فكرة في مؤتمر

تقرير عن مؤتمر استانبول بمناسبة مرور 25 عاماً على مسيرة المعهد العالمى للفكر الاسلامى (19-22/12/2006)

العدد 124

أولاً: مقدمة

 

يقدم هذا التقرير نتائج قراءتى وتفاعلى مع وقائع أيام المؤتمر الثلاثة، سواء عروض شفوية أو مداخلات ومناقشات أو أوراق فكرية مكتوبة. ومع هذه القراءة والتفاعل استكملت جولة سبق وخضتها – من القراءة والتفاعل أيضاً – ولكن مع خبرة المعهد طوال 20 سنة والمدونة فى أوراق وبحوث وشهادات، وذلك خلال اعدادى جزء من أعمال المشروع البحثى عن “تقييم مسيرة إسلامية المعرفة عبر ربع قرن”.

 

ولذا يمكن القول أن مسار تفاعلى مع المؤتمر قد تشكل جزئياً بما حملته معى مسبقاً من أفكار وتساؤلات ونتائج – عرضت جزءاً منها فى مداخلتى فى المؤتمر عن بعض نتائج هذا المشروع البحثى. ومن ثم فلقد اعتبرت أن هذا المؤتمر سيكون بالنسبة لنا بمثابة ساحة اختبار أولية لمصداقية نتائج مشروعنا من ناحية، كما سيكون من ناحية أخرى ساحة لتسجيل شهادات وخبرات إضافية عن التفاعل مع “إسلامية المعرفة”: فكرة ومؤسسة وتطبيقات.

 

ويصعب تصنيف المداخلات الشفوية والمكتوبة ابتداء من الجلسة الافتتاحية  وحتى ما قبل الجلسة الختامية ، نظراً لتعدد المعايير التى يمكن تطبيقها فى التصنيف: هناك معيار من دشنوا الفكرة والمؤسسة من الرواد، وكذلك الباحثون أصحاب الخبرة، والمهتمون حديثاً، والمهتمون بالمساهمة الفكرية، والمساهمون فى إعادة بناء العلوم؟ وهناك معيار آخر : وهو درجة الشمول أو الانتقائية فى مداخل الشهادة أو عرض الخبرات؟، وهناك معيار ثالث: وهو الحديث مجدداً فى الفكرة والجدالات حولها ونتائج تطبيقاتها وصعوباتها؟، وأخيرًا هناك معيار رابع وهو ثلاثية : الماضى – الحاضر – المستقبل: ماذا حدث ، وماذا يجرى ، وما الطموح بالنسبة لعشرة سنوات قادمة؟

 

ولقد تداخلت جميع هذه المعايير وتواجدت بدرجة أو بأخرى فى المداخلات من المنصة وفى مناقشات جمهور المشاركين وهو الأمر الذى تسبب فى توجيه نقد أساسى لمنظمى المؤتمر، نظراً لعقد جلسات مفتوحة تقدم فيها المداخلات موضوعات متكررة أو حول أسماء بعينها من قادة المعهد، فى حين كان من المفترض – فى مؤتمر تقويمى مثل هذا الذى ينعقد بمناسبة مرور 25 عام – أن يتم تصميمه بمنهاجية مغايرة تقوم على الموضوعات والمحاور الخاصة بالتقويم وليس على النحو الذى جرى عليه.

 

ولقد كان الشكل الذى انعقد عليه المؤتمر – من أهم موضوعات النقاش بين المشاركين فى المؤتمر، سواء خلال الجلسات أو خارجها. ذلك لأنه وفق خطاب الدعوة الموجه من أ.د. عبد الحميد أبو سليمان كان من الواضح أن هدف المؤتمر هو تدارس خطط مستقبلية يهتم بها المتعاونون مع المعهد. ولم يتم تحديد جدول للمؤتمر – قبل انعقاده – بمحاور لتقويم المسيرة. وفى حين تقدم البعض بأوراق عمل استجابة لدعوة أ.د. عبد الحميد أبو سليمان (د.على ليله، د. أمانى صالح، د. عبد الرحمن النقيب، أ.رحاب الشريف، د. رفعت العوضى، أ. خالد عبد المنعم) فإن معظم الحضور قدموا مداخلات شفوية ، قام بعضهم بكتابتها بعد إلقائها، فى حين القليل من الحضور الذين أعدوا وريقات مختصرة ببعض الأفكار حول تقويم المسيرة المستقبلية.

 

وفى المقابل، وبالرغم من طلب أ.د. عبد الحميد أبو سليمان من فريق مشروع تقويم مسيرة إسلامية المعرفة تقديم نتائج التقويم خلال المؤتمر، إلا أن المشاركين فى المؤتمر من أعضاء الفريق (د.نادية، د.سيف، د. أمانى صالح) فوجئوا بأن ما خصص لكل منهم فى جدول المؤتمر (الذى تم توزيعه عشية بدء أعمال المؤتمر ) لا يختلف عما خصص لكل متحدث آخر. كما أن المتحدثين خاضوا جميعهم كما سبق الذكر – فى مداخل لتقويم مسيرة المعهد ، منها ما كان جزئياً ومنها ما كان انتقائياً، ومنها ما قدم خبرة ذاتية ومنها ما قدم انطباعات عامة، ومنها ما تناول الفكرة ومنها ما تناول تطبيقات لها ..وهكذا.. فى حين كان بمقدور الفريق أن يقدم تصوراً متكاملاً عن نتائج التقويم فى محاور خمسة؛ المفهوم وتطوره، منهاجية التطبيق وتطورها، العلاقة بين العلوم الإسلامية والاجتماعية ، اتجاهات الآراء الناقدة والرافضة للمفهوم ومنهاجيته، مقترحات للمسار المستقبلى.

 

ومن ثم يمكن عرض نتائج القراءة والتفاعل باستدعاء عدة محاور برز الاهتمام بها وهى :

 

1- الفكرة واستمرار الجدالات حولها والدلالة بالنسبة لطبيعة ما تمثله المؤسسة والمتعاونين معها : مدرسة أم حركة أم تيار؟

 

2- الهدف: إعادة بناء ثقافة الأمة وفكرها من ناحية والمساهمة فى إعادة بناء العلوم الاجتماعية والإنسانية من منظور إسلامى حضارى من ناحية أخرى ، انطلاقاً من دور الأزمة الفكرية فى الأزمة الحضارية الشاملة، ومن ثم الحاجة إلى تجديد الرؤية الكونية الإسلامية .

 

3- التشغيل والتفعيل فى الواقع: العلاقة مع الحركة : سواء المنظمة أو المجتمعية العامة ومن ثم المشاركة فى إصلاح الواقع، وليس فقط إصلاح المعرفة أو الفكر أو العلم.

 

4- التراكم المنظم فى مجالات الانتاج العلمى والفكرى ، سواء على صعيد العلوم الحديثة أو على صعيد “العلوم الإسلامية” (خطوات منهاجية تنفيذ “الفكرة”).

 

5- التواصل البينى على صعيد العاملين فى هذا المجال (مكاتب المعهد، مشروعات بحثية، باحثين، جيل جديد من المهتمين) لتفعيل الانتقال من التصورات والرؤى إلى الاجراءات العملية والتطبيقات، وكذلك التواصل البينى العربى – غير العربى ( الكردى ، الإيرانى، التركى، الماليزى، والاندونيسى…).

 

6- التفاعل مع الآخر (الغربى) سواء فى مجال العلوم الحديثة أو مجال العلوم الإسلامية ذاتها.

 

ثانياً : التشخيص:

 

ومن استحضار تفاصيل المداخلات والمناقشات حول هذه المحاور أستطيع تسجيل التوجه العام لنتائج قراءتى وتفاعلى فى الأبعاد التالية:

 

أن الأزمة الفكرية والمعرفية التى تواجهها الأمة تزداد حدة مع ازدياد التحديات الخارجية لها ودخولها مرحلة جديدة تهاوت فيها الحدود بين الخارجى والداخلى من ناحية، ومع تصاعد مؤشرات عدم الفاعلية حتى الآن للجهود المبذولة من أجل استنفار الأمة على أسس الرؤية الكونية الإسلامية التى هى رؤية إنسانية من ناحية أخرى.

 

ذلك لأن المعهد ومع تعدد جهوده – أفقياً (حول الفكرة) ورأسياً (حول خطوات منهاجية تطبيقها) إلا أن مردود هذا الجهد غير ملموس بطريقة واضحة وغير ذات تأثير . ومن أهم الأدلة على ذلك:

 

  • استمرار الجدال حول الفكرة ، وعدم الظهور للتطبيقات الناجحة (وكذا المحدودة) حيث لم يحملها المعهد بالصورة المناسبة إلى الدوائر المعنية وخاصة الناقدة.
  • تجدد النقاش حول ماهية التراث وكيفية توظيفه ، وبالمثل حول تجديد العلوم الإسلامية (كما حدث فى الجلسة قبل الأخيرة) كما لو أن المعهد لم ينجز شيئاً على هذين الصعيدين وغيرهما.
  • فقدان الروابط مع مجموعات الحركة الإسلامية بل والتعرض للهجوم منها بدلاً من المساهمة الفكرية فى ترشيد هذه الحركة.
  • فقدان الروابط الفاعلة بل والجدل بين روافد تجديد العلوم الإسلامية وبين روافد إعادة بناء العلوم الحديثة من منظور إسلامى، حيث لم تسقط بعد الحواجز التقليدية بين هذه التخصصات وإن كانت هذه الحواجز قد اهتزت وفقدت مشروعيتها وشرعيتها، إلا أنه ما زال التساؤل قائماً: ما القدر الذى يجب أن يحققه عالم الاجتماع من العلوم الشرعية والعكس؟
  • عدم إحداث نقلة نوعية حتى الآن فى مجال البحث والتدريس (فى عدد من العلوم) وعدم القدرة على تعميق الاختراقات فى المناهج والمؤسسات نظراً للمقاومة من بعض الحكومات والنخب، ونظراً لإتباع مجرد منهج التوفيق والتلفيق فى بعض الحالات حين يسمح الإطار السياسي بذلك، ونظراً للانشغال فى الجدالات لدحض تهم الأدلجة أو عدم العلمية بدلاً من توجيه الطاقات للإبداع الذى يحقق نقلة نوعية، ذلك لأن الثورة المعرفية الحقيقية لن تتم بدون التراكم المعرفى وانتزاع الاعتراف من النخب المخالفة.
  • عدم المقدرة على تحقيق الأهداف الأساسية نظراً لعدم توافر الكوادر الفكرية والأكاديمية القادرة على استيفاء متطلبات الفكر والبحث والتدريس انطلاقاً من الرؤية الكونية الإسلامية وبالاستعانة بالمنهاجية الإسلامية، واستناداً إلى مصادر المعرفة الإسلامية (من تراث وغيره..) وهو الوضع الذى يعنى أمرين: (إذا اقتصرنا على صعيد المعرفة والعلم) عدم الفعالية فى التراكم المعرفى حول الأنساق المعرفية المتقابلة وحول النسق المعرفى الاسلامى وحول النماذج التفسيرية الإسلامية وحول المنهاجية الإسلامية وتطبيقاتها فى العلوم الاجتماعية من ناحية، وعدم القيام من ناحية أخرى بالقدر المناسب من تعبئة الموارد البشرية وتدريبها وتوفير الحوافز المناسبة لها للدخول فى مسار من أصعب المسارات ألا وهو ما يسمى دمج وتكامل العلوم المدنية مع العلوم الدينية (خبرة جامعة ماليزيا الإسلامية) أو ما يسمى منظور إسلامى (حضارى) للعلوم السياسية والاجتماعية (خبرة جماعة كلية الاقتصاد). كذا يمكن أن نضيف أمراً ثالثاً: وهو المعوقات من البيئة المحيطة السياسية والأكاديمية على حد سواء. وهنا تبدوخبرات الجامعة الإسلامية فى ماليزيا وما بدأت تواجهه من صعوبات بعد ما شهدته من عقد ذهبى (فى ظل مساندة د. أنور إبراهيم) مما يعنى أن المناخ السياسي المناسب عامل مساعد إن لم يكن شرطاً مسبقاً ضرورياً (انظر مثلاً حالة السودان..).
  • ومن ثم لابد وأن نتساءل ما القدر المتحقق مما يمكن تسميته “التأسيس النظرى لإسلامية المعرفة” وما قدر المتحقق فى بناء علوم اجتماعية من منظور إسلامى، وكما يقول البعض فإنه لم يجد فى إصدارات المعهد ما يتصل بهذا الجانب الأخير، مما يعنى عدم وجود تراكم معرفى (فى مجال العلوم) يحقق انتقالاً نوعياً ومن ثم مصداقية لإنتاج المعهد تساعده فى إقناع الآخرين بمصداقية الفكرة والمنهج ناهيك عن أن الإنتاج ذاته مشتت بين الإغراق فى الحديث عن رؤية معرفية وإصلاح مناهج الفكر. ولكن أين إنتاج العلم وأين خدمة الواقع ، وهل من المفيد عدم التمييز بوضوح بين حصيلة خدمة كل من المعرفة والفكر والعلم وأين تصور العلاقة بينهم؟
  • وأخيراً نأتى إلى دائرة ما أسميه عدم التواصل وعدم التشبيك وحيث أنه قائم على مستوى كل من التشخيص والتفسير ، فنتركه لما سيرد لاحقاً فى البند الخاص بالتفسير.

 

ثالثاً : التفسير

 

وترجع هذه الصورة التى كشفت عنها جلسات المؤتمر عن إنجاز المعهد حتى الآن، وأقول الصورة وليس الواقع، لعدة أسباب. ذلك لأن واقع إنجاز المعهد أكبر وأعمق من أبعاد تلك الصورة، إلا أن المعهد حال دونه وتقديم صورة إيجابية تتناسب مع قدر الجهد المبذول عدة أمور. وهى من الأهمية بمكان لنتوقف عندها بقدر من التفصيل، ذلك لأن هذه الأمور تمثل قاسماً مشتركاً بين العديد من المؤسسات الإسلامية والتى بالرغم مما تبذله من جهود إلا أن المخرجات عبر فترة زمنية ممتدة تظل بدون مردود ملموس أو فاعل، مما يدفع للتساؤل لماذا؟ هذه المحدودية فى فعالية المؤسسات الإسلامية مقارنة بغيرها؟

 

وتتلخص هذه الأمور فيما يتصل بحالة المعهد وكما ظهر فى مناقشات المؤتمر فى الآتى:

 

1- عدم التقويم المستمر والمنظم – من داخل المؤسسة وخارجها – للفكرة وما حاق بها أو بمنهاجية تنفيذها من تطورات، ومن ثم يظل الالتباس والغموض قائمين وتستمر الجدالات فى حلقات مفرغة، (مفاجأة مداخلة د. عبد الجبار الرفاعى)، وبالرغم من أن الفكرة قد تطورت ونمت أو تغيرت – وفق مقتضيات معينة- ولكن لم تتم عملية المراجعة العلمية ولم يجر إعلان عن نتائجها بطريقة منظمة لفك الاشتباك حول دوافعها وأهدافها وطموحاتها الشديدة مما ساعد على إزالة ما يحيط بها من ضبابية والتباس حتى الآن. وهو الأمر الذى يعنى عدم الجدية فى متابعة التطور فى الرؤية الاستراتيجية وأدواتها أو على أسوأ الأحوال – عدم وجود هذه الرؤية ابتداء أو عدم توافر الجهاز اللازم لمتابعتها بدقة وهذا يعنى عدم التمييز فى المعلن من أهداف وخطوات، بين “الإسلامية” كفلسفة، وبين الفكرة التى يرعاها المعهد، أي بين الجزء من الفكرة التى يقوم المعهد بنفسه على تنفيذها .

 

ويؤدى عدم التمييز بين هذه المستويات إلى الضبابية التى تحيط باستراتيجية المعهد المعلنة التى يريد تحقيقها، كما تقود من ناحية أخرى إلى القول بمحدودية انجاز المعهد مقارنة بمتطلبات تنفيذ الفكرة، وهى فكرة للأمة برمتها لا يقدر على تحقيقها مؤسسة واحدة مهما بلغت مواردها، ولكن يصبح بمقدور هذه المؤسسة – مثل المعهد- أن ترعى الفكرة وتساعد على نشرها فى حين تقوم هى بدور فى التنفيذ: ولكن ما هو الدور الذى حددته المؤسسة لنفسها بدقة؟ العمل على مستوى التأصيل النظرى، أم تجديد العلوم الإسلامية أم إعادة بناء الفكر أم إعادة بناء العلوم الحديثة، وجميعها مستويات متراكمة على بعضها البعض ولا تنفصل؟

 

2- الطموحات الشديدة والحماسة الفائقة التى أدت للامتداد إلى مجالات وساحات عدة فى نفس الوقت وبالتوازى، وليس على التوالى أو بالتشبيك، وابتداء من ساحة العلوم التراثية والإسلامية إلى ساحة الفكر الراهن، إلى ساحة العلوم الاجتماعية والإنسانية وقضاياها المتعددة. وهو الأمر الذى لم يساعد على تحقيق نقلات نوعية متتالية ومتراكمة أو متواصلة، نظراً لضخامة الموارد البشرية والمالية والزمنية المطلوبة للإنجاز المتزامن والمتوازى مقارنة بما هو متوفر بالفعل، ومن ثم بدت المخرجات متناثرة ، مشتتة، جزئية، فى حين أن المتابع بدقة لخريطتها يستطيع القول أنها تحقق تراكماً، ولكنه لم يتم عرضه بالصورة المناسبة.

 

ناهيك عن الروافد المتنوعة حول بعض القضايا وما بينها  وهو من قبيل الاختلاف أكثر من كونه خلاف، مثلاً التراث، تجديد علوم القرآن والسنة، أصول الفقه..، إلا أنه لم يتم تحديد التراكم الذى يوضح ما المتفق عليه وما المختلف عليه، شأن كل ما يجرى على صعيد المدارس الفكرية والنظرية التى تتكون من روافد وإن كانت تصب جميعها فى تيار واحد. فى حين أن مثل هذا التراكم – إذا كنا نقصر الحديث هنا على “التراث وعلوم القرآن والسنة”- مطلوباً بشدة من جانب متخصصى العلوم الاجتماعية الساعين نحو الإسهام بمنظور إسلامى فى تخصصهم، ذلك لأنه من المطلوب أسلمتهم هم للتوصل إلى أسلمة العلوم.

 

ولهذا السبب ربما – أو لأسباب أخرى – حرص رواد المعهد خلال المؤتمر (د. توتونجى + د. عبد الحميد+ د. أنور إبراهيم) وكوادره (د. فتحى الملكاوى) على التأكيد أن المعهد ليس مدرسة أو حركة ولكنه تيار أو حامل فكرة ينشرها ويزرعها دون أن يلتزم برعايتها على نحو محدد وبطريقة محددة. فهل يمكن تفسير ما سبق تشخيصه من اتساع نطاق العمل بهذا الأمر؟ هل كان هذا هو الهدف من البداية؟ أم أن الهدف تغير (منذ إعلان خطة الفاروقى وحتى الآن) تحت تأثير تغير قيادات المعهد: كل بمنظوره ورؤيته وكل بتخصصه ومجال اهتمامه، وتحت تأثير الأوضاع المتغيرة فى العالم العربى والاسلامى، وتحت تأثير التكلفة البشرية والمادية الهائلة اللازمة لتحقيق أهداف مدرسة فكرية بمثل هذه المتطلبات؟

 

وعلى ضوء الملاحظات السابقة تبدو أهمية نتائج مشروع تقويم مسيرة إسلامية المعرفة التى نقوم عليها فى القاهرة لأنه ينطلق من هدف تحديد التطور فى الفكرة وصولاً إلى القائم الآن فى ظل الأوضاع المتغيرة، فى محاولة للإجابة على الأسئلة المطروحة. وتتلخص الإجابة ببساطة فى ان استراتيجية المعهد لتطبيق الفكرة كانت مرنة ، ومتغيرة بتغير القيادات والظروف المحيطة، ولم يدع المعهد مسئولية تنفيذ الفكرة بكل متطلباتها، كما يعتقد البعض.

 

3- عدم التواصل والتشبيك على أكثر من محور وبين اكثر من مستوى:

 

من المحاور المقصودة تلك العلمية والإدارية على حد سواء، والتى تتبلور على أكثر من مستوى من أهمها عدم التواصل والتشبيك بين التنظير والحركة (التراكم وانتقاله من المعرفى إلى النظرى إلى التطبيقى إلى الواقع)، وكذلك بين الذات والآخر ، وفيما بين روافد الذات ، وأخيراً بين المعهد وبين الجمهور وأجيال جديدة من الباحثين والناشطين . ولقد أفاضت بعض المداخلات والمناقشات الجادة فى هذه المستويات الأربعة على النحو التالى:

 

– تنوعت الاقترابات من العلاقة بين هذه الدوائر الأربعة ، كما تنوعت خبرات الانتقال من الفكر إلى الحركة، وبذا تبلور كيف أن الفكرة ليست قاصرة على إعادة بناء العلوم الحديثة وتأكدت معانى أهمية الربط بين الفكر والحركة، وليس فقط الدعوة إلى دراسة وبحث قائمة جديدة من القضايا والموضوعات لتقديم فكر وعلم رصين.

 

وتتلخص خريطة هذه الاقترابات على النحو التالى:

 

أ- من المعرفى إلى النظرى إلى التطبيقى إلى واقع الأمة وحركتها

 

  • إذا كانت دراسة د.عبد الحميد أبو سليمان قد انطلقت من وانبنت أساساً على متطلبات تغير حال فكر الأمة وواقع مؤسساتها التربوية والتعليمية أساساً، فإن بعض ممن انطلقوا من احتياجات إعادة البناء المعرفى والنظرى ابتداء إلا أنه أكد فى نفس الوقت على ان المساهمة فى التغيير لا يجب التضحية بها باسم الإصلاح النظرى والأكاديمى (د.خالد الصمدى) بل يجب إعداد المشاريع العلمية الجديدة والاستعداد لإنزالها في الواقع حين تحين الفرصة التى قد لا تتكرر. وأكد آخرون (د. رفعت العوضى، د. عبد الرحمن النقيب) على ضرورة الربط بين النظرى والتطبيقى.
  • ومن ناحية أخرى : فإن البعض (منظور عالم) اتجه مباشرة إلى خبرة الحركة ومتطلبات خدمة تعليم وثقافة وتربية واقتصاد مسلمى الهند فى واقع مركب ولكن ديموقراطى يسمح باقتناص الفرص للجهود المنظمة الواعية بمتطلبات الحركة الفاعلة.
  • كذلك فإن خبرات واقعية فى مجال إدخال تعديلات فى بعض مناهج التعليم والتربية أو تصميم بعض المناهج قد عرضها البعض (د.إسحاق الفرحان) هذا ولقد طالب د.طه العلوانى ود.عبد الحميد أبو سليمان بالتمييز بين نمط التعديلات الذى من قبيل التلفيق وتغيير بعض الكلمات وبين ما هو أكبر وأكثر تعقيداً والذى يحتاج رؤية معرفية ومنهج نظرى.

 

ومن ناحية ثالثة: ومنذ بداية المؤتمر، وفى معرض تمييزه بين مؤتمر استانبول ومؤتمر لوجانو، لم ينقطع طرح د.طه العلوانى عن تحديات الواقع ومتطلبات خدمة الحركة، وذلك حين أوضح كيف أن هدف لوجانو(1)، وهو تقديم فكر يرشد الصحوة السياسية، لم يتحقق لأن الحركة السياسية لم تستجب أو أهملت أو هاجمت أو رفضت أو انتقدت جهود الترشيد الفكرى ، وذلك لأسباب عديدة من أهمها الفردية. وفى المقابل أكد د. طه أن ما وصلت إليه التحديات والهجمات الخارجية من شراسة فى استخدامها كل الأدوات الممكنة ضد ما بقى من قلاع هوية وذاتية الأمة، من شأنه أن يفرض تصدياً جماعياً وليس فردياً لأنه ليس هناك تكليف فردى فى هذه الأمة.

 

وفى المقابل أشار البعض (أ. رحاب عبد الرحمن) إلى مخاطر التحزب السياسي وأهمية العمل المعرفى والفكرى من أجل الاصلاح.

 

ومن ناحية رابعة: اقترب د.المسيرى من قضية تفعيل الرؤية المعرفية ولكن على مستوى الفكرى والجدالات فيما بين النخب وبين النخب والرأى العام حول القضايا الكبرى التى تواجه الأمة، فلقد دعى للتفعيل من أجل توليد رؤية للعصر الحديث تفك شفرة التراث الفقهى وتولد رؤية معرفية للمستقبل تحول دون تقبل رؤية علمانية بوعى أو بلا وعى فى ظل امبريالية ثورة المعلومات. وينطلق هذا الاقتراب من البدء بالإنسان وصولاً إلى الله فى ظل رؤية كلية معرفية إنسانية ذات مرجعية إسلامية (صامتة).

 

ومن ناحية خامسة: اجتمع مجموعة من الباحثين – الذين امتدت خبرتهم الأكاديمية فى التعاون مع المعهد عبر ما يقرب من العقدين – (د. نادية مصطفى، د. أمانى صالح، د. رفعت العوضى، د. عبد الرحمن النقيب، د. سيف الدين عبد الفتاح، د. خالد الصمدى)- على قضية هامة وأساسية وهى تقع فى صميم عملية المراجعة المعرفية وإعادة بناء العلوم الحديثة أساساً وهى قضية “تحديد العلاقة بين مكونات عملية “إسلامية المعرفة” أى العلاقة بين خطوات منهاجية تطبيق الفكرة (د. نادية مصطفى ، د. أمانى صالح) أو الذى أسماه د. خالد الصمدى: نسق المصطلحات المتولدة من مدرسة إسلامية المعرفة (والتى فى حاجة أيضاً إلى معجم لتعريفها وتحديد مفاهيمها بوضوح) وهى : الرؤية الكونية، النموذج المعرفى، المنهاجية، التطبيق فى مجال دراسى محدد (أى بناء منظور إسلامى لهذا المجال) ثم الإنزال للتداول (سواء فى مجال التراكم العلمى فى هذا المجال) أو الإسهام فى التنمية والتغيير. وإذا كان متخصصى التربية والاقتصاد كانوا الأكثر توضيحاً لخبرات الإنزال للواقع ، فإن متخصصى العلوم السياسية أيضاً لم يفتقدوا فرصة شرح كيفية التشغيل والتفعيل، ولكن كان انشغال فريق مشروع تقويم مسيرة إسلامية المعرفة (د. نادية + د. سيف + د. أمانى) منصباً أساساً (كما اتضح من الجلسة الأولى من اليوم الثانى من المؤتمر) على قضية الانتقال من التأسيس النظرى للفكرة (ومتطلباته الخاصة برؤية العالم والنموذج المعرفى، ومداخل العلوم الشرعية) إلى التطبيق لبناء منظورات أو نماذج تفسيرية للعلوم السياسية (وخاصة العلاقات الدولية فى إطار استكمال أعمال مشروع العلاقات الدولية فى الإسلام)، ومن ثم كيفية تحقيق هذا الربط – منهاجياً – بين الجانبين: التأسيس والتطبيق. ولقد كانت خبرة مشروع العلاقات الدولية فى الإسلام ساحة لتقديم نموذجاً من نماذج هذا الربط. وفى المقابل فإن خبرة علم الاقتصاد فى الجامعة الإسلامية فى ماليزيا كانت مبعثاً لكثير من التساؤلات عن سبل هذا الربط ومتطلباته (د. أسلم حنيف) وعن مشاكله الراهنة مع غيره من العلوم فى الجامعة الإسلامية بماليزيا (د. عثمان بكر).

 

هذا ولقد كانت الجلسة الأخيرة فى ثانى يوم (بعد إعادة بناء الجدول استجابة لانتقادات المشاركين للجدول الأول) والتى تم تخصيصها للنموذج المعرفى، (كما خصصت الجلسة الأولى من اليوم الثالث للتراث)، ساحة تجدد فيها نقاش بل وجدال سبق وتكرر عشرات المرات عبر أنشطة المعهد، لدرجة دفعت د. عبد الحميد أبو سليمان فى نهاية الجلسة إلى رفض الإغراق فى تفاصيل فلسفية والمطالبة بالتركيز على كل ما له صله مباشرة بإصلاح مناهج فكر الأمة. ذلك لأن التعليقات والأسئلة تمحورت حول : ما معنى الرؤية الكونية والنظام أو النموذج المعرفى وما هى مرتكزاتهم وكيف يتم تحديد هذه الرؤية وهل هى واحدة وهل هى ثابتة؟ وما الفارق بين النموذج المعرفى والنظام المعرفى؟ وكيف يكون هناك رؤية كونية إسلامية واحدة مصدرها القرآن إذا كانت وسيلتها هى الاجتهاد من المصدر الثابت؟ وهل يمكن تقديم تعريف محدد للمصطلحات يحقق رضاء واتفاق عليه أم يمكن الاتفاق على دلالة للمصطلحات حيث يستحيل التعريف الدقيق الثابت للمصطلح الواحد، بل يمكن التعريف الدلالى لنسق من المصطلحات المتقاربة بدل من محاولة تعريف كل منها على حدة .

 

وإذا رجعنا – بالتفصيل ودقة – إلى التفريغ الكامل لهذه الجلسة نقلاً عن مفردات وكلمات كل متحدث لاتضح لنا كم هو الاختلاف على فهم المصطلحات الواحدة والنسق الذى يجمع بينها وهو الأمر الذى إن دل على شيء فهو يدل على حالة خطرة وحرجة حيث يتحدث البعض عن أمور مختلفة مستخدمين نفس المصطلح، وأبرز مثال على ذلك: الرؤية الكونية ، الرؤية للعالم التى اختلطت وتداخلت مع النماذج المعرفية والتفسيرية، وفى حين أن الثالثة تنبثق عن الأولى والثانية ويمكن أن تتعدد إلا أن الأولى لا يمكن أن تتعدد فهى من مرجعية عليا وتمثل أعلى مستويات التجريد.

 

وللأسف تكرر السيناريو مع جلسة التراث على النحو الذى دفعنى للتساؤل : لماذا هذا الوضع، هل نحن هنا – بعد 25 عام- جئنا لنتحدث مرة أخرى فى الأساسيات؟ وإذا كان المعهد قد بذل جهوداً عديدة على هذه الأصعدة (من ندوات وكتب ومؤتمرات ومشروعات) فلماذا هذه الحالة النقاشية المتسائلة، غير المتفقة، هل هذا جمهور جديد على ساحة المعهد أم هو جمهور – كما قال د. عبد الحميد – يبدو أنه لم يقرأ ما نشره المعهد، أم أن ما نشره المعهد – كما قلت – جاء متناثراً او مشتتاً فى الموضوع الواحد وبحيث لم يتم تحديد الدلالة المصطلحية أو قدر الاتفاق وقدر الاختلاف بين الاتجاهات المختلفة، وخاصة وأن المعهد لا ينشر ما يعبر عن خطته البحثية فقط ولكن ينشر أيضاً أعمال جاهزة تدخل فى خطته، ولكن يظل عدم التراكم المعرفى فى كل من هذه المجالات حقيقة قائمة تستدعى التصرف لعلاج هذه الحالة ورفض تكرارها فى ملتقيات المعهد، فإن فقدان هذا التراكم المعرفى فى مجال التأسيس النظرى، هو أحد أسباب عدم حدوث نقلات نوعية فى مجال البحث والتدريس على الأقل.

 

ومن هذه الاقترابات الخمس السابقة يتضح لنا التنوع والتعدد فى مستويات معالجة قضية العلاقة بين المعرفى والنظرى والتطبيقى والحركي.

 

وهو الأمر الذى يدفع للتساؤل أين المعهد من هذه المستويات، وما هى قائمة الأولويات التى ينفذها؟ وما هى المقترحات التى تساعد على تفعيل الروابط بين هذه المستويات سواء التى يمكن أن يقوم عليها المعهد أو يقوم عليه غيره؟ ومن هنا يتضح مرة أخرى أهمية نتائج مشروع البحث التقويمى وخاصة بالنسبة للمستويين الرابع والخامس.

 

ب- الآخر الغربى: بين ما يفرضه من تحديات سياسية ومعرفية وبين دوافع وفرص التواصل والتفاعل معه:

 

لم تتصد دراسة د.عبد الحميد أبو سليمان بطريقة مباشرة للتحديات من “الآخر” أو من الخارج أو من الغرب، حيث ركز على الكوابح فى الثقافة الإسلامية التى أدت إلى الابتعاد عن الفلسفة الإنسانية والسلمية فى الإسلام وانعدام الرؤية الكونية الإسلامية، وفى المقابل فإن د.طه العلوانى، سواء فى الجلسة الافتتاحية أو الختامية قد انطلق خطابه وتمحور مضمونه حول طبيعة وعواقب الهجمة الشرسة من الخارج التى تستهدف – بكل الأدوات – ما بقى من قلاع الأمة الخاصة بهويتها وذاتيتها بغرض تحقيق انصياع واندماج هذه الأمة ليس كأمة إسلامية ولكن كأمة مسلمين. هذا وفى حين كان البعض الآخر (د. رفعت العوضى) أكثر تفاؤلاً بشأن حالة الأمة الآن مقارنة بما سبق فهو يعترف بأن الآخر هو الذى يزداد شراسة وهجوماً.

 

وإلى جانب هذه التحديات المتصلة بالبيئة الخارجية المحيطة بالأمة فهناك أيضاً التحديات المعرفية النابعة بالطبع من النموذج المعرفى الوضعى – العلمانى ومن عواقبه على الفكر والعلم فى عالم المسلمين، وهى التحديات التى شكلت وأسست بعض دوافع ومحفزات تأسيس المعهد والفكرة التى يرعاها.

 

وبالرغم من أن خطة المعهد الأولى المعلن عنها فى بداية تأسيسه (والمعروفة بخطة الفاروقى) قد انطلقت من استيعاب الغربى ونقده باعتباره الخطوة المنهاجية الأولى فى سلسلة الخطوات التى تنتهى بالنقلة النوعية فى إنتاج العلوم مروراً بالتراث والعلوم الشرعية – إلا أن الحاضر الغائب فى المؤتمر – باستثناءات قليلة – كان قضية إعادة بناء العلوم انطلاقاً من رؤية إسلامية أو ما يسمى تطوير نماذج تفسيرية (منظورات) إسلامية لها مقارنة بالنماذج الأخرى (الغربية).

 

وتتلخص الاستثناءات فى الآتى :

 

مشاكل دراسة علم الاقتصاد الاسلامى فى الجامعة الإسلامية فى ماليزيا (د. إسلام حنيف).

 

دوافع تقييم إسلامية المعرفة التى تتصل بتدريس العلوم السياسية من منظور إسلامى مقارنة بالمنظورات الوضعية العلمانية (حقل العلاقات الدولية نموذجاً ، د. نادية مصطفى). ناهيك عن متطلبات الجدل والنقاش مع هذه المنظورات لاكتساب المصداقية العلمية، ذلك لأن إقناع الآخر بالفكرة ومصداقيتها يتطلب مصداقية فى الإنتاج العلمى وإمكانية تطبيقه بقدر ما يتطلب قناعة ذاتية ودفاع عن الفكرة (د. نادية مصطفى، د. محمد بن ناصر) والإنتاج العلمى ذو المصداقية يتطلب بدوره توافر عدة شروط (إقناع المفكر والسياسي وصاحب المال) والنمو العلمى الهادئ والرصين يتحقق فى ظل التوافق بين هذه الشروط(د.محمد ناصر) ومن ثم فإن  أحد أسباب عدم إنتاج علوم اجتماعية من منظور إسلامى هو عدم التفاعل مع الآخر حول هذه العلوم واستمرار الحديث مع أنفسنا (د. نادية مصطفى + د. محمد ناصر).

 

وإذا كان د. عبد الحميد أبو سليمان قد علق فى إحدى الجلسات على مداخلة (د. نادية مصطفى) بأن الجدل مع الغرب ليس الغاية الآن فى هذه المرحلة وما قبلها، رغبة فى التركيز على التحديات من الداخل، إلا أن هذه القضية قد تكرر ظهورها – ولو بطريقة محدودة من قبيل الاستثناء الذى لم يلق بالاً من الكثيرين.

 

فمن ناحية وفى مداخلته طرح د.يودى لطيف من اندونيسيا العلاقة بين “القوة” وبين إنجاز تحول فى المنظور (Paradigm) وبين مصداقية إسلامية المعرفة، حيث تساءل عن مصادر القوة اللازمة لتمكين المشروع بحيث يمكنه فرض مشاركته فى النقاش العلمى العالمى.

 

ومن ناحية أخرى: وفى مداخلته المكتوبة تحت عنوان المعهد العالمى للفكر الاسلامى بعد ربع قرن (مراجعة ومقترحات) تساءل د. عبد الرحمن حللى عن مدى الاستفادة من حضور المعهد فى العالم الغربى فى تطوير النظر فى قضايا الفكر الاسلامى، وعن ماهية الدور الذى قام به المعهد فى نقل هذا النتاج الغربى الجاد إلى العالم الاسلامى لينقده ويستفيد منه، فى الوقت الذى تتولى التيارات الأخرى نقل النتاج الذى يخدم أهدافها، ولقد خص د. عبد الرحمن بالذكر – بحكم تخصصه فى كلية الشريعة – الإنتاج المختص بالإسلام والدين عموماً، كما أشار فى الجلسة التى ناقشت النموذج المعرفى، إلى أهمية إسهام بعض الغربيين فى دراسة الرؤية الكونية الإسلامية من القرآن وهو الاسهام الذى يستحق النظر فيه والاستفادة منه .

 

كذلك ومن ناحية ثالثة: رفض البعض (د. محمد ناصر ) استخدام كلمة غربى لوصف الانتاج العلمى والمعرفة وطالب باستخدام صفة الوضعى، حيث أن للوضعية عدة تيارات منها المادى العلمانى ومنها غير المادى العلمانى ويواجه هذا الغربى نقد من الداخل ولو فى نطاق الرؤية الكونية الوضعية العلمانية، وهى الرؤية التى يجب تمييزها عن بديلاتها الكونية الإسلامية . ولقد أوضح د.المسيرى فى الجلسة الختامية أن هذا النقد من داخل الدوائر الغربية والموجه للنموذج المعرفى (الغربى) السائد والمهيمن، هو الذى وفر السياق المناسب الذى أعطى الفرصة لمدرسة إسلامية المعرفة للظهور مستفيدة من النقد للمشاكل التى بدأ يفرزها هذا النموذج المعرفى الوضعى العلمانى . هذا وفى الجلسة الختامية أيضاً حذر د.طه العلوانى من الاعتقاد فى الفائدة التى يمكن أن تتحقق من جراء نقد الغرب لذاته ومن داخله.

 

ج- روافد الذات: من أين الانطلاق وإلى أين الوجهة؟

 

كانت قضية هل المعهد يمثل مدرسة أو حركة أو تيار (مع الأخذ فى الاعتبار المعنى الدقيق لكل مصطلح) قد ظهرت على السطح فى مرات معدودة، وإذا كان قادة المعهد (د. عبد الحميد) وكوادره (د. الملكاوى) ورموز تأييد المشروع (د. أنور إبراهيم، د. المسيرى) قد رفضوا توصيف المعهد بأنه مدرسة أو حركة ووصفوه بأنه يمثل تيار ذو روافد متنوعة يجمع بينها هَمّ مشترك ولكنها تتنوع فى الاقترابات والمداخل التنفيذية بل والفكرية أيضاً.

 

والمقصود بروافد الذات فى هذه الجزئية ما يتجاوز هذه القضية الأساسية إلى أمور أربعة أخرى وهى:

 

  • ما مدى مشاركة غير العرب فى التيار الذى يمثله المعهد ولقد طرح هذا الأمر أساتذة من الشيعة العرب (د.زكى الميلاد ود.عبد الجبار الرفاعى) الذين أشاروا إلى غزارة وعمق الاسهام الايرانى فى قضية إسلامية المعرفة وضرورة النظر إليه عند التأسيس النظرى والتطبيقى، كما تساءلا عن الإسهام التركى والمؤسسات والاتجاهات الذى تمثله. كما طرح نفس القضية أستاذ كردى سنى (د.عثمان على).
  • الأمر الثانى هو ما العلاقة بين الخبرات الأكاديمية والفكرية المقارنة (العربية وغير العربية): فإذا كان مشروع العلاقات الدولية فى الإسلام عند إصداره 1996 قد مثل إنجازاً نوعياً فى حينه وإذا كانت الجهود التى تلته طوال عقد من الزمان قد حققت تراكماً فى مجال البحث والتدريس فى هذا المجال من منظورات مقارنة (غربية وإسلامية) إلا أن دعوة البعض (د.حنّان، مدير مكتب بنجالاديش) عن ضرورة اهتمام المعهد بقضايا العلاقات الدولية فى الإسلام مثل الجهاد والعلاقة مع غير المسلمين، قد بينت قدر عدم التواصل بين روافد المعهد حول بعض أهم إنجازاته، وإذا كانت اللغة عذراً مبرراً ولكن ألا يجدر على إدارة المعهد أن تتولى هذا التواصل تعميماً للفائدة وتوفيراً للموارد والطاقات؟. ويصدق نفس الأمر على تساؤلات أحمد إسلام حنيف عن منهاجية تطبيق إسلامية المعرفة فى مجال الاقتصاد الاسلامى، فى حين تعددت إنجازات المعهد على هذا الصعيد ابتداء من مشروع الاقتصاد الاسلامى إلى ما تلاه من مؤتمرات وندوات فى الدائرة العربية. ناهيك عن إمكانية الاستفادة من خبرة مشروع العلاقات الدولية وخاصة فيما يتعلق بالتعامل مع القرآن والسنة والتراث.
  • الأمر الثالث هو العلاقة بين الشرعيين وبين الاجتماعيين والتي إن لم يتم طرحها بصورة مباشرة وصريحة إلا أن مراقبة ومقارنة المداخلات لتبين اختلاف الاقترابات والاهتمامات ومناهج النظر بين مجموعات الأساتذة ذوى التخصصات المختلفة ومع ذلك يظل جميعهم فى مركب واحد ويتصدون لنفس المهمة ولكن على ساحات مختلفة: التأسيس النظرى للرؤية الكونية والنموذج المعرفى الاسلامى، المنهاجية الإسلامية، التطبيقات فى مجال إصلاح الفكر والمؤسسات، التطبيقات فى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويجدر القول – بناء على ملاحظتى الخاصة- فإن التطبيقات فى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية (بناء المنظورات وليس مجرد التدريس) لم يحظ فى المؤتمر بالتركيز المناسب- باستثناء ما جاء من إسلام حنيف، نادية مصطفى، عبد الرحمن النقيب، على ليله، سيف الدين عبد الفتاح، وهو الأمر الذى يفرض التساؤل التالى: أليس هذا الوضع مؤشراً على تغير أوزان الأهداف الاستراتيجية عبر ربع قرن؟ وهذه الأهداف هى : تجديد العلوم الشرعية؟ إعادة بناء العلوم الحديثة وفق رؤية إسلامية كونية، إعادة بناء ثقافة وفكر الأمة لإحداث التغيير. ويظل التساؤل: وماذا عن العلاقة والرابطة بينهم فى خطوات تنفيذ المشروع أم هذه الأهداف أضحت مشروعات مستقلة؟
  • الأمر الرابع والأخير هو العلاقة بالجمهور العادى والفئات الجديدة التى يجب استهدافها لتعبئة المساندة للفكرة . فلقد وصف البعض (د.محمد ناصر) العلاقة بين المعهد والجمهور العادى بالعلاقة المعقدة، حيث الاهتمام من جانب البعض بالقراءة فى إصدارات المعهد وليس اهتمام بالعلاقة مع المعهد ومن ثم ليس هناك وصول من المعهد للجمهور وتفاعل مباشر معه، حيث لا تكفى الندوات والمؤتمرات القاصرة على النخب. ويذكر البعض الآخر (د. عبد الرحمن حللى) أن تَعَّرُف الكثير من الباحثين على المعهد وأفكاره كان نتيجة تنقيب الباحثين عن القضايا وليس من قبيل وصول المعهد إليهم بوسيلة ما.

 

ومن أخطر مشاكل عدم التواصل مع جيل جديد من الباحثين يذكر البعض (د. المسيرى + د. محمد ناصر + د. نادية مصطفى) مشكلة عدم  التراكم المعرفى لتحقيق انتقال نوعى للمعرفة المطلوبة . فالإصدارات الكثيرة والمتنوعة عن وحَوْل وفى الفكرة وتطبيقاتها ليس هو التراكم المعرفى المطلوب ، والذى يتحقق بأساليب أخرى (كما سنرى فى المقترحات) ناهيك عن الضبابية والالتباس التى مازالت، كما يرى البعض(د. عبد الرحمن حللى) تحيط بالمصطلح “إسلامية المعرفة” نظراً لما يرتبط به من جدالات، بحيث أضحى الاسم واحداً من عوائق التواصل والوضوح رغم وضوح القضايا موضع الاهتمام. ولهذا لا عجب أنه – كما سنرى فى المقترحات – طرح البعض الاستغناء عن هذا الاسم والشعار، بل واقترح البعض أن تكون صفة الاسلامى (صامتة وغير ظاهرة).

 

رابعاً : المقترحات المحددة : ما المطلوب

 

فى نطاق المداخلات والمناقشات عن التشخيص وعن التفسير وعن المستقبل والتى تباينت أيضاً مستوياتها بين الكلية والجزئية، بين الإجرائية والتصورات، بين الخبرات الذاتية وخبرات المعهد، بين التراثية وبين العلوم الحديثة، بين رجال الفكر وبين رجال العلم وبين رجال الحركة والسياسة، بين احتياجات واقع محدد (الايرانيين ، الأكراد، المسلمين فى أوربا)، وبين فلسفة العلوم والمعارف، بين الرؤى الكلية وبين الحالات التطبيقية والأمثلة المحددة على كيفية التفعيل، بين البيئة المحيطة وتحدياتها وبين البيئة الداخلية للمؤسسة ومعوقاتها، فى نطاق هذا التنوع، الذى وإن دل على ثراء التفاعل مع الفكرة والمؤسسة ، إلا أنه يصيب القائم على المتابعة من أجل التقييم الكلى بالإرهاق الشديد، من ثنايا كل هذا الزخم يمكن التقاط اقتراحات محددة ابتداء من: رؤية القيادة الحالية والسابقة: د. عبد الحميد أبو سليمان ود. طه جابر العلواني، مروراً بالمقترحات خلال الجلسات، وصولاً إلى الجلسة الختامية التى شارك فيها إبراهيم كالين (عن مؤسسة أحمد أوغلو، وأنور إبراهيم (صاحب الخبرة السياسية) وقيادات المعهد د.هشام و د. البرزنجى. وأخيراً : المقترحات التى قدمتها د. نادية مصطفى  ود. سيف الدين عبد الفتاح (من واقع نتائج مشروع التقويم، التى تم عرض بعضها فى الجلسة بقدر ما سمح الوقت المحدد للجلسة بذلك، وجرى عرض الجزء الآخر خارج الجلسات وخاصة مع أ.د. عبد الحميد أبو سليمان).

 

أ- الاقتراحات التى طرحت فى جلسات المؤتمر يمكن تصنيفها فى المجموعات التالية:

 

  • مقترحات لتفعيل التواصل على مستويات مختلفة

 

1- تفعيل التواصل الادارى والعلمى بين مكاتب المعهد وبين المشروعات البحثية الكبرى للمعهد (انظر ورقة عمل د. رفعت العوضى قدم فيها رؤية متكاملة).

 

2- ومن أهم سبل التواصل التى اقترحها د. منظور عالم، المواقع والشبكات الالكترونية.

 

3- أ. محمد بريش حذر من تآكل ذاكرة المعهد مذكراً بأهمية توثيق هذه الذاكرة بصورة جماعية وهو الأمر الذى لن يتحقق إلا بتفعيل التواصل حول توثيق ورصد هذه الذاكرة وتسجيلها حفاظاً على الموجود واستكمالاً للمفقود وتحقيقاً للمؤسسة ذات الأوتاد.

 

4- الترجمة من العربية إلى الإنجليزية كلغة جامعة بين الشعوب الإسلامية غير الناطقة بالعربية وكسبيل لنقل الإنجاز العلمى إلى الدوائر البحثية والفكرية الغربية دعماً للتواصل والتفاعل معها (د. سيف، د. عبد الرحمن حللى).

 

5- منح التفرغ للأساتذة والباحثين المتميزين لإنجاز أعمال علمية متميزة أو التعاون لإعداد خطط المعهد الاستراتيجية (د. عبد الرحمن حللى).

 

6- التواصل مع الهيئات والمنظمات المحلية والدولية المهتمة بمشاريع بناء المعرفة وتنمية المهارات وترسيخ القيم، والتواصل والبناء الايجابى مع المنظمات والهيئات المهتمة بنشر القيم الايجابية وإن اختلفت مرجعياتها بحثاً عن المشترك وتدعيماً للحوار وتعزيزاً له فى عالم يموج بالصراعات (د. خالد الصمدى).

 

7- التواصل مع الأجيال والتأكيد على تكريس مبدأ العمل المؤسسى وعمل الفريق والجماعة (د. حللى).

 

8- تشكيل لجان علمية وفق موضوعات المشروعات أو مجالات العلوم ووضع استراتيجية لتطبيق نتائج وتوصيات المؤتمرات (د. محمد الناظر).

 

9- التواصل بين خطط المعهد من خلال تنظيم عملية تقويم داخلية وخارجية ، تتم بانتظام وعلى فترات دورية لتفعيل التواصل داخل كل خطة بين الهدف وبين التنفيذ، وكذلك لتفعيل التواصل بين الخطط المتتالية (من أعلى وعلى مستوى المكاتب) تحقيقاً للتراكم النوعى المطلوب.

 

10- اقتراح أنور إبراهيم بتكوين لجنة علمية للتخطيط الفكرى الاستراتيجى توفيراً للوقت والجهد ووصولاً للخطط الاستراتيجية.

 

11- علاج مشاكل التمويل ومشاكل البيئة الاجتماعية والفكرية المحيطة والبحث عن سبل “توطين العلم (أموال + علماء) كما تفعل قطر (د. عبد الوهاب الأفندى).

 

12- أهمية التقييم الدورى كل 5 سنوات ، حيث لا يكفى لنقل الأفكار إلى جيل ثانى ما هو أقل من 40 عام (د. منظور عالم).

 

13- تقسيم العمل بين عشرات المؤسسات حتى يتحقق توزيع فاعل للأدوار وحتى لا يتم ضرب المشروع دفعة واحدة (د. منظور عالم).

 

14- إنشاء معاهد أو مراكز منفصلة للعلوم الاجتماعية والإنسانية (أ. محيي عطية).

 

15- لجنة مشتركة بين دارسى الفقه والفلسفة لتدارس قضايا كبرى لتوليد رؤية فلسفية للعصر الحديث من خلال تفكيك شفرة التراث الفقهى وسعياً نحو توليد رؤية معرفية للمستقبل (د. المسيرى).

 

  • · مقترحات بمسارات استراتيجية وأجندة قضايا ذات أولوية فى المرحلة القادمة

 

يمكن التمييز بين ثلاث مسارات استراتيجية تناولتها المقترحات وهى كالآتى :

 

من ناحية استمرار المعهد فى قيادة حركة التفكير فى كل مستوي من مستويات إسلامية المعرفة، ومع الاحتفاظ بالإطار الفكرى الكبير فإن هناك حاجة لبعض التحولات والتكيفات (د. أنور إبراهيم).

 

ومن ناحية ثانية : من أهم هذه التحولات التى اقترحها أنور إبراهيم وانطلق منها أيضاً إبراهيم كالين فى الجلسة الختامية هى الحاجة لتفعيل تنافسية المعهد الفكرية بالانتقال من المعرفى والنظرى إلى التطبيقى للمنهاجية وبدلاً من الاستمرار فى تسويق الفكرة لابد من استكمال المحتوى.

 

ومن ناحية ثالثة: عدم كفاية الأكاديمية الصرفة حيث يجب ممارسة النفوذ والتأثير لإحداث التغيير فى الواقع (Policy orientation).

 

هذا وكانت مداخلات الأساتذة طوال جلسات المؤتمر قد اقتربت أيضاً من هذه المسارات الاستراتيجية وغيرها فى حالات محددة على النحو التالى:

 

  • اقتراح الانتقال من المعرفى والنظرى إلى المشاريع التطبيقية والعملية لإدماج منظومة القيم الإسلامية فى مختلف المواد والأنشطة التعليمية فى جميع مراحل التعليم، وكذلك الانتقال من مجال الاصلاح الفكرى العام إلى مجالات التربية والتعليم والطفولة والأسرة والعمل الاجتماعى (د.خالد الصمدى).
  • الدراسات المستقبلية (أ. بريش، د. حللى).
  • الاهتمام بقضية المنهاجية وتطبيقاتها فى مجال العلوم الاجتماعية والانسانية، أى الاهتمام بتطبيقات إسلامية المعرفة بدلاً من استمرار الحديث عن أهميتها، ولذا يجب استكمال المشروعات البحثية الكبرى التى لم تتم وتخطيط مشروعات كبرى أخرى جماعية (د. أمانى صالح + د. نادية مصطفى + إسلام حنيف + د. عبد الرحمن النقيب)
  • انظر المشروعات المقدمة من أ.د. على ليلة + د. أمانى صالح + أ.د. عبد الرحمن النقيب + أ. رحاب الشريف.

 

وفى نطاق اقتراح البعض بالاهتمام بقضايا جديدة تعكس تحديات الواقع، فلقد اقتصرت بعض الآراء على تحديد القضايا والدعوة إلى دراستها، فى حين امتدت بعض الآراء للدعوة لممارسة التأثير والنفوذ لإحداث التغيير فى الواقع والاستعداد بالبرامج العملية لتنزيلها فى الواقع حين تسنح الفرصة (إبراهيم كالين، خالد الصمدى، أنور إبراهيم؛ ومن الملاحظ أن الثلاثة قد أُتيحت لهم الفرصة العملية ولو بدرجات مختلفة وفى سياقات سياسية ومجتمعية متنوعة : تركيا ، المغرب ، ماليزيا).

 

ومن القضايا السياسية المقترحة: الأقليات والاسلام والغرب، العراق، فلسطين (إبراهيم كالين)، الفتنة الطائفية والقومية بين الشيعة والسنة، وكذلك بين العرب والأكراد (د. عثمان على)، الأزمات السياسية المقارنة عبر أرجاء الأمة (أ. رحاب الشريف)، الاقتصاد السياسى للدولة وآثاره على العالم الاسلامى وخاصة من حيث ظهور طبقات جديدة من الفقر والتهميش ومن الأغنياء ومن النخب الجديدة (د. إبراهيم أبو ربيع)، حقوق غير المسلمين وحقوق المسلمين كأقليات والفقر والطائفية بين الشيعة والسنة، تفعيل جهود نخب الأمة لتصب فى خدمة الأمة، مشاكل الحدود، الجهاد فى الإسلام (د. حنّان).

 

والجدير بالذكر أن تعليق أ.د. عبد الحميد أبو سليمان، فى الجلسة الختامية قد بينت أن المعهد لا يدخل مباشرة فى دراسة القضايا السياسية الساخنة ولكنه يهتم بالأسباب المعرفية والفكرية التى أوصلتنا إلى هذه الأزمات. بعبارة أخرى أكد د.عبد الحميد أبو سليمان خط المعهد الاستراتيجى ألا وهو استمرار العمل على صعيد الأزمة الفكرية باعتبارها فى صميم الأزمة الحضارية الشاملة وعلاجها هو السبيل لمواجهة التحديات الخارجية.

 

هذا وكان د. طه فى الجلسة الختامية أيضاً قد انطلق من أن استمرار الصراع حولنا مازال يتطلب إعداد فكرى ونظرى ومعرفى لنواجه به عمليات الصراع، وأن إسلامية المعرفة وإصلاح الفكر هى فى صميم حلبة الصراع الراهن، ذلك لأن صراع الأفكار له أساليبه وأدواته، ومن ثم فإن جزءًا ركينًا من مقاومتنا الراهنة هو التحصين والإنماء للفكرة، ولذا على أهل الفكر مسئولية حفظ طاقة الأمة من التبديد، وإن كان الاصلاح الفكرى لن يتحقق فى ظل التخلف والاستبداد.

 

وبناء على ما سبق فيمكن القول أن القضايا المعرفية والفكرية والنظرية والمنهاجية قد كان لها الغلبة فى أجندة المقترحات والمداخلات التقويمية ، وباعتبارها هى المنطلق والضرورة المسبقة للتنزيل على الواقع لإحداث تغيير فى واقع الأمة: بقضاياه ومؤسساته وتفاعلاته.

 

  • · مقترحات بإصدارات جديدة

 

– من الاصدارات المقترحة: فى مجال إسلامية المعرفة وعلى غرار بعض ما تم عالمياً فى مجالات عدة مثل العلمانية، الصهيونية، حيث يتم إصدار عدد خاص من دورية أو إصدار خاص يحقق هدف التراكم المعرفى ويتضمن قائمة أدبيات إسلامية المعرفة مع مقدمة تحريرية توضح خريطة الاتجاهات حول الموضوع (د.عبد الوهاب المسيرى) مع تحديد نسق هذه المصطلحات (د. خالد الصمدى)

 

– المؤلفات القيادية (د. الريسونى)

 

– موسوعة علمية: ترصد وتجمع تاريخ وأفكار عصر النهضة الإسلامية (د. حللى).

 

– الكتب المنهاجية وفى المقررات الجامعية: فى المجالات التى حدث فيها تراكم نوعي يسمح بإصدار هذه الكتب ، علاجاً للافتقار إلى تطبيقات فى العلوم الاجتماعية من منظور إسلامى على نحو يحقق التنافسية مع منظورات أخرى (محمد بن ناصر) .

 

– وضع خطة فكرية للنشر تحقق التراكم المعرفى والانتقال النوعى للمعرفة المطلوبة.

 

  • · مقترحات معرفية تنعكس على صفة واسم المشروع (من الإسلامية إلى الإنسانية)

 

مع بداية أعمال المؤتمر وفى الجلسة الافتتاحية قال د.عبد الحميد أبو سليمان أن أزمة الأمة الإسلامية تتزامن مع أزمة إنسانية عالمية ولذا فالأمة لا تستنفر نفسها فقط ولكن الإنسانية كلها، والفلسفة الوحيدة الإنسانية والسليمة القادرة على مواجهة فلسفة الصراع الغربية هى الفلسفة الإسلامية.

 

وإذا لم تكن “الإنسانية” قد غابت عن اهتمامات بعض المشاركين (مثل د. منظور عالم) إلا أن التعبيرات عن هذا الاهتمام قد تنوعت. فمن ناحية وعبر جلسات المؤتمر صدر مقترحان مباشران : أحدهما بتغيير شعار المعهد “إسلامية المعرفة” ليصبح أحد مجالات اهتمامه وليس شعاره (د. حللى)، والاقتراح الثانى (أ. محي عطية) دعا إلى اتخاذ مسمى آخر للمشروع الفكرى للمعهد.

 

ومن ناحية أخرى وإذا كان الاقتراحان قد استندا إلى ما يثيره المصطلح حتى الآن من ضبابية والتباس لا يتناسبان مع ما قطعه المعهد من جهود لتوضيح الفكرة وأهدافها ودوافعها ومنهاجيتها ودحض الاتهامات والانتقادات الموجهة إليها، فإن موقفاً آخر نحى إلى الدعوة لعدم التصريح بصفة الإسلامية وجعلها صامتة . ويظهر هذا المنحى جلياً فى أطروحات د.المسيرى وفى أطروحات د.أحمد أوغلو. فنجد أن د.المسيرى فى مداخلته الأساسية فى المؤتمر يصل فى نهايتها إلى القول بأن أفضل منهج دعوى الآن فى العصر الحديث هو البدء بالإنسان وصولاً إلى الله، أى الاستناد إلى نموذج معرفى إنسانى وتظل المرجعية الإسلامية لهذا النموذج صامتة، بمعنى أن نبدأ بالإنسان ولا نستشهد بالآيات والأحاديث إلا فى النهاية. ذلك لأن الرؤية المعرفية الإسلامية تتسم بالكلية وهى إنسانية ترفض الاختزالية وتنبنى على الكلية التى تجمع بين المادى وغير المادى، فإن أى فعل إنسانى يمتزج فيه الدينى بعناصر أخرى، ولا يمكن أن يكون الإنسان –  بالمعنى الاختزالى العلمانى- هو العنصر الوحيد الذى يسود التفسير (ملاحظة أن هذا الخطاب يمثل تطويراً لخطاب د. المسيرى فى كتاب فقه التحيز (1992) حين استخدم الغربى /الاسلامى).

 

ومن ناحية ثالثة فإن البعض كان أكثر تحديداً “للإسلامية” بكونها المرجعية الإسلامية فى صياغة منظومة القيم مقارنة مع المرجعيات الأخرى، ومن ثم يصبح الغاية هى صياغة مصفوفة القيم وتطويرها وترسيخها بمرجعيتها الإسلامية سواء فى علاقتها مع الذات الثقافية أو فى الحوار مع الآخر . وبذا يصبح الجسرين “الاسلامى وغيره” هو منطقة القيم المشتركة بين مرجعيات مختلفة تدعيماً للحوار وتعزيزاً له فى عالم يموج بالصراعات (د. خالد الصمدى).

 

ويجدر القول أن هذه الرؤى الثلاثة هى رؤى متكاملة وغايتها كسر ما قد يبدو عزله واستعلاء لإسلامية المعرفة عن محيطها الانسانى : معرفياً وفكرياً ونظرياً ، وكذلك فى سياق الواقع العملى، فهى جميعها سبل للتفاعل والتواصل بين “إسلامية المعرفة” والآخر.

 

هذا وكان د.أحمد أوغلو فى لقائه بأعضاء المؤتمر خلال زيارتهم لمؤسسة وقف الآداب والفنون قد قدم منظومة فكرية عن رؤيته للاطار الفكرى الاستراتيجى للسياسة التركية . ومن بين مقولاته – دون التطرق إلى هيكل هذه المنظومة- أن المسلمين فقط هم القادرين على تقديم منظور بديل للمنظور السائد الذى ترزح فى ظله الإنسانية جمعاء الآن، وأنه من اللازم تفكيك النموذج (الغربى) الذى يستند عليه هذا المنظور مع العمل، بدون استخدام كلمة إسلام- لبناء نموذج بديل (أى العمل من أجل الأسلمة بدون استخدام كلمة إسلام) وهو نموذج قيمى ومادى، ولابد من الثقة بالنفس لتفعيل منظومات القيم فى المجتمع والنظام السياسي والعلاقات الدولية.

 

ب- مقترحات قيادة المعهد قبل انعقاد المؤتمر: رؤية د. عبد الحميد أبو سليمان للعشر سنوات القادمة

 

تكرر على لسان الدكتور أبو سليمان خلال تعليقاته فى الجلسات أن العديد من الملاحظات التى أدلى بها المشاركون تدل على عدم اطلاع على إصدارات المعهد ونتائج أنشطته، وتساءل كم قرأ كل مشارك من إجمالى الأربعمائة عنوان التى أصدرها المعهد فى عدة سلاسل.

 

والجدير بالذكر أن الدراسة التى أعدها د.عبد الحميد أبو سليمان كورقة خلفية للمؤتمر تقدم تصور رئيس المعهد عن مسيرة عشرة أعوام قادمة، تقدم هذه الدراسة رؤيته عن مناطق الاهتمام المطلوب التركيز عليها وسبل خدمتها.

 

ويمكن تلخيصها فى عدد من المجموعات التى تكون منظومة متراكمة: وهى كالآتى وفق ترتيب ورودها فى الدراسة :

 

* ضرورة التصدى لأزمة فكر وعقل الأمة كمنطلق لعلاج الأزمة الحضارية الشاملة ومن خلال العودة إلى الرؤية الكونية الإسلامية. فالاصلاح المنهجى الفكرى هو الذى يمثل قاعدة الاصلاح الحضارى، ومن ثم فإن غاية “إسلامية المعرفة” هى بناء الفكر الاسلامى بناء علمياً منهجياً محكماً يتسم بالشمولية والنظرة التحليلية الناقدة.

 

* مسيرة المعهد منذ تبلور فكرته وتأسيسه والمؤتمرات التى تمثل محطات أساسية فى المسيرة والمؤسسات التى انبثقت عنه .

 

* الرؤية لمسيرة العشر سنوات القادمة تدور حول المجالات والوسائل اللازمة لتنفيذ خطة موحدة متكاملة لعمل المعهد فى حدود إمكاناته وموارده.

 

ومن أولويات الخطة فى المجال الفكرى اقترب د.عبد الحميد من قضية الانتقال من المعرفى الفكرى النظرى إلى الحياة العملية فهو يقول :

 

أن المطلوب فى النهاية من الجهود الفكرية هو تقديم نتائج عملية لإعادة بناء فكر أبناء الأمة ومؤسساتها ومعالجة قضاياهم الحياتية، وليس مجرد حوارات فلسفية علوية بين الخاصة فى قضايا نظرية مدرسية بحتة. وعلى ذلك فإن التأصيل الفلسفى والبحث المدرسى يجب أن تكون فى النهاية له غاية عملية حية فى إصلاح فكر الناس. وإذا كان البحث والدراسة فى عمل المعهد قد غلب عليها – حتى وقت قريب- البحث الأساسى والنظرى، فإن ذلك مما حتمته طبيعة الفترة التأسيسية ، ولكن خلال السنوات الثلاث الماضية فإن الأمر لم يعد مقتصراً على عموميات الحديث فى المنهجية، وفى مصادر المعرفة ودرء التعارض بين مصادرها. ولكن مناهج حياة الأمة وفكرها، وممارسات حياتها، وبناء مؤسساتها ، وأساليب تربيتها، ما لم تقدم من منظور إسلامى الدراسات العملية والمؤسسية والأساليب التربوية والتعليمية فى مجالاتها ، فإن الأمة ستبقى على ما كانت عليه من تخلف وانحطاط. ولذلك فإن على خطة العمل أن تحدد على أساس من طبيعة التحديات التى تواجهها الأمة، والإمكانات التى تتوافر لها، القضايا والمجالات العملية الواقعية التى يجب أن تحظى بالدراسة والبحث والنظر العلمى المنهجى، وبالحوار فى ظل الزمان والمكان؛ وذلك لتقديم الرؤى والحلول باللغة والأسلوب الذى يستوعبه جميع الأمة.

 

ومن أولويات المجال الفكرى والبحثى أيضاً:

 

* ضرورة رؤية جديدة لفهم التراث بإيجابياته وسلبياته ودراسته دراسة نقدية لنخرج من دائرة الفكر الفقهى التراثى العابر، وكذلك ضرورة الاستمرار والدرس فى قضية التعامل البناء الفعال مع السنة النبوية والدراسات المنهجية فى مجال القرآن الكريم ، كل هذا ، فى نظر د.عبد الحميد أبو سليمان من أجل الخروج من النظرة الجزئية إلى النظرة الكلية وإدراك عامل الزمان والمكان والثابت والمتغير.

 

* إصلاح مناهج التعليم، ولذلك فإن من الضرورى للمعهد ورجال الفكر والاصلاح تشجيع الدراسات ليس فقط فى المجالات الدينية والتراثية، بل وفى مجالات العلوم الاجتماعية التى هى الشق الآخر التطبيقى الحياتى للمعرفة الإسلامية فى المجالات النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية ؛ لأن ذلك هو السبيل العلمى العملى الحقيقى للاصلاح وإعادة البناء.

 

* يجب وضع مناهج الدراسة، ولا سيما الدراسات الجامعية والعليا موضع المناقشة، والعمل على رسم الخطط لها، وتطويرها؛ بحيث تتكامل فيها مصادر المعرفة الإسلامية بأسلوب صحيح، وبحيث يتم التعامل المنهجى العلمى معها بشكل يحدث التوازن والتكامل والتفاعل بين مصادر المعرفة.

 

* المساهمة فى فتح ملف مشروع الكتاب الجامعى؛ وذلك بتحرير الكتب المنهجية فى المجالات التى بلغت حداً تسمح فيه التراكمات العلمية والفكرية بتقديمها بأسلوب منهجى علمى جامعى ؛ ليكون فى البداية من مدخلات الدراسات الجامعية فى مجالاتها المتخصصة. ولا شك أن بعض هذه العلوم قد بلغت التراكمات العلمية فيها حداً يسمح فعلاً بتقديمها بشكل جاد ومفيد إلى الهيئة الجامعية والمثقفة.

 

* الاهتمامات المعرفية والنظرية والعملية بمجال التربية من أجل توفير الأدبيات الجادة العلمية المقنعة للآباء…

 

* أهمية فتح ملفات النظام الاجتماعى ومؤسساته وقضاياه.ومن نماذج هذه القضايا المهمة التى يجب التوسع فى فتح ملفاتها قضية التنمية والعدالة الاجتماعية، وقضايا التعددية والشورى والحرية وتداول السلطة والعولمة، وحركات الاصلاح ومنطلقاتها، وفلسفة الأنظمة وآلياتها، وسوى ذلك من القضايا التى تواجه الأمة ، وتحتاج إلى رؤية إسلامية عصرية فيها؛ الأمر الذى يتطلب رؤية فكرية وبحثاً علمياً إسلامياً لإعادة بناء قواعد بناء الأمة، ويتطلب جهوداً علمية جادة من المفكرين، بفكر منهجى إسلامى معرفى متكامل مستنير.

 

وعن الوسائل وبرامج العمل اللازمة لتحقيق هذه الأولويات ركز د.عبد الحميد أبو سليمان على: أهمية الاتجاه للوسائل الاليكترونية، والتفكير فى إنشاء المجلس العلمى من بعض رجال الصفوة الفكرية لإمداد الساحة بالمبادرات العلمية، وأهمية تحقيق استقرار المؤسسات لما هو أبعد من حياة المؤسسين ليكون العمل مؤسسياً وعطاء مستمر .

 

كما طرح د.عبد الحميد قضية كفاءة الأداء فى مؤسسات المعهد وأهمية الوعى بالساحة الفكرية فى كل بلد والقدرة على التواصل مع العناصر الفاعلة وأهمية جمع المعلومة وتخزينها وبرمجتها وتوفيرها والاهتمام بالتواصل داخل الفروع وبين الفرع والجهات المتعاونة مع المعهد، وأهمية المبادرة والريادة، وحسن اختيار العناصر الفاعلة المثقفة الواعية المتحمسة وتوسيع أركان دائرة المتعاونين مع المعهد إلى العناصر الشابة، الحاجة إلى الاستفادة من كل وسائل الاتصال المتاحة بالهيئة المثقفة والإفادة من وسائل الإعلام، وعقد ندوات محلية شهرياً وعقد ندوة إقليمية فى كل بلد على ضوء إنجازات الندوات المحلية ويتوقف نجاحها على تبادل المعلومات والتخطيط بين فروع المعهد، عقد مؤتمر دولى أو مؤتمرين فى العام الواحد بالتنسيق بين المركز الرئيسى والفروع .

 

 

وبالمقارنة بين هذه الرؤى وبين المقترحات التى تم تسجيلها من واقع أعمال المؤتمر ماذا يمكن القول؟

 

يمكن القول إن هذه الرؤية التى قدمها د.عبد الحميد أبو سليمان فى دراسته المكتوبة التى تم توزيعها على المشاركين قبل أسبوع من انعقاد المؤتمر، كان حرى بها أن تكون ورقة عمل المؤتمر ، ويتم على ضوء محاورها تنظيم جلسات المؤتمر وموضوعاتها، بحيث يصبح المؤتمر ساحة للمقترحات التنفيذية لهذه الرؤية الاستراتيجية التى تحتاج إلى خطط تنفيذية لمجالاتها وبالوسائل وبرامج العمل المقترحة.

 

ولهذا يمكن القول أيضاً أن الهموم المشتركة بين قيادة المعهد وبين المشاركين وإن تبين التقارب من ناحية إلا أنه مازال هناك فجوة فى التشخيص والتفسير بين الجانبين ناجمة عن نوع من الاتهامات المتبادلة: إما بالتقصير فى واجبات قيادة المعهد أو بالتقصير فى واجبات مشاركة المتعاونين.

 

ومع ذلك يظل الحاضر الغائب هو الخطط التنفيذية لعلاج مناط “الاتهامات المتبادلة” من ناحية، ولدفع حركة العمل من ناحية أخرى. وهذا يقودنا إلى البند الأخير من المقترحات.

 

ج- مقترحات من واقع نتائج مشروع تقييم مسار إسلامية المعرفة فى ربع قرن

 

تم عرض مجموعة عامة من هذه المقترحات فى الجلسة المخصصة فى المؤتمر وقدمها أ.د. سيف الدين عبد الفتاح وهى تتلخص فى الآتى: توثيق خبرات المكاتب بشكل مستمر ومنتظم، تبادل الخبرات بين المكاتب، التواصل حول المشروعات البحثية الكبرى فى التخصص الواحد أو بين التخصصات المتنوعة للاستفادة من الخبرات المنهاجية المشتركة، رعاية الكوادر الجديدة من الباحثين الشبان، التقييم الدورى للخطط المرحلية ومدى التراكم الذى تحقق، استكمال المشروعات البحثية الكبرى حتى تحقق غايتها النهائية، العودة إلى تكوين فرق بحثية لإنجاز مشروعات كبرى.

 

وبالمقارنة مع مقترحات المشاركين السابق عرضها يتضح كيف تتقابل قدر منها مع مقترحات فريق التقويم، إلا أنه يجدر القول إن المجموعة الثانية من مقترحات الفريق والتى لم يتوافر الوقت اللازم لعرضها فى المؤتمر إنما هى ذات طبيعة إجرائية تنفيذية. فهى تقدم خطة زمنية لتحقيق بعض المقترحات التى يمكن توصيفها بالجوهرية، واللازمة لإبراز التراكم المعرفى فى إسلامية المعرفية، والذى حققته مسيرة المعهد عبر 25 عام، وهو تراكم بحاجة لإعادة تقديم. وتحقيقاً للتنافسية المعرفية والفكرية والنظرية مع مدارس أخرى، وخاصة فى مجال تطبيقات العلوم الاجتماعية والإنسانية وفى مجال إصلاح فكر وثقافة الأمة، كما أن هذا التراكم بحاجة من ناحية أخرى للاستمرار والاستكمال وفق رؤية متجددة للأهداف والوسائل تستجب لمتطلبات المرحلة الراهنة من تطور المسار.

 

وفيما يلى تصور عن خطط إجرائية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل تتم بعد نشر نتائج مشروع التقييم:

 

1- خطط متوازية قصيرة الأجل فى المجالات التالية

 

– تفرغ لمدة عام لعدد من أساتذة العلوم الاجتماعية والإنسانية المتعاونين مع المعهد طوال عقدين لإنتاج كتب أكاديمية منهاجية تبلور وتترجم التراكم النوعى الذى تحقق فى مجال تخصصهم : من منظور إسلامى”. على أن يستوفى كل كتاب مواصفات معينة استجابة لخطوات منهاجية تطبيق إسلامية المعرفة (استيعاب تطورات العلم ونقده وفق الرؤية الكونية الإسلامية والنموذج المعرفى الاسلامى، خبرة ونتائج التعامل مع مصادر التراث فيما يتصل بموضوع التخصص ، قواعد وأسس التصور القرآنى عن مسائل الموضوع وقضاياه..، خصائص وأبعاد المنظور الاسلامى للعلم: مفاهيم ، أجندة قضايا ، عمليات ، مناهج وأدوات).

 

– دورات تدريبية مكثفة فى المنهاجية الإسلامية للباحثين الشبان من تخصصات مختلفة ذوى الخبرات السابقة مع إسلامية المعرفة والمهتمين بكيفية تطبيق وتفعيل الرؤية الكونية الإسلامية وتوظيف مداخل العلوم الشرعية والتراثية فى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية . ويمثل كتاب المنهاجية الإسلامية الجارى إعداده قاعدة أساسية تنبنى عليها هذه الدورات. ومن أهم مخرجات هذه الدورات إعداد جيل ثانى من الباحثين قادر على استكمال المسيرة التى بدأها أساتذة الجيل الأول .

 

– بناء قنوات التواصل (مواقع اليكترونية وقواعد بيانات للباحثين من تخصصات مختلفة فى الدول العربية والإسلامية المهتمين والمتعاونين فى مجال نشاط المعهد) بين إدارة المعهد وبين المكاتب.

 

– تأسيس لجنة تخطيط وربط وتنسيق بين المكاتب وذلك من العناصر الشابة النشطة مثل: د. خالد الصمدى (المغرب)، د. عبد الرحمن حللى (سوريا)، د. محمد بن ناصر (باريس)، محمد إسلام حنيف (ماليزيا)، د. أمانى صالح (مصر).

 

2- خطط متوسطة الأجل ومتوازية: حفظ الذاكرة من التآكل وتوثيق التراكم وتنسيق وإعداد أدلة فى مصادر التأسيس النظرى لإسلامية المعرفة أى فى البنية التحتية لبناء منظورات للعلوم، وذلك فى مجالات التراث، تجديد أصول الفقه، نقد الفكر الغربى، المنهاجية الإسلامية بكل مستوياتها (الرؤية للعالم، النموذج المعرفى)… والمقصود بالدليل ذلك الذى يقدم التراكم المعرفى النوعى فى كل مجال وهو يتكون من قائمة متكاملة من إصدارات وبحوث وندوات المعهد (معرّفة تعريفاً موجزاً) مصحوبة بمقدمة تحريرية ترسم خريطة اتجاهات البحث فى هذا المجال ونتائجه، وتقدم نماذج من كيفية توظيف هذه النتائج وتطبيقها فى البحوث الأكاديمية أو فى إصلاح فكر وثقافة الأمة، وأخيراً يحدد مناطق الفراغ المطلوب ملأها بمزيد من البحوث.

 

1- إعداد دليل بمصادر مشروع إسلامية المعرفة: يضم قائمة بالإصدارات والأنشطة (التى قامت بها كل المكاتب) مصنفة تصنيفاً موضوعياً يتجاوز التصنيف الحالى للإصدارات ويتضمن مقدمة تحريرية توضح التطور فى المفهوم والمنهاجية والإنجاز فى التطبيقات، وتقدم من واقع الإصدارات والأنشطة ردوداً على الانتقادات والاتهامات للمفهوم وللمشروع.

 

2- توثيق خطط أعمال وإنجازات كل مكتب منذ 1985 وحتى الآن (على غرار ما فعل د. جمال عطية عن خبرة مكتب القاهرة ) لماذا : لتحديد خطط تطبيق فكرة إسلامية المعرفة ، وأبعاد المقارنة بينها، ولتحديد مناطق الإنجاز المتميزة لدى كل مكتب لتبادلها ولمنع تكرارها ، تحديد مناطق المشروعات المعدّة والتى فى حاجة لاستكمال بعد انقطاع عن تنفيذها ومنعاً لتكرار الإعداد لنظائر لها.

 

3- دليل الإنجاز فى التطبيقات فى مجال العلوم الاجتماعية وخاصة فى مجال التربية ، والعلوم السياسية والاقتصاد، سواء الصادرة فى كتب أو ندوات أو مقالات منشورة فى دوريات المعهد (إسلامية المعرفة، AIMSS).

 

4- حصر وتوثيق وتصنيف المادة العلمية- ذات المستوى المتميز – وغير المنشورة حتى الآن فى مكاتب المعهد والبحث فى إمكانية نشر ما يسد فراغات بحثية تستكمل التراكم.

 

 

 

خطة طويلة الأجل (3 سنوات)

 

1- تكوين لجنة تخطيط استراتيجي تعد خطة خمسية على ضوء منتجات الخطط القصيرة

 

ومتوسطة المدى وعلى ضوء مقترحات استانبول ونتائج مشروع تقييم إسلامية المعرفة عبر 25 عامًا.

 

2- إعداد مؤتمر دولى يشارك فيه باحثون غربيون من القائمين بعملية النقد والمراجعة للمنظورات الغربية المادية الوضعية، والمهتمين بالمنظورات الحضارية، وهم الذين بمقدورنا اكتشاف قواسم مشتركة معهم. وكذلك يشارك فيه أصحاب الإسهامات الرصينة والعلمية فى الدراسات الإسلامية والتى يمكن الاستفادة من مناهجها ومن نتائجها فى تطوير مجالات إسلامية المعرفة: التأسيسية والتطبيقية .

 

ويكون على هذه اللجنة الإجابة مسبقاً على هذه الأسئلة:

 

1. هل التأسيس النظرى مازال فى حاجة لبحث وتطوير؟

 

2. هل توطدت الروابط والجسور بين التأسيس النظرى وبين العلوم الحديثة؟

 

3. ما هى مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية التى فى حاجة لاختراق لاستكمال التراكم أو لبدئه؟

 

4. كيف يمكن دعم الإصلاح فى مجال التربية والتعليم والثقافة والإعلام تحقيقاً لإصلاح رؤية الأمة وفكرها؟

 

5. كيف يمكن دعم الروابط والتفاعل مع المدارس الفكرية والمعرفية الأخرى فى داخل الدائرة العربية والإسلامية وخارجها؟ فإن التجديد يحتاج لتفاعل مع دوائر مخالفة أو مختلفة

 

6. ما هى قضايا الأمة السياسية والاقتصادية والثقافية ذات الأولوية التى يمكن للمعهد أن يشارك فى دراستها ومناقشة سيناريوهاتها المستقبلية؟ بعبارة أخرى كيف يمكن الانتقال من المعرفى والنظرى إلى الفكرى.

 

والحمد لله

 

الهوامش

(1) انظر فى هذا الصدد البحث الذى أعدته د. نادية محمود مصطفى بعنوان “التوجهات العامة في تدريس العلاقات الدولية وبحوثها: قراءة في خبرة جماعية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، دراسة مقدمة إلى مؤتمر “توجيه بحوث الجامعات في العالم الإسلامي لخدمة قضايا الأمة الإسلامية”، جامعة الأزهر- القاهرة : 12-13/11/2006.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر