أبحاث

أبجدية فكرة إسلامية المعرفة في العلوم الاجتماعية

العدد 157- 158

فكرة إسلامية المعرفة:

تركز فكرة إسلامية المعرفة على ضرورة إدماج الرؤية الإسلامية في رصيد معرفة العلوم الاجتماعية والطبيعية على حد سواء. لقد تبنى وقاد هذا المشروع الراحل الأستاذ إسماعيل راجي الفاروقي وزملاؤه في الثمانينات من القرن العشرين. يرى فريق هذه الحركة الفكرية أن عملية إسلامية المعرفة تشمل المعالم التالية:

1- إثبات مواءمة وموافقة الرؤية الإسلامية لكل تخصص معرفي في رصيد المعرفة المعاصرة.

2- البحث عن طرق مبتكرة لكسب رهان التناسق بين التراث المعرفي الإسلامي ومعرفة هذا العصر.

3- تتلخص فكرة إسلامية المعرفة عند أصحابها في بعض المبادئ، نقتصر على ذكر البعض منها فقط،:

أ- وحدة المعرفة أو الحقيقة بحيث يجوز القول بأن نظرية المعرفة في الإسلام تسعى إلى كسب رهان وحدة الحقيقة بين التخصصات المعرفية والعلمية القديمة والحديثة.

ب- يؤكد مبدأ وحدة المعرفة في التصور الإسلامي على غياب التناقض والاختلاف بين معارف العقل والنقل/الوحي.

ت – ينادي المنظور الإسلامي للمعرفة والعلوم بصوت عال بوحدة الجنس البشري (وحدة الإنسانية). وبالطبع، فالناس لهم معالم مختلفة مثل ألوان بشرتهم وأصولهم العرقية وطول وقصر قاماتهم الجسدية ولغاتهم وثقافاتهم وشخصياتهم القاعدية. فهذه الفروق لا تسمح في الرؤية الإسلامية بتميّز الناس على بعضهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).

ث – يرى المنظور الإسلامي أنعلم الانثروبولوجيا المعاصرقد شوّه فكرة وحدة البشر، إذ ينظر إلى البشر في المقام الأول باعتبارهم أعراقا مختلفة. ساعدت هذه الرؤية في القرنين الماضيين على فسخ فكرة وحدة الإنسانية وإبدالها بالانتماء العرقي الذي أدى إلى تمييز المجموعات البشرية عن بعضها البعض. وعلى هذا الأساس، ترى الرؤية المعرفية الإسلامية أن التخصصات الأدبية في العلوم الإنسانية والاجتماعية في الغرب الحديث يجب أن تقع مراجعتها بالكامل. (al Faruqi 1982:22-38).

أضواء فكرية على مشروعية إسلامية المعرفة:                  

توجد عدة أسباب تؤهل فكرة إسلامية المعرفة ليس للطرح فحسب وإنما أيضا للتحقيق كما تبين النقاط الثلاث التالية:                  

أولا: المستوى النظري                                      

يمكن للمرء أن يجادل بإطناب أغلبية علماء الاجتماع العرب وغيرهم لكي يشكك – على الأقل- في أسس نكرانهم لمشروعية قبول وجود علوم اجتماعية ذات رؤية إسلامية كفرع معرفي ذي مصداقية في فهم وتفسير شؤون الأفراد والمجتمعات البشرية.فلا يجوز على المستوى النظري، مثلا، إقصاء الإسلام عن إمكانية إنشاء علوم اجتماعية إسلامية. إذ أن للعقيدة الإسلامية بكل تأكيد رؤية شاملة وتفصيلية حول الإنسان وسلوكياته، من ناحية، وحول المجتمع كنسق اجتماعي متكامل، من ناحية ثانية. ومن ثم، فالإسلام ذو مشروعية مثله مثل الرأسمالية أو الاشتراكية لتأسيس علوم اجتماعية تتماشى مع رؤيته للفرد والمجتمع اللذين يعتبران الركيزتين الرئيسيتين لنشأة علم العمران البشري الخلدوني أو علم الاجتماع المعاصر. وذلك بكل بساطة هو معنى إسلامية معرفة العلوم الاجتماعية في هذا البحث، والمتمثل في أن يقع فهمُ وتفسيرُ الظواهر الفردية والجماعية في المجتمع وفقا لرؤية الإسلام للفرد والجماعة والمجتمع (وافي: الجزء الأول 1977 ورضوان 1982).

ثانيا: وحدة العقل والنقل في المقدمة

 لقد نجح ابن خلدون في اكتشاف علمه الجديد (علم العمران البشري) وإرساء أسسه عبر الملاحظات الميدانية والمفاهيم والنظريات الجديدة التي توصل إليها من خلال دراسته لمكونات المجتمعات العربية الإسلامية في المغرب العربي على الخصوص. لقد أنجز ذلك التفكير الاجتماعي الرائد دون أن يفصل بين معرفته العقلية ومعرفته النقلية في تحليله وفهمه وتفسيره لشؤون الأفراد والمجتمعات. ويكفي التوقف عند مثال واحد يطبق فيه ابن خلدون بالكامل منهجية العقل المسلم الأصيل الذي يجمع بين تحليل وتفسير العقل البشري للظواهر، من جهة، وتفسير النقل (القرآن في هذه الحالة) من ناحية أخرى. فبتعبير العلوم الاجتماعية الحديثة، لقد وجد صاحب المقدمة علاقة ارتباط قوية correlationبين انتشار ظاهرة الترف في المجتمعات العربية الإسلامية وظهور عديد المشاكل المقترنة بحضارة الترف التي تقود في نهاية الأمر إلى انهيار تلك المجتمعات. فبعد قيامه ميدانيا بمشاهدة الآثار السلبية لثقافة الترف على الأفراد والمجتمعات في مدن منطقة المغرب العربي والإفاضة في تحليلها بالمنظور العقلي، يذهب ابن خلدون إلى المعرفة النقلية (القرآن) ليعزز بها مصداقية ملاحظاته الميدانية وتحليلاته العقلية كعالم مسلم ومؤسس لعلم العمران البشري (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (سورة الإسراء: 16). (ابن خلدون 1993: 294). وهكذا يصح القول بأن النشأةالأولى لعلم الاجتماع – علم العمران البشري الخلدوني – كفرع علمي مستقل كانت نشأة في أحضان الثقافة الإسلامية الحمّالة لروح إسلامية المعرفة في عملها المعرفي الرافع لعلم الجمع بين العقل والنقل، وهو منهج إسلامي أصيل مسكون بنبض إسلامية المعرفة. لم يحرم تبني صاحب المقدمة لهذا المنهج من الإبداع والابتكار في علمه الجديد. فهناك إجماع قوي في الشرق والغرب أن ابن خلدون العلاّمة المسلم هو المؤسس الأول في تاريخ البشرية جمعاء لفكر اجتماعي/سوسيولوجي (علم العمران البشري) عملاق قبل قرون من ميلاد أوغيسط كونت August Comteفي فرنسا. يتحدث ابن خلدون نفسه عن الجذور الإسلامية لعلمه الجديد المتأثر في العمق بالرؤية المعرفية الإسلامية التي تحرص على الجمع بين العقل والنقل “وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك، وأعطيته حقه من التصفح والتفهم، عثرتَ في أثنائه على تفسير هذه الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفى بيّنا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبدان” (ابن خلدون 1993:30). ويؤكد المؤلف مصطفى الشكعة بأن نظرية العمران عند ابن خلدون هي إسلامية الطبيعة من البداية إلى النهاية (الشكعة:1992: 100-130). وهكذا،فإن نشأة علم العمران الخلدوني انطلاقا من مرجعية ثقافية إسلامية (إسلامية المعرفة) يعطي مشروعية كبيرة للمناداة والعمل على أسلمة العلوم الاجتماعية في العالمين العربي والإسلامي، كما يتمثل ذلك اليوم في المسيرة الثقافية للمعهد العالمي للفكر الإسلامي على الخصوص (al Faruqi 1982:22-38).

وفي الواقع إنها لمفارقة تدعو إلى التعجب والدهشة أن ينكر الكثيرون من علماء الاجتماع العرب وغيرهم في الشرق والغرب قدرة الفكر الإسلامي صاحب منظور إسلامية المعرفة على إنشاء علم الاجتماع الإسلامي، والحال -كما رأينا- أن ميلاد علم العمران البشري/علم الاجتماع كتخصص علمي مستقل بذاته تم أولا وبالذات في أرض وثقافة إسلامية تجمع بين العقل والنقل (إسلامية المعرفة) من طرف العلاّمة المسلم عبد الرحمان ابن خلدون الذي اعتمد تفكيره العمراني الجديد على نور العقل وهداية النقل (Dhaouadi 2005:585-591).

ثالثا: حرج العقل الغربي من إسلامية المعرفة

إن النجاح الباهر الذي حققه العقل الخلدوني – الجامع بين العقل والنقل (منظور إسلامية المعرفة)- في ميلاد ووضع الحجر الأساس لعلم العمران البشري/علم الاجتماع الجديد يطرحأسئلة فيها الكثير من التحديلمسلَّمات وقناعات العقل العلمي الغربي الحديث. فهذا الأخير يعتقد ويدعي أن كسب رهان العلم الحقيقي والمعرفة الأصيلة والصحيحة لا يمكن تحقيقهما إذا لم يقع الفصل الكامل بين الدين والعلم. لكن الشهرة العالمية لفكر ابن خلدون العمراني/ السوسيولوجي ذي الرؤية المعرفية الإسلامية كما نجده في مقدمته يُفنٍّد مسلَّمات واعتقاد العقل الغربي الحديث بالنسبة للعلاقة بين الدين والعلم. فهما ليسا بالضرورة دائما في حالة تناقض وعداء كما هو الأمر في الثقافة الغربية المعاصرة، وإنما هما قد ينعمان بالتعاون والانسجام كما عرفت ذلك الثقافة العربية والإسلامية عند أبرز علمائها ومفكريها وفي طليعتهم ابن خلدون. ومن ثم، ينبغي فهم وتفسير إدعاءات العقل الغربي المعاصر انطلاقا من التجربة الغربية الحمّالة لبذور الصراع الخاصة بين الكنيسة، من جهة، والعلماء والمثقفين، من جهة أخرى. فليس من الموضوعية إذن تعميم هذه التجربة الغربية على تجارب ديانات وثقافات أخرى مع علمائها ومثقفيها. فالعقل المسلم الخلدوني المتبني لمنظور إسلامية المعرفة والمؤلف للعمارة الفكرية الشاهقة في علم الإنسان والمجتمع – في أبواب وفصول مقدمته الشهيرة- يطرح بالتأكيد تحديا جوهريا على إدعاءات العقل الغربي المعاصر الذي لا يكاد يستطيع أن يصدّق قدرة فكر صاحب المقدمة الإسلامي المعرفي على تأليفها في ذلك المستوى العالي من التماسك والوضوح ناهيك عن ابتكار علم جديد كامل فيها. إن فلاح المشروع الخلدوني في تأسيس علم العمران البشري يُكذّب مقولة ضرورة غياب المعاشرة بين العلم والدين في أخلاقيات العلم الحديث، وهو يفتح بذلك الباب عريضا للعلماء والمفكرين في كل الثقافات للبحث عن أكثر من طريق ودرب من أجل إنشاء وإرساء علوم ومعارف صلبة العود والمصداقية في ما يسميه العالم البريطاني سنو C.P.Snowبالثقافتين: The Two Cultures(Snow 1963). وهناك اليوم معالمُ جديدة في دنيا الفكر والعلم في الغرب ترغب وتبشر بوضع حد للطلاق بين الدين والعلم (Clayton, Simpson 2009). ويصح إدراج هذا التوجه الجديد في العلاقة بين العلم والدين أو العقل والنقل في رؤية فكر ما بعد الحداثيين  (Lyotard 1984)) وينبغي في هذا السياق أن تعزز تلك المعطيات موضوعيا مقولة إسلامية المعرفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية في العالمين العربي والإسلامي على الخصوص.

إسلامية المعرفة ودراسة ظواهر محدَّدة:

لا تقتصر فكرة إسلامية المعرفة عندنا على مجرد تبني المبادئ العامة لمدرسة الفاروقي ورفاقه بل تتجاوز ذلك إلى مستويات خاصة نتعامل فيها مع فهم وتفسير ظواهر بشرية خاصة ومحددة. فالنقلة من العام إلى الخاص تتشابه مع النقلة في مسيرة البحوث من الإطار النظري العام إلى الحقل الميداني لدراسة الظواهر في العلوم الاجتماعية وغيرها. وهو تحوّل منهجي بحثي يضفي مشروعية متينة على مقولة إسلامية المعرفة. فإلقاء الضوء على فهم وتفسير بعض الظواهر المعينة لصالح إسلامية المعرفة تم لدينا بطريقتين:

1- تفيد تجربتنا أننا نبدأ في الغالب باستعمال المنهجية الوضعية في دراسة الظواهر والمتمثلة في الملاحظة وتجميع المعطيات وتصنيف الأشياء والظواهر المدروسة إلخ…

2- أما الطريقة الثانية فهي قد بدأت دراسة الظاهرة انطلاقا من مضمون نص النقل (القرآن الكريم) فأصبح مضمون النص ميدانا لأضواء العقل لكسب رهان دلالات ومعاني ما جاء في نص النقل وفهم ذلك وتفسيره.

تتلخص طريقتنا الأولى في السعي لتأكيد مصداقية مقولتنا الفكرية النظرية والمنادية بأن الجنس البشري ينفرد عن غيره من الأجناس الأخرى بما نسميه “منظومة الرموز الثقافية” أي أن الإنسان هو كائن ثقافي بالطبع. وبعد التفكيك المنهجي العقلي والوضعي لصلب هذه المقولة ننظر إلى موقف الرؤية الإسلامية القرآنية من الموضوع من خلال تأويل جديد لمعنى كلمة “روحي” في الآية القرآنية “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ“.

أما طريقتنا الثانية لصالح إسلامية المعرفة بالنسبة لمركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان فهي تتمثل في محاولة فهم وتفسير – على ضوء التحليل المنهجي الوضعي للعلوم الاجتماعية- لماذا يتقدم ذكر كلمة السمع ومشتقاتها على كلمة البصر ومشتقاتها في آيات القرآن الكريم. لنبدأ بشرح مقولة “الإنسان كائن ثقافي بالطبع”.

الإنسان كائن ثقافي بالطبع:

تقول رؤية الرموز الثقافية عندنا إن الإنسان كائن رموزي ثقافي بالطبع قبل أن يكون اجتماعيا بالطبع. أي أن جوهر الإنسان المميز له عن بقية الكائنات يتمثل في مجموعة من الرموز الثقافية (اللغة المنطوقة والمكتوبة والفكر والدين والمعرفة/ العلم والقوانينوالأساطير والقيم والمعايير الثقافية…) أي أن منظومة الرموز الثقافية تحتل المركزية الأولى في هوية الإنسان. ومن ثم، نؤكد أن أي تحليل لمفهوم الطبيعة البشرية يجب أن تحتلفيه الرموز الثقافية مكان الصدارة (الذوادي2005 أ: 55- 66) تستند مقولتنا هذه علىملاحظات ميدانيةرئيسيةحولخمسة معالمينفرد بها الجنس البشريعن غيره من الأجناس الحية الأخرى:

1. يتصف النمو الجسمي لأفراد الجنس البشري ببطء شديد مقارنة بسرعة النمو الجسدي الذي نجده عند بقية الكائنات.

2. يتمتع أفراد الجنس البشري بأمد حياة (سن) أطول من عمر معظم أفراد معظم الحيوانات.

3. ينفرد الجنس البشري بلعب دور السيادة / الخلافة على وجه هذه الأرض بدون منافسة حقيقية له من طرف باقي الأجناس الأخرى.

4. يتميّز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن الأجناس الأخرى بمنظومة ما أطلقنا عليه سابقاً مصطلح الرموز الثقافية: اللغة المنطوقة والمكتوبة والفكر والدين والمعرفة/ العلم والقوانين و الأساطير و القيم والمعايير الثقافية…

5. يختص أفراد الجنس البشري بهوية مزدوجة تتكوّن من الجانب الجسدي، من ناحية، والجانب الرموزي الثقافي (المشار إليه أعلاه في 4)، من ناحية ثانية. والسؤال البحثي والفكري المشروع بهذا الصدد هو: هل من علاقة بين تلك المعالم الخمسة التي يتميّزبهاالإنسان؟

 هناك علاقة مباشرة بين المعلمين 1 و 2. إذ أن النمو الجسمي البطيء عند أفراد الجنس البشري يؤدي بالضرورة إلى حاجتهم إلى معدل سن أطول يمكِّنهم من تحقيق مراحل النمو والنضج المختلفة والمتعددة المستويات. أما الهوية المزدوجة التي يتصف بها الإنسان فإنها أيضا ذات علاقة مباشرة بالعنصر الجسدي (المعلم 1) للإنسان، من جهة، والعنصر الرموزي الثقافي (المعلم 4)، من جهة أخرى.

 أما سيادة الجنس البشري على بقية الأجناس الأخرى، فهي ذات علاقة قوية ومباشرة بالمعلمين 4 و5: الهوية المزدوجة والرموز الثقافية. والعنصر المشترك بين هذين المعلمين هو منظومة الرموز الثقافية. وهكذا يتجلى الدور المركزي والحاسم لمنظومة الرموز الثقافية في تمكين الإنسان وحده من السيادة / الخلافة في هذا العالم.

 ومن ناحية ثالثة، فقد كاتبت المجلة الأمريكية Scientific Americanسائلا عن تفسير علمي لسبب بطء النمو الجسدي عند بني البشر. فلاذ المسؤولون في المجلة بالصمت لما يقرب السنة. وعندما أتاني الرد في 19 أكتوبر 2005 كان خاليا من الإجابة عن سؤالي. إذ اكتفت مراسلتهم الإلكترونية بالنصيحة التالية: “الرجاء تصفح المواقع الإلكترونية لعلم الأنثروبولوجيا لعلك تعثر على إجابة لسؤالكم”. وفي هذا إشارة إلى أن العلوم الإنسانية والاجتماعية هي التي ربما تملك الإجابة وليست ما يسمى بالعلوم الصحيحة/ الطبيعية.

مقدرة رؤيتنا على التفسير:

وفي غياب معلومات علمية حول الموضوع من هذه المجلة الأمريكية المشهورة رأيت طرح فرضية للتفسير:

إن الرموز الثقافية تسمح بتفسير المعلمين 1 و2. فالنمو الجسمي البطيء عند الإنسان يمكن إرجاعه إلى أن عملية النمو الكاملة عنده تشمل جبهتين: الجبهة الجسمية والجبهة الرموزية الثقافية. وهذا خلافا للنمو الجسدي السـريع عند الكائنات الأخـرى بسـبب فقدانها

لمنظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الواسع والمعقد. وهذا يعني باختصار أن نمو الكائن البشري علىمستويين يؤدي بالضرورة إلى بطء عملية النمو ككل عنده، أي على الجبهتين. وبعبارة أخرى، فانصراف كل جهود عملية النمو عند الإنسان إلى جبهتين – لا جبهة واحدة – يعطل سرعة النمو على الجبهتين عند الإنسان:أي إلى بطء في النمو الجسدي وبطء أيضا في النمو الرموزي الثقافي.

يلخص الرسم التالي مركزية الرموز الثقافية في ذات الإنسان، فيعطي بذلك مشروعية قوية لرؤيتنا في هذه الدراسة والقائلة بأن الإنسان كائن رموزي ثقافي بالطبع. أي أن الرموز الثقافية تمثل المركزية الأولى في هوية الجنس البشري.

وهناك مشروعية كبيرة لوصف هذا الإطار التحليلي للرموز الثقافية بأنه يمثل رؤية فكرية نظرية. إذ تُعرَّف النظرية بأنها ذلك الإطار الفكري الذي يفسر عددا من الظواهر المختلفة [Turner 2001: 1-17]. وهذا ما يقوم به منظور الرموز الثقافية عندنا.

فالمعالم 1، 2، 3، و5 المميزة للإنسان في الرسم هي حصيلة لمركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان. ومن هنا تأتي مصداقية استعمال الرموز الثقافية لبناء رؤية فكرية نظرية لفهم وتفسير طبيعة الإنسان وسلوكيات الناس وشؤون مجتمعاتهم.

البيولوجيا الرموزية الثقافية:

إن مركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان كما تتجلى في الرسم أدت عندنا إلى ابتكار مفهوم جديد نسميه البيولوجيا الرموزية الثقافيةCultural Symbolic Biology، أي أن الرموز الثقافية تؤثر حتى في هندسة جسد الإنسان من حيث بطء نموه وطول أمد حياته. إنه مفهوم معاكس لمفهوم السوسيوبيولوجيا Sociobiologyالذي يرى أنه يمكن تفسير الكثير من السلوكيات الاجتماعية والثقافية البشرية انطلاقا من معطيات بيولوجية (Wilson 1975). وتجدر الإشارة هنا إلى أن المدارس الفكرية والنظريات المعاصرة في العلوم الاجتماعية لا تتبنى، كما هو الأمر عندنا هنا، كون الرموز الثقافية هي المركز ذو الثقل الأول في تشكيل هوية الإنسان وسلوكياته وحركة المجتمعات والحضارات الإنسانية. ينطبق هذا على الماركسية والبنيوية والتحليل النفسي والسلوكية Behaviorismوغيرها من نظريات ومدارس العلوم الاجتماعية الغربية الحديثة. وهكذا يتضح، وفقا لرؤية علم الاجتماع الثقافي أن رؤيتنا الفكرية في هذا البحث هي صاحبة برنامج قوي بينما تتصف تلك المدارس والنظريات ببرنامج ضعيف وفقا لاصطلاح علم الاجتماع الثقافي ((Turner 2001، فبرهان التحليل العقلي في السطور السابقة يبرز مركزية منظومة الرموز الثقافية في هوية الإنسان. فهل تتشابه أو تتماثل الرؤية القرآنية مع ذلك؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فإن مسحة أسلمة المعرفة تصبح لها مشروعية في الصميم، أي إنه يصبح ممكنا فهم وتفسير الظواهر من خلال منظور إسلامية المعرفة. دعنا، إذن، نبحث في مركزية الرموز الثقافية في هوية الإنسان من وجهة نظر الرؤية الإسلامية التي يحتضنها النص القرآني.

البرنامج الثقافي القوي للقرآن الكريم:

إن مسيرتنا الفكرية تنتمي بقوة إلى علم الاجتماع الثقافي الذي يعتبر أن منظومة الرموز الثقافية هي متغير مستقل independent variableومركزي في هوية الإنسان كما بيَّنا أعلاه. ففي رأي عالم الاجتماع الروسي سيمشكو Semashkoإن فترة ما قبل 1960 لعلماء الاجتماع ينظر إليها عالمُ الاجتماع الأمريكي ج.ألكسندر J.Alexanderبأنها فترة تتصف ببرنامج ضعيف في النظرية الاجتماعية للثقافة، أي أن منظومة الثقافة تلقى تهميشا عند رواد علم الاجتماع الغربي ومن جاء بعدهم. تشمل هذه الفترة علم الاجتماع عند كل من فيبر ودوركهايم وماركس وملس Millsوآخرين وكذلك علماء الاجتماع الشيوعيين والفاشيين (Semashko 2006: 836). يعتقد ألكسندر بأن تيار البرنامج الضعيف لا يزال هوالسائد في الفترة الحديثة (أي بعد 1960) كما يتبين ذلك في أعمال مدرسة برمنغهام وفكر بورديو وفوكو ونظرية إنتاج واستهلاك الثقافة.

لقد غيّر عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي كليفورد جيرتس Clifford Geertzمكانة الثقافة في منظورات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة (Geertz 1964). فالثقافة، في نظر جيرتس، ذات استقلالية autonomyوأن المجتمعات البشرية تشبه النصوص المكتوبة حيث تعتبر قراءة معانيها أمرا مركزيا. يعتقد ألكسندر أن اعتراف علماء الاجتماع الثقافيين باستقلالية الثقافة هو أهم مؤشر للبرنامج القوي في دراسة الثقافة (Alexander 2003: 13).

يزكي المنظور القرآني توجه البرنامج القوي لدراسة الثقافة الذي ينادي به كل من جيرتس ومسيرتنا البحثية في تطوير البحث في مفهوم الثقافة. إن التأويل العميق للنص القرآني أدى بنا إلى استنتاج أن القرآن له برنامج قوي في التعامل مع ظاهرة الثقافة. وبعبارة أخرى، إن القرآن يعتبر البشر كائنات رموزية ثقافية في العمق. ولكي نتعرف على طبيعة الرموز الثقافية وكذلك على أهميتها في هوية الإنسان في المنظور القرآني، فإنه ليس هناك أفضل من القرآن الكريم نفسه الذي هو المرجع الأول للإسلام. ومن ثم، نحاول هنا تقديم الرؤية المعرفية القرآنية لطبيعة منظومة الرموز الثقافة. وإذا نجحت قراءتنا في فهم مضمون الآيات القرآنية التي لها علاقة بالرموز الثقافية فإننا نكون قد سلحنا أنفسنا بمفهوم إسلامي للثقافة يشجع الباحث على ترشيحه للمقارنة وربما المنافسة مع مفهوم الثقافة كما وقع ويقع استعماله في العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية المعاصرة. و يجوز أن تساعد هذه العملية المعرفية على بناء مفهوم للثقافة ذي مصداقية أكبربالنسبة للباحثين المهتمين بالشأن الثقافي من وجهة الرؤية المعرفية الإسلامية على الخصوص. وإذا وجدنا أن الرؤية القرآنية للرموز الثقافية تتشابه أو تتطابق مع تحليلنا المنهجي السابق حول الرموز الثقافية، فإننا نكون قد وُفقنا للجمع بين العقل والنقل وهي المنهجية المثالية في الفكر الإسلامي الأصيل والتي هي في نهاية المطاف منهجية إسلامية المعرفة.

معالم رؤية القرآن للرموز الثقافية:

إن منهجيتنا في استكشاف الرموز الثقافية وطبيعتها في النص القرآني تتكون من ثلاث خطوات:

– هل هناك إشارات واضحة في القرآن تميز الإنسان عن غيره في خلافته لله على الأرض؟

– العثور على آيات قرآنية تتحدث بصراحة مطلقة عن تميز الجنس البشري عن بقية الأجناس الحية الأخرى.

– إلى أي شيء ترجع الآيات القرآنية تميز وتفوق الجنس البشري؟

1- يحفل النص القرآني بالآيات التي تعطي مكانة خاصة ومتميزة للإنسان من بين كل المخلوقات الأخرى سواء كانت كائنات روحية كالملائكة أو حيوانات ودواب أخرى تعيش على هذه الأرض مثل الإنسان. وبعبارة أخرى، فصورة الإنسان في القرآن هي صورة الكائن الفريدالذي يحتل المرتبة الأولى بعد الله على وجه الأرض. ومن ثم، فلا منازع له على الإطلاق في تأهله لإدارة شؤون هذا العالم وأخذ مقاليد السيادة (الخلافة) فيه. ولندع آيات القرآن تشخص لنا بقوة تلك المكانة الفريدة التي يتمتع بها الجنس البشري وحده بين كل الكائنات الأخرى. ونقتصر هنا على إبراز ذلك عبر خمس حالات تحدث فيها القرآن بكل وضوح عن تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات الأخرى. ففي الآية 30 من سورة البقرة يصف القرآن آدم الإنسان بأنه خليفة الله في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ولا يحتاج المرء هنا إلى شرح مدى أهمية هذا المنصب (خلافة الله في الأرض الذي وُلّيها الإنسان وحده دون سواه من الملائكة والمخلوقات الأخرى على الأرض).

2- أما ميزات الإنسان المطلقة التي تتحدث عنها الآيات القرآنية الثلاث (31-32-33) من نفس السورة، فهي تتمثل في اصطفاء الله لآدم بالمعرفة والعلم أكثر من غيره بما فيهم الملائكة (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ).

ونتيجة للميزتين السابقتين اللتين حُرمت منهما الملائكة وبقية الكائنات وحصل عليهما الإنسان وحده جاء أمر الله للملائكة بالسجود لآدم دون غيره كعلامة تكريم وتمييز ثالثةلآدم (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) أما الآية (70) من سورة الإسراء فهي تستعمل فعليْ “كرم” “وفضل” لإبراز سمتيْ تميز بني آدم عن غيرهم من مخلوقات الأرض (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).

فهذه الآيات القرآنية توضح بما لا يدع مجالا للشك بأن الإنسان كائن خاص متميز على غيره من مخلوقات الأرض والملائكة.ومنه، فالرؤية القرآنية للجنس البشري تمثل قطيعة معرفية كاملة مع نظرية التطور عند داروين وأصحابه، إذ أن خلق آدم في الرؤية القرآنية يمثل حالة خاصة في الخلق، هي في قطيعة مع كل من الملائكة وعوالم المخلوقات هنا على الأرض. إن خلق ادم تميز عن غيره بواسطة هبة المعرفة / العلم التي أعطاها إياه الله دون سواه. فبهذه المقدرة المعرفية العالية جاءت مشروعية خلافة آدم لله بتكريمه وبتفضيله في الأرض وسجود الملائكة له.

3- تربط آيتان من القرآن سجود الملائكة لآدم بنفخ روح الله فيه. فآية “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ“، نجدها مكررة مرتين في سورتي الحجر (15) وص (38).

إن التساؤل عن معنى كلمة “روحي” الواردة في السورتين تساؤل مشروع جدا لأن الصيغة التركيبية لكلمات الآية تفيد بأن طلب سجود الملائكة لآدم تلا نفخَ روح الله فيه، أي أن هناك علاقة قوية، إن لم تكن سببية بين عملية نفخ الروح الإلهية في آدم ودعوة الله الملائكة إلى السجود له. وكما هو معروف، فإن كلمة الروح في القرآن أتت بمعان مختلفة وفي طليعتها بث الحياة في الكائنات. إن اطّلاعنا على عدد من كتب المفسرين لكلمة “روحي” في هذه الآية يشير إلى أن معظمهم رأى أن لفظ “روحي” هنا يعني القدرة على بث الحياة في الكائنات. فتفسير الجلالين [الجلالين 1993] يقول: “وإضافة الروح إليه تشريف لآدم. والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه…”. أما المفسر السوري عفيف عبد الفتاح طبارة فيقدم لنا هذا الشرح التفسيري لمعنى كلمة “روحي” في الآية: “ونفخت فيه من قدرتي، أو بعبارة أخرى فإذا أفضت عليه ما يحيا به من الروح التي هي من أمري.. فخروا له ساجدين” [طبارة، ص23].

ونختم بتفسير الشيخ متولي الشعراوي أشهر المفسرين المصريين في العصر الحديث فيصوغ معنى روح الله ونفخها في آدم كالتالي: “والنفخ من روح الله لا يعني أن النفخ قد تم بدفع الحياة عن طريق الهواء في فم آدم. ولكن الأمر تمثيل لانتشار الروح في جميع أجزاء الجسد. وقد اختلف العلماء في تعريف الروح، وأرى أنه من الأسلم عدم الخوض في ذلك الأمر لأن الحق سبحانه هو القائل (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الشعراوي المجلد 12].

فواضح من مضمون هذه التفاسير أن معنى لفظ “روحي” اقتصر على مجرد معنى قدرة الله على بث الحياة في آدم التي لا يعرف البشر أسرارها ومن ثم دعا الشيخ الشعراوي إلى تحاشي الخوض فيها.

التأويل الثقافي لكلمة “روحي”:

إن الاقتصار على التفسير المذكور أعلاه لمعنى كلمة “روحي” لا يسمح لآدم الإنسان وحدهبتبني منصب خلافة الله في الأرض وسجود الملائكة له تكريما لخصوصية وتميز خلقه. فالله لم يبث الحياة في الإنسان فقط بل بثها أيضا في كل الكائنات الحية. وبالتالي فمجرد بث الحياة في الإنسان لا تؤهله وحده إلى خلافة الله هنا على الأرض. فلابد، إذن، من البحث عن معنى آخر للفظ “روحي” يفسر بقوة مكانة تميز الإنسان وتفضيله على بقية المخلوقات في إدارة شؤون الأرض كخليفة وحيدة لله.وهنا يأتي، في رأينا،دور العلوم الإنسانية والاجتماعية في مساعدة مفسري القرآن وهديهم إلى المعنى المناسب الذي ينبغي أن يُعطى إلى كلمة “روحي” في آية “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ“. فالكثير من المفسرين المحدثين يستعينون باكتشافات العلوم الحديثة في التفسير للعديد من الآيات القرآنية التي لها علاقة بخلق الإنسان وفهم عمل مخه وجسمه، أو لها علاقة بالظواهر الطبيعية في الكون مثل الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والبراكين والزلازل، مما عزز فكرة إعجاز القرآن. فازدادت المؤلفات وكثر انعقاد الندوات والمؤتمرات في هذا الميدان في العالم الإسلامي الحديث. ونتفق مع المفكر الإسلامي وعالم الجيولوجيا الكبير الدكتور زغلول النجار الذي يؤكد على أن الفهم الصحيح للكثير من الآيات القرآنية لا يمكن أن يتم بدون الاعتماد على الاكتشافات العلمية ذات المصداقية العالية حول الإنسان والظواهر الطبيعية للعالم / للكون. والمفسرون المحدثون مطالبون هم أيضا، وبنفس الدرجة، بالإفادة من الرصيد المعرفي العلمي للعلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة في ماله علاقة بفهم سلوك الأفراد والجماعات وحركية المجتمعات والحضارات والمعالم الثقافية البشرية. فهذه العلوم تساعد بالتأكيد على القرب من معنى كلمة “روحي” في الآية المشار إليها. فعلوم الأنثروبولوجيا والاجتماع والنفس تجمع على أن الإنسان يتميز ويتفوق على غيره من الكائنات الأخرى بما تسميه تلك العلوم بالثقافة Cultureأو ما أطلقنا عليه هنا مصطلح الرموز الثقافية: اللغة، الفكر، المعرفة / العلم، الدين، القيم والأعراف الثقافية، أي أن الجنس البشري ينفرد بتلك المنظومة من الرموز الثقافية وهي التي أهلته وحده في الماضي وتؤهله اليوم وفي المستقبل إلى لعب دور خليفة الله في الأرض. وبعبارة أخرى، فمعنى “نفخت فيه من روحي” تصبح تدل على أن النفخة الإلهية في آدم هي في المقام الأولنفخة ثقافيةبالمعنى المعاصر الذي تعطيه العلوم الإنسانية والاجتماعية لمصطلح الثقافة. إذ بهذه الأخيرة يفسر علماء تلك العلوم تميز الإنسان وسيادته في هذا العالم على بقية المخلوقات. ومن ثم، فكلمة روحي في آية (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) تعنـي في تأويلنا نفخة الرموز الثقافية في آدم وحده التي أعطته، دون سواه، مقاليد الخلافة في الأرض وما تبعها من سجود الملائكة له (الذوادي 2014: 162-186). بهذه القراءة الثقافية لمعنى كلمة “روحي” في الآية يتضح مدى تحسن مصداقية تفسير معاني آيات القرآن لو استعان المفسرون المحدثون بالرصيد العلمي الحديث لكل من علوم الطبيعة وعلوم الإنسان والمجتمع على حد السواء.

إن تأويلنا/تفسيرنا لكلمة “روحي” بمعنى منظومة الرموز الثقافية هي عملية منهجية بحثية تندرج بامتياز في منظور إسلامية المعرفة، لأنها تجمع بين ما يقوله العقل والنقل (المنهج الإسلامي المعرفي الأصيل) حول الرموز الثقافية بسبب ما تجده من تناسق وانسجام في مضمون خطاب الطرفين بخصوصظاهرة محددة (منظومة الرموز الثقافية) يؤكد كل من التحليل العقلي الوضعي وكلام الوحي المنـزل على تميز الجنس البشري وحده بها.

قطبا إسلامية المعرفة:

إن استعمال منهجية العقل في السطور السابقة لإثبات مركزية منظومة الرموز الثقافية في هوية الإنسان ثم تعزيزها باتفاق النقل مع ذلك بتأويلنا لكلمة “روحي” في آية (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) لتُعني أيضا منظومة الرموز الثقافية يمثلان طرحا فكريا في صلب منظور إسلامية المعرفة الجامع بين نور العقل وهدي النقل. وهو يختلف في الصميم مع منظور العلوم الغربية الحديثة الذي يقصي تماما تدخل النقل في منظومة العلم والمعرفة.

نريد الآن أن نعكس المنهجية بحيث نبدأ بمقولة النقل لنرى مدى توافقها مع ما توصل إليه العقل بالنسبة لمركزية منظومة الرموز الثقافية في هوية الإنسان. وإذا عززت هذه المنهجية مركزية الرموز الثقافية في الطبيعة البشرية فإن ذلك يقوي من مصداقية فكرة مقولة قطبيْ إسلامية المعرفة، لأن اختبار درجة صحتها يتم على مستويين: قطب العقل وقطب النقل. لقد بيّن اعتمادنا أعلاه على التحليل العقلي الوضعي أن منظومة الرموز الثقافية هي ميزة في صلب هوية بني البشر، لنترك الآن المجال لقراءة نص النقل (القرآن الكريم) تتحدث عن مركزية الرموز الثقافية عن طريق حاسة السمع.

مفارقات السمع والبصر عند الناس:                             

من اللافت للنظر أن عامة الناس وخاصتهم في المجتمعات البشرية يعتبرون البصر أهم من السمع. فينظروا، مثلا، إلى إعاقة العمى على أنها أخطر وأبشع من إعاقة الصمم، يجوز تفسير هذا السلوك بسبب أن العمى ظاهرة فيزيولوجية ماديةظاهرة تراها عيون المبصرين بينما الصمم لا يتجلى فيزيولوجيا وماديا للناظرين مثل العمى الأمر الذي جعل معظم الناس يميلون إلى اعتبار حاسة البصر أكثر أهمية وقيمةمن حاسة السمع. وهي رؤية جماعية وشعبية لا تتناقض مع التحليل الموضوعي للظاهرة فحسب، كما سنرى، وإنما تتناقض أيضا مع ما تشير إليه الآياتُ القرآنية التي تتحدث عن السمعوالبصر. وينبغي الإشارة هنا أن قيمة الأشياء لا تأتي فقط من طبيعتها الذاتية وإنما قد تأتي كذلك من استعمالها كواسطة لتحقيق أشياء أخرى. وينطبق هذا بامتياز على حاسة السمع لدى الإنسان. فالأهمية العظمى لحاسة السمع عند الإنسان لا تعود مباشرة إلى السمع نفسه وإنما تأتيه بطريقة غير مباشرة مما سميناه في هذا البحث منظومة الرموز الثقافية (اللغة والفكر والدين والمعرفة / العلم والقوانين والأساطير والقيم والمعايير الثقافية) التي ينفرد بها الإنسان عن غيره من الكائنات، كما رأينا. إذ لو كان الأمر يرجع مباشرة إلى حاسة السمع فقط لما تأهل الجنس البشري وحده للسيادة في هذا العالم. وهكذا يمكن صياغة الهوية المميّزة للإنسان في المعادلة التالية: الإنسان = الرموز الثقافية + السمعحيثلا تستطيع الاستعداداتُ والمؤهلاتُ الفطرية للرموز الثقافية في الإنسان أن ترى الضوء وتتطور وتبلغَ أشدها إذا وُلد الإنسان أصم أو أصبح أصم في السنوات الأولى لطفولته. وبعبارة أخرى، فلا وجود للإنسان ككائن ثقافي في الصميم بدون التفاعل بين عنصريْ الرموز الثقافية وحاسة السمع لديه اللذيْن يمثلان الركيزتيْن الأساسيتيْن في تكوين الهوية الثقافية للإنسان.

قصة العلاقة بين الطرفين:                                    

تم اكتشافنا للعلاقة بين حاسة السمع والثقافة لدى الإنسان في 08/12/2012 أثناء المشي على القدميْن في تونس العاصمة قاصدا مكتبة الكتاب. ويعود هذا الاكتشافُ إلى ملاحظتنا أن ذكر السمع في آيات القرآن الكريم يتقدم على ذكر البصر وأن صفة سميع لله تعالى تتقدم على صفة عليم. فكان النقل / القرآن هذه المرة هو المصدر الأول الذي ألهمنا لكي نبحث بواسطة العقلفي حكمة تقديم السمع على البصر في الآيات القرآنية. إذ نبدأ في العادة أبحاثنا انطلاقا من ملاحظة الظواهر الميدانية في سلوكيات الأفراد وبنيات وحركات المجتمعات. وتلك هي منهجية العقل في مصطلح الثقافة الإسلامية. ومن ثم، فطالما نجْمعُ بين العقل والنقلفي مسيرة دراساتنا وأبحاثنا ومقالاتنا كما هو الحال في هذا البحث. دفعتنا تلك الملاحظات حول الآيات القرآنية إلى محاولة فهم وتفكيك لغز ما وراء تقديم السمع على البصر في النص القرآني. وهذا ما تُحاول الآن كشفَ النقاب عنه أقسامُ هذه الدراسة.

تفوّق السمع على البصر في القرآن:                          

فقد أحصينا 14 آية يُذكر فيها دائما السمع قبل البصر عند الإنسان وعند الله. نكتفي بذكر ثلاث منها: (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الإنسان:2)، و(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى: 11 و(مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (لقمان: 28).

فتقديم ذكر السمع على البصر أربع عشر مرة في تلك الآيات يوحى بأن هذا التقديم أمر مقصود وليس مجرد صدفة. ومن أهداف تقديم كلمات على كلمات أخرى في أسلوب نصوص اللغة العربية وغيرها من اللغات هو إبراز أهمية وأفضلية الكلمات المتقدمةعلى الكلمات المتأخرة. ومنه، فتقديم كلمة السمع كاسم أو فعل أو وصف على مثيلاتها من كلمة بصر يشير بكثير من الوضوح والشفافية إلى أن أهمية حاسة السمع تفوق كثيرا حاسة البصر.

السمع أساس العلم:                                 

كما تحفل الآياتُ القرآنية بكلمة سميع التي تسبق دائما كلمة عليم كوصفين متلازمين لله في 30 آية. نذكر أيضا ثلاث آيات فقط بهذا الصدد: (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنبياء: 4) و(إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة: 10).. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 25). فتكرار صفة عليم بعد صفة سميع توحي وكأن العلم يعتمد دائما على السمع. ومن ثم، فالعلاقة بين السمع والعلم هي علاقة سببية.

تسمح الصدارة التي تتمتع بها كلمة السميع / سميع أمام كلمتيْ بصير وعليم في الآيات الست المذكورة وغيرها بأن حاسة السمع أهم من حاسة البصر وأنها الوسيلة المبجلة لكسب رهان العلم. وهذا ما تؤكده مقارنةُ الأعمى بالأصم منذ الولادة أو الطفولة المبكرة في ميدان كسب المعرفة والعلم والإبحار فيهما. فمعروف أن بعض الأفراد المصابين بإعاقة العمى مع الولادة أو بعدها بسنوات قليلة قادرون على أن يصبحوا علماء ومفكرين مرموقين يُشار إليهم بالبنان في ميادينهم. بينما لا تسمح إعاقة الصمم عند الولادة بالتأهل للفوز في آفاق العلم والمعرفة، لأنها إعاقة تحرم الإنسان من تعلّم اللغةوبالتالي من منظومة الرموز الثقافية ميزة الإنسان الكبرى التي أبرزناها بمنهجيتيْ العقل والنقل سابقا في أطروحة هذه المقالة. ومثال طه حسين عميد الأدب العربي الأعمى منذ الصغر نموذج على قدرة حاسة السمع من التمكين للأفراد في طلب العلم والمعرفة والتفوق فيهما بامتياز رغم إعاقة العمى. لقد جاء في مقدمة ابن خلدون أن العدل أساس العمران. وبالمثل يجوز القول بكل مشروعية إن السمع أساس العلم.

السمع منبع ثقافة الإنسان:

تكمن الأهمية الكبرى لحاسة السمع في كونه سبيلا لتحقيق الطبيعة الثقافية للإنسان، كما وقعتْ الإشارة. فالسمع هو، إذن، الوسيلة الأولى التي يستطيع بواسطتها الإنسان تعلّم اللغة والرموز الثقافية. ومنظومة اللغة والرموز الثقافية هي أبرز وأهم ما ينفرد به الجنس البشري عن غيره من الأجناس الأخرى وهي التي تعطيه مقاليد السيادة الكاملة على بقية المخلوقات على سطح الأرض، كما أكدنا على ذلك مرارا. وللتعرّف أكثرعلى وظيفة حاسة السمع في ميلاد منظومة الرموز الثقافية عند الإنسان والعلاقة العضوية بينهما، يحسُن أولا معرفة طبيعة اللغة التي نعتبرُها أمَّ الرموز الثقافية جميعا. فابن جني العالم اللغوي العربي الشهير يعرّف اللغة على “أنها أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم”. وهو تعريف دقيق جدّا في جوهره ومتناسق كثيرا مع تعريفات اللغة عند الباحثين المعاصرين. فابن جني وعلماء اللغة المحدثون يؤكدون على جانب الطبيعة الصوتية للرموز اللغوية. وهكذا تتجلى العلاقة الفطرية والعضوية بين اللغة كأصوات والأذن كحاسة سمع لها. ومن الصعب تخيل ميلاد بقية عناصر منظومة الرموز الثقافية، كالفكر والدين والعلم والقيم، مع الغياب الكامل للغة كأصوات بشرية. أي أن اللغة هي المنشئة والناقلة للرموز الثقافية بين الناس في المجتمع الواحد وبين الشعوب وبين الأمم وبين الحضارات الإنسانية.

الصمتُ عن الوظيفة الكبرى للسمع:                        

لايكاد معظمُ المفسرين للقرآن الكريم يذكرون شيئا عن الحكمة من تقديم كلمة السمع على كلمة البصر في الآيات القرآنية. يكتفي البعضُ منهم بذكر عدد الآيات (14) التي يأتي فيها ذكرُ السمع قبل البصر. وأن الجنين في بطن أمه يسمع قبل أن يبصر. وأن الإنسان لا يمكنه سماع صوتيْن مختلفين في آن واحد، بينما يمكنه إبصار أكثر من شيء بالعين الواحدة. نستطيع بذلك فهم الحكمة من إيراد السمع بالإفراد وإيراد الأبصار بالجمع. فهذا الوصف الايجابي لبعض معالم حاسة السمع يُعتبر وصفا موضوعيا للسمع في حد ذاته. لكن يصعبُ على المفسرين وغيرهم الاهتداء إلى أهم وظيفة يؤديها السمعلا إلى شيء هامشي أو بسيط في الإنسان، وإنما إلى أهم شيء على الإطلاق يتميز به الجنس البشري عن بقية الأجناس وهي منظومة الرموز الثقافية. يُفترضُ أن لهؤلاء جميعا إدراكا ما بوجود الرموز الثقافية عند الإنسان. فمثل هذا الإدراك العادي / البسيط لا يكفي لتفسير سبب تفضيل السمع على البصر في الآيات القرآنية. ففهم ما وراء أفضلية السمع يحتاج إلى إدراك معرفي / ايبستيمولوجي عميقبالنسبة لمكانة منظومة الرموز الثقافية في هوية الإنسان. فنظرية الرموز الثقافية عندنا تُدرك بوعي كامل أن الرموز الثقافية هي بيت القصيد في كينونة الإنسان الأمر الذي جعل نظريتنا تُنادي بأن الإنسان كائن ثقافي بالطبع قبل أن يكون اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا بالطبع، كما تقول العديد من نظريات العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة المشار إليها سابقا. فمقولةُ هذه النظرية تُعطي مشروعية واضحة وصريحة  لتفضيل السمع على البصر. فالسمع وليس البصر هو الأساس الضروري لتعلّم اللغة ونشأة منظومة الرموز الثقافية عند الإنسان. أي أن حاسة السمع هي ملكة نشأة وحماية وتطور واكتمال منظومة الرموز الثقافية عند كافة بني البشر. ألا تؤهل هذه الوظيفة السامية السمعَ للحصول على تأشيرة الأفضلية على البصر وغيره من الحواس الأخرى لدى الإنسان كما تُشير آيات القرآن الكريم؟ فالأهمية العظمى لحاسة السمع تتجلى في كونها الوسيلة الأولى والمبجلة لخلق عالم الرموز الثقافية المميّزة الذي يُؤهل الإنسان وحده ليكون سيد هذا العالم.

التأسيس لنظرية الرموز الثقافية:

وبناء على ما سبق ذكره، فبحوثنا المتواصلة في الرموز الثقافية منذ أكثر من عقدين قادتنا إلى إنشاء نظرية الرموز الثقافية التيتقول إن الإنسان كائن رموزي ثقافي بالطبع، أي أن جوهر الإنسان المميز له عن بقية الكائنات يكمن في منظومة تلك الرموز الثقافية التي تحتل المركز الأولفي هويته، كما رأينا. ومن ثم، أكدنا على أن أي تحليل لمفهوم الطبيعة البشرية يجب أن تحتل فيه الرموز الثقافية مكان الصدارة.

يتضح، إذن، أن هوية الإنسان هي هوية رموزية ثقافية في الصميم يتميز بها عن غيره من الكائنات بسبب تمتع الإنسان بكل من حاسة السمع ومنظومة الرموز الثقافية، بينما حُرمتْ من هذه الأخيرة الأجناسُ الأخرى الأمر الذي جعلها عاجزة، رغم تمتعها بالسمع، عن إنشاء منظومات ثقافية مشابهة لمنظومة الرموز الثقافية عند الإنسان. ومن ثم، فزمالة السمع والرموز الثقافية شرطان أساسيان ومؤسسان لظهور الإنسان ككائن متميز وقادر وحده على السيادة / الخلافة في هذا العالم المترامي الأطراف. ومن هذه الرؤية يتجلى سموُّ دور السمع على دور البصر – في التحليل العقلي والتراث النقلي – في كسب الإنسان لرهان هويته الثقافية التي يتميز ويعلو بها على بقية المخلوقات على وجه الأرض. وهكذا يتضح جلّيا أن ثنائية السمع والرموز الثقافية تجعل من الإنسان كائنا ثقافيا بالطبع.

إنها نظرية تختلف معرفيا وفكريا عن نظريات الماركسية والبنيوية والتحليل النفسيوكذلك عن رؤى ومنظورات مدارس العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة التي لم تطرح منظومة الرموز الثقافية كمركز ثقل أول في طبيعة وهوية الإنسان، ناهيك عن ذكر الدور الحاسم لحاسة السمع في ميـلاد منظومــة الرمــوزالثقافية لدى الجنس البشري فقط، كما سبق بيانُه في مقولة هذه الملاحظات الميدانية والتأملات الفكرية حول العلاقة العضوية الأصيلة بين حاسة السمع عند الإنسان ومنظومة الرموز الثقافية. كل ذلك يُبرز عظمة دور السمع التي تأتي من مصاحبته وخدماته الثمينة لأهم شيء في الإنسان، ألا وهي منظومة الرموز الثقافية. ألا تُشبه هذه العلاقة بين منظومة الرموز الثقافية والسمع ما يتضمّنه القول المعروف: “إن وراء كل رجل عظيم امرأة“؟

يجسم الرسم التالي ميلاد منظومة الرموز الثقافية بواسطة حاسة السمع وارتباطها المتواصل معه:

فقراءتنا هذه عن طريقالعقل والنقل (رؤية إسلامية المعرفة) لدلالات تفضيل السمع على البصر في النص القرآني يُفيد أن منظومة الرموز الثقافية هي أهم ما يتميز به الإنسان عن بقية الكائنات. ولعلّ مثل هذا الفهم لأثمن ما تحتضنه هوية الإنسان (منظومة الرموز الثقافية) يساعد على كسب رهان وضوح شفاف بالنسبة لمعنى آية قرآنية أخرى تبنى في تأويلها المفسرون تأويلات مختلفة. إنها آية (وعلّم آدم الأسماءَ كلّها) (البقرة: 31). فالآية تشير بوضوح إلى أن إسناد الخلافة لآدم وحده (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة: 30) مرتبط شديد الارتباط بـ “علم آدم الأسماء كلها” الميزة الفريدة التي يتمتع بها الجنس البشري دون سواه من المخلوقات كما تصرّح بذلك الآيات الأخرى في نفس السورة. وكما رأينا، يفيد التحليل العقلي والنقلي أن هذه الميزة الغالية هي منظومة الرموز الثقافية. وهكذا يجوز التأويل ومنه القول إن معنى (علم آدم الأسماء كلها) مرشح بقوة لكي يكون مرادفا لمفهوم منظومة الرموز الثقافية أهم معلم ينفرد به آدم/الإنسان عن الملائكة وغيرها من الكائنات وسبب تأهله وحده للخلافة ولتشييد المشروع العمراني البشري بالتعبير الخلدوني (الذوادي 2014: 161-186).

عقل إسلامية المعرفة:

لقد استعملنا في الصفحات السابقة التحليل المنهجي العقلي، من ناحية، والاستئناس بالرأي النقلي/ القرآني، من ناحية أخرى، في فهم مسألة مركزية الرموز البشرية في هوية الإنسان، وهي في نظرنا منهجية مثالية في الفكر العربي الإسلامي العالم والأصيل، فكما هو معروف في التراث الفكري والعلمي الإسلامي أن العلماء والمفكرين والفقهاء يستعملون العقل والنقل في تشييد معارفهم وعلومهم. وليست مسيرة العلامة ابن خلدون المعرفية استثناء لهذا التوجه في رحاب الثقافة العربية الإسلامية العالمة لفترة ما قبل سقوط المجتمعات العربية والإسلامية تحت هيمنة الاستعمار الغربي المعاصر، الفكري وغيره. نود أن نطرح في هذا الجزء من البحث مدى مشروعية تبني منهجية الجمع بين العقل والنقل في العديد من ميادين البحث العلمي. ونبدأ بإلقاء الضوء على فكر صاحب المقدمة. فواضح من معالم السيرة الذاتية المختصرة لابن خلدون ومن المؤلفات التي كتبت عنه ومن مواصفات العقل المسلم بأن تعليم ابن خلدون وخلفيته المعرفية والمجتمعات التي درسها كانت كلها إسلامية الطبيعة (الشكعة، 1992). كان لابن خلدون مستوى عال وواسع من فروع المعرفة لعلوم إسلامية وتخصصات متنوعة تشمل الثقافتين The Two Culturesفي عصره كما يتبين ذلك في الفصل السادس من المقدمة. كما كان لصاحب العبر تجربة ومعرفة مباشرتان حول العديد من المجتمعات العربية الإسلامية والقبائل والعشائر التي درسها وكتب عنها بعقله انطلاقا من منظور علم العمران البشري الجديد. وبعبارة أخرى، فمعرفته النظرية والميدانية كانت متأثرة جدا بوقائع الأمور في منطقة المغرب الإسلامي على الخصوص. ومن ثم، فالعقل المفكر لصاحب المقدمة هو بالضرورة عقل مسلم كنتيجة لكل من الثقافة الإسلامية العالمة وثقافة الواقع الاجتماعي للمجتمعات العربية الإسلامية. فوصف العالم جيب Gibbلابن خلدون لا يترك مجالا للشك حول الهوية المسلمة لصاحب المقدمة كمفكر عظيم “لم يكن ابن خلدون مسلما فقط، ولكن، كما يتجلى ذلك في كل صفحة تقريبا من المقدمة، هو قاض مسلم ومفكر ينتسب إلى المذهب المالكي المحافظ. فبالنسبة له، لقد مثلالدين أهم شيء في الحياة. إن الشريعة هي الطريقة الحقيقية الهادية إلى سواء السبيل” (Shaw and Polk, 1962: 171).

ومن جهته، يؤكد مصطفى الشكعة بأن نظرية العمران عند ابن خلدون هي إسلامية الطبيعة من البداية إلى النهاية (الشكعة، 1992: 100-130). ويشير ابن خلدون نفسه إلى أصالة فكره الإسلامي والشخصي عندما ينفي التأثير الأعجمي في صياغته لعلمه الجديد: علم العمران البشري “وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك، وأعطيته حقه من التصفح والتفهم، عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفى بيّنا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبدان” (ابن خلدون، 1993: 30).

ويبرز ابن خلدون بشفافية طبيعة العقل المسلم العالم الذي لا يستند فقط على العقل والنقل كأرضية لإسلامية المعرفة في إرساء أسس المعرفة، وإنما هو يؤمن أيضا بالتدخل الإلهي في الهداية إلى اكتشاف علمه الجديد “ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما، وأعثرنا على علم جعلنا سن بكره وجهينة خبره. فإن كنت قد استوفيت مسائله وميّزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق من الله وهداية. وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره مسائله، فللناظر المحقق إصلاحه، ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق. والله يهدي بنوره من يشاء” (ابن خلدون 1993: 31).

إن تجلي المعالم الإسلامية في تفكير ابن خلدون في منظور الجمع بين النقل والعقل هو مجرد مثال للنسق الفكري الذي تبناه العلماء والمفكرون والفقهاء المسلمون قبل صاحب المقدمة وبعده حتى مجيء الهيمنة الاستعمارية الغربية المعاصرة إلى العالمين العربي والإسلامي والتي أثرت في النخب والمتعلمين في المدارس والجامعات الغربية أو المتأثرة بروح ومنهجية التعليم الغربي، الأمر الذي أدى الى تكدير صفو العلاقة بين المعرفة النقلية والمعرفة العقلية عند هؤلاء.

يشهد ملف المفكرين والعلماء الأوائل من كل التخصصات (الثقافات) في الحضارة العربية الإسلامية بأن هؤلاء قاموا بأعمالهم الفكرية والعلمية على أساس الجمع والتعاون بين المعرفة الآتية من القرآن والسنة (المعرفة النقلية) والمعرفة البشرية المكتسبة بواسطة استعمال العقل البشري (المعرفة العقلية). فالمحتوى الفكري للعلوم الإنسانية والاجتماعية في المقدمة ليس استثناء لتوجه العقل المسلم نحو الجمع بين العقل والنقل (Robert, 2002: 11-80, 124-137). وهذا يعني أن ابن خلدون قد تبنى بقوة منظور النقل والعقل في تأليفه لكتاب العبر بما فيه المقدمة.

فهذا العقل المسلم الشديد النـزعة إلى حب الاطلاع والقوي الدوافع للتعلم من عالمي العقل والنقل ينبغي أن يساعد على تفسير الإنجازات العظيمة في العديد من ميادين المعرفة التي حققتها الحضارة العربية الإسلامية قبل القرون الوسطى. إن العقل الخلدوني المفكر الذي نجده في المقدمة هو مثال مقنع على مدى القدرة الفكرية الهائلة التي يتمتع بها العقل المسلم الجامع بين معرفتي النقل والعقل. وهذا ما جعلنا نعتبر هذا النوع من العقل الخط الفاصل بين ما نسميه “علم الاجتماع الخلدوني الشرقي” وعلم الاجتماع الغربي المعاصر (Dhaouadi, 1990: 319-35). فمن جهة، إن العقل الخلدوني النقلي العقلي ينتظر أن يلقى ترحيبا، مثلا، من طرف عالم الاجتماع الشهير اليوم إيمانويل والرستاين Immanuel Wallersteinلمناداة الفكر الخلدوني بالوحدة المعرفية/الايبستمولوجية للثقافتين The Two Culturesفي فصول مقدمته (الذوادي 2005: 33-63). لكن، نظرا للتكوين التعليمي والفكري الحديث لوالرستاين، فإنه من الصعب جدا عليه أن يقبل بسهولة مصداقية رصيد معرفة الوحي الذي يتبناه ابن خلدون كجزء من معرفة العقل المسلم الذي يجمع بين النقل والعقل. إذ أن قبول والرستاين لذلك يتناقض مع عرف أخلاقيات ethicsالعلم الحديث الذي يلتزم به العقل الغربي المعاصر في اكتساب المعرفة وإنتاجها. فمن وجهة النظر المعرفية الإسلامية، ليس هناك مجال للتوتر والصراع بين قطبي النقل والعقل في التفكير الإسلامي، إذ أن أصل المعرفتين العقلية والنقلية هو أصل واحد، ألا وهو الله. ويكفي هنا الإشارة إلى آيتين في القرآن الكريم تؤكدان معنى الأصل الواحد لكل ظواهر الكون صغيرها وكبيرها. فمن ناحية، يعلن النص القرآني عن حقيقة وجود إله واحد (…وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (سورة المؤمنون: 90). ومن ناحية ثانية، يشير القرآن بوضوح بأن الله الواحد الأحد هو الخالق لكل شيء (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (سورة الفرقان: 1).

ومن ثم، يمكن اعتبار بكل مشروعية العقل المسلم الوعاء الذي تلتقي فيه معرفة الوحي / النقل ونظيرتها العقلية. إن الفقيه/ العالم الشهير أحمد بن تيمية (1263-1328) هو أكثر العلماء المسلمين دفاعا عن مشروعية الجمع بين العقل والنقل في الثقافة الإسلامية. إن كتابه “درء تعارض العقل والنقل” (الجليد 1988) خير مثال على ذلك.

ثقافتا العقلين المسلم والغربي:

يساعد المنظور السوسيولوجي على فهم الفروق بين هذين العقلين بالنسبة لكسب المعرفة وإنشائها. فمن ناحية، إن العقل المسلم العالم الجامع بين النقل والعقل (إسلامية المعرفة) هو نتيجة للثقافة الإسلامية التي لا ترى تناقضا بين المعرفتين: المعرفة العقلية والمعرفة النقلية، بل هي ثقافة تؤكد على التناسقوالتكامل بينهما(عقيلي 1994). ومن ناحية أخرى، فقد عرف العقل الغربي العالم تحررا كاسحا من تأثير الفكر اللاهوتي المسيحي منذ عصر النهضة. فالتفكير العقلاني والقيام بالتجارب الميدانية وجمع البيانات الموضوعية أصبحت الأرضية السائدة في مرحلة الحداثة الغربية حتى مجيء فترة ما بعد الحداثة منذ أواخر النصف الثاني من القرن العشرين -كما أشرنا من قبل- عند ليوتار ومن سار ويسير على دربه من أصحاب ما بعد الحداثة.

الخاتمة:

كما يتجلى من أفكار متن هذا البحث، فإن أسس منظور إسلامية المعرفة تعتمد على ما نود تسميته بالثوابت الجوهرية الكبرى لطبيعة الإنسان. فمن جهة، سبقت الإشارة إلى أن فريق إسماعيل الفاروقي المؤسس لمشروع إسلامية المعرفة يرى أن وحدة الجنس البشري هي حقيقة كبرى تتبناها بقوة الرؤية المعرفية الإسلامية للبشر بكل أصناف عرقهم وألوان بشرتهم وأنواع لغاتهم وطول وقصر قاماتهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13). ومن جهة ثانية، تعتبر مقولتنا الفكرية أن ما يميز الجنس البشري عن غيره من أجناس الكائنات الأخرى والدواب هي منظومة الرموز الثقافية التي فصلنا فيها القول في متن هذا النص. ومنه، فمنظومة الرموز الثقافية هي معلم ثابت وجوهري ومميّز للإنسان في عمق طيات طبيعته البشرية. وبعبارة أخرى، فالرموز الثقافية تمثل حقيقة كبرى ينفرد بها الجنس البشري عن سواه من الأجناس الحية الأخرى.

وفي المقابل، فالعلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية المعاصرة لا تكاد تستقر في رؤيتها على ما تعتبره من صنف الثوابت الكبرى في عالم الإنسان. فعلى سبيل المثال، يجوز القول إن هذه العلوم تتبنى في مجملها النظرية الداروينية عن أصل الإنسان. وهذه في نظرها حقيقة كبرى حول الجنس البشري. ونظرية دارون حول أصل الإنسان،كما هو معروف، هي مجرد نظرية لا حقيقة علمية لا تقبل الجدال. إن اكتشافات البحوث والدراسات تتوالى حول أصل الجنس البشري وطالما تنفي بعضها البعض أو تتناقض في ما بينها الأمر الذي جعل أخيرا إحدى المجلات في هذه العلوم تصدر ملفا خاصا بعنوان: خمسة عشرة سؤالا حول أصولنا (Sciences Humaines, août-septembre 2014, p.28-59(. ونظرا لفقدان اليقين الكامل بخصوص أصل الإنسان من خلال منظور تلك العلوم، فإن الباحث يستطيع مقارنة رؤية إسلامية المعرفة بنظيرتها في العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة. فالمنظور المعرفي الإسلامي يعتقد أن أصل الإنسان يتمثل في أنه كائن مخلوق من طرف الله وأنه خليفته على وجه الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، هذه حقيقة كبرى وثابتة في الرؤية المعرفية الإسلامية. يسهل هنا تحليل مدى مصداقية هذه الحقيقة الكبرى والمتمثلة في (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) فتحْت تأثير الرؤية المعرفية الداروينية للإنسان تميل العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة إلى الرغبة في التركيز على أوجه الشبه بين الإنسان وعوالم الحيوانات وفي طليعتها القردة. فالباحثة جاين جودال Jane Goodalوجدت أن القردة الكبيرة (الشمبانـزي) قادرة على صناعة بعض الأدوات لصيد دودة الخشب كما لا حظ بعض الباحثين اليابانيين لعالم الحيوانات أن القرد الأسيوي يعلم أولاده تقنيات غسل البطاطس الحلوة. لكن هذه السلوكيات البسيطة لبعض القردة لا تغير شيئا من الحقيقة الكبرى الثابتة التي تركز عليها الرؤية المعرفية الإسلامية والمتمثلة في أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمثل خليفة الله في الأرض بما تميز به عن بقية الكائنات الأخرى، بحيث يعتبر مخلوقا فريدا على وجه الأرض قادرا على التحكم في غيره من الأجناس الحية وفي المخلوقات الجامدة في هذا العالم. وكما رأينا فانفراد الإنسان بتلك الميزات مرتبط شديد الارتباط بمنظومة الرموز الثقافية، تلك الحقيقة الكبرى والثابتة التي يتميز بها الجنس البشري عن سواه. وعليه، فمن وجهة منظور إسلامية المعرفة لا يجوز أن تخفي بعض أوجه الشبه بين الجنس البشري والأجناس الأخرى الحقيقة الكبرى المتمثلة في أن الإنسان هو الكائن الوحيد السيد على وجه الأرض. وما لم يصبح أي من الأجناس الأخرى منافسا حقا للجنس البشري في إدارة شؤون ما يجري على الأرض وفي السماء، فإن الحقيقة الكبرى التي تبرزها رؤية إسلامية المعرفة تبقى محافظة على مصداقيتها في أن الإنسان هو الذي ينفرد بالخلافة بين كل المخلوقات.

يعود تحاشي تلك العلوم التركيز على الثوابت الكبرى لدى الجنس البشري إلى المنهجية الإمبريقية التي تتبناها والمبنية على الملاحظة والمؤشرات الكمية دون الحرص على وضع تفاصيل معطيات المنهجية الإمبريقية في إطار رؤية فكرية معرفية تجمع بين شتات تلك المعطيات المتناثرة فتعطيها تفسيرا ومن ثم معنى أوضح ومشروعية أكبر عند أهل الذكر. لقد أشرنا من قبل أن مواصفات الإنسان بأنه كائن اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي في تصورات علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة هي مواصفات للإنسان يصعب أن تكون حقائق إنسانية دون أن يكون الإنسان في المقام الأول كائنا ثقافيا بالطبع. ففقدان الحقيقة الثقافية الكبرى في طبيعة الإنسان يعيق الفهم والتفسير الأكثر مصداقية. فهامشية الثقافة في الرؤية المعرفية لعلوم الإنسان والمجتمع جعلت،على سبيل المثال، فكر العالم الروسي لاف فيجوتسكي Lev Vygotskyفي كتابه الفكر واللغة غير مرحب به في الدوائر العلمية الغربية في تلك العلوم. إذ إن حضور العامل الثقافي في تفكير علم النفس بقي أمرا هامشيا جدا في الجزء الكبير من القرن العشرين (Vygotsky 2012:x -xiii).

هناك مؤشرات عديدة اليوم في تلك العلوم لصالح إعطاء اهتمام أكبر لعنصر الثقافة في فهم وتفسير سلوكيات الأفراد والظواهر الاجتماعية، يأتي علم الاجتماع الثقافي في الصدارة، ويعتبر هذا الفرع الناشئ والصاعد في علم الاجتماع أن الثقافة هي متغير مستقل وليس بالتابع، أي أنها في صميم طبيعة الإنسان ومن ثمّ فهي الأساس في فهم وتفسير ما يجري في المجتمعات وسلوكيات الأفراد (Smith 1998(. ويتفق هذا مع مقولتنا المشار إليها في أن الإنسان كائن ثقافي قبل أن يكون اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا. إذ الثقافة هي الحقيقة الكبرى الثابتة التي يتميز بها الجنس البشري عن بقية الأجناس الأخرى. فهي الأصل لمعالم حركة المجتمعات وتنوع السلوكيات الفردية والظواهر الاجتماعية. وكما رأينا، فمنظور إسلامية المعرفة يستند على الحقائق الكبرى في فهمه وتفسيره لسلوكيات الناس وحركية المجتمعات والحضارات البشرية في القديم والحديث.

وهكذا، فإن مقولة بحثنا في هذه الورقة تعزز مشروعية فكرة إسلامية المعرفة في العلوم الاجتماعية. فالرؤية المعرفية (الإيبستيمولوجية) الإسلامية التي طرحنا وحللنا وناقشنا من خلالها مفهوم الثقافة/الرموز الثقافية أبرزت معالم جديدة تشد الانتباه حول طبيعة هذه الأخيرة. إنها معالم لا نكاد نجد لها ذكرا في العلوم الاجتماعية الحديثة، ناهيك عن استعمالها في البحوث الميدانية وفي التنظير حول الثقافة نفسها أو حول ما له علاقة بالرموز الثقافية. ومن ثم نعتقد أن ما قمنا به – بمساعدة المنظور الإسلامي – في هذا البحث من حفريات حول طبيعة الثقافة وفي طليعتها ما سميناه باللمسات الميتافيزيقية/المتعالية للرموز الثقافية يساهم في الدفع إلى بناء صرح متماسك لما يدعى بعلم الثقافة Culturology(White 1973:32-39). وبعبارة أخرى، فدراستنا بالرؤية الإسلامية لمفهوم الثقافة في صفحات هذا البحث توسع آفاق فهمنا للثقافة، كبرى ميزات الجنس البشري، كما تجلى ذلك في تحاليلنا للقضايا المختلفة التي تعرضنا لها في متن هذه الورقة. فعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المعاصرون بقوا عموما صامتين على اللمسات الميتافيزيقية في منظومة الرموز الثقافية، كما بينا ذلك. إن إنكار وجود تلك اللمسات المتعالية، رغم وجودها المكين في صلب الرموز الثقافية جميعا، ليس هو بالتأكيد في صالح الموضوعية العلمية ولا هو في خدمة مسيرة التقدم العلمي في الكشف عن أعماق وألغاز طبيعة الثقافة، تلك الميزة البشرية الفريدة والعنصر المفتاح لفهم وتفسير سلوكيات الأفراد وحركية المجتمعات. فمحاولتنا الكشف عن الجوانب المنسية (الأخرى) في دراسة الثقافة بعيون الرؤية الإسلامية تساهم، من ناحية، في تأصيل مفهوم الثقافة في أدبيات العلوم الاجتماعية الحديثة وتنهي ما يجوز تسميته بحالة الاغتراب في مفهوم الثقافة في تلك العلوم، من ناحية أخرى (Dhaouadi 1996).

* * *

المراجع باللغة العربية

1)     ابن خلدون، عبد الرحمان (1993) مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار الكتب العلمية، ص 294.

2)     الجلالين (1993) تفسير الجلالين، بيروت، الطبعة السابعة، ص 457.

3)  الجليند، محمد السيد، شاهين، عبد الصبور (1988) درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر.

4)  الذوادي، محمود (1997) “في الدلالات الميتافيزيقية للرموز الثقافية”، عالم الفكر، المجلد 25، العدد 3، يناير-مارس، ص 9-43.”في أبجدية الرموز الثقافية”، الآداب، 6/7 – 2005، ص 8-12.

5)  الذوادي، محمود (2005): نداء حول ضرورة تأصيل علم الاجتماع العربي فيصلب فكر مرجعيته الثقافية، عالم الفكر، العدد 1، المجلد 34، يوليو-سبتمبر.

6)     الذوادي، محمود (2014) “وعلّم آدم الأسماء كلها” في ميزان نظرية الرموز الثقافية، إسلامية المعرفة، السنة التاسعة عشرة، العدد 75، شتاء 1435/2014 ص 161-186.

7)     الشعراوي، متولي (دون تاريخ) تفسير الشيخ متولي شعراوي، المجلد 12 ص 7694.

8)     الشكعة، مصطفى (1992): الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته، بيروت، الدار المصرية اللبنانية.

9)     طبارة، عفيف عبد الفتاح (دون تاريخ) تفسير جزء يس (ج 23) بيروت ص 145.

10)                         عقيلي، إبراهيم (1994): تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية، هيرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة الرسائل الجامعية (8) (إسلامية المعرفة).

11)                         وافي، علي عبدالواحد: مقدمة ابن خلدون (الجزء الأول)، الطبعة الثالثة، مزيدة ومنقحة، الفجالة – القاهرة، دار نهضة مصر للطبع والنشر (بدون تاريخ).

12)وافي، علي عبد الواحد (1977) بحوث في الإسلام والاجتماع (ج الأول) ط 1، الفجالة-القاهرة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، رضوان، زينب (1982) النظريات الاجتماعية في الفكر الإسلامي: أصولها وبناؤها من القرآن والسنة، القاهرة، دار المعارف.

المراجع بغير اللغة العربية

1)       al-Faruqi, I.R (1982) Islamization of Knowledge: General Principles and Workplan, Brentwood, Maryland (USA) International Institute of Islamic Thought.

2)       Alexander,J (Ed) (2003) The Meanings of Social Life: A Cultural Sociology, Oxford, New York, Oxford University Press.

3)       Clayton, P. & Simpson, Z.(Eds) (2009) The Oxford Handbook of Religion and Science, Oxford, Oxford University Press.               

4)       Dhaouadi, M. (2005) « The Ibar: Lessons of Ibn Khaldun’s Umran Mind », Contemporary Sociology, vol.34, n°.6, pp.585-591.

5)       Dhaouadi, M. (1996) Toward Islamic Sociology of Cultural Symbols, Kuala Lumpur, A.S.Noordeen.

6)       Dhaouadi, M., (1990) “Ibn Khaldun: the founding father of Esatern sociology”, International Sociology, vol.5, n°3.

7)       Dhaouadi, M.(1997) New Explorations Into the Making of Ibn Khaldun’s Umran Mind, Kuala Lumpur, A.S. Noordeen.

8)       Geertz, C (1964) The Interpretation of Cultures, New York, Basic Books.

9)       Lyotard,J-F (1984) The Postmodern Condition , Minneappolis, University of Minnesota Press.

10)   Robert, S., (1999) Ibn Khaldun, translated from Hungarian by Klara Pogatsa, Akadémia Kiado’, Pudapest.

11)   Shaw, S.J. and Polk, W.R.(1962) eds, Gibb H.A. Studies on the Civilization of Islam , London , Routledge and Kegan Paul

12)   Semashko,L. and others(2006) International Sociology Review of Books, Vol.2, no.6, pp.829-38

13)   Smith,Ph (1998) The New American Cultural Sociology, Cambridge, Cambridge University Press.

14)   Snow, C.P. (1963) The Two Cultures: And a Second Look, New York, Cambridge University Press.

15)   Turner,J.H(2001) Handbook of Sociological Theory, New York, Kluwer Academic/Plenum Publishers, pp.1-17.

16)   Vygotsky,L (2012) Thought and Language, Cambridge, MIT Press.

17)   White, L. & Dillingham, A. (1973) The Concept of Culture, Edina, MI:Burgess International Group.

18)   Wilson, E. (1975) Sociobiology: The New Synthesis, Cambridge, MA, Harvard University Press.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر