لأكثر من ثلث قرن ، يستمر النقاش حول قضية ” تجديد علم أصول الفقه “. وفي خضم هذا النقاش الذي يطفو ويخبو ثم يطفو ، كُتبتْ أبحاث ومقالات ومؤلفات في الموضوع . وتبلورت وظهرت مختلف الآراء والمواقف والاتجاهات.
فهناك مؤيدون متحمسون ؛ بعضهم يريدون أقصى درجات التجديد الممكنة ، وبعضهم يصلون إلى حد الخلط بين التجديد والتبديد .
وهناك مؤيدون محتاطون ،يقولون : نعم ، ولكن …
وهناك متحفظون متخوفون ، ينبهون ويقيدون .
وهناك معارضون رافضون ، يُحَذرون وينذرون …
وكل هذه الآراء والمواقف قد عُبِّر عنها وأصبحت معروفة لدى المختصين والمتابعين لهذا الشأن. وسيكون هذا العدد من (مجلة المسلم المعاصر) ، مناسبة أخرى للمجلة وكتابها ، لبسط مختلف الآراء من قضية التجديد الأصولي . وسينضاف إلى كل فريق مناصرون جدد. وسيقدمون دون شك أفكارا جديدة وحيثيات جديدة ، لفائدة هذا الرأي أو ذاك …
والسؤال اليوم هو : إلى متى يستمرهذا النقاش ؟ وماذا بعد النقاش ؟
إن من سوء حظ بعض المشاريع الكبيرة والجديدة ـ وخاصة منها العلمية ـ أنها تجد من ” يقتلها ” بحثا ونقاشا ، وتجد كذلك من يقتلها تحفظا واعتراضا ، ولكنها لا تجد من يخرجها إلى حيز الفعل والإنجاز، لا تجد من يتقدم وينفذ الفكرة ، ثم يأخذ كتابه بيمينه ، ويقول للناس ولأهل الاختصاص : ﴿هاؤمُ اقرؤوا كِـتابـيَهْ﴾.
ومن سوء حظ هذه المشاريع أيضا ، أن تبقى ملفوفة أو مشوبة بسوء الفهم وسوء التقدير ، وربما أيضا بسوء الظن . فالقضايا الكبيرة والمعقدة والمتعددة الأبعاد والانعكاسات ، لايمكن حسمها وإقناع كل الناس بها بمجرد الشروح والنقاشات والتصورات الذهنية ، ما لم يصحبها أو يعقبها إنجاز عملي تطبيقي من عند المؤمنين بها.
من هنا يصبح لزاما على دعاة تجديد أصول الفقه ، أن ينتقلوا من الدعوة إلى التجديد ومن الدفاع عن التجديد ، إلى إنجاز التجديد وممارسة التجديد . فالذين أسسوا علم أصول الفقه ، والذين جددوه عبر العصور، لم يناقشوا فكرة التجديد ، ولم يطلبوا الإذن بها ولا الاعتراف والتسليم المسبق بمشروعيتها وجدواها . ولو فعلوا لوقع لهم ما هو واقع لنا اليوم …
عندنا اليوم عشرات من الأقسام الأصولية المتخصصة في جامعاتنا ، ويوجد فيها وفي غيرها مئات من الأساتذة والباحثين والمؤلفين في علم أصول الفقه . فلولا نفرمن كل فرقة أو جامعة أو طائفة ، مجموعاتٍ أو أفراداً، لإنجاز مشاريع أصولية تجديدية متعددة ، حينها سيجد العلماء والدارسون عدة نماذج تجديدية ، مطبقة ومفصلة وكاملة ، لعلم أصول الفقه . حينها لن يبقى دعاة التجديد ـ بعضهم على الأقل ـ عاجزين عن التنفيذ مقتصرين على التنديد ، ولن يبقى غيرهم حائرين متشككين . بل سنكون ، ليس فقط أمام إنجازات حقيقية ، ولكن أيضا أمام أشياء واضحة تامة ، يمكن ـ لكل من أراد ـ فحصُها والحكمُ عليها وعلى مدى سلامتها ومشروعيتها ، وتقديرُ مدى جدواها وفائدتها . بل كذلك ستتأتى المفاضلة بينها وتقديم ما يستحق التقديم وتأخير ما يستحق التأخير منها ورفض ما يستحق الرفض ، مع إمكانية الاستفادة من جميعها أو معظمها . ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد: 17).
على أن هذه الفكرة المأمولة ، قد بدأت تتلمس طريقها نحوالتحقق والظهور. فهناك الآن مبادرة فعلية ، قد تكون هي الأولى من نوعها ، ترمي إلى إخراج مؤلَّف كامل في علم أصول الفقه ، يحتوي كل عناصر التجديد التي تم اعتمادها أو استشرافها ، بعد عدة أبحاث ومناقشات ومراجعات بين أعضاء الفريق الملزمين بهذا المشروع ، برعايةٍ ودعمٍ من المعهد العالمي للفكر الإسلامي .
لا ترمي هذه الفكرة فقط إلى إخراج ( علم أصول الفقه في ثوبه الجديد ) ، ولكن أيضا : بمضمونه المتجدد ، وبوظائفه الموسعة ، وبتطبيقاته الملائمة …
ولقد كان من دواعي هذه المبادرة ومنطلقاتها :
- ما تقدم ذكره من ضرورة الانتقال من القول إلى الفعل ، ومن التحدث عن التجديد إلى ممارسته وتجريبه.
- ما وقفنا عليه من كون التجديد سُنّة إسلامية ماضية ، وأنها من لوازم الحياة وعلاماتها ، وأن علم أصول الفقه خاصة ، قد عرف ـ عبر تاريخه ـ تطورات واسعة ، لايكاد يخلو منها عصر من العصور. فكيف بعصرنا الذي هو أحوج إلى التجديد من أي عصر مضى؟!
- ما نشاهده اليوم من بحوث ودراسات أصولية ، قد أتت بالشيء الكثير من التجديد والتصحيح والتكميل ، سواء في البحوث الجامعية أو في غيرها ، ولكنها تمت بمجهودات فردية ، وفي قضايا محددة ومتفرقة ، ولم ينتظمها بناء شامل ولا نظر منسق .
- ما أصبحنا نعاينه ونعاني منه، من ضعف وانحسار للدورالعلمي القيادي الذي كان لعلم أصول الفقه. لقد كان هذا العلم قائدا ضابطا للعلوم الإسلامية الأخرى ، وكان قائدا موجها لمنهجية التفكير الإسلامي ، وكان قائدا مؤسسا لكل ممارسة تشريعية أو قضائية للمجتمعات والدول الإسلامية .
لذلك كان لا بد من القيام بما يمكن لتصحيح هذا البئيس ، حتى لا يتحول هذا العلم من علم للتفكر والتفقه إلى علم للتبرك والتفكه . وهذا يوصلنا إلى المنطلق الخامس الذي هو بيت القصيد.
- السعي إلى استعادة الفاعلية والقدرة الاستيعابية والدورالقيادي لعلم أصول الفقه ، وذلك بإدخال كل ما يخدم هذا الهدف ، وتنحية كل ما يمنعه أو يضعفه ، وإعادة الصياغة والترتيب لكل مل يتوقف عليه تحقيق الهدف المذكور. فالمعيار الأعلى لهذا العمل هو ما يخدم أو لايخدم وظيفة هذا العلم ، بشقيها الفقهي والفكري ، أو التشريعي والمنهجي .
ونرجو أن تظهر ثمرة هذه المبادرة خلال سنوات قليلة بإذن الله تعالى وتوفيقه .