أبحاث

كشف مواضع التلبيس في شبهات إبليس

العدد 33

عودة إلى بحث المأساة

في العدد (30) من هذه المجلة، ورد في باب نقد الكتب مقال للأستاذ/ جاسر حتحوت بعنوان “بحث حول حقيقة المأساة” وهو نقد لمسرحية مأساة إبليس التي قررت على طلاب الدراسات العربية بجامعة هارفارد مؤخراً. وقد تصدى الناقد – وهو أحد طلاب الجامعة المذكورة – للأفكار التي لبسها إبليس على كاتب المسرحية، ففندها، مساهما بذلك في إبراز الحقائق أمام زملائه الدارسين، ثم قام بترجمة المقال عن الإنجليزية الدكتور ماهر حتحوت مدير المركز الإسلامي بلوس انجلز – كاليفورنيا.

وفي هذا البحث يقوم الدكتور فاروق الدسوقي – أستاذ مساعد العقيدة والثقافة الإسلامية بجامعة الملك سعود بالرياض – بمعالجة المبادئ الفلسفية التي تنطلق منها المسرحية، كما يقوم بكشف مواضع التلبيس فيها والرد عليها.

وللدكتور دسوقي كتاب بعنوان “حرية الإنسان في الإسلام، بحث في القضاء والقدر والجبر والاختيار” من أربعة أجزاء تقوم بطبعه حالياً دار الدعوة بالإسكندرية، مما يشير إلى أن لديه اهتماماً سابقاً بموضوع القضاء والقدر أو بمشكلة الجبر والاختيار، وهما المحور الذي يدور حوله ما يسمى بمأساة إبليس. التحرير

 

1- شبهات إبليس وقضية الجبر والاختيار:

لا يخفي على أحد أن مسألة الجبر والاختيار، أو قضية القضاء والقدر من أصعب المسائل الدينية، ومن اعقد المشاكل الفلسفية التي واجهت الفكر البشرى على مدار تاريخه الطويل، إن لم تكن أصعبها وأعقدها على الإطلاق.

شهد بذلك الأئمة المجتهدون والعلماء البارزون في سائر الأديان السماوية، وأقر به الفلاسفة والمفكرون في مختلف المذاهب والاتجاهات.

ويمكننا أن نجد في مجال الفكر الإسلامي أكثر من تصريح يثبت هذه الصعوبة، مثال ذلك ما يقرره ابن سينا من أن القدر سر الله، كما يصرح أبن رشد بأن أدلة العقل والنقل حيال مشكلة القضاء والقدر متناقضة، حتى شيخ الإسلام أبن تيمية يصرح بان مسألة خلف أفعال العباد مشكلة.

ولعل أقدم وأشمل صياغة تضمنت عناصر هذه المشكلة وردت متفرقة في التوراة اليهودية(1) على شكل مناظرات بين إبليس والملائكة(2) كما وردت أيضاً هذه الصياغة (مسطورة في شرح الأناجيل الأربعة: أنجيل لوقا ومارقوس ويوحنا ومتى)(3).

ويتضمن حوار إبليس للملائكة في هذه المناظرات سبع أسئلة يشكل كل منها شبهة من شبهات إبليس السبع، وكلها تدور حول حرية المخلوق المبتلي إزاء أفعاله الخلقية المحاسب عليها، ومدى نسبة هذه الأفعال إلى فاعليته، والركائز التي تقوم عليها هذه المسئولية، ثم – وبناء على ذلك كله – الانتهاء إلى التشكيك في ثبوت العدالة الإلهية حيال مصير الكافرين والعاصين وأولهم وعلى رأسهم إبليس.

ويتخذ إبليس – في مناظرته للملائكة – من معصيته للأمر الإلهي بالسجود لآدم أساساً ومثلا لهذه الشبهات، حيث يحاول جاهداً أن يثبت وقوع المعصية منه بتقدير الله عز وجل السابق لها، حتى يوهم بان جزاء الله عز وجل له بالطرد من رحمته وتخليده في النار متعارض مع العدالة الإلهية المطلقة.

ويود الشهرستاني شبهات إبليس لعنة الله كما يلي:

قال كما نقل عنه:

إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق عالم قادر، ولا يشال عن قدرته ومشيئته، وأنه مهما أراد شيئا قال له كن فيكون.

وهو حكيم، إلا أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة.

قالت الملائكة: ما هي، وكم هي؟

قال لعنة الله : سبعة.

الأول منها : أنه قد علم قبل خلقي أي شي يصدر عني ويحصل مني، فلم خلقني أولا؟ وما الحكمة في خلقه أياي؟

والثاني : إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته، فلم كلفني بمعرفة وطاعته؟ وما الحكم في هذا التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية؟

والثالث: إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة، فعرفت وأطعت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص، بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي إيه؟

والرابع : إذ خلقني وكلفني على الإطلاق، وكلفني بهذا التكلف على الخصوص، فإذا لم أسجد لآدم، فلم لعنني وأخرجني من الجنة، وما الحكمة في ذلك بعد ان لم أرتكب قبيحا إلا قولي: لا أسجد إلا لك؟

والخامس: إذ خلقني وكلفني مطلقاً وخصوصاً فلم أطع فلعنني وطردني، فلم طرقني إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانياً، وغررته بوسوستي، فأكل من الشجرة المنهي عنها، وأخرجه من الجنة معي.

وما الحكمة في ذلك؟ بعد أن لو منعني من دخول الجنة لاستراح مني آدم، وبقى خالدا فيها.

والسادس:إذ خلقني وكلفني عموماً وخصوصاًَ، ولعني ثم طرقني إلى الجنة، وكانت الخصومة بيني وبين أدم، فلم سلطني على أولاده؟ حتى أراهم من حيث لا يرونني، وتؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر في حولهم وقوتهم وقدرتهم واستطاعتهم؟ وما الحكمة في ذلك؟ بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يجتالهم عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين، كان أحرى بهم وأليق، ما الحكمة؟

والسابع: سلمت هذا كله: خلقني وكلفني مطلقاً ومقيداً، وإذ لم أطع لعنني وطردني، وإذا أردت دخول الجنة مكنني وطرقني، وإذ عملت عملي أخرجني ثم سلطني على بني أدم، فلم إذا استمهلته أمهلني؟ فقلت (أنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين إلى سوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) وما الحكمة في ذلك، بعد أن لو أهلكني في الحال استراح آدم والخلق مني، وما بقى شر ما في العالم؟ أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشر؟

قال: فهذه حجتي على ما أدعيته في كل مسألة، قال شارح الإنجيل: فأوحى الله تعالى إلى الملائكة عليهم السلام : قالوا له أنك في تسليمك الأول أني ألهك وأله الخلق غير صادق ولا مخلص، إذ لو صدقت إني إله العالمين، ما احتكمت على بلم.

فأنا الله الذي لا إله إلا أنا . لا أسأل عما أفعل، والخلق مسئولون.

هذا الذي ذكرته مذكرة في التوراة ومسطور في الإنجيل على الوجه الذي ذكرته(4)

ولا شك أن أسئلة إبليس السبعة من قوة التلبيس بحيث أنه يصعب على المرء بعد سماعها أن يتحاشى ما تثيره في نفسه من شكوك وشبهات حول أصول الإيمان، وسنرى أن اختلاف الفرق الفكرية في الإسلام وفي الأديان السماوية السابقة انطلق فكريا ونظريا من محور هذه الأسئلة جميعا، وأعنى به موضوع القضاء والقدر.

أما ما جاء تعقيبا أو إجابة على هذه الأسئلة منسوبا لشارح الإنجيل، فإنه وأن كان منطقيا، إلا أنه لا يعتبر – كإجابة على هذه الأسئلة ورد على هذه الشبهات – بمثابة الرد الصحيح المقنع الذي يناظر الأسئلة.

وليس يخفي على أحد أن أيراد الشبهة أو الاعتراض ملفوفا في صيغة منطقية وحجة قوية، ثم إيراد الإجابة عليها بحجج ضعيفة، وبراهين مهزوزة خافتة، ينتهي بالقارئ أو السامع إلى تثبيت وجه الاعتراض في نفسه، وتعميق الشك والريب حول الموضوع قيد البحث.

وهذا الرد المقدم من شارع الإنجيل – على ما يذكر الشهرستاني – أوضح مثال على ذلك.

فالإجابة كلمة حق يراد بها باطل. ذلك أنه لا يماري مؤمن بأن الله عز وجل الذي لا إله إلا هو يسأل عما يفعل، وأن نفاذ مشيئته وفعله من مقتضيات الإلوهية، ولكن ليست هذه هي الإجابة على أسئلة إبليس، وليست هي الرد على شبهاته.

لأن الأسئلة السبعة تدور كلها حول معرفة الحكمة من إرادة الله عز وجل لما أراد.

ولاشك أن الله عز وجل حكيم، وهذا يعني أنه عز وجل – فوق انه فعال لما يريد ولا يسأل عمل يفعل – فإنه يفعل الحكمة ، وعندما يتساءل المرء عن الحكمة من خلق السماوات والأرض، أو خلق الإنسان، أو خلق الجان، أو خلق الملائكة، فإنه لا يكون في موضع المحاسب لله عز وجل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وإنما يكون في موضع الباحث عن الحكمة من خلق الله سبحانه وتعالى لهذه المخلوقات ومحاولة منه لمعرفة الغاية من وجود كل منها، فهو سؤال استفساري وليس سؤالا للمحاسبة والمحاكمة، فهو ليس من قبيل لم فعلت كذا ولم لم تفعل غيره، ولكن من قبيل ما الحكمة من فعلك كذا.

وبذا تبدو إجابة شارح الإنجيل – باعتبارها تعزي حدوث ذلك كله إلى القدرة الإلهية فقط – متجاهله لصفة الحكمة التي وصف الله عز وجل بها نفسه. ويبدو الأمر – نتيجة لهذه الإجابة – كما لو أن الإله بما فعل مع إبليس وآدم وأبناء آدم، قد فعل ذلك بلا حكمة مقبولة للعقل ومرضية للنفس.

ومن ثم ينتهي هذا الحوار بذلك الرد من شارح الإنجيل إلى وصول أعداء الإيمان والمشككين والملاحة وعلى رأسهم إبليس إلى هدفهم من هذه المناظرة، وهو إلقاء بذور الشك حيال حقائق الدين في نفس السامع او القارئ.

والحق الذي لا مراء فيه أن القرآن الكريم يحمل بين سورة وآياته الإجابة الحقة الكاملة على كل ما سأله إبليس وعلى كل ما وضعه أبالسة البشر من ملاحدة ومشككين وأعداء للإيمان.

يقدم لنا كتاب الله عز وجل الحكمة التي من أجلها خلق الله عز وجل إبليس، ثم الحكمة من تكليفه خصوصاً بالسجود لأدم، ثم الحكمة من خلق آدم وأبنائه، والحكمة من تمكين إبليس من الوسوسة له في إعطاء إبليس وسائر الشياطين معه مكنه الوسوسة لآدم وأبنائه والإيعاز لهم بالشر.

كذلك يقدم لنا كتاب الله عز وجل الحكمة التي من اجلها أذن الله عز وجل بوقوع الشر في الحياة الدنيا.

إن القرآن الكريم يقدم للإنسان، الباحث عن الحق والحقيقة بإخلاص، الحكمة من كل ذلك مقنعة للعقل وموافقة للمنطق ومرضية للنفس، في بيان واضح منير يورث في النفس الاطمئنان، ويثبت في القلب الإيمان بالله عز وجل وبحكمته وعدالته المطلقة، ومن ثم يغرس فيه نور اليقين.

2- أساس التضليل في شهاب إبليس:

ويكمن أساس التضليل في شبهات إبليس السبع في زعم كاذب ورد في الشبهة الرابعة في قوله لعنة الله ( …….. فإذا لم أسجد لآدم فلم لعنني وأخرجني من الجنة، وما الحكمة في ذلك بعد أن لم أرتكب قبيحاً إلا قولي : لا أسجد إلا لك) ولسنا هنا في مجال الرد على هذه الشبهات أو هذه الشبهة بالذات، وذلك الرد القرآني على هذه الشبهات السبع، مبسوط في مواضعه من هذا البحث ولكنا نود هنا الاقتصار على بيان هذه الكذبة – باعتبارها مكمن وعلة التضليل في الشبهات جميعا، وذلك بما ورد صريحاً مباشراً في كتاب الله عز وجل مكذباً لهذه المقولة، فإبليس لم يرفض السجود لأنه اختار إلا يسجد لغير الله ، وهو – أي إبليس – لم يذكر في تعليل امتناعه عن السجود، أنه بسبب إصراره على التوحيد، بل بين أن كبره واستعلاءه على آدم وحقده عليه هو الذي جعله يرتكب المعصية، فعلة المعصية هي ذاته ، وليست شيئاً خارجاً عنها، هذا ما سجله الله عز وجل عليه (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) البقرة

فالآباء والاستكبار هما سبب معصية إبليس وليس لأنه قال “لا أسجد إلا لك”، والدليل على ذلك قوله عز وجل في موضع آخر وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إبليس لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) الأعراف.

فالحكمة كل الحكمة في سؤال الله عز وجل له “ما منعك ألا تسجد إذ امرتك” فلو كان المانع – كما يزعم هذا الزعم الكاذب – هو معارضة الأمر بالسجود لآدم مع التوحيد، أو هو تعارض التكليفين: الأول العام الذي أمر الله فيه إبليس بالتوحيد وأفراده بالعبادة مع سائر الملائكة، والثاني الخاص بالسجود لآدم، لذكر إبليس ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يخدع الله عز وجل وان يكذب عليه، فقال الحق في هذه القضية، والعلة التي امتنع بها عن السجود وهي علة ذاتية، من لدن نفسه المتعالية الرافضة للإقرار بالأفضلية لآدم عليه السلام، وفي موضع آخر شهد إبليس على نفسه عندما سأله الله عز وجل (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي، أستكبرت أم كنت من العالين، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين – ص 75-76).

كما أن أمر الله عز وجل للملائكة ولإبليس بالسجود لآدم ليس متعارضاً مع توحيدهم لله، لأن هذا السجود بمثابة الإقرار لآدم بالخلافة والتفضيل والتكريم، وليس هو سجود عبادة، ويتضح لنا ذلك من قول الله عز وجل “ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي” فبين الله عز وجل أن علة هذا السجود هو تكريم آدم وتفضيله بخلقة بيديه، كما أن أمر الملائكة بالسجود لآدم جاء بعد أن أخبرهم الله عز وجل بأنه جعله خليفة (الآيات من 30 إلى 34 من سورة البقرة) فكان سجود الملائكة له بعد ذلك بمثابة الإقرار منهم والاعتراف بخلافته.

وعلى ذلك فقول واضعي الشبهات السبع أن إبليس رفض السجود لآدم، لأنه لم يرد أن يسجد لغير الله زور وبهتان من صنع شياطين الأنس، ولم يستطع إبليس نفسه أن يزعمه أو هو لم يحدث منه، كما أخبرنا بذلك ربنا عز وجل في كتابه العزيز.

ولكن هذه الكذبة أضحت في مجال البشر حجر الزاوية في الضلالات والشبهات التي ينسجونها حول مسألة القضاء والقدر والجبر والاختيار، وذلك لأنها تتضمن زعما خطيرا كان له أثر خطير في التفكير البشري حيال هذه المسألة ، وهو أن إبليس عندما أمر بالسجود لآدم وضع بين أمرين متعارضين، إن أطاع الله في أحدهما أصبح عاصيا له في الآخر، فأثر ألا يسجد لآدم إبقاء على توحيده لله وهو يعلم أن مصيره النار، ومن ثم يبدو إبليس – حسب هذا الزعم الكاذب – في موقف البطل المأسوي أو شهيد التوحيد المظلوم.

وبالمثل يحاول الكفار والفسادق أن يصوروا أنفسهم في مثل موقف إبليس الزعوم، فيزعمون أنهم حينما يعصون يكونون – حسب زعم الجبرية- خاضعين للأمر الإلهي والقدر الإلهي الذي لا يحدث شيء في الكون إلا بمقتضاه، ومع ذلك فإن هذا الأمر الكوني أو ما قدره الله عز وجل عليهم يتعارض مع الأمر الشرعي المتمثل في التكاليف الشرعية النازلة بالوحي، أي أنهم يزعمون أن الله عز وجل كلفهم بتكليفين متعارضين وأمرهم بأمرين متناقضين، كما هو الحال بالنسبة لإبليس، وفي هذا التعارض تكمن علة مأساة الإنسان في نظرهم.

لقد كان لهذا الزعم الكاذب تأثير كبير على الفكر البشري في شتى مناحيه، وبخاصة في مجالي الأدب والفلسفة.

فبعد التوراة المحرفة التي بين أيدي اليهود من قبل نزول القرآن وحتى الآن، وبعد الأناجيل المزيفة الموضوعة لم تقتصر إثارة مشكلة القدر على هذا النحو الذي يصور فيه إبليس أو الكافر من بني البشر بطلا لمأساة أو شهيدا لحق وواجب، بل استمرت هذه الصورة الغنوصية الإلحادية خلال فكر الإلحاد والزندقة الذي تسرب في ثنايا الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية، سواء في مجال الفلسفة أو مجال الأدب على حد سواء.

ولكن مهما قال القائلون، ومهما زيف المزيفون، فإن أقوالهم وتحريفاتهم وتلبيساتهم لا تتعدى هذه الشبهات السبع، وإن تناوبنها الصيغ المختلفة والصور المتباينة، فالجوهر واحد الأغراض مختلفة باختلاف البيئة والثقافة والحضارة.

3- شبهات إبليس في مجال الأدب:

لقد سيطرت مسألة تعارض الأمرين الصادرين إلى الإنسان على الأدب التراجيدي الغربي خلال عصوره القديمة والوسطى، وتكمن المأساة الإنسانية، في هذا الأدب، في أن الإنسان أيا هالك ما اختار أحد الأمرين الصادرين إليه، ومعني ذلك ان الأدب الغربي – في عصريه القديم والوسيط – غلبت عليه النظرة الجبرية بالنسبة لما يتعرض له الإنسان من أحداث في حياته، فطبيعته تتجه إلى أمور بينما تطلب منه أمور اخرى منافية لها تماماًُ.

وقد تكون علة تعارض الأمرين الصادرين إلى الإنسان أن أحدهما يتمثل في حب البقاء والرغبة في الحياة، وما يتبع ذلك من حب المال والجاه والقوة وكراهية الموت، وقد يتمثل ذلك كله أو بعضه عند هؤلاء الأدباء في السلطة الزمنية المتمثلة في الحاكم.

والآخر في الإيمان بالخلود والرغبة الفطرية الدفيئة في النفس البشرية لعمل الخير للفوز بالآخرة، ومثيل ذلك كله عندهم السلطة الدينية.

وما يجعله من حياة الإنسان مأساة الإنسان هو اختياره وإيثاره لأحدى السلطتين وتضحيته للأخرى، بالرغم من كونه معاقباً ومعذباً على ذلك، أي في الحالين، ومثال ذلك مسرحية “انتيجونا” حيث وجدت انتيجونا نفسها بين أمرين: إما أن تواري جثة أخيها القتيل التراب مذعنة لأمر السماء القاضي بدفن الموتى، وإما أن تتركها للوحوش والنسور مذعنة لأمر الملك كريون.

ومن ناحية أخرى، فإن الملك كريون نفسه عندما قتل أخاها وغيره كان بطلا مأساويا أيضا، حيث وجد نفسه بين أمرين: العمل بالقوة والقسوة على إعادة النظام والأمن وقمع الفتنة في المدينة حسما للشر وليس من سبيل إلى ذلك إلا بإراقة الدماء.

وكذلك كان شقيق أنتيجونا هو الآخر بطلا مطحونا بين واجبين متعارضين.

ويتضح لنا التعارض بين الآمرين الذين واجهتهما أنتيجونا عندما يسألها الملك كريون:

  • وكيف جرؤت على مخالفة الأمر؟
  • ذلك لأنه لم يصدر عن زيوس (هو كبير الآلهة عند اليونانيين).

ولا عن العدل، ولا عن غيرهما من الآلهة الذين يشرعون للناس قوانينهم، وما آرى أن أمورك قد بلغت من القوة بحيث تجعل القوانين التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة والإذعان من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدة، تلك القوانين التي لم تكتب والتي ليس إلى محوها من سبيل(5).

وهكذا انتهت أنتيجونا حين خيرت بين أمرين، إلى أن تختار الأدوم والأبقى، وأن كنا هذا الاختيار ينتهي بها إلى مأساة الإنسان، ولعله لا توجد مسرحية في القديم والحديث تثبت جبرية محضة يزرح تحت ثقلها الإنسان، وتثبت مواجهة الإرادة الإنسانية للآمرين المتعارضين، مثل مسرحية أوديب، حتى أضحى نص هذه المسرحية مجالا يستعرض فيه كبار الأدباء عقيدتهم في القضاء والقدر، وذلك بإدخال التغييرات والتحويرات في الحوار والأحداث بما يؤدي إلى إظهار رأي الكاتب(6).

أما الكاتب اليوناني سوفكليس فيتصور القدر سيفا صارما لا سبيل إلى إفلات رقبة الإنسان منه. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن أحداث القدر الجبرية التي لا يمكن للإنسان أن يتحاشاها بأي حال من الأحوال – وهي بمثابة الأمر الكوني – تأتي متعارضة ومخالفة لأمر الخير والواجب ومقتضيات الفطرة الإنسانية السليمة، وهي بمثابة الأمر الشرعي.

فالملك وزوجته جوكاستا يرزقان طفلا هو أوديب، ولكن الكاهن ينبؤها بأن هذا الطفل سيقتل أباه ويتزوج أمه، فيأمر الملك بإرسال الطفل إلى البرية لتأكله الوحوش أو يموت جوعا وبردا.

ولكن الخادم يشفق عليه ويتركه عند أحد الرعاة، فيتربى ويكبر، ويسمع بقصة وحش يهدد المدينة المجاورة ويحاصرها وقد صرع كل من تصدى له من الأبطال، فيخرج إليه أوديب ويتصدى له، وينتصر عليه ويخلص المدينة من شره فيكتسب محبة وولاء أهل المدينة، ومن ثم ينتهي الأحداث إلى حدوث صراع بين أوديب وأنصاره وبين ملك المدينة فينتصر أوديب، ويقتل الملك أي أباه، يتولى الملك ويتزوج الملكة التي هي أمه، وهكذا تتحقق نبوءة الكاهن.

وهذا يعنى أن الإنسان مسير ومجبر في الأمور والأفعال الخلقية التي يحاسب عليها الإنسان ويترتب عليها مصيره في الحياة وبعد الموت وأن علة مأساة الإنسان المتمثلة في أوديب هي مواجهة إرادته بأمرين متعارضين: الأول أمر الواجب والفطرة المتمثل في القيم الخلقية الواجب تحقيقها بالفضائل، والثاني هو القضاء النافذ الذي أجبر أوديب وجميع أبطال المسرحية عن طريق التسلسل الحتمي للأحداث على ارتكاب هذه الأفعال.

لقد اختار سوفكليس اليوناني أبشع الجرائم التي يمكن أن ترتكب على ظهر الأرض، وهما قتل الوالد ونكاح الأم، وحاول أن يثبت وقوعها منه رغما عنه، ليقول ما ذنب أوديب فيما فعل، ألم يكن مكتوبا، ومقدارا عليه من قبل؟ ومن ثم يعطي بذلك لمن يفعل أي جريمة المبرر الذي يتبرأ به من مسئولية الخلفية.

لقد شنقت جوكاستا نفسها، وفقاً أوديب عينيه، وأخذ بناته من أمه يتجول بهن بين البلاد متسولا.

وهكذا أراد الكاتل أن يبرز مأساة المصير الإنسانية من وجهة نظر إبليسيه محضة، وعلى أساس الشبهات السبع مبيناً أن المعصية الكبرى التي يشقى لها الإنسان الضال شقاء أبديا، وإنما هي مقدرة عليه، ولا يستطيع الإفلات منها، وليس بين هذا الزعم الباطل وبين زعم إبليس في تبرير معصيته أدنى فرق يذكر.

إن مأساة الإنسان المزعومة في نظر هؤلاء الجبريين تقوم على نفس الكذبة التي قامت عليها مأساة إبليس المزعومة.

وتقوم مأساة أوديب على نفس الفكرة الخاطئة التي أقامت عليها مأساة أنتيجونا، حيث يجد أوديب نفسه أمام أحد أمرين، كلاهما يحتم عليه مصيرا سيئا: الأول هو الواجب الإنساني الخلقي الذي يدعوه إلى تخليص المدينة من الوحش الذي يهدد حياة أهلها، وهذا الأمر في حد ذاته خير يدعو إليه الضمير والواجب، والثاني هو رفض مصارعة الوحش وإيثار السلامة، ولكن عندما يختار أوديب ما يمليه عليه الواجب والفضيلة، فإن هذا الاختيار بعينه هو الذي يضعه في مواجهة الصراع الدموي مع أبيه وهو الذي يغرس رأسه في وحل الرذيلة، حيث يؤدي إلى قتل الأب والزواج من الأم.

وكأن المسرحية – يشاركها في ذلك كثير من مسرحيات وروايات التراجيديا الغربية قديما وحديثا- تريد أن تقول للإنسان انه عندما يبدو أمامك طريقان للاختيار، فإنك حينما تختار أحدهما، فإن أيا ما اخترت فإنه يؤدي بك إلى مأساة، وإن ما يبدو لك اختياراً حراً، إنما هو جبر مقدر عليك.

أي أن مأساة الإنسان تكمن في أنه لا مفر له من مواجهة المأساة في حياته، وهذه الأخيرة هي التي يتعلق بها مصيره الأبدي.

ولا شك أن لعقيدة الجبر أثر خطير على النظام الخلقي في الحياة الاجتماعية ، كما أنها لا تقل خطراً على الشعور والدوافع الخلقية عند الفرد، وذلك لأنها في نظر معتنقيها مبرر مقبول لارتكاب الشر وفعل الآثام.

فاعتقاد الإنسان بأنه مسير يجعله قبل ارتكاب الشر والإثم في حالة يأس تام من مقاومة الرغبة والدوافع إلى الرذيلة، فينتهي هذا الاعتقاد بالفرد إلى التسليم بعجزه التام عن فعل الخير أو الامتناع عن الشر.

ومن ناحية أخرى، تقضى عقيدة الجبر في نفس صاحبها على كل نوازع الخير ودوافع الفضيلة، وذلك بقضائها على النفس اللوامة التي من شأنها محاسبة صاحبها على فعل المحرمات وزجره عن معاودة ارتكاب الإثم وتحميله المسئولية الخلقية لفعله ودفعه إلى التوبة والاستغفار والندم. كل ذلك بحجة أن ما حدث ليس سوى أمر قد كتب ولا مناص من وقوعه.

ومن ثم يتبين لنا إلى أى مدى يساهم الأدب أو الفكر في اعتناق الجبرية والمؤسس على شبهات إبليس في هدم الفضيلة والخير كما حدث في العالم الغربي القديم.

وامتدت عقيدة الجبر وتعليل الشرور بالقدر إلى أعمال كثير من الروائيين العرب المعاصرين. وأبرز مثال على ذلك هو إنتاج الأستاذ نجيب محفوظ، حيث نجد أن المحور الذى تدور حوله معظم رواياته هو أن معظم الشخصيات والأبطال يدورون في مدارات لا يملكون حيالها دفعاً أو تغييراً أو تحويلاً، حتى فيما يقترفونه من أفعال خلقية.

ففي روايته “بداية ونهاية” على سبيل المثال تنتهي بطلة الرواية إلى احتراف البغاء كنتيجة حتمية لمقدمات جبرية، وعندما ويكتشف أمرها لأخيها الضابط لا تجد بداً من إلقاء نفسها في نهر النيل على مرأى من عينيه، ثم يتبعها هو الآخر بالانتحار قائلاً “فليرحمنا الله” مشيراً بذلك إلى أن كل ذلك كان قدراً عليهم جميعاً. وذلك لأن الأحداث تسير منذ البداية إلى النهاية وليس لأبطال روايته فيها أدنى تأثير يذكر.

ويضيق المجال هنا عن حصر الأمثلة الكثيرة في الأدب الروائي المعاصر الذي اعتنق أصحابه الجبرية، ودعوا إليها كأمثال الدكتور طه حسين في “الأيام” ويوسف السباعي في كثير من رواياته وغيرهما.

ويصور هؤلاء الكتاب الوجود البشرى من خلال منظار أسود كمأساة تقوم على نفس الأساس الفكري الخاطئ الذي تقوم عليه المأساة عند أساتذتهم من أدباء الغرب وهو نفس الفرية التي أسس عليها واضعوا التوراة والإنجيل شبهات إبليس السبع. مما جعل من إبليس بطلا مأساويا مظلوما بسبب تعارض الأمرين الإلهين الصادرين إليه.

ويأبى الأستاذ توفيق الحكيم إلا أن يشارك أهل التوراة والإنجيل في التتلمذ على شبهات إبليس، حتى أنه بالرغم من أن كثيراً من رواياته الأولى – مثل نصه الخاص عن “أوديب” و”أهل الكهف” وغير ذلك من إنتاج شبابه – تدل على اعتناقه لفكرة القدرية المقابلة للجبرية والتي تنسب للإنسان قدرة خاصة على اكتساب أفعاله وتنكر جبرية القدر عليه وتجعل الإنسان رب أفعال صالحة وطالحة، أقول، بالرغم من ذلك، فأنه يتناقض مع نفسه، ويعتنق الجبرية – ربما رغبة منه وإصرارا على بمجيد إبليس، وترديد ما ورد في التوراة والأناجيل من محاور تدول حولها شبهاته السبع.

لقد حاول الأستاذ توفيق الحكيم في قصة له بعنوان “الشهيد” أن يقول فيها أن العالم لا يمكن أن يقوم إلا بإبليس وأفعاله الشريرة وغوايته للناس. وأن الإله هو الذي خلقه، وكتب عليه هذه الحياة الشريرة، ودفعه إليها، وألزمه بها ، لاستقامة أمر الكون على ما هو عليه الآن. لأن العالم لا يمكن إلا أن يكون كذلك.

ومن ثم ينتهي الأستاذ توفيق إلى تصوير إبليس في صورة البطل الشهيد المظلوم في دنياه وآخرته.

وينسب بذلك – على سبيل الاضمار والإخفاء – الظلم إلى الإله عز وجل، وذلك كنتيجة حتمية لتصوير إبليس بهذه الصورة، ثم الحكم عليه بالعذاب الأبدي.

ويقول الأستاذ توفيق أن إبليس أراد ذات يوم أن يتوب إلى ربه، وأن يقلع عن فعل الشرور، وأن يتفرغ لفعل الخير والعبادة فذهب إلى شيخ الأزهر ليتوب على يديه، فدار بينهما الحوار التالي:

– شيخ الأزهر: إيمان الشيطان عمل طيب ولكن…

– إبليس: ماذا؟ أليس من آيات الله في كتابه الكريم “فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا” هاأنذا أسبح بحمده واستغفره، وأريد أن أدخل في دينه خالصا مخلصا، وأن أسلم ويحسن إسلامي، وأكون نعم القدوة للمهتدين.

وتأمل شيخ الأزهر العواقب لو أسلم الشيطان، فكيف يتلى القرآن؟ هل يمضى الناس في قولهم “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” ولو تقرر إلغاء ذلك لاستتبع الأمر إلغاء أكثر آيات القرآن… فأن لعن الشيطان والتحذير من عمله ورجسه ووسوسته لما يشغل من كتاب الله قدراً عظيماً… كيف يستطيع شيخ الأزهر أن يقبل إسلام الشيطان دون أن يمس بذلك كيان الإسلام كله؟!

رفع شيخ الأزهر رأسه ونظر إلى إبليس قائلاً:

إنك جئتني في أمر لا قبل لي به… هذا شيء فوق سلطتي، وأعلى من قدرتي، ليس في يدي ما تطلب… ولست الجهة التي تتجه إليها في هذا الشأن.

– إبليس: إلى من أتجه إذن؟ ألستم رؤساء الدين؟ كيف أصل إلى الله إذاً؟ أليس يفعل ذلك كل من أراد الدنو من الله؟

– أطرق شيخ الأزهر لحظة… وهرش لحيته ثم قال: نية طيبة ولا ريب! …. ولكن… على الرغم من ذلك أصارحك أن اختصاصي هو إعلاء الإسلام، والمحافظة على مجد الأزهر، وأنه ليس من اختصاصي أن أضع يدي في يدك”.

يعنى هذا أن الأستاذ توفيق الحكيم يسجل على لسان شيخ الأزهر ضرورة وجود إبليس لبقاء الدين واثبات صحته. وأن اختصاص شيخ الأزهر وعلماء الدين وأهميتهم مستمد من وجود إبليس، ولو زال إبليس من الأرض لانتهى مبرر استمرار شيخ الأزهر وعلماء الدين بل يقصد أن صحة مبادئ الدين تقوم على فرض واه هو استمرار إبليس في الكفر وهو يقرر هذه المعاني صراحة حين يتساءل:

“كيف يمحى إبليس من الوجود دون أن تمحى كل تلك الصور والأساطير. والمعاني والمغازي التي تعمر قلوب المؤمنين وتفجر خيالهم؟… ما معنى يوم الحساب” إذا محي الشر من الأرض؟ وهل يحاسب أتباع الشيطان الذين تبعوه قبل إيمانه أم تمحى سيئاتهم ما دامت توبة إبليس قد قبل؟…”

ولكن إبليس لم يستسلم لرفض شيخ الأزهر توبته فصعد إلى السماء وطلب من جبريل (عليه السلام) التوسط عند ربه لقبول توبته فيقول له جبريل.

– نعم، ولكن زوالك من الأرض يزيل الأركان ويزلزل الجدران، ويضيع الملامح ويخلط القسمات، ويمحو الألوان ويهدم السمات. فلا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة.. ولا للحق بغير الباطل.. ولا للطيب بغير الخبيث… للأبيض بغير الأسود.. ولا للنور بغير الظلام.. بل ولا للخير بغير الشر… بل أن الناس لا يرون نور الله إلا من خلال ظلامك. وجودك ضروري في الأرض ما بقيت الأرض مهبطا لتلك الصفات العليا التي أسبغها الله على بني الإنسان!

– وجودي ضروري لوجود الخير ذاته؟! نفسي المعتمة يجب أن تظل كذلك لتعكس نور الله! سأرضى بنصيبي الممقوت من أجل بقاء الخير ومن أجل صفاء الله.. ولكن.. هل تظل النقمة لاحقة بي، واللعنة لاصقة باسمي على الرغم مما يسكن قلبي من حسن النية ونبيل الطوية…؟

– نعم يجب أن تظل ملعوناً إلى آخر الزمان… إذا زالت اللعنة عنك، زال كل شيء، وبكى إبليس وترك السماء مذعنا، وهبط الأرض مستسلماً، ولكن زفرة مكتومة انطلقت من صدره وهو يخترق الأرض رددت صداها النجوم والأجرام في عين الوقت، كأنها اجتمعت كلها معها لتلفظ تلك الصرخة الدامية(10): إني شهيد ! إني شهيد …

ولا شك أن توفيق الحكيم مدلس وضال أو مضلل فيما يتصوره عن حقيقة إبليس وعلاقته بنظام العالم، وهو بهذا التضليل تلميذ مخلص لتوراة بني إسرائيل في هذه القضية.

ولسنا في معرض الرد على هذا الإفك الآن فذلك مبسوط في موضعه ولكن نكتفي بإبراز الضلالات الآتية في قصته:

الأولى : أن توفيق الحكيم يصور شيخ الأزهر على غرار أحد الباباوات الكنسيين الذين يغفرون ويتوبون على من يريدون من الناس، وهو بذلك يجهل (ولعله يعلم ويتجاهل) أنه ليس في الإسلام رجال دين، وأن من أصول التوحيد الإسلامي توجه الراغب في التوبة إلى خالقه مباشرة دون واسطة من أحد من الناس أو الأنبياء أو الملائكة.

الثانية : إن المخلوق المبتلى إنسا كان أو جنا، إذا أراد أن يتوب مخلصا صادقاً، فغن الله عز وجل – كما وعد – يتوب عليه ويغفر له حتى لو جاءه بمثل ما على السماوات والأرض ذنوباً، وأنه لا يستثني من ذلك حتى شياطين الأنس والجن.

الثالثة : إن إبليس لا يريد التوبة، فإن الباعث له على المعصية كان ذاتيا، استكباراً وحقداً وحسداً من نفسه على آدم، ومازال باعثه النفسي من ذاته، ولما كان شرط قبول التوبة هو الإقلاع عن المعصية وإبداء الندم وعقد العزم على تركها، فإن توبة إبليس – إذا أراد التوبة – حسن أصول الإسلام، مقبولة بشرط إعلان ندمه على معصيته واستعداده للسجود لآدم.

والذي يمكن استنباطه من الآيات التي تتناول معصية إبليس وبيانه هو استكبار والاستعلاء على آدم عليه السلام، وهذا الاستعلاء والاستكبار والحقد على آدم هو الدافع له إلى يوم الدين لفعل الشر، وللإيعاز به بين الناس.

وبذلك قطع إبليس على نفسه خط الرجعة إلى طاعة الله عز وجل والتوبة إليه، فأعلن إعلاناً واضحاً صريحاً عزمه على المضي إلى النهاية في طريقة المعصية، بالرغم من علمه بمصيره المترتب على اختياره، إن حقده على آدم واستكباره النابع من ذاته مستمر ومتزايد، وهذا الحقد هو الدافع له إلى محاولة الإيقاع بآدم وأبنائه في نفس المصير الذي هوى إليه.

ويعرض القرآن الكريم هذه الحقائق الثابتة في أكثر من موضع يقول الله عز وجل : (ولقد خلقناكم ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين، قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلفته من طين، قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين، قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين، قاتل فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم – ( الآيات من 11 – 16 سورة الأعراف)

ولاشك أن الذي يطلب من الله عز وجل أن ينظره ويمهله إلى يوم يبعثون، هو في الحقيقة مصر على معصيته، غير نادم عليها مستمر فيها إلى يوم يبعثون، يتأكد هذا الاختيار الإبليسي من إعلانه وتأكيده العزم على محاولة إضلال الناس، وهذا يجعل توبة إبليس بالذات مسألة باطلة، لأن التوبة لابد من تنبع من نفس العبد، وإعلان إبليس وبيان عزمه يدل على استحالة حدوث هذه الرغبة في نفسه إلى يوم الدين، لإنه قد اختار المعصية اختيارا نهائياً لا رجعة فيه.

بل إن مصير إبليس قد تحدد نهائياً لعلمه وبموافقته وبقبوله لهذا المصير ورضائه به فهو قد قبل اللعنة الأبدية، ولم يبد لله عز وجل أي رغبة في التخلص من هذا المصير ولم يطلب منه رحمته أو مغفرته، ولم يبد ندمه، وإنما أصر على المعصية الموجبة لهذه اللعنة – يقول الله عز وجل: (قَالَ يَا إبليس مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) “سورة الحجر”.

وهذا الرد من إبليس بيان منه على تصميمه على المعصية وعدم العودة إلى الطاعة.

( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) “الحجر”

وهنا علم إبليس يقينا بجزائه على كفره – وكان يتوقعه قبل إخبار الله عز وجل له – ولكنه – رغم ذلك – لم يبد الندم ، ولم يتراجع، فقبل بذلك أن يكون ملعونا إلى يوم الدين مرتين: مرة عندما أختار المعصية وهو يعلم جزاءه عليها، ومرة عندما سأله الله عز وجل عهن المانع له عن السجود فأقر بأنه من ذاته وباختياره، استعلاء واستكبارا على آدم، مبديا إصراره على المعصية، ومن ثم قبل إبليس بذلك أن يكون ملعونا إلى يوم الدين وأن يخلد في النار، ولكن كل ما طلبه من الله عز وجل هو الإمهال إلى يوم البعث.قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) “الحجر”

وهذا كله يعنى في النهاية إصرار إبليس على الإفساد والفسق والمعصية والكفر منذ رفضه للسجود وحتى البعث، حتى أنه ليقسم بعزة الله عز وجل أنه سيعمل على غواية الناس، خلال مدة الإمهال إلى يوم البعث،(قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) “ص”

كل ذلك يدل دلالة قاطعة على أن إبليس قد قطع على نفسه خط الرجعة إلى الله عز وجل، وأنه آثر الحياة الدنيا واختارها مستغنياً عن الآخرة.

فأعطاها الله عز وجل له بناء على اختياره، وعلى ذلك، فندم إبليس ورغبته في التوبة فربة كبرى، وفرض خيالي، مخالف لما ورد على لسانه في القرآن الكريم، ومن ثم فالفرض الخيالي الذي بني عليه الأستاذ توفيق قصته باطل، ونقصد به رغبة إبليس في التوبة، وما بني على باطل فهو باطل، ولكن هذا الكاتب يستخدم الدب الفن وما أتاه الله من خيال وقدره على استخدام الحوار لتلبيس الحق بالباطل، والوصول بالخداع إلى نتيجة باطلة وهي: أن إبليس مظلوم وشهيد.

الرابعة: أنه لا يوجد نوع من المخلوقات العاقلة اسمه الشيطان وإنما الأنواع العاقلة ثلاثة: الأنس والجن والملائكة، منها نوعان للابتلاء هما الأنس والجن.

والذين يفسقون عن طاعة الله ويكفرون به من هذين النوعين، يصبح كل منهم شيطانا، وإبليس أحد هؤلاء، فإن زال أو أسلم فثم ملايين غيره من الأنس والجن أصبحوا بأفعالهم الاختيارية شياطين، فإبليس لم يكن شيطاناً قبل المعصية، كذلك ليس هو الشيطان الوحيد.

كما أنه ليس للشيطان على الإنسان سلطان فيما يفعل من شر سوى الإيعاز به وتزيينه لفاعله فقط.

فقول الأستاذ توفيق أن زوال إبليس يدمر نظام الكون باطل، لان الإنسان وحده قابل للشر حتى بدون وسوسة إبليس له، أفلا يرى الكاتب الكبير من حوله من شياطين الأنس من بني إسرائيل وقادة أمم الباطل وأئمة الكفر والدعاة إلى الضلال من المفكرين والأدباء والفنانين، ما فاق دعوة إبليس وجنوده من الجن إلى الشر بمراحل كبيرة.

أن وجود الشر والأشرار – نتيجة طبيعية لخلق الله عز وجل للإنس والجن أحراراً مختارين، إذ يقتضى كونهم أحرارا اختيار البعض للخير واختيار البعض الآخر للشر، فحرية المخلوق المبتلى هي على الشر في العالم، وليس إبليس هو علة الشر، إلا بما يخص ذاته ومعصيته وأفعاله الخاصة، بل إن إبليس وكل الشياطين وكل العصاة أصبحوا أشراراً لأن الله خلقهم أحراراً فاختاروا الكفر والمعصية على الإيمان والطاعة.

وعلى ذلك فقول الأستاذ توفيق أن توبة إبليس تعنى انتهاء الشر من العالم قول باطل ومن قبيل الوهم والجهل بطبائع الناس.

الخامسة: إن بعض الشياطين يتوبون إلى الله عز وجل، ويسلمون له فيتوب الله عليهم ويقبل إسلامهم، من ذلك ما جاء في السنة الصحيحة عن أخبار رسول الله r لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن لكل إنسان شيطان حتى رسول الله r كان له شيطان يحاول أن يوسوس له، ولكن الله عز وجل أعانه عليه فأسلم، وهذا يفيد قابلية شياطين الجن والأنس للتوبة ويفيد، أيضاً قبول الله عز وجل توبة التائب منهم، ومن ثم فإبليس مخلد في النار لأنه مصر على معصيته غير نادم ولا راغب في التوبة.

وليس كما يزعم هذا الكاتب بأن هذا مقدر عليه وأنه بذلك مظلوم وشهيد، ومخالفا ومعارضاً بهذا الزعم قول الله عز وجل في إبليس وتصوير القرآن الكريم له.

السادسة: أن هذه النظرة الجديدة التي ينظر بها الأستاذ توفيق إلى إبليس، أو بتعبير ادق – التي يدعونا إليها – تتضمن في طياتها بذور الثنوية القائلة بالهين: أله الخير والحق النور، وإله الشر والباطل والظلمة، يمكن أن ندرك هذه البذور في محاولة الكاتب إثبات ضرورة وجود الشيطان لنظام العالم، والحديث عنه كأنه أحد أركان الوجود التي لا يمكن للكون أن يستمر بما هو عليه من نظام وقيم وموازين، إذا زال إبليس أو الشيطان ، وهذه الفكرة تعطي إبليس مشاركة للإله في نظام لأكون، لأنه يصبح ضرورة للكون، كما أن الإله ضرورة للكون، وقد أتى الكاتب- كذبا وبهتانا مستترا ومتذرعا بالأسلوب القصصي – بهذا لا معنى على لسان جبريل في قوله.

  • نعم ولكن زوالك من الأرض يزيل الأركان، ويزلزل الجدران، ويضيع الملامح ويخلط القسمات، ويمحو الألوان ويهدم السمات، فلا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة، ولا للأبيض بغير الأسود، ولا للنور بغير الظلام… بل ولا للخير بغير الشر.. بل أن الناس لا يرون نور الله إلا من خلال ظلامك … وجودك ضروري في الأرض ما بقيت الأرض.
  • وليس هذا القول سوى الأساس الفلسفي لعقيدة الثنوية التي تقول باثنين من الآلهة، فقول لا وجود للخير بغير الشر، يسلب الاستقلال الوجودي عن الإله وكونه ضرورة لوجود كل شيء، ويثبت أن غيره الأله وكونه ضرورة لوجود كل شيء، ويثبت أن غيره ضرورة لوجوده أو حتى ليصبح لوجوده معنى.

والتوحيد الإسلامي يثبت أن الله عز وجل ضرورة الخلق كله، ولا ضرورة وجودية أو معرفية عليه من سواه فهو الموجود الأزلي الذي لا يشاركه في أزليته غيره، وهو خالق كل شيء وهو في غنى عن كل شيء ولا شيء في غنى عنه.

كذلك الله في عن كل شيء معرفيا، كما أنه في عنى عن كل شيء وجوديا، فهو معروف بذاته وفاته، وهو في غنى عن أن يعرفه غيره، ولا يمكن لأي من مخلوقاته أني يعرف الله حق المعرفة أو يقدره حق قدره، والله عز وجل مستغن بمعرفته لآذته عن معرفة سواه له، بينما كل ما ساه من المخلوقات لا يستغنى في وجوده وفي معرفته عن معرفة الله عز وجل باعتباره الإله الحق وخالق كل شيء.

يقول الله عز وجل شاهداً لنفسه بأنه لا إله إلا هو وكفي به شهيداً.

(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) “آل عمران”

وشهادة الله عز وجل بأنه لا إله إلا هو في الأزل قبل بدء الخلق كله، يثبت استغناء الله عز وجل عن أي ضرورة وجودية من غيره، كما تثبت في نفس الوقت استغناءه عن أي ضرورة معرفية من غيره، أي أنه عز وجل ليس في حاجة لكي يعرفه أحد، وإنما كل مخلوقاته في حاجة إليه لكي يعرفه أحد، أي أنه عز وجل ليس في حاجة لكي يعرفه أحد، وإنما كل مخلوقاته في حاجة إليه في وجودها أي في خروجها من اللاوجود إلى الوجود أن تعرفه وتسبحه وتقدسه.

من اللاوجود إلى الوجود أن تعرفه وتسبحه وتقدسه.

فالملائكة وأولوا العلم عندما يشهدون أنه لا إله إلا هو إنما ذلك الخير وجودهم وليس تنفع الله هذه الشهادة بشيء، كما أن إجماع الأنس والجن على إنكار هذه الشهادة لا يضره في شيء ولا يغير من الحقيقة الأزلية الأبدية المطلقة وهي أنه لا إله إلا الله.

ولا شك أن ما أورده الأستاذ توفيق ناسيا إياه لجبريل عليه الإسلام يتعارض مع هذا الأساس من أسس التوحيد الإسلامي، لأنه يثبت ضرورة على الإله في الوجود والمعرفة، ويثبت لإبليس ضرورة لمعرفة الخير والحق، كما يثبت له ضرورة لوجود العالم على ما هو عليه، وهذه الضرورة التي يثبتها الأستاذ توفيق لإبليس هي الأساس العقيدي لديانة الثنوية التي تقول بأهلين اثنين، وهو يستدرج القارئ إلى هذه النتيجة الوثنية من مقدمة باطلة، ببراعة رجل الحوار الحاذق دون أن يشعر القارئ العادي بمواضع التلبيس والتضليل والخداع.

السابعة: أن توفيق الحكيم يرمى – من قصته – إلى تغيير مشاعر الكراهية والعداء التي عند الناس نحو إبليس، أن وصفه لإبليس التقليدي نحوه، بحيث نتحول من موقف العداء والحذر منه، إلى موقف الإجلال والتقدير، والشعور بالشفقة والتعاطف معه.

وهذه النتيجة التي يرمى إليها هذا الكاتب رفض لقول الله عز وجل: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)) “فاطر”

وقوله عز وجل:

وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) “البقرة”

ولئن كانت قصة “الشهيد” للأستاذ توفيق ترمى إلى ذلك بالأسلوب القصصي غير المباشر الصريح الذي يعمل على ترك هذه النتيجة كأثر في نفس القارئ دون التصريح بها، فإن كاتباً آخر من تلاميذ إبليس في الشبهات، يدعو إلى هذه النتيجة صراحة في مقال له بعنوان “مأساة إبليس نظرة جديدة إلى موضوع قديم”(11) يستخدم فيه أساليب الغش والخداع والتزوير التي يمكن أن يزاولها كاتب بالقلم.

من ذلك استدلاله على ضلالاته بإيراده أقوالا وعبارات مبتورة لبعض مشاهير علماء المسلمين المخلصين على طريقة من يستدل بقول الله عز وجل (ولا تقربوا الصلاة) على نهى القرآن عن الصلاة، وهذا أسلوب للتحريف والتدليس معروف للجميع، ولكن الكاتب يستخدمه معتمدا على عقوبة القارئ العادي، وعدم معرفته بخلفيات هذه العبارات التي يستخدمها.

وهذا الكاتب- ويدعى دكتور صادق جلال العظم(12) لم يخرج في مقالة عن شبهات إبليس، وليس له من إضافة تذكر سوى صياغتها في أسلوب عصري، ومن ثم فمقالة في الحقيقة “نظرة إبليسيه قديمة إلى موضوع قديم” كما أسماه، ذلك أن مقالة – مع استخدامه لكل الشبهات الرابعة في قول إبليس “لا أسجد إلا لك” صاغها الكاتب في عنوان فرعب يقول (إصرار على التوحيد في أصفي معانيه) ومن ثم يبني دعوته على أساس أن مأساة إبليس المزعومة تتضمن نوعي المأساة التي عرفها الإنسان في فكرة وأدبه، وهما مأساة الغربة ومأساة المصير، وأساس المأساة المزعومة عنده هو تعارض الآمرين الصادرين إلى إبليس، ويرى الدكتور العظيم هذا أن إبليس اجتاز مأساة الغربة عندما انفرد وحده دون الملائكة بإصراره على التوحيد، فأصبح غريباً بينهم(13) كما أنه اجتاز مأساة المصير بطرده من السماء وقضاء حياته ملعوناً في الأرض.

ويرى الكاتب أن ظلما فادحا وقع على إبليس، وإن هذا الذي حدث له هو نتيجة إيقاع الإله له بنصب فخ نصبه له بمكره، وهو يفسر مكر الإله الذي وصف به نفسه في القرآن الكريم بمعنى لا يليق بالإلوهية حيث يفسره بمعنى الخداع والمخاتلة والغش والكذب.

ثم بعد ذلك ينتهي بمقالة صراحة إلى نفس النتيجة التي دعانا إليها توفيق الحكيم ضمنا، وهي أن إبليس مظلوم وشهيد، وهو أحد أركان هذا الكون، ولا يمكن أن يستمر العالم بما هو عليه من نظام، إلا إذا استمر إبليس في دوره كمصدر للشر، ومن ثم فهو بذلك منفذ لإرادة الإله، ولابد أن يثيبه الإله في النهاية ثواباً حسنا على ما يقوم به، باعتبار أن ما يقوم به، باعتبار أن ما يقوم به ضروري لبقاء العالم على ما هو عليه، ومن ثم يتوقع الكاتب أن مصير إبليس لابد أن يكون الجنة، ويفسر ما جاء في القرآن الكريم عن وعيد الله عز وجل له بالخلود في النار، بأنه من قبيل المكر الإلهي (الذي يفهمه هذا الكاتب على أنه غش وكذب وخداع)، ومن ثم ينتهي في استنباطه إلى قوله: (نستنتج إذن أن اللعنة التي نزلت بإبليس لم تكن تعبيرا عن نهايته الحقيقة التي شاءها الله له، وإنما كانت مكرا إلهيا غايتها تنفيذ أحكام المشيئة فيه)، وأن مصيره سيكون في الجنة (إذ أن مكر الله يستطلب أن يعتقد إبليس اعتقادا جازما بأن مكر الله يتطلب أن يعتقد إبليس اعتقادا جازما بأن خاتمته لن تكون إلا خاتمه تعيسة وبائسة) وهذا وصف صريح من هذا الكاتب للإله بالكذب والخداع(14)، وذلك لأن القرآن الكريم ينص صراحة على خلود إبليس في النار بحكمين، حكم عام في قوله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) “آل عمران”.

وقد حكم الله على إبليس بالكفر في قوله تعالى (إِلَّا إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) “البقرة” ، أما الحكم الخاص ففي قوله عز وجل (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) “الإسراء”، ويؤكد الله عز وجل هذا الوعيد ويثبت هذا المصير لإبليس بقوله عز من قائل(قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) “ص”.

ومكن ثم ينتهي مؤلف هذا المقال إلى نفس النتيجة الضمنية التي رمى إليها توفيق الحكيم من قصة “الشهيد” حيث يصرح الأول بضرورة عمل الآتي خلقياً وتربوياً بالنسبة لإبليس.

أولاً: يجب علينا إدخال تعديل جذري على نظرتنا التقليدية إلى إبليس، وأحداث تغيير جوهري لتصورنا لشخصيته ومكانته.

ثانياً: يجب أن نرد له اعتباره بصفته ملاكا يقوم بخدمة ربه بكل إتقان وإخلاص، وينفذ أحكام مشيئته بكل دقة وعناية.

وأخيراً (يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له، وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح، ونوصى الناس به خيراً، بعد أن اعتبرناه زورا وبهتانا مسئولا عن جميع القبائح والنقائص) وذلك لأن الكاتب يرى أن الإله هو المسئول عنها وليس إبليس باعتباره مكلفاُ له بها ومريداً لها.

والملاحظ أن الكاتب يتعامل هنا مع إبليس باعتباره موجودا حقيقا مظلوما فيطلب الصفح عنه ويحاول رد اعتباره ويدعونا إلى تغيير نظرة الناس له، وذلك بالغرم من تصريحه بأنه شخصية أسطورية وليس شخصية حقيقية، وهذا يعني أنه تناقض مع نفسه.

وعلى كل حال، فإن هذا الكاتب يتفق مع الأستاذ توفيق الحكيم في أصول ونتائج نظرته لإبليس، وأصول هذه النظرة ونتائجها مستمدة من شبهات إبليس السبع.

وهذا ما حدا بي إلى الرد التفصيلي على هذه الشبهات فيما يلي.

4- مواضع التلبيس في شبهات إبليس:

يبقى بعد ذلك تفنيد شبهات إبليس وافتراءاته السبع واحدة واحدة:

تقول الفرية الأولى:

أنه قد علم قبل خلقي، أي شيء يصدر عني ويحصل مني، فلم خلقني أولاً؟ وما الحكمة في خلقه إياي . ؟!

لقد شاء الله عز وجل – وهو فعال لما يريد – أن يكون في كونه العظيم وبين مخلوقاته التي لا يعلمها إلا هو، عالم محدود للابتلاء والاختبار هو الأرض، ينزل إليها من يقبل دخول عالم الابتلاء بشروطه، وهي:

  • أن يكون مزودا بمقومات الفاعلية الثلاثة:

وهي الإرادة المختارة والاستطاعة والعلم، أي التي يصبح بها الكائن المبتلي مسئولا عن أفعاله، والتي تتم بها جميعا مسئوليته، ويكون مستحقا للجزاء.

(2) والشرط الثاني هو أن يتحمل مسئولية فعله في الأرض، مصيرا مخلدا: إما في النار، إن كان معصية لله وشرا، وإما في الجنة إن كان طاعة لله وخيرا، قال تعالى(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) “الأحزاب”

وهذا يعني أن الإنسان قد دخل عالم الابتلاء مخيرا، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى (إنا عرضنا …) ويؤكده أن الخبير الأمانة إشفاقا من نتيجتها على مصيرهم، وأن الإنسان حملها باندفاعه وتهوره وظلمه لنفسه.

وخلق الله عز وجل كل المخلوقات، أحياء وغير أحياء، على الفطرة الحنفية الموحدة، وعلى رأسهم جميعا الملائكة والجن والأنس بما في ذلك إبليس، وأعنى كفار البشر.

ثم شاء الله عز وجل – وهو فعال لما يريد – أن يكرم الإنسان ويفضله على جميع خلقه في الأرض، وأمر الملائكة الذين كان معهم إبليس، وتلقى معهم الأمر، أصله من الجن، أمرهم عز وجل بالسجود لآدم، إقرارا له بالخلافة والأفضلية والتكريم عليهم وعلى سائر العالمين في الأرض.

ولقد كان هذا ابتلاء من الله عزك وجل للجميع، كانت نتيجته طاعة الملائكة ومعصية إبليس.

وهذا يعني أن الملائكة رفضوا دخول عالم الابتلاء، وأن إبليس اختار دخول هذا العالم، وذلك حين تلقى أمر الله عز وجل بالسجود آدم كأمر ابتلائي، وليس كأمر كوني لله عز وجل واجب التنفيذ، ومن ثم جعل لنفسه حق القبول والرفض بالنسبة لأمر الله، فكان هذا بمثابة انسلاخه من عالم الملائكة، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ودخوله عالم الابتلاء، الذي يتمكن فيه الكائن المبتلي – بأمر الله وقدره وإذنه – أن يطيع، كما يتمكن فيه أن يعصى الأمر الإلهي الصادر إليه، ابتلاء وتشريعاً وتخييرا.

ومن ثم تعتبر معصية إبليس، زيادة على ما تقدم، تجربته الابتلائية الأولى.

بعد هذا البيان نقول ردا على سؤال إبليس الأول: أن الله عز وجل علم قبل أن يخلقك ويخلق أي كائن مبتلي من الجن أو الأنس ماذا سيكون منه، وماذا سيكون منك، هذا بالنسبة للكافر والمؤمن سواء بسواء، ومع ذلك فقد خلقك الله وخلق كل كائن، لأن الله عز وجل غنى قادر كريم وخزائنه لا تنفد، وعندما خلق الله عز وجل الخلق، فإنه أعطاهم وأمتن عليهم بوجودهم، بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ولكن الله عز وجل الخلق، فإنه أعطاهم وأمتن عليهم بوجودهم، بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ولكن الله عز وجل الكريم الغني القادر الفعال لما يريد، أراد أن يعطى بعضا من خلقه ملكا عظيماً خالدا يسخر لهم فيه الأشياء والأحياء، ولأن الله عز وجل حكيم وعادل ولا يظلم أحداً، فقد شاء أن لا يأخذ هذا الملك الذي لا يبلى، إلا من يستحقه من خلقه، ولذلك عرض عليهم جميعاً (السماوات والأرض والجبال وما فيهن) الأمانة وهي الموضوع الرئيسي للابتلاء في الأرض، وقد قبلها الإنسان وجعله الله خليفه، فإذا بك أيها الشيطان تحقد عليه، ومن ثم اتبعت هواك وانتقلت إلى عالم الابتلاء.

فالحكمة من الابتلاء إذن، هي إقامة الحجة على الكائن المبتلى، وبيان أولياء الله وخلفاء الله من خلفاء وأولياء وعبده الهوى والطاغوت، ولكي يميز اله به من يستحق الملك الأبدي الخالد في الجنة، من الذي لا يستحق إلا النار التي جعلها الله لأعدائه.

وتمييز الخبيث من الطيب، فهو يعلم هذا كله أزلا قبل خلق الإنس والجن، ولكن لكي يميز بينهما أمام أنفسهما، ولكي يقيم الحجة على الخبيث لأن الله عز وجل، كما أنه حكيم، فهو عادل لا يظلم أحدا، ولذلك شاء إيجاد عالم الابتلاء وعرض على مخلوقاته دخوله عرضا تخييريا، ومن ثم أصبح عالم الابتلاء مجرد تجربة عملية، تقوم بعدها الحجة على المسيء والكافر، ليدخل النار بعد ذلك عن بينة، وبرهان على استحقاق هذا المصير وعندما خلقك الله، وخلق كل كافر صائر إلى النار خلقكم على الفطرة موحدين، ثم أنتم الذين أحدثتم في أنفسكم هذا التسفل والهبوط الكفر والمعصية، ومن ثم يكون جزاؤكم النار جزاءً عادلاً موفورا.

وتقول الشبهة الثانية:

إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته فلم كلفني لمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في هذا التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية؟

ونقول للرد عليها:

وكل الكائنات مكلفة بطاعة الله عز وجل، والكل عبيد له تعالى، والكل مسلمون لله تعالى، إن طوعا وإن كرها قال تعالى (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) “آل عمران” وقال تعالى:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) “فصلت”

فمن شأن الإله أن يأمر وأن يطاع وأن تنفذ مشيئته في خلقه، ومن شأن المخلوق ان يكون عبداً لخالقه، ومن شأن المخلوق أن يكون عبداً لخالقه، ومن شان العبد أن يطيع إلهه وإلا أصبح كافراً متألها.

وقد كلفك الله عز وجل يا إبليس بطاعته ، وقد أطعته، وأقررت له بالإلوهية، ووجوب الطاعة، حتى أمرك بالسجود لآدم، فاستكبرت.

أما أمر الله لعباده بالطاعة، فيختلف من مخلوق إلى مخلوق، فالكائن غير المبتلى مطيع لله بمقتضى الخلقة، ولا يمكن أن يعصى أو يخطئ، ولذلك قال الله تعالى للسماوات والأرض (إئتيا طوعا أو كرها) فليس لأي مخلوق فيهما أن يسير، أو يؤثر في غيره، أو يتأثر بغيره، إلا كما شاء الله عز وجل وأراد.

أما أمر الله عز وجل بالطاعة بالنسبة للمخلوق المبتلي، جناً أو إنساً، فهو كقوله له إئت طوعا فقط أي بدون إلحاق الأمر بقوله “أو كرها” وهذا معناه أن هذا النوع من الخلق يستطيع أيضاً معصيته، فلم يفرض الله عز وجل عليه تنفيذ أمر كرها، فتركه واختياره، إن شاء لبى أمره الله طوعا، وإن شاء لم يطع، ولم يلب، ولا إكراه عليه طاعة أو في معصيته.

ولا الطاعة تنفع الله، ولا المعصية تضره، ومن ثم ترك الله الكائن المبتلى، ومنهم إبليس، يفعل ما يختار.

فالحكمة من التكليف بالطاعة الاختيارية للكائن المبتلي، هي ابتلاؤه واختياره لبيان مدى حبه لله وولائه وطاعته له، إن اختار الإيمان، ومدى عدائه ومحاربته لله عز وجل، إن كان كافرا، وذلك حتى يتحدد مصير كل منهم الأبدي، بناء على أعماله وأفعاله الاختيارية في الدنيا.

ومن ثم فعلم الله السابق بما سيكون من إبليس أو من أي كائن مبتلى، يعلم الله عز وجل قبل خلقه انه سيكفر ويظلم ويعصى، ولا يتعارض مع الحكمة التي من أجلها خلقه الله، بل يتوافق معها.

ذلك أن الله عز وجل خلقه للابتلاء، وعلم الله السابق بنتيجة الابتلاء لا يعني أن الله عز وجل هو الذي اجبر إبليس والكفار والعصاة على أعمالهم، لأن العلم الإلهي السابق بالحدث، لأن يعنى حدوث إكراه العبد الفاعل عليه، حيث قد ثبت لنا أن أفعال العباد المحاسبين عليها، تتم باختيارهم، ولن يكون هناك ابتلاء صحيح، ما لم يكن العبد مختراً في فعله الإبتلائي، كما أن الله عز وجل قد حجب عن العباد علمه السابق بنتائج ابتلاءاته، حتى يختاروا ما يريدون هم، كذلك لم يكن إبليس على علم سابق بمعصيته قبل أمر الله له، وقبل اختياره المعصية.

ولذلك نقول له ردا على شبهته الباطلة:

لقد دخلت عالم الابتلاء بإرادتك المختارة، ولم يكن علم الله السابق بما ستفعل مجبرا لك على فعلك، لجهلك به، ولكونه كان غيبا بالنسبة لك، أما خلق الله لك وهو يعلم، ما سيكون منك فالابتلاء، إذ أن أفعال الكائن المبتلي، إما تكون خيرا وطاعة لله، إما أن تكون شرا ومعصية له بالضرورة.

الشبهة الثالثة: إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت وأطعت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ . وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص، بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي إياه؟

الرد على هذه الشبهة:

ولبيان مغالطاته وتلبيسه في هذه الشبهة نقول: لم يكلف الله عز وجل الملائكة – ومعهم إبليس – بطاعة آدم،  فلا طاعة لمخلوق وإنما الطاعة لله وحده وإنما كان أمر الله وتكليفه ومعهم إبليس – بالسجود لآدم، وهذا السجود طاعة لله وليس طاعة لسواه، لأن الله عز وجل هو الذي أمر بالسجود له، ومعنى السجود هو الإقرار بخلافة أدم.

وهذا التكليف على الخصوص، ابتلاء إبليس واختبار له، من شأنه أن يظهر الكبر الدفين في النفوس والحقد المخبأ فيها،وهذا ما كان منه فخسر في هذا الابتلاء، ورفض أن يكون من خلق الله عز وجل من هو أفضل منه، والاستكبار هو استكبار على آدم، ورفض وجحود لأمر الله، وبالتالي يعتبر رفضاً لربوبية الله عليه، وانسلاخاً من العبودية لله تعالى.

أما قوله “أن أمر الله له بالسجود لآدم لا يزيد في معرفته لله وطاعته له” فهو قول باطل ومخالف للحق والواقع، لأن هذا التكليف على الخصوص، أو هذا الابتلاء هو الذي محص ما في نفس إبليس وأظهره ، وأقام عليه الحجة، فلو كانت طاعة إبليس السابقة على معصيته، حبا لله عز وجل وحده، لإطاعة في هذا الأمر ولقبل أفضلية آدم عليه راضيا، كما أراد الله تعالى، ولكن لما كانت طاعته السابقة لله إرضاء لهوى وغرور في نفسه ورياء وسمعه بين الملائكة، والله عز وجل ويعلم عنه ذلك، فقد ابتلاه بهذا الابتلاء، فظهرت حقيقة نفسه الخفية، فلو أطاع وسجد لزادت معرفته بالله وطاعته له، ولكان في هذه الطاعة إتماماً لعبوديته لله، أما وقد عصى، فقد نسف عبوديته لله، وأظهر أنه عبد لهواه، وظهر ما في نفسه، وهذه هي الحكمة من الأمر بالسجود لآدم.

وهذا ما نقله لإبليس، كما نقول له: لو أطعت الله وسجدت لآدم، لزادت معرفتك بالله ولكان السجود زيادة في طاعتك له، أما الحكمة، فهي إظهار ما في نفسك في كراهية الحق، وعداوة لله وإيثار للهوى.

وهذا الابتلاء ليس لإبليس وحده، بل هو لكل كائن يدعى الإيمان بالله، ويعلن ولاءه له، قال تعالى (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)“العنكبوت”

فكل من يقول آمنت بالله وأقر له بالربوبية ووجوب الطاعة، لابد ان يبتليه الله عز وجل السراء والضراء، حتى يتجلى ما في نفسه وحتى تظهر التجربة الابتلائية صحة إدعائه الإيمان من عدمه، وصدقة من كذبه.

وهذه السنة الإلهية في ابتلاء التمحيصي للمتلفظين بكلمة الإيمان، يجريها الله عز وجل على كل كائن مبتلى، أي أفراد الأنس وأفراد الجن الذين منهم إبليس ، وليست هذه السنة لإبليس وحده، ولذلك ابتلى الله إبليس بتفضيل آدم عليه، تمحيصاً وإظهاراً لما في نفسه.

الشبهة الرابعة:

إذ خلقني وكلفني على الإطلاق، وكلفني بهذا التكليف على الخصوص، فإذا لم أسجد لآدم، فلم لعنني وأخرجني من الجنة؟

وما الحكمة في ذلك بعد أن لم أرتكب قبيحا إلا قولي، لا أسجد إلا لك؟

الرد:

الخاسر في الابتلاء مطرود من رحمة الله ومحروم من الجنة ومعذب في النار وهذا شرط معلوم للمبتلى مسبقاً ومعلوم لإبليس قبل ارتكابه لمعصية، وقد خسر إبليس الابتلاء قبل ارتكابه للمعصية، وقد خسر إبليس الابتلاء بالمعصية، وبالجحود لمر الله وبالإصرار عليه، فليس له ولكل من يفعل مثله من الأنس والجن إلا الخلود في النار، وليس له أن ينكر معرفته المسبقة بهذا الشرط قبل الابتلاء، لأن الله عز وجل أخبره وأمهله وهو مستطيع للتوبة لو أراد، فإصراره على المعصية وجحوده أمر الله كفر مستمر منه، بعد معرفته بمصيره الأليم في النار.

والمعصية مع جحود أمر الله هي الكفر بعينه لأنها رفض من العاصي لربوية الله عز وجل، وانسلاخ من العبودية له، وهو أقبح القبائح،  ومصدر الشر في الوجود، لأن معصية الله عز وجل ورفض التوبة هي الشر بعينه، ولا معنى للشر سوى ذلك.

فكيف لا يكون ما فعله إبليس فعلا قبيحاً. ؟!

والعبد المبتلى يحاسب على النية مع الفعل معا، وليس على الفعل وحده، بل تعتبر النية هي الأساس في تحديد المسئولية الخلقية والجزاء، قال تعالى (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)  “الليل” وقال رسول الله r (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها او امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعمل العبدان عملا واحداً، ولكن أحدهما يعمله ابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة، والثاني يعمله بغية الشهرة والرياء والسمعة والمنغم الدنيوي فقط فيكون الأول خيرا، ويكون الثاني شراً، لأن العمل الإنساني كفاعله، له ظاهر وباطن وباطنه النية والغاية التي يرمي إليها الفاعل، كثيراً ما تتشابه الأعمال في ظاهرها، وتختلف في حقيقتها وباطنها وغاياتها، ومرجع ذلك كله إلى نية الفاعل وهدفه وغايته من الفعل.

وهذا ما يلبس به الفاعلون الخبيثون والمنافقون على الناس، فيوهمونهم بالإيمان والطاعة لله، وهم لايفعلون إلا معصية لله سبحانه وتعالى، فالخير الذي لا يعنى شيئا سوى طاعة الله عز وجل، هو العمل الذي يبتغى به الفاعل وجه الله ورضاه، ويتحرى في نفس الوقت مطابقة فعله لأمر الله عز وجل وشرعه، فإذا فقد الفعل أحد هذين الشرطين بسبب الغفلة والجهل وغلبة الهوى، لم يصبح الفعل طاعة لله تعالى، وإنما يدخل في باب المعصية، فإذا لم يكن بسبب الجهل والغفلة، وكان بسبب غلبة الهوى، مضافاً إلى هذا السبب إصرار الفاعل على إتباع الهوى ورفضه للتوبة وجحوده لأمر لله وشرعه، فهو الكفر إذن.

وتعتبر معصية إبليس من هذا النوع من الأفعال التي يتشابه ظاهرها مع أفعال الطاعة، مع أنها كفر ومعصية في حقيقتها – للأسباب الآتية: –

  • إباء إبليس السجود كان نبيه الاستكبار والحقد على آدم، قال تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) “البقرة” وكفر إبليس ليس بسبب المعصية في حد ذاتها، بدليل أن الله عز وجل لم يطرده من رحمته بمجرد رفضه للسجود، وإن كان هذا الرفض فعل حر لإبليس واقع بفاعليته ويستحق عليه الجزاء، ومع ذلك، فإن الله عز وجل سأله، لاستخراج ما في نفسه، ليكون شاهدا عليها، ولإعطائه الفرصة للندم والتوبة، ومن ثم السجود لآدم إذا أختار هذا الطريق، أو الإقرار والاعتراف بجحود أمر الله عز وجل ورفض بروبيته والانسلاخ من عبوديته له، إذا اختار ذلك، وقد ظهر أنه اختار الطريق الثاني بمحض حريته واختياره.

قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إبليس لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) “الأعراف” وسؤال الله عز وجل لإبليس (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟)(15) أي ما الذي منعك من أن تكون مطيعاً ملبيا للأمر، والسؤال هنا من الموانع أو العوامل الجبرية التي أجبرت إبليس على ترك السجود، إن كان ثمة عوامل جبرية خارجية عن ذاته، وبخاصة في اللحظة السابقة على الأمر والمصاحبة للأمر والتالية له، وهذا واضح من قوله تعالى (إذ أمرتك) فكان رد إبليس بأن العلة من ذاته، وليست مانعا خارجا عنها، وبذلك نفي أي إكراه أو مانع خارجي شكل جبرا أو ضغطاً على إرادته (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) هذا هو رد إبليس عن الموانع التي منعته عن السجود، وهي ذاتيه.

وهذا الموقف المتمثل في التكبر يمنع ؟؟؟ في الجنة، ويوجب طرده منها- كدار لرحمة الله ونعمته – إلى عالم الابتلاء الذي دخله بإصراره على الاختيار بين هواه وبين أمره، ثم هو أيضاً قد طرد من رحمة الله، وأستحق النار بإصراره على الاختيار بين هواه وبين أمره، ثم هو أيضاً قد طرد من رحمة الله، واستحق النار بإصراره على معصيته وجحود أمر الله عز وجل.

  • هذا الفعل من إبليس جاء مخالفا لأمر الله عز وجل، وأمر الله واضح معلوم له لا لبس فيه ولا إبهام، والدليل على هذا سجود الملائكة، وليس بين أمر الله بالسجود لآدم وبين أمر الله بالتوحيد ادني تعارض، بدليل سجود الملائكة، ومعنى هذا أن فعل إبليس معصية وكفر بمقتضى النية وبسبب مخالفته لأمر الله عز وجل.
  • سجود الملائكة لأدم يعنى إقرارهم بخلافته وأفضليته، كما يعنى استعدادهم للعمل لخير الإنسان كأولياء له، حسب أمر الله ومشيئته، فالخضوع للمخلوق – إذا كان بأمر الله عز وجل – هو خضوع لله سبحانه، وليس خضوعاً للمخلوق.

من ذلك خضوع المؤمنين لأولى الأمر منهم، وطاعتهم لهم، في حدود شرع الله، هو ليس خضوعاً لأولى الأمر، لأنه عبيد مثل سائر المؤمنين، ولكنه خضوع لله، لأنه طاعة لهم بأمر الله.

كذلك خضوع وسجود الملائكة لآدم، هو طاعة لله عز وجل وليس لآدم، لأنه بأمر الله، ولأن الملائكة – عندما سجدوا – لم يكن في نيتهم سوى – ابتغاء مرضاة ربهم.

أما قول إبليس أنه أبى السجود لآدم – بنية عدم السجود إلا الله عز وجل – فهو قرية كبرى وكذبة مرفوضة، باعتراف إبليس نفسه عندما سأله الله عن موانع السجود، إظهاراً لنيته الدفينة المستترة تحت عمل ظاهرة يمكن أن يكون خيرا وتوحيداً، فلم يستطع إبليس أن يكذب على الله عز وجل، الذي يعلم السر وأخفي ، فأقر بأنه لا مانع منعه من السجود، ولا مانع منعه من عدم السجود، أي انه كان يستطيع السجود أذ أمره الله، كما أنه أستطاع عدم السجود إذ أمره، فلم يكن ثمة مانع له من خارج ذاته يجبره على الفعل وضده، ودليل هذا قول الله تعالى في موضع (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) “الأعراف”

والسؤال هنا عن المانع الذي جعله لا يسجد، أي من المانع الذي سبب عدم السجود وقد أقر إبليس بأنه لا مانع منعه من السجود، ولا مانع منعه من عدم السجود، أي أنه كان يستطيع السجود وكان أيضاً مستطيعاً لعدم السجود، ولم يكن ثمة مرجح عنده، لعدم السجود على السجود، سوى اختياره النابع من نفسه المتكبرة الحاقدة الجاحدة، ومعنى هذا أن نفسه كانت تخفي الكفر والغرور والكبر، حتى وهو عابد مطيع مع الملائكة فلما أبتلاه اله، لم يكن الابتلاء إلا مظهراً لما في نفسه، وما تبريره للاستعلاء بخلقه من النار وخلق آدم من الطين، إلا قول باطل وتبرير مرفوض، لأن الملائكة الذين سجدوا لآدم طاعة لله مخلوقين من النور الذي هو أفضل من النار والطين، ومن ثم نقول لإبليس: أنت رفضت السجود استعلاء وكبرا، وجحودا لأمر ربك، وليس لأنك رفضت السجود لغير الله، فالسجود لآدم طاعة لربك، هو توحيد وعبادة لله، وليس عبادة لأدم وليس شركا بالله، وجحودك أمر الله عز وجل، هو رفض لربوبية الله وإلوهيته لك، واتخاذك إلها وربا سواه، هو هوالك وغرورك وكبرك، فأنت بذلك أشركت وكفرت بربك، وليس لأنك رفضت السجود لغيره.

 

الشبهة الخامسة:

إذ خلقني وكلفني مطلقاً, وخصوصاً، فلم أطع فلعنني وطردني، فلم طرقني إلى آدم، حتى دخلت الجنة ثانياً، وغررته بوسوستي، فأكل من الشجرة المنهي عنها، وأخرجه من الجنة معي، وما الحكمة في ذلك ، بعد أن لو منعني من دخول الجنة، لاستراح مني آدم، وبقى خالداً فيها؟

الرد على الشبهة الخامسة:

السؤال هنا عن الحكمة التي من أجلها سمح الله لإبليس، بعد كفره وطرده من الجنة ومن رحمة الله عز وجل، أن يوسوس لآدم وبنيه.

ولكي تتضح لنا الحكمة لابد لنا من الرجوع إلى حقيقة الابتلاء، الحكمة العليا التي من أجلها خلق الله الأنس والجن في الحياة الدنيا.

لقد طلب إبليس من الله بعد أن علم مصيره الأخروي، وأصر على معصيته، أن يمهله الله عز وجل إلى قيام الساعة، فلا ينزل به عقابه الأبدي، إلا يوم البعث والجزاء، قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إبليس لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) “الأعراف”

وقال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إبليس أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إبليس مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) “الحجر”

وقال تعالى (قَالَ يَا إبليس مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) “ص”

ويمكن إدراك الحكمة من الإمهال إلى يوم البعث في الآتي:

  • لقد خلق الله عز وجل الدنيا للابتلاء، وجعل الآخرة للجزاء، ومن ثم أعطى الله عز وجل إبليس النظرة إلى يوم البعث، أيضا.
  • مكن الله عز وجل إبليس من الدخول إلى الجنة، وطرقه إلى آدم لتغريره بوسوسته لأنه عز وجل عادل، ومن العدل أن يبتلى آدم بإبليس، كما سبق وأن أبتلى إبليس وإيعازه بالشر لآدم لم تشكل أي دفاع لمعصية آدم، فلم يكن لإبليس على آدم أي دفاع لمعصيته، وإنما أقتصر دوره على تزيين المعصية، بالضبط كما زين تفضيل آدم على إبليس المعصية لإبليس، وبعثت فيه الغيرة والحقد والتعالي والاستكبار.
  • قول إبليس “لو منعني من دخول الجنة لاستراح مني آدم وبقى خالدا فيها”، قول باطل، لأن عدم إمهال إبليس أو منعه من الوسوسة لآدم وأبنائه، لم يكن ليمنع الشر من الحياة الدنيا، ولم يكن هذا يمنع وجود شياطين توسوس في صدور الناس، وذلك لأن من لوازم الابتلاء الصحيح اختيار البعض الطاعة، واختيار البعض المعصية، كذلك من لوازم ونتائج الابتلاء الضرورية اختيار الفرد الواحد الفعل الحسن مرة أو مرات ووقوعه في اختيار القبيح مرة أو مرات.

وتعرض آدم للابتلاء في الجنة، بتحريم الأكل من شجرة بعينها، يعنى تعرضه للخطأ وللمعصية، لأن الله خلقه حرا مختارا إزاء الأفعال الابتلائية، وسواء وسوس له الشيطان أم لم يوسوس فإنه معرض للمعصية، ولذلك لا يتحمل إبليس وزر آدم، بل هو وزر من نفس آدم، تحمله آدم، واعترف به وأستغفر ربه فغفر له، كذلك لا يتحمل الشيطان وزر أي إنسان، لأن السيئة من النفس والحسنة من الله عز وجل، قال تعالى(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفي بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) “النساء”

وقال تعالى (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) “الإسراء”

وهذه سنة الله عز وجل في الكائن المبتلي، سواء بالنسبة لمصدر الشر والسيئة المنسوبة له، أم بالنسبة لمحاسبة الله عز وجل له على السيئة الصادرة منه، فالسيئة من نفس الفاعل سواء كائن إنسا أم جنا وليس للشيطان – سواء كان إنسا أم جنا – من دور في فعل الفاعل يمكن أن ينسب إليه، فهو مجرد داع للشر، ومزين للمعصية فقط.

ونزول آدم وبنيه إلى الأرض يعني تعرضهم للابتلاءات بالضرورة، ومن ثم يستتبع هذا بالضرورة أيضا اختيار البعض الطاعة والبعض المعصية، فمن يختار المعصية، ويجحد أمر ربه، ثم يتحول إلى إمام للشر وداع للكفر، فإنه يصبح شيطانا من شياطين الإنس، إن كان من الإنس، أو كان شيطانا من شياطين الجن أو من جنود إبليس، إن كان من الجن.

وإذن لو لم يكن إبليس هو الشيطان الأول في الوجود، لكان غيره، ولو لم يكفر هو ويعص ويصبح أول داع للشر والكفر، لكان غيره ومن ثم لو لم يفعل إبليس ما فعله لما استراح آدم وبنوه من دور دعاة الشر والموسوسين في صدور الناس، لأن هؤلاء الموسوسين في صدور الناس، لأن هؤلاء الموسوسين لابد أن يوجدوا من الكافرين والجاحدين من الجنة والناس، علاوة على أنهم لا يجبرون أحدا على الكفر أو المعصية.

ومكمن التدليس في الشبهة الخامسة هو فيما توحي به هذه الشبهة من أن الشر في الحياة الدنيا بسبب إبليس بعينه، مما يترك في ذهن السامع معنى باطلاً مؤداه أن الله خلق إبليس ليكفر الناس، فيورث هذا المعنى في النفوس مظنة الجبرية، لأن هذا المعنى يستتبع القول بان الله أراد منه أن يكفر الناس، ثم يحاسبهم ويحاسبه على الكفر بالخلود في النار، مع أنه كان من الممكن ألا يقع الكفر من أحد لو لم يسمح الله لإبليس بالدور الذي يقوم به.

وكل هذا باطل كما رأينا، وهذا ما سيتضح ويتأكد لنا أكثر من خلال الرد على الشبهة السادسة.

الشبهة السادسة تقول:

إذ خلقني وكلفني عموماً, وخصوصاً، ولعني، ثم طرقني إلى الجنة، وكانت الخصومة بيني وبين آدم، فلم سلطني على أولاده؟ حتى أراهم من حيث لا يرونني، وتؤثر فيهم وسوستي، ولا يؤثر في حولهم وقوتهم وقدرتهم واستطاعتهم؟

وما الحكمة في ذلك؟ بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يجتابهم عنها فيعشوا طاهرين سامعين مطيعين، كان أحرى بهم وأليق؟

ما الحكمة؟

الرد

تتعرض هذه الشبهة لتجربتين إبتلائيتين الأولى خاصة والثانية عامة.

أما الخاصة فهي التي أبتلى فيها آدم أبو البشر بإبليس حين طرقه الله إلى الجنة وسمح له بالوسوسة له، وقد قلنا أن هذا من العدل الإلهي وكان الرد عليها في الرد على الشبهة السابقة.

أما التجربة الابتلائية العامة، فهي موضوع هذه الشبهة، وهي ابتلاء أبناء آدم بالشياطين، وجنود إبليس، وتمكينهم من الوسوسة لهم، وهذه تجربة عامة لكل البشر، بل هي للإنس والجن، فلو لم يمهمل الله إبليس ويعطيه النظرة وإمكانيات ذو سائل الوسوسة، لما غير هذا من واقع الحياة الدنيا بالنسبة للإنس والجن شيئا، لإنه كان لابد بالضرورة – كنتيجة حتمية للابتلاء – أن يظهر غيره فمن يختارون الكفر والدعوة إليه، ومن ثم يقومون بمهمة إبليس وجنوده، وكان لابد أن ينتظمون كجماعة واحدة برئاسة إبليس.

ومن ثم نقول : إن وجود شياطين في الحياة الدنيا، هو نتيجة للابتلاء، ولازمة من لوازمه، كما أنه مقدمه ضرورية لصحة الابتلاء أيضا.

فالابتلاء الصحيح لا يتم إلا عندما يجذا الإنسان أو الكائن المبتلي إرادته المختارة في مواجهة فعلين: أحدهما طاعة لله والآخر معصية له بالضرورة.

وكذلك يكون الكائن المبتلي تحت تأثيرين أو داعيين متساويين: أحدهما طاعة لله والآخر ملاك يوعز له بالخير، وكذلك تكون نفس الكائن المبتلي ذات ترعتين: ترعة للفجور والهوى، وترعة للخير ولتقوى الله عز وجل.

ولكن الشيطان – سواه كان من الأنس أم من الجن – لم يخلقه الله شيطاناً، وإنما خلقه الله موحدا على الفطرة كائنا مبتلى، ثم هو الذي خسر وجحد أمر به.

فلو منع الله عز وجل إبليس بعينه من الدخول إلى الجنة للوسوسة لآدم، لما منع هذا اختيار بعض الإنس والجن المعصية والإصرار عليها، ومن ثم تحولهم إلا شياطين يفعلون نفس أفعال إبليس وجنوده، لأن عدم التجربة الابتلائية العامة بل هي جزء منها، وخاضعة لنفس الأسباب والنتائج والسنن وخطيئة آدم لم تكن بتأثير ودفع وسلطان إبليس، وإن كانت بوسوسته، لأن آدم خطأ بطبيعته، وإن لم يخطئ في الابتلاء الأول لا خطأ في الثاني، وإن لم يخطئ ابنه الأول لا خطأ لأخطأ الثاني، وهكذا، ومعنى هذا أن خروجه من الجنة، كان بسبب قابلية للخطأ وللابتلاء، أكثر من كونه بسبب الأكل من الشجرة المحرمة.

فالأكل من الشجرة أثبت رغبة آدم في دخول عالم الابتلاء، ولذلك لم يكن نزوله الأرض جزاء وعقابا له على خطيئته، لأن الله عز وجل قد غفر له، والله عز وجل لا يعاقب على ذنب غفره لفاعله، وإنما نزوله للأرض كان بعد أن ثبتت صلاحيته للابتلاء، ورغبته في دخول هذا العالم، مما استلزم نزوله إلى الأرض حيث هي العالم المهد لهذا الغرض.

وإبليس يغالط ويكذب عندما يقول أنه يؤثر في الناس والناس لا يؤثرون فيه ، لإنه ليس له على الناس من سلطان سوى دعوته إياهم إلى الكفر باختياره وفعله، وليس بقهر أو غلبة أو إجبار إبليس له.

قال تعالي (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) “إبراهيم”

وكذلك يبين كذب إبليس في إدعائه إن من جنوده من يتأثر بدعوة الحق التي يدعو إليها الرسل والمؤمنون، فقد أسلم الشيطان الذي وكل برسول الله r.

وكذلك يسلم الكافر ويتوب المنافق، وفي هذا دليل على تحرير الإنسان مسلما وكافرا ومنافقا من سلطان إبليس وتأثيره، إلا من أسلم إرادته له وأصبح من جنوده، فإن هذا يكون بإختياره، ومع ذلك فهو يستطيع – إذا أراد – أن يعود في أي لحظة تائبا إلى الله عز وجل، وأن ينتقل متى شاء من حزب الشيطان إلى حزب الله سبحانه وتعالى.

أما قوله (وما الحكمة في ذلك؟ بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يجتالهم عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى بهم وأليق، ما الحكمة؟)

وللرد على هذا نقول إن هذا هو حال الملائكة، أما الأنس الجن، فقد خلقهم الله للابتلاء، ومن ثم فإن تحول بعضهم من التوحيد الفطري إلى الشرك، ليس بسبب إبليس وجنوده ولكن بسبب الاختيار الحر للتحول منهم عن الفطرة للكفر وللمعصية ولإيثاره للحياة الدنيا وللهوى، كما فعل إبليس بما جاء فتجربة كل كائن مبتلى مستقلة، والفعل نابع من نفس الفاعل المبتلى، وبمقومات فاعليته الكاملة.

والمغالطة في هذا القول تكمن في إبهام إبليس أنه هو وجنوده السبب العلة الوحيدة في كفر الإنسان، والحقيقة غير ذلك، فالعلة الحقيقية والوحيدة هي اختيار الكافر المعصية والإصرار عليها.

وما دعوة إبليس إلا عامل ثانوي – ليس لكفر الكافر وشرك المشرك – وإنما لصحة اختيار الكائن المبتلى بين الكفر والإيمان.

والحكمة في هذا كله والغاية منه هي تحقيق الابتلاء، وتكوين حالة الاستواء اللازمة لتحقيقه، ولقيام الاختيار الصحيح.

الشبهة السابعة: سلمت هذا كله : خلقني وكلفني مطلقاً ومقيداً، وإذ لم أطع لعنني وطردني، وإذا أردت دخول الجنة مكنني وطرقني، وإذا عملت عملي أخرجني، ثم سلطني على بني آدم، فلم إذا إستمهلته أمهلني؟ فقلت (أنظرني إلى يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) وما الحكمة في ذلك؟ بعد أن لو أهلكني في الحال استراح آدم مني والخلق مني، وما بقى شر في العالم، أليس بقاء العالم على نظام الخير، خيرا من امتزاجه بالشر؟!

الرد/

هذا اعتراف من إبليس بان عدم سجوده لآدم شر دخل العالم، وهو مخالف لما زعمه في الشبهة الرابعة حيث قال إنه لم يفعل قبيحا.

ومع هذا، فإن بقاء إبليس وإمهاله، إلى يوم الدين – بناء على طلبه – موافق لشرط الابتلاء، وهو تأجيل الجزاء للمبتلى إلى يوم القيامة، وإهلاكه في الحال مخالف لهذا الشرط، إذ أن الخاسر في الابتلاء الجاحد لربوبية الله عز وجل، جزاؤه الخلود في النار وليس الهلاك، وبعد البعث، وليس في الدنيا.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن هلاك إبليس ليس معناه راحة آدم وبنيه من الشر ونقاء العالم منه؟ لماذا؟ لأن الأنس والجن مخلوقان للابتلاء، وهذا يعنى أنهما يستطيعان فعل الشر ومعصية الله عز وجل، كما أنهما يستطيعان فعل الخير، وهذتا يعني أن النفس الابتلائية هي مصدر الشر.

ولا شك أنه غرور وكذب وافتراء من إبليس، إذ يعتبر نفسه مصدراً للشر في العالم إنه مصدر لشر نفسه فقط، وكذلك اختيار كل إنسان أو جان، هو مصدر لشر نفسه، لأن الشر لا يتعدى نفس الكافر، وليس في الكون خالق إلا الله عز وجل، والله عز وجل منزه عن فعل الشرور والقبائح، فالفعل القبيح منسوب لفاعله، ولكنه مخلوق لله عز وجل، فهو خالق لكل شيء حتى لأفعال العباد.

وليس في العالم شر عام، وإنما هو جزء محدود من العالم جعله الله للابتلاء، وحدوده المكانية.

الأرض، وحدوده الزمنية، الحياة الدنيا منذ آدم حتى قيام الساعة، وقد أذن الله عز وجل للكائن المبتلى فيها بارتكاب المعاصي والشرور، لكن هذه الشرور ليست سوى نتائج تجاربهم الابتلائية بالنسبة للفاعل منهم من جهة، وهي في نفس الوقت مقدمات لتجارب إبتلائيه أخرى للواقع عليهم الفعل منهم من جهة أخرى، وهذا معنى قولنا إن الشر لا تتعدى حقيقته نفس فاعله، إما عندما يقع على الغير، فإنه لا يكون شرا، وإنما يكون ابتلاء واختبار مثال ذلك: أفعال فرعون لبني إسرائيل، هي شر كفعل منسوب لآل فرعون، ولكنها – كفعل واقع على بني إسرائيل ابتلاء مقدر من الله عز وجل عليهم، قال تعالى (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) “البقرة”

وهذا يدل على أن الفعل القبيح الواقع من آل فرعون هو شر بالنسبة لأل فرعون فقط، ولكنه – كفعل واقع على بني إسرائيل – بلاء من آل فرعون والبلاء امتحان، وليس شرا.

وهذا هو موقف إبليس من وسوسته، فوسوسته ومعاصيه شر بالنسبة لنفسه، ولكنها ابتلاء مقدر من الله عز وجل على غيره.

وهذا يبطل كل شبهات إبليس بعامة والشبهة الأخيرة بخاصة.

الهوامش

 

1) أي التوراة المحرفة، حيث ان من المعلوم أن التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام ليست التي بين أيدي اليهود الآن، حيث حرفها الأحبار، وقد سجل عليهم القرآن الكريم 1لك.

(2) الشهرستاني: الملل والنحل ، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل – نشر مؤسسة الحلبي / القاهرة جـ 1 ص 14.

(3) المرجع السابق نفس الصفحة. ويدر التنبيه أيضا إلى أن هذه الأناجيل ليست هي الإنجيل ليست هي الإنجيل الذي نزل على عيسى عليه السلام، ومن ثم تكون هذه الشبهات الواردة في النص من صنع الفكر البشري.

(4) المصدر السابق : ص 14 – 16

(5) د. طه حسين : من الأدب التمثيلي اليوناني (سوفوكليس ص – 151 )

(6) مثال ذلك النص الخاص بالأستاذ توفيق الحكيم حيث حاول أن يثبت فيه حرية الإنسان واختياره، ويحدد له دورا حيال دور القدر، وذلك بالرغم من أن النص اليوناني يثبت الجبرية المحضة.

(7) لو كان مقصد الأستاذ توفيق الحكيم أن الغيبيات في القرآن والسنة أساطير فإن هذا الاعتقاد يكفر صاحبه.

(8) هذا حسب زعم الكاتب، وإن كنا نرى أن اعتبار جبريل متحدثا في حوار قصصي خيالي نوع من الكذب على الله عز وجل لأن جبريل أمين الوحي ورسول الله عز وجل إلى الأنبياء والمرسلين.

(9) هذا التعبير سيء جدا، ويتضمن الأساس الفكري للشرك، حيث أنه يثبت حاجة الإله إلى غيره لبقاء صفاته، ولو أن الحاجة التي يثبتها معرفية وليست وجودية إلا أن التوحيد الإسلامي يقتضى استغناء الإله عن غيره وجوديا ومعرفيا.

(10) إذا كان توفيق الحكيم بهذا التعبير يحاول القول بأن الكون يشهد مع إبليس بانه مظلوم وشهيد وأن الإله ظالم فإن هذا القول يكفر قائله.

(11) نشرته مجلة “حوار: العدد الثاني السنة الرابعة، كانون ثان، شباط – يناير ، فبراير 1966 ، صدرت بقرار الحكومة اللبنانية الممنوح للدكتور جميل جبر بوصفه ممثل المنظمة العالمية لحرية الثقافة.

(12) بعمل أستاذا للفلسفة في الجامعة الأمريكية ببيروت.

(13) وفي هذا وصف منه للملائكة بالشرك حاشا لله.

(14) يصرح الكاتب في صدر مقاله أنه سيعالج مأساة إبليس معتمدا أولاً على (الآيات القرآنية التي تروي لنا قصة إبليس معتمدا اولاً على (الآيات القرآنية التي تروي لنا قصة إبليس وسيرته، وبعض المؤلفات التي تركها لنا المفكرون المسلمون الذي اهتموا بإبليس وشخصيته ووظيفته ونهايته)

وهو لا يعتمد على الآيات ومؤلفات علماء المسلمون باعتبارها تتحدث عن حقائق كونية ثابتة، كم أنه لا يعتمد على ما يقصه القرآن الكريم باعتباره حقا وباعتبار أن إبليس موجودا حقيقياً وما حدث منه، حسب رواية القرآن قد حدث بالفعل، بل أنه يفعل ذلك ويتناول هذه القضية بالدراسة في (إطار التفكير الميثولوجي – الديني الناتج عن خيال الإنسان الأسطوري وملكاته الخرافية) وذلك على حد قوله، وهو يصرح بأكثر من ذلك حيث يقول [لا أريد أن أتكلم عنه (أي عن إبليس) باعتباره كائنا موجوداً حقيقياً وإنما أريد دراسة شخصيته باعتبارها شخصية ميثولوجية أبدعتها ملكة الإنسان الخرافية وطورها وختما خيالة الخصيب] وهو هنا يشهد على نفسه بالكفر بكل الرسالات السماوية ويخص بالذكر كفره بالقرآن الكريم والعياذ بالله.

(15) محمد على الصابوني / صفوة التفاسير ، المجلد الأول صفحة 438.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر