أبحاث

المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (2)

العدد 102

3- الباب الثاني:

(3-1) الفصل الأول:

العلاقة بين مقدمات المؤلف ونتائجه

سأعمل في هذا الفصل على دراسة أفكار الكاتب وتحليلها داخليًا ومحاولة معرفة مدى انسجامه مع ما وعد به من منهجية . وقبل الشروع في هذا الأمر تجدر الإشارة إلى أمرين هامين :

أ. أن البحث سيركز عمومًا في هذا الفصل على دراسة أمثلة المؤلف ونماذجه؛ لأن بها – كما يقول هو نفسه – تعرف منهجيته وفلسفته؛ حيث يقول: «فنحن نطرح النموذج من بعد الاسترجاع القرآني ، ليولد من خلاله قاعدة فهم تتحول إلى محدد نظري ، يتكامل مع غيره من المحددات في نماذج أخرى كثيرة لتأطير المنهج» . فصحة منهجه مرهونة بصحة نماذجه؛ لذا وجب التركيز عليها وإعطاؤه حقها من الدراسة والتمحيص، خلافًا لما قاله الدكتور طه جابر العلواني في مقدمته لهذا الكتاب وتأكيده من أن «المهم أن لا يشغل القارئ عقله وفكره بتلك الأمثلة والنماذج، بل عليه أن يركز على المحددات المنهجية والقضايا الفلسفية المثارة . فالمنهج هو قضية هذا الكتاب، ومحددات المنهج وأبعاده هي صلبه».

ب. سيعمل البحث قدر الإمكان على تناول الأمثلة والقضايا الواضحة والملزمة التى لا تحتمل غالبًا تعدد الأوجه، وذلك من خلال ما رسمه المؤلف لنفسه من مقدمات.

1. القرآن وضوابط الاستخدام اللغوي:

لقد قسم المؤلف – كما مر – هذه المسألة إلى مبحثين . بحث في الأول الفرق بين التوظيف الإلهي للغة والتوظيف العربي ، وفي الثاني ضوابط الاستخدام المنهجي النبوي للغة. فلنبدأ بأولهما .

أولاً : التمييز بين التوظيف الإلهي للغة والتوظيف العربى

لقد بدأ المؤلف بالتناقض مع نفسه منذ البداية، فهو من جهة يحاول أن يبرهن على الفرق بين التوظيفين ، وكان أهم هذه الفوارق عنده هو أن لغة القرآن لا تقبل الترادف والاشتراك؛ مما جعلها تتعارض مع ما وثقه العرب في لسانهم البلاغي ، يأتي من ناحية أخرى فينسف ما قد قرره سابقًا ويجعل كلامه يعارض بعضه بعضًا ، فيقول :«وخلافًا لقول كثيرين لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها كلمة تنوب عن الأخرى في حدسها ومعناها ولسانها ، فكلماتها كالعربى الذي أنشأها تتميز بذاتية خاصة بكل منها» . فهل بقى للشطر الأول من كلامه من معنى؟!

ومع ذلك سوف نعمل على دراسة أمثلته آخذين بعين الاعتبار مبدأه في نفي الترادف والاشتراك، ولننظر إلى أي حد وفق إجرائيًّا في إثبات نظريته.

أ. الفرق بين اللمس والمس:

يقول المؤلف – كما مر – بأنه استقرأ آيات القرآن وحللها فوجد أن هناك فرقًا بين اللمس والمس ، وبالرغم من استخفافه بالعلماء والحط من شأنهم ووصفهم بالتسرع وعدم الدقة . ومخالفته ما وعد به من احترامهم ومراعاة اختلاف الأنساق الفكرية ، فهذا أمر بالرغم من بشاعته يهون ، لو أن صاحبه أصاب وجه الحقيقة أو قاربها، ولكن وللأسف فإن المؤلف على الرغم مما تذرع به من منهجية تحليلية قد اقتصر على آية واحدة من بين ما يقارب ستين آية جاء معظمها بغير ما ذهب إليه المؤلف، ولتدل على أن المس معناه الاحتكاك المادى ، وليس الإحساس والوعي بالمعاني فقط كما ذهب إلى ذلك، ومن هذه الآيات قوله تعالى :

{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَار} [النور: 35] {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَة} [البقرة: 80] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَات} [آل عمران: 24] . فأي تفاعل عقلي مع النار؟! وأيضًا قوله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُن} [البقرة: 236] {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47] فهل المس هنا يعني التفاعل العقلي؟! فالمس هنا واضح بأنه احتكاك مادي، فمس النار للجسم حركة مادية ، والولادة العادية تكون بعد مس الرجل زوجته عضويًّا أي بعد جماعها ، لذلك اعترضت السيدة مريم على الأمر ورأت أنه خلاف العادة ، وهكذا باقي الآيات فكلها تعنى الاحتكاك المادي بين النار والأجسام المحترقة .

ب. الفرق بين الرؤية والنظر والشهود:

يرى المؤلف كما سبق ذكره أن الرؤية تكون بالعين ، والنظر بالعقل ، والشهود معناه حضور الشيء ومعاينته . وقد جزم بأنها لا تحتمل غير هذه المعاني. وبنظرة بسيطة في الآيات القرآنية الواردة في هذا الشأن يتبين مجانبته للصواب وعدم دقته، بل حتى الآية التي استدل بها على الفرق بين الرؤية والنظر هي في الحقيقة حجة عليه، قال تعالى : {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَـــــــوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ، فالكلمتان كما هو واضح قد تعاقبتا على نفس المعنى ، وهو الرؤية الحسية، وإلا كيف يستقيم المعنى إذا كان النظر إلى الجبل بمعنى النظر العقلي ، وما فائدة الشرط وجوابه في الآية؟! ومما يزيد الأمر غرابة أن المؤلف قد أورد آية أخرى هي من الوضوح على نقيض ما ذهب إليه مما لا يخفى على المبتدئ فضلاً عن العالم {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُـــــرُّ النَّاظِرِين} [البقرة: 69] فالنظر هنا بالعين وليس بالعقل لتعلقه باللون، وإلا لبطل معنى الآية .

أما الآيات الأخرى التي وردت في هذا الشأن فهي كثيرة، منها قوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْت} [الأحزاب: 19] معناها على مذهب المؤلف أن النبي e رأى بعينه المجردة عقول المنافقين كيف تفكر إليهحتى صارت أعينهم تدور كالذي يلفظ آخر أنفاسه . وكذلك قوله تعالى :{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض} [التوبة: 127] وهذه أيضًا معناها على مذهبه، أنه إذا أنزلت سورة فكر بعضهم في بعض. ولكن هل يقول بأن (إلى) هنا تحمل معنى (في)؟ فلو قال بذلك لأراح واستراح لقوله بالترادف الذي نفاه سابقًا.

أما ورود (ترى) بمعنى علم فالآيات في شأنها كثيرة، منها قوله تعالى :{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل} [الفيل: 1] ترى هل كان النبي e حاضرًا في كل هذه الوقائع مشاهدًا لها بأم عينيه ، أم أن هذه الأمور كلها من أنباء الغيب أوحاها الله إلى نبيه الكريم e وعلمه إياها؟ قال تعالى : {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين} [هود: 49].

ولكن مما يؤسف له حقًّا أن المؤلف لما شعر بتضارب منهجه وعدم اتساقه سارع إلى المغالطة والتأويل بدل الرجوع إلى الحق واتباعه . فقد أوّل قوله تعالى : {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] قائلاً : « ولهذا خاطب إبراهيم ابنه إسماعيل بالنظر في أمر الرؤيا المناسبة ، أي تقليب الرأى فيها ، ثم اتخاذ قرار قاطع كمن يرى الأمـــر عيانًا في حقيقته».

وعلى الرغم من هذا التكلف والتعسف في فهم الآية ما زال معنى الرؤيا  هنا مجازيًّا لا يستقيم ومذهب المؤلف. ثم هو قد اعتمد على السياق في ضبط المعنى، ونسى أنه قد قرر في منهجيته أن ألفاظ القرآن ترقى إلى درجة المصطلح «بحيث لا تعطى المفردة أكثر من معنى واحد محدد حيثما استخدمت في الكتاب ، وكيفما اختلف سياق توظيفها» وهاجم الأوائل في الوقت نفسه في اعتمادهم على السياق في فهم القرآن ، يقول :« لذلك لا يمكن تفسير القرآن بالاستطراد والتداعي على السياق». فلماذا هذا التذبذب وعدم الاتساق؟!

أما تحديده للشهود بمعنى الحضور حصرًا فهو أمر في غاية الغرابة . ولا يعرف ما المقاييس التى يستند إليها المؤلف في تحديد معاني الكلمات . فالعجب ليس في قوله أن هذه الآية {فَمَنْ شَهــِدَ مِنْكُمُ الشَّـهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] تعنى «حضور للشهر في الزمان والمكان؛ حيث يكون الإنسان مقيمًا» فهذا المعنى قد قال به المفسرون قبله ، قال القرطبي رحمه الله: «وشهد بمعنى حضر ، وفيه إضمار ، أي قال من شهد منكم المصر في الشهر عاقلاً بالغًا صحيحًا مقيمًا فليصمه». وقال ابن عاشور رحمه الله: «وشهد يجوز أن يكون بمعنى حضر، كما يقال: إن فلانًا شهد بدرًا وشهد أحدًا وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله e، فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل شهد أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافرًا ، وهو المناسب لقوله بعده {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر} [البقرة: 185]» الخ.

وإنما العجب في تحكمه في معنى اللفظ واقتصاره في ذلك على آية واحدة – مع أنه ادعى بأنه يتناول القرآن في كليته – وترك غيرها من الآيات الواضحة التى تخالف رأيه ولا تحتمله، منها قوله تعالى :{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] فهل شهد هنا بمعنى حضر؟! لا بل هي بمعنى بيّن وأقام الأدلة . وقوله تعالى :{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 86] وقوله :{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] وقوله : {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام} [البقرة: 204] فهل يعنى مما تقدم من الآيات الحضور والمعاينة؟!

ج. الفرق بين اللدّنيّة والعندّية :

لقد بلغ المؤلف درجة من التعمق والفهم لعقيدة التوحيد درجة لا يحسد عليها ، فالإله الذي يتحدث عنه هو عبارة عن هيكل له جوف وظاهر ، فهو يفهم اللدنية في قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُــرْءَانَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم} [النمل: 6] على أنها « ذاتية الذي يعطى أي جوانيته»  أما العندية فهي «ما يكون لديه وليس لدنه» ثم يبنى على ذلك أحكامًا فيقول: «فحين يكون الوحي لمحمد فإنه من لدن الله – وهي – إفاضة من الذات الإلهية، أما أم الكتاب وهي الآيات المحكمات التى تعتبر أصلاً له من قبل تشيؤه في لغة ما ، فهي لدى الله بالغة ما بلغت من العلو والإحكام بحيث تهيمن على كل متشابه» {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَــابِ لَدَيْنَــا لَعَلِــيٌّ حَكِيم} [الزخرف: 4].

فهو يرى أن أصل القرآن الذي هو فيض من جوانية الله ، هو الآيات المحكمات التي كانت لدى الله – أي خارج جوانيته – في شكل غير مفهوم، ثم دخلت جوانية الله فحلت رموزها في لغة ما . تقول كيف هذا؟ يقال لك: هذا عين ما قاله ، وإليك مزيدًا من تناقضه وقوله على الله بغير علم:

1- ذكر أن القرآن من لدن الله – أي من جوانيته – وهو العلم اللدني الذى هو عبارة عن تشيؤ لغوي لأم الكتاب التى كانت لدى الله، أى عند الله، أي خارجة عنه ، وقد قال – هنا بترادف لدى وعند – قولاً صريحًا لا يمكنه إنكاره.

2. أن العلم اللدني – أي القرآن – هو خاصية لا تكون للجميع ولا لبعض الرسل، في حين أن العلم بأصول الكتاب – العلم العندى الخارجي – ممكن إدراكه حتى لغير الأنبياء ، فالقرآن كما هو فرع عن الآيات المحكمات ، في الوقت نفسه هو أرقى منها ولا يناله إلا الخاصة.

3. وأما العلم بأم الكتاب ومحكمه فيوهب للراسخين في العلم ليتجاوزوا به المتشابهات ، فهو بهذا قد جعل القرآن متكونًا من أم الكتاب التى هي عبارة عن رموز ، ثم من المتشابهات التى هي تشيؤ لهذه الرموز في لغة ما ، عبر إفاضة جوانية من الذات الإلهية ، وكأن أم الكتاب – الآيات المحكمات – كانت أوضح وأظهر قبل دخولها إلى الجوانية – الذات الإلهية – منها بعد دخولها فيها، ثم فيضانها عنها في شكل لغة. تعالى الله عن كل هذا علوًّا كبيرًا .

4. والعلم بأم الكتاب يصعب تحويله إلى علم موضوعي إلا بالمدى الذي يكون فيه المتلقى مهيأ لذلك ؛ لأنه علم مدخله العبادة والطهر، ومجاله مكنون القرآن وليس باطنه. فهذه الكلمات المعدودة حوت من الأخطاء والتناقضات ما حوت . فهو يقول: العلم بأم الكتاب، ولا ندرى ماذا يقصد بالعلم هنا؟ ولكن نأخذه بمقابلها وهي العلم الموضوعي أي الذهني أو الواقعي ، والمعقولي ، فيكون بهذا « العلم بأم الكتاب» هو : الوجود الصوري أو اللاواقعي ، والفردي. ثم ربط هذا العلم الصوري واللاواقعي والفردى بالطهر والعبادة – ولعله يقصد نفسه؛ لأنه ليس هناك من أحد اكتشف هذه الجواهر العلمية إلا هو – حتى يمكن تحويله إلى شيء موضوعي خاضع للتجربة والاختيار . ولعمرى إنه لضابط علمى ما بعده ضابط .

د. الفرق بين الخلق والجعل :

الأساس عند المؤلف في هذه المسألة أن الخلق هو إبداع من غير أصل أو احتذاء ، أما الجعل فهو تحويل الشيء وتصييره من حالة إلى أخرى . ثم جاء بآيات كشاهد على صحة ما ذهب إليه. والواقع أن المؤلف قد كفى غيره مؤونة الرد عليه وأبطل بآخر كلامه أوله، وظن أنه بالالتفاف على النصوص قادر على حل تناقضه المنهجي . فهو يقرر أولاً بأن الخلق هو إبداع من غير أصل ، ثم بعدها بسطر يقول بأن الله خلق الإنسان من طين.

وبعد هذا التناقض الذي ما فطن له ، ظهر بمظهر المدقق الواثق من علمه المتواضع للحق ، الذي لا تفوته شاردة ولا واردة، مستدركًا على نفسه بما يمكن أن يلتبس على العالم المدقق فضلاً عن غيره . قائلاً : « .. ويمكن للمدقق في القرآن أن يعتمد على آية {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون} [النحل: 5] – وكأنه أحصى كل الآيات وما وجد إلا هذه الآية تحتمل شبهة التعارض مع منهجه – ليستدل على عدم قيام الفارق في الاستخدام بين العبارتين؛ إذ يستخدم الله هنا {خَلَقَ} لتعطي نسبية العلاقة . إن الأمر ليس قطعًا على هذا النحو، ولا بد من إيضاح أسلوبنا في التحليل اللغوي للقرآن {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون} [النحل: 3-5] .

في الآية 4 تكررت كلمة الخلق ولكنها لم تعطف بالواو على كلمة خلق السماوات في الآية 3 ، غير أن والأنعام خلقها في الآية 5 جاءت معطوفة على ما قبلها… خلق الإنسان .. فالخلق في الأنعام ليس ارتباطًا بالدفء والمنافع والأكل للإنسان، فهذا جعل، ولكنه معطوف على خلق الإنسان أي ظاهرة الخلق الإلهية نفسها . وزيادة في الدقة القرآنية نجد أن هناك ما يسمى بعلامة الوقف الجائز ما بين «والأنعام خلقها» «ولكم فيها» .

وظن أنه بهذا الكلام قد قطع الطريق أمام أي اعتراض ، وما عرف أنه قد كشف عن مزيد من تناقضاته، وإليك بعضها:

1. لقد حاول فيما تقدم تحقيق أمرين مهمين بالنسبة له :

أ. إزالة شبهة الاعتراض عليه بهذه الآية .

ب. إيهام القارئ بأن المؤلف قد صدر في نتائجه عن بحث علمي دقيق.

وما عرف أن الاعتراض ليس في {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا } بل في {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَة} فالخلق من نطفة وليس من غير أصل ولا احتذاء . أما ادعاء التحليل واعتماد المنهج العلمي فيؤيده قوله «وزيادة في الدقة القرآنية نجد أن هناك ما يسمى بعلامة الوقف الجائز ما بين والأنعام خلقها ولكم فيها» ، وما درى أنه قد أوقع نفسه في مزيد من التناقض ، فعلامة الوقف الجائز التى استدل بها على دقة ما ذهب إليه، ليست جزءًا من القرآن بل هي من وضع علماء عصور الانحطاط اللغوي – على حد تعبيره – لضبط الوقوف الصحيحة وبيان جائزها من ممنوعها.

أما الآيات الواردة في هذا الشأن فكثيرة، منها قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] {خَلَقَ الإِنْسَــــانَ مِنْ صَلْصَــالٍ كَالْفَخَّــار} [الرحمن: 14] {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [آل عمران: 59] فالخلق هنا من شيء سابق ، ففي الآية الأولى من ماء ، وفي الثانية من صلصال، وفي الثالثة من تراب ، فما بال منهجه التحليلي غفل عن هذه الآيات وغيرها؟!.

هـ – الفرق بين الإيمان والإسلام:

فهم المؤلف من الآيات الواردة في سورة الحجرات أن الله قد رفع الأميين العرب إلى درجة الإسلام قبل استكمالهم مرتبة الإيمان، ودلل على ذلك بأنهم حين أخطأوا فوصفوا أنفسهم بالإيمان أنبأهم الله بأن مرتبتهم هي الإسلام الذي هو أرفع درجة من الإيمان الذي هو مرتبة بني إسرائيل . فهو كما نرى قد وقع في تناقضات فهو بهذا الفهم قد ناقض نفسه للأسباب الآتية :

1. أن كل همه من وراء هذا الكلام هو إبطال دعوى اليهود بتفوقهم العرقي وإثبات تفوق العرب عليهم باعتبار أن الجنسين نقيضان . وأنهما طرفا الجدل في ظهور العالمية الثانية – التى بشر بها المؤلف – إلاّ إنه بهذا الفهم قد أثبت عكس ما كان يريد ، حيث أعطى اليهود صفات أرفع من الأعراب . قال تعالى بعد نهى الأعراب عن ادعاء الإيمان وإخبارهم بحالهم الحقيقية التى هي الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحجرات: 15] ، فهو قد جعل اليهود مؤمنين بالله ورسوله ومجاهدين في سبيل الله بالأموال والأنفس وشهد لهم بالصدق ، في حين أنه لو طبقنا منهج المؤلف في اجتزاء الآيات لقيل: إن صفات الأعراب كما قال تعالى : {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [التوبة: 97-98] وقال تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُون} [التوبة: 101].

فهل فكر المؤلف في كل هذا قبل أن يقول في كتاب الله بغير علم؟

ثانيًا : ضوابط الاستخدام المنهجي النبوي للغة

إن كل ما قاله المؤلف وأكد عليه من اعترافه بالسنة لا يعدو أن يكون اعترافًا بوجودها التاريخي لا اعترافًا بحجيتها ومصدريتها حاضرًا ومستقبلاً ؛ لذلك فهو يفهم الأسوة الحسنة المذكورة في قوله تعالى :{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَــوْمَ الآخِــرَ وَذَكَــــرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] بأنها القدوة العملية الخاصة بالعرب في عهد النبي e في حالة الغياب النظري لوعي المنهج ، أما العالمية الإسلامية الثانية فإنها بخلاف ذلك لأنها عالمية «تستمد من القرآن ولأول مرة نهجه الكلي ، بكافة الشمولية والاتساع كما يستطيعها الإنسان» ؛ لذلك لا حاجة لها ولا عود لها « إلى ما ثبت وما لم يثبت من أحاديث الرسول »  .

لذلك فإن المتأمل في أقوال المؤلف ومنهجيته التى تناول بها بعض الأحاديث النبوية ليظهر له جليًّا رده للسنة وإنكار حجيتها ولا أدل على ذلك من الأمور التالية :

أ. أن المنهجية التى وضعها المؤلف لقبول الأحاديث وردها هي منهجية غير علمية ولا أدل على ذلك من المثال الذي جاء به للبرهنة على صحة ما ذهب إليه وهو حديث «كلكم راع» فقد رده المؤلف لمجرد شبهة التعارض اللفظي الذى انقدح في ذهنه ، مع آيتين كريمتين (آية البقرة 104 ، وآية النساء46) . ويمكن إبطال هذه الشبهة من جهتين:

1. بلوغ الحديث إلى درجة التواتر المعنوى، فقد رواه البخاري ومسلم في ستة عشر موضعًا كلها بلفظ رعى ومشتقاته ، وكلها تحمل معنى الرعاية والمسئولية .

2. لو افترضنا جدلاً أن ألفاظ الحديث تتعارض مع آيتين ، فما قولنا في شأن الآيات الكريمة التالية {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} [المؤمنون: 8] و {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} [المعارج: 32] و {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] ففي الآيتين الأوليين الأمر واضح أن الله سبحانه وتعالى قد مدح المسئولين المحافظين المؤدين لأماناتهم، وفي الثالثة الأمر كذلك واضح أن الذم منصب على الرهبان وليس على لفظ الرعاية؛ مما يشعر بأن الرعاية مطلوبة ومستحبة ولو أخذ بها الرهبان ما استحقوا ذلك الذم .

ب. أنه وفق منهج المؤلف أن كل شيء انقدح في الذهن أنه يحط من قيمة الإنسان هو أمر مردود فتكون العبادات وعلى رأسها الصلاة هي أول الأمور عرضة للرد لما في ظاهر حركاتها من إذلال للإنسان وإهانته، فلا يمكن أن نقول بأن الله كرم الإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ} [الإسراء: 70] ثم نقبل بأحاديث تأمر الإنسان بالخنوع والركوع ودس وجهه في التراب . أليس في هذا إهانة للناس وحطًّا من كرامتهم. حسب منهج المؤلف .. ثم نأتي بعد ذلك ونشتط ونشط في فهم الألفاظ ، ولكي نخدع أنفسنا بما يوهم أنه دليل وأنه حل لإشكال الآيات الواردة في هذا الشأن، نأتي فنقول بأن الصلاة هي مطلق الدعاء، والزكاة هي النماء، والحج هو القصد، ونستغنى بالمعاني اللغوية عن المعاني الشرعية ، ونصل بالتالي إلى إنكار السنة والشرع جملة .

ج. ومما يمكن أن يعتبره الباحث دليلاً على إنكار المؤلف لحجية السنة حكمه على الصحابة رضى الله عنهم – نقلة السنة – بالإحيائية والأنيمية، والتى تعنى البساطة العقلية في أسوأ مظاهرها، يقول : « من ذلك أن العربي في مرحلته الأنيمية كان يعيش وضعًا بدويًّا ينتشر فيه على مساحات صحراوية وصخرية جرداء، وأعنى بالتحديد البيئة الطبيعية – الجغرافية التى عاش ضمنها عرب وسط الجزيرة الذين كانوا وعاء الإسلام البشري. ومن خصائص هذه الحالة العقلية ، النظرة السكونية لحركة الظواهر الطبيعية لمنطق التكرار والتعاقب.. كل شيء وجد كاملاً منذ البداية، ثم يكرّر نفسه بروتينية تعاقبية دائبة ومكرّرة ومتناوبة … الشمس القمر … الليل والنهار … الاتساع والضيق … الزيادة والنقصان، وفي إطار فهم إحيائي للظواهر نفسها ، ويقول في موطن آخر واصفًا الصحابة ومن بعدهم من علماء السلف رضى الله عنهم بالإحيائية «كانوا ضمن (حالة عقلية تاريخية) تتعامل بطبيعتها مع الأشياء في كثرتها وتعدّدها . هذا ما يسمى بالعقلية الأنيمية في تطور الفكر البشري، وهي عقلية تاريخية ذات خصائص فكرية محددة أهمها التعامل مع ظواهر الطبيعــة كأن بها حيــاة خاصة (إحيائية) والتعامل معها في استقلاليتها الكيانية عن بعضها… لذلك بقيت العقلية تفسيرية مظهرية تنتشر في الكثرة دون القدرة على احتوائها بالتحليل . ولهذا السبب بالذات لم يتوقف المفسرون التقليديون لدى ما قام به الرسول من إعادة ترتيب لآيات القـــرآن خلافا لأشكال التنزيل» .

ولعله أيضًا هذا هو السبب الذي جعل المسلمين ينصرفون إلى السند والمنسوبات لا إلى المتن والمنهج ، الأمر الذي سهّل على اليهود تزييف الأحاديث والدسّ على رسول الله بما يتنافى وعلائمه التى بشر بها القرآن، وتلك كـارثة ما زالت تلــم بنا إلى اليوم، فهو بهذه التهمة والشبهة قد فتح الباب على مصراعيه للطعن في القرآن نفسه ، لأن الناس الذين نقلوا هذه الأحاديث المزيفة والمدسوسة هم أنفسهم الذين نقلوا القرآن .

والباحث في العالمية الثانية ليعجب كيف استثنت منهجيّتُهُ الصارمة الرسول e بذاته من هذه المرحلة التاريخية وعدم نعته بالإحيائية ، علمًا بأنه سبق وأن طبق هــذا المنهــج على غــيره من الأنبياء ؟؟! .

ومن الأسباب التى جعلت الباحث معتقدًا بعدم اعتراف العالمية الثانية بحجية السنة ، وأنها لا تعدو عند صاحبها أن تكون تجربة عربية مرحلية يمكن النظر في المقارنة التى عقدها المؤلف في كتابه لبيان الفرق بين العالميتين .

جدول الفرق بين العالميتين

ومن خلال المقارنة التى قدمها المؤلف يمكن أن يستنتج أن «القدوة الرسولية» الحسنة المتمثلة في سنته قد اختفت واستُعيض عنهـا بالمنهـج البديل (الجمع بين القراءتين) وفي هذا إسقاط واضح للاعتراف المجرد بالسنة النبوية كما يرى الباحث .

ولا شك فإنه لابد من النظر – من الوجهة الأخرى – فيما أورده المؤلف في مداخل كتابه التأسيسية من عبارات تؤكد ضرورة الالتزام بالسنة؟ فإنه يمكن أن يقع في أحد الاحتمالين التاليين :

1- اضطراب رأى المؤلف في هذه المسألة وعدم وضوحه فيها، الأمر الذى جعله يناقض ما يقول ويذم نفسه بنفسه، إذ إنه قد ذكر في أول كلامه أن السنة هي المرجعية والعاصم للأمة من الاختلاف، وخاصة في الأمور التعبدية، وذكر مثالاً لذلك الصلاة وعدد ركعاتها، وقال بأن القول فيها بالرأي يؤدي إلى الاختلاف والوقوع في العرفانية. ثم بعد كل هذا التأكيد على مرجعية السنة والتنفير من مخالفتها يفاجئنا في المجلد الثاني من العالمية بكلام طويل حول الصلاة وعدد ركعاتها وحكمة توقيتها، والحج وأركانه وحكمته وكأنه ليس هو ذاك الذي ذمّ هذا النوع من الكلام، وهو بهذا قد كشف عن أمرين:

أ – عدم وفائه بما وعد به من الالتزام بالسنة في مثل هذه الأمور مما قد يعنى أنه لا يعترف حقيقة بحجية السنة.

ب – اتهام الذات بالعرفانية؛ لأنه قال أن القول بهذا يؤدى بصاحبه إلى الوقوع في العرفانية ، ولهذا الظن ما يبرره لما قاله في مواطن أخرى من كتابه كقوله : «جبريل قوة روحية مطلقة ولا متناهية ، تعلو على الزمان والمكان ، فيصبح قابلا لأن يتجلى الله فيه دون إفنائه أو دكه كما حدث للجبل … ومحمد بخصائص اسمه ( المحمول – أحمد ) هو مطلق كوني ولكن في إطار الزمان والمكان والوعي الذي (يدمج) بينهما {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَــــانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيم} [الحجر: 87] . فاتحد الاثنان – لعله يقصد فاتحاد الاثنين – أحمد وجبريل في كلية كونيـة واحدة يمكن لها أن تفرض (جبرية إلهية) على الوجود كله انطلاقا من عالم (الأمر الالهي). لذلك لم يكن الجهاد سوى (تحريض) من أحمد لأمته ، ولو أراد بقدراته الخاصة مجاهدة الآخرين لأبادهم، ولكنه اكتفى بتحقيق نبوّته الخاتمة على مستوى (عالم المشيئة) الموضوعية» .

2- أو أن المؤلف يعي ما يقول ، وأن ما ذكره من اعترافٍ بحجيّة السنة هو مقدمة جدلية يتبعُها بيان يمكن أن ينقضها تمامًا . ومثل هذا الظن يمكن أن يؤكده الباحث من خلال ما يأتي :

أ. ما ذكره المؤلف في أول كتابه حول الندوة التى عقدت في القاهرة حول كتابه (منهجية القرآن المعرفيّة) سنة 1992م ، وما أثارته هذه الندوة وغيرها من إشكالات واعتراضات ، ثم عقب على ذلك كله بقوله : «هؤلاء جميعًا قد تناولوا كتاب العالمية الإسلامية الثانية من زواياهم ، الوضعيون برفض تعديه على حقولهم العلمية المعرفية المعاصرة، وبالذات في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية . واللاهوتيون برفض تجاوزاته لمحددات فكرهم الديني السائد والموروث تاريخيًا عن حقب التدوين في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، والمقايسون له بما كان وما هو كائن وبالرجوع إلى هذه الندوة وجدت أن من أبرز الاعتراضات والانتقادات التى وجهت إلى المؤلف هي قضية إنكاره للسنة ، لهذا لم يكن للمؤلف من بدّ للتخفيف من حدّة هذه الانتقادات وتهميش مخالفيه إلا أن يضع هذه العبارات في أول كتابه ، والعبرة في النهاية بالمنهج الذي وضعه وبالنتائج التى انتهت إليها المقدمات .

ب – ذكر المؤلف في كتابه (السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل) ، أن من أخطاء العروبيين واليساريين السودانيين عمومًا حرقهم للمراحل اللازمة وكشفهم عن وجههم الحقيقي مما جعلهم لا يصمدون أمام هجمات الإخوان، يقول : « واستطاع الإخوان محاصرة الفكر القومي العربي الثوري عبر الثغرة اللاتّراثية واللاتّاريخية في تركيب ذلك الفكر مؤكدين علمانّيته» . ويقول في موطن آخر : «كانوا – أي العروبيون – يعمدون إلى تصور ذاتي لعروبة مستجلبة غير العروبة في السودان، أي خارج تراثيتها وتاريخيتها في السودان نفسه ، ومن هنا تحرق مرحلة كاملة عبر مفهوم عدمي ، ثم لا تلبث هذه المنظمات أن تكشف نفسها في العراء أمام هجمات الإخوان وحزب الأمة» ، ويظهر للباحث أن المؤلف استفاد من تلك التجارب وحاول أن لا يقع فيما وقع فيه غيره فتظاهر بالاعتراف بحجية السنة تماشيًا مع الأمر الواقع إلى أن تُحلّ هذه المشكلة تدريجيًّا، يقول : «وإلى أن يتدرج تاريخنا الراهن لحل هذه الموضوعة الدقيقة التى سيتبعها تغير في النظرة (الأيديولوجية) للدين والتراث والشخصية ، فإن المركزية السودانية هي صيغة التفاعل المحلية بين مختلف هذه القوى، وهي الصيغة الإيجابية الوحيدة التى تحفظ للعروبة استمرارية دورها التاريخي المركزي مع الأطراف إلى أن تصبح العروبة ملهمة للآخرين الذين سيستقبلون تأثيرها الإيجابي . عدا ذلك فإن سقوط المركزية السودانية بشعارات المغالاة القومية لن يؤدى في الظرف الراهـن إلاّ إلى تأكيد المصادمات العصبية».

إن هذه الاستراتيجية – عند المؤلف – تنعكس بالتأكيد على استراتيجيّاته الأخرى، ومنها : السير في اتجاه التيار عند الشدة والخروج عنه في أقرب تفرع عنه للالتفاف عليه .

2- إشكالية الارتباط بين العرب والعالمية الإسلامية الثانية :

لقد كان لمقولة الصراع العربي الإسرائيلي الأثر البالغ في توجيه فكر المؤلف، مما حدا به إلى استدعاء مفاهيم غريبة ، ومحاولة إلباسها قسرًا للآيات الكريمة . وهو كعادته يورد تصورات ويتعب في إثباتها ثم ما يلبث أن يأتي عليها من أساسها . فقد حدد في أول كلامه عدة مصطلحات تعتبر إبداعات جديدة في الفهم سحرت كثيرًا من الطيبين المولعين بتوليد الألفاظ وتنميقها دون النظر إلى مضامينها وما تؤدى إليه من نتائج .

والمصطلحات التى أوردها هي :

الدار ، والعروبة ، والوطن ، والقومية .

وتجنبًا للتطويل والتكرار سنقتصر في البحث على مصطلح (الدار) وبيان اضطراب المؤلف في فهمه وسوء توظيفه، ففي بداية كلامه ، (الدار) عنده تعنى الحمى والحرم والخصائص والخطط، وهي ترحل برحيل أصحابها وتقيم حيث أقاموا . وقد أورد آية على أساس أنها دليل على صحة دعواه فجاء الدليل على خلاف قصده، قال : فهناك خلاف جوهرى بين قول الله تعالى : {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين} [الأعراف: 145] وقول مثل «سأوريكم مكان الفاسقين» ثم بدأ في التحليل قائلاً : «فالمعنى الأول يشير إلى وراثة الصالحين لدار الفاسقين ، فتصلح الدار بصلاح من سكنها» ، فنسى نفسه أنه قد قرر بأن الدار ترحل مع أصحابها ، ونسى أنه في مرحلة المقارنة والاستدلال على الفرق بين المكان الذى لا يرحل والدار التى تعنى الخصائص والخطط وترحل برحيل أصحابها ، مواصلاً خلطه بين المعاني حيث يقول : « أما القول الآخر (مكان الفاسقين) فيعنى جعلـهم فاسقين». ولو عكس القول لاستقام الحال حسب ما قرره سابقًا ، ولكن الآية لا تستجيب له، ثم هناك شيء آخر: ألم يقرر في مبحث آخر أنّ (رأى) تعنى الرؤية بالعين فكيف أصبحت هنا تعنى الوراثة؟ وكيف سمح لنفسه باستخدام السياق في تحديد المعنى بينما عاب فيه الأوائل؟!

ثم أردف بدليل ما بعده دليل فقال: «لذلك تستمد الدار جذرها مما يدرأ عنه، تمامًا كمن يدرأون بالحسنة السيئة»، ونسى أن الدار من دَوَرَ الثلاثي الأجوف وهي اسم جامع للبناء والعرصة والمحلة أما درأ فهو ثلاثي مهموز الآخر ويعنى الدفع . ومما لا يحتمل الشك في أنه انتهى في آخر كلامه إلى اعتبار أن الدار تعنى المكان هو قوله : «فما يصيب مكة يصيب الشخصية العربية في جذر تكوينها ، وما يصيب خارج مكة فيتعلق بالديار ، مثل ما أصاب الديار الفلسطينية» ولعله أخذ هذا المصطلح من الإعلام العربي في فترة ما قبل السلام.

إذًا «فالقدس ليست قبلته وإنما البيت الحرام، والديار الفلسطينية ليست دياره وإنما هي ديار الفلسطينين . فالمعركة لم تتسع لكل الديار العربية» ، ولم يكتف بذلك بل انتهى أخيرًا إلى إدانة مفهوم الدار والقبلة « فالمفهومان (الـــــدار) و(القبلة) كانا يحولان دون الحشد القومي المركز في المعركــة ضد إسـرائيل».

أما الآيات التى تدل على أن الدار تعنى المكان والمحل الذي يسكنه الناس فهي كثيرة منها قوله تعالى : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَـحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين} [الأعراف: 78] {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَـــــحُوا فِي دَارِهِــــمْ جَاثِمِـين} [الأعراف: 91] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِـمْ جَاثِمِين} [العنكبوت: 37] فهل أن معنى هذه الآيات أنهم أصبحوا في خططهم وخصائصهم جاثمين؟! أم أنهم أصبحوا في أماكنهم جاثمين، وهو الصواب .

وقال تعالى :{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاس} [الأنفال: 47] ، وقوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243]: فهل هذا يعني أنهم خرجوا من خصائصهم وخططهم؟! .

وقال تعالى : {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب: 27]، فهل أن المسلمين ورثوا خصائص اليهود وخططهم أم أنهم ورثوا منازلهم ومحلاتهم؟!

3- معنى الاسترجاع النقدي التحليلي «القرآن بين التصديق والهيمنة»

لقد أجاد المؤلف عمومًا في فهم قوله تعالى :{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه} [المائدة: 48] ، وإن كان بعض المفسرين القدامي قد أشار إلى هذا المعنى ، حيث يقول ابن كثير بعد ذكر أقوال بعض السلف : « وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله. إلاّ أن المؤلف عند ضربه للأمثلة وتطبيقه لمفهوم الهيمنة والتصديق وقع في تناقضات وخلط عجيب . والأمثلة التى ضربها أربعة كما مر معنا أثناء عرض أفكاره وكان أولها قصة آدم u.

أ. استرجاع قصة آدم u:

1- كيفية خلق آدم u :

يرى المؤلف بأن الذي خلق أولاً هم البهائم البشرية وليس آدم u كما يزعم «الفكر التوراتي» . أما آدم u فإنه قد وقع اصطفاؤه فيما بعد من بين سائر البهائم بنفخ الروح فيه، وزعم أن القرآن قال ذلك وقد اعتمد في ذلك على التفرقة بين الخلق والجعل، وقد سبق بيان خطئه في ذلك ، إلا أنه بقى بعض الملاحظات التى يحسن ذكرها في هذا المقام :

أولاً : أن ادعاؤه بأن آدم u اُصطفى من بين البهائم البشرية هو قول يحاكي قول المجوس كما ذكر ذلك ابن عاشور رحمه الله في تفسيره «ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان؛ فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطّم والرمّ وكان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى البنتان، وأن ذفس، وهو المشترى كبير الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم».

أما الآيات التى تعارض هذا القول فهي كثيرة وصريحة، منها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين} [الحجر: 28-29] . {ِإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين} [ص: 71-72] فحوار الله مع الملائكة توضحه هاتان الآيتان، فالحوار كان قبل الخلق والتسوية وليس بعد وجود البهائم البشرية وإفسادها في الأرض كما يقول المؤلف. وكذلك قوله تعالى :{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [آل عمران: 59]. فأين البهائم البشرية التى سبقت آدم u؟!

فإذا كان المؤلف يعتمد على المنهج التحليلي حقًّا فما باله اقتصر في تحليله على كلمتى آدم u وبشر دون التطرق إلى كلمة إنسان مع أنها أكثر ورودًا من سابقتيها ؟! قال تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون} [الحجر: 26] {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِين} [السجدة: 7] {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّار} [الرحمن: 14] .

فمن هو هذا الإنسان الذى تجاهله المؤلف يا ترى؟! أليس هو ذاك «الفرد المنتخب الملقب بآدم»؟! قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم} [الانفطار: 6] {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15].

وأخيرًا ما قوله في كلمة بشر في الآيات اللاحقة؟ قال تعالى : {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر} [مريم: 20] {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّه} [آل عمران: 79] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} [الكهف: 110]. فهل يعقل أن يكون معنى بشر هنا الحيونات البهيمية؟! فإذا أقرّ ذلك فمعناه أن الخليفة هم الأنبياء فقط، أما باقي البشر فهم مازالوا في طور البهيمية البشرية ينتظرون الطفرة الداروينية حتى يصبحوا آدميين .

ثانيًا : إنه اعتمد في هذا على فهمه الخاطئ لقوله تعالى : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَــــيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [يس: 82] فقدرة الله عنده محكومة بالمنهج الجدلي فلابد لفعل الله من المرور بثلاث مراحل ، أمر – ولا ندري هذا الأمر نفسه كيف جاء وعبر أي منهج تكوّن؟ – ثم إرادة ثم تشيوء . فخطؤه كما ترى واضح حيث جعل الإرادة تابعة للأمر ولو عكس لأصاب. فأنت تريد ثم تأمر ، وليس تأمر ثم تريد، وإلا لكان ذلك عبثًا .

وقد أراد أن يعضد هذا الفهم بشاهد آخر من القرآن وهو قوله تعالى :{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِــدَةٌ كَلَمْــحٍ بِالْبَصَـــر} [القمر: 50] فقال وهذه الآية التى تدل في ظاهرها على الإطلاق قد سبقتها آية أخرى توضح هذه التوسطات {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ولا ندرى كيف يوضح السابق اللاحق؟ وأين هذا التوضيح الذي يتوافق مع فهمه؟ هذا إذا تسامحنا معه في استغلال السياق للبرهنة على رأيه؛ لأنه كما مر معنا سابقًا قد أكد على قصور هذا المنهج في فهم القرآن الكريم .

2- كيفية هبوط آدم u:

بعد أن حقق المؤلف ودقق في الفرق بين الخلق البشري وبين الخلافة الآدمية انتقل إلى مسألة أخرى لا تقل خطورة عن سابقتها وهي مسألة الهبوط الآدمي. ورأيه معروف كما مر سابقًا ، ويتلخص في أن هبوط آدم u هو سلب الروح عنه وهبوطه من خصائصها إلى خصائص النفس الطبيعية فابتلى لذلك بالجوع والعطش. أما أدلته في ذلك فهي منهجية منع الترادف والاشتراك اللفظي .

والمعترض فيه على المؤلف ليس تفريقه بين الروح والنفس فهذا محل خلاف واجتهاد، وإنما المعترض فيه عليه هو تناقضه المنهجي ولا أدل على ذلك من:

أ. قوله بالمشترك اللغوي خلافًا لمذهبه قال : « والحالات الروحية كما حالات الهبوط متعددة ومتنوعة» ثم عددها . « ذلك هبوط آدمى عن خصائص الروح المتعالية جسديًا على الطبيعة على مستوى عالم الأمر الإلهي، وهناك هبوط روحي آخر بيناه على مستوى الذي انسلخ من آيات ربه ، وهناك خصائص الروح القدسي للمسيح عيسى ابن مريم ، وهناك تنزل الروح على من يشاء من عباده».

فقد أعطى للهبوط معنيين ، وللروح أربعة معان ، ونزيده معانٍ أخرى للروح منها ، قوله تعالى :{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وتعنى جبريل u، وكذلك قوله: {نَـــزَلَ بِـهِ الـــرُّوحُ الأَمِـــين} [الشـــعراء : 193 ] {وَكَذَلِـكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] تعنى الإسلام والإرشاد والهداية .

ب. تصريحه بأن الذي ميز آدم u عن أبويه اللذين هما من المملكة البهيمية البشرية ، هو نفخ الروح فيه. فهل هذا يعني بأن آدم u عاد إلى حالة البهيمية البشرية الأولى ما عدا بعض ذريته المصطفين من المرسلين ومن المصلحين المكلفين بأمر الدعوة ؟! ثم لمن بُعث هؤلاء المرسلون والمصلحون إذا كانت هذه البهائم البشرية مسلوبة الروح تحاكي في طبعها البهائم العجماوات؛ وأخيرًا من هو المخاطب مع آدم u بالنزول ، إذا كان هبوط آدم u يعنى نزوله من خصائص الروح إلى خصائص النفس؟! قال تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين} [البقرة: 36] فإن قال إبليس ، فقد أقام الحجة على نفسه حيث ساواه بآدم u ولا دليل. وإن قال آدم u وزوجته – حواء – قيل له فالضمير هنا للجمع ، وأيضًا آدم u ليس عدوًّا لحواء.

3- الأسماء التى تعلمها آدم u:

لا نريد الدوران في حلقة مفرغة، فالمؤلف ليس عنده معيار خاص يتناول به النصوص يمكن للمرء أن يناقشه من خلاله. فهو يخلط بين المصطلحات اللغوية والمصطلحات المنطقية ، حتى إن القارئ ليحار في متابعته ، ودليلنا على هذا الخلط هذه الملاحظات التى تبين اضطراب المؤلف وتذبذبه منها :

أ. لقد ذكر بأن الضمير في {عرضهم} يعود على شيء موجود وكائن – لعله يقصد عاقل – وليس على الموجود الذهني اللغوي – الأسماء – وإلا لقال عرضها ، ثم أكد بأن هذا الشيء المعروض ليس بشرً ولا ظواهر طبيعية أو أفعالاً، إذًا فما هي؟ يجيبنا المؤلف إجابة غير علمية فيقول : « فمن عُرضوا على الملائكة كانوا يتصفون بأسماء محمولة تقرر حالتهم ، وهي حالة يفترقون بها عن أوضاع أولئك الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء أي افتراق هوية وخصائص … إذن لم تكن أسماء حجر وشجر كما يرد في الميراث اليهودى وإنما أسمـاء محمــولات بشرية»، ثم ينكص على عقبيه، فبعد أن قرر سابقًا بأن الذين عرضوا على الملائكة يفترقون عن أوضـاع أولئك المفسدين في الأرض يعود فيقول : «وقد تولى آدم تعريف من عرضوا على الملائكة بأسماء محمولاتهم قطعًا للإفساد في الأرض».

ب . لقد كشف المؤلف عن عدم امتلاكه لمنهج واضح لفهم اللغة العربية والمنطق:

فأما من الناحية اللغوية فقد احتج بأنه لو كان الضمير في {عرضهم} عائدًا على الموجود الذهني لقال عرضها، أي بإفراد الضمير وتأنيثه ، وإنما الضمير يعود على الموجود الحسي والواقعي ، ثم نفى كما تعلم أن يكون هذا الموجود بشرًا أو ظواهر طبيعية وبمعنى أنه ليس بمحسوس ، إذًا فماذا يكون ؟ فهذا التناقض واضح وصريح. ولكن ليس المقصود هذا ، فالمؤلف حفظ أو سمع شيئًا ولا يعرف معناه . فالنحاة بعد استقرائهم للغة وجدوا أن ضمير الغيبة المذكر الجمع لا يعود إلا على جمع مذكر عاقل ، قال تعالى :{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه} [النور: 37] وقال :{وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32] وليس أرساهم ، بل يمكن في غير القرآن أن نقول والجبال أرساهن بضمير الغيبة الجمع المؤنث . ولا علاقة بالحسي والذهني في هذا الباب.

أما من الناحية المنطقية فهو قد فَصَل الأعراض عن جواهرها فقال بأن الذي عُرضَ على الملائكة هو أسماء محمولات، وقد اعتمد في التفريق بين اسم العلم والمحمول على كتاب في فلسفة اللغة للدكتور محمود فهمي زيدان، وبعد الرجوع إلى هذا الكتاب وجدت أن المؤلف قد جانبه الصواب فيما قرأ، وذلك لثلاثة أمور مهمة ذكرها زيدان فيما نقله عن «فريجة» و«رسل» للتفرقة بين اسم العلم والمحمول في القضية المنطقية :

أولاً : أن اسم العلم أمر معين يدل على معناه بنفسه دون حاجة إلى غيره ، أما المحمول فأمر عام يحتاج إلى اسم علم يبين معناه .

ثانيًا : أن الكلمات الدالة على السور- كل – بعض – لا معنى لها إذا ارتبطت باسم العلم بينما لها معنى إذا ارتبطت بالمحمول .

ثالثاً : أنه لكي نفهم اسم العلم لابد أن نكون على وعي وإدراك بمسماه سواء بالرؤية أو القراءة ، أما المحمول فهو معنى نسنده إلى شيء ما لنحصل على تقرير أو قضية.

فهل الاسمان أحمد والمسيح اللذان جعلهما المؤلف محمولين يحتاجان إلى أمر آخر يبين معناهما ؟ وهل يقبلان التسوير بكل أو بعض؟ وهل يصح الإخبار بهما؟ ومما يؤكد أن المؤلف لم يستوعب الشيء الذي قرأه ما يلي :

1. تعبيره بمصطلح «اسم المحمول» بدل «المحمول»، فالثاني عبر به واضعوه ليشمل الاسم العام مثل إنسان ، والصفة مثل مجتهد، والفعل اللازم مثل يمشى. أما تعبير المؤلف فلا يشمل إلاّ الاسم العام، فتأمل؟ !

2. اقتصاره على العلاقة الواحدية وهي ما يسمى بالقضية الحملية التى تشمل اسم العلم والمحمول مثل محمد مجتهد ، ومحمد يمشى ، وتغافله عن بقية العلاقات الأخرى : الثنائية مثل زيد أطول من عمرو ، والثلاثية مثل زيد أعطى النقود إلى عمرو ، والرباعية مثل زيد أرسل خطابًا إلى عمرو بطريق البريد، وكل هذه العلاقات تسمى قضية علاقية وليست حملية.

وبعد هذا لنفترض جدلاً أن منطق اللغة العربية يقبل بتطبيق هذه النظرية الفلسفية ، فهل أن آية {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [البقرة: 31] هي قضية حملية حتى نقول باسم العلم والمحمول ؟!

والغريب في الأمر أن المؤلف يجزم ويقرر بأن القرآن يحدد استخدامه لمفردة اسم بمعنى اسم المحمول وليس اسـم العلم ، وكأن القرآن نزل ليصدق فريجة ورسل .

ب. استرجاع قصة نوح :

سيعالج البحث في هذه المسألة نقطتين:

1. نفى المؤلف أن يكون لنوح ذرية واعتماده في ذلك أساسًا على قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح} [هود: 46] حيث فهم أن الآية تدل على أن نوحًا كان لا يعرف أن ذلك الذي دعاه ابنه هو في الحقيقة ابن زنا. والمؤلف بهذا الرأى قد كشف عن خلط فكري ومنهجي سبق أن وقع في مثله مرات كثيرة؛ وذلك لأمرين :

أولاً : اقتصاره على قراءة واحدة في تقرير المعنى في حين أن هناك قراءة ثانية تساعد على إزالة أية شبهة أو معنى فاسد قد يفهم من الأولى . فالقراءة الأول : {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح} بفتح الميم وتنوين اللام ورفع غير، أما الثانية : {إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِح} بكسر الميم ونصب غير على المفعولية فيكون المعنى هنا واضحًا في أن الذي عمل غير صالح هو ابن نوح . هذا إذا اعتبرنا أن المؤلف ممن يعترف بالقراءات، ولكنه ليس بذلك فهو يعتبرها من كشكشات العرب، وهو بهذا قد طعن في القرآن نفسه لأن القراءة الى بنى عليها رأيه وهي قراءة حفص عن عاصم ليست بأوثق من غيرها من القراءات فكلها مجمع على تواترها ، خذ مثلاً كلمة {وسارعوا} في آل عمران فقد قرأها نافع وابن عامر بحذف الواو قبل السين في حين قرأها الباقون بزيادة الواو قبل السين {وسارعوا}  فبأي القراءتين يأخذ المؤلف وعلى أي أساس؟ فرد قراءة واحدة يقودنا حتمًا إلى رد القرآن نفسه لوحدة الطريق واستواء الرتبة . ولكن قد يعترض معترض ويقول من خلال المصحف العثماني، فيقال له: المصحف العثماني نفسه يحمل نفس الاختلافات والفروق . والطعن في هذه الفروق هو طعن في القرآن نفسه ؛ لأنها هي القرآن. والواجب على المسلم هو العمل بواحدة واعتقاده صحة الأخرى.

ثانيًا : أنه خالف ما وعد به من منهجية التعامل مع القرآن في وحدته، فاقتصر في بحثه على ما يشتبه أنه يوافق رأيه من الآيات غاضًا طرفه عن غيرها من الآيات التى لا تتناسب وما يصبو إليه من رأي . ومن هذه الآيات قوله تعالى : {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُون} [المؤمنون: 27] فالذي خاطب فيه نوح ربه هو ابنه كما ورد ذلك في آيات سورة هود السابقة الذكر. وقوله تعالى :{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيل} [هود: 40] فهذه الآية توضح أن هلاك بعض أهل نوح كان بسبب الكفر لا بسبب شيء آخر بدليل قوله: {وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيل} . أما آية سورة التحريم التى استدل بها المؤلف على زنا امرأة نوح وامرأة لوط فيوضحهما قوله تعالى : {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا ءَايَةً لِلَّذِينَ يَخَافُــونَ الْعَــذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات: 35-37] . قال ابن عاشور: « والآية تشير إلى أن امرأة لوط كانت تظهر الانقياد لزوجها وتضمر الكفر وممالاة أهل القرية على فسادهم ، قال تعالى :{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] ، فبيت لوط كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين، فلذلك لم ينج منهم إلا الذين اتصفوا بالإيمان والإسلام معًا».

2. قوله بأن الوقوف بعرفات والإفاضة منها هو إحياء لذكرى نزول نوح بعرفات ثم إفاضته منها ، واستدل على ذلك بقرائن ثلاث وهي :

الأولى : أن اللفظ الذي وصف به المكان الذي طلب من نوح u الدعاء من الله بالنزول فيه هو نفسه اللفظ الذى وصفت به بكه ، فهذا دليل حسب رأيه على أن المكان الذي نزل به نوح هو مكة وبالتحديد في عرفات، ونسى أن عرفات ليست داخلة في الحرم المكي .

الثانية : وقد جاء بها المؤلف لرفع الشبهة والالتباس والتأكيد على أن المكان الذي هبط فيه نوح هو مكة دون غيرها ، وهي ما استنتجه من قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّــهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [البقرة: 198-199] فعد الناس المذكورين في هذه الآية هم قوم نوح عليه السلام ونحن أمرنا بأن نفيض مثلهم، ونسى أن عرفات مهبط نوح كما زعم ليست هي مكة المكان المبارك، أما الناس المذكورون فهم بعض القبائل العربية التى كان لها حجها الخاص بها قبل الإسلام ، وقيل إبراهيم عليه السلام ، ووجه لفظ الناس بأن ذلك شائع في كلام العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجمع منها قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] والمخاطب واحد وهو النبي e.

الثالثة : وهي قرينة بلغت في دقتها ووضوحها مما لا يحتمل معها أي شك، وهي قرينة لغوية حسابية، فأما اللفظية فهي تفريقه بين السنة والعام، واعتمد في ذلك على كلمة يتسنه من قوله تعالى:{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259]ربط التسنه الذي هو التغير بحركة الشمس ، فجعل السنة هي للحساب الشمسي والعام للحساب القمري . ثم ربط هذا الأمر بقوله تعالى :{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] فاستنتج كما استنتج المفسرون من قبله مثل القرطبي ، بأن ثلاثمائة سنة شمسية يعادلها ثلاثمائة وتسعة أعوام قمرية. وهذا أمر لا اعتراض فيه عليه عمومًا فهو محل خلاف وإن كان حصر دلالة العام على الشهور القمرية منازع فيه لدلالة بعض الآيات على خلاف ذلك، منها قوله تعالى : {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُون} [يوسف: 47]

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون} [يوسف: 49] فعبر بالسنين والعام على شيء واحد، سواء قلنا بأنها الشهور الشمسية أو الشهور القمرية .

أما المعترض عليه فيه فهو حسابه واستنتاجه الخاطئ في أن يوم الوقوف بعرفة هو نفس اليوم الذي هبط فيه نوح u ، وقد جانب الصواب في هذا لأمور :

1. من أخبره بأن نوح u قد استغرق في بناء فلكه خمسين عامًا.

2. من أين له بأن اليوم التاسع هو نهاية عقد ، فالعقد الزمنى هو عشر سنوات ، أما العقود العددية فهي تبدأ بالعشرة وتنتهى بالتسعين وفرق بين التسعة وبين التسعين. ولعله اشتبه عليه الأمر بين جمع القلة الذي يبدأ بالثلاثة وينتهى بالتسعة وبين العقد الزمني.

3. أنه حتى لو افترضنا أن ما قاله سابقًا صحيح، فإن الوقوف بعرفة هو في النصف الثاني من اليوم التاسع من ذي الحجة في حين أن هبوط نوح u في آخر النصف الثاني من القرن العاشر بما يوافق آخر النصف الثاني من اليوم العاشر من ذي الحجة . فأين كل هذا مما ذكره المؤلف؟!

ج. استرجاع قصة إبراهيم u:

يعد هذا المبحث خير مثال على التناقض المنهجي والخلط الفكري لدى المؤلف لأمور منها :

أولاً : لقد ناقض المؤلف نفسه وأتى على نظريته من الأساس ، فقد اعتمد في إثبات عالميته تاريخيًا على تقسيم تطور الفكر البشري إلى ثلاث مراحل، وهي المرحلة الإحيائية ثم المرحلة الثنائية ثم المرحلة الجدلية . وقد جعل نبي الله إبراهيم u خير نموذج – حسب رأيه – للعقلية الإحيائية التى ترى بالكثرة المستقلة . ثم جاء بعدها كعادته وأثبت نقيض هذا الكلام ، فجعل نوحًا وقومه ومن قبله من الأمم البابلية من ذوي العقليات المبدعة ذات الحضارة التى «بلغت في خصائصها غير المكتشفة حتى الآن حد الإعجاز» ويؤكد هذا بعدة شواهد :

1. فهمهم لتطورية الخلق{مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13-14] .

2. علمهم اليقيني بالتركيب الفضائي {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15].

3. فهمهم الدقيق لخصائص القمر كمصدر للنور وخصائص الشمس كمصدر للضوء والحرارة وبسقوط ضوء الشمس على سطح القمر يتحول إلى نور{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16].

4. استغراق نوح خمسين عامًا في بناء فلكه العظيم على مرأى من قومه . ولم يروا ذلك معجزة لشيوعه بينهم وقدرتهم على مثله . ثم ورث نوحًا حضارات أخرى شامخة مثل حضارة عاد وثمود.

فإذا كان هذا هو شأن الحضارات السابقة لإبراهيم . فما بال التطور رجع القهقري إلى الصفر عند وصوله إلى إبراهيم وموسى من بعده إلى أن غمرت هذه الإحيائية العالمية الإسلامية الأولى؟!

ثانيًا : لقد جانب المؤلف الصواب في حق نبي شهد الله له بالرشد {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَــــاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَـــا عَاكِفـُونَ} [الأنبياء: 51-52] وآتاه حجته ، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} [الأنعام: 83] وجعله للناس إمامًا ، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} [البقرة: 124] واتخذه خليلاً {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125] ووصفه بكونه أمة وبرّأه من الشرك {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين} [النحل: 120]، فتخطى كل هذه الشهادات البينات من الله العزيز الحكيم ، ووصفه بالشرك وعبادة الكواكب وجعله يعاني ويكابد دورات زمنية عديدة حتى حالفه الحظ واكتشف إلهه «فحتى حين تطلع لاكتشاف الإله فقد أبصره أولاً في شمس بازغة ثم قمر بازغ ثم كوكب بازغ أي اكتمال الهيئة، ثم حين تخلى عنها فبسبب من انتقاص هيئتها ، حين كسوف الشمس وخسوف القمر وطمس الكواكب فإبراهيم u محظوظ بأن عاش كل هاته المدة حتى شهد هذه الكسوفات والخسوفات ، وهو محظوظ أيضًا أنه استطاع أن يلاحظ طمس الكواكب بعينه المجردة ، وإلا لمات على الشرك .

ثالثًا : لقد عارض المؤلف صريح القرآن ، فجعل الشمس أولاً ثم القمر ثانيًا ثم الكوكب ثالثًا ، في حين أن القرآن عرض هذه القصة على عكس هذا الترتيب {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون} [الأنعام: 76-78] ولم يكتف بذلك بل جعل الأفول الذي هو غياب الشيء ، كسوفًا وخسوفًا وطمسًا، فوقع في القول بالترادف والاشتراك من حيث لا يشعر ، وكل هذه الالتواءات التى جاء بها لا لشيء إلا ليثبت ما اعتقده مسبقًا من نظرية تطور الفكر البشري ليثبت مصداقية العالمية التى بشر بها . أما قصة إبراهيم u فواضحة ، ولو تأمل السياق لعرف أن ما حكاه القرآن على لسان إبراهيم u هو في طور محاجة قومه ، وإلا لماذا عندما أفل القمر قال :{لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين} [الأنعام: 77] فهذا أسلوب عقلي وحسي استعمله إبراهيم u ليقنع قومه مثلما فعل معهم في تحطيم كل أصنامهم إلاّ كبيرهم لعلهم يتعظون به . {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون} [الأنبياء: 58] ولا أدل على هذا من الايات الواردة بعد ذلك.

{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} [الأنعام: 78-83] فأين هو فهم القرآن في وحدته الكلية ، الذي طالما تمسك به المؤلف ، فتطاول بهذا الفهم على عباقرة التاريخ ، ونعتهم بالتجزئة وقلة الفهم؟!

والآن نأتي إلى الرؤية الإبراهيمية التى بقيت لغزًا محيرًا من عهد إبراهيم u إلى يومنا هذا إلى أن جاء المؤلف فكشف عن تأويلها «الصحيح». ولي على هذا بعض الملاحظات :

1. أنه طعن فيمن آتاه الله النبوة فقد جعله إنسانًا ساذجًا إلى درجة أنه يقدم على ذبح ابنه لمجرد منامات رآها ، في حين جعل ملك مصر أكثر فطنة وحكمة حين تريث في تأويل رؤياه وقبل تعبيرها من أحد سجناه ، فهل هذا يعنى أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد بلغا إلى هذا الحد من البساطة العقلية والإحيائية ، حتى يقدما على أمر هو من صنيع المشركين؟ فأين هذا القول من قوله تعالى :{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51] فهل يعقل أن نبي الله إبراهيم u يتبع مناماته ويهم بذبح ابن رُزِقه بعد ما بلغ من الكبر عتيًا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَــاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَــــمِيعُ الدُّعَاء} [إبراهيم: 39]؟!

2. لقد أقر المؤلف بأن رؤيا إبراهيم u هي رؤيا منامية وليست وحيًا . فلماذا يأتي بعد ذلك ويقول : « من الواضح أن الله قد طلب قربانًا» فهل تنقلب المنامات إلى طلب إلهي؟! ووفق هذا ألا يعنى أن ملك مصر هو نبي كذلك ما دامت رؤياه تساوى رؤيا إبراهيم u ، وبما أن الله قد طلب من إبراهيم u فكذلك يقال بأن الله قد طلب من ملك مصر؟!

3. قال المؤلف بأن الله تدخل لفداء إسماعيل u فلماذا لم يتدخل لفداء أبناء المشركين ، أليس هذا من عدم العدل وفق منهجه؟!

4. أنه مما يؤكد أن رؤيا إبراهيم u هي وحي من عند الله قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُن} [البقرة: 124] فما هي الكلمات التى ابتلى الله بها إبراهيم إن لم يكن منها أمره بذبح ابنه؟ قال ابن عاشور رحمه الله « فلعل منها الأمر بذبح ولده ، وأمره بالاختتان، وبالمهاجرة بهاجر إلى شقة بعيدة، وأعظم ذلك أمره بذبح ولده إسماعيل بوحي من الله إليه في الرؤيا ، وقد سمى ذلك بلاء في قوله تعالى :{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِين} [الصافات: 106] فأين منهج التحليل والاستقراء وأين الموضوعية العلمية التى ادعاها المؤلف في منهجيته؟!

د. استرجاع قصة موسى u:

لقد سبق وأن بينا التناقض المنهجي لدى المؤلف في مسألة تاريخ مراحل تطور الفكر البشري فلا حاجة لإعادة ذلك الكلام هنا ، ويكفى الآن الإشارة إلى أمر خطير طالما حذر منه المؤلف، وهو مسألة التهوين من قيمة الفعل البشري «كان لغياب المنهج الذي فهم به القرآن أثره في إضفاء معانٍ عكسية على موقف الإنسان إزاء فعله الـــذاتي».

فالمؤلف رغم لومه الشديد للأوائل ونعتهم بقلة التبصــر والتجهيل والتعجيز، نجده يتبنى صراحة مذهب الجبريين والإشراقيين يقول :« فجدل الطبيعة ينفى جدل الغيب مرتدًا إلى منهجية علمية شاملة تؤمن بوسائلها المادية في البحث . أما جدل الغيب فإنه لا ينفى جدل الطبيعة ولكنه يستحوذ عليه في قبضته الكلية بطريقة لايستطيع جدل الأرض أن يكشفها ؛ لأنها تتم بمعزل عن مقاييسه ولكنها  مع ذلك تتم داخل زمانه ومكانه بقوة خفية لا نجد لها تفسيرًا» ، ثم يتساءل بعد ذلك وكأنه يملك الإجابة عن ذلك «فكيف يجرى الأمر إذًا حين يهيمن الغيب خارج دائرة المنظور؟ كيف يتحول الغيب إلى حقيقة واقعية في حياة الإنسان»؟ ثم يردف ذلك بسرد أمثلة قصة العبد الصالح مع موسي u ومقارنتها بحوادث جرت لموسى نفسه ، انتهت بنا إلى رفع المسئولية عن موسى في كل ما فعل بل ويلومه على الاعتراف بذلك «ولو راجع موسى هنا هذه الواقعة في تجربته مع العبد الصالح لاكتشف أن ذلك القتل كان مقدرًا ، وأن الله قد أجراه بكيفية أدت إليه دون أن يكون موسى مسئولاً مسئولية حقيقية» ، وبهذه العقلية تتلاشى كل المقاييس العلمية وندخل في مجاهيل الإشراقات والإلهامات ، «لاشك أن إدراك مثل هذا الأمر يحتاج إلى تدبر عميق وبطريقة خاصة . إذ يصعب استنباط منهج لتحديد أسلوب الاستيعاب» . وبهذا يصبح سحق الشعوب وإهانتها ، واغتصاب إسرائيل لفلسطين وانحناء العرب أمامها كل ذلك بقدر الله وتوقيته.

هل بهذا الفهم للقرآن يصبح العرب قادرين على تجاوز التخلف الحضاري ثم قيادة العالم إلى العالمية البديلة؟!

4- الجمع بين القراءتين:

الحقيقة أن كل ما قاله المؤلف حول هذه المسألة وردده أتباعه ، القرآن منه براء ولا أصل له إلا خلفيات أصحابه الفكرية .

وبدون إطالة فالمؤلف قد كشف عن عدم إدراكه لأبسط قواعد اللغة ، فقد جعل الواو في قوله تعالى {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم} [العلق: 3] للمعية، واستنبط من ذلك ما سماه بالقراءة الثانية التى هي بمعية الله ، وبتعريف المفعول معه وبيان شروطه يتبين تهافت المؤلف وقوله في كتاب الله بغير علم ، فالمفعول معه : هو اسم فضلة وقع بعد واو بمعنى – مع – مسبوقة بجملة ، ليدل على شيء حصل بمصاحبته ، أي معه ، بلا قصد إلى إشراكه في حكم ما قبله ، نحو سرت والجبل ، وشروط النصب على المعية ثلاثة:

1. أن يكون فضلة «أي يصح انعقاد الجملة بدونه» .

2. أن يكون ما قبله جملة .

3. أن تكـــون الواو تسبقه بمعنى مع .

أما الواو في هذه الآية فهي للاستئناف وليست للمعية، ولا أدل على ذلك من رفع الاسم بعدها، ولو كانت للمعية لكان الاسم الذي بعدها منصوبًا.

والمؤلف بالجمع بين القراءتين سيحاصر إلهه ويكشف عقله ويضبط حركته حاضرًا ومستقبلاً حتى لا يفاجئنا بمتغيراته يقول : « فمن يصل إلى مستوى التوحيد بين القراءتين ليرى فعل الإرادة الإلهية النسبية في الكون فإنه لن ينتهى إلى الجبرية كفلسفة؛ وذلك لسبب بسيط وأولى وهو أن الانتهاء فلسفيًّا إلى هذه الجبرية يعنى تقنين الفعل الإلهي نفسه وضبط حركته الحاضرة والمستقبلة واستخلاص برنامج عمل استراتيجي مفصل لا تفاجئه أي متغيرات ولا تنأى عنه أي حسابات، وهذا معناه بقول آخر أن نكتشف العقل الإلهي من جهة وأن نكتشف إرادته بين المتناهيات الكونية كبرًا وصغرًا .. وقتها فقط نصل إلى تقنين الإرادة الإلهية لنتخذ منها قانونًا جبريًّا» .

هكذا، وفي ظل العالمية الإسلامية الثانية التى يبشر بها المؤلف ستكشف أسرار الألوهية وتقنن إرادتها فلا يستطيع بعدها أن يفاجئ العالم بأى مكروه، وبالتالى يعم السلام الكوني .

هل بهذا الخلط الفكري والتناقض المنهجي سيعاد تشكيل العالم وينقل العرب من دائرة التخلف والانفعال السلبي إلى دائرة الفعل الإيجابي ثم قيادة البشرية كلها إلى عالمية جديدة؟!

5- منهجية القرآن وضوابط التشريع

والآن نأتي إلى القوانين التشريعية المنظمة لحياة الفرد والجماعة وفق منظور العالمية الإسلامية الثانية ، عالمية الجمع بين القراءتين .

يرى المؤلف أن الشرائع الدينية كلها بما فيها الشريعة الإسلامية هي أمور نسبية خاضعة للتطور التاريخي « إذن التشريعات على اختلافها هي نسبية حسب الواقع التاريخي» إذًا فما الحل وما مصير الحدود الثابتة بالنصوص القطعية كجلد الزاني وقطع يد السارق؟ يجيبنا المؤلف بـ «أن الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة لكل عصر على حسب أوضاعه وأعرافه وقيمه» وهو بهذا المبدأ ينزع عن الشريعة كل خصوصية فتصبح قابلة لأن تكون شيوعية إن حلت في بيئة شيوعية، وليبرالية إن حلت في بيئة ليبرالية ووثنية إن حلت في بيئة وثنية، ما دام حتى الإيمان نفسه خاضع للنسبية والتطور التاريخي ، فالسجود للأصنام الذي يقوم به أكثر من ثلث سكان العالم هو أمر لم يعد شركًا ولا قضية الإيمان العصرية «إذًا هناك تغير جذري في المفهوم الإيماني نفسه وفي وسائل تحققه اليقينية ، ليست القضية الآن السجود لصنم أو اتخاذ أرباب أو ممارسة علاقات فلكية وأبراجية معينة … المشكلة الإيمانية الآن هي في توجه الإنسان كليًا نحو الاتحاد بالطبيعة عبر منهجية العلم بديلاً عن التوجه إلى الله كونيًا عبر منهجية الخلق. وكما يعني هذا الوضع فارقًا جذريًّا في مفهوم الشرك كذلك يعني فارقًا جذريًّا في النتائج الإيمانية – فحتى مفهوم التعبد نفسه يتغير حسب الزمان والبيئة، فالصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الأشكال التعبدية لم تعد صالحة لعصرنا – من هنا تصبح قاعدة المفهوم التعبدي في عصرنا هي التوجه الدائم إلى الله بالفعل ضمن الحركة العملية في الواقع» ، فالتوجه الدائم إلى الله عنده كما مر معنا هو للكشف عن عقله والتحكم في إرادته.

والمؤالف وفق منهجه التاريخي ينفى أي عودة إلى الخلف «ليس هناك عودة إلى الخلف أو رجوع إلى الإسلام» فليس هناك عودة إلى جلد الزاني وقطع يد السارق ولا إلى السنة النبوية لأن كل ذلك «يبدو غريبًا في عصر العلم والوضوح أن نربط خطابنا بغيب يحتجب عنا» .. وهذه القطيعة هي مع الإسلام فقط أما مع الغرب وتراثه فتواصل واستلهام «هناك تصدح في ساحات فيينا كل مساء روائع الموسيقى التى أصبحت عالمية ، وفي زواياها تنتصب تماثيل العباقرة من أبنائها الذين استلهموا معنى النغمة في الحياة ، وتتجمل متاحف إيطاليا واللوفر بتلك اللوحات والرسومات والنحوتات التى تشد أوتار النفس وتصور عليها أحاسيسها ، وكم هي خالدة مسرحيات ابن العصر الفيكتوري (شكسيبر) الذي تعيش لندن أمسياتها معه، وكم هو رائع (تولستوي) في كل ما كتب» .

هكذا بات واضحًا هدف المؤلف من عالميته الجديدة ، هو جعل العالم الإسلامي يحاكي في حركاته وسكناته العالم الغربي ولكن تحت ستار تأويل النصوص الدينية.

أخيرًا هل أن كل هذه القضايا المبدئية الخطيرة التى تمس بما هو معلوم من الدين بالضرورة هي قضايا جزئية لا ينبغي للقارئ أن يشغل بها فكره؟!

وفي ختام هذا الفصل نحاول جمع شتات ما تقدم واستنتاج منهجية المؤلف الحقيقية التى توخاها في كتابه، وهي كما يلي :

1. التجزئة وبتر النصوص عن سياقاتها، بدلاً من استقراء جميع النصوص واستخلاص ما تعطيه من نتائج.

2. التناقض المنهجي ، وعدم الوضوح.

3. التعميم في الأحكام وعدم اتباع قواعد المنهج العلمي .

4. جهله التام بالتراث ، وضعف اطلاعه على علوم العصر ومناهجه مما حدا به إلى مناقضتها ومخالفتها في أغلب الأحيان . مثل نفيه لمسألة الترادف التى يفهم من كلامه وكأن المدارس اللسانية مجمعة على ذلك، واستهجانه للسياق الذي تعتمده أشهر المدارس اللسانية المعاصرة وهو ما عبر عنه «تشومسكي» باختلاف المعاني تبعًا لاختلاف البني العميقة . وما عبرت عنه المدرسة الوظيفية بأن «الكلمات الوظيفية تتميز عن المورفيمات المعجمية، لأنها مورفيمات غير مستقلة ، ولا تكتسب معناها إلاّ بالنسبة للبنية النحوية التى تدخل فيها ويطلق عليها أيضًا المؤثرات البنيوية أو الكلمات الفارغة أو هي بالأحرى أدوات» .

5. غياب الموضوعية العلمية ، وسيطرة العاطفة والصبغة الأيديولوجية على معظم مباحث الكتاب . انظر على سبيل المثال لا الحصر قوله : « مهلاً … وعفوًا … فإنني لا أسعى بكم إلى بيت واه كبيت العنكبوت …» . وكذلك «وحبا الله قاعدة العالمية الثانية بجناحين للانطلاق لا تعوقهما مشاكل القلب المتعب بجراحات المواجهة … أحدهما شرق السويس وثانيهما غرب السويس منتهيًا في المغرب العربي الكبير، وأبقى الاثنين خارج متناول التجارب الوضعية السافرة» فهل يحمل بربك هذا الكلام أي مسئولية علمية؟ فهذه المناطق هي من أكثر مناطق العالم الإسلامي تعرضًا للتغريب والتجارب الوضعية وخاصة مصر والمغرب العربي .

6. بناء نظرياته على فهمه الخاطئ للسان العربي وجهله بأبسط قواعده مثلما حدث في مسألة الجمع بين القراءتين وغيرها .

7. رده للسنة واعتماده في ذلك على مقدمات خاطئة أوحت له بها تداعياته الفكرية .

8. إنكاره لما هو معلوم من الدين بالضرورة كقوله في مسألة التشريع بثبات المبدأ دون الشكل .

9. القسوة والشدة على المخالفين وخاصة الأوائل منهم .

10. استخفافه بالقيم الإسلامية في مقابل احترامه لغيرها .

11. الدغمائية والجمود الفكري.

من أخطر الأشياء التى وصم بها المؤلف هي الدغمائية والجمود الفكري؛ حيث ينفى عن أفكاره صفة النقص ويرفض مبدأ الإضافة والتعديل لها «فكتاب العالمية ليس خلاصة فكر تجريبي لأعدل فيه ، فالمحددات النظرية التى تضمنتها الطبعة الأولى عام 1979م بما في ذلك (الجمع بين القراءتين) مثلاً هي محددات مستمدة من رؤية (منهجية ومعرفية) للقرآن الكريم وكذلك سائر المحددات الأخرى» .

فهذا هو أحد وأهم نماذج المدرسة الفكرية التفسيرية المعاصرة ، ولكن لمزيد من الإيضاح نحاول مقارنته بنموذج آخر من نماذج هذه المدرسة ، وهذا ما سيكون محورًا للفصل القادم .

(3-2) الفصل الثاني : مقارنة بين المؤلف وغيره من رموز المدرسة الفكرية الحديثة في التفسير :

تعد المقارنة بين المؤلف وغيره من رجال المدرسة الفكرية الحديثة في التفسير ذات أهمية بالغة وطريق للكشف عن المنهج الكامل لهذه المدرسة. ونظرًا لتشابه وتماثل أفكار ومقولات رجالاتها ، وخوفًا من التكرار والتطويل ، فسأقتصر في هذه المقارنة على أهمها وهو الدكتور المهندس محمد شحرور الذي يعدّ من أبرز الكتّاب تماثلاً وتشابهًا مع أبي القاسم حاج حمد، وأكثرهم تعبيرًا عن آراء هذه المدرسة وتمثيلاً لمقولاتها . وقبل الولوج في صلب الموضوع أود الإشارة إلى بعض الأمور وهي:

1. نظرًا لعدم إمكانية القيام بمقارنة شاملة فإنني سأقتصر على أهم عناصر الالتقاء والاختلاف بينهما .

2. سأعتمد في نقد كتاب «محمد شحرور» على كتاب (الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن) لماهر المنجد، إذ يعد من أحسن الكتابات العلمية التى تناولت هذا الكتاب بالدراسة والنقد .

أما هذه المقارنة فستشتمل على بعض الأمور المتفق عليها ، كما ستشتمل على بعضها المختلف فيها، وقبل البدء في ذلك نبدأ بالأمور الشكلية والعامة .

فمن الناحية الشكلية هناك تباين واضح بين الكتابين . فكتاب محمد شحرور يمكن للقارئ متابعته وإعطاء الرأى المناسب فيه بسهولة، أما كتاب أبي القاسم حاج حمد فمن الصعب جدًّا متابعته لتداخل أفكاره وعدم تناسقها فهي كما يقول الدكتور أسامة خليل رمال تتحرك .

وأما من الناحية المنهجية العامة ، فنجد محمد شحرور يعترف بالأرضية العلمية السابقة ، بل ويدعى أنه خلف لبعض رجالاتها كالفارسي وابن جنى وغيرهما، أما المؤلف فلا يعترف بشيء من ذلك إطلاقًا ، بل يتأفف من ذكرها ويعد نفسه مؤسسًا لشيء جديد.

أما من ناحية المصادر المعتمدة فبغض النظر عن استيعاب محمد شحرور للمصادر التي ذكرها أو عدمه، فإن بعضها وخاصة العربي منها يعد من أمهات الكتب كالخصائص، ومقاييس اللغة ، أما المؤلف فإن معظم مصادره العربية والإنجليزية المترجمة هي كتب من الدرجة الثانية والثالثة ولا تصلح لمن يدعى أنه مؤسس لعالمية تستوعب وتتجاوز العقليتين الوضعية والدينية ، وهذا أمر واضح لكل من اطلع على كتابه ، يقول الدكتور أسامة خليل: «ولكننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن الأمثلة الكثيرة التى يرجع فيها المؤلف إلى كتابات عربية من الدرجة الثانية أو الثالثة للحديث عن هيجل وكانت وسبينوزا …»  .

وعلى الرغم من هذا التباين في الشكل والمنهج العام إلاّ أن هناك نقاط التقاء داخلية كثيرة تجمع بين المؤلفين، كما أن هناك نقاط اختلاف بينهما أهمها :

1. نقاط الالتقاء :

أولاً : إنكار الترادف

إن مسألة الترادف هي من أهم المسائل اللغوية التى شغلت الفكر الإسلامي منذ القرن الرابع الهجرى ، فكان أول من ذكرت عنه المصادر إنكار الترادف هو ابن الأعرابي ، كما نقل ذلك صاحب المزهر «كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد في كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه ، ربما عرفناه فأخبرناه ، وربما غمض علينا ، فلم نلزم العرب جهله» .

وللترادف علاقة وطيدة بالاشتراك ، «فالمترادف هو الألفاظ الدالة على شيء واحد باعتبار واحد» «والمشترك هو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفتين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة» .

وبناءً على هذا ظهرت ثلاثة اتجاهات:

– اتجاه أول ينكر الترادف والاشتراك، ومن زعمائه ابن درستويه ، والظاهر أن أبا القاسم حاج حمد من أنصار هذا الاتجاه .

– اتجاه ثان ينكر الترادف دون الاشتراك، ومن زعمائه قديمًا ابن الأعرابي ومن بعــــده تلميذه ثعلب ، وابن فارس، وغيرهم كثير، والواضح أن محمد شحرور من أتباعه.

– اتجاه ثالث يثبت الترادف والاشتراك، وهذا مذهب الأغلبية، ومن أشهر أنصاره الرماني والفارسي وابن جني والسيوطي وغيرهم من الأصوليين والمناطقة .

فالاتجاه الأخير لا اعتراض عليه لجوازه عقلاً ووروده نقلاً ، فمن الأدلة النقلية توارد ثلاثة ألفاظ على معنى واحد، الحنطة والبر والقمح .

أما الاتجاه الأول فمحجوج بالعقل والنقل . فأما عقلاً فإنه لا يستحيل تصور دلالة عدة ألفاظ على معنى واحد أو دلالة لفظ واحد على عدة معان. أما نقلاً فالأمثلة على ذلك مما لا يحصى، يقول الدكتور توفيق شاهين « المشترك اللفظي علامة واضحة في لغتنا وهو بكثرته خصيصة لها ، وعامل من عوامل تنميتها » .

وفي الحقيقة، إن أصحاب هذا الاتجاه قد نظروا إلى الألفاظ نظرة تاريخية . والواقع أن هذه الفروق التى اعتمدوها قد تنوسيت وأصبحت مسألة تاريخية في حياة الألفاظ نتيجة تطورها الدلالي ، وبحكم الاستعمال تختفى ، ومستعلمو اللغة لا يحفلون بالدلالة القديمة للألفاظ، وإنما يهمهم منها دلالتها التى يجرى بها الاستعمال . ويقول « بلى Bally » : «الكلمات لا تستعمل في واقع اللغة تبعًا لقيمتها التاريخية ، فالعقل ينسى خطوات التطور المعنوى التى مرت بها ، إذا سلمنا بأنه عرفها في يوم من الأيام . وللكلمات دائمًا معنى حضورى actual، محدود باللحظة التى تستعمل فيها ، ومفرد ، خاص بالاستعمال الوقتي الذي تستعمل(*) فيه» .

أما إنكار الترادف دون الاشتراك فهذا مذهب محجوج برأيه لأن الاعتراف بالاشتراك هو طريق للاعتراف بالترادف وذلك أنه لو افترضنا أن مجموعة الرموز التالية [ أ – ب – جـ – د – هـ] تمثل جانب الألفاظ وأن مجموعة الأعداد [1- 2- 3- 4- 5] تمثل جانب المعاني وجعلنا لكل رمز مقابل له عددًا من هذه الأعداد الخمسة على اعتبار نفي الترادف وأن كل لفظ وضع لمعنى واحد فقط.

ثم جئنا على مذهبهم في القول بالاشتراك وافترضنا أن الرمز ( أ ) إلى جانب إشارته إلى العدد [1] يشير كذلك إلى العددين [3، 4] .

بهذا يصبح الرمز ( أ ) لفظًا مشتركًا من جهة دلالته على الأعداد [1- 2- 4] ومرادفًا في الوقت نفسه للرمز (جـ) لدلالته معه على العدد [3] ومرادفًا كذلك للرمز (د) لدلالته معه على العدد [4] . ومن أمثلته في اللغة :

فالنوى بالنظر إليه وحده هو لفظ مشترك لدلالته على عدة معانٍ ، وبالنظر إليه مع الدار مثلاً هو من المترادف معها على نفس المعنى الذي هو ذاك المحل الذي يسكنه أصحابه .

وإن كان للمباحث الكلامية والتعصب المذهبي دوره في نفي الترادف أو إثباته في القرن الرابع الهجري كما ذهب إلى ذلك الأستاذ أحمد أبو زيد في كتابه (الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن) حيث يرى أن معظم أنصار الترادف الأوائل هم من المنتمين إلى المعتزلة الذين يرون باختلاف الاسم عن المسمى، ولهذه المسألة ارتباط وثيق بمذهبهم في صفات الله، مثل حدوث كلام الله . أما أنصار عدم الترادف فهم من الأشاعرة الذين يرون باتحاد الاسم والمسمى لذلك قالوا بقدم الكلام . وهذا الكلام على الرغم من عمقه وانسجامه المنطقى إلا أن مقدماته لا يصدقها الواقع، فالسيوطى مثلاً ليس بمعتزلي ومع ذلك قال بالترادف ، ولو كان الأمر كما صوره الأستاذ لاستمرت جذوره على الأقل إلى ابن عربي المالكي وعز الدين بن جماعة ومن بعدهما السيوطي وغيره، بل لو أحصينا عدد القائلين بالترادف من الأشاعرة لوجدناهم أضعاف أضعاف من قال به من المعتزلة .

أما المؤلفان فهدفهما من إنكار الترادف هو الحد من سلطة التحريم وإعطاء مفاهيم جديدة للأحكام الشرعية، كالتفريق بين الحرام والاجتناب والنهى، على اعتبار أن الأخيرين لا يصلان إلى درجة التحريم، وهذا ما صرح به أبو القاسم حاج حمد بقوله :« كذلك لا نستطيع أن نصعد بما ورد فيه (النهى) أو (الاجتناب) إلى مرتبــة التحريـم وليس النهي كالتحريم» وبمثل هذا قال محمد شحرور : «هنا تبين لنا أن من قال إن الاجتناب هو أقل من التحريم فقد صدق؛ لأن التحريم هو لحدود الله كقوله

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير} [المائدة: 3]» ، إلا أن هذا القول يؤدى إلى التحلل من بعض الأحكام الشرعية .

فالقول بأن الاجتناب أقل درجة من التحريم يقودنا حتمًا إلى القول بعدم حرمة الخمر والزنا كما صرح بذلك المؤلفان « وإني أقول لهؤلاء الناس أيهما أكبر ، أمن يشرب كأسًا من الخمر أم من ينكح إحدى محارمه؟»

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُم} [النساء: 23] ، كما يقودنا إلى عدم حرمة الكفر والشرك بالله {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُــــوا الطَّـــاغُوت} [النحل: 36] {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وقوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17] فعلى مذهبهم يصبح الشرك بالله والكفر به من الأمور العادية التى تخضع لثقافة الناس وأعرافهم، مثل الخمر على حد قوله فهي ليست بحرام ولكن تعافها الفطر «ما أردت الوصول إليه هو أن الله سبحانه أراد إفهامنا أنه يتخذ موقفًا من الخمور لأنها تنافي الفطرة . وهذا ما يفعله أهل الأرض جميعًا على درجات مختلفة» فنقول له : بل أهل الأرض يستطيبونها ويعتبرونها أفضل مشروباتهم، ومعظم أهل الأرض يتنافسون على الكفر والشرك بالله .

ثانيًا : عدم الاعتداد بالسنة النبوية واعتبارها اجتهادًا مرحليًّا قام به النبي e في إطار ظروف بيئية ومعرفية لا تلزم من بعده :

وموقف أبي القاسم حاج حمد قد تناولناه بالتحليل ، أما موقف محمد شحرور فيتجلي في عدة مواضع:

1. استهانته بالحديث النبوي الشريف ، فضلاً عن أنه كلما مرّ بحديث يشير إليه بصيغة التمريض حتى وإن كان من أصح الأحاديث فيورد عبارة «إن صح » قبل ذكر الحديث، مثل ما فعله مع حديث «الحلال بين والحرام بيِّن» وهذا في حد ذاته تشكيك في السنة وطعن في مصداقيتها . والمؤلف يطعن في كل الكتب الحديثية ويرى أنها من صنع ظروف تاريخية وسياسية . فالبخاري ومسلم ونقلة السنة المطهرة هم أناس متحيزون ضعاف الذاكرة بدائيون . يحكم نقولاتهم منظور ثلاثي: الاستبداد السياسي ، والتحيز في النقل ، وضعف الذاكرة مما «يوضح أمامنا مدى التحفظ الذي يجب أن نتسلح به ، على الناقل وموقفه الأيديولوجي ، ونحن نقرأ ما ورد في صحيحهما من أحاديث» .

وقوله هذا ليس بجديد فقد سبقه إليه بعض المستشرقين من أمثال «جولد تسيهر» الذي يرى أن السنة من صنع الأجيال اللاحقة وليســت قولاً للنبي e. وهذه الأراجيف والشبه لا تصمد أمام التحقيق العلمي ، فالمحدثون الذين رووا هذه الأحاديث التي رأى فيها محمد شحرور أنها موالاة للسلطة الاستبدادية هم أنفسهم الذين رووا أحاديث أخرى تحث على مواجهة السلطان الجائر وتعريفه بأخطائه ، روى النسائي أن أفضل الجهاد «كلمة حق عند سلطان جائر» فلماذا غفل المؤلف عند تقييمه للأحاديث عن هذا الحديث وأمثاله؟!

2. أنه يرى أن السنة هي اجتهاد من النبي e بما يتلائم مع ظروف شبه الجزيرة العربية في ذلك العصر ، أما الآن فيرى أن هذه الاجتهادات غير صالحة لسبب واحد وهو أننا أكثر تحضرًا وأكثر استعدادًا من النبي e وأصحابه لفهم حدود الله. ولا ندرى بأي المقاييس يقيس التحضر ، فلو قارنا أنفسنا بالأوائل لوجدناهم يفوقونا من جميع النواحي، الفكرية والأخلاقية والمعمارية والعسكرية والاقتصادية ، اللهم إلا إن عد حضارة الغرب حضارته فعندها يصح أن نقول أنه أكثر تقدمًا من الناحية المادية، أما من الناحية الفكرية والأخلاقية فلا شك في تفوق الأوائل. ومع ذلك فهو لم يستوعب علوم العصر حتى ينسب نفسه لحضارته . كما بين ذلك ماهر المنجّد في حقه « بل إن المؤلف لم يستطع أن يصل حتى إلى مستوى الأطروحات والأفكار التى كانت تطرح منذ مئات السنين، وهو كذلك لم يكلف نفسه الاطلاع على النتاج الفكري لعصر النهضة ولمن سبقه ولمن عاصره» .

ثالثًا : مسألة الخلق الآدمي:

ومن الأمورالتى اتفق المؤلفان عليها هي مسألة الخلق الآدمي . فكلاهما ينطلق من نظرية التطور الداروينية . ويرى بأن آدم عليه السلام انتخب من المملكة الحيوانية البشرية انتخابًا ، ولم يخلق ابتداء كما يرى «التراثيون» . فرأى أبي القاسم حاج حمد قد مر معنا، أما محمد شحرور فيرى أن خير من أوّل آيات خلق البشر هو «تشارلز داروين» ويعتمد شحرور على هذه النظرية ويوظفها في تفسير قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَم} [آل عمران: 33] «أما قبل آدم فكان ثمة صنف من المملكة الحيوانية يدعى البشر» لهذا فإن الله «نفخ الروح في البشر فتحول إلى إنسان وتطور وتقدم ولم ينفخ الروح في القرود فبقيت كما هي» . ومن أدلته الدامغة التى لا تحتمل الشك «أن كلية الطب تسمى كلية الطب البشرى لأنها تدرس الإنسان من حيث كونه بشرًا (له) شعر وجلد وعيون وجهاز هضمي وعصبي وقلب ودورة دم» ولو سماها كلية الحيوانات لكانت أنسب كي تشمل سائر الحيوانات لأنها تحمل كل هذه الخصائص أو معظمها ، وكما يقول الأستاذ ماهر المنجد في نقده للمؤلف «لاشك أن هذا الكلام لا يمثل براهين علمية ، ولا أدلة عقلية ، ولا علاقة له أصلاً بأي منهج علمي .. إلا إذا اعتبرنا أن التصورات والافتراضات المتخيلة هي من الحقائق العلمية ، أما الآية التى أوردها السيد المؤلف وكأنها شاهد على أن الله اصطفى آدم u من المملكة الحيوانية وهي قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَم} فقد بترها ولم يكملها : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيــمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] وهي واضحة الدلالة، فهل كان أيضًا نوح وآل إبراهيم وآل عمران في المملكة الحيوانية المسماة بالبشر . ثم اصطفاهم الله من ذلك الصنف؟!» .

ويرى المؤلف أن الروح التي ميزت الإنسان عن البشر هي الأحكام أو الأوامر الإلهية . وبدون متابعة للمؤلف في افتراضاته وتخيلاته نحاكمه بمنهجه الذي يقضى بعدم الترادف، وهو هنا يخالفه صراحة فقد جعل الروح مرادفة للأحكام والأوامر الإلهية . وهذا الكلام يقارب ما قاله أبو القاسم حاج حمد .

2. نقاط الاختلاف :

أولاً : مسألة النسخ

ومن المسائل التى اختلفا فيها هي مسألة النسخ، ففي حين ينكره أبو القاسم حاج حمد ويرى أنه طعنًا في الوحدة البنائية للمنهجية القرآنية حيث يقول : « فأوجد – أى من قال بالنسخ – الناسخ والمنسوخ الذي لا يعنى سوى إقرار حالة التناقض في تركيبة القرآن ومضمونه» يراه محمد شحرور أنه ميزة إيجابية تفرد بها القرآن « فقد جعل الله سبحانه وتعالى الناسخ والمنسوخ تعليمًا لنا لنهتدي في تطوير التشريع ضمن حدوده» .

وإذا تأملنا في سبب اختلافهما نجده راجعًا إلى ما اعتقده كل واحد منهما مسبقًا . فالأول اعتقد أن القرآن هو عبارة عن وحدة بنائية إذا اختل منها حرف اختل البناء كله . وهو بهذا المفهوم الضيق للوحدة البنائية للقرآن قد ناقض نفسه بنفسه، ولا أدل على ذلك من رده للقراءات التى يعتبر ردها رد للقرآن نفسه، وقد سبق بيان ذلك .

وبالرغم من تشنيعه على القائلين بالنسخ وتحميلهم القول بالطعن في القرآن ، فقد قال هو نفسه بالنسخ قولاً صريحًا لا يحتمل التأويل : «وبغرض التأكيد على هذه العالمية بعيدًا عن تأثير أي عناصر محلية جاء الأمر الإلهي باستقبال بيت المقدس في الصلاة .. وجاء الأمر الإلهي بجعل الصلاة قيامًا ليليًّا كما في «سورة المزمل» ثم أعاد الله التوجّه نحو الكعبة في مرحلة لاحقة، كما وزعت الصلاة على ساعات النهار تبعًا لحركة الشمس ، وجعلت صلاة الليل نافلة وليس فرضًا .

إن هذه البداية ثم التحوّل عنها  تحمل دلالات في توجّه القرآن لأوضاع تلك المرحلة ، وتأكيده على نسبية العلاقات بين الغيب والواقع تبعًا لخصائص الواقع نفسه ، وما كان الله العليم ليأمر ثم ينسخ الأمر من عدم معرفة بالمستقبل ( أي رفض اليهود للإسلام ما يظن البعض ) ولكنه يجري الأمر على هذا النحو ليرشدنا إلى خلفية هذه النسبية في البناء الديني…. .

أما الثاني ، فالذي دفعه إلى إثبات النسخ هو اعتقاده بأن الحنيفية نقيضًا للاستقامة وأنها تعنى الميلان والتأرجح بين الحد الأدني والحد الأعلى ، فجاء النسخ كتعليم لنا كيفية الاجتهاد وفق القانون الجدلي بين النقيضين (الحنيفية والاستقامة) . ويكفى لبيان بطلان هذا الرأى ما أثبته الأستاذ ماهر المنجد ، من أن الحنيفية تعنى لغة الاستقامة ، والثبوت ، والدوام لا كما يدعى المؤلف من أنها تعنى الميلان والانحراف .

ثانيًا : مسألة الرؤيا الإبراهيمية :

فأما أبو القاسم حاج حمد كما مر معنا يرى أنها ليست وحيًا، ويستدل بها على العقلية الإحيائية وفق فهمه التاريخي لتطور الفكر البشري . أما ما ذهب إليه محمد شحرور فيعتبر ردًا جيدًا على ما قاله أبو القاسم حاج حمد . يقول «هنا يجب أن نميز بين قوله عن إبراهيم:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَام} [الصافات: 102] . حيث استعمل {أَرَى} في المضارع ، وبين قوله عن يوسـف : {إِنِّي رَأَيْتُ} [يوسف: 4] في الماضي. فالإنسان لايذبح ابنه بمجرد أن رأى في المنام مرة أنه يذبحه ، بل تكرر هذا المنام لإبراهيم حتى صدقه ، بدليل استعمال المضارع{إِنِّي أَرَى} أم مع يوسف فمحتوى المنام كان خبرًا ، لذا سمى إبراهيم صديقًا حين قال تعالى :{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41] وقارن هذه الآية حول تصديق الرؤيا في قوله تعالى :{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين} [الصافات: 105] .

هذه هي أهم نقاط الالتقاء والاختلاف بين المؤلفين .

وبعد هذا العرض لآراء أهم قطبين ممن يدعون المدرسة الفكرية الحديثة في التفسير وقبل الانتقال إلى الجزء الأخير من البحث أحاول أن أجمل أهم المبادئ العامة التى اعتمدها المؤلفان أو يحاولان أن يعتمداها في فهم القرآن ، وبقطع النظر عن خلفيات أصحابها «الأيديولوجية» والدوافع الكامنة وراء هذه الأقوال فإن أهم المبادئ التى اعتمدها المؤلفان وأمثالهما هي :

1. محاولة تناول القرآن في وحدته الكلية .

2. قطع الصلة بالتراث باعتباره عائقًا ومانعًا للعقول من تناول القرآن وفهمه فهمًا يتماشى ومقتضيات العصر.

3. محاولة اعتماد مناهج العصر وتوظيفها في فهم القرآن .

4. محاولة إبطال السنة وإعفائها ، أو على أقل تقدير تقليص دورها في إنشاء الأحكام وفهم نصوص القرآن؛ لأنها حسب رأيهم وإن صحت فهي لا تعبر إلاّ عن مرحلة تاريخية معينة ولا يمكن لها أن تستجيب إلى مراحل أخرى تختلف عنها اختلافًا جذريًّا .

4- الباب الثالث

(4-1) الفصل الأول : مقارنة بين أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة وأصحاب المدرسة التفسيرية التقليدية

سيركز البحث في هذا الفصل على مسألتين ، الأولى تتعلق بالفرق بين التفسير والتحليل ، والثانية تتعلق بمقارنة بين أسس المدرستين .

أولاً : الفرق بين التحليل والتفسير

ترى المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تفترق عن المدرسة التفسيرية التقليدية في المنهج المتبع ، يقول أبو القاسم حاج حمد: «أسلوبنا يعتمد على (التحليل) عوضًا عن (التفسير) وعلى (التبيين المنهجي) في إطار الوحدة القرآنية ، بطرح (الجزء) في إطار (الكل) عوضًا عن التفسير التقليدي للكتاب في أجــزائه» فما هو التفسير وما هو التحليل؟

التفسير :

لغة: مأخوذ من الفسر، وله عدة معان:

أ. البيان ، تقول فسر الشيء يفسره، ويفسره فسرًا ، وفسره أبانه ، والتفسير مثله ، قال تعالى : {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] .

ب. الكشف ، فيكون التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل .

ج. النظر والتحليل ، قال الجوهري: «وأظنه مولدًا ، وقيل التفسيرة البول الذي يستدل به على المرض وينظر فيه الأطباء ويستدلون بلـونه على علة العليل» فهذا المعنى يقارب معنى التحليل بالمصطلح الحديث .

اصطلاحًا : له عدة تعريفات تختلف باختلاف مجالاتها أهمها :

أ. «هو علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد e ، وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه» . فهذا تعريف شامل يتناول اللفظ والمعنى .

ب. أن التفسير يتعلق بالألفاظ المفردة. قال الماتريدي : « التفسير القطع على أن الله أراد من اللفظ هذا، أو الشهادة على أنه عنى باللفظ هذا فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلاّ فتفسير بالرأي وهو المنهى عنه» . وهذا الرأي هو ما أشارت إليه بعض المعاجم الفلسفية – التفسير (Exegese) أيضًا هو الشرح اللغوي أو المذهبي لنص ما وبخاصة لنص ديني .

ج. «هو تفسير الحقيقة العلمية أو إيضاحها . وهو أن نثبت أنها متضمنة في غيرها من الحقائق المعلومة أو أنها لازمة عن المبادئ البديهية اضطرارًا».

التحليل:

لغة : من حل العقدة يحلها حلاً ، فتحها ونقضها فانحلت ، والحل ، حل العقدة .

اصطلاحًا : « التحليل عكس التركيب، وهو إرجاع الكل إلى أجزائه فإذا تعلق بشيء مادي سمي تحليلاً ماديًّا وإذا تعلق بشيء ذهني تحليلاً خياليًّا .

وينقسم من جهة أخرى إلى :

أ. تحليل تجريبي ويمر بثلاث مراحل :

1- ملاحظة .

2- تجربة .

3- استقراء .

ب. تحليل عقلي أو رياضي ، وهو يتألف من مجموعة قضايا، أولها القضية المراد إثباتها وآخرها القضية المعلومة . بحيث إذا ذهبت من الأولى (أي القضية المراد إثباتها) إلى الأخيرة ( أي القضية المعلومة) كانت كل قضية نتيجة ضرورية للتى بعدها ، وكانت القضية الأولى نتيجة للقضية الأخيرة وصادقة مثلها» .

فمن خلال التعريفات السابقة لكل من التفسير والتحليل يمكن أن نقول: إنه ليس هناك أي معنى من المعاني السابقة للتحليل يمكن أن يطبق تطبيقًا كاملاً في فهم القرآن الكريم ، وبهذا يكون ادعاء المدرسة الحديثة في تبنّيها المنهج التحليلي هو ادعاء لا واقع له وذلك :

1. لأن المفهوم الأول يتعلق بالأمور المادية الخاضعة للتجربة، والقرآن ليس بذاك حتى نخضعه إلى هذا المفهوم .

2. أما المفهوم الثاني فيحتاج إلى قضية معلومة ينطلق منها في إثبات أخرى مجهولة ، فإذا قلنا بهذا في حق القرآن ، أصبحنا في أحسن الحالات نوظف القرآن في إثبات تصوراتنا المسبقة ونستغله في نشر «أيديولوجياتنا» وهذا مما لا يرتضيه أحد من المسلمين .

3. أنه حتى على افتراض قابلية القرآن للمفهوم الثاني للتحليل لم نجد واحدًا من النموذجين السابقين قد التزم شروط التحليل الموضوعية، من جمع كل النصوص – المادة – المتعلقة بموضوع ما ودراستها دراسة وافية، بل على العكس من ذلك وجدناهما يبتران النصوص بترًا، ويقتصران فقط على ما يشتبه أنه موافق لما يريدان تحقيقه .

وفي المقابل نجد أن المدرسة التقليدية هي أولى بأن تنسب إلى المنهج التحليلي، إذا اعتبرنا أن التحليل في الدراسات القرآنية هو جمع الآيات المتعلقة بموضوع ما – وهو ما يعبر عنه اليوم بالتفسير الموضوعي – وتحليلها واستخراج ما تعطيه من تصورات وأحكام حول ذلك الموضوع .

وأيضًا فإننا إذا أخذنا بقول من قال بأن التفسير يتعلق بالألفاظ المفردة ، فإن التفسير يصبح حينئذٍ خطوة أساسية وضرورية لابد منها عند تحليل القرآن ، لأن تحليل الكل وفهمه متوقف على تحليل أجزائه وفهمها . وأجزاء القرآن هي ألفاظه، فلا فهم ولا تحليل للقرآن في كليته من غير تحليل ألفاظه وفهمها . وهذا التحليل لدى المفسرين القدامي له أصوله وأسسه، وهذا ما سوف نوضحه فيما بعد .

ثانيًا : مقارنة بين أسس المدرستين:

رأينا في الباب الثاني أهم الأسس التى تعتمدها المدرسة الفكرية المعاصرة في فهم القرآن، وبقى لنا أن نتعرف ولو بشكل إجمالى على الأسس العامة التى اعتمدت عليها المدرسة التقليدية في فهم القرآن والتى تتلخص في ثلاث نقاط:

1. تفسير القرآن بالقرآن ( أو أخذ القرآن في وحدته)

كان أول ما تنزع إليه المدرسة التقليدية في فهم أي آية من كتاب الله هو القرآن نفسه، وهذا هو أرقى أنواع التفسير عندها، قال الزركشي : «أحسن طريق للتفسير أن يفسر القرآن بالقرآن» وأسوتهم في ذلك رسول الله e . روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود t قال : لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} [الأنعام: 83] شق ذلك على الناس فقالوا : يارسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟ قال : « إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] إنما هو الشرك» وجاء في صحيح البخاري أن رسول الله e فسر مفاتح الغيب من قوله تعالى :{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو} [الأنعام: 59] فقال : « مفاتح الغيب خمس {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} [لقمان: 34].

واستمر العلماء من بعده آخذين بهذه القاعدة لا يحيدون عنها . يقول ابن تيمية : « إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر ، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر …» ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في سورة النحل : {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْـنَا مَا قَصَـــصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ } [النحل: 118] فما أجمل في هذه الآية فقد فصل في سورة الأنعام {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُون} [الأنعام: 146] .

فبهذا يتبين أن ما تدعيه المدرسة الفكرية الحديثة من أخذ القرآن في وحدته الكلية وتفوقها بذلك على المدرسة التقليدية وافتراقها به عنها هو أمر يعوزه الدليل، بل وجدنا أن رجال المدرسة التقليدية أكثر الناس تمسكًا بهذا المبدأ العظيم وألفوا من أجله مؤلفات بعضها لغوي ، مثل كتاب (الأشباه والنظائر) لمقاتل بن سليمان البلخي المتوفي سنة 150هـ وكتاب (نزهة الأعين النواظر في علم الأشباه والنظائر) لابن الجوزي المتوفي سنة 597هـ وبعضها الآخر متعلق بالأحكام مثل كتاب (أحكام القرآن) لأبي بكر الجصاص الحنفى المتوفى سنة 370هـ وكتاب (أحكام القرآن) لابن العربي المالكي المتوفي سنة 543هـ وغيرهم كثير، وما زال هذا الاتجاه التقليدي مستمرًا إلى يومنا هذا آخذًا شكلاً أكثر تحديدًا للمواضيع التى يعالجها مثل المرأة في القرآن ، والإنسان في القرآن وغيرها من المواضيع المتعلقة بقضايا حياتية معاصرة .

2. اللغة :

لقد ركّز العلماء الأوائل على اللغة العربية وجعلوا إتقانها شرطًا لفهم كتاب الله، يقول الزركشي رحمه الله : « الذى يجب على المفسر البداءة به العلوم اللفظية ، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة ، فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أوائل المعادن لمن يريد أن يدرك معانيه؛ وهو كتحصيل اللبن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه . قالوا : وليس ذلك في علوم القرآن فقط؛ بل هو نافع في كل علـم من علوم الشرع وغيره». ويحدد ابن عاشور القدر المطلوب الواجب على المفسر تحصيله من اللغة العربية «أما العربية فالمراد منها معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم، سواء حصلت تلك المعرفة بالسجية والسليقة ، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، أم حصلت بالتلقي والتعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم ، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها» . فهذا هو موقف المدرسة التقليدية من اللغة العربية التى نزل بها القرآن الكريم قال تعالى :{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} [الشعراء: 195] في حين نجد أن المدرسة الحديثة قد تقاعست في تحصيلها، بل منهم من عندما عجز عن تحصيلها ادعى تجاوزها، منكرًا دور السياق في تحديد معنى الألفاظ، مدعيًا بأن ألفاظ القرآن ترقى إلى درجة المصطلح بحيث لا يتغير معناها بتغير موقعها ، مطلقًا القول بمخالفة ألفاظ لغة القرآن لألفاظ اللغة العربية المعهودة ، متجاهلاً ما توصلت إليه المدارس اللسانية الحديثة – التى يدعى أنه يأخذ بمناهـجها – من أن هناك فرقًا بين (اللسان) و (الكلام) ، فـ (اللسان) كما عرفه (سوسور) «هو نتاج اجتماعي للملكة اللغوية و(الكلام) هو فعل فردى صادر عن الإرادة والفطنة»  .

وعليه فليس هناك فرق بين لسان القرآن – (المفردات التى صيغ بها القرآن وقواعد تركيبها) – واللسان العربي العادي – (المفردات التى يستعملها العرب وقواعد تركيبها ) – قال تعالى : {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} [الشعراء: 195] {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِين} [النحل: 103] فليس هناك فرق بين لسان القرآن ولسان العرب، وإلا لكان حجة للعرب في أن خاطبهم الله بغير لسانهم، وإنما خاطبهم بلسانهم {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [يوسف: 2] {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِين} [الأحقاف: 12] . فالفرق ليس في اللسان – الألفاظ ، وقواعد تركيبها – المستعمل ، وإنما الفرق في الكلام الذي « هو استعمال هذا البناء – اللسان – ووضعه موضع التنفيذ من قبل المتكلمين » فهنا يظهر الفرق بين فرد وآخر وبين الله وسائر البشر؛ لذلك نسب الله إلى نفسه الكلام ولم ينسب إلى نفسه اللسان {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُون} [البقرة: 75] فالذي يُحَرَّفُ هو الكلام ذاك التركيب الصادر من المبلّغ ليغيّر معناه ويُبطل أثره المقصود به ، أما تحريف اللسان فهو مسبّة للمحرِّف وسلبٌ عليه لأنه حرَّف الرموز المتواضع عليها بين أولئك المخاطبين وقطع طريق التواصل معهم فلم يعد يفهمه أحد منهم. وقال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّه} [التوبة: 6] فلو كان هناك فرق بين اللسان الذي جاء به القرآن وبين اللسان العربي لما كان لسؤال الله نبيه بإجارة من استجاره من المشركين وإسماعه كلامه من معنى ، وهذا ما فطن له جهابذة علماء السلف الصالح، عندما ألفوا في إعجاز القرآن ، من أمثال الرماني ، والباقلاني ، والجرجاني الذي قال في معرض بيانه بأن الإعجاز في القرآن ليس في ألفاظه المفردة بل في نظمه وتأليفه : « ثم إن هذا الوصف ينبغي أن يكون وصفًا قد تجدد بالقرآن، وأمرًا لم يوجد في غيره ولم يعرف قبل نزوله، وإذا كان كذلك فقد وجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون في الكلم المفردة ، لأن تقدير كونه فيها يؤدى إلى المحال».

هذا هو شأن المدرسة التقليدية أما المدرسة المعاصرة فيذكرنا حالها بما قاله الإمام أبو القاسم محمد بن حبيب النيسابوري رحمه الله في جماعة من أهل زمانه : « وقد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه ، لايحسنون القرآن تلاوة، ولايعرفون معنى السورة أو الآية ، ما عندهم إلاّ التشنيع عند العوام، والتكثر عند الظغام … يتحلون بما ليس فيهم ، ويتنافسون فيما يرذلهم ، الصيانة عنهم بمعزل وهم من الخنى والجهل في جوف منزل» ، فلله دره فكيف يكون الأمر لو رأى أهل زماننا؟!

3. المقتضى أو الفهم :

وهذا هو المجال المتجدد على مر العصور وبه يميز المفسر من غيره ، وكان ممن نبغ في ذلك الصحابة رضى الله عنهم ، مثل على بن أبي طالب وتلميذه ابن عباس، روي البخاري في صحيحه عن على بن أبي طالب t ، في جواب من سأله « هل خصكم رسول الله e بشئ؟ فقال : ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة ، أو فهم يؤتاه الرجل» . قال ابن مسعود t : « من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن» وقد علق بعضهم على هذا بقوله: هذا الذي قال ابن مسعود لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقال الزركشي « للقرآن نزول وتنزل ، فالنزول قد مضى، والتنزل باق إلى قيام الساعة» ولكنهم مع حثهم على تدبر كتاب الله وفهم معانيه قد شددوا في المنع من تعاطي هذا الأمر قبل تحصيل أدواته ، فقالوا : «لا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل»، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} [الإسراء: 36] {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 169] وقد وضعوا لذلك شروطًا أهمها:

أ. إحكام الظاهر : قال الزركشي:«من ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب ، فظاهر التفسير يجرى مجرى تعلم اللغة التى لابد منها للفهم» وللأسف هذا ما تفتقده المدرسة الفكرية الحديثة .

ب. التبحر في العلوم : كلما ازداد الإنسان اطلاعًا على علوم عصره كلما ازداد عمقًا .

1. احترام الثوابت:

ما دام التجديد أمرًا لازمًا وضروريًّا، لكل عصر بحسب ما أتيحت فيه من وســائل واستجــدت فيه من وقائع ، فلا بدّ لكل من يتصدى لهذا الأمر أن يكون عالمًا بأصول المجدَّد وفروعه ، وثوابته ، ومتغيراته حتى لا يقع في الخلط ويهدم من حيث أراد الإصلاح، فإن يأتى أحد ويقول: أن الثابت في التشريع هو المبدأ وليس الشكل، أو يقول بأن السنة هي تجربة تاريخية خاصة بعصرها الذي ظهرت فيه ولا تلزم من بعده من العصور، لهو أمر في غاية الخطورة لما يؤدى إليه من نسف للدين من أساسه والتحلل من عقده ، وفتح الأبواب على مصارعها للأفكار الهدامة تفعل فعلها في كيان الأمة ، وتكمل هدم ما أبقته السنون من بقايا الخير فيها.

لذا وجب على المتطلعين إلى التجديد وبناء المناهج أن يعرفوا أن الثوابت هي العاصم والحافظ لكيان الأمة وعليها مدارها ، فالمساس بها والنيل منها هو مساس بروح الأمة وطعن لها في عمودها الفقري وتعريض لها لمزيد من الخطر والضياع ، ورحم الله سيد قطب حينما قال : « فلكل نجم ولكل كوكب فلكه ومداره ، وله كذلك محوره الذي يدور عليه في المدار . وكذلك الحياة البشرية لابد لها من محور ثابت ، وإلا انتهت إلى الفوضي والدمار ، كما لو انفلت نجم من مداره ، أو ظل يغير محوره بلا ضابط ولا نظام» ….

وكما أن هذا المنحى الفكري مرفوض فكذلك المنحى الفكري المقابل الذي يرى أن كل شىء ثابت وجامد لا يلحقه التجدد ولا التطور ، فمعارفهم وتصوراتهم حول الإنسان والطبيعة جامدة على ما ورثوه من بعض الأولين، والقول بغيرها ومسايرة ما توصل إليه العصر من حقائق علمية هو قول على الله بغير علم . يقول أحدهم في معرض رده على سيد قطب وقوله بدوران الأرض ، الكلام على هذا من وجوه، وبدأ يذكر الأدلة النقلية من القرآن والسنة والإجماع التىتوهم أنها تقول بعدم دوران الأرض، ثم أردفها بفصل في ذكر الأدلة العقلية على ثبات الأرض واستقـرارها ، وهذه الأدلة – حسب رأيه – هي :

1. أن السحاب في نجدٍ يأتي من كل الجهات حسب الفصول ، فلو كانت الأرض تدور لما كان مجىء السحاب من جهة المشرق إلى جهة المغرب فقط ، على عكس دوران الأرض. فلما كان اتجاه السحاب متنوعًا دل على ثبات الأرض واستقرارها.

2. أن سير الطائرات من المشرق إلى المغرب مثل سيرها من المغرب إلى المشرق ، وكذلك باقي الجهات ، فلو كانت الأرض تدور لما استطاعت أن تفعل ذلك ولضيعت أماكنها ، بل لأمكنها أن ترتفع عن الأرض ثم تقف وقتًا يسيرًا ثم تنزل في المكان الذي تريد النزول فيه عند وصوله إليها. ولما كان كل ذلك غير موجود دل على ثبات الأرض واستقرارها.

3. ومثل الطائرات الطيور تطير من أوكارها في الصباح وتعود إليها في المساء بدون أن تضيعها، ولو كانت الأرض تدور لما استطاعت أن تعود إلى أماكنها الأولى . فدل هذا على ثبات الأرض واستقرارها وبطلان قول أصحاب الهيئة الجديدة .

4. من المشاهد والمحسوس إصابة الصياد هدفه، ولو كانت الأرض تدور لما استطاع أن يصيب هدفه، وخاصة إذا كان الهدف بعيدًا .

فعلى المجدد الحذر من الانزلاق في أحد هذين الاتجاهين الشاذين ، وبعدها تصبح عملية التجديد مسألة ضرورية دعت إليها طبيعة القرآن أولاً ، وحاجة المسلمين إلى مواكبة عصرهم ثانيًا ، ولن يكون ذلك إلا باستيعاب باقي الشروط اللاحقة .

2. معرفة التراث :

ولكي تكون عملية التجديد رصينة وأصيلة وذات جذور حضارية تتلقى دعمها وتستمد قوتها من مخزون الأمة النفسي ، لابدّ لها من استيعاب التراث استيعابًا يسمح بمعرفة مواطن القوة، فيؤخذ بها ، ومواطن النقص فيُتفاداها . ولا أعنى بهذا الإحاطة بكل جزئيات التراث فإن هذا مما يبدو شبه متعذر، ولكن على أقل تقدير الإلمام إلمامًا تامًّا بالأصول التى أنتجت هذا التراث الهائل، ولعل من أهمها قواعد اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة .

ويُعد الاستخفاف باللغة العربية وقواعدها وزعم الاستغناء عنها باللسانيات الحديثة خرق لأصول العلم ومناهجه وتشكيك فيما أصبح من عداد المسلمات . يقول اللساني الكبير الدكتور محمد الحناش : « إن كل دارس لعلم اللغة المعاصر ، في أي بقعة من الوطن العربي إذا أراد خدمة هذه اللغة فأول شىء يتحتم عليه القيام به هو عقد الألفة والصداقة مع النحاة واللغويين القدماء من خلال كتبهم المنشورة أو المخطوطة …إذن يفترض من كل دارس (لساني) أنه يعرف تراثه ، هذه قضية لا تناقش إذ أصبحت في عداد المسلمات المعروفة». إذًا فمعرفة اللغة العربية تجعلنا غالبًا في مرحلة متقدمة ، وتقرّب لنا مسافات تاهت فيها المدارس اللسانية عبر رحلتها الطويلة إلى أن وصلت أو قاربت ما وصل إليه علماؤنا في عصور ازدهار اللغة العربية . فهذه أحدث المدارس اللسانية توصلت إلى ما انتهت إليه البلاغة العربية . يقول الأستاذ محمد بنور (اللساني) بالجامعة التونسية : «تشير التداوليات الحديثة والبلاغة العربية إلى معان متقاربة إلى درجة أننا حين نطلق اسم الواحدة فإننا نريد بها الأخرى، ويظهر هذا التداخل في فكرة إنكار استقلالية التركيب أو الدلالة عن الاعتبارات السياقية» .

3. الاطلاع على المناهج المعاصرة:

ومما يخدم عملية التجديد والتفسير خاصة الاطلاع على ما توصلت إليه المدارس المعاصرة من مناهج وعلوم؛ لأن ذلك يساعد على فهم القرآن فهمًا يتناسب وعصر المفسر ، وقديمًا قرر علماؤنا رحمهم الله قاعدة (تغير الأحكام بتغير الأزمان) ولا يكون ذلك إلاّ بتغير وسائل الفهم التى يتطور فهم النص بتطورها وهذا يتطابق ومقاصد القرآن الدعوية . يقول ابن عاشور – في معرض رده على الشاطبي عند اعتراضه على بعض المفسرين لإدخالهم بعض العلــوم الحكمية والطبيعية في فهم القرآن – : « إن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية لا بدّ أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصــور انتشار العلوم في الأمة».

وليس هنالك من علوم هي أولى بالدراسة والاهتمام من علوم اللسانيات الحديثة التى اعتنت بدراسة الكلمة وتفننت في وسائل فهمها وإيصالها واستقبالها وتوظيفها؛ مما يجعل الأمر لزامًا على كل من تصدى لفهم كتاب الله أن تكون له دراية بهذه العلوم التى لا شك أنها تساعده وتفتق ذهنه على مسائل دقيقة وحكم خفية من كتاب الله قد لا تظهر لغيره ممن لا يطلع على هذه العلوم. ولكن لهذا الأمر شروط وضوابط لابدّ من مراعاتها :

1. أن لا يُكتفى من هذه العلوم بالمعرفة السطحية العابرة، بل لا بدّ من استيعابها استيعابًا كاملاً يسمح بهضمها وتجاوزها إن أمكن ، وهذه مسئولية ملقاة على عاتق المؤسسات العلمية الإسلامية التى بوأت نفسها لهذه المهمة، بإعداد الكوادر العلمية القادرة على حمل هذه المسئولية ، وذلك لا يكون إلاّ بتوفير مناخ علمى سليم ، بعيدًا عن التوجيهات القسرية التى تقرر النتائج قبل معرفة مقدماتها .

2. إتقان الدربة في استخدام هذه الآليات وتوظيفــها التوظيف السليم، ولا يقع المجدد فيما وقعت فيه تلك الفئة التى عناها الدكتور طه عبد الرحمن بقوله :« إنها لم تبرهن على تحصيل الدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة، من مفاهيم مصطنعة وقواعد مقررة ومناهج متبعة ونظريات مسطرة . فضلاً عن أن يبرهن على الإحاطة بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائيتها» . وهذا مجال خصب للبحث والتنقيب يحتاج إلى جهود جماعية كبيرة تبين معالمه وتروض شاردة حتى يستأنس ويصبح خادمًا لثوابت الدين .

هذه هي أهم النتائج التى أردت إثباتها في نهاية هذا البحث ، علها تكون معالم وإشارات ولبنات صالحة تفيد المهتمين بهذا الميدان العظيم – تجديد مناهج التفسير – التى ما زالت تحتاج إلى جهود جبارة ومخلصة . سلاحها العلم ورايتها الحق وغايتها خدمة الأمة والبشرية جمعاء بإظهار محاسن هذا الكتاب الكريم الذي أنزله الله رحمة للعالمين .

خاتمة البحث

لقد حاولت في هذا البحث التكميلي معالجة ظاهرة من أعقد الظواهر الفكرية في عالمنا الإسلامي اليوم، وهي الدعوة إلى تجديد مناهج فهم القرآن الكريم . وتتلخص هذه المحاولة التقويمية لهذا الاتجاه التجديدي فيما يلي :

أولاً : رأينا في المقدمة أنه بحكم التقلص الحضاري الإسلامي والمد الحضاري الغربي وما تبعه من تقدم في مناهج العلوم والمعارف قد أدى إلى ظهور تيار ينادي بتجديد مناهج فهم القرآن ، وكان من أبرز رواده أبي القاسم حاج حمد الذي اتخذته نموذجًا للمدرسة الفكرية المعاصرة وبالتحديد ذلك الاتجاه الذي ينادي بضرورة استثمار العلوم الحديثة ومناهجها في فهم القرآن .

ثانيًا : لقد خصصت لهذا النموذج البابين الأولين :

أ. عرضت في الباب الأول أفكار الكاتب – متحريًا الأمانة ما استطعت – في شكل ييسر متابعتها واستيعابها ، وقد كانت في أصلها مفرقة مبعثرة يصعب على القارئ استبيان معالمها العامة والعلائق التى تربط بين أجزائها ، انطلاقًا من قراءة أولية للكتاب .

ب. أما في الباب الثاني فقد تناولت في فصله الأول أفكار الكاتب بالدراسة والنقد من خلال ما رسمه لنفسه من منهجية، وقد حاولت في ذلك الاختصار والاقتصار قدر الإمكان على ما يبين وجه الصواب دون تكلف في العبارة أو غمط للناس حقهم ، ملتزمًا بالضوابط التى يفرضها البحث العلمي .

ثم عقدت في الفصـــل الثاني من هذا الباب مقارنة بين مشروع أبي القاسم حاج حمد وبين مشروع مماثل له لا يقل عنه أهمية ، وهو المشروع الذي تضمنه كتاب [الكتاب والقرآن] للدكتور محمد شحرور ، وذلك بقصد استنتاج الضوابط المنهجية الأكثر تعبيرًا عن رأي هذه المدرسة التجديدية ، وقد تلخصت في أربع نقاط :

1. الدعوة إلى تناول القرآن في وحدته الكلية .

2. محاولة اعتماد المناهج المعاصرة في فهم القرآن .

3. الدعوة إلى قطع الصلة بالتراث بوصفه عائقًا لفهم القرآن فهمًا معاصرًا.

4. محاولة إبعاد السنة وتقليص أهميتها في التشريع؛ لأنها بحسب تصور هذه المدرسة تمثل مرحلة تاريخية معينة غير ملزمة لما بعدها من المراحل .

ثالثًا : ثم في الباب الثالث والأخير ولكي أصل إلى نتائج البحث المرجوة عقدت في فصله الأول مقارنة بين أسس المدرسة الفكرية الحديثة وأسس المدرسة التفسيرية التقليدية ، وقد شمل أربع نقاط:

1. الفرق بين التفسير والتحليل وموقف كل مدرسة من ذلك .

2. أخذ القرآن في وحدته – تفسير القرآن بالقرآن .

3. اللغة ودورها النظري والعملي في فهم القرآن عند كل مدرسة .

4. المقتضى أو الفهم ورأينا أنه الجانب المتجدد والقابل للتطور حسب الزمان والمكان .

هذا أهم ما ورد في هذا البحث الذي أرجو من الله سبحانه أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكون لبنة صالحة في طريق إعادة بناء مناهج فهم كتابه الكريم وتطويرها وفق أسس علمية ترضى الله ورسوله وتسهم في النهوض بهذه الأمة العظيمة وإعادة دورها الحضاري الريادي .

وآخر دعوانا

أن الحمد لله رب العالمين

فهرس المراجع

أولاً : القرآن الكريم

ثانيًا : كتب الحديث النبوي الشريف

1- ابن حجر ، شهاب الدين أحمد بن على ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري (مصر : مكتبة الكليات الأزهرية ، 1987م) .

2. النسائي ، أحمد بن شعيب بن علي بن بحر، سنن النسائي (بيروت : دار الكتب العلمية).

3. النووي ، يحيي بن شرف ، شرح صحيح مسلم ، (بيروت : دار الكتب العلمية، 1990م) .

ثالثًا : المصادر باللغة العربية :

1. كتب علوم القرآن والتفسير :

4. ابن تيمية ، مقدمة في أصول التفسير ، تحقيق عدنان زرزور (دار القرآن) .

5. الرماني ، والخطابي ، وعبد القاهر الجرجاني ، ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ، تحقيق محمد خلف الله ، ومحمد زغلول سلام ، ( القاهرة : دار المعارف ، طبعة 4، 1991م) .

6. الزركشي ، بدر الدين محمد بن عبد الله ، البرهان في علوم القرآن ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (بيروت : دار المعرفة للطباعة والنشر ، ط2) .

7. السيوطي ، جلال الدين ، الإتقان في علوم القرآن ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (القاهرة : مطبعة المشهد الحسيني ، 1976م) .

8. الطبري ، محمد بن جرير ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (مصر: شركة مكتبة مطبعة مصطفى بابي الحلبي وأولاده ، طبعة 3 ، 1969م) .

9. ابن عاشور ، محمد الطاهر ، تفسير التحرير والتنوير (تونس: الدار التونسية للنشر، 1984) .

10. القاضي ، عبد الفتاح ، البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة .

11. القرطبي ، محمد بن أحمد الأنصاري ، الجامع لأحكام القرآن (القاهرة : دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، طبعة 3 ، 1967) .

12. ابن كثير ، إسماعيل ، تفسير القرآن العظيم (القاهرة : مكتبة التراث) .

2. كتب اللغة العربية وآدابها :

13. زيدان ، محمود فهمي ، في فلسفة اللغة (بيروت : دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، 1985م).

14. السيوطي ، جلال الدين ، المزهر في علوم اللغة وأنواعها (صيدا/ بيروت : المكتبة العصرية) .

15. الصبان ، محمد بن على ، حاشية شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (بيروت : دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع) .

16. الغلاييني ، مصطفى ، جامع الدروس العربية ( صيدا/ بيروت : المكتبة العصرية، طبعة 22 ، 1989م) .

رابعًا : المراجع الحديثة

17. أركون ، محمد ، العلمنة والدين : الإسلام ، المسيحية ، الغرب ، ترجمة هاشم صالح (لندن : دار الساقي ، واستان فورف ، الطبعة الأولى ، 1990) .

18. أركون ، محمد ، الفكر الإسلامي : قراءة علمية ، ترجمة هاشم صالح (بيروت: مركز الانماء القومي ، والمغرب : المركز الثقافي العربي ، ط2 ، 1996 .

19. عبد الرحمن ، طه ، تجديد المنهج في تقوم التراث ( الدار البيضاء : المركز الثقافي العربي ، 1994م) .

20. الصغير ، محمد حسين ، المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم (بيروت : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع) .

21. أبو زيد ، أحمد ، مقدمة الأصول الفكرية للبلاغة والإعجاز (الرباط : دار الأمان للنشر والتوزيع ، 1989) .

22. أبو شهبة ، محمد ، دفاع عن السنة ( القاهرة : مكتبة السنة ، الدار السلفية للنشر والعلم 1989م) .

23. البنا ، جمال ، نحو فقه جديد (القاهرة ، دار الفكر الإسلامي) .

24. بول فابر ، وكريستيان بايلون ، مدخل إلى الألسنية ، ترجمة طلال وهبة ( الدار البيضاء : المركز الثقافي العربي ، 1992م) .

25. حاج حمد ، محمد أبو القاسم ، السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل ، (بيروت : دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع ، طبعة ثانية ، 1996 .

26. حاج حمد ، محمد أبو القاسم ، العالمية الإسلامية الثانية ، (بيروت : دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع ، طبعة ثانية ، 1996).

27. حاج حمد ، محمد أبو القاسم ، منهجية القرآن المعرفية (واشنطن : المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1991م) .

28. الحناش ، محمد ، البنيوية في اللسانيات ، (الدار الأبيضاء : دار الرشاد الحديثة، 1980م) .

29. الدويش ، عبد الله بن محمد ، المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال ، (القصيم : مكتبة دار العليان للنشر والتوزيع ، 1987م) .

30. روندسون ، مكسيم ، الماركسية والعالم الإسلامي ، ترجمة كميل داغر (بيروت: دار الحقيقة ، طبعة 2) .

31. شاهين ، توفيق ، المشترك اللغوي نظرية وتطبيقًا (القاهرة : مكتبة وهبة ، 1980م).

32. شحرور ، محمد ، دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع (دمشق : الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع ، 1994م).

33. شحرور ، محمد ، الكتاب والقرآن قراءة معاصرة (دمشق : الأهالي ، 1990م).

34. الصالح ، صبحي ، دراسات في فقه اللغة (بيروت : دار العلم للملايين ، طبعة 10، 1983م) .

35. العك ، عبد الرحمن ، الفرقان والقرآن (الحكمة للطباعة والنشر) .

36. قطب ، سيد ، خصائص التصور الإسلامي (الناشر : الاتحاد العالمي للمنظمات الطلابية ، طبعة 3 ، 1983م) .

37. قميحة ، مفيد ، شرح المعلقات العشر (بيروت : دار ومكتبة الهلال) .

38. محمود ، مصطفى ، القرآن محاولة لفهم عصري (مصر: دار المعارف ، 1976م) .

39. المعهد القومي لعلوم التربية بتونس ، أهم المدارس اللسانية ، (تونس : المطبعة الرسمية التونسية ، 1990م) .

40. المنجد ، ماهر ، الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن – دراسة نقدية (بيروت :دار الفكر المعاصر ، ودمشق : دار الفكر ، 1994م) .

41. وجدي ، محمد فريد ، دائرة معارف القرن العشرين ، (بيروت : دار المعرفة ، طبعة 3 ، 1971م) .

خامسًا: المعاجم والموسوعات

42. الفراهيدي ، الخليل بن أحمد ، كتاب العين ، تحقيق مهدي المخزومي ، وإبراهيم السامرائي (مصر : دار ومكتبة الهلال) .

43. ابن منظور ، جمال الدين محمد بن مكرم ، لسان العرب (بيروت : دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر ، 1956م) .

44. الزبيدي ، السيد محمد مرتضى ، تاج العروس (مصر : المطبعة الخيرية المنشأ بجمالية) .

45. التهانوى ، محمد أعلى بن على ، اصطلاحات الفنون (بيروت : دار صادر) .

46. صليبا ، جميل ، المعجم الفلسفي (بيروت : دار الكتاب اللبناني ، ومكتبة المدرسة ، 1982م) .

47. لجنة من العلماء والأكادميين السوفيات ، الموسوعة الفلسفية ، ترجمة سمير كرم (بيروت : دار الطليعة ، طبعة 6 ، 1987م) .

سادسًا : المراجع الأجنبية

1. المرجع باللغة الفرنسية :

48. A Bannour, Rhetorique des attitudes propositionnelles de la nature du signe aux frontieres du sens, Universite du Tunis I, Faculte des de la Manouba.

سابعًا : الدوريات والمجلات والصحف

49. أسامة خليل ، «قراءة في العالمية الإسلامية الثانية» ، مجلة التجديد (الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا : السنة الأولى ، العدد الأول ، يناير 1997م) ، ص 156.

50. جريدة المستقلة ، السنة الخامسة ، العدد 165 ، 1 ربيع الأول 1418 – 7 يوليو تموز 1997م .

51. حاج حمد ، محمد أبو القاسم ، «المفهوم القرآني للعروبة والدار في مقابل القومية والوطن» ، مجلة قراءات سياسية ، 5/ 1/شتاء 1995 ، ص 9- 25 .

52. عمارة محمد ، «سمينار منهجية القرآن المعرفية وأسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية» ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، مكتب القاهرة ، الموسم الثقافي ، 1991 – 1992 ، ص 42 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر