أبحاث

الإسلام ونظافة البيئة واتزانها

العدد 109

( أ ) مبـادئ وأسس:

سـبق الديـن الإسـلامي الحنيف إلى وضـع تشـريعـات محكمـة لرعـايـة البيئـة وحمـايتهـا مـن آفــات التلوث والفســاد, ورســم المنهـج الإســلامي حـدود هذه التشــريعـات على أسـاس الالتزام بمبـدأين أسـاسيين التي يعيش فيهـا.

أما المبدأ الأول فهو(درء المفاسد) حتى لا تقع بالبلاد وبالعباد، وتسبب الأذى للفرد والمجتمع والبيئة حيث لا ضرر بالنفس ولا ضرار بالغير.

وأمـا المبـدأ الثاني فهـو «جلب المصــالح» وبـذل كـل الجهـود الـتي من شــأنهـا تحقيق الخـير والمنفعــة للجمـاعة البشــرية ابتغــاء مرضــاة الله ورحمتـه في الدنيا والآخـرة.

وأهـم مــا يمـيز المنهـج الإِسلامي في الحفـاظ على البيئــة هـو الأمـر بالتوســط والاعتـدال في كـل تصـرفـات الإنســان باعتبـــاره مـن أهـم عـوامـل الخلـل والاضطـراب في منظومــة التـوازن البيئي المحكـم الـذي وهبــه الله – ســـبحـانه وتعـالى- للحياة والأحيـاء في هذا الكون, ولقـد أقـام الإســـلام بنـاءه كلــه على الوســطية والتوازن والاعتدال والقصـد, وذلك في مثل قولــه تعـالى : (وَكَـذَلِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًـا) ] البقـرة : 143 [, كمـا نهى عن الإســراف في مواضـع كثـيرة من القـرآن الكـريم, فقـال تعـالى : (وَكُلُوا وَاشْــرَبُوا وَلاً تُسْــرِفُوا إنَّــهُ لاً يُحِبُّ الْمُسْرفِينَ) ] الأعـراف : 31 [, كمـا قـال تعـالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرهِ إذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّـهُ يَـوْمَ حَصَــادِهِ وَلاَ تُسْـرفُوا إنَّـهُ لاَ يُحِبُّ الْمسْرِفِين ) ] الأنعــام : 141 [, بل إن الإســلام دعــا إلى الاعتـدال حتى في الإنفــاق, فقـــال تعــالى : ( وَالَّذِينَ إذَا أَنْفَقُـوا لَمْ يُسْــرِفُوا وَلَــمْ يَقْتُرُوا وَكَـاَنَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) ] الفرقـان : 67 [.

وفي السـنة النبويـة المطهـرة أيضـاً نهى رســول الله jعـن الإســراف في اســتعمـال المـاء حتى ولو كـان من أجـل الوضـوء. فقـد روى عبـد الله بن عمـر أن رسـول الله j مـر بسعـد وهـو يتوضـأ فقـال: «ما هذا الإســراف ؟», فقـال : أفي الوضـوء إســراف ؟ فقـال: « نعـم, وإن كنت على نهـر جـار »[1].

فالوســطية الرشــيدة هـي مسـلك المسلمين ودعـوة الإسـلام لأتباعه في كل الأحـوال وعمـوم الأوقات, ومن ثم فإنهـا خـير ضمـان لحمـاية التوازن البيئي, سنة الخــالق جـل وعـلا لاحتضــان الحيــاة واســــتمرارهـا على كوكب الأرض.

ولقـد أجمعت الدراسـات التي أجريت حـول مشــكلات التلوث البيئي على وجود علاقة وثيقة بين إسـراف الإنسـان في تعاملـه مع مكونـات البيئـة المختلفـة وبين التلوث بجميع أشــكاله, كمــا أن الإسـراف يفضي إلى مشــكلات بيئية أخـرى لا يقتصـر تأثيرهـا على الإنســان وحـده, بل يمتـد ليشمـل بـاقي الأحيـاء التي تشــاركه الحيــاة على كوكب الأرض, وأن مـا تعانيه البيئـة اليوم من تدهـور شمل ثرواتهـا الطبيعية التي أوشك بعضهـا على النفــاذ, وغـاباتهـا الشـاسعـة التي أزيل منهـا الكثــير, بالإضـافــة إلى بعــض أنـواع الطيـور والحيـوانات والكـائنـات البحـرية التي انقرضت أو في طريقهـا إلى الانقـراض؛ ليس إلا نتيجـة طبيعية لتدخل الإنســان الزائد عن الحد بمـا يفسـد على البيئة نظـامهـا المحكـم الدقيق.

ولاشــك أن خـير وسـيلة لإنقـاذ البشــرية أو البيئـة مـن آثــار الإســراف واسـتنزاف المـوارد الطبيعية دون جـدوى أو اكـتراث بالأخطــار إنمـا يكون بالعـودة إلى منـهج الدين الإســلامي في الوسـطية والاعتـدال؛ حـــيث «لا ضـرر ولا ضرار»[2].

على أن الدعــوة إلى الوســـطية والاعتدال لا تغنى بطبيعـة الحال أن يقف الإنســان مكتـوف الأيدي إزاء النظـم البيئيـة المحيطــة بــه, أو أن يعطـل أداء واجب التعمــير الـذي تقتضيــه أمـانــة الاستخلاف في الأرض, ولكنـه يعنى أن يتعـامل الإنســان مـع هـذه النظـم البيئيـة بمـا يمكنـه مـن تطـوير حيـاتـه دون إسـراف في اسـتخدام المـواد الطبيعيـة أو جـور على حقـوق الآخـرين, وخـاصـة وأن حكمــة الاسـتخلاف تســتلزم إقـامـة الحضــارة, وتحقيق النمــاء, وإزالة مـا يعترضهمـا من عوائق.

والإصـلاح واجب تســـتلزمه الأمـانـة أيضــاً, ويتسـع مفهـومـه ليتضمـن إعـادة كـل شـيء إلى أحسـن صـورة ممكنـة يقـول الله تعـالى : (إنْ أُريـدُ إلاَّ الإصْـلاَحَ مَـا اسْتَطَعْتُ وَمَـا تَوْفِيقِي إلاَّ بالله ) [هـود : 88] والإصـلاح مـن الشـعب الإيمـان, والقيـام به يؤدى إلى طريق الجنـة.

عن أبـى هـريرة رضـى الله عنـه عن النبي j قال : « الإيمـان بضع وسـبعون أو بضـع وستون شعبـة, فأفضـلهـا قول لا إلـه إلا الله, وأدناهـا إمـاطـة الأذى عن الطريق »[3].

وعـنـه jأيضـاً أنـه قـال : «مر رجـل بغصن شــجـرة على ظهـر طريق فقــال : والله لأنجـين هـذا عـن المســلمين لا يؤذيهـم, فأدخـل الجنـة »[4].

فـالإصلاح في الإسـلام مستوى رفيع من الإيجابية يتعـدى مرحـلة التمني السلبي بالخـير والامتنـاع عن الشـر ومنع الغير من الإضــرار بــالمجتمع, ولكـن المؤمـن مـن يرتقى هنـا من شعوره بانتمـائـه للجمـاعة إلى إحسـاســه بالمسـئوليـة نحو مـا يهـددهـا من أخطـار, فيســعى جاهـداً لإزالـة هذه الأخطـار من حياة المسلمين.

وبـالطبع لا يشــترط أن يكـون هذا الفـرد هو مصـدر الأذى أو الخـطـر, حتى يندفع لإزالتـه, بل إنـه يتطوع لإزالة أي ضـرر تسـبب فيه غيره, وقصـرت همتـه عن أن يزيلـه, فالمؤمن للمؤمـن كاليـدين تغسـل إحداهمـا الأخـرى, وهذا التطوع يعنى أنـه آثر الغـير على نفســه, واسـتغل وقتــه وطـاقتــه لتحقيق الصـالح العـام للجمـاعــة, وهو إذ يقـوم بذلـك فإنمــا ينطلق من دافـع الحب للمسلمين حبًّـا يبتغى بـه مرضـاة الله تعـالى, وهذا هو كمـال الإيمـان, روى أبو أمـامـة عن النبي j قال : «من حب لله, وأبغض لله, وأعطـى لله, ومنـع لله, فقـد اســـتكمل الإيمـان»[5].

وعن أبي بـرزة قــال: يــا نبي الله علمني شيئـاً أنتفع به, فقال j: «اعزل الأذى عن طريق المسلمين»[6].

ويسـتلزم الإصـلاح, تحرك المسلمين لوقف أي فســاد يطـرأ على المجتمع, وإلا اعتـبروا جميعـاً ظالمين معـرضين للهـلاك, يقـول الله سبحــانه وتعــالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَـــةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذينَ ظَلَمُـوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)  ] الأنفـال : 25 [, ويقول عز وجل : (فَلَوْلاَ كَــانَ مِـنَ الْقُـرُون مِنْ قَبْلِكُمْ أُو لُو بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسـَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيــلاً مِمَّـنْ أَنْجَيْنَــا مِنْهُـمْ وَاتَّبَــعَ الَّذيِــنَ ظَلَمُــوا مَــا أُتْرفُـوا فِيــهِ وكَـانُوا مُجْرمِينَ (116) وَمَــا كَـانَ رَبُّكِ لِيُهْلــكَ الْقُـــرىَ بظُلْــمٍ وَأَهْلُهَــا مُصْلِحُـونَ) ] هود :116, 117 [.

وعن أبى سـعيد الخـدري رضى الله عنـه عـن النبي j أنـه قال : «من رأى منكـم منكـراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلســانه, فإن لم يستطع فبقلبـه, وذلك أضعف الإيمـان»[7].

وهـكـذا تتضح وظيفــة الخـلافــة في الأرض : إقــامـة حضـارة وحمـايتهـا من الإفسـاد, وإصلاحهـا مما قـد يطـرأ عليهـا من فسـاد وضـرر, وهـذا ينعكس على كـافــة جوانب الحضــارة ومجـالاتهـا في الاقتصـاد والاجتمـاع والسياســة والطب وغيـرهـا[8].

إن الإســلام ـــ فقط ـــ هو الذي يقـدر على تنسيق جميع الأنشـطة الإنســانية, بما في ذلك الأنشـطـة العلميـة, والفلسفيـة, والفنيــة, والاقتصـادية, والسياسـية, والدينيـة, وفي الحقيقـة كـل نشــاط في الإسـلام يعتـبر عبـادة لله لو أنـه كـان يتيم أداؤه لتحقيق الهدف الذي خـلق الإنسـان من أجـله, وهو أن يكون نائب الله على الأرض[9].

خــاصـة حين تكون الحضــارة في المنظـور الإسـلامي هي الـتزام أخـلاقي, فهــي الــتزام يجعــل المــرء على وهي بالمسئولية الكبيرة التي يتحملهـا الإنسـان الفـرد, ليس فقط تحملــه المسـئولية عن أفعـاله الخـاصـة, وإنمـا بمعنى عام هو تحملـه المســئولية عن العــالم الذي يعيـش فيـه. فكـان يعيش فوق كوكب أرضى واحـد أصبح أمثل سفينة تتقاذفهـا الأمواج من كـل جـانب. نحن جميعـاً ســكـان هـذا الكوكب مســئولون بدرجـات متفاوتـة عمـا أصاب هـذا الكوكب الأرضي من تلوث في المــاء والهـواء والغـذاء, ومــا أصـاب طبقة الأوزون من تأكـل ينـذر بخطـر داهـم يهدد البشـرية كلهــا.

وهذا الفهـم الجـديد الذي يصنع عنصـر المسـئولية في مقـدمـة العنـاصـر الأسـاسية التي تشكــل ظـاهرة الحضــارة هو الذي أدى ـــ على ســبيل المثــال ـــ إلى انعقـاد مؤتمـر الأمم المتحـدة للبيئة والتنميـة, أو مـا أطلق عليه اسم «قمـة الأرض»؛ لمنـاقشـة المشـاكل البيئية العـديدة التي تهـدد الحيـاة والأحياء على الأرض, في محـاولة لإنقـاذ البشـرية من الأخطـار والكـوارث التي لا يعلم مداهـا إلا الله, تلك المشـاكل التي نتجت عن التقـدم التقني المنفلت الزمام, ومـا تســببه النفـايات الذريـة ونفايـات المصـانع من تلويث للهـواء والمـاء والغـذاء. فهـذا المؤتمر المشــار إليـــه يعــد تعبيـراً عن المســئولية الحضـارية المشـتركـة التي أصبح سكــان الأرض جميعـاً مطــالبون بتحمـل أعبـائهــا, وهـذه المســئولية تعنى أن الحضــارة الحقيقية تصـنع الإنســان ـــ الذي هو نفســه صــانع الحضــارة ـــ في قمــة اهتماماتهـا, إذا قلنـا الإنســان فإن ذلك يعني أي الإنسـان بكل ما يعبـر عنـه ذلك من معنــى, الإنســان في شــتى جوانب اهتمـاماتــه المـادية والعقليــة والروحيــة؛ ومن هنــا فـإنه لا يجـوز اختزال الحضـارة في إرضـاء الاهتمـامات المـاديــة فقط أو الروحية فقط أو العقليـة فقط, بل لابد أن يكــون هنــاك تـوازن بين كـل هذه الاهتمـامـات والمتطلبـــات, فالأزمــة الحضـارية الراهنـة في العالم ترجع في رأي كثــير من المفكرين إلى أن قدرة الإنســان المعـاصر على تشكيل ذاتـه على المستوى الفردي والجمـاعي, قـد تراجعت تراجعـاً حــادًّا خلف قـدرتــه على تشــكيل بيئـه تشكيلاً ماديَّا[10].

ومن هنـا يعـد السعي من أجـل سيـادة السـلوك الأخلاقي في مقــابل الحضــارة الشيئية البحتة مسئولية يشـترك في تحملهـا كل فرد, خاصـة حين يكون الإنســان هو هـدف الحضــارة قبل أي شــيء آخـر, ويكون وضع الإنســان في الكون وضعـاً هـامًّا من حيث الإنســان للمسـئولية عن الكون, ومن حيث هو خليفـة الله في أرضـه.

ب) البيئـة والإنســان والعقيـدة:

ومن هنـــا يجب أن يؤخـذ الكون بأســره, أو عالم الشهـادة على أنـه بيئة الإنســان الكــبرى, حتى يمكن وضع تصـور عـام يتضح فيـه الربط بين البيئـة ومشكلاتهـا من جهـة, وبين العقيدة من جهة أخــرى. وهـذا ضـروري في فهـم العلاقة بين الإنســان والبيئـة من منطلق عقـدي.

1 ـــ التوحيــد الخــــالص: وهو أول الثوابت الإيمانية التي تمثل نقطـة الانطلاق وحجـر الزاويــة في توحيد رؤيـة الإنســان الصائبة لحقــائق الحياة والوجـود, خاصـة أن الحق طالبنا بالتوحيد الخالص في أول أمــر إلهــي (اقْـرَأْ باسْــمِ رَبَّـكَ الَّذي خَلَق) ]العلق :1[ ومن كـانت عقيدته الدينية هـذا التوحيـد الخـالص, فإنـه يجـد في نفسـه دافعـاً أقوى ممـا يجد ســواه نحو أن يبحث دائمــاً عن الوحدة التي تؤلف بين الكـثرة, أيًّا كــان الموضـوع, فيبحث عن محـور الوحـدانيــة في الكون بأسـره مجتمعـاً في وجـود واحـد, ويبحث عن محور الوحـدانية في الشخصية الإنسـانية برغم اختلاف الجوانب الكثيرة في حياة الفرد واختلاف العلوم الباحثــة في تلك الجوانب[11].

ومن هنــا كـانت دعـوة الإسلام إلى الإنسـان لاسـتخدام ملكـاته الفكـرية في تأمل آيات الله في الآفاق وفي الأنفس, للوصـول إلى معـرفة الخـالق حـق المعـرفـة (سَـــنُريهمْ ءَايَاتِنَــا فِي الآفَــاق وَفِي أَنْفُسـِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ الْحَقُّ) ] فصـلت :53[.

ولئن كـانت العلاقـة بين ثلاثيـة الدين والإنســان والكـون محـوراً للنقـاش والجـدل منذ قديـم الزمــان, فإن القـرآن الكريم قد رتب العلاقـة الصحيحـة بين هـذه القضـايا الثلاث في معـرض الحث على النظـر فيهـا, وصولاً إلى الحق المطلق, فقـد بدأ بالكون (البيئـة) الـذي هو أول ما يبصـره الإنســان حـين يفتح عينيــه, فهـو الينبوع الأول للإيمـان, والمسرح الأول للفكـر, ثم يثنى بالإنســان المنوط بعملية التفكير في قضـايا الوجـود الكـــبرى, وانتهــى بفضــية الألوهيـة.

ومــا دام الإنســان هو محور هذه القضـايا الرئيسية, فلابد أن يعرف حقيقة مكـانه في هذا الوجود, وعلاقتـه بالكون ومن فيـه, وعلاقتـه بخالق الكون والحياة الذي حملــه أمــامة الاســتخلاف بتطبيق أوامـره ونواهيـه على مسـرح الأرض, أو مســرح الكون, ولعل التعبيـر بالأرض, على مـا يـرى باحث معاصر[12] في قوله ســبحانه وتعـالى : ( وَإذْ قَــالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَـــةِ إِنَّـي جَــاعِلٌ فِــي الأَرْضِ خَلِيقَةٌ ) ] البقـرة : 30 [ مبعثـه أن الإنسـان ألصق بهـا من غيرهـا, فيكون الكون بذلك مقــام الوسيــلة التي يحقق بهـا الإنسـان غاية وجوده.

2 ـــ التــوازن البيـئي (الكونـــي): فالإيمـان بوحدانيـــة الله, يســتلزم بـالضـرورة العقليـة أن يـرد الإنسـان كل شيء في هـذا الوجـود إلى الخـالق الحكيـم الذي أوجـد هـذا العـالم بإرادتــه المبـاشـرة المطـلقـة, وخلقـه على أعلى درجـة من الــترتيب والنظــام والجمـال, وأخضعــه لنواميس ثـابتـة لا يحيـد عنهـا, وحفظ تنـاسقــه وتـوازنــه في ترابط محكـم بين عــوالم الكـائنـات ونظـمهـا البيئية, وبين أحـادهـا ومجمـوعاتهـا, وجعـل بنـاءه آية في الروعـة والكمـال, ليس فيه اختـلاف ولا تنـافر ولا نقص ولا عيب ولا خلل, قال تعــالى : (الَّذِي خَلَـقَ سَـبْعَ سَـمَوَاتٍ طِبَاقـاً مَـا تَرى فِي خلْقِ الرَّحْمَـنِ مِنْ تَفَـاوُتٍ فَـارْجعِ الْبَصَرَ هَلْ تَـرَى مِنْ فُطُورٍ) ]الملك :3[.

وقـد أكـد القـرآن الكـريم حقيقــة التـوازن (الكونــي) في مـواضــع مختلفـة, ونبـه العبـاد إلى الحكمـة السـامية وراء التنـاســق والنظــام في خلق هذا الكـون, وذلك في قوله تعـالى : (إنَّـا كُـلَّ شَــيْء خَلَقْنَـاهُ بقَـدَرٍ) ] القمـر: 49 [. وقوله تعــالى: (وَإنْ مِنْ شَـيْء إلاَّ عنْدَنَـا خَزَائِنـــهُ وَمَـا نُنَزَّلُــهُ إِلاَّ بِقَــدَرٍ مَعْلُومٍ) ] الحجـر: 20 [.

ونلاحظ ورود لفــظ «قــدر» في الآيتين الســابقتين, وفي آيـات أخـرى في القـرآن فيمــا يتصـل بالآيـات الكونيـة, وهـي تعــبر عن المقـدار الدقيق والذي تســتخدم الرياضيــات البحتــة الآن في التعبير عنــه في علوم الفيزيـاء الحديثـة, ويُدرك العلمـاء وحـدهـم الآن مدى الدقـة البالغـة في إحكــام الكون وقوانينــه, والذي لا يمكن التعبيـر عنـه إلا بلغـة أن يحصـى المفسـرون في القـرآن الكـريم أكـثر من ســبعمـائة وخمسين آية تتعلق بالكون, بينمـا آيات الفقـه لا تتعـدى المـائة والخمسـين آيـة, وكثـير من هذه الآيـات تحـدثنـا عن سـنن الله الكـونيـة, وهي قوانيـن ثابتـة لا تتغير, ومـا قـد يطـرأ عليهـا من تغـير أو انحـراف هو نتيجـة إفســاد الإنسـان وإســرافه في التعـامل مع ظـواهـر الكون وأسبابه.

وعنـدمــا نتــأمل الواقــع البيئـي نرى العـديد من الأمثلـة التي تؤكـد سمـة التوازن في الكون, والإســلام يمنح أتبـاعه رؤيـة شـاملة ومنهجـاً سليمـاً يؤسس فيه عقيدة التوحيـد من خلال عرض مشـاهـد الكون وانضباط قوانينـه وحـركته, فضلاً عن أنه يلفت الأنظـار إلى أهميـة اكتشـاف قوانيـن التسخير الكونيـة باعتبارهـا أساس التقـدم العلمـي والتقني لعمــارة الأرض, قــال تعـالى : (وَسَخَّـرَ لَكُـمْ مَـا فِي السَّمَوَاتِ وَمَـا فِي الأَرْضِ جَمِيعـاً مِنْهُ) ] الجاثية : 13 [, وقــال تعـالى : (أَلَــمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَـخَّـرَ لَكُـمْ مَـا فِي السَّــمَوَاتِ وَمَـا فِي الأَرْضِ) (لقمـان:20[13](.

3 ــ العلاقــة بين الإنســان المسـلم والبيئــة: وتتميز هذه العلاقــة بخصــائص وأبـعـاد, أهمهـا أنهـا علاقـة تـوازن ولفـة وانســجام لصـالح الحياة والأحيـاء, بمــا فيهـم البشــر الذين هــم قمــة الأحيــاء, وليست أبداً علاقــة حـرب وقلق وتنـافر وعــداء وصـراع كمـا يزعـم بعض المـاديين الطبيعيين Naturalists الذين يقـولون إن العـالم الطبيعــي وجـد نفسـه دون علــة خــارجيــه عنــه, ويتعــاملون مع بعض الظـواهـر الكونيــة على أنهــا « كـوراث طبيعيـة » خـاليــة من كـل خـير, ويعـدون كـل كشف لقـانون من قوانيـن الكون, وكـل تســخير لطـاقـة من طـاقاتـه, وكـل اخـتراع لتقنيـة متقـدمـة جديـدة, انتصـاراً على الطبيعــة, أو قهــراً لهـا وهيمنـة عليهـا[14].

وقـد بـدأ كثـير من علمــاء الطبيعــة الآن يفيقون من هـذا الوهـم ويـدركـون ضـرورة عـودة الوفــاق مع الطبيعــة, وأهميــة انسجـام الإنســان مع الكون, خـاصـة بعـد كشف كثـير من آليـات الطبيعـة وظـواهـرهــا والإدراك لذلك التوازن الدقيق بين قوانينهـا, وعلى ذلك فكمـا يقول «هـايكـل»[15] : فـإن الإيكولوجيـا الأضـواء على عـلاقـات متبـادلـة لم تكن تخطـر على بال.

بطبيعـة الحـال, يفضـى التحليل النـافـذ ــ وإن كـان غيـر كـامــل ـــ لداروين وبرهنتـه على تعقد العلاقـات بين الكـائنات الحية, إلى فكــرة تنطوي على قـدر كبــير من التـوازن ومؤداهـا أنـه في داخـل أي نظـام إيكولوجي[16], وفي كـافـة أنحــاء الطبيعـة تقيـم الكـائنــات الحيــة ـــ النباتـات ـــ والحيوانـات والنـاس ـــ علاقــات جدليـة قوامهـا التنـافس والتعـاون, ومن هـاتين القوتين, النـابذة والجـاذبــة, تنشــأ في كـل لحظـة تلك التوازنـات التي لا غنى عنهـا للحيــاة. ومن هـذه الرؤيــة الجديدة, انبثقت في منتصف القرن الماضي مفـاهيم الصـراع مـن أجـل الحيــاة, والتوتـر, والتكيف, والمقـاومـة, والمجـابهـة, والأزمـة التي ســوق تلعب من ذلك الحين فصـاعـداً دوراً أسـاسيًّـا في تفسـير الظـواهـر الحيــة, وفي نهـاية القــرن العشــرين بدأ التراجـع عن كثـير من هـذه المفـاهيم التي سـادت في القرن الماضي.

ومن هنـا نـدرك مـدى دقـة القـرآن الكــريم في التعبــير عـن العـلاقــة بين الإنســان والبيئـة المحيطـة به, فلقـد صـور القـرآن الكـريم في كثـير من آياتـه الكريمـة حقيقـة تلك العلاقـة الحميمـة بين الإنســان والبيئــة, وأخـبر الحق تعــالى بـأن كـل مكـونات البيئة في هـذا الكون الفسيح قـد أعـدهـا لاستقبـال الحياة ولكفـالة الأحياء فقـال : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّـرَ لَكُمْ مَا فِي السَّـمَوَاَت وَمَـا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُـمْ نعمَــهُ ظَـاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاس مَنْ يُجَـادِلُ فِي اللهِ بَغْيرِ عِلْمِ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ) ] لقمان : 20 [.

كمــا أكــدت السنــة المطهـرة علاقـة المـودة الصـافيـة بين النـاس ومـا تحتويه بيئته مـن موجـودات حيـة وغـير حيـة, فقـد كـان رســول الله j يقول عـن جبل أحـد, وهو يُدَلَّلُـه تدليل الصـدق : « هذا جُبيل يحبنـا ونحبـه »[17] فيخلع عليــه الحيـاة, ويشـعـر بالحب منه, كمـا يشـعـر بالحب لـه, ومثل هـذا الشـعـور بالقـربي يلقى في النفس بعـداً إيمـانيَّـاً يزيـد من انفتــاحهـا للكون والإقبــال على التعـامل معـه بكل الطـاقات الإبداعيـة.

وحينمـا قـال النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ــ: «أكـرموا بني عمــاتكـم النخل»[18] فذلك منــه تعبيـر عن وشــائج الألفـــة بين الإنســان وعنــاصر الطبيعـة, ألفـة نبتت جـذورهـا من الوحـدة المتعـددة المظـاهرة بين الإنسـان والكون.

ومن البين أن هـذا الأثـر النفســي من المـودة والألفـــة ينفـى من نفس الإنســان مشــاعـر الخوف والعـداء التي تتـأتى من اعتقـاد الغـربـة والتنـاقض, إذ الإنبتات وانعـدام الوشــائج تـزرع في الإنســان الشـعور بالغـربـة, والشـعور بالغربة إزراء شيء من الأشـياء أسـاس لنشـوء الخوف والعـداء.

وانتفـاء مشــاعـر الخـوف والعـداء إزاء الكون هـو الشـرط الأول لصنع منــاخ نفســي فيـه نفس الإنسـان للإقبال على الكون والانفتـاح عليه, والتعـامل معـه بتلقـائية ويسوء إذ تختفى حالة التوتر والجنـوح التي تـؤدى إلى تعطيل الطـاقـة الإنســانية وتصـدهـا عن الامتداد الطبيعي الفعـال[19].

ومن البيَّن أت افتقــاد البشــرية لهـذا البعـد الإيمـاني والشـعور النفســي القائم على المعرفة الصحيـة لطبيعـة العلاقـة بين الإنســان والبيئـة (الكون) كمــا يعـرضهــا المنهج الإسلامي المتفرد, هو الذي يدلنـا على طبيعـة الحـرب التي شـنها الإنســان على نفسـه في غمـرة انشغـاله بثورة العلم والتقنيـة, فهـي حرب ضـد الحيـاة على كوكب الأرض, الإنسـان المتورط فيهـا هو ذاتــه الذي يســعى جــاهـداً الآن ليكســبهـا ( إنَّهُ كَـانَ ظَلُومًــا جَهُولاً ) ] الأحزاب : 72 [.

ومن هنـا لا يكون غريبـاً أن نجـد عنايـة الإنسـان في الإسـلام تمتـد إلى كـل مظـاهر الكون, ســواء هذا الكــون المـادي أو ذلك الكون المتمثل في الكـائنــات الحيـة من نبـات وحيوان وطـير, فنجـد الحديث الشـريف يقـول : « ما من مسـلم يغرس غرسـاً أو يزرع فيــأكل منه طير أو إنســـان أو بهيمــة إلا كـان لــه به صدقـة »[20].

واعتبر الرسـول ـــ صّلى الله عليــه وسلم غرس الأشجـار وتطهير الأنهـار وحفـر الآبار وغيرهـا من الأعمــال النافعــة صـدقــة جـارية : فقــال : « سبع يجـرى للعبد أجرهن وهو في القبر بعـد موته : من علم علمـاً, أو كـرى نهـراً, أو حفـر بئـراً, أو غرس شـجـرة, أو بنى مسـجـداً أو وهب مصحفـاً, أو ترك ولداً يستغفر له بعـد موته »[21].

وقـد امتـدت عنـايـة الإسـلام بالرحمـة والإشفاق على الحيوانات باعتبارهـا أحـد العنـاصـر الحيـة في البيئـة, فعن أبى هريرة رضـى الله عنــه عن النبي j قال : « دخلت امـرأة النـار من جـراء هرة لهـا ربطتهـا فــلا هي أطعمتهــا ولا هـي أرسـلتهـا ترمرم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً »[22].

وعن عبد الله بـن عمـر رضـى الله عنه قال: « مـا مـن إنســان قتل عصفـوراً فمـا فوقهـا بغير حقهـا إلا سـأله الله تعـالى عنهـا, قيل: ومـا حقهـا ؟ قال : « يذبحهـا فيـأكلهـا, ولا يقطع رأسهــا يرمى بهـا »[23].

كمــا يقــول النبي j: « اتقو الله في البهـائم المعجمــة, فاركبوهـا صالحـة, وكلوهـا صالحـة »[24].

ومـا روي عـن شـداد بن أوس : « إن الله كتب الإحسـان على كـل شـيء, فــإذا قتلتم فأحسـنوا القتلـة, وإذا ذبحتم فأحسـنوا الذبحـة, وليحـد أحـدكـم شفرته, فليرح ذبيحته »[25].

ولم تمنع هـذه الرحمــة الســابقـة في الإســلام من قتل الحيوانات الضـارة في حـالة الإجـرام مثلاً : عن ابن عمـر رضي الله عنهمــا أن النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ قال : « خمس لا جنــاح على قتلهـن في الحــرم والإحـرام : الفــأرة, والغــراب, والحـدأة, والعقـرب, والكلب العقور »[26].

وتتســع الرحمـة لكــل كـائن حي في قولــه َj: « في كـل ذات كبد رطبــة أجـر »[27].

إن الإســلام نهـى عن الإفسـاد في البيئة حتـى في أوقــات المعــارك والجهـاد ضد الأعـداء, فيقـول الرسـول j آمـراً جنده: « لا تقتلوا امـرأة, ولا وليـداً, ولا شيخـاً, ولا تحرقـوا نخيلاً ولا ورعـاً »[28].

كمــا أن للمجتمع والبيئـة حقوقـاً على كـل مسـلم, ومنهــا حق الطـريق, ففي حديث أبي ســعيد الخـدري عن النبي j قال: « فأعطوا الطريق حقه ». قالوا : ومـا حقــه ؟ قـال النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ: « غض البصـر, وكـف الأذى, ورد الســلام, والأمـر بالمعـروف, والنهي عن المنكـر »[29].

ومن هنـا لم يكن غريباً أن نجـد باحثـاً معـاصـراً[30] يرجع الدينية في العـالم الغـربي, والافتتــان بــالعلم في قدرتــه الكشــفية والتكنولوجيــة الهائلة, الذي كــان هو السبب القـوي في إغراء الإنســان بمصــارعـة الطبيعـة بقصـد إخضـاعهـا لرغائبـه المـادية, وهو ما أشـار إليه « دوبـو » أيضـاً في قولـه : «وقــد أدى الــدين عــادة هــذا الدور (مواءمة الطبيعـة) عندمـا خلق فينـا احترامـاً للقوى الغـامضـة التي تحيط بنا, ولكن تأثير العلم على مدنيتنــا أوهمنـــا أننــا ذوو قـوة وسلطـان للسيطرة على الكون»[31].

ومـن هنــا يقول البــاحث : «ولعـل الوضـع المفـزع الذي آلت إليه الطبيعـة مـن التلــوث بعـد واحـداً مـن آثــار فكــرة الصـراع المضمـرة في أذهــان صــانعي الحضــارة المـادية الحديثـة ومـديريهــا, حيث أثمــرت تلـك الفكــرة نزوعـاً جـارفـاً إلى امتصــاص خــيرات الطبيعــة, حينمــا تمت الســيطرة عليهــا بــالعلم, ثم الإلقــاء بالنفـايات بما يعـود عليهـا بالضـرر الوبيل, فيمــا يشــبه حــال ذلك الوحـش الذي يصــرع فريســته فيـأكل منهـا, ثم يعبث بمـا بقـى منهـا ». وقـد كــان هذا الوضـع الـذي نتـج عـن فكــرة الصـراع مفزعــاً للعقلاء مـن أهـل الحضــارة الغربيــة, فـأطلقوا الصيحـات العـاليــة منبهــة إلى وجوب تـدارك الوضـع, وإعـادة بنــاء العلاقـة مع الطبيعة لتكـون علاقـة الوئام لا الصـراع, ولذلك تأسســت الجمعيــات الكثيرة, بل والأحـزاب السياســية التي تقوم على هـذا المعنى, قبل جمعيات الرفق بالحيوان وجمعيــات المحـافظــة على الطبيعـة الخضـراء, ومقـاومة التلوث.

وقـد كتب «رينيــه دوبـو» في هذا الســياق في كتـابـه الشــهير « إنســانية الإنســان » في نقـد العلاقـة العـدائيــة بين الإنســان والطبيعـة التي قـامت عليهـا الحضــارة الغـربيـة, وينتهـى في كتابــه إلى القـول : «إن غزو البيئــة أو الســيطـرة عليهــا ليست الطريقـة الوحيـدة للتخطيط, ولا هي على كل حال الطريقـة الفضلى, وعلى الإنســان عوضـاً عنهــا أن يحـاول التعـاون مع قـوى الطبيعـة, يجب أن يجعـل نفســه جـزءاً من البيئـة بحيث يصبح هو ونشـاطــاته في وحـدة عضـويـــة مع الطبيعــة»[32].

4 ـــ القيمـة الجمـاليــة: وهنــاك بُعـد جديـد يغيب عـن كثـير من البــاحثين والمهتمـين بشئون البيئـة, ولكنـه لا يغيب عن الرؤيــة الإســلامية, ذلك هو البعـد الجمــالي ـــ فعنـد استقصـاء حكمـة الخالق في إبــداع الكـون وتكوينــــه يجب أن يستشعـر الإنســان حقيقة البعـد الجمـالي في العلاقـة بين الإنســان والبيئة, وهو مــا يقــابل القصـد الإلهـي في إبـداع الكون الجميــل الصفــات العجيب التلويـن والتكوين, يقـول الله تعـالى : (أَلَــمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّـمــاء مَاءً فَأَخْـرَجْنَـا بهِ ثَمَـرَاتٍ مُخْتَلِفًــا أَلْوَانُهَـاَ وَمِنَ الْجبَـال جُـدَدٌ بيِـضٌ وَحُمْـرٌ مُخْتَلِفُ أَلْوَانُهَــاَ وَغَرَابيبُ سُــودٌ (27) وَمِنَ النَّــاس وَالـدَّوَابَّ وَالأَنْعَــامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُـــهُ كّذَلِـكَ إنَّمَــا يَخْشَــى اللهَ مِنْ عِبَـادِهِ الْعُلَمَـاءُ إنَّ اللهَ عَزِيـزٌ غَفُـور) ] فاطر : 27, 28 [.

وهـذه الدعــوة القـرآنيـة إلى تـأمل الجمـال الكوني, هي دعـوة إلى الارتفـاع بعلاقــات الإنســان بالكـون والبيئـة إلى مسـتويات عليـا من السـلوك والرؤيـة الإنسـانية النبيلة في مسـتويات الإصـلاح والأعمــار لا تقتصـر فقط على الإصلاح المــادي, بـل تتعـداه إلى الجمــال المعنوي البـادي في الكون, والذي يسعـى الإنسـان إلى تأملــه والمســاعدة على الاحتفـاظ إلى التفوق في مجـال العلوم الكونيـة المعنيـة بدراســة ظـواهـر الكون والحياة للإفــادة منهـا في تطوير حياة البشــر وفهـم أسـرار الوجـود.

ويؤكـد أهـل العلم البعــد الجمـالي في علاقــة الإنســان بالبيئة إلى الحـد الذي يجـدون فيــه أن النظـر البليد إلى الأرض والسمـاء دون إحساس بالجمـال هو نوع من المعصيــة ينبغي أن نتوب عنـه[33]. فالمتأمل في السمــاء ومـا يدور فيهـا من كواكب ومـا ينتشــر فيهــا من أفلاك, يجب ألا يغفـل عن زينتهــا التي نبــه إليهـا الحق في قولـه تعــالى : ( وَلَقَدْ جَعَلْنَـا فِي السَّـمَاءِ بُرُجـاً وَزَيَّنَّاهَــا لِلنَّـاظِــرِينَ ) ] الحجـر : 16 [ فالجمــال سمـة بـارزة من سمــات هــذا الوجـود, إن لم تكـن أبرز سمـاتـه, والحس البصــير المتفتح يدرك الجمـال من أول وهلـة وعنـد أول لقـاء, وهـو ليس أمـراً ضـروريَّــا في هـذا الكون, على الرغـم مـن تجليــه في كـل مكـان, ومن هنــا يعتــبر من كمــال هذا الكـون ومن تمـام هـذا الوجـود, وهو نـوع من النظـام والتنـاغـم والانسجـام, ذو مظـاهـر لا حصـر لهـا, فالدقـة والرقــة والتنــاسق والتوازن والـترابط ومظـاهـر أخـرى كثيرة يشـعر بهـا الوجـدان وإن لم يستطع التعبيـر عنهـا ببيان[34].

وعنـد النظـر إلى الأنغــام مـن زاويــة فوائـدهـا المـادية وقيمتهـا كثـروة حيوانيـة, يجب أن نحــافظ على الصـورة الجمـاليـة التي عبـر عنهـا القـرآن الكـريم بقولـه : (وَالأَنْعَــامَ خَلَقَهَــا لَكُـمْ فِيهَــا دِفْءٌ وَمَنَــافِعُ وَمِنْهَـا تَـأْكُلُونَ (5) وَلَكُـمْ فِيهـَا جَمَـالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْــرَحُونَ) ]النحـل : 5, 6[.

ولمـا كـان الجمــال مقصـوداً قصـداً في خلـق الكـون, وكــان البعـد الجمــالي ضـروريًّا ي علاقـة الإنســان بالبيئـة, فإن ما حـدث في عصـرنـا من أشكـال التلوث البيئي المختلفـة يجب النظـر إليـه على أنـه اعتـداء أثيـم على توازن البيئــة المحكـم وتشـويه متعمــد لشـكلهـا الجمـالي الذي جعلهـا الله عليـه. ومـن ثم يكـون العمـل على حمـايـة البيئـة من مختلف أشكــال التلوث والفســاد, والإبقـاء على الجمـال في صفحــات الكون, مطلبـاً إسـلاميًّـا عـزيـزاً تسـتحث لأجلـه الهمـم وتسـتثار الغـرائز[35].

جــ ـــ الإســلام ونظـافـة الإنســان أو البيئـة:

لا يوجـد دين أهتـم بالـدعوة إلى نظـافة الإنســان والبيئـة كـالإســلام, والمتأمل في آيـات القـرآن يجـد أن أول ســورة نزلت كـانت تنـادى بالعلـم, وثاني سـورة نزلت تنـادى بالنظـافـة, فقـد جـاء في السـورة الأولى قولــه تعــالى : (اقْـرأْ) وجـاء في السـورة الثـانيـة قولــه تعـالى :(وَثِيَـابَكَ فَطَهَّرْ) ] سـورة العلق وسـورة المدثـر[.

وترتبط نظـافــة البيئـة في الإســلام ارتبـاطـاً وثيقــاً بمفهـوم « الطهــارة », والطهــارة في لغـة العرب هـي النزاهة عن الأقـذار. وتكتسـب الطهـارة أهميــة خـاصـة في الشـريعـة الإســلاميـة لارتباطهـا بــأهم الواجبـات الدينيــة المتمثلــة في الصلاة. وقـد وردت الطهـارة واشتقـاقاتهـا المختلفـة في 31 موضعـاً بالقـرآن الكـريم, وســاد مفهــوم الطهــر من النجاسـات والأقـذار مـا يقــرب من نصف تلك المواضـع, مثـل قولــه ســبحانه وتعـالى : ( وَثَيـابكَ فَطَهَّـرْ (4) وَالرُّجْـزَ فَاهْجُرْ ) ] المدثــر : 4, 5 [ ( فَــاعْتَزلُوا النَّسَــاءَ فِي الْمَحِيـضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّــى يَطْهُـرْنَ ) ] البقـرة : 222 [ . ( وَإنْ كُنْتُــمْ جُنُبــاً فَاطَّهَّرُوا ) ] المـائدة : 6 [ ( فِيــه رجَـاٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّــرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهَّرين ) ] التوبـة : 108 [.

وقـد وردت الطهـارة في بقية المواضـع الأخـرى بمعنـى غـير حســي أو مـادي, وهـو ذلك المتصل بالطهـارة من عبـادة الأوثـان وقـول الزور, ويمثل ذلك قولــه تعــالي : ( يَا أَيُّهَـا الرَّسُــولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذيِنَ يُسَــارعُونَ فِي الْكُفْــرِ مِنِ الَّذيِنَ قَــالُوا ءَامَنَّــا بــأَفْوَاهِخـمْ وَلَـمْ تُوْمِـنْ قُـلُوبُهُـمْ … أُلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهَّـرَ قُلُوبَهُـمْ ) ] المائدة : 41 [.

وكذلك طهـارة القلب والمـال, كمـا في قولــه تعـالى : ( ذَلِكُـمْ أَطْهَـرُ لِقُلُوبكُمْ وَقُلُوبهِنَّ ) ]الأحــزاب: 53[ وقولــه تعــالى: ( خُـذْ مِـنْ أَمْوَالِهــمْ صَـدَقَــةً تُطَهَّـرُهُـمْ وَتُزَكَّيهِــمْ بهَــا ) ]التوبــة: 103[ وذلك لأن الطهـارة التي يسـعى إلى تحقيقهــا الإســلام للإنســان المسـلم لا تقتصـر على الطهــارة الحسـية والماديــة فقط, بـل تتعـداهـا إلى الطهـارة النفسـية والروحيـة والأخلاقيـة.

ولا نجـد دينـاً أو مذهبـاً فلسـفًّيا إنسـانَّيا اهتـم بالطهــارة وحــارب التلــوث مثل الدين الإسلامي, الذي يبالغ في هذا الأمـر من أجـل  إقـامـة حيـاة صحية للمســلمين, فقد حدد الإسـلام ثـلاث عشـرة مـادة إذا أصـابت إحـداها أي شـيء, مثـل : ثوب الإنسـان أو جسمه أو طعـامه أو شرابـه أو إنــاء الطعــام أو أرض الغـرفــة أو ارض الشـارع أو أصابت المـاء الدائم المستعمل للشـرب أو أصابت المـاء الدائـم المستعمل للشرب أو الغسيل أو الوضـوء, ولو كـان من مـاء بئـر أو نهـر, فإنهــا تنجس هذا الشـيء (أو العين) كمــا يســميهـا فقهــاء الإســلام, ولا يتطهــر إلا بإزالــة هذه النجـاسـة بغسلهـا بالمـاء الجـاري أو غليهـا على النـار بما يشبه نوعـاً من التعقيم الطبي  على الرغـم من عـدم معـرفــة العرب والمسلمين في هـذا الزمـان القـديم بعـالم الميكروبات والجراثيم.

ويشترط الإسـلام لإزالة هذه النجـاسـة إزالة كـل ما يتصـل بهـا, فهـو يشــترط عليك أن تزيل لـون النجـاســة ورائحتهــا وطعمهـا أيضـا. وبذلك يكون الإسـلام, كمـا يقول باحث معـاصـر[36], أول من نبه إلى أن تغير اللون والرائحــة والطعم دليل على وجـود ميكروب حي يتفــاعل, أمـا المواد النجسـة التي أشـار إليهـا الإسـلام, والتي قد تحمـل الميكروبات, فمنهــا:  القيح ــ والـبراز ــ والدم ــ والبول ــ والمني ــ والقيء ــ والخمـر ــ ولعــاب الكلب ــ ولحم الخنزير, وكـل شيء عفـن كبقـايا الحيوان المت أو الحي.

والإســلام أول ديـن يتحـدث عـن الميكـروبــات والطفيليــات, وهـو يكني عنهــا بكلمــة الخبث أو الخطـايــا أو الشيطــان, وهذا شـيء طبيعي, فلم يكـن العلـم قـد تقــدم واكتشــف عــالم الميكروبـات بعـد, ذلك العــالم الذي اكتشف بعـد صنع الميكروسـكوب المكبـر, ومـا يهـم الإســلام في مـرحله الأولى في ذلك الزمـن القـديم, هو أن يكتسب المسلمـون سـلوكـاً صحيُّا سليمـاً يسـاعـد على العيش في رغـد وهنـاء, على اعتبار أن اكتشــاف هـذه العوالم الدقيقة موكــول بتقـدم الإنســانية العلمي, وهو راجع إلى سنن الله الكونيـة التي تكشف عن نفسـهـا عندمـا تتوفـر للإنســان شـروط وأسباب معـرفتهـا. ومـن أمثلة ذلك قول الرســول ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : « قلــم أظــافرك فــإن الشيطـان يقعـد على مـا طـال تحتهـا » وفي ذلك إشــارة واضـحـة لا تحتـاج إلى مزيـد من التفســير إلى الميكـروبـات التي تعيش تحت الأظـافـر كالتيفود والدوسـنتاريا أو إلى بعض الديدان (كالاسكـورس).

ويقــول الرســول j: « إن توضـأ العبـد فمضمـض خـرجت الخطـايـا من فمـه, فـإذا غسـل وجهـه خرجت الخطـايا من وجهه, حتى تخرج من تحت أشـفـار عينيه, فإذا غسـل يديه خرجت من يديه حتى تخرج من تحت أظـافر يديـه, فـإذا مسـح برأسـه خرجت الخطـايا من رأسـه حتى تخرج من أذنيــه, فإذا غسـل رجليـه خرجت الخطـايا من رجليــه حتى تخـرج من تحت أظافر رجليه, ثم كـان مشيـه إلى المسجـد والصلاة نافلة » وهـذا يؤكـد على أن النظـافة والطهـارة كـانت شيئـاً مقصـوداً لذاتــه, إضـافـة إلى العبــادة الروحيــة لله تعـالى في الإســلام.

وكثـيراً ما يشـير القـرآن إلى النجـاسـة والميكروب بكلمــة الرجس والشـيطـان فيقــول تعــالى: (إلاَّ أَنْ يَكُـونَ مَيْنَةً أَوْ دَمًـا مَسْــفُوحـاً أَوْ لَحْـمَ خِنْزِيرٍ فَإنَّــهُ رجْسٌ) ]الأنعــام: 145[ ويشـير إلى الطهــارة أي التخلص من الميكـروب بالغســيل بالمـاء الجـاري, فيقـول سبحـانه وتعـالى: (وَيُنَـزَّلُ عَلَيْكُـمْ مِنَ السَّمَــاء مَـاءً لِيُطَهَّركُـمْ بـهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ) ]الأنفـال: 11[.

ومعـروف في عصـرنا الحـاضـر أن مجـرد الغسـيل الجيـد بالمـاء الجـاري ولو كـان ليد الجـراح الذي سيجـرى عمليـة جـراحية في غـرفــة العمليــات, فـإنـه يكفـى لتطهيرهـا وتعقيمهـا من الميكـروب.

وقـد أراد الإســلام بذلك أن يجعل من النظـافــة عقيـدة وسـلوكـا ملزمـاً للمسلم, وليست لمجـرد الخوف مـن المرض, فهـو بهـذا يجعـل النظـافــة جزءاً لا يتجـزأ من تعــاليــم العبـادة والصلاة, بل إنــه جعلهــا من الإيمـان, بل نصف الإيمـان, قائلاً ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ : « النظـافة شطـر الإيمـان »[37].

فإذا أردنـا استعـراض أشكـال النظـافـة في الإسـلام, فإننا نجـدهـا تشمـل الإنسـان, كمـا تشمـل كل البيئـة المحيطـة به, وهي على الترتيب التالي :

أولاً : نظـافـة الجســم Personal Hygene

حث الإســلام المســلم على نظـافـة البدن, فقــال j: « النظــافــة تدعـو إلى الإيمـان, والإيمــان مع صــاحبه في الجنـة »[38]. كمــا قال ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ « تنظفـوا فإن الإســلام نظيف ».[39] ولذلك لا يكتفى الإســلام بـالوضـوء قبل الصـلاة كوسيلة للنظـافة, بل يأمـر بالغســل أي الاستحمــام في كل مناسبـة, حتى لقـد أحصى علمـاء الفقـه الأســباب الداعيــة للاستحمـام في الإسلام بأنهــا سبعـة موجبـة وسـتة عشـر مستحبـة, أي أنهــا ثلاثـة وعشـرون سببـاً. كمـا يلتزم المسلمـون بالاجتمـاع والالتقـاء معـاً مرة كـل ـسبوع في صلاة الجمعـة التي يستحب فيهـا الغسـل لقـوله j: « غسل يوم الجمعـة واجب, والسـلوك, وأن يمس من الطيب ما يقـدر عليـه ». وقوله j: « إذا جـاء أحـدكم الجمعـة فليغتسـل », بل لا يجـوز للمسـلم أن يمضـي عليه أكـثر من أســبوع دون اسـتحمام؛ وذلك لقول الرسـول j: « حق علــى كل مسلم أن يغتسـل كل سبعـة أيـام يومـاً يغســل فيه رأسـه وجســده ».

وأمـا الجنـاية فقـد فرض الإسـلام على الرجـال والنســاء الاستحمـام من الجنابة, كمــا حض النســاء على وجـوب الاســـتحمام من المحيض, ولا يكتفى الإسـلام بالاستحمــام لنظـافـة الجسـم, بل إنــه يـأمر بإزالــة كـل ما يمكـن أن تتجمع تحتـه القـذارة والميكـروبـات في جســمه. فمـن ذلك أمــره بالاســتحداد, أي خلق شــعر العـانــة, ونتف الإبط, والختـان للذكـور, وقص الشــارب حتى لا يعلق فيــه الطعـام والأوســاخ, وفي هـذا يقـول الرســـول j: «خمس من الفطـرة : الاسـتحداد, والختان, وقص الشـارب, ومفت الأربط, وتقليم الأظـافر ».

وقـد دقق الإســلام بشــدة على نظـافة الأيدي, وهي من أهـم اعضــاء في نقل المرض, وأمر بغســل الأيدي في الوضـوء ثــلاث مـرات, في المـرة الواحــدة بحيث يصل الماء إلى المرفقيـن. ويقول الرسـول j: « اغسـل يديك قبل الأكـل وبعـده », كمــا أمـر بقص الأظـافر وتنظيفهـا : « قلم أظـافرك فـأن الشيطـان يعقـد على مـا طال منهـا » كمــا يقـول الرسـول ـــ صّلى الله عليـه وسلم ـــ « إن الشيطـان حسـاس لحـاس فخـافوه على أنفســكم … من بـات وفي يـده غمـر فلا يلومن إلا نفســه ». والغمــر هو بقـايا الطعـام الدسم واللحـم.

كمــا يحث الإســلام على غســل الأيدي قـبل النوم وبعـد الاســتيقاظ, يقـول j: « إذا أتيت مضجعك فتوضـأ وضوئك للصلاة » ويقـول : « وإذا قــام أحـدكم من نومـه فليغســل يديه فأنت لا تدرى أين كانت يداك».

ومن تعــاليم الإســلام أيضـاً غســل الأيدي قبـل الدخـول على المريض وبعـد الخروج من عنده.

ومن السنة أن يخلل الإنســان ما بين أصابع القـدمين في الغســل وعند الوضـوء, ويقــول الرسول j: « إذا توضــأ فخلل أصـابع يديك ورجليك ».

كمــا حذر النبي jمن عـدم تخليل الأصـابع حين قـال : « من لم يخلل أصابعـه بالمــاء خللهـا الله بالنــار يوم القيـامـة »[40]. وهـذا الوعيـد الذي يتضمنــه الحديث الشـريف يستهدف دفع المسلم إلى تخليل أصـابعــه بالمــاء لإزالـــة مــا بينهــا من الأوســاخ, خـاصــة وأن هـذا الأمـاكن مرتـع لأنـواع مختلفـــة من البكتيريــا والطفيليـات.

أمـا نظـافـة الفم والأسنان فقـد أخـذت اهتمـامـاً كبيراً من توجيهـات النبي ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ فقد كان j يســتاك إذا أخـذ مضجعه وإذا قام من الليل وإذا خـرج إلى الصلاة, وكـان الصحـابة يحملون معهـم سلوكهـم أينمــا ذهبــوا ويربطونهــا في ذوائب سـيوفهم, وكـان نســاء الصحـابة يحملن السـواك في خمرهن[41], وذلك كله لشـدة اهتمـام الإســلام بصحــة الفـم ونظـافته التي تتوقف عليهــا صحـة المعـدة وصحـة جسم الإنســان عـامــة. وقـد بين ارســول ـــ صّلى الله عليــه وســلم حكمـة استعمـال السـواك فقــال : « السـواك مطهـرة للفم مرضـاة للرب »[42].

فالســواك يطهـر الفـم ويزيل مـا يعلق بين الأســنان من فضـلات الطـعام. وقـد أوضح العلــم الحديث أن المـواد التي يتضمنهــا السواك (خشب الأراك) تقتل الجراثيم, فتشــفى الأفـواه مـن الأمـراض, ولا يقتصــر اســتخدام الســواك على الأســنان, بل تشــمل اللسـان أيضــاً. والمعـروف الآن أن البكتيريــا تتكـاثر أيضـاً على سـطح اللسـان كمـا تتكـاثر على بقـايا الأطعمــة بيـن الأســنان, قـال أبو موسـى : «أتينـا رسـول الله j, فرأيته يستاك على لسـانه»[43].

ومن هنــا لم يكــن غريبــاً أن يقـول الرسـول j: « لولا أن أشق على أمتى لأمرتهـم بالســواك عند كـل صلاة ». ورأى بعض صحـابته يهمـل نظـافة أسنانه فقــال : « مــالي أراكــم تدخلــون علـيّ قلحـاً .. استاكوا رحمكم الله ».

ومن هنــا يقـول النبي j: « إني لأســتاك حتى لقـد خشــيت أن أحفى مقــادم فمــي ». ونظـراً لأن الســواك يتلوث ببقـايـا الطعــام, فقـد أوجبت الشـريعـة الإســلاميـة صـرورة عســل السـواك بالمـاء لإزالة مـا عليـه. قالت عائشـة رضـى الله عنهــا : «كـان رســول الله j يعطيني السواك أغسله, فأبـدأ به فستاك, ثم أغســله, ثم أدفعــه إليـه»[44] وروى عنهـا أنهـا قالت: « كنـا نعـد لرسـول الله j ثلاث أوان مخمـرة من الليل : إنــاء لطهــوره, وإنــاء لســواكه, وإنـاء لشـرابه »[45].

كمـا اهتم الإسـلام بنظـافـة شـعر الرأس, حيث أمـر الإسلام بتهـذيب الشـعر وحسن مظهـره, فالرســول j يقول « من كـان لـه شعـر فليكرمـه ». وعن عطاء بن يسـار أن رجلاً ثائر الرأس واللحيـة دخل على رسـول الله j فأشــار إليــه الرسـول j وأمـرة بغسـل شعـره واصلاحـه, ففعـل ثم رجع إلى محـل الرسـول j, فقـال : «أليس هـذا خيراً من أن يأتي أحـدكم ثـائر الرأس كـأنه شيطـان».

ورأى النبي j رجلاً أشعـر أشعث, فقــال: « أمـا وجـد هذا مـا يسكـن بـه شعـره ».

كمـا اهتـم الإســلام بنظـافـة ثوب المسلم وأناقته, وكان النبي j يسـتاء إذا رأى مســلمـاً لا ينظف ثوبــه ويقـول لأصحابه: «أمــا يجـد هذا ما يغسـل به ثوبــه»[46]. والثوب الأنيق النظيف لا يعتبر كبرياء أو تعـاليـاً في الإسلام, خاصـة وأن النبي j يقــول: « لا يدخل الجنــة من كـان في قلبـه مثقـال ذرة من كبر » فقـال له رجـل: « يا رسـول الله .. إن الرجل يجب أن يكون ثوبـه حسنـاً ونعله حسنـاً فهل هذا كبر » .. فقـال الرسـول j : « إن الله ســبحانه وتعــالى جميل يحب الجمـال » وأخـذ يذكـرهم بقـول الله تعـالى : « يَـا بَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُـمْ عِنْدَ كُلَّ مَسْجِـد » ] الأعـراف : 31 [.

ثانيـاً : نظـافـة الطعـام والشـراب:

نجـد عنـايـة بالغـو من الإســلام فيمــا يتصل بنظـافـة الطعـام والشـراب تمثلت فيمـا يأتي :

أ ـــ أمـره كــل مسـلم أن يغطى إنــاء الطعـام, وأن يسـدد وعاء المـاء ولا يتركـه مكشــوفـاً للأتربــة والذباب والميكـروب, وهـذا نجــده في قــول الرســـول j: « أو كئــوا قـربكـم واذكــروا اســـم الله, وغطـوا آنيتكـم واذكــروا اسـم الله »[47]. كمــا يقـول: « اتقـوا الـذر فــإن فيــه النســمة» والذر هو الغبــار, والنسمـة هس المـرض, وقـد ثبــت حديثــاً أن بعض الأمـراض المعـديـة  تنتقـل بالرذاذ عن طـريق الجو المحمـل بالغبــار (أي الـذر), وأن الميكروبـات تتعلق بذرات الغبـار عندمـا تحملهـا الرياح, فتصـل بذلك من المريض إلى السـليم عن طريق فمـه وأنفـه أو آنية طعامـه وشـرابه.

ب ـــ ويحـرص الإســلام على نظــافة إناء الطعـام والشـراب قبل وضع الطـعام فيه أو بعـد اســـتعمـاله. ولإزالــة لعــاب الكلب لنجاسـته يجب غسـل الإنـاء سبع مـرات, أولاهمــا بالـــتراب لقـول النبي j: «طهـور إناء أحـدكم إذا ولـغ فيه الكلب أن يغسـله سـبع مرات أولاهن بالتراب» وحكمـة الغسـل بالتـراب على ما يذكـره البــاحث الكبــير الدكتــور شــوقي الفنجــري,[48] أن العــرب لم يعـرفــوا الصـابون في ذلك الوقت, وكـان الـتراب الوسيلة الوحيـدة لإزالة بقـايا الطعـام من دهـن وظفـر, وهي التي يختبئ فيهــا الميكـروب, وبذلك يكـون الصــابون والمـاء مجـزياً في عصـرنا عن هـذا التراب.

جـ ـــ وعن نظـافـة الشـراب: نهي الإســلام أن تتبــادل الجمــاعـة على إنـاء واحــد .. وأن يضعــوا أفواههـم على نصـدر الشــراب … بل أن يشــرب كل منهـم في كــأس خــاص, وفي ذلك تقول السيدة عائشــة رضي الله عنهــا: « نهى رســول الله أن يشـرب في السقـاء, لأن ذلك ينتنه ».

وعن أبي ســعيد أن رســول الله نهـى عن احتثــاث الأســقية أن يشرب من أفواههـا ». وقـد كـان لرســول الله كـأس خاص من الخشب يشــرب فيه في البيت هو والسيدة عائشـة.

ثالثـاً : نظـافـة البيئـة :

ـــ نظـافة مصــادر الميـاه :

اهتم الإســلام على عـدم تلويث مصــادر الميــاه, فمنــع إلقــاء القـذارة أو النجـاسة فيهـا, كمـا حرم التبرز أو التبول في المـاء, واعتبر ذلك مجلبــة للعنـة الله تعـالى : « اتقـول الملاعن الثلاث : البراز في الموارد وفي الظـل وفي طرق النـاس ».

ويقــول النبي j أيضــاً : « لا يبولن أحـدكــم في المـاء الدائم ثم يتوضـأ فيه فإن عـامة الوسـواس منه ».

وعن ابن ماجـة « أن النبي j نهـى أن يبال في الماء الجـاري ».

وعن جـابر عن النبي j أنـه نهـى أن يبال في المـاء الراكـد.

وحكمــة النهـى عن التبــول في المـاء اراكـد منــه أو الجــاري واضحــة, وهي الوقـاية من الأمـراض التي تنتقل بواســطة تلوث المياه, مثـل البلهـارســيا والأنكلسـتومـا.

ومعروف الآن الكثير من الأوبئة مثل الكولــيرا والتيفــود والتهـاب الكبد المعدي قـد تنتقل المــاء الذي تعيش فيه, كمــا أن البلهــارســـيا وطفيليــات الانكلســتوما تخرج مع البراز وتنتقل إلى جسـم الإنســان السليم عبر الماء, ومن هنا يعتبر الإســلام أن المـاء الذي يصيبـه البول نجســاً ولا يجوز الوضــوء منــه أو الاستحمــام منه.

ومن الملاحظ أن أحــاديث الرســول j تحذر دائمــا من المـاء الراكـد والآسن, حيث ثبت أن كثــيراً من الطفيليــات والميكروبات لا تعيش في المـاء الجـاري.

ـــ نظـافة المسـاكن والشـارع :

حث النبي j على نظافة البيوت فقــال : «إن الله طيب يجب الطيب جـواد يحب الجود, كريـم يحب الكرم, نظيف يحب النظافة, فنظفوا أفنيتكـم ولا تشـبهـوا بـاليهـود »[49]. ويحذرنــا الرسول j في هـذا الحديث من التشبــه باليهــود الذين كــانوا يفرطـون في إهمــال تنظيف بيوتهـم, لأن تراكـم الأوســاخ يعطـى الحشـرات والجـراثيم مجـالاً رحبـاً للازدهـار والنمــو, فضـلا عن انبعاث الروائح الكريهـة التي تزكم الأنوف.

وقـد جعـل الإســلام نظـافـة المكان شرطاً مهمًّا عند اختيار الأرض التي تؤدى عليهــا الصلاة, ولا تصح صلاة المرء إذا لم يؤدهـا فوق تربــة نظيفــة من النجاسات بمختلف أنواعها.

كمــا يحث الرســول j المسلمين على نظافة الطريق, فيقول: « من سمى الله ورفـع حجـراً أو شجـراً أو عظمـاً من طريق الناس مشــى وقـد زحـزح نفســه من النــار ». وقـولـــه : « أن تميط الأذى عن طـريق الناس لك صـدفة ».

كمــا يذكـر النبي j محذراً من يتبرز في طريق, ومن غســل ســخيمته على طريق المسـلمين, بــأن عليــه لعنــة الله والملائكـــة والناس أجمعين.

ومن روائـع الإســلام أنــه حـرم البصق على الأرض, وجعـل ذلك خطيئـة, ومن يفعلهــا تقلل من حســـناته وثوابــه. فعن أنس عن النبي j أنه قال: «البصق على الأرض في المســجـد خطيئـة, وكفـارتهـا ردمهــا» والحكمـة العلميــة وراء ردم البصق أن تدفـن في الأرض فـلا ينقلهــا الريــح, كمــا أن الميكـروبــات لا تعيش طويلاً في التراب الجـاف.[50]

وفي الحقيقــة فــإن تـاريخ المحـافظــة والحمـايـة للبيئة يرجـع في أقـل تقـدير إلى ثلاثــة آلاف ســنة قبــل الميــلاد عنـدما شـرعت حضــارة أور UR (العـراق اليوم) قوانين تضمن عـدم اضمحلال الغـابات من جراء الاســتنزاف الجـائر. وبالمثل أقـر مجلس الشــيوخ الرومــاني قبــل نحـو ألف ســنة قانونـاً يقضـى بحفظ الميــاه خلال فترات الجفاف لتستخدم لاحقـاً, ليس فقـط لتوفير ميـاه الشـرب. ولكن أيضــا لتنظيف الـطرقــات والمجاري.[51]

وغنى عن القول التذكــير بأن جذور المحـافظــة على البيئـة مغـروســة بثبات في تعـاليـم الأديـان السـمــاوية الربانيــة, بل حتى شــعائر الأديـان الأرضـية أو الوضعيــة, كالبوذيــة والهنـدوســية والكونفوشيســية التي ترشـد أتبـاعها إلى حسن المحـافظـة على الطبيعـة الأم. وقـد رأينـا كيف اكتملت تعـاليم المحـافظـة على البيئـة والاهتمـام بهـا في الدين الإســلامي, وقـد سن لأتباعـه شـرائع تصب بشكـل أو بـآخـر في نصلحه البيئـة, وهي شـرائع متعـددة ومتنوعـة تبـدأ من إمـاطـة الأذى عن الطريق, والرفق بــالحيوان, وتنتهـى بإقـامـة المنــاطق المحميــة (الحـرم في العرف الشـرعي).

لقــد علم الإســلام أتباعـه أنه إذا قامت القيـامــة وفي أحـدنــا فســيلة نخلــة فليغرســـها, وهي التي لـم تثمـر إلا بعـد سـنوات طويلة, وهـذا الدين هو الوحـيد الـذي يكــافـئ معتنقيــه الجنــة إذا رفع أحـدهم الشــوك من الطريق, فمــا بالك بملوثــات العصــر الحــاضر الأكثـر ضـرراً وفتكـاً؟

***

* أستاذ الفلسـفة الإسـلاميـة, قسـم الفلسفـة والاجتمـاع, كلية التربيـة ـــ جامعة عين شمس.

[1] سنن ابن ماجة / 425.

[2] د. أحمـد فؤاد باشــا : الفلسـفة الإســلامية ومشـكلات البيئة. ضمن أعمــال المؤتمـر الدولي الأول للفلسفـة الإسـلامية. كلية دار العلوم 1996م.

[3] رواه مسـلم.

[4] رواه مسـلم.

[5] رواه أبو دتود والترمذي.

[6] رواه مسلم.

[7] رواه مسلم.

[8] د. إبراهيـم عبد الحميد الصياد : المدخـل الإسـلامي للطب, ص 170 ـــ 173, سلسـلة البحوث الإسـلامية, 1987.

[9] د. محمـد معين صديقي : الأسس الإسـلامية للعلم, ص17, المعهـد العالمي للفكـر الإسـلامي, مصر 1989م.

[10] د. محمـود حمـدى زقزوق : الدين والحضــارة, ص 88, 89, المجلس الأعلى للشئون الإسـلاميـة, العـدد 14, 1996.

[11] د. أحمـد فؤاد باشـا : نسق إسـلامي لمنـاهج البحث العلمي : تحـديد الثوابت والمتغيرات, ومجلة منبر الحوار, العدد 17, 1990م.

[12] د. عبد المجيـد النجـار : الإنسـان والكون في العقيدة الإسـلامية. محلـة المسلم المعـاصر العدد 77. القـاهرة 1995.

[13] انظـر د. أحمـد فؤاد باشـا : البيئـة ومشـكلاتهـا من منظـور إسلامي, مجلة الأزهـر. ديسـمبر 1996م.

[14] وقـد وصف «رينيـة دوبو» أسـاس الحضــارة في أمـريكـا حينمــا هـاجر إليهــا الناس من أوربــا؛ إذا يقـول: اعتــبر أغلب مهـاجرى القرن التاسع عشـر الأحـراج والسهول والجبال بريـة يشعة يجب غزوهــا والسيطـرة عليهـا وامتلاك زمـانهــا لتوفير الغنى المـادي. انظـر : رينيه دوبو : إنســانية الإنســان, ص 249 (Rene Dubos  ).

[15] جان مارى بيلت / عودة الوفـاق بين الإنســان والطبيعـة, ترجمـة السـيد عثمــان, ص 27.

[16] النظــام الإيكولوجي : وحـدة تنظيمية بيولوجيـة تتـألف من كـائنات حية على علاقـة بالبيئة المـادية التى تعيش فيهـا. ويحـدد هـذه الوحـدة طـابعهـا الوظيفي, أى مجمـوع العلاقــات المتبادلة, الدينـامية والوظيفيـة, القائمــة بين جميع عنـاصـره المكونـة, المرجع السـابق, ص 41.

[17] انظـر د. عبـد المجيـد النجـار : الإنسـان والكون في العقيـدة الإسـلامية, مجلـة المسلم المعـاصـر, العـدد 77, 1995م.

[18] كـاصـد الزيـدي : الطبيعـة في القـرآن الكـريم. دار إفريقيـة, بغـداد 1980.

[19] كريس موريسـون : العلم يدعـو للإيمـان, ترجمـة محمـود صـالح الفلكي, دار القلم, بيـروت 1986. وانظـر د. عبد المجيـد النجـار : الإنسـان في العقيدة الإسـلامية, ص28.

[20] رواه البخـاري.

[21] الترغيب والترهيب ـــ الجزء الخامس.

[22] البخـاري.

[23] النسـائي : الضحايا.

[24] البخـاري : الأدب.

[25] البخــاري ومسلم / الذبائح.

[26] رواه الشيخـان.

[27] البخـاري / المساق.

[28] رواه أحمـد.

[29] رواه أحمـد.

[30] د. عبـد المجيـد النجـار : الإنســان والكـون في العقيـدة الإســلاميـة. ص 33 ــ 34.

[31] رينيه دوبو : إنسـانية الإنســان. ص 242. نقلا عن المرجع السابق.

[32] المرجع السـابق ص 247.

[33] الشيخ محمـد الغـزالي : فلسفـة الفن في الإســلام. مجلة المسلم المعـاصـر. العـدد 58. 1990.

[34] د. بركــات محمـد مـراد : فلسـتفـة الجمـال في الفن العربي الإسـلامي. المجلة العـربيــة للثقـافــة. العـدد 28, تونس 1995.

[35] د. أحمـد فؤاد باشـا : البيئـة ومشـكلاتهـا من منظـور إسلامي. مجلة الأزهـر. ديسمبر 1996.

[36] د. أحمـد شوقي الفنجري : الطب الوقـائي في الإســلام. ص 17, 18, الهيئـة المصـرية العـامة للكتـاب 1985.

[37] د. شـوقي الفنجـري : الطب الوقـائي في الإسـلام. ص 18, 19.

[38] رواه الطبراني.

[39] رواه أحمـد وأبو داود والترمذي وابن ماجـه والحـاكم.

[40] رواه الطبراني عن واثلـة رضى الله عنهـا.

[41] د. شوقي الفنجـري : الطب الوقـائي في الإسـلام, ص 22 ــ 24.

[42] رواه أحمـد والنسـائي والترمذي.

[43] متفق عليـه.

[44] رواه أبو داود.

[45] أخـرجه ابن ماجـه.

[46] رواه أبو داود.

[47] رواه البخـاري ومسلم.

[48] د. شوقي الفنجـري : الطب الوقـائي في الإســلام. ص 26, 27 استفـدنا هـذا التحليل الدقيق من بحث الدكتور الفنجـري المتعمق في كتابه السابق.

[49] رواه الترمـذي.

[50] د. شوقى الفنجـري : الطب الوقـائي في الإسـلام, ص 30, 31.

[51] أحمـد بن حــامـد الغــامدي : تـاريخ البيئـة من دهاليز السيـاسـة إلى أروقــة الأدب, مجلــة الفيصـل العـدد 316, الريـاض ديسمبر, عام 2003م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر