أبحاث

الخطاب الإسلامي الحديث وإشكالية التوفيق

العدد 157- 158

أخذت إشكالية التوفيق بين الإسلام والحداثة مكانة محورية في المشروع الإصلاحي الإسلامي منذ بدايات القرن 19 وأصبحت من أهم محدّدات الدينامكية الفكرية والسياسية للمجتمعات العربية الإسلامية. وقد بدأت تشكّلاتها منذ أن أدركت هذه المجتمعات تخلّفها أمام تجليات التفوق العسكري والعلمي للقوات الأوروبية الغازية، ووعت نخبها الفكرية والسياسية بضرورة تجاوز هذا التخلف واللحاق بركب هذه البلدان. أخذت هذه النخب تتساءل عن أسباب تخلفها، وعن شروط نهضتها، وعمّا يمكن أخذه من التجربة الغربية، وكيف يحتذى بهذا النموذج الذي ارتسم أمامها فارضا هيمنته العسكرية والسياسية والثقافية دون المساس بثوابت دينها وخصائص ثقافتها ومحددات هويتها. هكذا صيغت إشكالية التوفيق بين الإسلام والحداثة في بدايتها، 

ثم اختلفت صيغها لاحقا حسب التحولات والتطورات التي طرأت على تصورات نخبها للحداثة وللإسلام في سياقات تجارب التحديث التي خاضتها المجتمعات العربية من ناحية وتطوراتها في المجتمعات الغربية من ناحية أخرى. ومن ضمن الصيغ التي أخذتها إشكالية التوفيق بين الإسلام والحداثة هو أن لفظ الإسلام استبدل بمفاهيم أخرى كالتراث والأصالة والقديم ولفظ الحداثة بالحديث والمعاصرة والجديد.

كانت إشكالية التوفيق في بدايتها إشكالية فكرية ثم أخذت مع نهاية القرن التاسع عشر بعدا سياسيا نتيجة لانقسام النخب العربية إلى تيارين أحدهما إصلاحي ديني والآخر نهضوي علماني، مختلفين في تصورهما للحداثة من ناحية وفي قراءتهما وفهمهما لطبيعة الثقافة العربية وعلاقتها بالإسلام من ناحية أخرى. تبلور هذا الانقسام الإيديولوجي والسياسي مع ظهور الأحزاب السياسية والحركات المجتمعية ذات التوجهين الديني والعلماني واحتدّ أكثر في الفترة التي تلت سقوط الخلافة العثمانية إلى حين نشأة الدولة العربية الحديثة التي استبدت بالحكم وقضت على الاستقطاب السياسي بمنع قيام أحزاب سياسية على مبدأ ديني وقمع أو استيعاب الأحزاب العلمانية المعارضة في السلطة. كما قامت بممارسة سياسة فرق تسد بين هذين التيارين وتوظيف الواحد ضد الآخر حتى تؤمّن بقاءها في السلطة وتكرّس الاستبداد السياسي. لكن هذه السياسة لم تضعف الاستقطاب الإيديولوجي الذي احتد مع تنامي الحركات الاسلامية وقيام الثورة الإيرانية -التي أدت إلى قيام الدولة الإسلامية الأولى في القرن العشرين- وفي مرحلة تالية أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، الحادث الذي صبغ جل الحركات الإسلامية وربما كلها بصفة الإرهاب.

ما تشهده البلدان العربية من ثورات والفراغ السياسي الذي خلفته بعد سقوط أنظمتها فعّل الاستقطاب السياسي من جديد وبعنف. ولكن الجديد في الأمر هو أنّ الفرقاء السياسيين أدركوا، وربما لأول مرة في التاريخ العربي الحديث، جدّية المرحلة التاريخية و خطورة الوضع الذي يمكن أن تؤول إليه الأمور اذا لم يجعلوا من السياسة الفضاء الحاضن لصراعاتهم ومن الحوار الأداة الكفيلة للخروج من هذه الأزمة وغيرها. ومن ثم بادروا -ولا سيما في تونس- إلى الحوار الوطني من أجل التوصل إلى التوافق السياسي. لكلّ هذه الاعتبارات وفي هذه السياقات التاريخية جاء اهتمامنا بإشكالية التوفيق بين الإسلام والحداثة في بعدها السياسي رغم أسبقية وأهمية بعدها الفكري. سنحاول في هذه المقالة فهم السياقات التاريخية التي نشأت فيها إشكالية التوفيق بين الحداثة والإسلام في بعديها الفكري والسياسي وفهم شروط وآليات تحقيق التوافق السياسي في ضوء ما أفادتنا به دراسات العلوم الإجتماعية ولا سيما سوسيولوجيا الصراع (Sociologie du conflit).

حول إشكالية التوفيق في العلوم الاجتماعية: الشروط، الأبعاد والمحددات

احتوى لفظ التوفيق على عدة معان بتعدد اشتقاقاته كالتوافق والوفاق والاتفاق، وبتعدد مرادفاته كالتفاهم والإجماع والجمع والتناغم والانسجام والتناسق والتكيف والحل الوسط. ويمكن تعريفه أيضا من خلال مضاداته كالاختلاف والخلاف والصراع وغيرها. ومن خلال هذه المعاني المتعددة نفهم أن التوفيق يمثل نتيجة نهائية لعملية متعددة المراحل، وأنها تشترك في معنى أساسي وهو وضع حد للخلاف، والتوصل إلى حل يرضي الفرقاء والأطراف المتخالفة من خلال تقريب وجهات النظر بشكل سلمي. يمكن تحديد أهم عناصر وأبعاد التوفيق والتوافق من خلال الأسئلة التالية: ما هو موضوع الخلاف وطبيعته، فكري إيديولوجي أم سياسي؟ من هم الفرقاء؟ وما هي شروط إمكانية حسم الخلاف والتوصل إلى توافق؟

كانت إشكالية التوفيق ولا تزال من أهم المواضيع التي تنال اهتمام أهل الفلسفة والعلوم الاجتماعية. فقد أكّد الفلاسفة منذ أفلاطون في كتابه “المدينة الفاضلة” وأرسطو في كتاب “السياسة” على أن الإنسان ذو طبيعة اجتماعية وأنه حيوان سياسي واجتماعي، وبشكل أدق حيوان مدني، وأن الدولة (بمعنى المجتمع أو البولس Polis) بالطبيعة أي المجتمع مقدّم على الأسرة والفرد لأنّه من الضروري أن يتقدم الكل على الجزء(1). كانت الأولوية للمجتمع وللمصلحة الجماعية العامة ولم تكن للفرد ومصالحه الخاصة. ومن ثم اهتمت الفلسفة والعلوم الاجتماعية ونظّرت دوما لهذا المبدأ وسبل الحفاظ على هذا الكلّ – المجتمع – وعلى انسجامه وتناغم علاقات أفراده حتى يضمن وجوده واستمراريته التي تمثل شرطا أساسيا لوجود الإنسان وبقائه ككائن اجتماعي. وما كان محلّ اهتمام الفلاسفة وجود المجتمع بحد ذاته لأنه معطى وثابت، ولكن الانسجام والتناغم لأنهما يمثلان صفة لحالة غير ثابتة وهشة وتستوجب الإحاطة والتجديد. وقد تمكنت المجتمعات بفضل تجاربها على مر العصور من اكتساب العديد من الوسائل التي من شأنها أن تساعد على المحافظة على هذا الانسجام والاستقرار، وقد تراوحت – الوسائل – بين اللجوء إلى الحرب واللجوء إلى الوسائل السلمية بحسب طبيعة الخلاف وحدّته. وبما أن الأصل في الأشياء هو اللجوء إلى الوسائل السلمية أولا قبل المواجهة المسلحة والنـزال الحربي، فقد أصّل الفلاسفة لفكرة ومبدأ الجدل والحوار (Dialectique et Dialogique) لحلّ الخلافات والنـزاعات وجعلوا منه فنّا وأداة لاكتساب المعرفة والحقيقة(2).

كانت الفلسفة اليونانية قد سبقت في التأصيل لهذا المبدأ ولحق بها الفكر العربي الإسلامي منذ أن بدأ المجتمع المسلم الحديث النشأة يواجه خطر الانقسام والتفكك على اثر الخلافات والصراعات على السلطة التي نشبت بعد وفاة الرسول r. ورغم أن هذا الخلاف قد حسم في نهايته باللجوء إلى التحكيم والتوافق الا أن مخلّفاته الدينية والفكرية والثقافية جعلت هذا التوافق هشّا وبقيت سببا للخلافات والصراعات التالية. ومن ضمن هذه المخلفات هي الخلافات التي نشبت حول منـزلة الفرد المسلم الذي يخلّ بفرض من فروض الدين وطبيعة القرآن وكيفية تأويله والتي كانت سببا في اعتكاف العديد من الفلاسفة وعلماء الكلام على إشكالية التوفيق والجمع بين المنقول والمعقول أو بين الشريعة والعقل. وقد أصبحت هذه الإشكالية محلّ جدل واسع مكّنت العرب من المساهمة الجادة في تطوير فن الجدل والمناظرة التي راجت في زمن الحكم العباسي والأموي بالأندلس. وفي سياق الحديث عن طبيعة ممارسة المناظرة في المجتمع العربي يميّز الإمام محمد أبو زهرة بين عبارات المناظرة والجدل والمكابرة. فهو يقول بأنّ الغرض من المناظرة هو الوصول إلى القول الصحيح والرأي الصواب في الموضوع الذي اختلف فيه المتناظرون. بينما يكون الغرض من الجدل هو إلزام الخصم والتغلّب عليه في مقام الاستدلال. أما المكابرة فيكون الهدف منها اجتياز المجلس والشهرة أو مطلق اللجاجة. ويلاحظ الإمام أن هذه العبارات قد تستعمل لتفيد أحد هذه المعاني، وأن المناقشة الواحدة يمكنها أن تشمل هذه الأنواع الثلاث(3). ويضيف الأستاذ مصطفي الوظيفي أن المناظرة بإمكانها أن تكون مناظرة الإنسان لنفسه – كما جاء في الفلسفة الإغريقية – أو مناظرته للآخرين(4). فالمناظرة تعتبر أداة لتحصيل المعرفة الحق والمجمع عليها بمحاورة الإنسان لنفسه ومحاورته لغيره، وفي الآن نفسه هي وسيلة لتقريب وجهات النظر ومن ثم لحل الخلافات. ورغم هذا السبق الذي كان للعرب في تعاطي هذه الوسيلة و تطوير فنونها الا أنهم لم يجعلوا منها ركيزة أساسية لفكرهم السياسي ومنظومتهم السياسية رغم كل الدواعي التاريخية والاجتماعية التي كان من المفروض أن تؤدي إلى هذا لا سيما الصراعات الطاحنة والعنيفة التي نشبت حول السلطة والتي كرستها الاختلافات والصراعات المذهبية.

أما الفكر الغربي الحديث فقد جاء بتصور جديد للإنسان وللكون وأعاد النظر في مسألة الأولوية بين الجزء والكل وبين المجتمع والفرد وقدّم تدريجيا مصلحة هذا الأخير على المصلحة العامة. وكان من أهم ما بشّر به هو المفهوم الجديد للدولة التي بنيت على قرار التخلي عن استعمال العنف لحل النـزاعات واتخاذ السياسة بديلا عنه لإدارة الخلافات والوصول إلى توافقات وتثبيت قواعد الاستقرار والتعايش السلمي داخل المجتمع. ومن أشهر الذين كتبوا في هذا السياق هو Tomas Hobbesالذي كتب The Leviathanويبشر بانتقال البشرية بوعيها من مرحلة الطبيعة إلى مرحلة الدولة التي ستحتكر لنفسها حق استعمال القوة وإرساء سيادة القانون، وأكدت الفلسفة الفرنسية على هذا المبدأ ونادى J. J. Rousseauبدوره بمبدأ العقد الاجتماعي ورسّخه كأساس للحياة الاجتماعية في كتابه الشهير Du Contrat social ou Principes du droit politique. بهذا الوعي السياسي الحديث دخلت المجتمعات الحديثة ولا سيما الغربية مرحلة التحضّر لأن السياسة حسب Daniel Innerarityهي: “ممارسة متحضرة وظيفتها التوجيه العقلاني للصراعات الاجتماعية”(5)، واعتبر أن الانتقال من مرحلة العنف إلى مرحلة الدولة هو بمثابة الانتقال من اللاتحضر إلى التحضر، وأن الحفاظ على التناغم والانسجام الاجتماعي عبر اللجوء إلى الحل السياسي في حال الخلاف هو من مهام وشيم المجتمعات المتحضرة. ويقرّ بأن صلوحيات السياسة محدودة بحيث لا يمكنها تحقيق التناغم الاجتماعي الكامل ولا الإجماع المطلق، ولا تعطي معنى للحياة ولا تضمن الحرية الشاملة والاستعمال الحسن لها. لكنّه يشدد على الحفاظ على هذا المكسب الحضاري لا سيما في ظل التغيّرات التي تشهدها جل المجتمعات من تنوّع وتعدّد في تركيبتها الذي بات فيه الإجماع المطلق أمرا مستحيلا ويستوجب الاكتفاء بالإجماع الواسع، وفي الآن نفسه يستوجب عليها أن تتفاعل معها بعقلية وبقيم جديدة. يقول في هذا السياق: “للعيش مع هذه الخصوصيات والفرديات والاستثناءات والانقطاعات والتباينات والتفردات، أو ما سمّاه C. Taylorبالتنوع العميق Deep Diversity(…) فنحن بحاجة إلى سياسة جديدة لا تنظر إلى التأكيدات العرقية والدينية واللغوية كنوع من اللاعقلانية القديمة التي يجب قمعها وتجاوزها”(6). فإذا كان انسجام المجتمعات الحديثة وتناغمها بات أمرا صعبا وربما مستحيلا فعليها أن تحافظ على الشروط الأساسية للعيش المشترك وعلى الحد الضروري من التوازن الاجتماعي من خلال الاعتراف بالآخر وعدم التشريع لأي نوع من أنواع الإقصاء.

وفي هذه السياقات اهتمت العلوم الاجتماعية من جانبها بإشكالية التوفيق وكتب الكثير حول إشكاليتي التوافق والإجماع الاجتماعي consensus social) من ناحية والصراع الاجتماعي (conflit socialمن ناحية أخرى. وقد أخذت هذه الإشكالية الأخيرة حيزا وافرا من الاهتمام في الكتابات الكلاسيكية K. Marxو G. Simmelولاحقا في كتابات J. Freundو L. A. Coser. وباستثناء القراءة الراديكالية الماركسية لطبيعة الصراع التي تعتبر أن حلّ الصراع الطبقي يكون بتغيير المنظومة القائمة وإحلال منظومة أخرى، فإن ما جمع بين جلّ الكتابات رغم اختلاف تصوّرات أصحابها لطبيعة الصراع هو تأكيدهم على اللجوء إلى السياسة لحل الخلافات والصراعات. ويعدّ Simmelمن الأوائل الذين تناولوا ظاهرة الصراع من وجهة نظر مختلفة عما كان مألوفا، فلقد اعتبرها ظاهرة اجتماعية عادية، معبرة عن شكل من أشكال العلاقات الاجتماعية ويعتبرها مستحسنة نتيجة الحركية الاجتماعية (processus de socialisation) التي تتولّد عنه وتمكّن من تجديد المجتمع من خلال التوافقات الجديدة التي يفرزها(7). وفي نفس السياق اعتبرها Freundمن ضمن أسس الحياة الاجتماعية والسياسية كذلك مؤكدا على أهمية ومهمة السياسة في الحفاظ على المجتمع واستقراره. فعملية الصراع تمثل وسيلة تواصل(8) continuumللمجتمع،ويزعم Freundأن البحث عن السِلم الحقيقي يفترض فهم منطق العداوة والاعتراف بالآخر(9)، ويعزو للسياسة مهمة إفراغ الأفراد من قدراتهم على ممارسة العنف(10) عن طريق البحث عن الحل الوسط من خلال التنازل المتبادل بين الفرقاء.

وفي نفس السياق يعتبر Coserأن الصراع والنظام، والقطيعة والاندماج هي سياقات أساسية توجد في كل نظام اجتماعي بنسب متفاوتة وتمثّل جزءا منه، ومن ثم فإن نظريتي الصراع والاندماج لا يمثلان منظومتين متنافستين بل – ويجب أن يكونا هكذا- نظريتين جزئيتين تقومان بتحسيس وتوعية الملاحظ إلى واحدة من جملة المعطيات التي لها علاقة بتفسير نظري أكثر شمولا(11)، لا يختلف Coserعن SimmelوFreundفي اعتبار الصراع شكلا من أشكال التفاعل الاجتماعي وأن نسبة من الخلاف والتباعد لها علاقة عضوية بما يمثّل الانسجام النهائي للمجموعة(12)، ومن ثم فلا يمكن القضاء الكلي على الصراع بل توجيهه وضبطه والسيطرة عليه حتى يمكن إضعاف قدراته المدمرة(13). بعد اطلاعه على العديد من الأعمال التي تناولت ظاهرة الصراع استنتج Coserأن كل أصحابها متفقون على أن الصراعات الاجتماعية تمثل عنصرا هاما من التفاعل الاجتماعي والصيرورة الاجتماعية، وتساعد على الحفاظ على استقرار الجماعات والطبقات الاجتماعية وتفرز توازنات جديدة داخل المجتمع. فإذا ما تمّت محاصرة وتقييد الأبعاد السلبية للصراع فسيصبح عامل تجديد للمجتمع ولمجاله السياسي(14) من خلال إعادة صياغة المحددات والشروط التي يقوم عليها الاستقرار والتماسك الاجتماعي. فالهياكل والنظم الاجتماعية ليست شيئا جامدا وغير متحرك ومتطور، والصراع يمثل أحد العوامل التي تؤدي إلى هذا التغيير والتطوير.

لا يعتبر Coserأن كل أنواع الصراع داخل المجتمع محبذة ولها الوظيفة الاجتماعية والسياسية التي تحدث عنها آنفا، فهو يميز بين الصراع الواقعي والصراع غير الواقعي الذي لا يفي بهذا الغرض(15)، ويميّز أيضا – على عكس Simmel– بين الصراع المتعلّق بالأسس والصراع المتّصل بالمسائل غير الهامة، فهو يعتبر أنّ الصراع القائم في إطار الإجماع تختلف عواقبه عن الصراع القائم على أسس الإجماع(16). من ناحية أخرى يفرّق Coserبين الصراع القائم داخل المنظومة والصراع الذي يكون خارجها ويؤكد على أن الانسجام الاجتماعي يتحوّل ويتغيّر بصفة أو بنسبة عكسية لمّا يكون نظام الحكم استبداديا كالأنظمة التي نشأت في بلدان أوروبا الشرقية عقب فقدان تلك المجتمعات لانسجامها(17). وفي نهاية بحثه خلص إلى أن الصراع الداخلي للمجموعة بامكانه أن ينتج أو أن يحافظ ويمتّن الوحدة بين أفراد المجموعة، لكن هذا يكون رهين طبيعة موضوع الخلاف من ناحية ونوعية التركيبة أو الهيكلة الاجتماعية التي قام فيها الصراع من ناحية أخرى، ومن ثمّ فهو يقول بأن الصراع القائم داخل المجتمع حول القيم والمصالح غير المتضاربة مع المبادئ الأساسية التي تقوم عليها العلاقات يكون له تأثير إيجابي على التركيبة الاجتماعية لأنه يساهم في إعادة صياغة الضوابط والمعادلات داخل المجتمع. عندما يكون الصراع على الأسس التي يقوم عليها المجتمع يؤدي الصراع إلى تفجّر التركيبة القائمة(18) وإقامة تركيبة جديدة تتماشى مع المتطلبات الجديدة.

إذن يؤدي الصراع الاجتماعي إلى تغيير على مستوى القيم والضوابط حتى تلائم الظروف الاجتماعية الجديدة لا سيما في المجتمعات التوافقية والمتسامحة حتى تضمن تواصلها، أما المجتمعات المتصلّبة فهي لا تسمح بهذا وتخنق الصراع إلى أن يؤدي إلى عواقب وخيمة(19). ليس الصراع في حد ذاته الذي يؤدي إلى العواقب الوخيمة وإنما صلابة البنية الاجتماعية التي لا تبدي مرونة ولا تحاول أن تتكيف وتتأقلم مع المتطلبات الجديدة وتنتصر لطرف على حساب طرف آخر وتسمح وتقوم بتأسيسه institutionnaliser(20).وفي نفس السياق يقول الكاتب: عندما اندثرت أشكال الاندماج والتوحيد التقليدية القديمة، لم تعد البنية الصلبة القروسطية قادرة على احتواء المصالح المتضاربة فاستوجبت أشكال اندماج وتوحيد جديدة(21).

كل أشكال الصراع التي يمكن تجاوزها بالطريقة السلمية لا تمثل ظاهرة خطيرة على المجتمع على غرار ما كان في المجتمعات الطبيعية حسب تعبير Hobbes، فان الصراع لا يتوقف إلا بالموت لا سيما إن تعلق الأمر بالمال أو بالأمن أو بالنصر. ولترجمة فلسفة هوبز بعبارات علم الاجتماع الحديث يمكن القول إن الصراعات الاجتماعية، إذا لم تكن محدودة بقوانين وضوابط، تستمر وتتفاقم إلى أن تؤدي إلى القضاء الكلي على أحد الخصوم. ويعتبر Coserأن المجتمعات قد اكتسبت ما يمكّنها من السيطرة وإدارة الصراعات بقوانين وتسويات أخلاقية. وإذا لم تتمكن من وضع حد للصراعات قبل القضاء على أحد الفرقاء أو جميعهم فهذا يعني أن الخلاف شامل وأن الفرقاء يعيشون في عوالم من التصورات والقيم مختلفة بصفة مطلقة(22).

في نفس السياق يقول Marc Angenotفي مستهل حديثه عن شروط نجاح الحوار بين الأطراف المتخالفة: إنها تتضمن شرطا متعلقا بموضوع الحوار هو أن يكون قابلا للنقاش، بمعنى آخر يجب ألا تكون هناك قطيعة على مستوى الضوابط المعرفية(23) (Rupture du codecognitif) بين الأطراف المنخرطة في الحوار وإلاّ سيكون بمثابة حوار الصمّ حسب عبارته. وسبب هذه القطيعة هو انتماء هذه الأطراف إلى ثقافتين مختلفتين لهما مرجعيات فكرية مختلفة وربّما متناقضة، ويصعب بالتالي التوصّل إلى التوافق وربما يؤدي إلى التصادم والاقصاء. فإذا ما توفر شرط الحوار المتعلق بالموضوع فإنه يشترط أيضا وجود مبدأ كوني علوي لا تاريخي ألا وهو العقل: “من ينخرط بجدية في الحوار عليه أن يفترض أن إطار الحوار يحفظ حرية الانخراط، أن حقوق المشاركين متساوية، وأن نواياهم سليمة ولا خوف من أي عقوبة أو تبني لموقف ما”(24). وفي سياق الحديث عن شروط الحوار الهادف إلى التوافق أو الإجمـاع يفترض الفيلســوف الألماني J. Habermasفي كتابه الشهير L’agir communicationnel،ضرورة توفر أربع صفات أساسية في الأشخاص المشاركين وهي الرشد (rationalité) والصراحة (sincérité) والصدق أو الصحة (justesse) والنية أو الرغبة في الوصول إلى اتفاق consensus(25). ورغم أن هذه الشروط تبدو متلازمة الا أن الشرط الأخير هو الأهم وهو جامع لغيره من الشروط، لأنه إذا لم يكن هناك وعي وإصرار على ضرورة التوصّل إلى اتفاق سيفقد الحوار كل مصداقيته ويصبح ضربا من السجال وفي أحسن الأحوال من الجدل العقيم.

نشأة إشكالية التوفيق في الخطاب العربي الحديث:

اهتمّ العديد من رجالات الفكر العربي الإسلامي بإشكالية التوفيق بين الإسلام والحداثة منذ بدايات القرن التاسع عشر، وتكثفت بشدة في القرن العشرين بعد أن خاضت المجتمعات العربية تجارب التحديث التي لم تؤد إلى الإصلاح والنهضة المنشودة وكانت عاملا من عوامل انقسام نخبها. ففي حين كانت ترمز في الخطاب الإسلامي إلى التوفيق بين الإسلام والحداثة المتمثلة أساسا في العلوم وبعض القيم السياسية أخذت تدريجيا تشكلات أخرى في الخطاب العربي الحداثي وأصبحت تبحث في التوفيق بين التراث والحداثة، بين الأصالة والمعاصرة، بين الجديد والقديم، بين الثابت والمتحول، إلخ، حسب الخلفيات الإيديولوجية.

ومن بين الذين اهتمّوا بهذه الإشكالية في عمقها الفلسفي يمكننا أن نذكر الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود الذي اعتبر التوفيق بمثابة ” الوقفة التي نتقبل فيها حضارة العصر بكل مقوماته الأساسية ثم نحاول أن نضيف إليه من تراثنا وتقاليدنا بعدا إنسانيا خلقيا يكمل وجه النقص فيه، فليس الرأي الصواب فيما بيننا وبين الغرب -مبدع الحضارة القائمة- هو أن نقول إمّا نحن وإمّا هو، بل الرأي الصواب هو أن نخلق صيغة حياتية جديدة تشمل مقومات حضارتهم من علوم وصناعات ومنهج وفنون وطائفة صالحة من النظم السياسية والاجتماعية كما تشمل في الوقت نفسه مقوماتنا الخلقية وغيرها مما يشكل وجهة النظر وفلسفة الحياة”(26). فهو على حد تعبيره ينادي بمبدأ الأصالة والمعاصرة كمحور لنشاطنا الفكري بكل اتجاهاته وفروعه، من أجل الوصول إلى مجتمع يحقق ذاته التاريخية ويساير عصره في وقت واحد(27). وفي كتاب لاحق يعلن زكي نجيب محمود عن تحوله من الفكر اليساري الماركسي إلى النظرة الإسلامية، ويكتب بأنه لا يوجد اختلاف جذري بين الإسلام والحداثة، وأن الجمع بينهما ليس مستحيلا كما اعتقد سابقا وأنّ التوفيق والمصالحة بينهما أمر ممكن. فهو يتلخص في البحث عن صيغة يجمع فيها بين الطرفين دون التضحية بما هو أساسي وجوهري في الإسلام وما هو أساسي وجوهري في الحداثة(28). ومن ثم يأخذ مفهوم التوفيق عند زكي نجيب محمود معنى الأسلمة التي تبحث عما يوحد قوانين العلم و مبادئه في أصل واحد وليس البحث عن مصادر العلوم في القرآن الكريم والأحاديث النبوية(29).

أما محمد عابد الجابري(30) فقد قسم الخطاب العربي إلى ثلاثة تيارات: الخطاب النهضوي، والخطاب الإسلامي والخطاب التوفيقي الذي قسمه بدوره إلى أربعة أطياف نقدها كلها واعتبرها ضربا من التلفيق مستثنيا منها محاولة زكي نجيب محمود التي عدّها من المحاولات الجادة. سلك الجابري نفس طريق هذا الأخيرمنطلقا من فرضية أن أزمة الفكر العربي هي أزمة أسس فلسفية ومعرفية(31) نابعة من تخلّي الفكر العربي عن شقّه البرهاني (العلمي) لصالح الفكر البياني المتعلق بعلوم اللغة والشريعة والفكر العرفاني المتعلق بالروحانيات.

ومن جانبه نقد هشام جعيط الخطاب الإصلاحي بشدة واعتبر محاولات المصلحين التوفيقية ضربا من التلفيق لتصورهم القاصر للحداثة التي لا تتمثل في مضمونها وما جاءت به من علوم و إنّما لأنها تمثل منظومة موضوعية كونية (Structureobjectivante)شبيهة بالتي أخذت مكانها إبان الثورة المونولوتيكية (Monolytique)، وعلى كل المجتمعات أن تعطيها المضمون المناسب لها(32).

كما نقد برهان غليون بدوره الخطاب العربي عموما ووصفه بالسجالي لأن تياريه الإسلامي والعلماني لم ينشغلا بالتفكير في شروط النهضة. وقال بالتوفيقية الانتقائية المتمثلة في أخذ ما هو صالح عند الآخر وما هو صالح في التراث(33).

وخلص العديد من الذين كتبوا في هذا الموضوع وربما جلهم إلى أن كل المحاولات التوفيقية السابقة كانت تلفيقا ولم تكن توفيقا، بدون أن يبينوا ماهية التوفيق، شروطه وآلياته. وقليل هم الذين اختلفوا عن هذه القراءة النقدية ومن ضمنهم المفكر محمد جابر الأنصاري(34) الذي كتب كتابين حول هذه الإشكالية معتبرا الخطاب العربي الحديث في عمومه خطابا توفيقيا.

في ضوء ما جاء في هذه الكتابات وغيرها نود أن نعقب على تقسيم الجابري للخطاب العربي بأنه لا يمكن الحديث عن تيار توفيقي ثالث أخذ مكانه بين التيارين الإصلاحي والنهضوي لأنّ إشكالية التوفيق قد صبغت جل الخطاب العربي عموما وأصبحت خاصية من خصائصه بسبب الازدواجية التي تلازمه وجعلت ثقافة المجتمعات العربية ثقافة هجينة(35). والنقطة الأخرى التي نود لفت النظر اليها هي أن جل الكتابات التي تناولت إشكالية التوفيق لم تعر الاهتمام الكافي لبعدها السياسي الذي لا يمكن عزله عن البعد الفكري وهو مقدم عليه في تقديرنا لا سيما في هذه المرحلة التي تشهد فيها المجتمعات العربية العديد من الاضطرابات والتي يمكن استغلالها كفرصة للتأسيس للمجال السياسي، ومن ثم كان اهتمامنا بهذا البعد السياسي لإشكالية التوفيق.

وقبل الخوض في سبر السياقات التاريخية التي نشأت فيها اشكالية التوفيق بين الإسلام والحداثة باختلاف تشكلاتها، من المفيد التذكير بأن الفكر الإسلامي لم يخض تجربة التوفيق بين أطراف متخالفة وأفكار ورؤى مختلفة تعد أحيانا متناقضة ويستحيل التوفيق بينها لأول مرة بل خاض تجارب عدة منذ القرن الأول للإسلام على أثر الصراعات التي نشبت على السلطة والتي أدت بدورها إلى انقسامات وصراعات مذهبية شتى لا يزال أثرها وتأثيرها على الفكر الإسلامي فاعلا إلى يومنا هذا. ولا يذكر أن المجتمعات الإسلامية قد حاولت طويلا وحرصت كثيرا على رتق هذا الانقسام المذهبي والسياسي إلا في المجال الفكري الفلسفي حيث كانت هناك العديد من المحاولات لتجاوز الشرخ والصدع الذي استقر بين أهل الشريعة وأهل الفلسفة من ناحية وبين أهل الرأي وأهل الحديث من ناحية أخرى. ورغم هذا الانقسام استطاع المجتمع الإسلامي أن يتجاوز انعكاساته السلبية لمدة قرون بصيغ عديدة ومختلفة، تارة بتفعيل الوازع الديني عندما تستوجب الدعوة إلى وحدة صف الأمة، وطورا بقوة الحديد والنار،إلى أن فقدت كل هذه الوسائل فاعليتها وأصبح الانقسام واقعا معاشا ملازما للمجتمعات العربية وللأمة الإسلامية وأصبح سمة من سماتها وخاصية من خصائصها. لم تتمكن المجتمعات المسلمة أن تؤسس لما كان سيمكنها من تجاوز هذه الخلافات والانقسامات وتوحيد صفوفها رغم ما كان يحدق بها من مخاطر خارجية متنامية. لم تكن على وعي كاف بهذه المخاطر وانعكاساتها التي أدت إلى تعقيد أسباب انقسامها وتوسيع الفجوة بين جميع أطراف مجتمعاتها التي لم تعد ذات صبغة سياسية ومذهبية فحسب بل لمست أسسها وثوابتها.

أما الحقبة الثانية أو الطور الثاني الذي طرحت فيه إشكالية التوفيق فهي الفترة الحديثة التي تزامنت مع هيمنة الغرب العسكرية والثقافية والرمزية والتي أفضت إلى بروز محاولات الإصلاح والتحديث في العالم العربي والإسلامي. كان دخول الفرنسيين إلى أرض مصر بداية وعي المجتمعات العربية بتخلفها. وللخروج من هذا التخلف واللحاق بركب التقدم والرقي من ناحية ولدرء المخاطر الاستعمارية من ناحية أخرى انخرطت جل المجتمعات العربية وأولها مصر في عملية الإصلاح التي تمحورت أساسا حول تحديث الجهاز العسكري. لم تتأخر تونس عن مصر طويلا في اللحاق بهذه الحركة، فقد باشرت بالقيام بالعديد من الإصلاحات قبل الاستعمار الفرنسي للجزائر سنة 1830 لتفادي هذا المصير المحتوم. وما كان يميزها عما قام في مصر، على يد نابليون بونابرت وأتمها محمد علي باشا تحت إشراف مستشارين غربيين واتّباعا للتوصيات التي جاءت في الكتاب الشهير “وصف مصر” الذي كتب زمن تأسيس معهد مصر، هو أنها لم تقم على يد المستعمر مباشرة. والميزة الثانية هي أن الإصلاحات وحركة التحديث التي خاضتها تونس لم تكن مركزة على جهاز العسكر بل على الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي بصفة عامة. لكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن القاسم المشترك بين كل الإصلاحات التحديثية التي قامت بها المجتمعات العربية في القرن 19 هو أنها كانت بالدرجة الأولى لمصلحة الجاليات الأجنبية وأنها لم تكن نابعة من وحي الحاجة الاجتماعية إلى هذا الإصلاح والى هذا التحديث وانما كان بإيعاز من السلطة العسكرية ومن وحي الهيمنة الرمزية للآخر الذي لم يعد يمثل العدو فحسب بل النموذج والقدوة أيضا التي يجب السير على خطاها لتجاوز التخلف والدخول في كوكبة التقدم.

انطلقت عملية التحديث(36) منذ بدايات القرن التاسع عشر في مصر أولا ثم في عديد من البلدان العربية الأخرى، وكان السؤال الذي احتكر اهتمام النخبة الفكرية آنذاك هو ما الذي يمكنها أن تأخذه من الحضارة الغربية دون المساس بثوابت دينها ومبادئه؟

كان رفاعة رافع الطهطاوي من ضمن الأوائل الذين آمنوا بمشروع التحديث وساهموا فيه مساهمة جعلت الشاعر أحمد شوقي يخصه بلقب أبو النهضة العربية. كانت حركة الترجمة التي قادها وكرّس لها حياته من أهم الإسهامات وأداة من أدوات التحديث الهامة. تمثلت إشكالية التوفيق بين الإسلام والحداثة في تصور الطهطاوي – الذي لم يخفي إعجابه وانبهاره بنمط عيش الأمم الأوروبية وتقدم علومها التي بلغت مرتبة الكمال وتحسره لانعدامها في بلدان العالم الإسلامي- في مصالحة المسلمين معها والدعوة والعمل على انفتاح المصريين عليها والأخذ بها وغض النظر عن الصراعات السياسية. وحتى يتمكن من القيام بهذه المصالحة عمل رفاعة على توعية الناس بأهمية هذه العلوم وعلى تأصيلها حتى تصبح مستساغة ومشروعة لدى المصريين وباقي الشعوب العربية التي اعتادت على تبجيل العلوم الشرعية والدينية على حساب العلوم الدنيوية التي أهملتها لعدم إحساسهم وإبصارهم بمنفعتها الدينية والدنيوية رغم أن مشروعيتها ضمنية ومتأتية من حاجتهم إليها. هكذا تشكلت عملية التوفيق بين الإسلام والحداثة في مرحلتها الأولى وتمثلت أساسا في مصالحة المسلمين مع العلوم الحديثة. فما هي المسوغات والحجج والبراهين التي قدّمها رفاعة لاقناع بني امته للأخذ بهذه العلوم؟

وقبل الرد على هذا السؤال من المهم التذكير بلمحة موجزة عن نشأة وتكوين الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي كان من رواد المشروع الاصلاحي الإسلامي. لقد كان من علماء الدين التقليديين ولم يكن له أدنى اطلاع على العلوم الغربية الحديثة، ولم يبد طيلة فترة تعليمه بالمؤسسات التعليمية التقليدية لاسيما الأزهر أي تذمّر أو نقد لمناهج التعليم ومضامينه، إلى أن التقى بالشيخ حسن العطار الذي لفت انتباهه لأول مرة للعلوم الغربية الحديثة وأشعره بأهميتها وضرورة اهتمام المسلمين بها والتمكن منها. ثم ازداد إحساسه بأهمية هذه العلوم عندما سافر إلى فرنسا والتحق كباقي طلبة البعثة بإحدى الجامعات. بدأ رفاعة بتعلّم اللغة الفرنسية التي أتقنها في نهاية السنة الأولى من إقامته بفرنسا ثم أخذ ينهل من شتى العلوم ومن مصادرها الأصلية بدون أن يتخصص في علم بعينه. لقد انتهج نهج الموسوعيين الأوائل وأراد أن يطلع على أكثر عدد ممكن من المراجع في شتى الميادين، وكانت علوم التاريخ والجغرافيا والتربية أقرب العلوم إلى قلبه وقام بترجمة العديد من كتبها، على خلاف الفلسفة التي لم يهتم بها كثيرا. لم يكن عدم اهتمام الطهطاوي بالفلسفة استثناء في تلك الفترة التاريخية لأن المؤسسات التعليمية التقليدية ولا سيما الأزهر وغيرها من المؤسسات كالزيتونة بتونس والقرويين بالمغرب لم تدرج هذه المادة ضمن برامجها. ولهذا السبب لم ينتبه إلى أن تطور العلوم في الغرب كان نتاجا لخطاب فلسفي برز منذ ما سمي بقرون الأنوار وتبلور مع الثورة العلمية والصناعية، ولم يتمكن من محاورتها كما فعل أسلافه بل اكتفى الطهطاوي بنقلها وحذّر عموم الناس من الاطلاع عليها حتى لا يفسدوا على أنفسهم دينهم. لم يدرك الطهطاوى ضرورة وجدوى عملية محاورة العلوم التي كان من المفروض أن تسبق عملية الأخذ والاقتباس، لأنه كان يعتقد – وهو الاعتقاد السائد إلى ذلك التاريخ – أن العلوم تبرر ذاتها بذاتها لأنها موضوعية ومحايدة أخلاقيا ومن ثم تستمد سلطتها وهيمنتها الرمزية وتملي الأخذ بها دون سؤال أو مساءلة. بالإضافة إلى هذا، لم يكن الطهطاوي يحمل مشروعا إصلاحيا بقدر ما كان منخرطا في عملية التحديث التي انطلقت قبله بأمر من الباشا غير مبال بواقع الهيمنة السياسية الذي كان تأثيره كبيرا على خيارات الشعوب الإسلامية. لهذه الاعتبارات أخذت توفيقية الطهطاوي صبغة تسويغية تبريرية لعملية التحديث ككل. اعتمدت عملية التوفيق التسويغية للطهطاوي على ثلاث مبررات: البعد التاريخي داعيا المسلمين إلى استرجاع العلوم التي أبدعوا فيها سابقا، والبعد الديني- الأخلاقي معتبرا أن الذي يتعلم علما ويعمل به ويعلّمه لغيره يكون قد ضمن أجر الصدقة الجارية، والبعد العقلاني العملي مستندا على المنفعة والمصلحة التي تجلبها هذه العلوم للناس ومن ثم فهي تستجيب لمقصد من مقاصد الشريعة وتعتبر فرض عين إذا لم يأخذ بها جزء من الأمة.

ما يجب التأكيد عليه هو أن عملية التحديث التي خاضتها مصر زمن حكم محمد علي باشا لم تكن استجابة لا لإرادة شعبية ولا هي وليدة صيرورة تاريخية، وإنما كانت بفعل إملاء واقع الهيمنة العسكرية والرمزية واستجابة لطموح ومصالح شخصية، ومن ثم كانت محاولات التوفيق بين تعاليم الإسلام والعلوم الحديثة الوافدة محاولات تبريرية وتسويغية. ومن ناحية أخرى، فإن المشروع الإصلاحي الذي نادى به المصلحون قبل دخول العالم الإسلامي الحقبة الاستعمارية أخذ منعطفا جديدا. لم يعد مشروع الإصلاح متمحورا حول إصلاح المؤسسة الدينية وتفعيل الاجتهاد وإنما على قراءة الإسلام قراءة جديدة تتناسب مع ما يتطلبه التحديث. ومن ثم أخذ المشروع الإصلاحي الإسلامي والذي أصبح متمثلا في عملية التوفيق بين الإسلام والحداثة صبغة أو مضمونا تحديثيا للإسلام نفسه حتى يستوعب ويأخذ بالعلوم الحديثة. انتقل الإصلاح من منظومة تقليدية كلاسيكية إلى منظومة تحديثية للإسلام. وما استجابة النخب الفكرية التي باركت عمليات التحديث في الأقطار العربية إلا ردة فعل لما فرضه الواقع أكثر مما هو وعي بضرورة التحديث.

تأكد هذا المنحى الجديد للمشروع الإصلاحي الحديث مع النخبة التي برزت بعد الطهطاوي والتي كان للسيد جمال الدين الأفغاني الأثر الكبير في توجيهها. كان الأفغاني – رغم قلة كتاباته – يحمل مشروعا إصلاحيا ذا بعد ديني وفكري وآخر سياسي. كان مهموما بحالة الضعف التي وصلت اليها الإمبراطورية العثمانية وما يترصد أقاليمها من تهديدات خارجية. كان يعمل على الحفاظ على الوحدة الإسلامية من خلال الدفع إلى الإصلاحات السياسية الضرورية التي تضمنتها فكرة الجامعة الإسلامية، وكان يدعو أيضا إلى إصلاح والنهوض بالفكر الإسلامي. نقد بشدة عمليات التحديث التي خاضتها المجتمعات الاسلامية واعتبرها سطحية ولا يمكن لها أن تكون ذات جدوى اذا لم تكن نابعة من عمق ثقافة وحاجيات المجتمع كالتي قامت في أوروبا والتي شبهها باللوثرية(37). كان الأفغاني مدركا لشروط الإصلاح في أبعاده المتعددة وفي عمقه الفكري والفلسفي وكذلك في امتداده التاريخي، ولهذا يمكن اعتبار مشروعه الإصلاحي في تواصل مع مضمون حركة الإصلاح التقليدي التي قامت على فكرة إصلاح الدين ومؤسساته في ضوء ما يمليه الواقع المتغير.

فشلت عمليات التحديث في القضاء على المنظومة المجتمعية القديمة بصفة كلية وإحلال منظومة حديثة محلها تتماشى مع متطلبات المرحلة التاريخية، ولكنّها كانت كافية لإحداث تغيير لا رجعة فيه على مستوى التركيبة الاجتماعية والثقافية للشعب المصري وللشعوب العربية عامة. لقد أصبحت على مستوى البنى التحتية حديثة المظهر بفضل عمليات الترشيد التي لحقت القطاع الاقتصادي، وتقليدية في جزء كبير من منظومتها الفكرية والقيمية التي بقيت متصلة اتصالا وثيقا بمرجعيتها الدينية الإسلامية(38). فقد كانت الإصلاحات والتغييرات التي طرأت على نظام التعليم بصفة خاصة كافية لإحداث هذه التحولات. لقد تصدعت البنية الثقافية والقيمية القائمة وأفرزت منظومتين ثقافيتين متوازيتين تحددان بشكل مشترك المرجعية المعنوية ودينامكية المجتمعات العربية التي أصبحت تعيش حالة من الازدواجية والانقسام الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي. وازدادت هذه الحالة تبلورا مع نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بمصر، وأصبحت سمة وخاصية جديدة للمجتمعات العربية التي فقدت انسجامها وتناغمها الذي كان قائما على الدين وقيمه.

هكذا انقسمت النخب الفكرية والسياسية إلى تيارين لكل منهما رؤيته لإشكالية التخلف وإلى شروط النهضة والخروج من هذا التخلف. ظهر التيار الأول الديني الإصلاحي من بين العلماء التقليديين وانبثق الثاني من المتخرجين من المؤسسات التعليمية الحديثة العربية والأجنبية، وصار يعرف بالتيار النهضوي الحداثي أو العلماني. شمل هذان التياران أطيافا عديدة حسب تصور كل فرقة أو كل جماعة للدين من جهة وللحداثة من جهة أخرى، فهناك من هو في غاية التشدد في الدين ورافض لكل شيء حديث وكل قراءة جديدة للإسلام مختلفة عما هو مألوف، وهناك من هو متشدد في تصوره للحداثة وداع إلى العلمانية المطلقة مع رفض عدائي للدين اقتداء بالدول الأوروبية وظنا أن هذا يمثل شرطا من شروط النهضة والتقدم. وتحسب النخبة العربية المسيحية التي استبطنت الحداثة الغربية بدون كثير من التحفظ وبسهولة أكثر من العرب المسلمين على هذا التيار المتشدد. ومن أهم العوامل التي دعمت هذا الاستقطاب هو الفجوة التي قامت بين النظامين التعليميين، فقد ساهم النظام التعليمي الحديث في إبعاد جزء من نخبه عن الدين والتنكر له ولتراثه من ناحية، وساهم النظام التقليدي من جهته في جفاء نخبه عن العلوم الحديثة والتمكن من جوهر الحداثة وما جاءت به من قيم وتنظيمات جديدة. أما العامل الثاني فهو الاستياء من الثقافة السائدة التي غلب عليها التصور الديني المتصلب وكانت مكرسة للجمود والتخلف من ناحية، والاستياء من ناحية أخرى من تجربة التحديث وسياسات المستعمر التي كانت منافية للقيم التي كانت تبشر بها الحداثة. ومما زاد الحالة تعقيدا والاستقطاب عمقا هو تدخل المفكرين الغربيين الذين عملوا على دعم التوجه العلماني داخل التيار الحداثي لخدمة السلطة الاستعمارية، وقد استمر هذا الدعم للأنظمة التي انتصبت بعد الاستقلال بدون أن تحظى بالشرعية الواسعة.

مع نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أخذ المشروع الإصلاحي والنهضوي بعدا سياسيا ببروز الجمعيات والأحزاب السياسية، وأخذ الاستقطاب بدوره بعدا سياسيا بالإضافة إلى بعده الإيديولوجي. لم يعد المشروع الإصلاحي مقتصرا على البحث عن سبل التوافق الفكري بين مبادئ الإسلام وقيمه من جهة ومتطلبات الحداثة من جهة أخرى بقدر ما يبحث عن سبل تجاوز هذا الاستقطاب الذي أصبح في حد ذاته عائقا للمشروع الإصلاحي والنهضوي. ومن ثم استثمر المصلحون طيلة القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرن كل جهودهم في الدفاع عن الإسلام والاستدلال والتأكيد على أن هذا الدين لا يتنافى ولا يتناقض مع القيم التي تبشر بها الحداثة لا سيما العلم والعقلانية. لم يكن الخطاب الإسلامي الإصلاحي طيلة هذه الفترة الحديثة من تاريخه منكبا على التفكير والبحث عن شروط النهضة والخروج من التخلف بقدر ما كان خطابا سجاليا وتبريريا ودفاعيا apologétique)) عن الإسلام يبحث عن صياغة أفكار تروج لفكر إسلامي حداثي أو لخطاب إسلامي يروج لأفكار حداثية وأهمها التأكيد على الجانب العلمي والعقلاني للإسلام وتوافقه معه. وقد تجلى هذا في خطاب العديد من أعلام الإصلاح لا سيما الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا.

أخذ المشروع الإصلاحي الإسلامي في مصر منعرجا هاما مع هذين الشيخين ولا سيما الشيخ محمد عبده الذي كان منذ سنوات التعليم الأولى بالأزهر واعيا بتخلّف هذه المؤسسة على مستوى برامج تعليمها ومناهجه التي لم تواكب التحولات التي شهدها المجتمع المصري. وكان ناقدا من جانب آخر لتجربة التحديث التي كانت تخوضها مصر ومحذرا من النقل اللامشروط لعلوم الغرب وغيرها بدون دراسة وبدون أن يكون نابعا من صلب حاجيات المجتمع المصري. كما نقد من جانب آخر مواقف ودعوات التيار الحداثي الذي نعته بالإفرنجي لأنه كان يرى أسباب التخلف في التشبث بالدين ويرى النهضة في التخلي عنه باسم العقلانية والسير على خطى المجتمعات الأوروبية في مسيرتها التحديثية. على ضوء رؤيته النقدية قام مشروع محمد عبده الإصلاحي على عنصرين أساسيين: إصلاح الفكر الإسلامي من خلال إصلاح المؤسسة الدينية لا سيما الأزهر التي خلدت إلى الجمود بعد أن كانت لقرون طويلة منبع العلوم ومنارة علمية، والعنصر الثاني تمثل في إصلاح اللغة العربية التي كانت حاضنة للعلوم سابقا ولأن اللغة تمثل وعاء المعرفة لأي مجتمع. على خلاف الشيخ رفاعة كان مشروع عبده الإصلاحي أكثر تأصّلا من حيث امتداده التاريخي لحركات الإصلاح التقليدية التي كانت تنادي بإصلاح المؤسسة الدينية، لأن الإشكاليات الفكرية التي تناولها لا سيما مسألة العلاقة بين النقل والعقل تعود جذورها إلى قرون الإسلام الأولى. فبالإضافة إلى محاولة تفعيله لهذه الإشكالية المحورية في علم الكلام، فقد قام أيضا بتفعيل فقه المقاصد في فتاويه وبادر بقراءة جديدة للقرآن الكريم وبتدريس تاريخ ابن خلدون الذي لم يكن مدرجا في برامج التدريس، بالإضافة إلى أعماله الخيرية التي لمست جوانب عدة من الحياة الاجتماعية المصرية.

لكن ما يمكن أن يعاب على الشيخ محمد عبده هو أنه لم يدخل في محاورة أو دفع إلى محاورة الأسس الفكرية والفلسفية التي قامت عليها نهضة المجتمعات الغربية، وأن بعض المحاورات التي قام بها مع بعض المفكرين الغربيين والعرب لم تكن تعرب عن وعي بضرورة الحوار وإرادة جادة فيه بقدر ما كانت أحادية الجانب ودفاعا عن الإسلام وتبرئته من التهم التي ألحقت به لا سيما فيما يتعلق بالعقلانية والعلم. كانت جل كتابات الشيخ الملخصة في مجموعة المحاضرات والمقالات تعبر عن ردة فعل لما كتبه بعض معارضيه ومعارضي الإسلام، وكانت تنم بقدر أقل عن تفاعل مع واقعه وهو ما جعل مشروعه متمحورا حول العلم والتعليم كسابقه رفاعة الطهطاوي في ظل واقع الهيمنة العسكرية والرمزية للحضارة الغربية. وما يعاب على الشيخ أيضا هو عدم تولية الإصلاح السياسي الأهمية الكافية في ظل صراعات أصبحت تدريجيا سياسية بامتياز، ومساهمته – بدون قصد – في تكريس الاستقطاب من خلال وصف ونعت تيار النخبة المحسوبة على التيار النهضوي بالتيار الإفرنجي المغترب. ازداد هذا الاستقطاب عمقا مع الشيخ محمد رشيد رضا والجماعات الإسلامية التي ظهرت لاحقا.

لم يكن هناك وعي وإرادة جلية لدى النخبة لتجاوز الاستقطاب والتوصل إلى أي نوع من أنواع التوافق لأن حالة الاستقطاب والانقسام التي كان يعيشها المجتمع المصري والمجتمعات العربية جميعا لم تكن ترى أو تمثل حالة مرضية وعائقا للنهضة والإصلاح يستوجب تعديلها وتجاوزها. فجل الخطاب الذي صيغ خلال هذه الفترة التاريخية واستمر إلى يومنا هذا أخذ طابعا جدليا أحادي الجانب أو كان ضربا من السجال كما وصفه برهان غليون في كتابه “اغتيال العقل”، ولم يكن حواريا مكترثا بتقريب وجهات النظر وساعيا إلى التوافق من أجل تجاوز الاستقطاب والانقسام رغم وجود عوامل أخرى حائلة دونه. لم تدرك نخب تيار الإصلاح أنّ تجاوز الاستقطاب هو جزء من عملية الإصلاح وأن ظاهرة الاستقطاب والانقسام والصراعات التي نجمت عنها تمثل فرصة للتأسيس للمجال السياسي في المجتمع المصري والمجتمعات العربية عموما. كما لم تعمل القوى الاجتماعية ومن ضمنها نخب التيار الإصلاحي على إرساء مبدأ الحوار داخلها، كان الجدل قائما لكنه لم يرق إلى مستوى الحوار. تكرس هذا الوضع أكثر بعد سقوط الخلافة كرمز للوحدة الدينية والسياسية للمجتمعات الإسلامية. لم تستثمر النخبة المصرية والعربية الفراغ السياسي الذي خلفه هذا الحدث والصراعات السياسية والإيديولوجية التي أنجرت عنه فرصة لـتأسيس المجال السياسي الفعلي في المجتمعات العربية. لقد زاد في تعميق الفجوة القائمة بين النخبة المصرية وزاد في انقسامها.

على ضوء التغييرات التي عرفتها مصر في مطلع القرن العشرين شهد التيار الإصلاحي تغييرا جذريا في مشروعه الفكري الإصلاحي شكلا ومضمونا. فقد برزت العديد من الجمعيات والجماعات الإسلامية المنظمة التي تنادي بالإصلاح وأهمها جماعة الإخوان المسلمين التي امتدت أطرافها إلى خارج مصر. وأما على مستوى المضمون فقد جاءت هذه الجماعات بتصور جديد للإصلاح ومن ثم للإسلام والحداثة وإمكانية التوفيق بينهما. فبعد مرور ما يناهز القرن من تجربة التحديث التي أدت إلى علمنة المجتمع من خلال عملية الترشيد التي شملت جل مجالات المجتمع وإلى اختزال الدين في جانبه الطقوسي وتقليص وظيفته التي أصبحت تسويغية لبعض السلوكيات الفردية والاجتماعية بعد أن كان ملهما للفعل والحركة، أصبح الخطاب الإسلامي ينادي بالتخلي عن الحداثة التي أصبحت مرادفة للعلمانية وللاستغراب والانبتات عن الهوية وتبنى شعارات أسلمة المجتمع، وأن الإسلام صالح لكل زمان وأنه يمثل الحل ومنفذ الخروج من الأزمة التي تعيشها الشعوب الإسلامية وأنه ما صلح به أول هذه الأمة يصلح به آخرها. هكذا انتقل مشروع الإصلاح من فكرة تحديث الإسلام حتى يواكب مستلزمات الحداثة التي فرضت نفسها إلى فكرة أسلمة الحداثة. فهذا التحول من منظومة تحديث الإسلام إلى منظومة أسلمة الحداثة هو انعكاس أيضا للتغيير الذي طرأ على طبيعة النخب الإسلامية التي تحولت من الشيخ – المفكر الذي درس في المؤسسات التعليمية التقليدية وأخذ بشيء من العلوم الحديثة إلى المفكر- الشيخ الذي تخرج من مؤسسات التعليم الحديث واطلع على علوم الدين بشكل غير رسمي، خارج إطار المؤسسات التعليمية- ففي ظل هذه التغييرات وفي ظل الفراغ السياسي الذي خلفه سقوط الخلافة لم يروج الخطاب الإسلامي ولم يدفع في اتجاه التوفيق والتوافق بل ساهم في احتداد الاستقطاب وزاد في الفرقة والاختلاف بسبب شعاراته ودعواته إلى إعادة الخلافة وإلى الدولة الإسلامية كما جاء في كتابات الشيخ محمد رشيد رضا. لم تتمكن النخبة المصرية والعربية عموما ولا سيما النخبة الإسلامية من استغلال فرصة الفراغ السياسي التي تزامنت مع قيام ثورة 1919 والاستقلال الذي لحقها من التأسيس للمجال السياسي الذي من شأنه أن يساهم في إرساء شروط التوافق بين القوى الاجتماعية والسياسية. استمر هذا الحال إلى حين نشأة الدولة الوطنية الحديثة التي لم توفر المجال السياسي الذي من شأنه أن يساعد على إرساء التوافق بل استمرت في توظيف الاستقطاب والانقسام ودفعت به أحيانا إلى حد الصراع لتغليب فئة على أخرى حسب ما تمليه المصلحة السياسية. وبعد أكثر من نصف قرن من الزمان على نشأة الدولة الوطنية الحديثة وفشل مشاريع التحديث تشهد المجتمعات العربية بسبب موجة الثورات التي اجتاحت العديد من دولها نقطة تحول كبرى من شأنها أن تكون رافدا وفرصة جديدة لتجاوز حالة الاستقطاب والانقسام والولوج إلى مرحلة تاريخية جديدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن استغلال هذه الفرصة التاريخية وما هي شروط إمكانية تجاوز حالة الاستقطاب والانقسام الذي ظل عقبة أمام الإصلاح والنهضة وإرساء شروط وظروف التوفيق والتوافق في المجتمعات العربية؟

الاستنتاجات والخاتمة:

في ضوء ما جاء ذكره من بعض أدبيات علم اجتماع الصراع والذي كان مفاده أن الصراع الاجتماعي لا يمثل ظاهرة اجتماعية سلبية بشكل مطلق بل هي طبيعية ولها بعض المزايا الاجتماعية، فهو يقدم في أدنى إيجابياته وظيفة اجتماعية لأنه يعيد شحن وتفعيل العلاقات الاجتماعية وفي أقصاها يؤسس للسياسة(39) إذا ما توفرت بعض الشروط المؤطرة. وأهم هذه الشروط ما هو متعلق بالفرقاء، وما هو متعلق بالإطار، وما هو متعلق بموضوع الخلاف أو الصراع. ولعل ما يمثل العائق الأكبر في حل الصراع حلا سلميا حضاريا هو أن تكون هناك قطيعة معرفية بين الفرقاء، ولكن حسب الفيلسـوف C. Taylorالذي جاء ذكره على لسان D. Innerarity فإنّه بموجب التنوع العميق الذي تشهده مجتمعاتنا الحديثة لا بد من الاعتراف بكل الاختلافات وعدم تصنيفها حسب التصور الكلاسيكي للعقلانية. أما الشرط الثاني الذي طالما مثل عائقا أمام التوافق في المجتمعات العربية فهو المتعلق بإطار الحوار الذي من شأنه أن يفضي إليه. ولكن Simmel يعتبر أنه إذا كان الصراع عقلانيا سيفضي حتما إلى صنع هذا الإطار ولهذا يعتبره مؤسسا للسياسة ومجددا لها. ويقصد بالصراع العقلاني هو الصراع الذي لا ينكر الآخر ويعترف به والذي يقدر عواقب الصراع العنيف الذي لا يؤثر على الحل السياسي الحضاري.

وفي سياق ما تقدم هل يمكن للصراعات الإيديولوجية والسياسية التي تشهدها المجتمعات العربية أن تكون فرصة مؤسسة للمجال السياسي أو على الأقل تفعيله وإعادة تنظيم المجتمعات على أساسه، حتى وإن افترضنا أن ما آلت اليه الأمور في بعض بلدان الربيع العربي لا ينم على مؤشرات الثورة التي عرفتها بعض الشعوب الأخرى سابقا؟ ورغم أن شعوب الربيع العربي لم تنتفض من أجل الإصلاح السياسي بل أساسا من أجل مطالب اجتماعية إلا أنها سرعان ما أدركت بفضل النخب التي التحقت بها أنه لا يمكن تحقيقها بدونه، واستدركت أن الإصلاح السياسي كان مطلبا تاريخيا منذ أن وعت وخاضت نخب الأجيال السابقة معركة الخروج من التخلف. بقدر ما وعت هذه النخب بأزمة التخلف إلا أنها لم تستطع الاتفاق على تصور موحد لأسباب الأزمة ولا لكيفية الخروج منها، وكان ذلك بسبب الازدواجية الثقافية التي طبعت الثقافة العربية عموما والتي أدت إلى الانقسام الإيديولوجي والسياسي على مستوى النخبة التي لم تعرف التوافق إلا في مقاومتها للاستعمار. استمر هذا الانقسام إلى ما بعد الاستقلال وظهور الدولة الوطنية الحديثة التي لم تتبن المشروع الحداثي النهضوي في بعده السياسي، وخاضت معركة التنمية الاقتصادية بدون الاهتمام بالتنمية السياسية التي تعتبر شرطا ضروريا ومسبقا. ازداد الانقسام الإيديولوجي عمقا واحتقانا منذ الاستقلال بسبب توظيف السلطة الحاكمة له حتى تضمن وتحافظ على مصالحها السياسية والحزبية وغيرها.

والسؤال الذي يطرح نفسه في ظل الأوضاع الراهنة وما توفره من هامش للحرية هو: هل يمكن للقوى الاجتماعية بكل تياراتها الإيديولوجية وأحزابها السياسية أن تتجاوز صراعاتها التاريخية وتضع اللبنة الأولى للإصلاح السياسي الذي طالما كان طموحا ومن أجل المصلحة العليا للوطن؟ هل يمثل التوافق الإيديولوجي شرطا أوليا للتوافق السياسي أم العكس باعتبار أن الإطار السياسي هو شرط من شروط التوافق؟ لا شك أن التوافق الإيديولوجي صعب في الظرف الراهن وعلى القوى الاجتماعية أن تجعل من السلم الاجتماعي وضرورة العيش المشترك قاسما مشتركا وأفقا جديدا للحوار رغم الخلاف الإيديولوجي الذي يجب أن يكون بدوره أساسا لحوار مستقبلي حتى يحسم أصل الخلاف بشكل نهائي. لا شك أن التجربة السياسية التي خاضتها القوى الاجتماعية في بلدان الربيع العربي ولا سيما في تونس قد ساهمت في تقريب وجهات النظر وساهمت في تبديد المخاوف وأزمة الثقة وأثبتت ولو نسبيا أن المشروع الإصلاحي الإسلامي والإسلام ليسا مناقضين للحداثة والتحديث والأخذ بشروط ومقتضيات النهضة والإصلاح.

* * *

الهوامش

(1) أرسطو، في السياسة، ترجمة: الأب أوغسطينس برباره البولسي، مراجعة: غالب الناهي، بالتعاون مع اللجنة الوطنية اللبنانية اليونسكو، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2012، ص 104-105.

(2) Marc Angenot, Dialogue de Sourds, Traité de rhétorique antilogique, Paris, Mille et une nuits, 2008, p.52.

(3) محمد أبو زهرة، تاريخ الجدل، دار الفكر العربي، المكتبة الالكترونية. مقدمة الطبعة حررت بتاريخ 1934، ص 5.

(4) مصطفى الوظيفي، المناظرة في أصول التشريع الاسلامي (دراسة في التناظر ابن حزم والباجي)، 1998، المكتبة الالكترونية، ص 7.

 (5) Daniel Innerarity, La démocratie sans l’Ètat, Paris, Climats, 2006, p. 57.

(6) المصدر السابق، ص 134.

(7) Georges Simmel, Le conflit, Circé, Paris, 1992.

(8) Gil Delannoi, Pascal Hintermeyer, Philippe Raynaud, Pierre-André Taguieff (Direction), Julien Freund La dynamique des conflits. Berg International, Paris, 2010, p. 8..

(9) المصدر السابق، ص 9.

(10) Jean Roy, Julien Freund, phénoménologue et défenseur du primat du politique, in Julien Freund La dynamique du conflit, p. 17.

(11) Lewis a. Coser, Les fonctions du conflit social, Puf, Paris, 1982, p. 9.

(12) المصدر السابق، ص 10.

(13) المصدر السابق، ص 9.

(14) المصدر السابق، ص 10.

(15) المصدر السابق، ص 34.

(16) المصدر السابق، ص 52.

(17) المصدر السابق، ص 65.

(18) المصدر السابق، ص 83-84.

(19) المصدر السابق، ص 85-86.

(20) المصدر السابق، ص 88.

(21) المصدر السابق، ص 95.

(22) المصدر السابق، ص 103- 104.

(23) Marc Angenot, Dialogues de Sourds, Traité de réthorique antilogique, Paris, Mille et une nuits, 2008, p. 15.

(24) المصدر السابق، ص 133.

(25) Jurguen Habermas, Théorie de l’agir communicationnel, Paris, Fayard, 1987.

(26) زكي نجيب محمود، في مفترق الطرق، دار الشروق، الطبعة الثانية، 1993، ص 49.

(27) المصدر السابق، ص 317.

(28) زكي نجيب محمود، عربي بين ثقافتين، دار الشروق الطبعة الثانية، 1993، ص 7.

(29) المصدر السابق، ص 256. كان لهذه الفكرة تأثير كبير على الخطاب العربي ولا سيما الإسلامي في مصر فقد أدت إلى بروز تيار بأكمله يعمل في هذه الوجهة وانبثق عنها فيما بعد تيار المنظور الحضاري.

(30) محمد عابد الجابري. المشروع النهضوي العربي، مراجعة نقدية. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1996.

(31) محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة 1، 1986.

 (32) Hichem Djait, La crise de la culture islamique, Fayard, Paris, 2004.

(33) برهان غليون. اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية. دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 1985.

(34) محمد جابر الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد، كيف احتوت التوفيقية الصراع المحظور بين الأصولية والعلمانية والحسم المؤجل بين الإسلام والغرب: تشخيص حالة اللاحسم في الحياة العربية والاحتواء التوفيقي للجدليات المحظورة. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة 1، 1996. تحدث كذلك عن إشكالية التوفيق في كتاب تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930- 1970، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1980.

(35) لا بد من الإشارة إلى أن هذا الخطاب العربي الإسلامي لم يكن توفيقيا في بعض فتراته التاريخية وغلب عليه منطق الصراع.

(36) أود أن ألفت نظر القارئ إلى أني قد تناولت نشأة إشكالية التحديث في رسالة الدكتوراه التي كانت بعنوان قراءة نقدية للخطاب العربي الاسلامي الحديث في ضوء إشكالية التحديث (الطهطاوي، محمد عبده، محمد رشيد رضا، حسن البنا، سيد قطب وراشد الغنوشي) والتي تم مناقشتها يوم 16-01- 2013 بجامعة كيباك بمونتريال كندا. بالتالي ليست هناك حاجة إلى التوثيق المكثف لهذا الجزء الأول من المقال.

(37) تكلم عن هذا في كتابه الرد على الدهريين الذي قام بترجمته الأستاذ الإمام محمد عبده.

(38) وصف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر عملية التحديث التي خاضتها المجتمعات الغربية بعملية ترشيد (processus de rationalisation) وكانت في الآن نفسه عملية علمنة للمجتمع (processus de laïcisation de la société) . كان الأمر كذلك بالنسبة للمجتمعات العربية لكن بنسب جزئية.

(39)Georges Simmel, Le conflit, Circé, Paris, 1992, p. 13.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر