هذا ما حدث بعد أحداث 11 سبتمبر حينما بدا للولايات المتحدة جليًّا أن حفاظها على استقرار حلفائها في منطقة الشرق الأوسط لم يوفر لها الاستقرار على أرضها، وبعد أن تبين أن الاستقرار الذي تنشده ينبغي ربطه بعوامل أكثر رسوخًا من أنظمة لا تحظى بأي قواعد شعبية متينة، هذه العوامل ارتأت الولايات المتحدة أنها ينبغي أن تكون أكثر التصاقًا بالجماهير التي تصنع الاستقرار، أو تتسبب في الفوضى؛ ولذا جاءت الدعوة الأمريكية لتعزف على النغمة التي تتوق الشعوب لسماعها، وهي نغمة الإصلاح، وقد غلفت هذه الدعوة بقالب خطابي تأثيري، يعكس ولع الإدارة الأمريكية بالعنصر النفسي في صياغتها لاستراتيجيتها الكونية؛ فهي تدرك جيدًا ما للشعار من وقع سحري يشبه وقع القانون في عالم الأشياء على النفوس، بما يجبر متلقيه على تقبله والإذعان له والعمل بمقتضاه.

وعلى حد تعبير ريتشارد هاس: “من جديد فإن الولايات المتحدة لا تمارس التبشير بالتغيير من موقع الثقة الكاملة في نتائجه المحتملة بل إنها: سوف تفعل ذلك مع علمها التام أن الديمقراطيات غير كاملة. وأنها معّقدة. والحقيقة أن القادة في بعض الدول الإسلامية يقابلون بين الأنظمة الديمقراطية وبين أنظمتهم، وهي أنظمة أكثر نظامًا، ويشيرون بارتياح إلى الاستقرار الظاهري التي تؤمنه أنظمتهم. لكن الاستقرار القائم على السلطة وحدها استقرار وهمي، وتستحيل استدامته في نهاية المطاف. لقد شاهدنا في إيران ورومانيا وفي ليبيريا ماذا حصل عندما تنفجر طنجرة الضغط؛ فالأنظمة الاستبدادية الجامدة لا يمكنها الصمود بوجه صدمات التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، خصوصًا من النوع أو بالوتيرة التي يتميز بها العالم المعاصر”(21).

مرتكزات الفوضى الخلاقة:

أما عن المرتكزات المحتملة(22) لاستراتيجية الفوضى الخلاقة؛ فيمكن حصرها في المنطلق العقائدي الديني(23) الذي تكثفت أماراته بوضوح بعد وصول المحافظين الجدد إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة كفريق معاون وموجه للرئيس بوش الابن، والمنطلق المصلحي التقليدي الذي يتشكل دومًا بفعل حكومة الظل الأمريكية، التي تتكون من الشركات الكبرى وجماعات المصالح، التي عادة ما تكون في خلفية كافة القرارات الاستراتيجية الكبرى التي تتخذها الإدارات الأمريكية المتعاقبة.

وبشكل عام يمكن البحث والعثور على العديد من الدلائل والقرائن، التي تسوِّغ اعتماد كلا الـمُنطلَقين كمرتكز للحديث عن قناعة الإدارة الأمريكية بحتمية نشر الفوضى في العالم. إلا أن السياق العقائدي الذي يتمسح به الرئيس الأمريكي “المؤمن” جورج والكر بوش؛ يكثف الضوء حول التأويل الديني لمسلك الإدارة الأمريكية … ويراكم التحليلات التي تفسر مفهوم الفوضى الخلاقة بالرجوع إلى التصور البيوريتاني الرسالي، الذي سيطر على الحجاج الأوائل للساحل الأمريكي، ومازال يلقي بظلاله على ساسة الولايات المتحدة الأمريكية بين حين وآخر.

ويمكن العثور على العديد من العناصر التفسيرية الهامة في إطار هذا المنطلق العقائدي بفعل التركيبة الشخصية للرئيس الأمريكي، والذي يصف نفسه بأنه مولود بالإيمان من جديد، وأنه بهذه الحيثية مؤهل للحديث باسم الله على نحو مباشر، بوصفه مبتعثًا إلى العالم، ومحملاً بالروح القدس التي تنفس في روعه بإرادة الله، وتكلفه بتحويلها إلى أفعال وسياسات. فالله يأمره أن يقضي على الإرهاب، ويحثه على إقامة دولة للفلسطينيين، ويشجعه على غزو العراق…إلخ.

ويذهب البعض إلى أن التحليل النفسي للرئيس بوش يظهره بوضوح متقمصًا شخص المسيح عليه السلام نفسه؛ ومن ثم فإنه لا يجد غضاضة في أن يلقي سيفًا ويشيع انقسامًا وتوترًا أينما حل، متأولاً -على النحو الذي يرفضه غالبية المسيحيين- الآية 35 من الإصحاح العاشر لإنجيل متّى: “تظنون أني جئت لألقي سلامًا على الأرض ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا“(24)، على أنها إعلان حرب على العالم بأسره.

وفي هذا السياق لا يجب إغفال دور الحاشية المحيطة ببوش، والتي تعمق لديه هذا الإحساس الرسالي بالقول والعمل، تمامًا كما هو حال البطانة المداهنة في أي دولة متخلفة من دول العالم الثالث، والتي لا تفتأ تكرر على مسامع الرئيس الورع بـ “أن أمريكا لابد وأنها دولة يباركها الرب؛ لأن رئيسًا مثل جورج بوش الابن على رأسها”(25)!

وإذا كان التحليل العلمي يجبرنا على استبعاد فكرة أن يكون للسياسة الأمريكية جذر واحد تستمد منه منطلقاتها ومرتكزاتها، وعلى الاعتقاد بأنه ثمة جذورًا متشابكة تستقي من خلالها العقيدة السياسية للولايات المتحدة (أو لأي دولة في حقيقة الأمر) روافدها الأساسية؛ فإنه لا يمكن مدافعة القناعة الموازية التي تبين أن التربة التاريخية والاجتماعية تفرض على جذور الثقافة نوعية الغذاء الذي يطبع خصائصها فيما بعد. وفي حالة الولايات المتحدة فإن ثمة تربة لاهوتية لا مراء فيها، جاهزة لتغذية أي امتداد ديني يسهم في رسم الخطوط الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية.

ولكن وعلى الجانب الآخر؛ فإن الدافع المصلحي التقليدي الذي يمكن الانطلاق منه لتفسير استراتيجية الفوضى، يبدو هو الآخر حاضرًا بقوة في المسلك الأمريكي تجاه المنطقة. وهنا فإن مفاتيح تقليدية من قبيل “النفط” و”إسرائيل” و”المركب العسكري الصناعي”، وضرورة احتواء “الخطر الإسلامي”؛ يمكن أن تساعد على الفهم، كما يمكن أن تسلط الضوء على أبعاد معماة من استراتيجية الفوضى الخلاقة.

فالنفط كما هو معلوم يأتي على رأس المبررات الأساسية لانغماس دولة العزلة الأشهر في التاريخ الحديث في فوضى الشرق الأوسط، وقد يكون هو مبرر إشعالها أصلاً. وقد كثر الحديث عن فضائح شركات نفطية كبرى أثناء مرحلة “النفط مقابل الغذاء”، وفيما تلى الغزو الأمريكي المباشر للعراق، وتورطت في هذه الفضائح أسماء بارزة في إدارة الرئيس بوش. ولكن وكما تراجعت العديد من المبادئ الأمريكية بعد 11 سبتمبر؛ تراجع مبدأ المحاسبة، وأصبح بوش ومعاونوه فوق مستوى النقد والمساءلة على العديد من الجرائم التي كانت كفيلة بالإطاحة به وبهم لو أنها تمت في غير أجواء ما بعد الحادي عشر من سبتمبر.

أما إسرائيل فهي الحاضر الغائب في معادلة الفوضى الخلاقة، وعلى حد بريجينسكى فقد شهدت مرحلة الفوضى الخلاقة تماهيًا ما بين سياسة بوش الابن وسياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون في غزة والضفة الغربية، من حيث كونها سياسة تقوم على الاستخدام الفج للقوة، وتبنى مواقف شبه استعمارية، وتُحركها تحيزاتها الكامنة ضد العالم الإسلامي(26). وعليه كانت إسرائيل حاضرة دومًا طالما تعلق الأمر بالجوانب “الخلاقة” من الموضوع: تفكيك العراق، تكبيل النظام السوري، عرقلة الملف النووي الإيراني. وعلى الجانب الآخر فإنها تؤمْن بكافة الضمانات التي تقيها أي تداعيات سلبية من جراء فوضى الشرق الأوسط: تشكيل حماس للحكومة في الأراضي الفلسطينية، وفوز الإخوان بنسبة لافتة من مقاعد البرلمان المصري(27)، وبشكل عام تأمينها إزاء المكاسب المتوقعة للتيارات الإسلامية من جراء عملية الانفتاح السياسية التي صاحبت أجواء الفوضى الخلاقة.

أما المركب العسكري الصناعي؛ فإنه يشكل حكومة الظل الحقيقية والأكثر تأثيرًا في الولايات المتحدة الأمريكية، ويأتي في مقدمة إدارات هذه الحكومة غير الرسمية القطاعات المصدرة للسلاح والمتفجرات إلى هذه المنطقة الملتهبة من العالم، والتي لا يناسبها بحال وقف سباق التسلح بين أطراف معادلة الفوضى، حتى لو حدث تغير نوعي في طبيعة هؤلاء الأطراف من كونهم دولاً متصارعة، إلى كونهم جماعات سرية، وحتى لو ترتب على تزايد تدفق الأسلحة إلى هؤلاء الفرقاء تزايد الرقم الأمريكي الرسمي عن أعداد الضحايا من الأمريكيين؛ ولذا يذهب البعض إلى أن الولايات المتحدة إنما تخوض حربًا بالوكالة لصالح الشركات الرأسمالية والاحتكارية العملاقة، التي تلقفت عقود برنامج إعادة الإعمار، كما تلقفت من قبل عقود برنامج النفط مقابل الغذاء.

ومن المتغيرات الأساسية التي تضعها الولايات المتحدة في حسبانها متغير الإسلام ودوره في ملف الفوضى الأمريكية، والسؤال هو: كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع الصعود الإسلامي الذي يحتمل بنسبة كبيرة أن تفرزه الثورة الديموقراطية التي تسعى الولايات المتحدة لتصديرها إلى دول المنطقة، ومن ناحية أخرى: كيف ستتعامل مع ملف حركات المقاومة المنطلقة من مظلة إسلامية/جهادية في تغذية حالة الفوضى التي تعيشها المنطقة. وهل ستقيم تمييزًا إجرائيًّا بين الجماعات التي تقبل بقواعد اللعبة السياسية (مثل الإخوان المسلمين) وبين تلك التي تعمل خارج إطار الشرعية (مثل جماعات الزرقاوي والظواهري)، أم أنها سوف تعامل الجميع على نحو سواء.

إن التحليل التقليدي يرد ظاهرة الصعود الإسلامي إلى نوع من رد الفعل الشرطي على تزايد الإحباط الشعبي إزاء تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كما جاء على لسان العديد من الساسة والمحللين الأمريكيين(28)، غير أن تنامي الصعود الإسلامي بات يمثل ظاهرة متزامنة في العديد من البلدان، سواء العربية أو غير العربية، ذات المستويات الاقتصادية المتفاوتة، وبشكل يتجاوز -وإن لا ينفى- هذا التحليل التقليدي؛ الأمر الذي يجعل من الملف الإسلامي عاملاً بارزًا في إطار أي تصور مستقبلي لخريطة المنطقة، سواء بتركيبتها وحدودها الحالية، أو وفق أي تركيبة وحدود أخرى مغايرة.

ويحاول الساسة الأمريكيون أن يظهروا انفتاحهم على كافة معطيات عملية التحول الديموقراطي في الشرق الأوسط بالقول: “قد يقول البعض إن الولايات المتحدة على استعداد فقط لمساندة النتائج الانتخابية التي ترضيها. وليس الأمر كذلك؛ فالولايات المتحدة لا تعارض الأحزاب الإسلامية تمامًا كما لا تعارض الأحزاب المسيحية أو اليهودية أو الهندوسية في الديمقراطيات ذات الأسس العريقة. والولايات المتحدة سوف تساند العمليات الديمقراطية حتى إذا كان الذين مُنحوا السلطة لا يختارون سياسات نحبذها؛ فعلاقات الولايات المتحدة مع الحكومات -حتى لو انتخبت بنـزاهة- سوف تتوقف على كيفية معاملة هذه الحكومات لشعوبها، وكيف تتصرف على المسرح الدولي بالنسبة لقضايا تبدأ من الإرهاب، مرورًا بالتجارة وعدم انتشار المخدرات”(29).

كما أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أثناء عودتها من جولتها في الشرق الأوسط في 23 يونيو 2005 أن الولايات المتحدة لا تمانع في وصول الإسلاميين إلى الحكم، إذا ما أجريت انتخابات حرة في العالم العربي، وأن الولايات المتحدة ترى أهمية في التحاور مع الإسلاميين في المنطقة العربية، وأنها لا تخشى من وصول تيارات إسلامية إلى السلطة(30).

ولكن التقسيم الصارم للعالم بعد 11 سبتمبر (وربما قبل ذلك؛ تحديدًا من تاريخ تبني الإدارة الأمريكية لمشروع صامويل هانتنجتون للصراع بين الحضارات) إلى غرب وإسلام، والذي سمح للكثيرين بإعادة اكتشاف هويتهم الدينية والتأكيد عليها؛ نظرًا لإحساسهم أن دينهم -ومن ثم خط دفاعهم النهائي- قد بات في خطر، والذي أوحى بقصد أو بغير قصد بان الإسلام قد بات في بؤرة التركيز العالمي، وأنه مرشح بقوة لكي يحل في التصور الاستراتيجي الأمريكي محل العدو الشيوعي. هذا التقسيم لم تنجح التصريحات الأمريكية التصالحية في إزالة المخاوف المترتبة عليه.

ويغذي هذه المخاوف أيضًا ما درج عليه موجهو الإدارة الأمريكية من المحافظين الجدد، الملتزمين بخوض صراع حياة أو موت ضد الإسلام، من التأكيد على أن تهديد الولايات المتحدة لا يأتي من الإرهاب المجرد؛ بل ينبع من أيديولوجية التطرف الإسلامي، التي منها ظهر الإرهاب، ومن تأكيدهم أنه إذا أرادت الولايات المتحدة أن تكافح أو تحارب الإرهاب فإن عليها أن تخوض في صميم أيديولوجية الإسلام المتطرفة؛ وذلك لإحراز تقدم ملموس في الجانب التكتيكي في مكافحة الإرهاب، وتقديم ردود كاملة وشاملة على الأيديولوجية التي تُحرِّك الإرهابيين(31)؛ ولذا فقد علق أحد المحللين على مصطلح “الفوضى الخلاّقة” بأنه يشتمل على معنيين وهما: التدمير ثم البناء؛ “ذلك أن العدو الذي يجب تدميره هو عدو أيديولوجي بالدرجة الأولى؛ وهو “الشمولية الإسلامية”(32).

وتذهب بعض التحليلات إلى أن حالة العزلة الناجمة عن مواصلة الولايات المتحدة لمهمتها في العراق تحت حكم بوش؛ قد تغري حكومة بوش إلى تبني تكوين حلف مقدس مناوئ للإسلام، على غرار الحلف الذي ظهر إلى الوجود بعد عام 1815، للحيلولة دون اندلاع الانتفاضات الثورية في أوروبا، وهي رؤية تتم الآن تغذيتها من قبل أصحاب المصلحة في توريط أمريكا في صراع متصل مع الإسلام؛ مثل روسيا، وبعض القادة الهنود المناوئين للإسلام، وحزب الليكود الإسرائيلي، وكذلك الصين(33).

وعمومًا؛ فإن الولايات المتحدة تبدو في هذه المرحلة كما لو كانت فاقدة للبوصلة التي تقود حركتها في اتجاه محدد(34)، وعليه فإنه ليس من الملائم بحثيًّا البت بعبارات تفسيرية نهائية بخصوص السلوك الأمريكي إزاء العالم الإسلامي. فبين يدي الولايات المتحدة أكثر من ملف يمثل الإسلام والمسلمون العامل المشترك الأعظم فيها (إيران، العراق، القاعدة، حماس، الإخوان، جوانتانامو….). ويقتضي التعامل الذرائعي الذي يميز الولايات المتحدة؛ أن يكون لديها أسلوب مختلف لإدارة كل ملف من هذه الملفات. ورغم ذلك فإنه ومن حيث الخطوط العريضة؛ نجد أن الإدارة الأمريكية قد استقرت على تأييد النموذج التركي، كما استقرت على معادة النموذج الطالباني، في الوقت الذي ما زالت متأرجحة فيه بين قبول أو رفض النموذج الإيراني، وهي أخيرًا -وبشكل ما- ما زالت غارقة في إطار تفاصيل “النموذج” العراقي.

خاتمة:

لا يتضمن الإصلاح وفق المصطلح الأمريكي أي أبعاد قيمية أو أخلاقية، ولكنه يشير إلى تغيير الشكل Re-Form؛ فالإصلاح الأمريكي ليس وضعًا للأمور في أنصبتها الصحيحة كما يتبادر إلى الذهنية المشبعة بالتأثير الإسلامي؛ وإنما هو إعادة تشكيل شبكة تفاعلات عناصر منظومة دول وأحداث وأشخاص الشرق الأوسط، بما يوفر استقرارًا أكثر رسوخًا لهذه المنطقة. وقد اختارت أمريكا أن تتم عملية إعادة التشكيل هذه المرة ليس من خلال فرض الاستقرار، ولكن من خلال خلق حالة فوضوية تفسح السبيل أمام أجواء الانتظام الذاتي لمنظومة دول وأحداث وأشخاص الشرق الأوسط، بشرط أن يكون هذا الانتظام الجديد في صالحها.

فبشكل عام لم يكن ما جاهدت الولايات المتحدة للحفاظ عليه قبل أحداث سبتمبر استقرارًا بقدر ما كان تجميدًا للمشهد الذي تموضعت في إطاره الدول القومية لمنطقة الشرق الأوسط، في إطار ترتيبات مرحلة الحرب الباردة وما بعدها، تلك الترتيبات التي ضمنت للولايات المتحدة تحقيق أكبر قدر من المكاسب، سواء في مواجهة العدو السوفيتي الذي ولى، أو حمايةً لإسرائيل، أو ضمانًا لاستمرار تدفق نفط الخليج إلى موانيها.

ولا ينفى هذا أن الولايات المتحدة كانت تتزيا بلباس القوى الانقلابية عندما كان يلزمها ذلك، ولا ننسى في هذا الصدد دورها في الانقلاب على نظام مصدق في إيران وفي أول انقلاب عسكري شهدته سوريا؛ فقد كانت أمريكا قوة استقرار أو تغيير حسبما يناسبها، لكن يصح القول عمومًا إنها كانت أميل إلى دعم الاستقرار في الشرق الأوسط، بالنظر إلى أنها كانت تحتل موقعًا أقوى من خصمها فيه طوال مرحلة الحرب الباردة، ويأتي تحولها الراهن نحو التغيير مرتبطًا بانتهاء صلاحية النظام الشرق أوسطي الموروث عن عهد الحرب الباردة والذي لم يطرأ عليه تغير مهم في حقبة نظام القطب الواحد الانتقالية، ولذا يرجح البعض أنه ما إن تنجح واشنطن في بناء شرق أوسطها الجديد الكبير أو الموسع؛ حتى تعود إلى منطق المحافظة على الوضع القائم(35).

وبطبيعة الحال يمكن القول إن الولايات المتحدة ما عادت تثق في سياسة المحافظة على نخب موالية تستفيد من الغطاء الأمريكي في توفير الحماية لذواتها من بأس شعوبها، فتحرم هذه الشعوب من حقوقها، وتمارس بحقها وصاية أبوية؛ لكونها تفترض فيهم عدم الرشادة، فتولد فيهم كبتًا وقهرًا يبحث عن النقاط الضعيفة في التربة القمعية الصخرية لكي يتنفس من خلالها، فلا يجد سوى السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، ثم يقرر أن يمارس فعلاً احتجاجيًّا مدويًا فلا يجد أنسب من المجتمع الأمريكي نفسه ليصنع فيه ومنه أعجوبة سبتمبر التي ما زالت منذ تفجرت حديث العالم بأسره.

وهكذا بعد أن كان ثمة اقتناع بأن هذه المنطقة من العالم من المناسب أن تُترك لحكم المستبدين، على اعتبار أنهم الأقدر والأنسب للتعامل معها، وبعد أن كان دور الخبراء في الولايات المتحدة ينحصر فقط في تحديد أي الطغاة ينتقى لكي يحقق الاستقرار العملي(36)؛ أصبحت ثمة قناعة بأن الاستقرار الحقيقي يجب أن يكون ذا صبغة تفاعلية نشطة، فما يجب الحفاظ عليه ليس هو السكون المميت، ولكن التفاعل الحيوي، حتى وإن ترتب عليه خسائر مادية وبشرية ضخمة، تطال جنود المارينز أنفسهم.

لقد كانت التضحية بالاستقرار الزائف خطوة ضرورية من وجهة نظر الإدارة الأمريكية، ولكن لم يكن الأمر نفسه فيما يتعلق بتبني الفوضى كخيار استراتيجي؛ ذلك أن الاستراتيجية في تعريفها النظري لا تقوم وفق أي تعريف منطقي على إشاعة الفوضى، بل إن التفكير العقلاني نفسه والذي يفترض أن تستند إليه أي استراتيجية؛ ليس سوى محاولة لفرض النظام على الظواهر، ومن هنا فإن إشاعة الفوضى لا تتضمن القيام بعمل مدروس، أو خطوات سابقة التحديد؛ لذا فإن المحصلة النهائية لها يتحتم أن تستعصي على التحكم حتى من قبل المخططين المفترضين لها.

وعليه؛ فإنه من المعقول نظريًّا أن نفترض كون الإدارة الأمريكية قد طوعت على نحو ما التعريف الاصطلاحي للفوضى قبل أن تتبناها كاستراتيجية في سياستها الخارجية؛ فالفوضى التي تمارسها الولايات المتحدة حتى هذه اللحظة ليست بلا زمام، ولكنها نوع من الفوضى الموجهة، والقائمة على افتراض قابلية منظومة أوضاع الشرق الأوسط؛ لإعادة الانتظام وفق ترتيب معين يحقق مصالح القطب الأمريكي.

ولن يتحقق ذلك بطبيعة الحال ما لم تكن العناصر الأساسية في المنظومة مدفوعة للتحرك في الاتجاه الذي ترغب فيه الولايات المتحدة، وذلك من خلال إتاحة عدد من الجواذب Attractors (اتفاقات تجارة حرة، وضغوط لتعديلات دستورية وخطوات إعلامية مكثفة: تجربة قناة الحرة، وراديو سوا، ومواقع الإنترنت، وحافظات البريد الإلكترونية المجانية الموزعة عبر شبكة المعلومات الدولية)، التي تحقق التقاء طوعيًّا على آراء أو ميول أو وجهات نظر تتفق مع الطموحات الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.

كما تجتهد الإدارة الأمريكية من خلال تبنيها لسيناريو حرب الأفكار المشار إليه آنفًا، في فرض مناخ فكرى يحقق لها بيئة آمنة للتواجد المستقر، من دون مساعدة النخب الحاكمة؛ فمن خلال بث المفاهيم التي تقرن بين الإسلام والإرهاب (بما يشعر المسلم بأن الانتماء إلى دين هذه صفته منقصة تستوجب الاعتذار)، ومن خلال التلويح دومًا بملف المرأة (والإشارة إلى التخلف الإسلامي في توظيف هذه الطاقة التي تمثل نصف المجتمع)، ومن خلال فتح ملفات حرية التعبير (أزمة الرسوم الكرتونية، وقضية التماثيل)، والحرية الشخصية (حقوق الشواذ)، وملفات حقوق الإنسان والأقباط والأقليات وحقوق المجتمع المدني، بل ومن خلال تشجيع عملية تشبيك العالم وتمهيد الطرق أمام وسائل الاتصالات بكافة أنواعها لخلق عقل جمعي مبرمج وفق النمط الغربي. من خلال كل ما سبق تصبح الذات الحضارية في حالة من انعدام الوزن؛ بما يجعلها قابلة لاختراق الطرح المعولم ذي الصبغة الأمريكية بالأساس.

إذن للفوضى الأمريكية أبعاد مقصودة وموجهة، وليست تطبيقًا للنظرية في صورتها القياسية؛ فهي ليست وليدة لغياب التخطيط لما بعد غزو العراق، كما هي ليست مجرد ستار لإخفاء نوايا لتمزيق المنطقة إلى عدد من الدويلات التي يسهل قيادتها؛ لأنه لم تكن مسألة الولاء هي ما ينغص على الولايات المتحدة مصالحها في إطار بلدان الشرق الأوسط القديم، وإنما انبثاق العنف الذي بدا بعد أحداث سبتمبر قادرًا على الوصول إلى العمق الأمريكي نفسه.

لقد اعتبرت وزيرة الخارجية الأمريكية أن خبرتها بالعالم الجديد قد قادتها إلى استنتاج مؤداه أن الطبيعة الجوهرية للأنظمة تهم في عالم اليوم أكثر مما يهم التوزيع الدولي للسلطة؛ لذلك فقد بلورت هدف السياسة الخارجيةللولايات المتحدة في المساعدة على بناء عالم ديمقراطي يتكون من الدول التي يتم حكمها بشكل رشيد، والتي تستطيع أن تفي باحتياجات ومتطلبات مواطنيها، وتتصرف بمسئولية داخل إطار المنظومة الدولية؛ وذلك بدعم نمو المؤسسات الديمقراطية في جميع الدول كاستجابة واقعية لمواجهة التحديات العالمية.

ولكن المشكلة الحقيقية التي تواجه تلك السياسة الأمريكية الطموحة؛ تتمثل في كيفية تعاطيها مع المنتوجات الجانبية وغير المحسوبة لعملية التغير بعرض العالم، التي تقوم بشنها تحت مسمى الحرب على الإرهاب. هذه المنتوجات التي لا يمكن توقعها أو حسابها أو اكتشاف النمط الذي تجري على وفقه. وعلى حد قول بريجينسكى: “فإن تغيير الشرق الأوسط سيكون مهمة أكثر تعقيدًا بكثير من ترميم أوروبا بعد الحربين العالميتين. فالترميم الاجتماعي يبقى على رغم كل شيء أسهل من التغيير الاجتماعي؛ ولذا لابد من التعامل مع التقاليد الإسلامية والمعتقدات الدينية والعادات الثقافية بصبر واحترام، قبل القول بأن أوان الديمقراطية قد آن في الشرق الأوسط“(37).

وهذه كما هي معضلة للإدارة الأمريكية؛ فإنها معضلة كذلك بالنسبة لقاطني هذه المنطقة من العالم، والذين ينبغي عليهم أن يسهموا في حسم معادلة الفوضى وحلها بما يناسبهم، وذلك بأن يدخلوا قيمهم ومبادئهم ومصالحهم بشكل أو بآخر كأرقام في المعادلة، وألا يتركوا الساحة خالية للولايات المتحدة لكي تمارس الجمع والطرح والقسمة والضرب، وهي مطلقة اليد، محررة البال من أي هاجس سوى حسابات المكسب والخسارة الخاصة بها، ومن دون أي نظر إلى مصالح الشعوب التي تدفع دومًا وفي كل الظروف فاتورة الفوضى، كما أنها هي التي ترزح أبدًا تحت نير الاستقرار!

هوامش الدراسة

(1) شكّل الرقم عنصرًا شديد الحضور في إطار سيناريوهات الفوضى الخلاقة، وخضع -من ثم- لكافة عمليات التلاعب التي كان من الممكن أن تسوق التفاعلات في وجهات غير التي سلكتها لو تم الإفصاح عن حقيقة تلك الأرقام. ومن ذلك الأرقام الخاصة بعقود إعادة الإعمار في العراق، والأرقام الفعلية لأعداد الضحايا من الجانبين (العراقي والأمريكي)، والأرقام الخاصة بتقدير خسائر قوات الاحتلال من غير الجنود، والأرقام الخاصة بمساهمات الدول العربية في حرب تحرير العراق من نظام صدام حسين، والأرقام المعلنة من قبل الإدارة الأمريكية عن حصتها من تكاليف هذه الحرب، والأرقام الخاصة بخسائر المجتمع العراقي من الثروات التي نُهبت إبان الغزو واستباحة مقدرات الدولة … إلخ.

(2) حسن نافعة، كوندى والفوضى الخلاقة في المنطقة العربية، إسلام أون لاين 9/4/2005 على الرابط:

http://www.islamonline.net/Arabic/politics/2005/04/article05a.shtml

(3) علي أحمد باكير، استراتيجية الفوضى الخلاقة في لبنان، مجلة العصر، 26/ 8/ 2005 على الرابط:

http://www.alasr.ws/index.cfm?method=home.con&contentid=6980

(4) المرجع السابق.

(5) سليم الحص، الفوضى اللبنانية الخلاقة، صحيفة الوفاق، 28/ 6/ 2005، على الرابط:

http://www.al-vefagh.com/1384/840407/html/ara.htm

(6) فيصل جلول، فصل في أن السذاجة العربية داء قاتل، موقع الحركة المصرية للتغيير، 3/ 5/ 2005، على الرابط: http://harakamasria.org/node/1877

(7) كمال غبريال، الغرب والقفز إلى المجهول، شفاف الشرق الأوسط، على الرابط:

http://www.metransparent.com/texts/Kamal_Ghobrial_west_and_jumping_to_unknown.htm

(8) ارتبط الحديث عن نظرية الفوضى باسم عالم الأرصاد الأمريكي‏ إدوارد لورنز ‏Edward Lorenz، والذي اكتشف مدى العشوائية في التوقعات الخاصة بمعرفة الظروف المناخية‏.‏. ففي عام ‏1961 أراد‏ ‏لورنز‏‏ التأكد من بعض البيانات الخاصة بتوقعاته المناخية، والتي كان يدرسها باستخدام نموذج من اثنتي عشرة معادلة‏،‏ وبدأ بإدخال أرقام مشابهة للمعادلة التي يقوم بحسابها، إلا أنه أدخل الأرقام حتى ثلاثة أرقام عشرية، في الوقت الذي كان الجهاز يحسب فيه باستخدام ستة أرقام عشرية، فوجد النتائج مختلفة تمامًا‏،‏ وعلى الرغم من أن الاختلاف كان بسيطًا للغاية إلا أن لورنز خرج بنظرية تقول‏:‏ إن الاختلافات البسيطة قد تنشأ عنها نتائج شديدة الاختلاف، يمكن أن تزداد حدة كلما ازداد مدى استمرارها. كما اكتشف لورنز أن الأنظمة البسيطة محدودة المكونات يمكن أن تظهر من خلال تفاعل مكوناتها سلوكًا مستقبليًّا معقدًا ومستعصيًا على التنبؤ الدقيق‏.‏ انظر:

Chaos Theory: A brief Introduction, http://www.imho.com/grae/chaos/chaos.html

(9) يوسف مكي، التفتيت والفوضى الخلاقة بديلًا عن الاحتلال المباشر، صحيفة الوطن السعودية، شبكة راصد الإخبارية، على الرابط http://www.rasid.com/artc.php?id=6976

(10) سليم نصار، معضلة سوريا بعد المؤتمر القطري العاشر: دولة لها أحزاب أم حزب له دولة. صحيفة الحياة اللندنية، 11/ 6/ 2005. على الرابط:

http://www.daralhayat.com/opinion/06-2005/Item-20050610-6792327e-c0a8-10ed-00d4-1f050025cc8e/story.html

(11) المعروف بكونه “قلعة” المحافظين الجدد في واشنطن، والمؤسسة الهامة في بناء وصياغة مشروعات الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش السياسية في الشرق الأوسط‏، وهو أيضًا المنبر الذي اعتاد الرئيس أن يختاره كثيرًا ليعلن فيه مشروعاته السياسية الكبرى في المنطقة، وهو من أشد المؤيدين للحرب في العراق ولا تحمل مواقفه بشكل عام أي تعاطف مع العالم العربي، وعنوان موقعه الإلكتروني هو:

http://www.aei.org/

(12) Michael A. Ledeen, Creative Destruction, National Review Online, Publication Date: September 20, 2001, at: http://www.aei.org/publications/pubID.13181,filter.all/pub_detail.asp

(13) ويفيد مبدأ المبادرة الرئيسي بأن أمريكا ستتولى -بدعم من أوروبا وتأييد من إسرائيل- تعليم العالم العربي كيف يصبح عصريًّا، بغية نشر الحرية السياسية والمساواة بين الرجل والمرأة، وإمكانية وحرية الحصول على فرص التعليم، وتحقيق قدر أكبر من الانفتاح في الشرق الأوسط. وتشتمل عناصر المبادرة أيضًا على استحداث مناطق تجارة حرة في المنطقة، ومصادر تمويل للأعمال الصغيرة، إضافة إلى تقديم المساعدة في الإشراف على الانتخابات.

(14)http://www.washingtonpost.com

(15) فقد تبنت هذه الوثيقة ضرورة المسارعة بشن “حرب أفكار”، وبخاصة ضد العالم الإسلامي، “وذلك من خلال عدد من المحاور على رأسها المحور المفاهيمي (تشبيه الإرهاب بالرق والاستعباد والقرصنة والقتل الجماعي)، ومن خلال تأييد الحكومات “المعتدلة” خاصة في الشرق الأوسط، وأخيرًا من خلال استخدام دبلوماسية فعالة تعمل على تسهيل التدفق الحر للمعلومات والأفكار التي تنادي بالحرية. لمزيد من التوضيح انظر الوثيقة الخاصة باستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة عن البيت الأبيض في عام 2002 على الرابط: http://www.whitehouse.gov/nsc/nss/2006/sectionI.html

وانظر أيضًا: http://usinfo.state.gov/ar/Archive/2006/Mar/20-291767.html

(16) فعلى حد ريتشارد هاس فإن: “عدو اليوم لا يستخدم الأساليب التقليدية في الهجوم؛ لأنه يعلم جيدًا أن تلك الأساليب مصيرها الفشل؛ ومن ثم فهو يعتمد أكثر على عمليات الإرهاب، وعلى أسلحة الدمار الشامل التي يسهل احتواؤها وتخبئتها. أما هدف هجمات ذلك العدو فيتمثل في القوات الأمريكية والمدنيين الأمريكيين. وبناء على ذلك يتحتم على الإدارة الأمريكية أن يكون لديها من الضربات الوقائية ما يدفع عنها تلك الهجمات الإرهابية..

(17) ياسين الحاج صالح، السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط من الاستقرار إلى الفوضى الخلاقة، مجلة حوار العرب، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، العدد 12، نوفمبر 2005.

(18) كوندوليزا رايس، تعزيز الحرية هو الطريق الواقعي إلى الأمن، جريدة الاتحاد الإماراتية، على الرابط:

http://www.wajhat.com/details.asp?id=16765&a=1&journal=12/13/2005

(19) خطاب كوندوليزا رايس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، انظر جريدة الحياة 21/ 6/ 2005، على الرابط:

http://www.daralhayat.com/arab_news/nafrica_news/06-2005/Item-20050620-9b8c1532-c0a8-10ed-00f8-029799c1bdd8/story.html

(20) Richard N. Haass, Towards Greater Democracy in the Muslim World, Council on Foreign Relations, Washington, D.C. December 4, 2002 at: http://www.cfr.org/publication/5283/towards_greater_democracy_in_the_muslim_world.html

(21) Richard N. Haass, op.cit.

(22) قارن مع: عمر كوش، مرتكزات نظرية الفوضى الخلاقة، في سياق الاستراتيجية الأمريكية، مجلة حوار العرب، مرجع سابق.

(23) انظر في هذا: محمود حيدر، الجذر الديني-الفلسفي لنظرية الفوضى الخلاقة، مجلة حوار العرب، مرجع سابق.

(24) إنجيل متى، الإصحاح العاشر، الآية 35 وما بعدها.

(25) يعقب معظم المذيعين الأمريكيين على الكلمات والخطب التي يلقيها الرئيس بوش (وتذيعها قناة الحرة) بمثل هذه العبارات.

(26) زبيجنيو بريجينسكي: كيف نصنع أعداءً جددًا،جريدة الاتحاد الإماراتية، 26 أكتوبر 2004، على الرابط:

http://www.wajhat.com/details.asp?id=7675&a=1&journal=10/26/2004

(27) وفقًا لمصادر الصحافي المصري هيكل؛ فإن رئيس الوزراء الأسبق أريئل شارون قد اتصل بالرئيس الأمريكي بوش إبان الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية في مصر، لمطالبته بالتدخل لعرقلة فوز الإخوان المسلمين بالأغلبية في مجلس الشعب المصري.

(28) حيث علق ريتشارد هاس نحن ندرك تمامًا عندما نشجع الديمقراطية أن التحرك المفاجئ نحو الانتخابات الحرةفي البلدان ذات الأكثرية الإسلامية قد يأتي بالأحزاب الإسلامية إلى الحكم. لكن السبب لا يكمن في كون الأحزاب الإسلامية تتمتع بثقة السكان الساحقة؛ بل لأنها في الغالب المعارضة المنظمة الوحيدة للحالة الراهنة التي تجدها أعداد متزايدة من الناس غير مقبولة.

(29) Richard N. Haass, op.cit.

(30) انظر: http://usinfo.state.gov/mena/Archive/2005/Jun/27-774513.html

(31)حافظ الميرازي، برنامج من واشنطن: الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، 24/2/ 2005. على الرابط: http://www.aljazeera.net/NR/exeres/D281133F-3EAC-4C11-AC05-AD63B1712B7C.htm

(32) Michael A. Ledeen, Creative Destruction, op.cit.

(33) زبيجنيو بريجينسكي، كيف نصنع أعداءً جددًا، مرجع سابق.

(34) راغدة درغام، واشنطن لم تفقد خياراتها ولكنها تبدو فاقدة البوصلة، صحيفة الحياة، 24/ 2/ 2006، على الرابط:

http://www.daralhayat.com/opinion/07-2004/Item-20040715-c3c926f6-c0a8-01ed-000d-41f248327b04/story.html

(35) ياسين الحاج صالح، مرجع سابق، ص 73.

(36) Michael A. Ledeen, Creative Destruction, op.cit

(37) زبيجنيو بريجينسكي، الطريق الخطأ لنشر الديموقراطية في العالم العربي، صحيفة الاتحاد الإماراتية، 9 مارس 2004، على الرابط: http://www.wajhat.com/details.asp?id=3406&a=1&journal=3/9/2004

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر