أبحاث

تقنين الفقه الجنائي الإسلامي

العدد 157- 158

مقدمــة:

يُقال أنك إذا أردت أن تعرف مقدار تقدم أي أمة من الأمم وباعَها في الحضارة والرقي فانظر إلى تشريعها المتمثل في القانون الذي ينظم حياتها ويضبط سلوك أفرادها وتحتكم إليه في جميع شؤونها. فمن خلال مستوى تشريع كل أمة يمكن معرفة مدى تقدمها وإسهامها الحضاري. والأمة الإسلامية هي كغيرها من أمم الأرض لا تشذ عن هذه القاعدة في إمكان تقييمها بميزان تشريعها. والتشريع الإسلامي هو -في مادته ومضمونه- أضخم وأشمل تشريع عرفته البشرية عبر تاريخها، فلا تدانيه في شموله وثرائه غيره من التشريعات الأخرى قديمها وحديثها بما فيها التشريع الروماني زمن “جستنيان” مفخرة الأمم الغربية حتى عصرنا الحاضر. أما في شكله ومظهره، فهو من أعسر التشريعات لافتقاره إلى حسن الصياغة والترتيب والترقيم وسهولة العبارة وغيرها من السمات الضرورية اليوم للقوانين المعاصرة.

ولا خلاف في أن القانون في كل أمة أو مجتمع هو حاجة أكيدة لا غنى للجماعة عنها، فهو الذي ينظم المجتمع ويضبط سلوك أفراده لميزان ثابت يُحتكم إليه في ظل العدل والحرية والمساواة، ويرسم للحاكم مجال سلطاته، وللمحكوم حقوقه وواجباته، وبه تستفيد الجماعة من طاقات أفرادها، فيتحقق لهم الأمان والاستقرار، فيمحّضون جهودهم للكسب والانتفاع لأنفسهم ونفع مجتمعهم… والبديل المؤكد عن القانون هو الفوضى والاضطراب الأمني وفقْد سائر المصالح الضرورية التي تتوقف عليها حياة الناس ومغزى اجتماعهم.

وطالما أن القانون على هذه الدرجة من الأهمية فإن عملية التقنين، بحسن صياغة التشريع بطريقة تضمن تطبيقه وتحقيق أهدافه بأفضل صورة وعلى أحسن وجه، إنما تستمد مشروعيتها من مشروعية صدور ذلك القانون نفسها، و”ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”. إذ إن الاستفادة من أحكام متناثرة لا يجمعها جامع ولا ينظمها ناظم ولا تخضع لترتيب وحسن تبويب هو اليوم من الصعوبة بمكان إن لم يكن أمرا متعذرا. ومِن ثم فإن العمل بالفقه الإسلامي -الذي هو قانون المسلمين ورصيدهم التشريعي- قد أصبح اليوم متعذرا ما لم يتم إعادة صياغة مادته بمنهج عصري عملي يُسهّل على القائمين عليه الرجوع إليه والعمل بأحكامه بلا مشقة ولا إرهاق.

وما كان الإسلام دين أشكال ومظاهر ليتمسك بالقشور ويزهد في الألباب، ولا كانت حكمة العلي الحكيم لتقضي بتعطيل تشريعه وحرمان المسلمين من هدايته لهم بدعوى الجمود على معهود عبارات القدامى وما ألفوه من صياغة وترتيب وتبويب مناسب لعصور دون عصور وأجيال دون أجيال، وكأن الابتلاء به قد قصرت غايته على أولئك دون غيرهم ممن يأتي بعدهم، والحال أن هذا دين الله الذي اتسم من مبدئه بعمومه وشموله وصلاحه لكل زمان ومكان. فكيف يُستساغ -والحال تلك- مجرد التساؤل في جدوى التقنين وفائدته فضلا عن جوازه ومشروعيته!

ونظرا لمكانة الشريعة الإسلامية في نفوس المسلمين، فقد اتجهت همة بعض رجال القانون -بدوافع بعضها ذاتية وبعضها رسمية- إلى دراسة الفقه الإسلامي في جانب منه -وهو المعاملات- لإعادة صياغته بطريقة عصرية مماثلة للصيغ القانونية المعتمدة في القانون الوضعي، باعتبار أن ذلك خطوة لابد منها في طريق تطبيق أحكامه. وفي نفس الوقت اتجهت أنظار بعض الفقهاء -وخصوصا ممن جمعوا في دراساتهم بين الشريعة والقانون- إلى إعادة دراسة الفقه الإسلامي وصياغته بطريقة تحاكي الصيغ القانونية، بغية تسهيل دراسته والرجوع إليه. بحيث التقت إرادة الطرفين في غاية واحدة هي إيجاد قانون إسلامي صالح لتنظيم الحياة الاجتماعية والتطبيق في المحاكم دون الرجوع إلى الموسوعات الفقهية التقليدية المضنية.

وهذه الدراسة لا تتعلق من التقنين إلا بجزء من موضوعه، وهو تقنين الفقه الجنائي الإسلامي وما يتعلق به من مسائل سيعمل البحث والتقصي على كشف بعض قضاياها وتجلية قدر من غوامضها.. وهي بلا شك من أكثر مسائل الفقه الإسلامي حساسية وتعقيدا في هذا العصر، وليس من السهل الخوض فيها والجوْس خلالها، بغية كشف مكامنها ورسم معالمها.

المبحث الأول

مداخل تقنين الفقه الجنائي الإسلامي

المطلب الأول: الدلالات الاصطلاحية لمتعلقات التقنين

قبل الولوج في صلب مسألة تقنين الفقه الجنائي الإسلامي يحسن تتبع دلالات المصطلحات المتعلقة بالموضوع أو التي لها صلة به، لكي تكون معاني الألفاظ الاصطلاحية الواردة في الدراسة واضحة ونكون علي بيّنة من أمرنا في الجوْس خلال مسالك البحث نمشي سويًّا على صراط مستقيم. ومن أهم هذه المصطلحات التي تمثل كلمات مفاتيح لا مناص من تبيّنها لاستيضاح ما تفيده من معان مرادة لها، قصد الوقوف على أرضية دلالية واحدة ألفاظ: الفقه والتشريع، والشريعة والجناية والجريمة، والتقنين، وهي مصطلحات تلوح ابتداءً واضحة الدلالة وفق استعمالاتها المتداولة، ولا تحتاج إلى بيان وتوضيح، ولكنها بعد التحقيق هي في حاجة إلى مزيد نظر وتدقيق.

1-مدلول الفقه والتشريع:الفقه في لغة العرب بمعنى الفهم(1)، ومنه قوله تعالى: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) (طه:27)، وقوله تعالى: (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ) (هود: 91). واصطلاحا: هو “العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية”(2). أي معرفة أحكام الحلال والحرام المتعلقة بالفروع والمسائل الفقهية العملية. ولفظ “الفقه” بهذا المعنى مرادف للفظ “التشريع”، إلا أن “الفقه” مختص بالتشريع الإسلامي دون غيره، بحيث أن دلالته عليه علَمية، بخلاف مطلق “التشريع” فيصح نسبته لكل ما يُضاف إليه، فيُقال: تشريع حمّورابي والتشريع الروماني… ولا يُقال عن ذلك فقها.

2- مدلول الشريعة: الشريعة في اصطلاح علماء الشريعة عبارة تُُطلق لتدل على معنيين اثنين أولهما عام وثانيهما خاص:

أ- المعنى العام: وهو الذي عبّر عنه الإمام ابن تيمية بقوله: “اسم الشريعة والشرع والشِرعة ينتظم كل ما شرعه الله من العقائد والأعمال”(3). أو هو “مجموعة الأصول، والعقائد، والمبادئ، والأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجنائية، التي شرعها الله لتنظيم حياة الفرد والمجتمع على الأرض، وفق مراده جل جلاله”(4).

ب- المعنى الخاص: وهو اصطلاح الفقهاء حيث أُطلق لفظ “الشريعة” ليدل على الأحكام التكليفية العملية، كوجوب الزكاة وحرمة الخمر وإباحة البيع… فالشريعة إذًا هي الفقه ذاته وفق هذا المعنى.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاستعمال ليس قاصرا على فقهاء الشريعة وحدهم، بل نجده مستعملا وفق دلالته الخاصة عند بعض القانونيين أيضا، من ذلك ما جاء في الباب الأول من “قانون الجزاء العماني” من عبارة “الباب الأول في الشريعة الجزائية” حيث تكرر فيه هذا الاستعمال واستعمال “الشريعة العمانية” في عدة مواضع، كلها بمعنى “القانون العماني”(5).

وهذا المعنى الثاني الخاص هو المراد بلفظ الشريعة في هذا المقام. وتجنبا لهذا الاشتراك اللفظي(6) لعبارة “الشريعة” في الدائرة الاصطلاحية الشرعية ذاتها؛ سيتم استعمال لفظ “الفقه” دون عبارة “الشريعة”، لأن دلالة “الفقه” أوضح وأنأى عن الاشتراك المورِث للإبهام والإشكال.

3-مدلول الجناية والجريمة: الجناية في أصلها اللغوي -كما في مختار الصحاح- من جنى الثمرةَ من باب رمى، واجتناها بمعنى التقط… وجنى عليه يجني جنايةً. والتجنّي مثل التجرّم وهو أن يدّعي عليه ذنبا لم يفعلْه”(7). فقد رادف بين دلالتيْ “التجنّي” و”التجرّم”. والجناية “بالمفهوم الفقهي هي كل ما حظره الشارع وزجر عنه بعقوبة… والفقهاء يستعملون لفظة “الجناية” للدلالة على “الجريمة” أيا كان نوعها، في النفس والدماء أو الأموال أو الأعراض، إلا أنه غلب وشاع استعمال لفظ “الجناية” لما يقع على النفس والدماء خاصة”(8).

وقد عرّف الماوردي الجرائم بأنها “محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير”(9).

وعرّف الجرجاني الجناية بقوله: “هو كل فعل محظور يتضمن ضررا على النفس أو غيرها”(10).

فمع وضوح اختلاف عبارة الرجلين نظرا لاختلاف زاوية نظر كلٍّ منهما؛ حيث انصبّ نظرُ الماوردي على الجانب الجزائي، في حين ركز الجرجاني نظره على جانب الضرر المترتب على فعل الجاني.. فالنتيجة في النهاية واحدة تتفق في أن الفقه الجنائي هو القانون الإسلامي المبيّن لأحكام الجنايات أو الجرائم التي اعتبرها الإسلام مخالفات شرعية رتّب على مقترفها جزاء زاجرا.

4- مدلول الفقه الجنائي الإسلامي: الفقه الجنائي الإسلامي أو التشريع الجنائي الإسلامي أو نظام العقوبات في الإسلام أو غيرها من مرادفاتها ذات معنى واحد يشمل كل ما تعلق بالجنايات أو الجرائم التي حظرها الشرع الإسلامي واعتبرها مخالفات تترتب عليها عقوبات. “فالفقه الجنائي جزء من الفقه الإسلامي الشامل يبحث في الجرائم بيانا وثبوتا وشروطا، وفي عقوباتها والقواعد -المبادئ- التي تحكمها سواء كانت تلك الجرائم حدودا أو قصاصا أو تعازير”(11).

 وعرّف الأستاذ محمود نجيب حسني الفقه الجنائي الإسلامي بأنه “مجموعة الدراسات التي تتناول التنظيم الشرعي الإسلامي للجريمة كظاهرة اجتماعية يحددها الشارع ابتغاء مكافحتها، والتنظيم الشرعي الإسلامي للعقوبة وما يساندها من تدابير باعتبارها وسائل المجتمع لمكافحة الجريمة كضرر وخطر اجتماعي”(12).

5- مدلول القانون الجنائي: عبارة القانون الجنائي عند القانونيين مركب نعتي دلالته لقَبية تُطلق على فرع معيّن من فروع القانون يهتم بالجنايات دون غيرها، فهو “تعبير ينصرف إلى مجموعة القواعد الجنائية التي تحكم نظرية المسئولية الجنائية، بكل ما تنهض به من تحديد للجريمة والمجرم والجزاء (عقوبة وتدبيرا احترازيا)، والقواعد التي تحدد مفردات الجرائم والعقوبات المقررة لها، وكذا القواعد الإجرائية التي تحكم الدعوى الجنائية من حيث إجراءات مباشرتها منذ لحظة وقوع الجريمة حتى الحكم فيها. ومعنى ذلك، أن مصطلح القانون الجنائي يشمل قانوني: العقوبات والإجراءات الجنائية”(13).

ولم ير بعض القانونيين مبررا للتفريق بين عبارات “القانون الجنائي” و”القانون الجزائي” و”قانون العقوبات” و”قانون الجرائم” و”القانون العقابي”، فكل ذلك بمعنى واحد، يقول الدكتور مصطفى العوجي أستاذ القانون الجنائي: “اختلفت تسمية القانون الذي يحدد مبادئ التجريم والعقاب باختلاف البلدان وما جرى عليه لسان أهل القانون من تسميات محلية ليست حتما تسميات نابعة من تحليل معين لمضمونها بل نتيجة لعرف وعادة لا يثيران أي شك حول هذا المضمون لأنه معروف من الجميع. فنرى ترادفا بين كل من القانون الجنائي والقانون الجزائي وقانون العقوبات وقانون الجزاء وقانون الجرائم والعقوبات والقانون العقابي”(14).

 في حين مال البعض الآخر من القانونيين إلى التفصيل والتدقيق، فرادف بين بعض تلك العبارات وخصص معنى البعض الآخر، يقول الدكتور محمود نجيب حسني أستاذ القانون الجنائي: “… ونحن نخلص من ذلك إلى رفض تعبير “القانون الجزائي”، وإقرار صحة تعبيري “قانون العقوبات” و”القانون الجنائي”، والقول بجواز استعمالهما كمترادفين، وإن ساغ أن يُستعمل الثاني في معنى أشمل”(15). ويقول الدكتور محمد عبد الشافي إسماعيل: “إن مصطلح القانون الجنائي يشمل قانونيْ: العقوبات والإجراءات الجنائية، ونستطيع في عبارة موجزة أن نقول: إن قانون العقوبات هو “القانون الجنائي الموضوعي”، وإن قانون الإجراءات الجنائية، هو “القانون الجنائي الإجرائي”(16).

6- مدلول التقنين ومجاله:لفهم معنى التقنين لابد من تعريف القانون أولا؛ وهو عند علماء القانون “مجموعة القواعد الملزمة التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع”(17)، وهو بعبارة أوسع “مجموعة القواعد العامة والمجردة التي تحكم سلوك الأفراد في المجتمع والمقترنة بجزاء دنيوي والتي تلزمهم السلطة العامة باحترامها ولو بالقوة إذا لزم الأمر”(18).

أما التقنين فعرّفه الشيخ وهبة الزحيلي بأنه “صياغة أحكام المعاملات وغيرها من عقود ونظريات ممهدة لها جامعة لإطارها في صورة مواد قانونية، يسهل الرجوع إليها”(19)، فالتقنين إذًا هو عملية صياغة القانون في قواعد عامة ومجردة (أي تتسم بالعموم والتجريد)، وتخضع لتبويب وترقيم معين ثابت، وتُصاغ تلك القواعد لغرض تنظيم سلوك أفراد المجتمع، بحيث يتم إلزام الناس بأحكامها وتحميلهم نتيجة مخالفتها بتسليط العقاب عليهم

أما مجال التقنين وما يدخل فيه فقد بيّنه الأستاذ محمد عبد الجواد محمد من خلال توضيح العلاقة بين الاصطلاحات المذكورة وربط عملية التقنين بها في قوله: “الفقه الإسلامي هو جزء من الشريعة الإسلامية. لأن الشريعة تعني كل ما شرعه الله لعباده. وكل ما ورد في القرآن الكريم فهو شريعة. سواء في التوحيد والعقيدة، أو العبادات، أو المعاملات، أو القصص. أما الفقه فقاصر على العبادات والمعاملات فقط. والتقنين قاصر فقط على المعاملات، أي على أحد قسميْ الفقه. والمعاملات تشتمل على جميع فروع القانون المعروفة، من القانون العام بفروعه، وأهمها: القانون الدولي العام، والقانون الدستوري، والقانون الإداري، والقانون المالي، والقانون الجنائي، والقانون القضائي. وكذلك القانون الخاص بفروعه، وأهمها: القانون المدني، والقانون التجاري، وقانون العمل، والقانون الدولي الخاص، وهذه القوانين وغيرها هي المقصودة بعملية تقنين الفقه الإسلامي، وليست الشريعة الإسلامية بمعناها الواسع، ومضمونها الإجمالي”(20).

فقد ورد من جملة فروع القانون التي تطالها عملية التقنين؛ القانون الجنائي، وهو ما يسميه البعض بالقانون الجزائي، أو قانون العقوبات، فهو موضوع للتقنين كغيره من مجالات القانون الأخرى.

المطلب الثاني: العوامل المساعدة على تقنين الفقه الجنائي الإسلامي

حقيقة أن الفقه الجنائي الإسلامي هو جزء لا يتجزأ من عموم الفقه أو التشريع الإسلامي، هي حقيقة تلقي بظلالها على مشاعر المسلمين حكاما ومحكومين إذا ما قصروا في حق هذا القسم من الفقه بتجاهله تماما أو حتى بالتلكؤ في تطبيقه والعمل به لتبرئة ذممهم من هذا الالتزام مهما بدا عبئا ثقيلا في هذا العصر..

ومهما واجهه من صعوبات، فإنه تبقى للفقه الجنائي الإسلامي دواع وعوامل مساعدة لا تكاد تخطئها عين الناظر المنصف، لعل من أهمها ما يلي:

1- الداعي الشرعي:يتجه أكثر الباحثين المهتمين بهذه القضية سواء من فقهاء الشريعة أو رجال القانون إلى الإقرار بفائدة تقنين الفقه الإسلامي في مختلف مجالاته المعلومة، بل هي عندهم مسألة ضرورية ملزمة تستمد مشروعيتها من وجوب تطبيق شرع الله في أرضه، باعتبار أن التقنين قد أضحى اليوم شرطا لا محيد عنه يتوقف عليه مسعى تطبيق الأحكام الشرعية في المجتمع المسلم، يقول الشيخ وهبة الزحيلي بعد إيراده لدعاوى مساوئ التقنين: “ونحن مع تقديرنا لهذه المعطيات والأسباب النظرية إلى حد ما، نجد أن مزايا التقنين تفوق بكثير عيوبه ومساوئه، إذ إن تلك المعطيات والأسباب ملحوظة عند صياغة القانون، بل لا يمكن إهمالها، وإنما يجب أن يكون دور صائغي القانون دور المجدد والذي يصطفي ويختار من أحكام الفقه الإسلامي دليلا واضحا على صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في كل زمان ومكان، وهو مطلب إسلامي ملح، نابعمن حكم القرآن بإيجاب تطبيق شرع الله ودينه. وللتقنين مزايا وفوائد كثيرة أولها: سهولة الرجوع إلى أحكام القانون. ثانيها: ضبط الأحكام الشرعية وبيان الرأي الراجح. ثالثها: وحدة أحكام القضاة”(21).

2-الداعي العملي:لا شك أن مسعى تقنين الفقه الإسلامي عموما والاتجاه إليه والحرص عليه هو دلالة واضحة على إرادة تطبيقه والعمل به في واقع المجتمع المسلم على المستوى الرسمي. فمشروع التقنين هو جزء لا غنى عنه من مشروع تبنّي السلطات الرسمية أو مؤسسة الدولة له، وعمل المحاكم ورجال القانون به. إذ لا يُتصوّر تطبيقٌ لأي حكم من أحكام الشريعة الإسلامية في أي باب من أبوابها، بدون صياغته قانونيا في شكل قاعدة أو مادة قانونية، بحيث يتوفر فيه ما يجب أن يتوفر في كل قاعدة قانونية من الشروط الثلاثة اللازمة وهي: التجريد، والعموم، والإلزام، التي لا تتحقق مجتمعة في أحكام الفقه الإسلامي المتعارف عليها في الموسوعات الفقهية التقليدية التي وضعها فقهاء الشريعة لبيان أحكام المسائل الفرعية في معزل عن سلطة القانون.

 أما شرطا التجريد والعموم؛ فمردهما إلى الصياغة، وهما لا يتحققان في الأصول التشريعية إلا نادرا، نظرا لتردد تلك الأصول (النصوص الشرعية) بين الصيغة الخبرية، والصيغة الإنشائية. والثانية تتناسب مع غاية الهداية الذاتية أو التهذيب والتعليم، ولا تتناسب مع التطبيق والتنـزيل. وهي مع ذلك مجرد مسألة شكلية، تحتاج إلى جهد خاص من قبل متخصصين مخلصين يجمعون بين المعرفة الشرعية والدراية القانونية لإنجاز المطلوب، بتحويل تلك الصيغ الفقهية إلى صيغ قانونية.

وأما شرط الإلزام، فيتوقف على وجود السلطة التنفيذية الراعية له والقائمة عليه، بحيث لا يجزئ تحقق الشرط الأول -أي تجند من يتكفل بعملية التقنين- في انتقال تلك الصيغة القانونية إلى مرحلة التنفيذ، وإلا تظل بدون فائدة تُرجى غير محققة للغاية من إنجازها.

وسلطة القانون بدورها لا تتحقق إلا في ظل إرادة الدولة واتجاهها إلى تحويل ذلك الحكم الفقهي من مجرد رأي فقيه مبيّن لحكم لا سلطة له على الناس، إلى حكم ثابت معمول به تقف وراءه إرادة الدولة التي أذنت بصياغته القانونية ثم أجازته ليعمل به رجال القانون والمتنفذون كل في دائرة سلطته؛ التشريعية الابتدائية في مرحلته الأولى، أو القضائية التقريرية في مرحلته الثانية، أو التنفيذية العملية في مرحلته الثالثة والأخيرة.

3- وحدة الهدف بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي:لا شك أنه ما من قانون أو تشريع مهما كان مصدره إلا وهو يهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع الذين ما جاء ذلك القانون إلا لتنظيم حياتهم وضبط سلوكهم بسلطة الدولة فيما يصطلحون عليه أو يصطلح عليه ممثلوهم لضمان استقرار اجتماعهم، وهو جوهر مسؤولية الهيئة الحاكمة المشرفة على ذلك القانون مهما كان مصدره. إذًا فالهدف نظريا واحد وهو أساس مبرر تأسيس الدولة.

كما أن الشريعة والقانون يلتقيان أيضا في مهمة التوجيه، وقد كانت مهمةً تنفرد بها التشريعات السماوية ومنها التشريع الإسلامي، لمّا كانت مهمة القوانين الوضعية الحديثة قاصرة على تنظيم المجتمع وتحقيق العدالة دون التدخل في هداية الناس أو توجيههم إلى هدف سلوكي معين، إلا “أن القانون الوضعي حين تحول أخيرا عن أصله الأول فصار يوضع لتوجيه الجماعة، إنما أخذ في ذلك بنظرية الشريعة الإسلامية التي تجعل الأصل في التشريع أن يصنع الجماعة ويوجهها ثم ينظمها، وهكذا انتهى القانون الوضعي إلى ما بدأت به الشريعة وسبقت إليه من ثلاثة عشر قرنا، فإذا ما قال علماء القانون الوضعي: إنهم وصلوا لنظرية جديدة، قلنا لهم: كلا ولكنكم تسلكون طريق الشريعة وتسيرون في إثرها”(22).

ولا يهمنا هنا الجدل الدائر بين علماء القانون أنفسهم على اختلاف خلفياتهم المذهبية فيما إذا كان الحياد عن مهمة التنظيم إلى مهمة التوجيه في القوانين الوضعية مردّه تأثر القانونيين بنهج الشريعة الإسلامية وركونهم إليها، أم هي محض التجربة العملية والخبرة المتراكمة التي أقنعتهم بجدوى مهمة التوجيه دون استحضار النظرية الشرعية. فالحصيلة في النهاية واحدة وهي اتفاق القانون الوضعي مع التشريع الإسلامي في هذا الهدف الذي أصبح مشتركا في الواقع، فضلا عن هدف التنظيم وتحقيق العدالة.

4- اتفاق الشريعة والقانون في مفهوم الجريمة: من خلال التعريفات الواردة للجريمة في كلٍّ من الشريعة والقانون يتبين بوضوح أن “الشريعة تتفق تمام الاتفاق مع القوانين الوضعية الحديثة في تعريف الجريمة، فهذه القوانين تعرّف الجريمة بأنها إما عمل يحرّمه القانون، وإما امتناع عن عمل يقضي به القانون، ولا يُعتبر الفعلُ أو الترك جريمة في نظر القوانين الوضعية إلا إذا كان معاقبا عليه طبقا للتشريع الجنائي”(23). فليس من محاسن الصدف أن تتفق الشريعة الإسلامية مع القوانين الوضعية في تعريف الجريمة التي هي من أكثر مسائل كل منهما حساسية. بل إن وحدة التعريف راجع أساسا إلى وحدة الهدف منهما معًا.

إلا أن تلاقي القوانين الوضعية مع الشريعة الإسلامية في مفهوم الجريمة -كما في غيرها من المفاهيم الجنائية-،كان قاصرا على الجانب الإجرائي منه بخلاف الجانب الجزائي، فالبوْن فيه شاسع وحاد بين ما تراه النظريات القانونية المعاصرة من عقوبات زجرية كفيلة عند أصحابها بتحقيق الهدف من صدور القانون المتمثل في ردع المجرمين، وهي زواجر تستبعد نهائيا العقوبات البدنية، وبين العقوبات الجنائية الإسلامية التي تعتمد في جانب مهم منها -وهو الحدود- على تلك العقوبات البدنية، من منطلق أنها عقوبات وقائية أكثر منها جزائية، وهنا محل الإشكال والتنافر بينهما.

المبحث الثاني

صعوبات تقنين الفقه الجنائي الإسلامي

تواجه محاولات تقنين الفقه الجنائي الإسلامي صعوبات تعرقل مسيرته، سواء في طريق القانونيين الذين اتجهوا صوب المصنفات الفقهية الموسوعية لأخذ المادة المضمونية منها متسلحين بما لديهم من خبرة قانونية تساعدهم على إعادة صياغة المادة الفقهية وفق الشروط القانونية المعاصرة، أو في طريق القانونيين الذين اتجهوا وجهة أخرى لتحقيق نفس الغاية، وهي الاتجاه صوب النصوص القانونية الوضعية لقسم من أقسام القانون، ومراجعتها وإعادة النظر فيها في ضوء أحكام الفقه الإسلامي الواردة في نفس الموسوعات الفقهية التي اتجه إليها الطرف الأول. ومِن ثم فقد تعددت الصعوبات القائمة في طريق هؤلاء الحرصاء، بله غيرهم ممن لا همة لهم في عملية التقنين أصلا.

وهذه الصعوبات على اختلافها لا تخرج عن كونها ذاتية راجعة إلى أشخاص القانونيين في نظرتهم إلى الشريعة الإسلامية وطبيعة تكوينهم العلمي… أو موضوعية راجعة إلى العراقيل الواقعية التي تقف في طريق العلماء المقتدرين والمخلصين لهذا العمل -من فقهاء وقانونيين- خلال محاولاتهم في مسعى التقنين.

المطلب الأول: الصعوبات الذاتية

1- جهل رجال القانون بالفقه الجنائي الإسلامي: يقول المرحوم عبد القادر عودة في سياق تبريره لمبادرته إلى إعادة صياغة الفقه الجنائي الإسلامي قبل غيره من أبواب الفقه الأخرى: “ولقد بدأتُ بالقسم الجنائي لأنه القسم المنبوذ المظلوم في الشريعة. فنحن معشر القانونيين لا ندرس من الشريعة إلا الجزء الخاص بالأحوال الشخصية، وما عدا ذلك فهو مهمَل إهمالا يكاد يكون تاما وبخاصة القسمين المدني والجنائي. وقد أدى بنا هذا الإهمال إلى نتيجة لابد منها وهي أنا نجهل أحكام هذين القسمين جهلا فاضحا. ولكننا بالرغم من ذلك نعترف بأن الشريعة بلغت في المسائل المدنية مستوى لا يقل عن المستوى الذي بلغته القوانين الوضعية”(24).

ومع أن كلام المرحوم عبد القادر عودة قد مر عليه أكثر من نصف قرن من الزمن، وهي مدة تكاثر فيها عدد القانونيين الذين دفعهم حرصهم الذاتي -الديني أو الوطني- إلى الاطلاع الجيد على أحكام الشريعة الإسلامية بما فيها الأحكام الجنائية، أو الذين جمعوا في دراساتهم بين الشريعة والقانون بعد أن تأسست الكليات الجامعة بين ذينك الاختصاصين.. مع كل ذلك فإن جهل القانونيين بالفقه الإسلامي ظل هو الحال الغالب، فأكثر القانونيين حتى اليوم يضعون بينهم وبين دراسة الفقه الإسلامي حاجزا نفسيا سميكا يفصلهم عنه، فيبقون على موقف المقاطعة والمعاداة له، ومن طبائع الأمور أن من جهل الشيء عاداه. والذين لا يجهلون أحكام الفقه الإسلامي غالبا ما لا تكاد معرفتهم تتجاوز من الفقه الإسلامي ظاهر أحكام الحدود دون حقيقتها وشروطها وأهدافها والفلسفة التشريعية التي تقوم عليها، وهذا مما يسهم في مزيد معاداته وتذكية القطيعة بينهم وبينه. بدليل أنه بعد ما يزيد على ثلاثة عقود على كلام المرحوم عودة كتب الأستاذ محمد مصطفى القللي يقول: “لم يكن لدراسة الأحكام الشرعية في المسائل الجنائية إلى عهد غير بعيد حظ كبير، وكان جل الاهتمام منصرفا إلى أحكام المواد المدنية والأحوال الشخصية. ولم يُعن أغلب الباحثين من فقهاء القانون الوضعي بدراسة أحكام الجرائم والعقوبات في الشريعة الغراء دراسة مفصلة ومقارنتها بما عليه الحال في القوانين الحديثة القائمة. وكان هذا نقصا حال بيننا وبين معرفة حقيقة ما لدينا من تراث زاخر مجيد”(25).

2- نظرة القانونيين للفقه الجنائي الإسلامي: وهي نظرة يغلب عليها الاستعلاء تجاه الفقه الإسلامي عموما وفقه الجنايات منه خصوصا، يقول الدكتور أحمد حسني أحمد طه: “لقد قرأت كثيرا في عصرنا الحاضر من فكر بعض كتابنا المعاصرين من أن تطبيق الشريعة الإسلامية وخاصة في مجال العقوبة إنما هو عوْد إلى الجاهلية الاجتماعية الأولى، ولا يحق لشعب حضارته حوالي سبعة آلاف سنة أن يكون كذلك. وأن العقوبات البدنية خصوصا منافية للإنسانية فوق أنها تهدر كرامة الإنسان ولا تتفق مع حريته، وأنه يجب النظر إلى تلك العقوبات على أنها تراث بال”(26). وهذا الكلام لا يكاد يختلف في شيء عما قاله المرحوم عبد القادر عودة قبل ذلك بنصف قرن عندما صرح بأن “القسم الجنائي في عقيدة جمهور رجال القانون لا يتفق مع عصرنا الحاضر ولا يصلح للتطبيق اليوم، ولا يبلغ مستوى القوانين الوضعية. -واستدرك بقوله- وهي عقيدة خاطئة مضللة. وإذا حاول أي شخص منصف أن يعرف الأساس الذي قامت عليه هذه العقيدة فسيعجزه أن يجد لها أساسا سوى الجهل، وسيدهشه أن يعلم أننا نحكم على القسم الجنائي في الشريعة بعدم الصلاحية ونحن نجهل كل الجهل أحكام الشريعة الجنائية مجملة ومفصّلة”(27).

وهنا نرى مرة أخرى أن تلك الشبهات والدعاوى التي كانت شائعة منذ عقود مازالت تصدر عن الكثير من القانونيين بصوت عال لا استحياء فيه.. بما يعني أن الكفة ظلت راجحة إلى اليوم في اتجاه طرف القانونيين الجاهلين لأحكام الشريعة ممن استمروا في نظرتهم الدونية للشريعة مقابل القانون، واستعلائهم على الفقه الإسلامي، مما جعل مجرد التفكير في تقنين الفقه الإسلامي عموما والجنائي منه خصوصا ضربا من المستحيل بالنسبة إليهم. ولا شك أن هذا الانطباع الغالب لدى رجال القانون وكثيرين من مؤيديهم من الاتجاهات العلمانية في المجتمعات الإسلامية، قد جعل مهمة تقنين الفقه الإسلامي صعبة عسيرة، وتقنين الفقه الجنائي منه أبعد وأصعب.

ولكن مع ذلك فإن هذه النظرة الغالبة لدى عموم القانونيين لم تمنع بعض الأساتذة الكبار من تنبيه هؤلاء إلى الخطأ الذي وقعوا فيه خلال تقييمهم للشريعة الإسلامية من خلال منظور القوانين الوضعية المعاصرة ذاتها، حيث جعلوا النظريات القانونية الوضعية موضوعا للمقارنة -إلى جانب الفقه الإسلامي- ومعيارا لعملية التقييم في الوقت ذاته. فهذا الأستاذ محمود نجيب حسني رئيس جامعة القاهرة سابقا يقول: “إن الشريعة الإسلامية لا تستمد قيمتها العلمية من مقارنتها بالنظم القانونية المعاصرة، بحيث يقال إن ما اتفقت فيه معها كان مظهر تقدم وما خالفتها فيه كان دليل تخلف، فذلك نهج غير علمي يفترض أن النظم المعاصرة هي مقياس التقدم أو التخلف، ويفترض أنها المثل الأعلى للنظم القانونية، وهذا غير صحيح. وإنما تُقدَّر قيمة الشريعة الإسلامية بما استندت إليه من منطق، وما تبنته من قيم، وما استهدفت تحقيقهمن مصالح. وإن الدراسة الموضوعية لها، واستظهار نتائج تطبيقها – حيث أتيح لها التطبيق- يثبت أنه قد توافرت لها جميع هذه العناصر الإيجابية للتقييم”(28).

3- توجّس كثير من المثقفين المسلمين من أحكام الحدود: وهؤلاء من الدارسين المثقفين الذين يستوحشون مجرد التفكير في تطبيق أحكام الحدود في هذا الزمن، بحيث يعزز هؤلاء رأي القانونيين المعارضين لتطبيق أحكام الشريعة والنخب السياسية التي تسير في ركابها. وقد تحدث عن هؤلاء الفقيه القانوني الشيخ مصطفى الزرقاء منذ بداية خمسينات القرن الماضي فقال فيهم: “إن فريقا من الناشئة الإسلامية التي نشأت في جو ثقافي لا يتيح لها أن تعرف الحقائق والقابليات الواسعة في النظام القانوني من الشريعة يرون عدم إمكان تطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحاضر، لأن هناك مشكلات زمنية تعترض سبل هذا التطبيق ولا تتسع الشريعة لحلها في نظرهم(29).

ثم ذكر الشيخ الزرقاء أربعة مشاكل اعتبرها الأساسية التي تقف وراء موقف هؤلاء، من جملتها العقوبات الحدية.

المطلب الثاني: الصعوبات الموضوعية

1- صعوبة تقنين الفقه الإسلامي ذاته: وذلك بسبب صعوبة الكتب الفقهية القديمة والموسوعات الفرعية التي اتبع فيها أصحابها منهجا صعبا معقدا لا يتلاءم مع الأجيال الحاضرة التي اعتادت سهولة العبارة ووضوح المنهج في عرض الأحكام مبوبة مرتبة ترتيبا ثابتا واضح المعالم، بينما “كتب الفقه القديمة ليست مفهرسة، وليس من السهل على من يحب الاطلاع على مسألة معيّنة أن يعثر على حكمها في الحال، بل عليه أن يقرأ بابا وأبوابا حتى يعثر على ما يريد خصوصا إذا لم يكن له من يرشده، وقد ييأس الباحث من العثور على ما يريد ثم يوفقه الله فيعثر عليه مصادفة في مكان لم يكن يتوقع أن يجده فيه”(30). وحتى بعد تصنيف الفقهاء المعاصرين للعديد من الموسوعات الجامعة والمقارنة بين المذاهب الفقهية السائدة في العالم الإسلامي -حيث تيسر اليوم أكثر عبءُ التقنين على رواده- فإنه مع ذلك يبقى عملا صعبا مضنيا حتى عندما يأخذ مسعى رسميًا بأن يدعو إليه ويتكفل بمصاريفه الباهظة الحكام أنفسُهم، فيخففون من ثقل أعبائه وتكاليفه على القائمين به.

2- صعوبة تطوير القانون: في مقابل نمط تقنين الفقه الإسلامي من خلال الرجوع مباشرة إلى المصنفات الفقهية المتداولة، يوجد نمط للتقنين من خلال رجوع بعض القانونيين للقواعد القانونية الوضعية ذاتها في ضوء أحكام الفقه الإسلامي، بحيث يكون فرعا من فروع قانون وضعي معين -كالقانون الدستوري أو التجاري أو الجنائي…- موضوعا للنظر والمراجعة قصد إعادة صياغته، ويكون الفقهُ الإسلامي المعيارَ المعتمد لتلك المراجعة وإعادة الصياغة، فيما يصح تسميته بأسلمة القانون الوضعي أو تأصيله بالتماس وجه من التوافق بين قواعده وأحكام الفقه الإسلامي.

ولكن هذه العملية بدورها لا تخلو من صعوبات ومحاذير جمة لا تقل عن صعوبات تقنين الفقه الإسلامي وفق النمط الأول. والسبب الأساسي في ذلك هو أن القانوني يظن أنه قد سلك الطريق الأقصر والأيسر لعملية التقنين من خلال إلحاق تعديلات بالصياغة القانونية مع إبقاء أصولها على حالها، وإذا به يجد نفسه في مواجهة متاهات فقهاء الشريعة واختلاف اجتهاداتهم في المسألة الواحدة، فيرتبك ذهنه ويذهب عزمه ويغلب عليه اليأس والقصور، ويتملكه الإحباط والفتور. يقول الدكتور محمد عبد الشافي إسماعيل أستاذ القانون الجنائي في سياق حديثه عن الصعوبات التي واجهته في بحث تطوير القانون الجنائي طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية أن منها: عدم وجود كتابات في هذا الموضوع على حد علمي، وكيف يروم الباحث كتابات في هذا الموضوع، والكتابة فيه لا تعدو أن تكون انعكاسا لفكر الكاتب؟ آية ذلك تعدد الاجتهادات الفقهية في المسألة الواحدة، ولا جدال في أن ما يميل إليه باحث من اجتهاد معين، قد لا يصادف ذات الميول لدى باحث غيره؛ ولهذا فإنك لو طلبت من عشرة أشخاص -مثلا- تطوير نص بعينه وفقا لأحكام الشريعة، وكان موضوع النص اجتهاديا، لقُدمت إليك عشرة نصوص كل منها يغاير الآخر مغايرة كلية أو جزئية”(31). وهذا الكلام جديد صادر في مفتتح الألفية الميلادية الثالثة أي قبل بضع سنوات فقط.

وواضح أن هذا النمط من التقنين ينطلق من اعتقاد سائد عند كثير من فقهاء الشريعة وعلماء القانون على حد سواء، مفاده أن الاختلاف بين أحكام الفقه الإسلامي والقانون الوضعي هو وضع استثنائي، وأن الأصل التوافق والتلاقي بينهما، ومن ثم ما على عالم القانون -ولو كان فردا- إلا الانتباه أثناء عملية المسح التي يجريها على القانون لوضع يده على مواضع الخلاف تلك وإلحاق تعديلات بخصوصها ليصبح القانون كله إسلاميا(32).

وهذا اعتقاد لا يسلم لأصحابه من أساسه، فعملية التقنين ليست بهذه البساطة، إذ لا يصلح الانطلاق من قانون وضعي جاهز وجعله موضوعا للتقنين، ولا يمكن أن يقوم بهذا العمل الجليل رجل واحد، كما أن الخوض في دراسة الفقه الإسلامي -سواء لتقنينه أو لجعله معيارا في مراجعة قانون وضعي جاهز- يتطلب جهدا كبيرا ووقتا طويلا..ذلك فضلا عن أن تقنين الفقه الجنائي بالذات -وجرائم الحدود منها خصوصا- لا ينطبق عليها هذا الوصف بحال، إلا في دائرة التعازير -إلى حد ما- باعتبار أن أحكامها اجتهادية.

3- اختلاف النظم القانونية في البلاد العربية: وهذا يرجع أساسا إلى العامل التاريخي الذي مزق العالم الإسلامي إلى أقطار خاضعة إلى إحدى الدول الأوربية المستعمرة التي لم تأل كل منها جهدها في نقل قانونها إلى بلاد المسلمين ليكون معمولا به ملزما لكل من يقع تحت طائلته باعتباره رمزا للسيادة. فتعددت بذلك المصادر القانونية الوضعية بتعدد أصحابها. وحتى بعد اندحار الاستعمار إثر الحرب العالمية الثانية التي أفنت شباب المستعمر وأوهنت قبضته، فإن النخب المحلية التي انتقلت إليها سلطات الإشراف كانت من الطينة العلمانية التي أُشربت قوانين الغرب ونظمه في الحياة بمعزل عن التأثير الديني وهديه وتوجيهه. يقول الدكتور محمد عبد الجواد محمد في سياق حديثه عن جهود الجامعة العربية في مسعى التقنين باعتباره من المداخل الأساسية للتقارب بين البلدان على توحدها في المستقبل: “إن سير العمل بعامة، والتقنين بخاصة، في الجامعة العربية بطيء، بل أكثر من بطيء. وذلك بسبب اختلاف النظم القانونية، بل وتعارضها، في البلاد العربية. والأمل معقود على مجلس التعاون لدول الخليج العربي، أن ينجز، فيما ينجز من أعمال مختلفة، تقنين المعاملات في الفقه الإسلامي، في فروع القانون المختلفة، ويطبقه فعلا، ليكون أنموذجا يُحتذى ولتنقله البلاد الإسلامية الأخرى التي تريد ذلك”(33).

فالرجل يشعر بالإحباط بسبب ذلك البطء في عملية التقنين، إلى درجة أنه نفض يديه من الجامعة العربية وظل يعلق آماله على مجلس التعاون الخليجي وحده.

المبحث الثالث

جهود تقنين الفقه الجنائي الإسلامي وآفاقه

المطلب الأول: الجهود العملية لتقنين الفقه الجنائي الإسلامي

لقد تعددت محاولات تقنين الفقه الإسلامي عمومًا في بلدان عربية وإسلامية كثيرة، وبخاصة منه القانون المدني، بخلاف الفقه الجنائي، فقد كانت مساعي تقنينه قليلة وبطيئة وقاصرة غالبا على غير الحدود وهو الفرع الأكثر حساسية بين أبواب الفقه الإسلامي. ومن ثم فقد تراوحت تلك المساعي بين شمول بعضها للمقدَّرة منها والتعازير، واقتصار بعضها الآخر -وهو الأغلب- على التعازير دون الحدود والقصاص.

ومن أهم تلك المحاولات ما يلي:

1- مجلة الأحكام العدلية:هناك إجماع بين أهل الاختصاص -من فقهاء الشريعة ورجال القانون على حد سواء- على أن “مجلة الأحكام العدلية” هي أول عملية تقنين رسمية جادة ظهرت في العالم الإسلامي وحظيت بالتطبيق العملي بعد إقرار السلطات السياسية لها، يقول الدكتور محمد فاروق النبهان: “تأتي أهمية ظهور هذه الموسوعة (مجلة الأحكام العدلية) في أواخر العصر العثماني -كقانون مدني مستمد من الفقه الإسلامي- من أن هذا الحدث يُعتبر أول تقنين منظم للأحداث الفقهية، قامت به لجنة علمية مكلفة من جهة رسمية. ثم صدرت إرادة سلطانية باعتماد هذا التقنين كقانون مدني معمول به في المحاكم”(34).

وقد اشتملت “مجلة الأحكام العدلية” على قواعد عامة في هيئة مواد قانونية بلغ عددها 1851 مادة، وتمت المصادقة عليها في السادس والعشرين من شهر شعبان سنة 1293هـ الموافق لعام 1876م، وهي تتعلق بجوانب مختلفة من الفقه الإسلامي وأبوابه، ومنها ما تعلق بالجنايات مثل الغصب والإتلاف والإكراه

ومن موادها ذات الصلة بمجال الجرائم والعقوبات:

 مادة “الأصل براءة الذمة”.

مادة “الضرورات تبيح المحظورات”.

مادة “إذا زال المانع عاد الممنوع”.

مادة “الضرر لا يُزال بمثله”.

مادة “الاضطرار لا يُبطل حق الغير”.

مادة “التابع لا يُفرد بالحكم”.

مادة “أن يُضاف الفعل إلى الفاعل لا الآمر ما لم يكن مُجبَرًا”.

مادة “إذا اجتمع المباشر والمسبب يُضاف الحكمُ إلى المباشر.

مادة “المباشر ضامن وإن لم يتعمد”.

مادة “المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد”.

مادة “البينة على المدعي واليمين على من أنكر”.

مادة “جناية العجماء جبار”.

مادة “من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”.

مادة “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة”(35).

والملاحظ من هذه المواد ومن غيرها من المواد القانونية الواردة في “مجلة الأحكام العدلية” أنها مستفادة من القواعد الفقهية المعروفة في التشريع الإسلامي، بل وبعضها مأخوذة منها بعبارتها.

2- إصدار القانون الجزائي الكويتي لسنة 1960م:ورد في مقدمة قانون الجزاء الكويتي لسنة 1960م قول المشرّع: “كل الجرائم الواردة في هذا القانون إنما هي ضروب التعزير، خصص ولي الأمر فيها القضاء من حيث الموضوع فأوجب عليه أن يحكم في هذه الجرائم دون غيرها. وأن يحكم بعقوبات عيَّن لها حدودها القصوى فلا يتجاوزها. ولكن يجوز له أن ينـزل عنها إلى الحد الذي يراه، ناظرا في ذلك إلى ظروف كل قضية وما يحيط الجاني من ملابسات شخصية. وليس في كل ذلك إلا مسايرة للمبادئ المقررة في باب التعزير كما دوّنها فقهاء الشريعة”(36).

وجاء عن اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ما يلي: “إزاء ما لقانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية من أهمية خاصة، بحسبانه القانون الذي ينظم النشاط الذي تباشره السلطات العامة في الدولة حيال ما يقع من جرائم لضمان تطبيق صحيح حكم القانون بشأنها، من حيث الضبط، والتحقيق، والمحاكمة، وتنفيذ الأحكام الصادرة فيها.

وقد قامت اللجنة الفنية المختصة بمراجعة نصوص القانون رقم 17 لسنة 1960 بإصدار قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية القائم البالغ عددها (304) مادة، وخلصت إلى إعداد مشروع متكامل يتفق وما تم استحداثه من جرائم في مشروع قانون الجزاء كجرائم الحدود والقصاص، ويعالج أوجه القصور التي كشف عنها التطبيق العملي للقانون القائم خلال الأربعين سنة الماضية على تطبيقه، فضلاً عن مواكبته النظريات القانونية الحديثة في موضوعه بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.

وقد وقع المشروع في 306 مادة تناولت كافة الأحكام الموضوعية والإجرائية ابتداءً من الضبط والإحضار مروراً بالتفتيش والتحقيق والمحاكمة وانتهاءً بتنفيذ الأحكام ومحو الآثار التي تترتب عليها، كما يتضمن المشروع القواعد الإجرائية لتنفيذ أحكام الحدود التي تم استحداثها في مشروع قانون الجزاء(37).

3- إصدار القانون الجنائي الإسلامي في ليبيا:أصدرت ليبيا قانونا رقم 148 سنة 1972م أقام حد السرقة والحرابة وعدّل فيما بعد بموجب القانون رقم 8 سنة 1995م. كما أقام القانون رقم 70 لسنة 1973م حد الزنى. والقانون رقم 52 لسنة 1974م حرم الخمر وأقام حد تعاطيه. هذه القوانين كلها أقامت العقوبات البدنية، بينما لا نجد لها من أثر في كافة القوانين المعاصرة، إلا ما خص الجزيرة العربية واليمن وقطر والبحرين حيث مازالت عقوبة الجلد قائمة”(38).

وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذا القانون (قانون حدّيْ السرقة والحرابة) ما يلي: “ولقد يحلو لبعض المرتابين والمتشككين أن يصفوا عقوبة القطع (أي في حدّيْ السرقة والحرابة) بأنها لا تتفق مع المدنية والتقدم، ويرمونها بالعنف والغلظة. وهؤلاء يركزون النظر على شدة العقوبة ويتناسون فظاعة الجريمة وآثارها الخطيرة على المجتمع، إنهم يتباكون على يد سارق أثيم تقطع، ولا تهولهم جريمة السرقة ومضاعفاتها الخطيرة، كم من جرائم ارتُكبت في سبيل السرقة، كم من جرائم اعتداء على الأشخاص وإحداث عاهات جسام وقعت على الأبرياء بسبب السرقة، كم من أموال اغتصبت وثروات سُلبت وأناس تشردوا بسبب السطو على أموالهم ومصدر رزقهم، كل ذلك لا يخطر ببال المشفقين على أيد قليلة تُقطع في سبيل أمن المجموع واستقراره”(39).

4- قانون العقوبات الاتحادي في دولة الإمارات العربية المتحدة:“تم تشكيل لجنة عليا للتشريعات، انبثقت منها لجان فرعية، أنيط بكل منها مسئولية التفرغ لإعداد قانون خاص، وكان من بين هذه اللجان لجنة القوانين الجنائية، وقد أعدت هذه اللجنة مشروعا لقانون العقوبات الاتحادي يقوم في بنيانه وعمده على أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، ولكن لحقت بهذا المشروع الكثير من التعديلات ليصدر في صورته الحالية في عام 1987م، حيث اقتصرت فيه أحكام الحدود والقصاص والديات على مادة واحدة، تُركت تفصيلاتها لاجتهاد القضاة في ضوء المذاهب الفقهية المختلفة”(40).

وقد صدر قانون العقوبات الاتحادي في 8 ديسمبر سنة 1987م، وعُمل به بعد ثلاثة أشهر من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية. وقد حرص في المادة الأولى من قانون إصداره على أن يعمل القانون المرفق في شأن الجرائم والعقوبات ويُلغي كل نص مخالف أحكامه(41).

وقد نصت المادة الخامسة (5) من مشروع قانون العقوبات الإماراتي على ما يلي: “يسري في شأن جرائم الحدود والقصاص والدية، ما ورد بشأنها من نصوص في هذا القانون، فإذا لم يوجد نص طُبّق المشهور في مذهب الإمام مالك، فإذا لم يوجد حكمٌ في المشهور، طبقت أحكام الأبواب الأول إلى العاشر من هذا القانون، وذلك فيما لا يتعارض مع النصوص المتعلقة بالجرائم المذكورة ومع المشهور في مذهب الإمام مالك.

وفي تعليقه على نص هذه المادة يقول الشيخ وهبة الزحيلي: “وبناء عليه وعلى استعراض أحكام مواده هو قانون إسلامي المبنى، شكلي التنظيم على وفق القوانين الحديثة؛ لأن العقوبات المنصوص عليها إما حدودٌ مستمدة من النصوص الشرعية، وإما تعزيرات أو عقوبات مفوضة، فوض النظر في تقديرها إلى الحاكم، وقد قدر الحاكم هذه التقديرات، فصار ما فيه موافقا لأحكام الشريعة”(42).

5- محاولات تطوير القانون الجنائي المصري وفق أحكام الشريعة الإسلامية: يقول الدكتور محمد عبد الشافي إسماعيل: “اتخذت مصر خطة حاسمة في سبيل العودة إلى تراثنا القانوني، وهو الشريعة الإسلامية، فنصت المادة الثانية من دستور جمهورية مصر العربية الدائم لسنة 1971م، والمعدلة طبقا لنتيجة الاستفتاء الذي جرى يوم 22 مايو 1980م على أن “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”. وإنفاذا لهذا التوجيه الدستوري، شكل مجلس الشعب -في ديسمبر سنة 1978م- لجنة من أعضاء المجلس ومن المتخصصين في الشريعة لتقنين أحكامها، وقد أنجزت اللجنة المهام المنوطة بها، بيد أن أعمالها لم تر النور بعد، ونأمل أن يتاح لها ذلك في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.

 وكان الدكتور إسماعيل معتوق -رحمه الله- قد قدم مشروعا بتعديل قانون العقوبات المصري طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، لكن المشروع سقط بوفاة مقدمه طبقا للائحة الداخلية لمجلس الشعب. وكان وزير العدل المستشار عادل يونس رحمه الله قد أصدر قرارا بتشكيل لجان لتعديل القوانين المصرية كي تتلاءم مع أحكام الشريعة الإسلامية، وخص بالذكر قانونيْ العقوبات والإجراءات الجنائية. وفي 7-1-1976م أصدر شيخ الأزهر آنذاك الشيخ عبد الحليم محمود القرار رقم 3 لسنة 1976م، بتشكيل لجنة عليا لمراجعة التشريعات الوضعية وتعديلها طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وقد أعدت اللجنة مشروع قانون الحدود الشرعية وقدم إلى لجنة الاقتراحات بمجلس الشعب، لكن المجلس لم ينظر حتى الآن أيا من تلك المشروعات”(43).

6- قانون العقوبات السوداني:جاء في المذكرة التفسيرية المرفقة بنص القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م في إشارة إلى الأصول التي استُمد منها القانون الجنائي ما يلي: “اعتمد المشروعُ الشريعةَ الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع بحيث تُبنى أحكامُه على أصولها ومبادئها العامة وتتضمن أحكام الحدود والقصاص والديات، وأخذ المشروع في أحكام الجنايات والجزاءات باجتهاد يُراعي أصول الشرع ويعتبر بالمذاهب الفقهية ويُقدّر مستجدات العصر ويلائم ظروف البلاد. كما استعمل المصطلح الفقهي لوصل القانون بالتراث الفقهي والعربي بقدر ما يناسب المصطلح الحديث والجاري في السودان”(44).

وقد جاء قانون العقوبات السوداني لسنة 1991م ليلغي قانون العقوبات السوداني لسنة 1983م، حيث جاء في مفتتحه ما يلي:

1- يسمى هذا القانون “القانون الجنائي لسنة 1991م ويُعمل به بعد شهر من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.

2- يُلغى قانون العقوبات لسنة 1983م”(45).

7- مشروع القانون الجنائي العربي:لقد “قرر وزراء العدل العرب في مؤتمرهم الثاني – الذي حوّل نفسه فيما بعد إلى مجلس (سنة 1981م)- تكليف لجنة(46) لوضع مشروع قانون جنائي موحد وفق أحكام الشريعة الإسلامية مع الأخذ في الاعتبار ظروف المجتمع العربي في كل قطر. وقد أتمت اللجنة أعمالها على مراحل فوضعت تحديدا للجرائم في المادة الأولى من المشروع مفاده “يحدد القانون الجنائي العربي الموحد الأفعال التي يعدها جرائم بسبب ما تحدثه من إخلال بمبادئ الشريعة الإسلامية وبأمن وسلامة المجتمع ويوجب فرض عقوبات أو تدابير وقائية على مرتكبيها”. وحددت المادة الخامسة عشرة (15) العقوبات بأنها في الحد والقصاص والدية: الإعدام والدية والرجم والقطع والقصاص بما دون النفس والجلد. وحددت المادة الثامنة عشرة (18) العقوبات الأصلية الجنائية بالإعدام والسجن المؤبد والسجن المؤقت من خمس (5) إلى عشرين (20) سنة والإقامة الجبرية والتجريد من الحقوق المدنية. كما حددت المادة التاسعة عشرة (19) منه العقوبات الأصلية في الجنح: الحبس من شهر إلى خمس سنوات والجلد والغرامة. على أن يسري هذا القانون على كل من يوجد في إقليم إحدى الدول العربية من مواطنين وأجانب وعديمي الجنسية مع مراعاة الاستثناءات المقررة في القانون العام الداخلي أو الدولي (المادة الحادية عشرة (11) من المشروع).

ومنذ سنة 1983م كان هذا المشروع يُعرض على مجلس وزراء العدل العرب في كل دورة من دوراته لإقراره، إلا أن المجلس كان يقرر في كل مرة إعادته للجنة التي وضعته للنظر في الملاحظات والتحفظات وطلبات إلغاء بعض المواد التي كانت ترد من الدول العربية، وهذا ما حصل أيضا في دورة المجلس المنعقدة في عمان خلال شهر نيسان سنة 1987م. ويبدو لنا أن بعض الدول العربية تبدي تحفظات تجاه بعض ما جاء في المشروع، لاسيما فيما تعلق بالعقوبات الجسدية وبتحديد الأفعال التي جُرّمت، بينما لم يرد تجريمٌ لها في القوانين الجزائية المعمول بها، إذ إن هذه الدول تميز في تشريعاتها الجزائية بين المفاهيم الشرعية للسلوك المنحرف والمفاهيم الاجتماعية للسلوك الذي يجب أن يُجرّم”(47).

ولم يمنع هذا التباطؤ الملحوظ والتلكؤ الدائم في بعث هذا القانون العربي المرتقب الكثيرين من رجال القانون خصوصا ومن غيرهم من المهتمين بالشأن العربي عموما أن يعلقوا على هذا المشروع آمالا عريضة، ولكنه ظل مع كل ذلك حبرا على ورق.

المطلب الثاني: آفاق تقنين الفقه الجنائي ولوازم نجاحه

مع ما شابت عمليات التقنين سالفة الذكر من عراقيل وصعوبات نغصت مسعى التقنين فبطّأت مسيرته أو ضيقت دائرته في بعض تلك المحاولات، وعطلته تماما وشلت حركته في بعض المحاولات الأخرى.. مع ذلك فإن تلك الجهود تعتبر سابقة لا تخلو من فائدة وتجربة يجدر استثمارها في المستقبل لإثراء مساعي التقنين القادمة. ولعل من أهم تلك الفوائد والاستنتاجات الملحوظة في ذلك ما يلي:

1- عملية التقنين منطلقها المصنفات الفقهية:قد يتبادر إلى أذهان الكثيرين أن أي مجال من مجالات القانون الإسلامي -ومنه الجنائي- لأي دولة مسلمة تتبناه هو لا يزيد عن كونه قانونا وضعيا في مادته وصياغته يُطوّع بطريقة ما ليتماشى مع أحكام الشريعة الإسلامية. ومردّ هذا الانطباع هو مجرد السبق التاريخي للقوانين الوضعية في صياغته المتداولة اليوم. وهو انطباع خاطئ قد بان بطلانه وتسرع أصحابه في تقديرهم للجهد المطلوب في التقنين(48). وإنما الصواب هو أن اكتمال أي فرع من فروع القانون الإسلامي لا يتسنى له أن يتم ويكتمل إلى درجة النضج إلا داخل رحم الفقه الإسلامي، ولا يمكن له أن يخرج سليما معافى إلا من رحم المصنفات الفقهية ذاتها، بحيث تُدرس دراسة رصينة متأنية من قبل رجال يجمعون بين الكفاءة والإخلاص من خيرة علماء الفقه والقانون، يجعلون منطلقهم الأول هو كتب الفقه ولكن بطريقة القانون، وألا يكون مجرد عمل متعجل لا يحقق غرضه وتلفظه الشريعة ذاتها قبل الواقع.

 يقول الأستاذ عبد الرزاق السنهوري: “…هذا هو الحد الذي وصل إليه التقنين الجديد في الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية، عدا المسائل الأخرى التي أخذها بالذات من الفقه الإسلامي… أما جعل الشريعة الإسلامية هي الأساس الأول الذي يبنى عليه تشريعنا المدني، فلا يزال أمنية من أعز الأماني التي تختلج بها الصدور، وتنطوي عليها الجوانح. ولكن قبل أن تصبح هذه الأمنية حقيقة واقعة، ينبغي أن تقوم نهضة علمية قوية لدراسة الشريعة الإسلامية في ضوء القانون المقارن. ونرجو أن يكون من وراء جعل الفقه الإسلامي مصدرا رسميا للقانون الجديد ما يعاون على قيام هذه النهضة”(49).

ولا يخفى أن كلام الأستاذ السنهوري يتجه في ذلك الوقت إلى من سعوا إلى صياغة قانون مدني إسلامي انطلاقا من استحضارهم للنظريات القانونية الحديثة، وهو عمل أيسر من غيره من أبواب الفقه الأخرى، فما بالك إذا تعلق الأمر بتقنين الفقه الجنائي -أكثر أبواب الفقه الإسلامي حساسية- من خلال الانطلاق من قانون وضعي معين!

2- عملية التقنين سندها القواعد الفقهية: الناظر في حركة التقنين منذ ظهور مجلة الأحكام العدلية وإلى اليوم لا يفوته أن يلاحظ أن القوانين الإسلامية العصرية لم تستفد من القوانين الغربية التي غزت بلدان العالم الإسلامي وحَكَمتها لعقود طويلة لا في مادتها التي جاءت أساسا لنقضها واستبدالها ولا في طريقة صياغتها، بل إن مادتها مأخوذة من المصنفات الفقهية، أما صياغتها فيعود الفضل فيها إلى القواعد الفقهية التي ظهرت كتبها إلى الوجود قبل عصر التنوير الذي عرفته أوربا بفترة طويلة… يقول الشيخ مصطفى الزرقاء في سياق حديثه عن التطور التاريخي للقواعد الفقهية بعد ابن نجيم ومحمد أبو سعيد الخادمي: “…ثم جاءت مجلة الأحكام العدلية تحمل في صدرها مجموعة كبيرة من هذه القواعد، مختارة من أهم ما جمعه ابن نجيم والخادمي مضافا إليه بعض قواعد أخرى، فبلغت تسعا وتسعين قاعدة في 99 مادة (من المادة 2 حتى المادة 100) استُهلت بها أحكام المجلة بعد المادة الأولى التي تضمنت تعريف الفقه وتقسيم مباحثه”(50).

وقد قام أحد الباحثين المعاصرين -المهتمين بموضوع التقنين(51) – بدراسة تَتَبع فيها الصلة بين مواد بعض القوانين الإسلامية، وخصوصا منها مجلة الأحكام العدلية والقانون السوداني، وبين القواعد الفقهية المعروفة وخصوصا منها قواعد الإمام السيوطي في أشبابه، وتوصل إلى نتيجة طريفة نوجزها بشيء من الاختصار والتصرف مع اقتصارنا فيها على مجال الفقه الجنائي باعتباره مدار هذه الدراسة:

أولا: مقارنة القواعد الفقهية بقانون العقوبات السوداني لسنة 1983م:

أ- ذكر السيوطي في كتاب “الأشباه والنظائر” القاعدة الأربعين: وهي “إذا اجتمع السبب أو الغرور المباشر، قُدمت المباشرة”(52)، وذكر من فروعها:

1- لو أكل المالك طعامه المغصوب جاهلا به فلا ضمان على الغاصب في الأظهر.

2- لو أكل المالك طعامه المغصوب جاهلا به فلا ضمان على الغاصب ويبرأ.

3- ولو حفر بئرا فأرداه فيها آخر فالقصاص على المردي.

4- لو أمسكه فقتله آخر فالقصاص على القاتل.

5- أو ألقاه من شاهق فتلقاه آخر فقدّه فالقصاص على القاد.

ثم استثنى السيوطي صوَرًا من القاعدة نبه عليها ومنها:

1- إذا غصب شاة وأمر قصابا بذبحها، وهو جاهل بالحال فالضمان على الغاصب قطعا.

2- ومنها: إذا استأجره لحمل طعام فسلمه زائدا، فحمله المؤجر جاهلا، فتلفت الدابة ضمن المستأجر في الأصح.

3- ومنها: إذا أفتاه أهل الفتوى بإتلاف ثم تبين خطؤه، فالضمان على المفتي.

4- ومنها: قتل الجلاد بأمر الإمام ظلما وهو جاهل، فالضمان على الإمام.

5- ومنها: وقف ضيعة على قوم، فصرفت غلتها إليهم، فخرجت مستحقة ضمن الواقف لتغريره.

ب-  قانون العقوبات السوداني لسنة 1983م:

1- المادة الثامنة والسبعون (78) في الأفعال التي يرتكبها عدة أشخاص تحقيقا لقصد مشترك بينهم. إذا اشترك عدة أشخاص فعلا جنائيا تحقيقا لقصد مشترك بينهم جميعا، كان كل منهم مسئولا عن ذلك الفعل كما لو كان قد ارتكبه وحده(53).

2- المادة الثمانون (80) المساهمة بارتكاب فعل من أفعال متعددة تكون جريمة.

إذا ارتكبت جريمة مكونة من أفعال متعددة، فإن كل من يسهم عن قصد في ارتكاب تلك الجريمة بأي فعل من تلك الأفعال سواء بمفرده أو بالاشتراك مع أي شخص آخر يُعد مرتكبا لتلك الجريمة(54).

فنلاحظ التطابق إلى مدى بعيد بين ما كتبه السيوطي وما ورد في المادتين من قانون العقوبات، فالأمر يرجع إلى نفس القاعدة. كما نلاحظ أن تعبير السيوطي في تقديم المباشرة أكثر دقة مع أنه لا يشترط أن يفهم منه نفي المسئولية عن المتسبب غير المباشر، لكن قد يُفهم أن عقابه يكون أقل من الذي باشر العمل بنفسه.

ثانيا: مقارنة القواعد الفقهية بقانون الإجراءات الجنائية السوداني لسنة 1983م:

أ- ورد في الكتاب الثاني من أشباه السيوطي القاعدة الخامسة (5): تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة. ومن فروعها: أنه ليس له العفو عن القصاص مجانا، لأنه خلاف المصلحة، بل إن رأى المصلحة في القصاص اقتص، أو في الدية أخذها(55).

ب- وقد ورد في قانون الإجراءات الجنائية السوداني، في المادة (211): سلطة استبدال العقوبة بعقوبة أخرى: يجوز لرئيس الجمهورية أن يستبدل بغير رضا المحكوم عليه عقوبة الإعدام بأية عقوبة أخرى يجيزها القانون أو يستبدل عقوبة السجن بعقوبة الغرامة ما لم يتعارض ذلك مع أحكام الشريعة الإسلامية”(56). فنلاحظ التطابق في المعنى العام مع الاختلاف في اللفظ.

ثالثا: مقارنة القواعد الفقهية بالقانون الجنائي السوداني لسنة 1991م:

نلاحظ عند المقارنة بالقانون الجنائي لسنة 1991م عدم وجود تعارض أو اختلاف بالنسبة للأمثلة الواردة في النصوص السابقة، مع التسليم بإمكانية وجود الاختلاف في التبويب والترقيم وميل القانون الجنائي لسنة 1991م للاختصار، مع الأخذ بالاعتبار أن كلا القانونيْن؛ قانون العقوبات لسنة 1983م والقانون الجنائي لسنة 1991م، مستند في نصوصه على أحكام الشريعة الإسلامية(57).

3- الرجوع إلى كل المذاهب الفقهية بلا استثناء:فالاقتصار على مذهب فقهي واحد هو تضييق لا سند له من شرع ولا واقع، فبمنطق الشرع هو كله اجتهاد وليس هناك مذهب بعينه يمتلك حق الانفراد بالاجتهاد أو ادعاء الصواب فيه، وبمنطق العقل والواقع؛ من شأن حصر التقنين في مذهب بعينه أن يضيّق على الفقهاء والقانونيين القائمين بعملية التقنين ويمنعهم من استقاء ما يرونه أنسب وأدنى لجلب المصلحة بتوسيع دائرة الترجيح.. يقول الأستاذ عبد الرزاق السنهوري: “وفي رأينا أنه حيث ينبغي الرجوع إلى الفقه الإسلامي في كتبه المعتمدة، سواء أكان هذا الفقه هو المصدر الرسمي الذي تستمد منه الأحكام أم كان هو المصدر التاريخي الذي تفسر في ضوئه النصوص التشريعية، يجب أن يُراعى أمران جوهريان:

الأمر الأول- هو عدم التقيد بمذهب معين من مذاهب الفقه الإسلامي. فكل مذاهب الفقه يجوز الرجوع إليها والأخذ منها. ولا محل للوقوف عند أرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، بل ولا للتقيد بالمذهب الحنفي في جملته. ولعلنا نذهب إلى مدى أبعد، فنقول إنه لا موجب للتقيد بالمذاهب الأربعة المعروفة، فهناك مذاهب أخرى، كمذهب الزيدية ومذهب الإمامية، يمكن الانتفاع بها إلى حد بعيد.

والأمر الثاني- هو أن يراعى في الأخذ بأحكام الفقه الإسلامي التنسيق ما بين هذه الأحكام والمبادئ العامة التي يقوم عليها التشريع المدني في جملته. فلا يجوز الأخذ بحكم في الفقه الإسلامي يتعارض مع مبدأ من هذه المبادئ، حتى لا يفقد التقنين المدني تجانسه وانسجامه(58).

ويقول الشيخ مصطفى الزرقاء: “يرى بعض المفكرين من علماء العصر أن مجموعة المذاهب الاجتهادية يجب أن تعتبر كمذهب واحد كبير في الشريعة، وكل مذهب فردي منها كالمذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي وغيرها يعتبر في هذه المذاهب العامة كالآراء والأقوال المختلفة في المذهب الفردي الواحد، فيرجح علماء الأمة ويختارون منها للتقنين في ميدان القضاء والفتيا ما هو أوفى بالحاجة الزمنية ومقتضيات المصلحة في كل عصر. وهذا رأي سديد”(59).

4- تفنيد شبهة الانتقام في شريعة القصاص:وهي دعوى صدرت عن بعض المستشرقين سرعان ما تناقلها عنهم سائر الدارسين للقوانين الوضعية، وبعضهم من أبناء المسلمين الذين تلقوا دراساتهم في الجامعات الغربية أو في جامعات البلاد الإسلامية ذات المناهج العلمانية. وقد رد عليهم الإمام محمد أبو زهرة في قوله: “تهجم بعض الكتاب على شريعة القصاص التي هي لب العقاب في الفقه الإسلامي بالنسبة للجرائم التي يكون فيها حق الأشخاص غالبا على حق المجتمع، فقالوا: إن هذا اتجاه في اختيار الانتقام أساسا للعقاب وهذا من الهمجية الأولى، ولا يتفق مع التحضر ورقي الفكر والنفس، واعتبار العقاب تهذيبا وإصلاحا لنفس الجاني، ونحن نقول: إن التفريق بين الانتقام والقصاص من وجهين:

الوجه الأول:أن الانتقام لا يتقيد فيه المنتقم بالمساواة بين ما فعله المجرم، وبين العقاب النازل به، والانتقام قد يتجه إلى عقاب غير المجرم، كما كان يجري في الجاهلية، وكما يجري الآن في قرى الصعيد لشيوع الأخذ بالثأر، أما القصاص، فإنه يتجه إلى المساواة بين الجريمة والعقوبة مساواة دقيقة، وإذا لم يكن التساوي كما في بعض الجروح، فإنه يعدل عن القصاص إلى عقوبة أخرى، وبذلك يفترقان ولا يتلاقيان.

الوجه الثاني:أن الانتقام كان يقع من الملوك على رعاياهم إذا شقوا عصا الطاعة، أو قتل أحد الأمراء، فإن الانتقام كان يصوب إلى الجناة، أو من يشتبه في أمرهم فيؤخذ البريء بظلم السقيم.

أما القصاص فإنه يكون بحكم من القاضي، وهو يسري على الراعي والرعية، فإنه يقتص من الحاكم الأعظم إذا وقع منه ما يوجب القصاص”(60).

ويقول الدكتور مصطفى العوْجي أستاذ القانون الجنائي تحت عنوان “تلطيف النـزعة للانتقام بتحديد ردة الفعل الفردية: “اتسمت أحكام الشرع الإسلامي المتعلقة بالجريمة بنـزعة نحو تلطيف ردة الفعل على الجريمة وتلطيف العادات التي كانت سائدة في تلك المجتمعات ومنها ضرورة الانتقام من المعتدي وبأية وسيلة كانت وإن كان يؤدي ذلك إلى قتله. فجاءت أحكام القصاص تفرض عقوبة موازية تماما للضرر الذي لحق بالمجني عليه ملطفة بالتالي ردة الفعل الثأرية التي كانت تجتاح هذا الأخير. ومن ثم تضمنت الأحكام القرآنية دعوة مستمرة إلى الصفح جاعلة من العفو كفارة لمن يعفو عن ضرر لحق به أو جرم ارتكب”(61).

5- إشراب المجتمع بالثقافة الإسلامية المتقبلة لنظامه العقابي:وذلك بالعمل على غرس الثقافة الإسلامية في عقول ونفوس أفراد المجتمع الإسلامي بتنشئتهم النشأة الإسلامية منذ الصغر، والاستعانة في ذلك بالوسائل التربوية والتعليمية العامة من مناهج تعليمية ووسائل إعلامية وغيرها، وذلك قبل الإعلان عن تطبيق الحدود في الواقع، ليتقبلوها باقتناع، وليعملوا على دعمها والتمكين لها، باعتبارها واجبا دينيا وباعتبارها مصلحة اجتماعية حقيقية، لا مجرد قرار سياسي فوقي صادر عن أطراف متنفذة مستعلية على المجتمع.

أما في الأحوال التي ينتفي فيها شرط معرفة المجتمع الذي هو موضوع تطبيق أحكام الحدود بحقيقة تلك الأحكام وأهدافها، فإن العمل بها فيه محاذير شديدة الخطورة قد تنقلب على مسيرة العمل بها بالبطلان ونفور المجتمع نفسه منها. وقد وصل التوجس من هذا المحذور بأحد المفكرين الإسلاميين المعاصرين إلى مناشدة القائمين عليها لتعطيلها(62).

6- التضييق في تطبيق الحدود بعدم التماس الجاني:إن النبي عليه السلام كان يلتمس الستر على من يرتكب جريمة عقوبتها حدية بدليل حادثة ماعز في الخبر المعروف، يقول الإمام محمد أبو زهرة: “قال النبي r: “ادرؤوا الحدود بالشبهات فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة”. وقال r: “أيها الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات، فاستتر فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد”.

وإن هذين الحديثين يدلان على أمرين:

أحدهما: أن يدفع الحد بكل شبهة تذهب باليقين في الأمر الموجب للحد.

وثانيهما: أن الجريمة إذا ارتُكبت في غير إعلان يجب الاستمرار في سترها، ومنع كشفها، وفي فتح الباب لإقامة الحد فيما استتر من جرائم، وتحري طرق الإثبات، وإعلانها -من الأضرار أكثر مما في إقامة الحد في ذاته، إذ فيه تجسس منهي عنه بقوله تعالى: (وَلا تَجَسَّسُوا) (الحجرات:12)، وقوله r: “ولا تجسسوا وكونوا عباد الله إخوانا”.

وإن هذا بلا ريب تضييق للعقاب، وجعله رمزا مانعا، بدل أن يكون عاما جامعا، وحسْب المؤمنين أن تكون هناك يد مقطوعة كل عام، ليكون ذلك مانعا زاجرا، يجعل كل سارق يترقب مثل ما نـزل بغيره، فيكون الامتناع عن السرقة. وحسْب أرباب الشهوات أن يكون بين أيديهم حد يقام للزنى، يشهده طائفة من المؤمنين، حتى يتجهوا إلى الزواج ويفروا من عار العقاب إلى أمن البراءة وطريق الاستقامة”(63).

7- إقامة نظامٍ تتحقق فيه المبادئ الإسلامية السياسية والاجتماعية: من شروط نجاح العمل بنظام العقوبات الإسلامي في المجتمع المسلم هو إقامة نظام سياسي واجتماعي تتحقق فيه المبادئ الإسلامية من عدالة وشورى ومساواة، بحيث تكون تلك الأحكام في مأمن من سوء التوظيف واستخفاف البعض بها أو التلاعب بتطبيقها، وأن يكون الفرد المسلم مطمئنا لتحقق العدل في مأمن من التعرض لأي نوع من الظلم، بخلاف ما إذا كان المجتمع تغلب عليه مظاهر المحسوبية والمحاباة وتشيع فيه الرشاوى ومظاهر الفساد السياسي والاجتماعي وتنتشر فيه بؤر التفسخ والانحلال الأخلاقي… فإن وقف العمل بأحكام الحدود وتعطيلها أولى وأوكد من إعمالها والتشبث بأشكالها ومظاهرها، مع فقْد جوهرها وفوْت أهدافها. إذ في هذه الحالة كثيرا ما تُرتكب باسم أحكام الدين مظالم وخطايا تتجاوز في خطورتها الأخطاء التي يُعاقب الجناة لأجلها. ومن أوكد هذه المبادئ اليوم مبدأ فصل السلطات الذي يؤمّن للسلطة القضائية استقلالية قرارها في إصدار الأحكام، فلا تتحول إلى أداة في يد السلطة التنفيذية لتصفية الخصوم باسم الشريعة الإسلامية، أو التنكيل بالرعية لترهيبها وإخضاعها بالعقوبات الجسدية التي تتحول إلى أداة بيد الجبابرة للاستبداد بالمجتمع، لا وسيلة ربانية لوقاية المجتمع من الجرائم والفواحش.

يقول الدكتور الحسيني سليمان جاد: “الأصل في العقوبات البدنية في الفقه الإسلامي أنها جُعلت لتُنفذ عندما يكون نظام الدولة قائما على أصول الإسلام، وتكون حياة الناس مدنيا واجتماعيا وسياسيا من باب أوْلى على ما وضع الإسلام من أسس ومناهج، والعلة في ذلك أن منهج الإسلام كلي لا يقبل التجزئة. فمثلا عقوبة الجلد أو الرجم أو القطع وهي العقوبات التي يُكاد للإسلام باسمها من بعض الجهلة أو الخائنين أو المأجورين، هذه العقوبات علاقتها وثيقة بقواعد الإسلام الاجتماعية.. بمعنى أنه لا محل لإقامة حد الرجم أو الجلد على رجل أو امرأة في مجتمع قوانينه لا تحرم العري وروايات الجنس المرذولة في كل مكان…وهنا لو نُفذت العقوبة فإن تنفيذها أمر يجافي حكمة الشرع، لأن الأصل في العقوبة أنها دفاع شرعي عن المجتمع ولا محل لشرعيتها إلا في مجتمع مسلم متكامل في كل شيء حتى تجد العقوبة محلا لها”(64).

ومنتهى القول أن نظام العقوبات هو آخر نظام يُطبق في الإسلام، فلا يكون الابتداء به، بل يكون الانتهاء عنده، ولا نصل إليه إلا في نهاية مسيرة تطبيق أحكام سائر أنظمة الإسلام الاجتماعية والسياسية، وفي حال تعثر تلك المسيرة في أي مرحلة من مراحلها التي يجب أن تكون بدورها متدرّجة، فإن مرحلة تطبيق القانون الجنائي الإسلامي ستتأخر بالتأكيد، إلى أن تتحقق شروطه بالتمام ويصبح الوضع الاجتماعي مناسبا لتحمل أحكامه وبخاصة منها أحكام الحدود، وحتى سائر العقوبات البدنية، لا يجدر الركون إليها إلا بعد أن يستعد لها المجتمع الإسلامي من جميع النواحي، وكما أن خطأ الإمام في العفو خير من خطئه في العقوبة، فإن خطأه في تأخير تطبيق الحدود خير من خطئه باستعجال العمل بها.

المطلب الثالث: من مقتضيات القانون الجنائي في القضاء:

مع أن مهمة قطاع القضاء هي تطبيق القانون في المحاكم والفصل في المنازعات عمليا، بما يعني أن مهمة القاضي تقتصر على العمل بالقانون بعد صياغته، ولا دخل له في عملية التقنين ذاتها، بل هو يتلقى القانون جاهزا ويجتهد في تنفيذه، مع ذلك فإن مهمته جليلة القدر عظيمة النفع، فهو الذي يحوّل القانون من مجرد قواعد قانونية نظرية إلى حكم عملي نافذ. وهو بذلك صاحب سلطة فعلية في تقرير الأحكام التي يستثمرها من القانون. ومن ثم كان لابد من متابعة مسيرة القانون مع القاضي بعد مرحلة التقنين، بتوفير ما يجدر توفيره من مقتضيات إنجاح مهمة القاضي، كي تُتوّج مسيرة القانون بالنجاح إلى آخر مرحلة فيها، ولا ترتد على أعقابها أو تمنى بالفشل -رغم تحقق شروط نجاحها في المراحل السابقة- بسبب قصور في السلوك القضائي أو تقصير في اتخاذ أسبابه وشروط العمل به في هذا العصر الذي تعقدت فيه القضايا الجنائية وصاحبها من الغموض ما لا يتسنى فكّ رموزه عند التشبث ببعض الأحكام الموروثة أو الوسائل التقليدية التي تجاوزتها أشكال الجريمة في هذا العصر.

ومن أهم تلك المقتضيات التي تمس إليها الحاجة لضمان نجاح القانون الجنائي بين يدي القاضي ما يلي:

1- توسع القضاء في العمل بقاعدة درء الحدود بالشبهات:فدرء الحدود بالشبهات قاعدة ثابتة في مجال القضاء ولا خلاف فيها لقوله r: “ادرؤوا الحدود بالشبهات”(65)، وقد ترسّخت هذه القاعدة في أذهان المسلمين وواقع ممارساتهم القضائية منذ عهد الرسول الكريم والخلفاء الراشدين وخيرة قضاة المسلمين عبر تاريخهم. فهي من المسائل الثابتة القطعية التي لا مجال لإنكارها.

وقد حفلت كتب الحديث وسيَر الخلفاء الراشدين والقضاة النابغين بشواهد لا تكاد تقع تحت حصر في تأكيد العمل بهذه القاعدة المهمة، منها ما أورده القاضي أبو يوسف في قوله: “وإذا شهد أربعة من الشهود على رجل بالزنا ووقّتوا وقتا متقادما ولم يمنعهم عن أداء الشهادة بُعدهم عن الإمام، لم تُقبل شهادتهم ودُرئ عنه الحد في ذلك. وكذا إن شهدوا على رجل بسرقة تساوي عشرة دراهم أو أكثر ووقتوا وقتا متقادما، دُرئ عنه الحد في ذلك أيضا ولكن يضمن السرقة”(66).

ومما ورد عن الإمام علي t“أنه أُتي برجل قد نقب وأُخذ على ذلك الحال، فلم يقطعه. قال (أبو يوسف) وحدثنا عاصم عن الشعبي قال: ليس عليه قطع حتى يخرج بالمتاع من البيت”(67).

وجاء في الأشباه والنظائر قاعدة “الحدود تُدرَأ بالشبهات” من الفقه الحنفي ما نصه “ومن الشبهة وطء امرأة اختُلف في صحة نكاحها، ومنها شرب الخمر للتداوي وإن كان المعتمد تحريمه،..ولا قطع بسرقة مال أصله وإن علا، وفرعه وإن سفل، وأحد الزوجين وسيده وعبده، ومن بيت مأذون بدخوله ولا في ما كان أصله مباحا”(68).

ودرء الحدود لتلك الشبهات يقتضي من القاضي معرفة أعيان الوقائع التي يفصل فيها وما شابها من خصوصيات، ليتسنى له كشف أي شبهة طارئة على أفعال المكلفين فيها، بما يمكّنه تبعا من درء الحدود عنهم في تلك الوقائع.

ولابد أن يكون المتهَم الماثل أمام القاضي في أمان تام لا يخيفه شيء، فلا يجوز بحال استعمال أي وسيلة من وسائل الإكراه كالضرب أو التهديد أو الإهانة. قال أبو يوسف: “ومن ظُن به أو توهّم عليه سرقة أو غير ذلك، فلا ينبغي أن يُعزّر بالضرب والتوعّد والتخويف، فإن من أقر بسرقة أو بحد أو بقتل وقد فُعل ذلك به، فليس إقراره ذلك بشيء ولا يحل قطعه ولا أخذه بما أقر به”(69).

2- استعمال الأمارات والفراسة في القضاء:في كثير من القضايا ينعدم الشهود، ولا يقر المدعَى عليه، ولا يتمكن المدعي من استحضار أي دليل من أدلة الإثبات ويوشك حقه أن يضيع لو اكتفى القاضي بالفصل بناءً على يمين المدعَى عليه. وهنا يأتي دور خبرة القاضي ومهارته في استعمال طرق التحرّي والفراسة والأمارات(70) والحيل، لكشف الحقائق الخفية وحماية حقوق الناس بتمكينهم من استرجاعها بواسطة تلك الطرق التي هي طرق شرعية يجوز اعتمادُها في ممارسة القضاء سياسة لا نصا. يقول الإمام ابن القيم: “والحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقهه في جزئيات وكليات الأحكام؛ أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعلم الناس بطلانه، ولا يشكون فيه، اعتمادا منه على نوع ظاهر، لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله”(71).

وقد أورد الإمام ابن القيم في طرقه الحكمية قصصا كثيرة عن مشاهير قضاة المسلمين مثل القاضي شريح والقاضي أبي حازم والقاضي إياس بن معاوية، أثبت فيها مدى جدوى استعمال الأمارات والحيل والفراسة في فض المنازعات وإرجاع الحقوق إلى أصحابها بالعدل دون شهادة ولا إقرار.

وأثنى الإمام ابن القيم على الحكام الذين يجتهدون في إرجاع الحقوق إلى أصحابها باستعمال الفراسة والأمارات بقوله: “ولم يزل حذّاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدّموا عليها شهادة تخالفها ولا إقرارا. وصرّح الفقهاء بأن الحاكم إذا ارتاب بالشهود فرّقهم وسألهم: كيف تحمّلوا الشهادة؟ وأين تحمّلوها؟ وذلك واجب عليه متى عدل عنه أثَم وجار في الحكم. وكذلك إذا ارتاب بالدعوى سأل المدعي عن سبب الحق، وأين كان؟ ونظر في الحال: هل يقتضي صحة ذلك؟ وكذلك إذا ارتاب بمن القول قوله والمدعى عليه، وجب عليه أن يستكشف الحال ويسأل عن القرائن التي تدل على صورة الحال. قلّ حاكم أو وال اعتنى بذلك وصار له فيه ملَكة إلا وعرف المحقّ من المبطل، وأوصل الحقوق إلى أهلها”(72).

واختلف العلماء في اعتبار النكول أمارة على كذب المدّعَى عليه فيقضي القاضي به، أم أنه لا يكفي نكوله للقضاء في القضية، ولابد من إحالة اليمين إلى المدّعي لدعم دعواه قبل حسم النـزاع. وممن كان يقضي بالنكول القاضي شريْح، فقد ورد عنه “أنه نكل عنده رجل عن اليمين فقضى عليه شريح. فقال الرجل: أنا أحلف، فقال شريح: قد مضى قضائي. دل الحديث على أن شريحا كان ممن يرى القضاء بالنكول لا رد اليمين. وهذه المسألة اختلف فيها السلف، قال بعضهم -فيهم شريح- يقضي بالنكول وبه قال أصحابنا، وقال بعضهم -فيهم الشعبي- يردّ اليمين على المدّعي، وبه قال أصحاب الشافعي رحمه الله”(73).

3- قبول شهادة النساء في الحدود والقصاص: ذهب أغلب العلماء قديما إلى عدم قبول شهادة النساء في الحدود والقصاص، ولم يخالف من المتقدمين إلا بعض الفقهاء، ومنهم عطاء وحماد وابن حزم الظاهري ونُسب للإمام الحسن البصري قبوله شهادة المرأة في الزنا فقط(74). ويبدو من عبارة الإمام ابن القيم أنه رجّح هذا الرأي عندما قال:”وقال بعض الفقهاء: تجوز شهادة النساء في الحدود. فالأقوال ثلاثة. أرجحها أنه تجوز شهادة النساء متفرقات فيما لا يطلع عليه الرجال غالبا”(75).

ولا شك أن مواطن اطلاع النساء دون الرجال على بعض القضايا في هذا العصر كثيرة في المجتمعات الإسلامية، خلافا للمجتمعات السالفة، ولذلك ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى هذا الرأي(76) سندهم في ذلك عدم وجود دليل نصي قطعي في منع المرأة من الشهادة في الحدود والقصاص وأن أوضاع المرأة قد تغيرت عن سالف الأزمان التي قرر فيها الفقهاء القدامى أحكامهم، وهي أوضاع لا يتسنى فيها للمرأة عادة الاطلاع على تلك القضايا والجرائم لعدم مخالطتها للرجال في أعمالهم اليومية، وبعدها عن مشاغب الحياة ومشاكلها الاجتماعية خارج حدود الأسرة. بخلاف هذا العصر فقد تغير حال المرأة إذ أصبحت تزاحم الرجال في كل أعمالهم وبإمكانها الاطلاع على الكثير من القضايا.

لذلك فإن التمسك بمذاهب غالب العلماء القدامى في عدم قبول شهادة المرأة في قضايا الحدود والقصاص في هذا العصر من شأنه أن يفوّت على كثير من الناس حقوقهم، ويتيح الفرصة للجناة والمجرمين للإفلات من العقاب، وخاصة في الأماكن المخصصة للنساء التي لا يوجد فيها رجال للقيام بواجب الشهادة، كالأماكن التي تخصصها بعض الشركات التجارية أو الصناعية لإقامة العاملات فيها، والأجنحة النسوية في المشافى والسجون وداخليات الطالبات…”فلو افترضنا أن رجلا تسلل خفية إلى داخلية الطالبات البالغات العاقلات -حيث يمنع اقتراب الرجال أو الدخول بتاتا- وزنى بامرأة، وقبض عليه عدد من الحارسات أو الطالبات، أليس يدعو إلى السخرية وسط المجتمعات القانونية الحديثة أن نأبى تطبيق العقوبة الشرعية عليهما لأن الشاهدات نساء قد يبلغن عشرا أو مائة”(77).

والأمر ينحو منحى أكثر خطورة في هذا العصر بخصوص جرائم الاغتصاب التي انتشرت كثيرا في بعض المجتمعات الإسلامية، ومن شأن الاستمرار على رفض شهادة النساء فيه أن يجعل المرأة -العاملة أو الساكنة المتواجدة في بعض الأماكن التي لا يتواجد فيها الرجال عادة- عرضة للاعتداء على عرضها بدون مساءلة قضائية، إذا كان القانون الجنائي للدولة المسلمة غير مراع لعامل تغير الأزمان وتغير وضع المرأة عما كانت عليه قديما زمن صدور تلك الأحكام المانعة للمرأة من الشهادة في الحدود.

4- قبول شهادة الصبيان في الدماء: إن المثول لدى القاضي للإدلاء بالشهادة مما يُشترط فيه تحقق البلوغ لدى الشاهد(78) في مختلف القضايا، إلا أن الأمر إذا تعلق بالدماء حيث تُزهق الأرواح ولا شاهد حاضرا غير الأطفال، فإن المالكية أجازوا قبول شهادة الصبيان حفظا لحقوق المجني عليه. لأن التمسك بهذا الشرط في الأحوال التي لا يحضرها البالغون عادة، قد يؤدي إلى هدر دماء البعض.

خلافا لجمهور العلماء القاضي بوجوب تحقق شرط البلوغ التابع لشرط العدالة. وفي تحقيق ذلك يقول الفقيه المالكي ابن رشد الحفيد: “والنظر في الشهود في ثلاثة أشياء: في الصفة، والجنس، والعدد. فأما عدد الصفات المعتبرة في قبول الشاهد بالجملة فهي خمسة: العدالة، والبلوغ، والإسلام، والحرية، ونفي التهمة… وأما البلوغ فإنهم اتفقوا على أنه يُشترط حيث تُشترط العدالة. واختلفوا في شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح وفي القتل، فردها جمهور فقهاء الأمصار لما قلناه من وقوع الإجماع على أن من شرط الشهادة العدالة، ومن شرط العدالة البلوغ، ولذلك ليست في الحقيقة شهادة عند مالك، وإنما هي قرينة حال، ولذلك اشترط فيها ألا يتفرقوا لئلا يجبنوا”(79).

والذي دفع المالكية إلى مخالفة رأي الجمهور والتسامح في قبول رواية الصبيان، هو مسيس الحاجة إلى ذلك لكثرة وقوع الجنايات فيما بين الأطفال(80)، فهو رأي قائم على أصل المصلحة في السياسة الشرعية(81). ولا يغيّر من حقيقة قبولهم لذلك كونها شهادة أم هي قرينة حال.

والمصلحة في هذا العصر تقتضي اتباع هذا الرأي وترجيحه على مذهب الجمهور، خاصة في ظل انتشار وقوع الجنايات بين الأطفال في بعض المجتمعات الإسلامية بشكل مزعج لا يجدر معه التشبث بشرط البلوغ، وإلا ضاعت حقوق آلاف الضحايا، ويكون ذلك مانعا -للحكام المقررين للقوانين وللقضاة في المحاكم- من الفصل في تلك القضايا الجنائية الخطيرة وتتبع حيثياتها وتفاصيل وقائعها بالعدل. بل قد يكون ذلك التشدد في هذا الشرط مشجعا للأطفال على ارتكاب الجرائم، طالما أنه يتعذر الفصل فيها، ويتمكنون بذلك من التفصّي من المساءلة القضائية. خاصة وأن الأطفال اليوم أصبحت مناسبات اجتماعهم وحدهم دون حضور الكبار كثيرة، كما في ملاعب الكرة بأنواعها وأحواض السباحة ومقاهي الألعاب الإلكترونية وغيرها من الأماكن التي لا يرتادها غيرُهم، مما هو منتشر في المدن ويتكرر وقوعه دون رادع بما لا مثيل له في أزمنة فقهائنا قديمًا.

5- استعمال الوسائل العلمية في الإثبات: لقد تطوّر العلم في هذا العصر وتطوّرت معه الوسائل والأدوات المستعملة في مختلف الأغراض، ومن ضمنها وسائل الإثبات في الجرائم وسائر المخالفات القانونية، كاستعمال وسيلة أخْذ البصمات وفحص الدم والحمض النووي وسبر آثار الجريمة على أجساد وأمتعة المتضررين بالمجاهر الدقيقة، لكشف المجرمين وإيقافهم، وكذلك وسائل التسجيل الصوتي والبصري لتعقّب المخالفين للقانون ومعاقبتهم، ووسيلة المورّثات لمعرفة نسَب المولود وحسْم النـزاعات فيه

 ولا شك أن هذه الوسائل تُعتبر بيّنة قوية وقد تصل درجة القطع في إدراك الحقائق وكشف غوامض أعقد القضايا الجنائية، بل إن وسائل الإثبات العلمية الحديثة هي بالتأكيد أقوى وأصوب من شهادة الشهود الذين قد يتواطؤون على الزور، ومن أيمان المدّعَى عليه الذي قد يتعمّد الحلْف كاذبا، بل هي أقوى حتى من إقرار المتّهم الذي قد تحيط به بعض الشبهات. فهي نوع من البيّنة الواردة في قوله r: “البينة على المدعي”. يقول الإمام ابن قيم الجوزية: “والمقصود: أن “البيّنة” في الشرع اسم لما يبيّن الحق ويظهره. وهي تارة تكون أربعة شهود، وتارة ثلاثة بالنص في بيّنة المفلس، وتارة شاهدين، وشاهدا واحدا، وامرأة واحدة، ونكولا ويمينا، أو خمسين يمينا، أو أربعة أيمان. وتكون شاهد الحال في الصور التي ذكرناها وغيرها، فقوله صلى الله عليه وسلم “البيّنة على المدّعي” أي عليه أن يُظهر ما يبيّنصحة دعواه، فإذا ظهر صدْقه بطريق من الطرق حُكم له”(82).

لذلك فإنه ليس من الحكمة تجاهل تلك الوسائل العلمية(83) في القضايا والمنازعات الواقعة بين المسلمين، مع قدرتها الفائقة على كشف الحقائق وتحديد الجناة مهما أوتوا من ذكاء وحنكة في حبْك جرائمهم وإتقانها، وبالتالي الأخذ بأيدي المحققين والقضاة ووضعها على مفاتيح القضايا المستعصية، والإسهام بذلك بفاعلية محمودة في إرجاع الحقوق إلى أصحابها، ومعاقبة الجناة والمجرمين والضرب على أيديهم الآثمة.

وذلك أمر مشروع وإن لم يتعارف عليه قدماء علمائنا -باعتباره من المستجدات- فهو من سبل جلب المصالح ودرء المفاسد في هذا العصر، وأصل الاستصلاح يستوعبه وهو عليه دليل، وسماحة الشريعة تسعه كما وسعت غيره من الوسائل التي تجلب المصالح للناس وتحقق عدل الله في أرضه.

وخلاصة القول في هذا المجال أن حكّام المسلمين عموما وقضاتهم خصوصا، لا يجدر بهم التزمّت في معالجة قضايا الناس وفصل منازعاتهم بسبب الشطط في التحوط من استعمال وسائل الإثبات غير المنصوصة، ورهن قضايا الناس ومصالحهم بوجود الشهود وبالعدد المطلوب في الحالات العادية. وإلا أدى بهم ذلك إلى التقصير في إرجاع الحقوق إلى أصحابها بالحق، وإلى التفويت في مصالح المظلومين وعدم دفع الضرّ عنهم. خاصة وأن الظلمة والمحتالين لا يتورعون عن ركوب مختلف وسائل المكر والتفنن في التخطيط لمخالفاتهم بدهاء دون أن تطالهم يد القانون أحيانا.

وينبغي على القضاة خاصة استعمال كل ما ينفع في كشف الحقائق من وسائل الإثبات مهما تطورت وتعقدت وفارقت وسائل الإثبات المعهودة لفقهائنا وقضاتنا القدامى، طالما أنها كفيلة بتحقيق العدل بين الناس ودفع الظلم عن المظلومين، لأن ذلك هو المقصد الشرعي من إقامة المحاكم وتنصيب القضاة، فكلما كانت الطريقة أو الوسيلة مجدية في إحقاق الحق وإبطال الباطل بالعدل ودفع المظالم عن الخلق، جازت نسبتها إلى الشرع. وفي المقابل، بقدر ما يستهين الحاكم بتلك الطرق ويشتط في الاقتصار على التشبث بأشكال القواعد الشرعية دون أهدافها ومقاصدها، بقدر ما يمعن في التفويت في مصالح الناس والتفريط في حقوقهم وتمكين الظلَمة والمحتالين منها. وفي ذلك من المفاسد ما لا تخفى عواقبه. يقول ابن القيم: “وهذا موضع زلّة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب، فرّط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق، وجرّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها. وسدّوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطّلوها، مع علمها وعلم غيرها قطعا أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع… والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع، وتنـزيل أحدهما على الآخر”(84).

خاتمــة:

مسألة تقنين الفقه الجنائي الإسلامي قد تلوح بادئ الرأي ضيقة الأفق لضيق مجال هذا الجزء من كل الفقه الإسلامي، ولكنها عند التحقيق تبدو مسائلها متباعدة في بعض متعلقاتها، متشابكة في البعض الآخر، واضحة المعالم في جانب منها، مشكلة ومعقدة في جوانب أخرى. ومما يمكن استخلاصه من خوضها وتتبع سائر متعلقاتها ما يلي:

أن عملية تقنين الفقه الإسلامي -عموما- هي ضرورة أكيدة لابد منها لإبقاء الفقه الإسلامي حيا معمولا به في حياة المسلمين، باعتبار أن التقنين هو مدخل ولا مدخل غيره في تطبيق الفقه والاحتكام إليه في المجتمع الإسلامي، وبدونه يظل الفقه عاطلا عن العمل في غير التزامات الأفراد الشخصية النابعة من إرادتهم الذاتية.

أن الفقه الإسلامي هو جزء من الشريعة الإسلامية، وأن عملية التقنين متعلقة بجزء من الفقه وهو المعاملات بل هي شاملة لجميع أبواب المعاملات من الفقه الإسلامي، ومن ثم فإن الفقه الجنائي مندرج فيها ولا يخرج عنها.

أن الفقه الجنائي الإسلامي بالنظر إلى العقوبات المترتبة على الجرائم شامل لجانبين منه، هما: العقوبات المحدودة (أو المقدّرة)، وتشمل الحدود والقصاص والديات، والعقوبات غير المحدودة، وهي التعازير. وأن كلا الجانبيْن موضوع للتقنين.

أن تطبيق أحكام الحدود هو موضوع ذو حساسية مفرطة في هذا العصر، وأن تعذر تطبيقه لتأخر شروطه أو لأي مانع من الموانع الظرفية لا يعني بحال الإعراض عن أحكام الإسلام الجنائية جملة، بل تبقى أحكام التعزير على الأقل مطبقة، نظرا لكونها اجتهادية راجعة إلى أنظار المشرعين في التقنين والقضاة في التنـزيل. ولا مساغ لاعتبار تعذر العمل بالحدود ذريعة لتعطيل أحكام التعازير المستقاة من الفقه الإسلامي.

أن تقنين الفقه الجنائي عمل مطلوب تقتضيه عدة دواع وتشجع على إنجازه عدة عوامل إذا ما روعيت فتكاتفت مع جهود أهل الاختصاص فإن مسعى التقنين قد يحظى بالنجاح، ولعل منها: الداعي الشرعي، والداعي العملي، ووحدة الهدف بين الفقه والقانون، واتفاقهما في مفهوم الجناية. فهي بالتأكيد من العوامل المساعدة على توفيق مسيرة التقنين في بعض تجاربها.

أن مسعى تقنين الفقه الجنائي الإسلامي يواجه مصاعب جمة تعيق مسيرته، بعضها ذاتية، من أهمها: جهل الكثيرين من رجال القانون بحقيقة الفقه الجنائي الإسلامي، واستعلاء البعض الآخر عليه. وبعضها موضوعية، منها: صعوبة عملية التقنين ذاتها حتى مع توفر العوامل الذاتية لإنجاحها، وصعوبة عملية تطوير القانون وتبين عدم جدواها، واختلاف النظم القانونية المعمول بها في الدول العربية، التي يتمسك بها أصحابها فيزيدون في عرقلة مسيرة التقنين.

أن بعض الجهود التي عملت على تقنين الفقه الجنائي كانت جادة وحققت نتائج واقعية ملموسة، ولكنها كانت ضيقة لا تكاد تتعدى دائرة بعض دول مجلس التعاون الخليجي، في حين تعثرت مسيرته في بلدان أخرى وخصوصا في مصر وجامعة الدول العربية، أما أغلب البلدان العربية الأخرى وبخاصة منها المتأثرة بالقانون الفرنسي، فلم تكد تشارك بشيء في هذا المسعى، بل هي أسهمت في مزيد عرقلته.

أن أول عملية رسمية جادة في تقنين الفقه عموما ظهرت ثمرتها في مجلة الأحكام العدلية، وقد كان عملها رائدا بمقاييس عصرها، ولكن حظ الفقه الجنائي منها كان زهيدا لا يكاد يتعدى بعض الأحكام التعزيرية.

أن عملية التقنين عموما وتقنين الفقه الجنائي منها خصوصا إنما منطلقها الصحيح هو المصنفات الفقهية لدى محققي الفقهاء من مختلف المدارس الفقهية، وسندها المكين هو القواعد الفقهية لدى متأخري الأصوليين الفقهاء، كالسيوطي وابن نجيم والخادمي. بخلاف الانطلاق في عملية التقنين من القوانين الوضعية الجاهزة قصد تعديلها في ضوء الفقه الإسلامي، فهو عمل غير مأمون ولا جدوى منه.

أن الرجوع إلى كل المذاهب الفقهية الإسلامية بلا استثناء، هو ضمان من ضمانات نجاح مسعى التقنين وإنجازه على أحسن وجه، حيث يتيح للقائمين بعملية التقنين مجالاً أوسع لاستقاء الأحكام مع مراعاة ظروف الزمان وخصوصيات المجتمعات الإسلامية دون التقيد بمذهب معين، لأن في ذلك تقييدا لا مساغ له في محل وسعته شريعتنا الغراء.

وجوب العمل على نشر ثقافة إسلامية يدرك الناس بفضلها حقيقة أحكام الحدود وفلسفتها وأهدافها ومِن ثم أهميتها في حماية المجتمع من شرور الجريمة، قبل الإقدام على تطبيقها، لكي تكون نفوسهم مهيأة لها فلا ينكرونها ويستوحشونها، بل يتقبلونها قبولا حسنا، ويعملون على دعمها والتمكين لها.

وجوب البدء بإقامة نظام سياسي واجتماعي تتحقق فيه مبادئ العدالة والمساواة والشورى والحرية وتكافؤ فرص التنافس في العمل والكسب والانتفاع، بدون محاباة أو غبن للبعض دون البعض.

التأكيد على أن الحدود هي أحكام وقائية لا جزائية للانتقام والتشفي من الجاني، وأن غايتها إخافة المخالفين بالعقوبة قبل الإقدام عليها، لا التربص به لإيقاعه فيها. ومن ثم وجوب التوسع في درئها، وعدم التماس مرتكبيها إذا لاذوا بالستر في غير حقوق العباد المتضررين من الجناية.

كما أن من لوازم نجاح قانون العقوبات في الشريعة الإسلامية، عدم الاكتفاء بالأنماط الإجرائية القديمة للقضاة، وذلك بالتوسع في إتاحة كل ما من شأنه أن يسهم في كشف حقيقة الجناية، وبمراجعة بعض الأحكام الاجتهادية الموروثة التي تقف في بعض الأحيان مانعا من معاقبة الجناة وإسعاف المجني عليهم باستعادة حقوقهم ودفع آثار الظلم عنهم. ويتجلى ذلك بوضوح في المسائل التالية: التوسع في العمل بقاعدة درء الحدود بالشبهات، واستعمال الأمارات والفراسة في القضاء، وقبول شهادة النساء في الحدود، وقبول شهادة الصبيان في الدماء.

والله أعلم بالصواب

* * *

الهوامش

(1) محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، دار البراعم للإنتاج الثقافي، ط1، دت، ص482

(2) علي بن محمد بن علي الجرجاني، كتاب التعريفات، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1413هـ، 1992م، ص216.

(3) ابن تيمية، تقي الدين أحمد، مجموع الفتاوى. جمع وترتيب: عبد الرحمن النجدي وابنه محمد، 1399هـ، ج19، ص306.

(4) قطب مصطفى سانو، معجم مصطلحات أصول الفقه، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط1، 2000م، ص249.

(5) انظر: عبارات الفصل الأول والمادة الأولى (1) منه، والفصل الثاني والمواد (2) و(3) و(5) و(6) و(7) و(8) و(10) و(12) و(13). كما جاء في المادة (31) من الباب الثاني قول المشرّع العماني: “إذا انطبق على الفعل نص عام من الشريعة الجزائية ونص خاص، فيؤخذ بالنص الخاص”، انظر: قانون الجزاء العماني، سلطنة عمان، شرطة عمان السلطانية.

(6) وهذا الاشتراك في لفظ “الشريعة” بين المعنيين المذكورين يجدر تجنبه بإبقاء اللفظ دالا على المعنى الأول العام لمختلف جوانب الدين الإسلامي، واختصاص لفظ “التشريع” للدلالة على الأحكام الفقهية العملية، كما هو متعارف لدى الفقهاء.

(7) الرازي، مختار الصحاح، ص 120، 121.

(8) رائف محمد النعيم، المبادئ العامة للتشريع الجنائي الإسلامي، جهينة للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 1425هـ، 2005، ص7.

(9) علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ، 1985م، ص273.

(10) الجرجاني، كتاب التعريفات، ص107.

(11) رائف محمد النعيم، المرجع نفسه.

(12) محمود نجيب حسني، الفقه الجنائي الإسلامي، (الجريمة)، دار النهضة العربية، ط1، 1427هـ، 2007م، ص3.

(13) محمد عبد الشافي إسماعيل، تطوير القانون الجنائي طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2000م، ط1، ص3.

(14) مصطفى العوجي، القانون الجنائي العام، مؤسسة نوفل، بيروت، ط2، 1988م، ج1، ص19.

(15) محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات اللبناني، دار النهضة العربية، بيروت، 1404هـ،1984م، ص4.

(16) محمد عبد الشافي إسماعيل، تطوير القانون الجنائي طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، ص3.

(17) جاسم علي جاسم الشامسي، النظرية العامة للقانون، جامعة الإمارات العربية المتحدة، 2000م، ص11، 12.

(18) عوض أحمد الزعبي، المدخل إلى علم القانون، دار وائل للنشر، ط2، 2003م، ص8.

(19) وهبة الزحيلي، جهود تقنين الفقه الإسلامي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1408هـ، 1987م، ص26.

(20) بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون، تقنين الشريعة الإسلامية، محمد عبد الجواد محمد، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1411هـ، 1991م، ص12.

(21) وهبة الزحيلي، جهود تقنين الفقه الإسلامي، ص28.

(22) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط14، 1418هـ، 1997م، ج1، ص24..

(23) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، ج1، ص26.

(24) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، ج1، ص8.

(25) من مقدمة الدكتور محمد مصطفى القللي، المسئولية الجنائية في الفقه الإسلامي، لأحمد فتحي بهنسي، (دراسة مقارنة)، بيروت، دار الشروق، ط3، 1404هـ، 1984م، ص7.

(26) محمد حسني أحمد طه، العقوبات البدنية شرعيتها ودورها في حماية المجتمع، جامعة الأزهر، ط2، نوفمبر 1996م، ص3.

(27) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، ج1، ص9.

(28) محمود نجيب حسني، الفقه الجنائي الإسلامي، ص1.

(29) مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل الفقهي العام، دار الفكر، 1967م، ط9، ج1، ج1، ص48.

(30) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، ج1،ص10.

(31) تطوير القانون الجنائي طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، محمد عبد الشافي إسماعيل، ص4.

(32) يقول الأستاذ محمد عبد الجواد محمد: “في كل لجنة لتقنين الفقه الإسلامي، شاركنا فيها، أو حضرناها، أو سمعنا عنها، يبدأ العمل بأسئلة تكون أحيانا بريئة، وأحيانا استنكارية، أو اعتراضية، مثل: القانون الساري لا يختلف مع الشريعة الإسلامية إلا في بعض المواضع التي يمكن تعديلها” ثم علق في الهامش بالقول: “ولذا فقد أنشئت لجان، في ليبيا، وفي السودان، لتعديل القوانين بما يرفع الخلاف مع الشريعة الإسلامية، كضرورة عاجلة، ومقدمة لتقنين الشريعة الإسلامية”، انظر: محمد عبد الجواد محمد، بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون، ص50.

(33) بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون، محمد عبد الجواد محمد، ص30.

(34) محمد فاروق النبهان، المدخل للتشريع الإسلامي، دار القلم، ط2، 1981م، ص351 بتصرف.

(35) مجلة الأحكام العدلية، تنسيق نجيب هواويني، بيروت، مطبعة شعاركو، ط5، 1388هـ (هذه المواد منقولة من مواضع متعددة من المجلة).

(36) العوْجي، القانون الجنائي العام، ص160.

(37) www.sharea.gov.kw

(38) مصطفى العوجي، القانون الجنائي العام، ج1، ص161.

(39)نقلا عن وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ، 1989م، ج6،ص15.

(40) عمر سالم دراسة نقدية لقانون العقوبات الاتحادي في دولة الإمارات العربية المتحدة، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 2000م، ص1،2.

(41) وقد علق الدكتور عمر سالم على هذا القانون بالقول: ومن الواضح أن هذا القانون يتميز بالحداثة بالمقارنة بالقوانين العقابية الأخرى، ولكن هذه الحداثة لا تعني هجره لأحكام الشريعة الإسلامية والأعراف السائدة في الدولة، والتي تفجرت في نبع الشريعة الإسلامية الغراء، فقد جمع بين دفتيه عناصر من الأصالة وأخرى من المعاصرة أو الحداثة، ولكنه فيما يتعلق بالأصالة جمع وأجمل، وفي المعاصرة فصل وحدد. وبيان ذلك أنه عندما أحال إلى الشريعة الإسلامية اكتفى بمادة واحدة هي المادة الأولى التي تنص على أن تسري في شأن الحدود والقصاص والدية أحكام الشريعة الإسلامية، وتحدد الجرائم والعقوبات الأخرى التعزيرية وفق أحكام هذا القانون والقوانين العقابية الأخرى. وعندما تعلق الأمر بالحداثة أو المعاصرة، وجدناه قد فصّل وأسهب، لتحتوي نصوصه على 333 مادة.”، انظر: عمر سالم، المرجع السابق، ص3.

(42) وهبة الزحيلي، جهود تقنين الفقه الإسلامي، ص88.

(43) تطوير القانون الجنائي طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، محمد عبد الشافي إسماعيل، دار النهضة العربية، ط1، القاهرة، 2000م، ص23، 24.

(44) المادة الثالثة من مذكرة إرفاق القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م، المطبعة العسكرية (نقلا عن دراسات في الاجتهاد والتقنين، من إصدارات كلية الشريعة والقانون بجامعة العلوم الإسلامية بماليزيا، دار التجديد، ط1، 1426هـ، 2005م، ص92).

(45) القانون الجنائي لسنة 1991م، وزارة العدل، جمهورية السودان.

(46) وقد بدأت هذه اللجنة عملها..في تقنين الفقه الإسلامي، بدءًا بالمعاملات المدنية وأتمت بالفعل أجزاء منه. وفي مؤتمر وزراء العدل العرب، الذي انعقد في صنعاء اليمن، سنة 1981م، صدر “إعلان صنعاء” باعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي الوحيد لقوانين الدول العربية، وتشريعاتها المدنية، والتجارية، والجنائية، وتوحيدها على أساس أن ذلك خطوة هامة على طريق الوحدة العربية المنشودة”، انظر: محمد عبد الجواد محمد، بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون،ص28 (بتصرف).

(47) انظر: العوجي، القانون الجنائي العام، ص162، 163.

(48)وكأننا بالأستاذ عبد الرزاق السنهوري يشير إلى هؤلاء المتعجلين عندما قال فيهم قبل نصف قرن:”وقد حاول بعض رجال القانون أن يستبقوا الحوادث، فدرسوا الشريعة الإسلامية دراسة سطحية فجة لا غَناء فيها، وقدموا نموذجا يشتمل على بعض النصوص في نظرية العقد، زعموا أنها أحكام الشريعة الإسلامية، وهي ليست من الشريعة الإسلامية في شيء… وبديهي أن الشريعة الإسلامية لا تُخدم عن طريق أن يُنسب إليها ما ليس منها، وإنما تخدم عن طريق دراستها دراسة علمية صحيحة، وأول شرط لهذه الدراسة هو الأمانة العلمية. ولا يعيب الشريعة الإسلامية أنها لا تطاوع في بعض نظرياتها ما وصل إليه القانون الحديث من نظريات معروفة، ولكن يعيبها أن تشوّه مبادئها وأن تُمسخ أحكامها”انظر: عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج1، هامش ص50.

(49) عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، ص48.

(50) أحمد محمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية، دمشق، دار القلم، ط6، 1422هـ، 2001م، ص41،(من مقدمات الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء،،ص41).

(51) انظر: محمد خير حسب الرسول، بحث بعنوان: “أثر القواعد الفقهية في التشريع والتقنين الحديث” دورية دراسات في الاجتهاد والتقنين، من إصدارات كلية الشريعة والقانون، جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا، دار التجديد، كوالا لمبور، ط1، 1426هـ، 2005م، ص89 وما بعدها.

(52) جلال الدين السيوطي، الأشباه والنظائر، ص162، (نقلا عن المرجع السابق).

(53) قانون العقوبات السوداني، لسنة 1983م، المطبعة العسكرية، ص24.

(54) المرجع السابق، ص25.

(55) جلال الدين السيوطي، الأشباه والنظائر، ص121.

(56) قانون العقوبات السوداني، لسنة 1983م، ص103.

(57) انظر: محمد خير حسب الرسول، المرجع السابق، ص91.

(58) عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج1، 49، 50.

(59) الزرقاء، المدخل الفقهي العام، ج1، ص209، 210.

(60) محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، ص54.

(61) مصطفى العوجي، القانون الجنائي العام، ص148.

(62) يقول الدكتور طارق رمضان: “نحن نناشد كل الذين يلتزمون بهذه الدعوة أن يصطفوا معنا وأن يرفعوا أصواتهم مطالبين بالتعليق الفوري لتطبيق الحدود في العالم الإسلامي حتي يتم إرساء أسس لنقاش جاد حول هذا الموضوع. نقول باسم الإسلام وباسم نصوصه ورسالة العدل لا يمكننا الاستمرار بقبول تعرض النساء والرجال للعقوبة والموت بينما نظل ملتزمين الصمت ونكون شركاء في عملية تتسم بالخسة. لن يصلح حال المجتمعات عبر الوسائل القمعية والعقوبات وإنما من خلال الانخراط في عملية التأسيس لحكم القانون وتكوين مجتمع أهلي واحترام الإرادة الشعبية وكذلك التشريع العادل الذي يوفر الضمانة للمساواة بين الرجال والنساء والفقراء والأغنياء أمام القانون. إنه من الضروري أن ندشن لحركة ديمقراطية تخرج الجماهير من الهوس بما يعاقب عليه القانون إلي ما يجب أن يحميه القانون وهو بالأساس ضميرهم وحريتهم وحقوقهم وكرامتهم : انظر موقع طارق رمضان، جنيف، بتاريخ 18 مارس 2005:

 http://tariqramadan.com/php.call

(63) محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، 2006م ص188.

(64) الحسيني سليمان جاد، العقوبة البدنية في الفقه الإسلامي، دار الشروق، القاهرة، 1411هـ، 1991م، ص13، 14.

(65) رواه ابن عدي، وروي عن ابن مسعود موقوفا، وعن عمر بن عبد العزيز مرسلا.

(66) أبو يوسف، كتاب الخراج، ص182. قال أبو يوسف: “ولا قطع على سارق الخمر والخنازير والمعازف كلها، ولا في النبيذ ولا في شيء من الطير ولا الصيد، ولا في شيء من الوحش، ولا في النوى، والتراب والجص والنورة والماء. وقد كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: لا قطع في طعام يؤكل -يعني الخبز- ولا في فاكهة رطبة ولا في الحطب ولا في الخشب ولا في الحجارة كلها الجص والنورة والزرنيخ والفخار والطين والمغرة والقدور والكحل والزجاج، ولا في السمك المالح منه والطري، ولا في شيء من البقول والرياحين ولا في الأنوار ولا في التبن ولا في التختج ولا في المصحف ولا في الصحف التي فيها شعر”، المرجع السابق، ص187.

 (67) المرجع السابق، ص186.

(68) زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1980، ص128.

(69) أبو يوسف، كتاب الخراج، ص190.

(70) من أقوى الأدلة على جواز استعمال الأمارات قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} (يوسف، 26 ، 27).

(71) محمد بن أبي بكر الزرعي، (ابن قيم الجوزية)، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1953، ص4. وأورد في موضع آخر قوله: “…سألني أخي عن الحاكم، أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق والاستدلالات والأمارات. ولا يقف مع مجرد ظواهر البينات والأحوال، حتى إنه ربما يتهدد أحد المدعين إذا ظهر له أنه مبطل. وربما سأله عن أشياء تدله على بيان الحال. فهل ذلك صواب أم خطأ؟. (قال ابن القيم) فهذه مسألة كبيرة، عظيمة النفع، جليلة القدر، إن أهملها الحاكم أو الوالي أضاع حقا كثيرا. وأقام باطلا كبيرا. وإن توسع وجعل معوّله عليها، دون الأوضاع الشرعية، وقع في أنواع من الظلم والفساد”. انظر: الطرق الحكمية، ص3.

 (72) ابن القيم، الطرق الحكمية، ص24، 25.

 (73) أبو بكر أحمد بن عمر الخصاف، أدب القاضي، شرحه الإمام عمر بن عبد العزيز، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني وأبو بكر محمد الهاشمي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1994، ص17.

(74) دليل المانعين ورود لفظ الشهداء في الآيتين (النور 4 و13) بصيغة المذكر. ودليل المجيزين قياس الشهادة في الحدود والقصاص على الشهادة في الأموال (البقرة، 282).

(75) ابن القيم، الطرق الحكمية، ص79.

(76) انظر تفاصيل ذلك في: عبلة جواد، بحث بعنوان:”شهادة المرأة في الإسلام”، مجلة الرسالة، العدد الثاني، ديسمبر 1999، ص123 وما بعدها.

(77) المرجع السابق، ص 137. والرأي المذكور فيه للدكتور محمد عطا السيد، الحدود، ص146.

(78) انظر: محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (ابن رشد الحفيد)، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار الفكر، دت، ج2، ص346.

(79) ابن رشد، المرجع السابق.

(80) يقول الإمام الشوكاني: “وقد روى جماعة إجماع أهل المدينة على قبول رواية الصبيان بعضهم على بعض في الدماء لمسيس الحاجة إلى ذلك لكثرة وقوع الجنايات فيما بينهم، إذا انفردوا ولم يحضرهم من تصح شهادته، وقيّدوه بعدم تفرّقهم بعد الجناية حتى يؤدوا الشهادة”، انظر: محمد بن علي بن محمد الشوكاني، إرشاد الفحول، دار الفكر، دت، ص50.

(81) يقول ابن رشد: “وإجازة مالك لذلك هو من باب إجازته قياس المصلحة”، انظر: بداية المجتهد، ج2، ص347.

(82) ابن القيم، الطرق الحكمية، ص24.

(83) لم تعد الدراسات الجنائية مجرد دراسات قانونية خالصة، أي أنها لم تعد مقتصرة على مجرد شرح نصوص القانون، فقد كشف البحث العلمي عن أهمية الدراسات التجريبية التي تقوم على ملاحظة الوقائع واستقرائها واستخلاص القوانين العلمية التي تحكمها… والعلوم المساعدة للقانون الجزائي عديدة، أهمها: علم الإجرام، وعلم العقاب، وعلم الإحصاء الجنائي، والبوليس الفني، والطب الشرعي. ولا تتعادل هذه العلوم من حيث أهميتها لرجل القانون ومقدرته على دراستها وفهم مشاكلها، وأهم العلوم وأقربها إليه منالا علمان: علم الإجرام وعلم العقاب”، انظر: محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات اللبناني، القسم العام، ص 10، 11.

(84) ابن القيم، الطرق الحكمية، ص13.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر