أبحاث

نحو بناء مقياس للفساد: رؤية من منظور المدرسة الخلدونية “ورقة أولية”

العدد 128

من الجدير بالذكر أن الحديث عن المدرسة الخلدونية العمرانية إنما يعبر عن امتدادات تتعلق بتواصل هذه المدرسة زمنًا وأفكارًا؛ سواء تعلق ذلك بالتملذة المباشرة لابن خلدون أو غير المباشرة حينما يُهتَم بهذه المدرسة موضوعات وقضايا من جانب ومنهجية نظر وتعامل وتناول من جانب آخر.

وفي هذا المقام تبدو لنا أهمية ذلك الإعمال لآلية الاستدعاء(1) لموضوع بعينه؛ ألا وهو بناء مقياس الفساد عند بن خلدون وامتداد زمني لهذه المدرسة؛ إذ يقدم بن خلدون مجال الريادة الفكرية بينما يشكل الأسدي مجال التلمذة المباشرة لابن خلدون، فإن الحكيم البشري يمثل عنصر امتداد وتواصل مع هذه المدرسة.

عملية الاستدعاء هذه لا تقتصر على هؤلاء وإنما تنتشر لتجمع بين عناصر تمثل شبكة الإسنادات المرجعية (الشاطبي، ابن خلدون، الأسدي، المقريزي، الخيامي، الكواكبي، مالك بن نبي، الحكيم البشري وغيرهم) ممن يسهمون في وضوح هذه الفكرة التي نحن بصددها؛ ألا وهي الإسهام في معمار وبناء مقياس للفساد(2).

واقع الأمر أننا أمام إمكانيات- قياس الظواهر السياسية من خلال أدوات للقياس مقننة ومتدرجة، وتبدو في الحياة السياسية ظواهر بالغة الأهمية تظل في حاجة إلى قياسها يقع على رأسها الفساد؛ إذ يتناول موضوع قياس الفساد -ليس فقط معنى القياس أو طبيعته- وإنما كيفية بناء المقاييس وتحديد أوجه النقص والأخطاء التي تقع في القياس وكيف يتسنى للباحث تفادي أو تجنب وقوعها؟

أما عن طبيعة القياس للفساد فإنها ترتبط في أهم أعمدة تشييد المقياس بفكرة التعريفات الإجرائية التي تمثل إجراءات فعلية للقياس(3) تقوم بالربط بين مستوى التعريف النظري من جانب ومستوى التعريف الإمبريقي أو الواقعي الذي يمكن ملاحظته بالاختبار والمشاهدة من جانب آخر..

إن صحة القياس يلخصها السؤال:

“هل ما يتم قياسه هو فعلاً ما يراد قياسه؟”.

ومن هنا فإن صدق القياس يشتمل على مستويات ثلاثة:

(صدق المحتوي، الصدق الإمبريقي والواقعي، الصدق الهيكلي أو البنائي).

ضمن هذه الرؤية يمكن الانطلاق لذلك البحث في أربع نقاط تشكل أربعة أعمدة في تشييد معمار مقياس الفساد في المدرسة الخلدونية.

الأول- يتعلق بالاعتبارات المنهجية التي تحدد الظاهرة والمشكلة البحثية المرتبطة بها.

والثاني- التعريفات الإجرائية، وعالم المفاهيم الذي يرتبط بالتعريفات الإجرائية وإمكانات التأشير لها وعليها.

الثالث- الإطار النظري الذي يحدد إطار منهج النظر لظاهرة الفساد في امتداداتها وفي شبكية عناصرها.

الرابع- يتعلق ببناء المقياس والشروط التي يجب أن تتوفر فيه في إطار يسمح بالتكافؤ بين الظاهرة وكفاءة المقياس وفاعليته.

وفي سياق هذا النظام الذي جعل من مقياس الفساد بؤرة تجمع بين هذه الأعمدة الأربعة، فإننا في النقاط التي تتعلق بالتعريف والإطار النظري وبناء مقياس الفساد لدى المدرسة الخلدونية قد آثرنا أن نقدم وجهات النظر السلبية في تعريف الفساد والتنظير له وبناء مقياس الفساد.

ومن هنا صدرنا ذلك الجهد البنائى الذي مثله الحكيم البشري والأسدي وابن خلدون بما أسميناه “فساد التعريفات وفساد الخطابات واختزال مقياس الشفافية الدولية”.

أولاً- تصور الظاهرة والاعتبارات المنهجية المتعلقة بها:

من الجدير بالذكر أن عملية بناء المقاييس من العمليات ذات الأهمية في البحوث الإنسانية والاجتماعية؛ لأن ذلك قد يمثل إحدى نقاط الضغف في دراسة ظاهرة بعينها، ولا نجد من الظواهر التي تكشف عيوب القياس كظاهرة نموذجية مثل ظاهرة “الفساد“. ذلك أن هذه الظاهرة في عمومها تتسم بمجموعة من السمات تجعل عملية بناء المقياس لها عملية صعبة المنال في هذا السياق، وأهم هذه السمات:

1- أن ظاهرة “الفساد” ظاهرة كلية وشاملة

2- أما الخصيصة الثانية فإن “الفساد” لا يمكن اختزاله بحال في جانب مادي منه وإهمال الشروط المعنوية فيه.

3- السمة الثالثة إنما تنطلق إلى أن ظاهرة الفساد هي ظاهرة تعالج جانب ظاهر وجوانب خفية يحرص ممارسوه على أن يجعلوه خفيًا بحكم تلك الممارسات التي قد تقع تحت طائلة القانون أو تحت طائلة الحساب،ومن هنا سنرى أن الجانب الظاهر من تلك الظاهرة إنما يشكل في حقيقة أمره جانبا ضئيلا بالمقارنة بالمخفي أو المستور أو المسكوت عنه خاصة حينما يتعلق الأمر بالفساد الكبير الذي يصير مع تمكنه حالة مؤسسية تخلق ويترافق معها عمليات إخفاء الفساد فيما يشبه غسيل الأموال، وإن شئت الدقة غسيل الأفعال الفاسدة.

4- أما السمة الرابعة فإن كثيرًا من مظاهر “الفساد” لا يمكن بأي حال من الأحوال وصفها بذلك الوصف خاصة إذا ما مارسته السلطةوحاولت أن تموه على الناس معاني ذلك “الفساد” وجعلته عسفًا وقلبًا تعبير عن إصلاح زائف ومتوهم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ (البقرة: 11).

5- أما السمة الخامسة فإنما تتعلق بظاهرة “الفساد” وما يمكن تسميته “أخواته” الذين قد يشكلون شبكة فسادية من مثل الاستبداد، والترف، والجباية، والغش المادي والمعنوي، وكثير من الأمور التي تشكل أهم قابليات ذلك الفساد.

6- أما السمة السادسة فإنها تتعلق بذلك الترابط والتلازم بين عمليتين تتنافسان في هذا المقام بين فساد وصلاح، وبين إفساد وإصلاح، وبين مفسدة ومصلحة.

7- كذلك من أهم السمات التي ترتبط بهذه الظاهرة -وفقًا لهذه التصورات التي قد تهمل هنا أو هناك في مدرسة أخرى أو تبرر عناصر فساد من خلال وظيفيته أو قدمه- إنما تؤكد على أمرين مهمين: الأول- يتعلق بفساد تعريفات الفساد، والأمر الثاني- يتعلق بفساد الخطاب حول الفساد، وهو ما يشكل حالة إدراكية تعبر عن خللٍ في الرؤية قد يؤدي بدوره إلى فساد في تصور الظاهرة وما يترتب عليها من قياسات.

8- ومن هنا فإنه قد يتحرك إلى سمة أخرى تتعلق بفساد وقصور قياسات الفساد رغم أنها تعبر عن تأشيرات مهمة في هذا المقام، إلا أن غالب هذه القياسات إنما يتسم بعيوب تشير إلى التنقيص في هذا المقياس وإلى معايب التحيز (Bias)؛ ذلك أن معظم هذه المقاييس لا تنصرف فحسب إلى الجانب المادي في الفساد بل إنها قد تسوغ هذا الجانب سياسيًا وأيديولوجيًا(5).

ومن هنا يبدو لنا أن فكرة الفساد حينما تتعلق بعملية القياس يتولد عنها إشكالات مهمة، يقع الإشكال الأول في مدخل القياس وفقًا للمدرسة السلوكية التقليدية التي جعلت من القياس غاية لا وسيلة

أما الملاحظة الثانية فإنما ترتكن إلى ذلك البعد الذي يحاول أن يصور الفساد كظاهرة اقتصادية أو مالية، ولا شك أن ذلك يقصي الجوانب الأخرى في الفساد

نستنتج من هذه العناصر الثمانية التي أشرنا إليها في هذا المقام أنه من الضروري أن يتكافأ المقياس مع طبيعة الظاهرة وأهم الخصائص والسمات المرتبطة بها، فيحرك بذلك عناصر قياس وتأشير يليق بالظاهرة وخطورتها ولا يمثل حالة من حالات اختزال الظاهرة وتبسيطها.

9- إن هذا الأمر إنما يشير إلى طبيعة دراسة ما يمكن تسميته بالتعقيد؛ ذلك أن سلوك الفساد لا يعد من السلوكيات البسيطة التي يمكن الاستدلال أو التأشير عليها من خلال مؤشرات ذات طبيعة جزئية أو بسيطة في هذا المقام “Complexity(6).

10- إن القيام بهذا القياس الشامل والعام والكامل لظاهرة الفساد إنما يستدعي –وبالضرورة- مقياسًا مقارنًا له على نفس الدرجة من التعقيد والتشابك بما يمكن تسميته “مقياس الصلاح والإصلاح”. هذا التلازم بين القياسين يحقق تركيبًا أكبر في رؤية ظاهرة الفساد والإصلاح في تنازع وتدافع فيما بينهما يمكن في حقيقة الأمر أن نسميه “مقياس التدافع”(7).

تلك العشرة التي أكدنا عليها في مفتتح ذلك البحث تؤدي بنا إلى البحث عن موضوع في غاية الأهمية؛ ألا وهو نحو مقياس الفساد عند “ابن خلدون”، وهو أمر يجعلنا نتحدث عن بعض القضايا المنهجية في هذا المقام:

الأولى-أننالا ننظر إلى “ابن خلدون” كعالم فذ أو كفرد داخل المنظومة التراثية، ولكننا في هذا المقام نتعامل مع ابن خلدون كمدرسة ومؤسسة يجبالنظر إليها في كليتها وفي آدائها الذي يستحق اسم “المدرسة العمرانية”.

العمران عملية إصلاحية ارتقائية تقوم على قاعدة من عمارة الحياة وتشييد بنيانها، أما “الفساد” فهو خراب يهلك العمران ويؤدي إلى زواله.

ضمن هذه الرؤية العمرانية الكلية يجب أن ننظر إلى “ابن خلدون” ومدرسته الفكرية، وهذا ما يمكن أن نسميه آلية الاستدعاء المدرسي، تلك المدرسة التي تتمثل في “ابن خلدون”، و”الأسدي” و”المقريزي”.

الثانية– أن تكامل آليات الاستدعاء يفرض علينا استدعاء بعض مفكرين في غاية الأهمية أن نربط وأن ننظم فيما بينهم: “عبد الرحمن الكواكبي” يقع  بنظرية  في الاستبداد في مقدمة هذه الكتابات، والحكيم البشري يمثل عناصر استكمالٍ لا يمكن أن نغض الطرف عنها ونحن بصدد بناء الرؤية للفساد الذي يترتب عليها بناء مقياس لهذه الظاهرة.

الثالثة– وتتعلق بعملية بناء المقياس؛ ذلك أن المقياس يعرف بأنه سلسلة من المؤشرات التي تنظم الظاهرة المحددة ويمكن من خلال تنظيمها ترتيب الحالات موضوع الدراسة

ولا شك أن ظاهرة الفساد التي هي موضوع لدراستنا تعبر عن ظاهرة نموذجية في هذا المقام.

في هذا السياق قد يكون من الأوفق قبل أن نتحدث عن بنية وبيئة المقياس الخلدوني أن نتحدث عن رؤية نقدية لمقياس الفساد الذي تصدره مؤسسة الشفافية الدولية وترتب على قاعدة منه الدول المختلفة عليه.

ثانيًا- تعريفات الفساد وفساد التعريفات:

كما يتأكد فإن إدراك الشيء فرع على تصوره، ووفق المفاهيم والتصورات حول الفساد يتكون الإدراك وتتكون الرؤية، وتبدو لنا المفاهيم في حقل الدراسات السياسية نموذجًا مهمًا لاكتشاف علاقات القوة المهيمنة وسياقات القوة المتحكمة بعملية البناء، ويبدو الأمر أكثر تمثيلاً لو تطرقنا إلى المفاهيم الحضارية الكبرى، تلك المفاهيم التي تكوّن -إذا ما انتظمت- رؤية متكاملة للعالم(8)، نظن أن مفهوم الفساد ليس بعيدًا عن هذا التصور.

فهناك تعريفات قانونية سياسية على تحديدها إلا أنها تستثني مستويات كثيرة تتعلق بالفساد؛ منها سوء استخدام الوظيفة العامة بغية تحقيق منفعة شخصية، وهناك “ثلاث صور لانتهاك الوظيفة العامة: الأولى في حال قبول أو سعي الموظف العام إلى طلب رشوة، والصورة الثانية في حال قيام أصحاب المصلحة بإغراء الموظف العام بالمال أو أي وسيلة أخرى للحصول على حقٍّ ليس لهم، أما الثالثة فتتمثل في حالة لجوء الموظف العام إلى المحسوبية والمحاباة لإعطاء حقوق أو مزايا على حساب الآخرين”(9).

والبعض يعرف الفساد بأجزاء أو صور أو أشكال تمثله؛ من مثل الفساد من منطلق رشوة، والفساد من منطلق المحسوبية، والفساد من منطلق المنصب العام (وهو الأكثر شيوعًا)، والفساد من منطلق شراء أصوات الناخبين(10).

وتنوعت اتجاهات تعريف الفساد بين اتجاه قانوني الذي تمثل في اتجاه الوظيفة العامة، واتجاه المصلحة العامة؛ إذ اعتبر الفساد سلوكًا ضارًا بالمصلحة العامة ويتضمن تحويل المصلحة العامة لتحقيق منافع ذاتية، ويأتي اتجاه الرأي العام والذي يعتبره البعض فيصلاً في تحديد السلوك الفاسد(11).

بل إن البعض تحدث عن “الفساد الملون” ما بين الفساد الأسود (الذي يحظى باتفاق الأغلبية على أنه فساد)، وهناك الفساد الرمادي (المختلف فيه وعليه) وهناك الفساد الأبيض والذي يمكن التغاضي عنه.

ومقارنةً بين مفهوم الفساد كما يُتناول في المعاجم العربية والمعاجم الأجنبية يتضح المعنى العام للفساد والشامل والقيمي؛ إذ يتميز مفهوم الفساد في اللغة العربية بالثراء والتنوع، وقد عرضها “لسان العرب” بأن الفساد نقيض الصلاح، وقد يكون الفساد عضويًا إشارة إلى العطب والعفونة، وقد يشير إلى تجاوز الحكمة والصواب، وفساد العقل، وقد يشير إلى فساد الأمور واضطرابها حيث أدركها الخلل، كما يشير معنى الفساد إلى الجدب والقحط، كما أنه قد يعني إلحاق الضرر، كما يشير الفيروزأبادي أن الفساد قد يعني أخذ المال ظلمًا(12).

والفساد جملة ضد المصلحة والصلاح، وإخلال واختلال وعدم اتباع للقواعد والأصول المرعية والمعايير الكلية ومجاوزة الحد ما بين إفراط وتفريط.

و الحفظ من الفساد عمل سلبى وجب القيام عليه و به ودرء الضرار المتعلقة به هو حفظ سلبى يتدافق معه نوع اخر من الحفظ الايجابى ألا وهو جلب المصلحة أو النفقة وهو أمر يستقى معنى المدافعة فيه من خلال المدخل المقاصدى(13) .

لمفهوم الفساد تعريفات كثيرة ومتنوعة، فإذا عدنا إلى القواميس مثل قاموس أكسفورد وقاموس ويبستر، تجدها تتناول الفساد بمعان ثلاثة تتردد أيضًا في الكتابات السياسية، الفساد العضوي أو البيولوجي والفساد الأخلاقي، ثم الفساد القانوني أو فساد الموظف العام.

ويشير الفساد العضوي إلى التلوث أو التلف أو العفن. ويطلق في معرض وصف وإدانة تفكك الدول وسوء سيرة الحكام وغيرهم من المشتغلين بالعمل السياسي.

ويستخدم الفساد الأخلاقي بمعنى الانحراف وفقدان النزاهة والأمانة وتجاهل الفضائل أو مبادئ الأخلاق، وبذلك تتدهور طبائع الحكام والمحكومين وتنهار العلاقات الأخلاقية بين الفريقين من ناحية، وبين أفراد كل فريق من ناحية أخرى. إن المجتمع الفاسد، في عرف أصحاب المنظور الأخلاقي، تحركه المصلحة الخاصة فحسب، ولا يأبه بالقيم المدنية والمسئولية الاجتماعية ويتنافس أعضاؤه بشراهة في سبيل القيم الذاتية. هذه الحالة يواكبها على الصعيد السياسي غياب معاني الولاء والتعاون السياسي وكثافة اللجوء إلى العنف، فالسلطة تعمتد على مزيج من القمع الموجه ضد أعمال الاحتجاج الجمعي التلقائي، والرشوة بقصد استمالة أو احتواء المناوئين المحتملين. ويؤخذ على التعريف الأخلاقي للفساد قصوره عن بيان وتفسير بعض مظاهر الفساد وتجاهله لإمكانية تباين مدلول الفساد من مجتمع لآخر.

ويعني بالفساد القانوني أو فساد المنصب العام حث الموظف العام بطرق غير سوية كالرشوة على ارتكاب ما يعد إهدارًا لواجبات الوظيفة. وبذلك يتحصل جوهر الفساد في علاقة مشبوهة أو غير مشروعة بين شخص مكلف بأداء واجب عام، وشخص آخر يتوخى الحصول على امتياز ما بالمخالفة للقواعد والإجراءات المطبقة.

ومع تنامي الاهتمام الأكاديمي بموضوع الفساد السياسي إبان عقد الستينيات من القرن الحالي، ظهرت تعريفات جديدة لا تعدو في معظمها أن تكون بلْورة أو إعادة صياغة للفساد القانوني/ فساد الوظيفة العامة. إذ خضع الفساد بهذا المعنى للتمحيص والتعديل بهدف وضع تعريف للفساد يجمع بين العمومية التي تسمح بالدراسة المقارنة لظاهرة الفساد، والتجديد الذي يسمح بإجراء مشاهدات دقيقة عن الظاهرة في بلدان معينة. ونظرًا لاختلاف القوانين من بلد إلى آخر، خبت النظرة القانونية المحضة فيما ازدهرت الرؤية التي تعتد بفساد الوظيفة العامة. وفي هذا السياق، ذهب “ح. س. ناي” إلى تعريف الفساد بأنه “سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام تطلعًا إلى مكاسب خاصة مادية أو معنوية، أو هو سلوك مناطه انتهاك القواعد القانونية بممارسة أنواع معينة من التأثير تستهدف تحقيق منفعة خاصة. وتتمثل أبرز تجليات هذا السلوك في الرشوة (تقديم العطايا لشاغل المنصب العام بهدف تلويث ضميره وذمته)، والمحسوبية (أولوية القرابة أو الصداقة أو الانتماء الديني أو الجغرافي..إلخ، على الكفاءة والاستحقاق في إسباغ النعم وأداء الخدمات) ونهب المال أو استخدامه بصورة غير مشروعة جريًا وراء منافع ذاتية.

هذا التعريف، على شموله وقبوله من كثيرين، لا يخلو من بعض الغموض. فالسلوك الفاسد لا يكون فقط بإتيان فعل غير مشروع في سياق مباشرة الوظيفة العامة، وإنما يكون أيضًا بالترك أو الامتناع عن الفعل حالما ينبغي القيام به (حمل الموظف العام على عدم تنفيذ قانون معين). من ناحية أخرى، يستبعد التعريف من دائرة الفساد نشاط جماعات المصالح ما لم تلجأ إلى الرشوة في سبيل أهدافها، وكذا سلوك الحكومة التي تحابي بانتظام مجموعة إثنية أو منطقة معينة في توزيع الموارد العامة.

وعلى الرغم من وجاهة تعريفات الفساد من منظور القانون/ الوظيفة العامة، إلا أنها تعاني من قصور. فالقانون ليس من صنع الملائكة وإنما من صنع البشر، وبالتالي فهي تأتي تعبيرًا عن مصالح القابضين على زمام السلطة والقوى الاجتماعية التي ينتمون إليها. من ثم، فإن التغير في هيكل النخبة الحاكمة يواكبه تغير القوانين، وبالتالي في الأساس القانوني لماهية السلوك المشروع والسلوك الفاسد، فما كان مشروعًا في ظل حكومة ما قد يصبح فاسدًا في ظل حكومة أخرى. كما أن القوانين تختلف من بلد إلى آخر بما يعني أن السلوك المشروع في بلد معين قد يكون فاسدًا في بلد آخر.

بناء على ما تقدم، يبدو تهافت التعريفات المبسطة للفساد لكونه ظاهرة مركبة ومتداخلة مع مختلف دروب السلوك السياسي والإداري، وغير منعزلة عن السياق المجتمعي الشامل. لهذا لا يصح الاعتماد في تعريف الفساد على مدخل واحد، وإنما يتعين تأسيس هذا التعريف على الجمع بين المنظور القانوني/الوظيفة العامة، ومنظور المصلحة العامة، ومنظور الرأي العام قدر الإمكان.

وما يصدق على التعريف يصدق على المعالجة.

فالفساد السياسي ينتج آثاره السلبية على مختلف جوانب النظام القائم، وهذا يعني تغييبًا للديمقراطية بشقيها السياسي (المشاركة)، والاقتصادي (العدالة التوزيعية)، وإضعافًا لولاءات الأفراد وانتماءاتهم، وأخيرًا تهدد استقرار النظام ببعض صور العنف السياسي؛ ومن هنا فإن التضييق على الفساد يقتضي تحركًا على هذه الأصعدة كافة من سياسية واجتماعية-اقتصادية وثقافية، فضلاً عن الصعيد القانوني بوضع الضوابط المناسبة التي ترد ضعاف النفوس عن كل انحراف محتمل(14).

وبعد هذا الاستعراض لمفاهيم الفساد المختلفة التي تنحو إلى تضييق مفهومه وحبسه ضمن تصنيفات هي أقرب إلى المستوطنات التخصصية منها إلى الهدف الأصلي لفهم الظاهرة بشكل أدق وأعمق وأكثر تفسيرية وقدرة في تأسيس مناهج نظر وتعامل وتناول لها وكل ما يتعلق بارتباطاتها أو بعناصرها أو جوانبها المختلفة، هل يكون مشروعًا أن نتساءل: هل تقدم هذه التعريفات المتأخرة رؤية متقدمة لظاهرة الفساد، أم أن العكس هو الصحيح؟ فقد ظل البحث عن التعريفات لفترة طويلة يسود الحوار حول سياسة ومفاهيم الفساد، ولقد انتهت المفاهيم الكلاسيكية، وربما الأصح انزوت، تلك المفاهيم التي تركز على حيوية أخلاقيات المجتمعات ككل ليحل محلها تعريفات التصنيف السلوكي الجديدة التي تقاس بموجبها أفعال معينة على أساس مجموعة متنوعة من المعايير(15).

وبدا هؤلاء الأخيرون (السلوكيون) المضيّقون لمفهوم الفساد يؤكدون أنهم يبغون الدقة، والدقةُ لديهم تُنال عن طرق اقترحوها؛ منها:

الأولى– أن تضييق مساحة المفهوم يسمح بالدقة في التعامل والتناول.

الثانية– أن القياس أهم مداخل دقة التعامل مع الظاهرة.

الثالثة– أن الابتعاد عن القيمة هو المدخل الأساس لضمان الدقة.

الرابعة– أن دراسة أجزاء الظاهرة أكثر فاعلية من الدراسة الكلية.

وبدت هذه الطرق جميعًا طرقًا مأمونة تتغيا الدقة والتدقيق، وواقع الأمر أن هذه الرؤية تبحث عن دقة متوهمة ضمن افتراضات تؤسس منهج نظر لهذه الظواهر تقف عند حد سطح الظاهرة ولا تغوص في أعماقها، وتفترض أن “القيمي” قد يستعصى على القياس، وما يستعصي على القياس يُنفى عن الظاهرة(16)، وأن فهم الجزء ممكن بدون الاستبصار الكلي، وبدت هذه الدقة المتوهمة تهمل جانبين يسهمان في فهم الظاهرة موضع البحث:

أولهما– رؤية الظاهرة على ما هي عليه، وهو حد العلم كما يراه المناطقة وعلماء المسلمين، وأن أي دعوى تفترض الدقة في سياق رؤية الظاهرة على غير ما هي عليه، فشأنه كمن أراد أن يصل إلى مكان معين، هذا المكان معروفة الطرق التي تؤدي إليه، إلا أنه اصطنع طريقًا لا يوصل إلى المكان ولكنه -وفق رؤيته- يبدو طريقًا مأمونًا ويسيرًا وقصيرًا. فالعمل لا قيمة له إلا إذا كان منسوبًا إلى غايته، فالأمور بمقاصدها، والوسيلة إن فقدت الغاية (القبلة والبوصلة) فقدت قيمتها ومعناها. إن هذا أمر أورث تصورًا للظاهرة على مستوى التعريف والتناول يتسم بالنقص والقصور.

ثانيها– إن التعويل على المؤشرات الظاهرة -رغم دلالته- إلا أن مقدرته التفسيرية تصير في حدها الأدنى، خاصة إن لم تكن خطوة ضمن خطة تهدف إلى التعرف على مكنون الظاهرة وعمقها: العوامل والأسباب، والأغراض والمظاهر، البيئة وتأثيراتها المتبادلة بالظاهرة وفي الظاهرة وعليها.

ومن هنا لا يصح البحث عن الدقة مفصولة عن الظاهرة ذاتها والغرض من دراستها وتحليلها، فبين الدقة في الممارسة البحثية والعمق التحليلي صلة ليس لأحد أن يتصور أن يتحقق أحدها على حساب الآخر.

رغم أن د. إبراهيم شحاتة يشير إلى ضرورة أن نتعامل مع مفهوم الفساد بمعناه الواسع(17)، إلا أنه لم يجر في توسيعه إلى مدى أبعد بما تتيحه السعة اللغوية والحمولة الدلالية، والأمر الذي يسمح بأن يجعل النظر إلى الفساد نظرًا كليًا جامعًا هو الكفيل بدراسة الفساد على هذا المستوى الشامل واقتراح استراتيجيات هي من الشمول بمكان في هذا المقام، تتلاءم مع اتساع مفهوم الفساد وقدراته على الانتشار السرطاني في كيان المجتمع والسلطة والنخر في شبكة العلاقات فيما بينهم.

كما أن هذا النظر الكلي هو الذي يفيد في النظر الاستراتيجي لرؤية الفعل (وصفًا وحالاً وتطبيقا  ومآلاً واستقبالاً..”، هذا النظر الاستراتيجي هو الذي يؤسس عناصر نظر كلي لا ينفي زواية الاهتمام التخصصي إلا أنه يسكنها في فهم الظاهرة ولا يحرك عناصر التنازع التخصصي في دراسة ظواهر، صارت بحكم تعدد جوانبها أحد عناصر الرؤية الكلية الشاملة.

والظاهرة الشاملة –خاصة السلبية- إن لم تكن مواجهتها شاملة انحسر الإصلاح فيها، ودفعت  متوالية الفساد متوالية الإصلاح، ومكنت لزيادة الفساد وتأسيسه(18).

            

ومن هنا فإن تضييق مفهوم الفساد وحصره في أحد أشكاله ليس مجرد خطأ علمي أو فساد في التعريف والتصنيف بل هو حالة مواتية لما يلي:

* لقصور المعرفة للفساد طبيعة وأبعادًا وأشكالاً ومجالات وحالات وعمليات وعلاقات ومؤسسات وأطرافا وفواعل فيه ومصالح تتكون وتتأسس منه، وهو ما يؤدي إلى ما يمكن تسميته “دورة تمكين الفساد” والتي يمكن لها -مع طول الأمد وقسوة القلوب وتبلد الحس الجماعي وميراث من اللامبالاة- أن تترك الفساد يرعى ويترعرع(18). وهذا التراكم يكون “مجتمع الفسق” في إطار علاقات فرعونية فاسدة: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ .

* وهو كذلك حالة مواتية لاستمرار ممارسات الفساد، فإن النظر الجزئي المتوهم لكلية غالبًا ما يكون نظرًا عليلاً وكليلاً، نظرا أعشى، تحركه عناصر قصر النظر وربما قصوره، وهو ما يمكن -مع عدم الفطنة- أن يؤدي إلى تمرير الفساد من قنوات قد تهمش في التفكير أو في مناهج التفسير والتناول والتعامل. وهو نمط من التفكير يدخل ضمن سياقات منهج التفكير الذي يرتبط بالحالة السلبية في التفكير والتدبير: ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا﴾ {16/92}(22).

وربما أن هذا التجزيئ يغري بالتعامل مع أصول المواجهة والمقاومة للفساد (المظاهر والأشكال) على النحو الجزئي، وكم من عمليات إصلاح وُجهت بالفشل لأنها ظنت أن المواجهة الجزئية ناجعة في هذا المقام، مع استمساك كل أداة بدورها في استراتيجية الإصلاح بما يورث ضيق النظر وزواية الاهتمام، والأمر المهم في هذا المقام يعني تكافل الأدوات واستطراق التأثير الإصلاحي كما يستطرقالتفسير الإفسادي….  

وهو أبعد من ذلك قد يوفر البيئة والقابلية لمقولات تسويغ الفساد أو ترويج لبعض عناصره أو جوانبه، وهي مقولات ترد في الخطاب المحيط بالظاهرة، تحاول الترويج للفساد “بالقطعة” أو بالحجج الجزئية، فإن تجزئة الحجة بالنسبة للفساد، أو عدم الانطلاق من أصل الفساد الهادم والناخر لكيان المجتمع، وعدم تحريم الفساد بكل أنواعه وأشكاله وجوانبه ومجالاته، إنما هو مدخل لتمرير الفساد.

والإصلاح يخبو بمقدار ما يمكن للفساد، ويفعل بمقدار ما يهمش الفساد أو يحجم(23).

مؤشرات الفساد لدى الحكيم البشري:

أولاً تعريف الفساد:

أ‌-       ظاهرة الفساد أعم من أن تكون قاصرة على الجانب المالي مهما كان الجانب المالي يمثل الغالب من حالاتها.

ب‌-   الظاهرة لا تلازم فقط تخصيص الموارد الاقتصادية أو توزيع العائد الاقتصادي، إنما تعم وتشمل تخصيص “الشأن العام” برمته، وتحويل الشأن العام للجماعة إلى شأن خاص سواء لأفراد حاكمين أم لجماعة صغرى حاكمة ومسيطرة.

ت‌-   الفساد فرع من ظاهرة شخصنة الشأن العام وتحويل الشئون العامة إلى شئون خاصة في بواعث إصدار التصرفات العامة، وفي تحقق ثمرات هذه التصرفات.

غاية الأمر ألا يقتصر الأمر على الفساد المالي بذلك، وإنما يتعامل مع الظاهرة في عمومها وفي امتدادتها غير المالية، أسبابًا ونتائجًا. وهو يتعامل مع مؤسسات الدولة القائمة على أعم الشئون العامة وأكثرها شمولاً بالنسبة إلى الجماعة السياسية والجماعات الفرعية المتصلة بها، على تنوعها وتداخلها(24).

الفساد إذن ظاهرة تتعلق بتحول الشأن العام للجماعة إلى شأن خاص لفرد أو أفراد أو لجماعة صغرى. وهو كذلك تحول المصلحة العامة للجماعة المعنية إلى مصلحة خاصة لأفراد أو لجماعات أضيق.

إن الشبكية المؤسسية هي التي تلخص الوضع الأساسي لبناء الدولة التي ترعى مؤسساتها الصالح العام. ويمكن القول إن الحكومة أو “جهاز الحكم” يتضمن أعظم قدر اجتماعي من المال والسلاح، ويقوم بذلك الاستبداد لا محالة، إلا أن تواجد أجهزة في الحكم لا تحوز مالاً ولا سلاحًا وتكون هي المسيطرة على مَن يحوز المال والسلاح (مصادر القوة)؛ وهي أجهزة التشريع والقضاء _­أي الأجهزة الحارسة لشرعية استخدام المال والسلاح وما يتفرع عن هذه الأجهزة من تشكيلات ومؤسسات_ تكون قادرة فعلاً على الإمساك بزمام من يحوزون المال والسلاح، فإذا لم يحدث ذلك تحول الشأن العام إلى الاستبداد، وأنتج الاستبداد سيادة الصالح الخاص للمستبدين وهو ما يمكن أن نسميه “بشخصنة الدولة أو بشخصنة السلطة أو بشخصنة العمل العام”، وفي هذا المقام يمكن الربط بين الاستبداد كبيئة حاضنة لعمليات الفساد.

ومن أعظم الفساد _على ما يؤكده الحكيم البشري_ أن تحمل سلطة الاستبداد سيف المعز وذهبه وقدرته التنظيمية الهرمية الهائلة، وأثره غير المقاوم في استتباع الأجهزة كلها من داخلها وبواسطة رجالها أنفسهم، ويتسرب إلى أفرادها باختيار الأساسي منهم وترجيح نفوذ الأطوع، وذلك لتتحرك الإدارة الذاتية لكل جهاز من داخله وبما يتناسب مع متطلبات السلطة المنفردة، فتقوم الواحدية المؤسسية للدولة حيث لا تسود الشخصنة فقط، ولكنها أيضًا تستلم الشرعية في المجتمع فتظهر لا بحسبانها مصدر القوة والجبروت فقط، ولكن بحسبانها أيضًا مصدر الشرعية في المجتمع كله(25).

الواحدية المؤسسية

احتكار مصدر الشرعية في المجتمع

ثالثًا- الإطار النظري للفساد: الأساطير التفسيرية للفساد

الخطاب حول الفساد وفساد الخطاب:

لا يعنينا في هذا المقام أن تدور كلمات على ألسنة النخب السياسية أو المعارضة السياسية تتراوح ما بين تبرير حجم الفساد، أو الاتهام بالفساد، فذلك خطاب -ولطبيعة الظاهرة- له مبرراته ومسوغاته. إن النخب السياسية المستقرة في الحكم لابد أن تدفع عن نفسها تهم الفساد، فإن كان باديًا للعيان فعليها على الأقل التهوين من حجمه والتقليل من آثاره..

إذ إنه في جانب يعني أن فائض السلطة غالبًا ما ينتج ويولد فائضًا للكلام والخطاب، فالسلطة تحتكر أدوات القوة وممارستها، وتحدد أصول الشرعية ومعاييرها، وتحدد مقاييس المواطنة الصالحة من عدمها. هذا ما تعرفنا عليه في سياق الدولة-القومية الحديثة. أما في الجانب الآخر فإن التطلع إلى السلطة والصراع من أجل الوصول إليها ينتج فائض كلام؛ لأن نمط السلطة يعبر عن “إغراء السلطة” الذي لا تنتهي تأثيراته عند حدود، وغاية الفساد في هذا الخطاب أن تهون سلطة ما من حجم الفساد أو تهمش الاهتمام به، اعتقادًا منها أن ذلك يفت في شرعيتها، وأن تحمل القوى المتنافسة (خارج السلطة) خطابًا عينه على السلطة وينزوي فيه الاهتمام بالمجتمع وبكيان العلاقة السياسية وإصلاحها.

خلاصة القول: إن فائض السلطة ينتج فائض كلام يشكل -في معظمه- توجهات الخطاب السياسي(26). إذا كان ذلك ينطبق على قضايا وظواهر متعددة، فإن “خطاب الفساد” حالة نموذجية في هذا المقام.

فإذا كان هذا ما لا يعنيننا في هذا المقام، فما الذي يعنينا إذن بالحديث عن الخطاب حول الفساد وفساد الخطاب؟

إن ما يعنينا حقًا هو أن ينزلق الخطاب البحثي والأكاديمي إلى ذات المقولات التي ترتبط بالخطاب حول الفساد؛ فيضفي على تلك المقولات من هيبة العلم وجلال البحث ما ليس فيها وما ليست منها، ومن هنا فقد يكون من المفيد رصد هذه المقولات الخمس(27) التي من الواجب ألا تذكر في بحوث علمية من غير تدقيق أو تعميق، ومن غير حيثيات ترتبط بها؛ ذلك أن الخطاب السياسي المسيس قد جعل هذه المقولات تنوء بحملها، وحمّلت أكثر من سعتها وحمولتها الدلالية، وصار فهمها ضمن تبعية الأكاديمي للتسييس من أخطر مداخل الترويج لظاهرة الفساد وتسويغ مساراتها؛ سواء كان ذلك عن قصد أو غير قصد؛ ومن ثم استحق ذلك اسم “فساد الخطاب” حول “الفساد”.

أولى المقولات في خطاب الفساد هي أن الفساد ظاهرة قديمة، وقدمها يعني حتميتها، إن كل المجتمعات قديمها وحديثها يعرف ظاهرة الفساد. وهذه المقولة صحيحة فيما تحمل من تقريرات ولكنها ليست بالكلمة التامة، فإن قدم الظاهرة لا يضفي عليها حجية في الوجود والانتشار أو الإبقاء عليها، وأن التقادم بصددها لا يحولها إلى “حق” لأنها مضادة لأصل الحق نفسه، وتكر عليه فتنفيه، وقد يكون الفساد كظاهرة ترتبط بالاجتماع البشري والإنساني والسياسي حتمي الوجود، فليست هناك من مجتمعات خالية منه إلا في تصور بعض الفلاسفة المثاليين في يوتوبيتهم أو مدنهم الفاضلة، وحتى هؤلاء لم يقرروا هذا المعنى بإطلاقه، وإذا كان الفساد حتمي الوجود، فأكثر حتمية منه مواجهته ومقاومته ومكافحته، تدلنا على ذلك سُنة التدافع الماضية الهادفة إلى التنبه لمصادر الفساد وتتبع أشكاله. ومن هنا كانت الإشارة من العلماء إلى أن الحق قديم، وأن الضرر والفساد لا يتقادمان؛ فيسقطان.

ومن هنا وجب صياغة هذه المقولة –أو إن شئت الدقة إعادة صياغتها- بما يقرر الحق في الواقع لا بما يقر الفساد أو يمضيه، فالمقولة إذن: إن مقاومة الفساد تدافعًا من السنن الماضية في خلق الله والعلاقات فيما بينهم(28)، مهما كانت قديمة في الواقع، أو حتمية في الوجود. فالقدم لا يعطي حجية للفساد، والسنة القاضية الماضية هي التدافع لا الوجود الحتمي للفساد في الواقع.

أما ثانية هذه المقولات في خطاب الفساد فهي أن الفساد ظاهرة عامة وعالمية، وهي مقولة تتساند مع سابقتها، فإن كل كائن في كل مكان يستطيع أن يقول هذه الكلمة وهو صادق، والمشاهد تدل عليها والأخبار تتوافر في نقل حوادث وحالات الفساد في كل الدنيا وفي كل الدول تقدمت أو تأخرت مع تفاوت في درجة الفساد وحدته. ويبدو أن الحجة في هذه المقولة تكمن في توجيه النظر إلى انتشار الفساد وذيوعه، هذه الحجة هي الأخرى لا تضفى حجية على الفساد وجودًا أو استمرارًا، وعالمية الفساد وانتشاره دلالة على خطورته تراكمًا وتأثيرًا، وبمقدار انتشار وعمومه، وبمقدار عالميته يجب أن تستنفر الجهود لمكافحته ومواجهته ومقاومته. إنها -على عكس ما يقصد بها من يريد أن يسوغ للفساد وجودًا وانتشارًا- يجب أن تكون مقولة استنفارية، ومن جملة هؤلاء من يستمسكون بشرعة الإسلام ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ (الأنفال: 24)(29).

إن حشد الطاقات الفاعلة والمتكافلة يجب أن يكون مقصود هذه المقولة، ومن هنا وجب تكملة هذه المقولة الصادقة لفتًا إلى المقصود منها بعد أن أُسيء استخدامها لترويج باطل الفساد، فالفساد ظاهرة كلية وعامة وعالمية تستحق استنفار الجهود لمقاومتها على نفس المستوى التي تنتشر فيه الظاهرة، وأن الإصلاح يجب أن يكون كليًا وشاملاً وعامًا وعالميًا.

أما ثالثة هذه المقولات فهي أن الفساد يمكن أن يكون وظيفيًا، والفساد كظاهرة يمكن أن يقوم بدور إيجابي في توازن واستقرار المجتمع، هذا بعض مما تقول نظرية الوظيفيين: للفساد وظيفة، ليس هذا فحسب بل وظيفة إيجابية(30)، وأنه قد “يصلح“(!) بعض الاختلالات المجتمعية من مثل إعادة توزيع الثروة، وبدلاً من الحديث عن ضرورات التدوير الصالح للمال والثروة سنرى التدوير الفاسد للثروة، وأن لذلك أساليب من مثل الرشاوى الصغيرة في الإدارة وغيرها من مؤسسات. وهنا يصل الأمر إلى قمة “التعفن التنظيري” الذي ينظر للمنفعة الحالة للفساد، ولا ينظر إلى ما يورثه من خراب على المستوى العام، وما يعنيه من أبعاد قيمية وأخلاقية تشد عناصر شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية بين عناصر وقوى المجتمع المختلفة.

وهذه المقولة الفاسدة تحتاج منا إلى ضرورة نسفها من الأدبيات النظرية، الأمر لا يتعلق بإعادة الصياغة ليكتمل البيان أو البلوغ المقصود، بل هي تجعل من الواقع الفاسد حجة وحجية تستند إلى حساب المنافع الآنية وربما الفردية والجزئية، هذا ما يمكن أن ينتجه علم خال من القيم على دعوى المدرسة السلوكية والوظيفية، إنه يقيم حججه في سياق “المنافع المتوهمة” و”المصالح الزائفة”.  أين هذا من صياغة شبكة العلاقات المجتمعية على قاعدة من الصلاح والإصلاح؟!!

أما رابعة هذه المقولات فإنما تشير إلى “نسبية الفساد” حتى يمكن تمرير بعض أشكاله، وتسويغ بعض عناصره، وتسريب كثير من وسائله، والدعوى تقول “إن الفساد -ظاهرة وتعريفًا- ظاهرة نسبية تتأتى نسبيتها من اختلاف الثقافات، فما يعد فسادًا في مجتمع ما أو ثقافة لا يعدو كذلك في مجتمع آخر أو ثقافة مغايرة..()، وواقع الأمر أن هذه المقولة تخلط بين تعريف الفساد وبين بعض أشكاله وفقًا لطور المجتمع وتطوره وحجم معاملاته وعلاقاته. إلا أن الفساد -تعريفًا وقيمة وجوهرًا- ليس إلا معنى سلبيًا مدمرًا في جوهره وآثاره. ومن هنا كانت الرؤية التي تقوم على إطلاقية القيمة ونسبية الأشكال في مواجهة رؤية أخرى لا تقوم إلا على قاعدة من إطلاقية النسبية “تموه على أشكال الفساد”، فلا تكون فسادًا، ومن أفسد الفساد أن تُدعي الإطلاقية في غير مكانها وترسخ النسبية في غير مقامها. وهو أمر يؤثر في عشوائية الرؤية للظواهر، وفوضى المواقف منها، وإمكانات تجزئة الظاهرة بما يدلس عليها وعلى المواقف القيمية والتقويمية منها(31).

ثم تأتي المقولة الخامسة والتي تسود خبرات التنمية في العالم الثالث، وهي أن الفساد غالبًا ما يرتبط بأوضاع انتقالية، ومن ثم تبدو هذه المقولة ترتب نتيجة تسوغ وجود الفساد في الخبرات التنموية ذات الطابع الانتقالي، وأن تزايد الفساد وانحساره رهن بتلك المرحلة الانتقالية، وهي مقولة صيغت ضمن كتابات التنمية السياسية ونظريات التحديث، حينما أطلق عليه دانيال ليرنر: “المجتمع الانتقالي”(32). وفساد هذه المقولة يتأتي من دعوى تأقيت الفساد وارتباطه بالمرحلة الانتقالية، وفساد مفهوم “المرحلة الانتقالية” ذاته والذي يعبر عن تسويغ شديد الخطورة لظاهرة الفساد وأشكالها.

فالفساد -في الجوهر- وجبت مقاومته ومدافعته من كل طريق وفي كل وقت، بل وجب أن تصحبه منا ثقافة إنذار وتنبُه تحرك طاقات المجتمع لمواجهته مهما كان قليلاً أو نادرًا، ومهما كان صغيرًا أو مستصغرًا، فإن معظم النار من مستصغر الشرر. وهناك فرق بين معنى “المرحلة الانتقالية” ومعنى حكمة وسنن التدريج في عمليات التغيير والتدبير والإصلاح، فإن التدريج -وفق مقصوده- يراد منه أن يكون اجتثاث الفساد أنجح، وإجراءات الصلاح والإصلاح أرسخ وأمكن، والبون شاسع ما بين النظرتين والموقفين.

أما عن مفهوم “المرحلة الانتقالية” الذي أطلق من غير حد أو قيد، فإنه أحد عناصر الخطاب المسوغ للفساد.. وتبدو كثير من أنماط السلطة في دول العالم الثالث تتحرك صوب هذه المقولة التي تسوغ وجود المفاسد والسلطات الفاسدة معًا، فإنه لا يخطر على بال كثير من هذه السلطات ما هي “المرحلة الانتقالية”؟!، وما هي “مرحلة عنق الزجاجة”؟!، وكأن المرحلة الانتقالية مستمرة وحتى يوم القيامة، أو أن الزجاجة ذات شكل عجيب: كلها عنق؟!

واتُخذ ذلك تسويغًا لوجود الفساد وتسويفًا لمقاومته، ونحن نظن أن ذلك من جملة المقولات الفاسدة في الجوهر والغرض، وأنه فائض التلاعب باللغة والكلمات في الخطاب.

هذه الاساطير التفسيرية فى حاجه الى مراجعة كلية شاملة لأنها تعوق احكام البناء النظرى وتمارس فساد بحثيا يؤثر على ظاهرة الفساد بحثا و درسا وصفا ورصدا وتصنيفا و تحليلا و تفسيرا و تقويما.

الإطار النظري لدى الأسدي وتوليد مؤشرات الفساد

من الأهمية بمكان أن نؤكد على المعنى الكلي للفساد الذي يتبناه الأسدي؛ حين يؤكد أن التفريط في تدبير الدول مبدأٌ للفساد، وإذا أضيف للتفريط إطار الراحة، والاستهانة بالمشورة، وعدم قبول النصيحة، والاتكال على البخت، لم تلبث –إن استمرت- أن تخرب البلاد وتزول على أقبح فساد (33).

والأسدي يجعل من “المفهوم الفسادي” مفهومًا شاملاً عامًا؛ فيؤكد أنه قد تبين “أن التخريب في العالم من الفساد المنهي عنه عقلاً وشرعًا، وكل عمل أو نقل يحصل بسببه نوعٌ من أنواع التخريب ونقص في العمارة فهو من جملة الفساد المنهي عنه”. (34)

ومنه ما أسماه الأسدي بحدوث الحوادث؛ والتي هي عبارة عن إشارات إلى المجالات التي يطولها الفساد. أول هذه الحوادث والتأشيرات إهمال ما يؤخذ من المال على وجهه، وتجديد أسماء الأموال التي تؤخذ على غير وجهها، وخلط المال الحلال بالمال الحرام.

“.. وفي الظاهر أن هذه الأموال المحصلة بهذه الوجوه الخبيثة مصالح للسلطان ومعونة للأعوان، وفي الباطن إنما هي فساد، وظلم، وتخريب، وفسوق وعصيان، وعوايد ردئية. وقد ظهرت واستمرت، وصارت من القواعد لتخريب البلدان”(35).

“وثانيها- تضييع الكثير من بلاد المسلمين وأراضيهم على أسماء ومسميات يشتركون في استيلادها: المستحق وغير المستحق”.

“.. ودار في كثير من القرى والأماكن والديار، وضاع بسبب ذلك ما ضاع، ودثر ما خرب من البلاد والضياع، لعدم النظر بالإنصاف، وسوء التدبير والطمع والاجحاف. وهذه الحوادث كلها من جملة الفساد على كل تقدير.

“أما ثالثها فوقوع الإهمال في العوائد المتعلقة بالتجار والمسافرين والمترددين من سائر الأطراف والممالك، وما تجدد عليهم من الفوائد التي لم تكن كذلك”.

“… وبتجديد الحوادث الرديئة والمظالم على التجار، تفرق الاجتماع، وقل المتحصل ونقص الربح وضاع، وقلت الطمأنينة، وساءت القالة، وكثر الكلام، وضاقت المعايش وانكشفت الأحوال، وعظم الخصام، وانتقضت الأمور، وانتقصت العشور مع نقص الزكاة، ووقع الهلاك وانقطع الإدراك، من نقص فوائد الخضراء وقلة الحماة.

أما الرابع: فوقوع الإهمال في تفقد الأراضي والبلاد وما يتعلق بها من صلاح وفساد(36).

ويطرح الأسدي خطة لمواجهة الفساد؛ إذ يربطه بأحوال الناس من ضرورات النظر في حال كل مسكين وفقير ومحتاج، وقيام ذلك على قاعدة من عدل الملوك والنظر في حال الرعايا بالرحمة والسياحة وحسن السلوك؛ إذ المطلوب من قيام الملوك تفقد أحوال البلاد والرعايا بالنظر التام، والفحص الصحيح، ومراجعة أمور الشريعة، والأحكام الواجبة، والسياسة المحكمة في تعديل الممالك وعمارة البلاد. (إذا كان هذا -في عرف الأسدي- عملاً إيجابيًا فإنه لابد أن يستصحب مع ذلك عملاً سلبيًا في مكافحة الفساد “بإزالة أسباب الفساد”، وقطع أصول المفسدين وفروعهم، واستئصال مادتهم، ومعاملة الرعية بمعاملة الطبيب الحاذق بما يستلزمه من تدبير الأصحاء بالأمور الملائمة لحفظ الصحة، ومعالجة المرضى بإخراج المادة الفاسدة واستئصالها بعد إبطال سببها إلى أن يعود العليل إلى حال صحته.

بل إنه في هذا المقام يجعل من عملية التفقد والمراعاة عملية مستمرة: “والاستمرار على المراعاة ودوام التفقد للأحوال واللوازم، وإغاثة المهوف وإعانة المظلوم وردع الظالم، وتوسعة النظر في إصلاح ما مضى وواجب الحال وما يتوقع في المستقبل والمآل، لاحتمال خلل يطرأ أو حادث يحدث، أو طامع يطمع، أو ظالم يظلم، أو ناكص ينكص، أو عامل يهمل، أو فساد يحدث مع عدم الركون بالكلية إلى كل أحد”.. قال الله تعالى:  ﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ (هود:113).

وهو في هذا المقام قد يشير إلى الطبيعة المؤسسية للفساد وشبكيته؛ بحيث تتشلبك شبكية الاستبداد مع شبكية الفساد:

“وإذا أهمل الملك التفقد، واتكل على أخصائه وما يرفعونه إليه من الأحوال والأقوال بحسب أغراض أنفسهم، ومال معهم من غير بحث ولا جدال، فإنهم يشاركونه في الأمر بحسب ميله إليهم وركونه، ويدفعون عنه من يشكو إليه أو يتظلم، ويحجبونه عمن يسعى أو يتكلم. وإن تعداهم أحد إليه، تكلموا فيه وشهدوا كلهم عليه وجاءوا بمن يتظلم منه وقوَّلوه ما لم يقله وما لم يصدر عنه، وربما أوقع به الملك بحسب الظاهر ولم يسمع له كلاما في الأول ولا في الآخر.

فامتنع المظلوم عن شكواه، وظل كل منهم في طلب ما يهواه، واستبد أولئك بالتدبير الذي هو تدبير الممالك ولم يسع الناس إلا الخضوع لهم والإذغان، وصار لكل منهم في مكانه سلطان، وانتمى إليهم كل مفسد وشيطان، وصاروا على ما يضر الناس ويغضب الله أعوان، وكل منهم يظلم ويفعل ما لا يرضى به مولاه، وكل منهم يخبط في ظلمة عشواه، وقد طمس على قلبه إذ لا يتحقق أن يراه، فهذه كلها حوادث لأسباب الفساد، وما الله يريد ظلمًا للعباد”. (37).

أما عن مظاهر الفساد والعلامات الدالة عليه خاصة فيما يتعلق بالأحوال والأفعال، فإن الأسدي يؤكد: “إن الأحوال والأفعال فيما بين متناقض ومقتاصر، قد غلب الفساد، وقلت العمارة، وكثر الخراب، لما هو معلوم من حدوث الحوادث التي هي للفساد أسباب”(38).

“وكذلك فإن من علامات الفساد، والخراب، والعذاب: نفوسا متغيرة، وأخلاقا متنكرة، ومعاصي مستكثرة، ..”، وكذا من الأسباب والعلامات تلك الحالة الثقافية والواقعية التي تشكل أسبابا وعلامات للفساد:

(.. عقول بليدة، وأفهام جامدة، وأهوال شديدة، وأهواء شاردة، وأفعال مردودة، ونفوس باردة..)(39).

وكذلك من الأسباب والعلامات:

(شهوات متغايرة، وأحوال حائلة، وغفلات متوافرة، وآمال مائلة، وهمم متقاصرة، وصوال صائلة، وقلوب متنافرة، وأهوال هائلة، وعيون متناظرة، وعوازل عازلة، وذنوب متكاثرة، ومحافل حافلة، وظلمات متجاورة، وعقول ذاهلة)(40).

في هذا السياق نرى تكامل هذه العلامات التي تدل على أحوال الناس في بيئة قد غلب عليها الفساد، وتحققت الأسباب التي تمكن له، وتجعله منتشرًا شبكيًا ومؤسسيًا، وهو أمر يؤدي إلى جملة من الآثار التي تتمثل في ستة أشياء يحددها الأسدي:

الأول- وقوع الإهمال في كثير مما يجب من الأعمال.

الثاني- الاغترار بالآمال وسعة الإمهال.

الثالث-التشاغل بالزهرة الفانية، وجمع الأموال.

الرابع-تعطل الكثير من أسباب العمارة.

الخامس– عدم الالتفات إلى نتائج الحكم.

السادس-طمع النفوس، وتطلع الأعين أملاً في استمرار ما وُجد من سوابغ النعم(41).

لا شك أن هذه الحوادث، والأسباب، والعلامات تؤدي إلى ما يمكن تسميته بفساد القيم، وفساد السلوك، والتعلق بالحلول الذاتية ويؤدي ذلك جملة إلى مزيد من الفساد والتمكين له.

“فمن هذه الحوادث والأسباب اندرس ما اندرس من المحاسن والفضائل (فساد القيم)، وانبجس ما انبجس من معينات المعايب والرذائل (فساد السلوك)، وطلب كل طامع ومغرور ما أمكنه من تحصيل العاجل (البحث عن الحلول الذاتية)، وأرسلت هوام الشهوات”، وعلى هذا تظهر أسباب الفساد وتخفي(42).

كل هذا ارتبط لدى الأسدي بسياسات اتسمت بثلاث خصال:

الأولى- سوء التدبير مع نقص القوة والإمكان، والثاني- نقص سنة العدل وسوء التصريف، والثالث- الأخذ في جانب التقصير والنقصان.

وغالبًا يبدو هؤلاء ممن يمارسون ذلك الفساد، يتعاملون مع الأمور بسلوك فساد وإفساد، “فيستخرجون الأموال بالظلم والطغيان، ويرضون ببعضها مَن له في الدولة كلام وإمكان، وبما يحملونه من الهدايا والأموال يرشون بها الأعوان، فيسعى لهم، ويلبسون التشاريف المملوكية بين بيدي الملك والأمير والسلطان، فيصير كل واحد منهم في بلده وإقليمه إذا عاد إليه ذا قوة وإمكان وسطوة وأعوان.. وإقطاعات ونعم وديوان، وقويت بذلك نفسه وازدرى بقول فلان وفلان”. إن انتشار بيئة الاستبداد تشكل محضنًا لعمليات الفساد.

وفي هذا السياق الذي يعدد فيه الأسدي أشكال من الفساد، فإنه يؤكد على تلك العلاقة العكسية بين الصلاح والإصلاح من ناحية، وبين الفساد والإفساد من ناحية أخرى، فيقول: “فليت شعري أي صلاح يتفق مع وجود الفساد؟ وأي عمارة تبقى وتصلح مع الإكراه والإجبار والظلم للعباد؟”

“فلما يقع الإهمال في العمارة يدخل الخلل ويقع الخراب ويحصل التنافس والتحاسد.. ويميل الولاه مع ذوي القوة والأموال على من حصل في حاله ضعف واختلال، وكثر احتمال الضيم والصبر والاحتمال، وتمادي على ذلك الحال”.

من الجدير بالذكر في هذا تلك الإشارة الأسدية إلى أن هذا الإهمال والخلل هو مما يُحدث حالة من تفتت المجتمع واختلال شبكة علاقاته الاجتماعية ونسيجه الاجتماعي، كما أن هذه الحال تفرز من ضمن ما تفرزه ذلك التحالف الأسود بين رجال السياسة ورجال الأعمال.

وتكتمل الحلقة في تسلط الولاة، وأصحاب الجباية والخراج بالظلم والجور..، ولا يقدر أحد أن يشكو ظلمته خوفًا من أن يتجدد ما هو أشد وأكبر..، واضطر من بقي في البلاد إلى أن يتواطؤوا مع من يلي أمرهم على الفساد، واستخلاص الأموال بغير حق بل بالمجان، واكتمال هذه الحلقات كذلك يكتمل بتولية العمال بالمال، وتناول البدل على ولاية الأعمال، وانتماء كل ظالم إلى ركن من الأركان.. حتى يسادد عنه ويقارب، ويرد عنه كل من يشكيه أو يطالب.

ويترتب على ذلك ضياع الحقوق لاستحالة الشكاية من المظلوم لذلك الظالم المذموم، الذي غالبًا ما يقوم ذلك الحامي له والمسادد عنه من تعويق الشاكي عما يروم، ومداهنته حالاً أو تخويفه وتهديده حالاً آخر، وإن وجد الشاكي قد تسلط بلسانه، ولا بد له من الشكاية من ذلك الظالم إلى سلطانه، دبر عليه وأعكسه في قصده وطلبه، وربما ضُرب وأُهين وحمل في الاعتقال إلى من تظلم في يده وبسببه.

ومن هنا تتولد متوالية الفساد. فمن جملة هذه الأسباب تولد ما طلبه أهل الضعف من البلاد، وكثير من أصحاب الإقطاعات والأجناد، في الركون إلى بعض الأعيان ومن يكن من أهل الشوكة والقرب من السلطان، ليدفع عنهم ما يؤخد من الجبايات. أليس ذلك كله اختلالا، وقواعد قد وضعت على فساد، ووضحت العلة بما ظهر من الحوادث والعلل والأسباب؟

وكذلك فإن الإسدي يعتبر أن من سكت من أهل التدبير والعلم والمعرفة بالأمور عن نصيحة السلطان فهو غاشٌ له خاصة، ولسائر المسلمين كافة، فيعد ذلك من جملة التمكين للفساد؛ لأن ألسنة أهل الغش والتدليس في قوى سمعه متمكنة، والنحوس في رعاياه ودولته متصرفة.

ومن هنا كان هذا الشعار الذي حمله الأسدى: “إن الأبرار يعمرون مسالك الكون والفجَّار يعمرون مسالك الفساد”.

وكذلك من جملة الفساد تصرف الناس حيال الأزمة والابتلاء؛ من ذكر الأسباب الموجبة لحدوث الحوادث التي هي آثار القدرة الإلهية القاهرة، قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾(البقرة:155)، من وقوع الوباء ثم ما أعقبه من غلاء وجوع ونقص في الثمرات ونقص الأموال من أصولها، وعظمت مصائب الحوادث من كثرة المظالم ووقعت موجبات الخوف بعد الأمان، وطالت مدة البأس والغلاء، وعظمت الشدة من الجهد والبلاء، وانكشفت أحوال كثير من الناس في كثير من البلدان، ومع ذلك لم يحدث الارتداع ولا الرجوع عن الطغيان من أقوام هم الأصول في إنشاء أنواع الظلم والعدوان .. لأن الغفلة قد تحكمت، والمفاسد قد استحكمت، والمخاوف قد ازدحمت، وإنما ذلك لضعف الأمر ولنقص الحكم وفساد السياسة وسوء التدبير وظهور أسباب الأذى عن تعمد؛ لكثرة الإهمال وعدم التفقد ووجود التقصير”(43).

كذلك ومن جملة أنواع الفساد “حصول الإهمال والتفريط في إصلاح المكاييل والموازين والنقود؛ لأن بها حصول التمدن والاجتماع .. فإن من تقصير السياسة فساد النقود، وفي فساد النقود دخول الخلل في المعايش والنقص في الأموال والمعاملات، واعتماد التطفيف المنهي عنه في الموازين اعتمادًا على تفاوت القيم، وربما تعدى ذلك للمكاييل في سائر الأنواع والأصناف، فهي من أعظم الأسباب في التطفيف والخسران ودخول الخلل.. وإن أكره الناس على التعامل بالنقود الفاسدة توقفت الأحوال وضاعت الأموال وكثرت الأقوال وتغيرت الأسعار، وحصل التنازع لوجود الاضطراب.

وهذا  من جملة الخلل والفساد في العمارة.

وهو -أي الأسدي- يربط بين الفساد والغش: “فالأصل في ذلك من دسائس أهل الفساد وشياطين الإنس الذين هم الأس في خراب البلاد ومضرة العباد، فإنهم يظهرون للملوك منفعةٌ ما في العاجل ويحصل فيها وبسببها على التدريج مضار كثيرة في الآجل، وغالبًا المصلحة إنما تكون لهؤلاء النحوس فيما يحملونه من تفاوت العباد وتدريج الغش المنحوس؛ لأن الغش إذا أطلق في اليسير سرى وتدرج في الكثير، وصار في ذلك الإمكان لأهل الزغل والفساد، وتدرج الحال إلى أكل الحرام وفساد الأموال في الأرض والبلاد”(44).

إن أصول الهندسة العمرانية في إطار مفاهيم عمرانية أصلية يحركها الأسدي:

مقياس الفساد بين اختزالية مقياس منظمة الشفافية الدولية وسعة مقياس المدرسة الخلدونية.

وقراءة في هذه الجهود تجعلنا نتوقف عند الرابطة بين هذه الجهود المختلفة والمتنوعة في إطار النشاط العالمي لمواجهة الفساد وما يمكن ان تتركه من آثار على تصور مقاييس ظاهرة الفساد، وهذه الجهود وارتباطها بعناصر اقتصادية محضة لتهيئة الدول لممارسة خصخصة اقتصادها، ومن ثم فتبدو تلك الجهود الدولية ضمن منظومة عالمية. ورغم أن الفساد قضية هي بالأساس تتعلق بدواخل الدول دون أن نهمل طابعها الخارجى والدولي، إلا أن عولمة الاهتمام بقضية الفساد تتجلي في أكثر من جانب:

5.    أنه تم ربط ذلك بسياسات اقتصاية بعينها ضمن نشاطات الخصخصة في الداخل وسياسات تحرير التجارة العالمية على المستوى الدولي.

6.    أنه تم الحديث عن الفساد ضمن إطار منظومة القيم الغربية والتي ترتبط بعملية التحول الديمقراطي. وفي هذا المقام، صار الحديث عن حسن الحكم أو الحكم الجيد Governanceوالمساءلة أو المحاسبية Accountabilityوالشفافية Transparency.

7.    أن ذلك أشار -ضمن مفهوم العولمة- وبعد سلسلة من المؤتمرات العالمية شاركت فيها الحكومات والمنظمات غير الحكومية حول (البيئة، حقوق الإنسان، السكان، المرأة، التنمية الاجتماعية، المدن …الخ)، أشار إلى ما يمكن تسميته بصناعة الأجندة. إن نظرة إلى مؤتمر جنوب أفريقيا عن “النـزاهة الدولية” يشير إلى ذلك صراحة في إطار استراتيجية دولية لمقاومة الفساد، ونظرة على محاور المؤتمر تؤكد هذه المعاني؛ أي التركيز على البعد الدولي في إطار متغيرات العولمة، وأجندة تفرضها العولمة في هذا المقام.

8.    أن التاكيد على الجانب الضيق في مكافحة الفساد (ضيق المجال وضيق الهدف أو الفرص) إنما يعبر عن مصلحة الدول القوية المتحكمة في النظام الاقتصادي الدولي، ومن ثم بدا ما يكن تسميته بهذه المكافحة، وصارت منظمة الشفافية الدولية ذات نشاط واسع النطاق خاصة في إطار (البحوث والربط بشبكة دولية للمعلومات تتوافر عن الفساد ….)، والنظر الخاطف على ما ضمناه هذا البحث من ملاحق يشير إلى الدور المحوري الذي تلعبه هذه المنظمة ضمن صناعة أجندة مكافحة الفساد(45).

9.    أنه من المهم أن نشير إلى مقاييس الفساد الواردة ضمن أنشطة المنظمة الدولية للشفافية، فإن هذه المقاييس ووفق عناصر التضييق في فهم الفساد تمارس مصالح ترتبط بالأنشطة المتعلقة بالسوق والمجال الاقتصادي، ومن هنا فإن مقاييس الفساد قد بنيت على أساس من عينة تتعلق بأعمال “البيزنس”(!) وهو أمر نظن أنه معيب من الناحية المنهجية، فالأغراض المتعلقة بصناعة الرؤية واضحة. وما يؤكد أن إهمال الإصلاح الشامل والمجتمعي في قبالة الفساد الشامل أمر ليس موضع اهتمام مثل هذه المؤسسات المختلفة (46).

10.           مؤسسات مثل الصندوق الدولي أو البنك الدولي، والتي روجت لنمط اقتصاد معين ومسار مرغوبات عملية التنمية، يحرك معاني معينة للإصلاح الاقتصادي، وهو بالتالي يتحرك صوب معان معينة للفساد ترتبط بهذا الجانب، وربما لا تتعداه. فضلاً عن أن هذه المؤسسات التى تقود برامج التكيف الهيكلي، وفي نطاق تحرير التجارة الدولية، وإعداد المنظومة العالمية للتحول إلى سوق كبير إنما يعبر عن قسمة ضيزي في هذا المقام، فإن النظر إلى التكوينات الشائهة للنظام الاقتصادي الدولي وسلسلة معادلاته الظالمة التى تحكم العلاقات فيه، إنما تعبر عن معنى “فساد دولي” يشير إلى أكثر من مؤشر دال على الاختلالات الهيكلية داخل هذا النظام الاقتصادي الدولي، وتحل معاني الطغيان ومجاوزة الحد لمجموعة من الدول القوية (الدول الصناعية الكبرى) والتي تشكل إعادة صياغة المنظومة الدولية مبقية على تلك التشوهات الهيكلية والمعادلات الشائهة (47).

ومن هنا فإن هذا التصور الذي يبقي على الفساد الكبير في المنظومة الدولية، ويعالج ما يمس تمكينه من الفساد الصغير، يعبر -وبأقصى درجة- عن منطق مزدوج في رؤية الفساد لا زالت تزكي منطق النظر إلى الفساد من الرؤية الإسلامية، وما نظن أن التعريفات الفاسدة للفساد والخطاب الشائع الفاسد حول الفساد له من التأثير في هذا المقام الذي يقدم رؤية كلية للفساد وتتسم في عناصرها وتكوينها بالفساد.

وربما هذا يذكرنا بقصة يمكننا أن نشير إليها ضمن عناصر الفساد الكبير والفساد الصغير والعلاقة فيما بينهما، إلا أن إيراد هذه القصة -ونحن بصدد تقويم الجهود الدولية- لا يضفي شرعية أو حجية على الفساد في الدول القوية، ولكنه أولى بالمتابعة، وكون أننا ننبه إلى التشوهات الدولية لا يعني بحال أننا نهمل الداخل، بل إن فساد الداخل هو الذي يمكّن لفساد الخارج، ويشكل قابليات له على ما يؤكد ما لك بن نبي رحمة الله عليه(110).

يبدو لنا أن الحكاية التي ضمنها نعوم تشومسكي كتابه عن “الإرهاب الدولي: الأسطورة والواقع” لها دلالة على ما نحن فيه في موضوع الفساد:

“يحكي القديس أوغسطين قصة قرصان أسره الإسكندر الأكبر، وسأله: “كيف تجرؤ على الاعتداء على الناس في البحار”؟ فأجاب القرصان: وكيف تجرؤ أنت على الاعتداء على العالم بأسره؟ ألأنني أقوم بذلك بسفينة صغيرة فحسب أُدعَى لصًا، أما أنت ولأنك تقوم بالشيء نفسه بأسطول كبير فيدعونك إمبراطورًا!؟”(111).

إن هذه الحكاية التي تلقي بظلالها على مفهوم الفساد، ما بين الفساد الصغير والفساد الكبير، إنما تعبر عن رؤية لا زالت تروج حول منهج النظر لقضية الفساد، وهو أمر -كما يبين من سياق هذه الحكاية- يفتقد المنطق ويفتقد إلى العدل ويخرج عن حد الاستقامة.

وفي هذا السياق يمكننا قراءة ما كتب الفساد ضمن التقرير الذي يصدره البنك الدولي: (تقرير عن التنمية في العالم 1997)، والذي تخير البنك له عنوانًا: “الدولة في عالم متغير”، وقد كان الحديث عن الفساد في الفصل السادس: “الحد من الفساد والتصرفات التحكمية للدولة”(48). والإنصاف كان يقتضي الحديث عن الفساد الكبير قبل الصغير، وإمكانات إصلاح الفساد عامة في كليته وشموله بما يمكن لعمليات الإصلاح الكلي والشامل.

وتثير إشكالية الفساد ومعالجتها على هذا النحو تساؤلات عميقة وموضوعية وعلمية -على حد تعبير أحد الباحثين، هذه التساؤلات لا ترتبط فقط بمسؤلية المجتمع الدولي ممثلاً في منظماته وهيئاته الدولية عن مساندة الشفافية وتعميقها، ولكنها ترتبط بالمشاركة الدولية في تغييب الشفافية وتقديم مؤشرات مضللة يفترض في الأساس أنها مؤشرات موثوق بها ويمكن الاعتماد عليها برجة عالية من الثقة والاطمئنان في ضوء ما تملكه المنظمات والهيئات الدولية من قدرات للنفاذ إلى الوقائع والأحداث والإحصائيات والمعلومات والبيانات عن الدول وأوضاعها وأحوالها، وعن المعاملات الدولية وتدفقاتها وتوجهاتها. هذه المعلومات تفوق إمكانيات الجامعات ومراكز البحث العلمي.

والأكثر خطورة هو طرح التساؤل المرتبط بمصداقية التحليل والتقييم الصادرة عن الهيئات والمؤسسات والمنظمات الدولية الكبرى، وفي مقدمتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (113).

حتى إن البعض قد يعتبر -وفق نظرية الإمبراطور الكبير والقرصان الصغير- أن ما صدر عن المؤسسات والمنظمات الدولية يدفع بها إلى أن تصبح مظلة لمنظومة الفساد وتحرك عناصر بحث في الفساد الكبير الذي يشكل معايير النظام الدولي الجديد(114).

إنها المقارنه التي تضع المفسد في وضع المصلح: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {2/11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 11-12)( 115 ).

استندت فكرة مقياس الفساد لمؤسسة الشفافية الدولية على القيام باستطلاعات رأي لعدد من رجال الأعمال للتعرف على طبيعة المعاملات المالية اللازمة لإنجاز الأعمال؛ ومن هنا يمكن الكشف عن عدة مصادر للقصور:-

– فلسفة المقياس:فهو جزء من المنظومة الليبرالية في شقها الاقتصادي المتعلق بالنموذج الرأسمالي المراد تعميمه من خلال سياسات التكيف الهيكلي والتثبيت الاقتصادي.

– متوالية الاختزال والاستسهال: فهو مقياس قاصر على الجانب الاقتصادي، وشريحة قطاع الأعمال، ناهيك عن الشكوك المثارة حول طبيعة الأسئلة المثارة عند الاضطلاع بمهام استطلاع الرأي.

– المقياس قائم على قاعدة التنقيص: فجزء من مصداقية المقياس ألا يقوم على قاعدة التنقيص، فالمقياس هنا أشبه بما دعت إليه السلوكية الفجة وفلسفة الوضعية المنطقية في العلم التي جعلت من القياس هدفا في حد ذاته.

– تحيز المقياس للنموذج الغربي.

– الخلط بين المقياس والمادة المُقاسة:فالمقياس هنا عمل على تحييز الظاهرة، فما الحال إن كان رجال الأعمال جزءًا من منظومة (شبكة) الفساد على نحو ما هو شائع في دول العالم الثالث؟

ثانياً:- ظاهرة الفساد: السمات وصعوبة القياس:-

–         الفساد من الظواهر المستورة المسكوت عنها سواء من صاحب المصلحة أو من الشركاء، أو نتيجة الخوف من أهل السلطة وخاصةً عند الحديث عن الفساد الكبير.

–         الانتقائية والمساومة في الكشف عن الفساد.

–         شبكية ومؤسسية الفساد الكبير على نحو يصعب الكشف عنه.

–          المؤسسات الرقابية ذات طبيعة تنفيذية.

–          عمق الظاهرة، فلا يُكشف إلا عن قشور الظاهرة.

ثالثاً:- معايير بناء المقياس:

هناك معياران أساسيان وضعتها أدبيات مناهج البحث الغربية ولم يطبقها الغرب عند وضعه للمقاييس: أحدهما- يتعلق بالمحتوى (الصدق)؛ حيث يتعين الابتعاد عن الاختزالية، والآخر- يتعلق بالتطبيق (الكفاءة) فلا بد من الابتعاد عن الاستسهال. ولا شك أن (التعرف الصحيح) مقدمة للمقياس الصحيح، وكذلك بالنسبة إلى الاستناد إلى (الإطار النظري الجامع).

رابعاً:- ابن خلدون والحديث عن الفساد في المقدمة(50):

–         فصل في الجباية وسبب قلتها وكثرتها.

–         فصل في المكوس في أواخر عهد الدولة.

–         فصل في التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية.

–         فصل في أن ثروة السلطان وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة.

–         فصل في نزوع كثير من أهل الدولة لتسلم أموالهم من المصادرات.

–         فصل في: نقص العطاء من السلطان نقص من الجباية.

      أحاط ابن خلدون الظاهرة بعدد من الشروط المعنوية والكلية فكتب فصلاً في أن “الظلم مؤذن بخراب العمران”.

جعل ابن خلدون عددًا من الظواهر دالة في الفساد مثل: كثرة الجباية، وزيادة معدلات البطالة، القصور في قيام الدولة بوظائفها الخمس (حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال) على أساس أنها وظائف أساسية لمعاش الأفراد، والاعتداء على الناس في أموالهم ودمائهم وأسرارهم، وظاهرة الهَرج، وزيادة الفقر والترف.

* فقد وضع ابن خلدون العديد من القوانين التي يمكن تحويلها لمؤشرات الصلاح والفساد.

* وكذلك فقد طرح مجموعة من الأفكار يمكن تحويلها إلى فروض قابلة للاختبار. وهو ما يمكن أن يُطلق عليه “متوالية المؤشرات” أو “توليد المؤشرات”.

بدايةً تجدر الإشارة إلى ملاحظة أولية مفادها؛ ضرورة الأخذ في الاعتبار الارتباط الوثيق بين بنية مفهوم الفساد والإصلاح، وبنية مفهوم السياسة . فالسياسة وفقاً للتعريف الذي طرحه ابن القيِّم: “هي ما كانت معه الأمور أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد”. ومن هنا يمكن الكشف عن الحقيقة المركبة غير النقية للفساد حيث ارتباطه بالإصلاح فمن الخطأ الاعتماد على مقياس مستقل للفساد بغض النظر عن مقياس الإصلاح، وكذلك التدرجية حيث يتعين النظر للظاهرة على متصل –الذي هو بالأساس فكرة قياسية- يمثل الفساد أحد طرفيه والإصلاح الطرف الآخر. ولذا يتعين ابتكار مقياس مركب من الفساد والإصلاح {مقياس التدافع}

الـصـــــلاح                               الـفــــــساد

فالسياسة بهذا الاعتبار جهد واجتهاد لتكون معه الأمور (أقرب) على متصل النشاط البشري ومجاله السياسي إلى الصلاح، وفي حال قربه من الصلاح فهو بالضرورة (أبعد) على ما ينبغي ذات المتصل من الفساد، وهذه حال من المقاربة والمقارنة بين الصلاح والفساد، والبعد والقرب.

ومن هنا فقد ارتبط ذلك بعملية القيام على الأمر بما يصلحه، وبمنطق المخالفة: “لا بما يفسده”. وفعل القيام وأحواله من الأموار الدالة على الفاعلية وتوسل كل ما يؤدي إليها، بل إن من جملة “القيام على الأمر” المدافعة للفساد الذي ينافي الصلاح أو ينفيه، يقوضه أو ينقضه.

السياسة تحري “نظر” و”فعل” الصلاح، ومدافعة “نظر” و”فعل” الفساد.

هذا الاقتران يجعل من الضروري الأخذ بتشكيل “المقياس” المقارِن بين “الفساد” و”المقاصد العامة الكلية”:

من أهم مكونات المدخل المقاصدي الذي تولد عن الشريعة مفاهيم مقارنة تغذي الفهم السابق لمفهوم السياسة من مثل “درء المفسدة” و”جلب المصلحة”، و”دفع المضرة” و”اجتلاب المنفعة”. وأيا ما كان الاستخدام، فإن “الدرء” و”الدفع” وكذلك “الجلب” و”الاجتلاب” هو مناط عملية الحفظ التي تسبق المجالات الجديرة بالحفظ في نشاط الإنسان لمحوريتها في بناء حركته الحضارية والعمرانية:

الدين والنفس والنسل والعقل والمال

وهو أمر قد يشير إلى معنى الحفظ السلبي بـ”الدرء والدفع” والحفظ الإيجابي “بالجلب والسعي”، وهي من الجوانب المكملة والمتكاملة لمستويين من الحفظ، والاختلال في عملية الحفظ لابد أنه يشكل “المضرة” أو “المفسدة”، ومرة أخرى فإن هذا الاقتران يدفعنا دفعات باتجاه بناء المقياس المقارن.

ووفق القواعد الكلية فإن الضرر إنما يشكل النتيجة المحققة والمتحصلة عن وقوع الفساد أو تمكنه؛ ومن هنا كانت تلك القواعد من الممكن صياغتها إما بلفظ الضرر أو بلفظ الفساد.

كل ذلك يأتي مسبوقًًا بقاعدة كلية ابتدائية: “دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة                      

(المضرة)              (المنفعة).

ومن هنا يمكن أن يُولِّد هذا “المدخل المقاصدي” مقاييس الحفظ للمجالات الأساسية، كما يمكن أن يشتق منه ميزان لوزن المفاسد ومدى خطورتها، والمصالح ومدى جوهريتها: (الضروري والحاجي والتحسيني أو التكميلي). وهو ما يمكن ملاحظة في هذا الجدول السابق الذي يشكل مقياسًا للتدافع وجب أن يكون ضمن معمار بناء مقياس مركب للفساد(51).

*اتساع مفهوم الفساد وسعة مقاييسه

قد يحاول البعض -سيرا على ضرورة بناء المقاييس وجعلها غاية علمية في ذاتها- أن يؤدي بهم ذلك إلى عمليات في غاية الخطورة:

– التبسيط في مقابل التعقيد.

– الاخترال في مقابل التركيب.

– التضييق في مقابل التوسعة.

وعلى ما يقول علال الفاسي: بين “الأرقام” تتوه القضايا الكبرى، فإن ترجمة بعض الأمور إلى صياغات رقمية في إطار العمليات “الإجرائية”، وتحويل التعريفات الإجرائية إلى تأشيرات وتحويل التأشيرات إلى أرقام، هي عمليات -إن لم تتسم بقدر من الحبكة المنهجية- في اختيار المؤشر ومدى ملاءمته ومناسبته، والمؤشر ومدى صدقيته، والمؤشرات ومدى فاعليتها (كفاءة وكفاية)، فإنها قد تصير إلى عكس المقصود في بيان الظاهرة موضع البحث، فقد يزيفها أو يتخير ويختزل بعض جوانبها في أشكال هامشية لا تمثل جوهر الظاهر أو نواتها الصلبة، بل قد تنعلق بالهامشي منها أو التافه فيها لا لشيء إلا لأن ذلك أكثر مناطقها قابلية للقياس.

ومن هنا فإن النظر إلى الفساد -كمفهوم منظومي- واجب ويجب ألا يُصادر هذا الوصف عند تعريفه إجرائيًا. فإن تضييق مفهوم الفساد فساد، وما اجتمعت من كلمات لتبرير أمرٍ مثلما اجتمعت لهذه الكلمة، وسكنت فيها إما لتسويغ له، أو تهوين لخلل طرأ، أو غفلة وإغفال لأمر جلل. (الفساد قديم قدم الزمان، الفساد موجود في كل مكان، الفساد يمكن توظيفه “الفساد الوظيفي”) وهذا لعمري فساد في الحجة، وإثبات لأمر لا يجوز تحسينه أو تمريره في العقول أو المنقول، في العقل أو في الشرع.

فقدم الفساد لا ينفي قبحه، وشيوعه لا يمكنه من شرعيته ولا يمده بحجية، ووظيفية الفساد (في النظرية الوظيفية) ليس إلا تمكينا له وتسويغا لوجوده واستمراره.

وفي هذا السياق يجب النظر إلى أن اتساع مفهوم الفساد هو المفضي إلى ضرورة توسعة مقاييسه.

المدرسة الخلدونية: تأشيرات، فهل يمكن تحويلها إلى مؤشرات؟!!

لم نعرف في تراثنا ومعاصرنا مَن يمكن نسبتهم إلى المدرسة الخلدونية خيرًا من هؤلاء: الأسدي، والمقريزي، والكواكبي، والبشري.

هذه التأشيرات التي تتكامل ضمن المدرسة الخلدونية إنما تحاول الربط بين الفساد كمفهوم شامل، وحال الأزمة الكاشف عن الفساد وعمليات تغلغله وشيوعه، والاستبداد لا يترعرع إلا في بيئة فساد ولا ينتج إلا فسادًا.

 

                                         

هذه الحبكة الخلدونية التي تلحظها في تأشيراته حول “الظلم مؤذن بخراب العمران” و”الترف مؤذن بخراب العمران” إنما تحيلنا إلى المقياس المركب للفساد كما يشير إليه ابن خلدون.

* مقياس الاستبداد والظلم وما ينتجه من حالات استبداد.

* مقياس الجباية وأثره في صناعة تريد من الظلم والترف.

* “مقياس الترف” والذي يشير إلى عناصر ومستويات عدة منها ما يتعلق بالسلطة ومنها ما يتعلق بالمجتمع. وحال الفسق التي تعمّ المجتمع (وهي التي تشير إلى الفساد الظاهر، وعملية تأسيسه داخل المجتمع، الفساد يصير بذلك مؤسسانيا تحرك شبكية وتقارنها شبكية الاستبداد، إنها عناصر متداخلة تستحق وفقًا لهذا التصور مقياسًا شبكيًا يليق بهذه المجالات واستطراقها مع بعضها البعض.

ضمن هذه الرؤى الشبكية تأتي محاولة الأسدي في كتابٍ أسماه “التيسير والاعتبار والتحرير والاختبار فيما يجب من حسن التدبير والتصرف والاختيار”، إن ملاحظة العنوان تؤكد معاني يتصدرها الاعتبار الواجب بخبرات الأمم السابقة حول “العدل” و”الفساد”، ويختتمها بعمليتين: إحداهما التدبير السياسي والتصرف، والثانية اتخاذ القرار. والأسدي يتحدث في أرجاء كتابه عن “الوضع الاقتصادي السيء، وسوء الأداة الحكومية والإدراية في عصره، والضائقة المالية والأخلاقية التي يعانيها، بسبب الغلاء الفاحش وبسببب كثرة الضرائب والمكوس على التجارة، وبسبب العبء الفادح الواقع على كاهل الفلاحين بصفة خاصة حتى هجروا أراضيهم، والواقع أيضًا على أصحاب الحرف بصفة عامة، ينضاف إلى ذلك كله فساد العُملة والموازين والمكاييل، وفساد التعامل من الاحتكار والتحجير على الغِلال وعلى كثير من التجارات، ثم يتحدث عن فساد الأداة الحكومية (الفساد الإداري، وسببه: من إهمال الموظفين الناتج عن إهمال الرؤساء في مراقبتهم ومحاسبتهم على أعمالهم..الخ).

ويؤصل في مقدمة الكتاب الأسباب المرجعية للنصيحة التي يقدمها بسبب انتشار الفساد في مصر في عصره (الدولة المملوكية)، ثم يذكر بعض أسباب هذا الفساد.. ويرد هذا الفساد في مصر إلى أربعة أسباب (ومن جنسها يمكن زيادتها عند بناء المقياس)؛ وهي: إهمال الزراعة، وإفساد العربان، والظلم الواقع على الفلاحين، وبيع الوظائف الحكومية.. ثم يدعو إلى الاهتمام بالصالح العام وبالشعب وإزالة أسباب الفساد بحسن التدبير والسياسة؛ فقدم -على ما نظن- تأشيرات على مؤشرات إيجابية لمناهضة الفساد، أهمها الاعتماد في تصريف شئون الدولة على الصالحين الأكفاء، وعدم الاستهانة بصغائر الأمور (مما يمكن تسميته بالفساد الصغير)..

كما يتحدث عن فساد التعامل فيما يتعلق بالغلاء والبلاء والحروب، والفتن وكيفية التدبير للتذرع والخلاص من البلايا والمحن”. ويتحدث في هذا الباب عن التلاعب بالموازين والمكاييل.. ذلك أن التلاعب بالعُملة هو أس الفساد والعامل الأول للخراب.. وفي مقابل ذلك يهتم بعمل إيجابي أسماه التفقد (الرقابة) خاصة لأصحاب الولايات العامة والموظفين “.. ففي إهمال تفقدهم إهمالهم في أعمالهم.. ويعزو المؤلف سبب انتشار الرشوة بين الموظفين وظلمهم للفلاحين إلى قلة مرتباتهم، وعلاجه لهذا الداء يكمن في “كفاية” الموظفين ليتعففوا عن الرشوة ويمتنعوا عن الظلم، لو “تقرر لكل واحد منهم ما يكفيه من إقطاع وديوان، لما تجاسر على تعدي الحدود أبدًا…”

ضمن هذه الرؤية التأصيلية يقدم الأسدي عناصر مهمة تشير إلى شبكة الفساد واتساع مفهومه، لا شك أنها تؤثر على صياغة المقاييس المختلفة.

وها هو المقريزي يعضد هذه الشبكة الخلدونية والتأصيلات الأسدية للفساد فيربط بين الفساد في الأزمات، وذكر أقسام الناس وأصنافهم وبيان جملٍ من أحوالهم وأوصافهم. وهي أمور قد تشير إلى جملة مركبة من المقاييس النوعية فهذه مقاييس تخص أهل الدولة، وتلك تخص أهل اليسار من التجار (رجال الأعمال)، وثالثة تخص أولي النعمة من ذوي الرفاهية، ويكملها قسم الباعة وهم متوسطو الحال من التجار ويلحق بهم أصحاب المعايش، وهم السوقة، وقسم آخر أهل الغلة وهم أهل الزراعات والحرث، سكان القرى والريف، والقسم الخامس الفقراء وهم جل الفقهاء وطلاب العلم والكثير من أجناد الخلق ونحوهم، والقسم السادس أرباب الصنائع والأجراء وأصحاب المهن، والقسم السابع ذوو الحاجة والمسكنة وهم السُؤَّال الذين يتكففون الناس ويعيشون منهم.

بل هو يحاول أن يربط بين الفاسدين وموقفهم من عملية الإصلاح في فصل نفيس في بيان محاسن هذا التدبير العائد نفعه على الجم الغفير.. “ولعمرى لا يجهل.. ويجحد.. من له أقل حظ من تمييز وأنزر نزر من شعور إلا من قصد أن يخون عمد الله وأمانته في ما استرعاه من أمور عباده بإظهار الفساد وإهلاك العباد”.

“.. اعلم أنه قد تبين بما تقدم أن الحال في فساد الأمور إنما هو سوء التدبير لا غلاء الأسعار..”.

وضمن هذه الرؤية يؤكد على الفساد في التصرف في الأموال، بعدما أشار إلى فساد الجهاز الإداري وسوء تدبيره “.. وبالضرورة يدري كل ذي حس وإن بلغ في الجهل الغاية من الغباء، أن المال إنما يؤخذ غالبًا من خراج الأراضي أو أثمان المبيعات أو قيم الأعمال، أو من وجوه البر والصلات، وأنه لابد أن يعرف في الأمور الحاجية وسائر الأغراض البشرية، إما على وجه الاقتصاد، أو في سبيل السرف والتبذير”.

غاية أمر المقريزي أن يؤكد من غير مواربة: “.. أن ما بالناس –حتى في حال الأزمة- سوى سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد، إلا أنه كما مر من الغلوات وانقضى من السنوات المهلكات. إلا أن ذلك يحتاج إلى إيضاح وبيان ويقتضي الشرح والتبيان. فعزمت على ذكر الأسباب التي نشأ منها هذا الأمر الفظيع، وكيف تمادى بالبلاد والعباد هذا المصاب الشنيع، وأحتم القول بذكر ما يزيل هذا الداء ويرفع البلاء… إذ الأمور كلها –وجلها- إن عرفت أسبابها سهل على الخبير صلاحها..”.

إن تبين الأزمات الكاشفة واستقاء مقاييس ومؤشرات تقيس سلوك الناس والسلطان والعلاقات المتنوعة لتؤشر على الفساد الكامن الذي انكشف بحال الأزمة والغمة.

هذه الرؤى المختلفة إنما تتساند وتتكافل في رؤية قضية الفساد وتركيبها، وقياساته وتعقيدها، وهذا بعض البيان فيما يقتضيه الحال نقدم فيه مرئيات ابن خلدون في مقدمته نموذجًا في هذا المقام(52).

ابن خلدون ومقياس الفساد(53):

في هذا السياق نستطيع أن نقول -في ضوء تعريف الفساد بالمفهوم الشامل ونظرية الفساد التي تحدث عنها الأسدي بأشكالها وأسبابها وعلاماتها- فإن ابن خلدون يقدم رؤية شبكية للفساد تتحرك صوب مقياس مركب يكافىء الظاهرة ويتعامل معها بكفاءة قصوى.

ومن تركيب هذا المقياس يبدو لدينا أنه لا يمكن بأي حال فصل الفساد عن محاضنه وأسبابه والشروط المعنوية والأخلاقية التي تمكن له، فضلاً عن بنية الاستبداد التي تكون مرتعًا خصبًا لعمليات الفساد والإفساد؛ ومن هنا فإن ابن خلدون يشير إلى مقياس يتركب من عناصر خمسة غاية في الأهمية:

العنصر الأول- فساد الحالة الجبائية:وهو يتعرض لهذا الأمر في فصلين مهمين: أحدهما في الجباية وسبب قلتها وكثرتها، والآخر في ضرب المكوس أواخر الدولة. وهو في هذا المقام يقدم جملة من الفروض الخبرية التي يجب التوقف عندها لقياس الفساد.

” فالجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة، وآخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة ” … ذلك أنه إذا قلت الوزائع والوظائف على الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيه فيكثر الاعتمار ويتزايد لحصول الاغتباط بقلة المغرم وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع، فكثرت الجباية التي هي جملتها”.

أما الافتراض الثاني فيقوم على قاعة من تخلف أهل الدولة بخلق التحذلق “وتكثرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف فيكثرون الوظائف والوزائع ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقدارًا عظيمًا لتكثر لهم الجباية ويضعون المكوس على المبايعات، ثم تندرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرج عوائد الدولة في الترف وكثرة الحاجات والارتفاق بسببه”.

أما الافتراض الثالث فإن كثرة الجباية تثقل المغارم على الرعايا وتهضهم وتصير عادة مفروضة لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً ولم يشعر أحد من زادها على التعيين ولا من هو واضعها، إنما تثبت على الرعايا كأنها عادة مفروضة ثم تزيد إلى الخروج عن حد الاعتدال فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم لقلة النفع، إذا قابل بين نفعه ومغارمه، وبين ثمرته وفائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة، فتنقص جملة الجباية حينئذ .

أما الافتراض الرابع فلا تزال الجملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها، إلى أن ينتقض العمران بذهاب الآمال من الاعتمار ويعود وبال ذلك على الدولة.

أما الافتراض الخامس: فـ”حينما يكثر خراج السلطان خصوصًا كثرة بالغة بنفقته في خاصته وكثر عطائه ولا تفي بذلك الجباية فتحتاج الدولة إلى زيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء والسلطان من النفقة، ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية ويدرك الدولة الهرم …. فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدولة، ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضحمل”.

هذا فيما يتعلق بمقاييس وافتراضات الحالة الجبائية. وتصور ذلك في عصرنا يمكن أن يترجم إلى مجموعة من المؤشرات التي ترتبط بالسياسة المالية للدولة وسياسات الضرائب والجمارك وأشكال التهرب الضريبي وأشكال الفساد والرشوة التي تتعلق بمثل هذه الجوانب المالية. هذه المؤشرات تمثل حزمة ضمن منظومة مؤشرات الفساد في هذا المقام.

أما العنصر الثاني فيتعلق بفساد السلطان بدخوله مجال التجارة وغير ذلك من استغلال المنصب العام لأغراض ومنافع خاصة. وهو ما يعني -ضمن الأدبيات الحديثة- من الحديث عن الفساد الكبير، ومن الأهمية بمكان أن نشير كذلك إلى إمكانيات فساد في إطار العلاقة بين السلطان ورجال الأعمال والتجارة، وهو في هذا المقام يشير إلى فساد يتعلق بعمل السلطات بالتجارة، وإلى فساد رجال الأعمال حينما يعملون بالسياسة، وإلى تحالف أهل الدولة والسلطة ورجال الأعمال.

كل ذلك إنما يدل على مجالات فساد يجب الفطنة إليها ضمن هذا الفصل النفيس: “في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية”، وهو يقدم افتراضا غاية في الأهمية: أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه بين الترف وكثرة العوائد والنفقات وقصر الحاصل من جبايتها عن الوفاء بحاجاتها ونفقاتها، واحتاجت إلى مزيد من المال والجباية فتارة توضع المكوس إن كان قد استحدث من قبل، وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم ما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان، وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسكان على تسمية الجباية. وهم فى ذلك يحسبون أن ذلك من إدارة الجباية وتكثير الفوائد، فهذا غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة”.

ويقدم ابن خلدون فى فصل مهم آخر أن نقص العطاء من السلطان نقص فى الجباية حينما يؤكد على افتراض لا يقل أهمية عن سابقه من أنه إذا احتجز السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها فى مصارفها قل حينئذ ما فى أيدي الحاشية والحامية وهم… معظم السواد، فيقع الكساد حينئذ فى الأسواق وذلك أن المال إنما هو متردد ما بين الرعية والسلطان، منهم إليه، ومنه إليهم، فإذا حبسه السطان عنده فقدته الرعية”.

أما العنصر الثالث فهو الذي يتعلق بالمؤشرات التي ترتبط بالحالة الترفية، وما تؤدي إليه هذه الحالة من الدعة والسكون، فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب التي كانوا يتكلفونها في طلبه وآثروا الراحة والسكون والدعة ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس، فيبنون القصور ويستمتعون بأحوال الدنيا ويؤثرن الراحة على المتاعب، ويتأنقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم ولا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يتأذن الله بأمره.

ومن جملة ذلك أن الفقير منهم يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه ويقصر العطاء كله عن الترف وعوائده.. فالترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها فتذهب منهم خلال الخير.. ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر.. فتكون علامة على الإدبار والانقراض، بما جعل الله من ذلك في خليقته، وتأخذ الدولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها.. فتضعف حمايهم ويذهب بأسهم.. ويعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس من ثياب الهرم.

ومن هنا إذا كان الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها فإن الدولة لا تبقى على حالها من القوة فتختلف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار، فإذا ذهب الأصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب ويتلاشى ولا تبقى الدولة على حالها من القوة. ومن هنا يكون الطور الأخير الذي يتشكل ضمن مؤشرات للإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جمع.. في سبيل الشهوات والملاذ وغير ذلك من مؤشرات تدل على حالة الفساد الترفية.

أما العنصر الرابع فإنه يتعلق بمؤشرات غاية في الأهمية، وهي في حالة جامعة بين شبكية الفساد والاستبداد وتقصير التدبير في وظائف الدولة وأصول العمران الذي هو من جملة مؤشرات الفساد. والجامعية في هذا المقام تتضمن شروطا لا تجعل من الفساد حالة مادية فقط وإنما تعتبر الجوانب الخاصة المعنوية من بيئة الفساد والتخلق بأخلاقه حالة تستدعي من الباحث عن مقياس للفساد أن يتأمل ويتفحص: “اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهى بها من أيديهم”.

وفى هذا السياق فإنه إذا ذهبت الآمال في الاكتساب والتحصيل انقبضت أيدي الرعايا عن العمل والسعي، وفى هذا المقام فإن زيادة معدلات البطالة إنما تعد مؤشرًا لا يمكن إغفاله في مؤشرات تدل على الفساد.

إن زيادة البطالة تعبر عن حالة فساد عميقة في الاجتماع والعمران، ومن جملة ما يشير إليه ابن خلدون في حالة تعبر عن وعيه بضرورة القياس في هذا الشأن. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيرًا عامًا في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه الآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيرًا كان الانقباض عن الكسب على نسبته، ومن هنا وجب البحث في صور العمران وصور الفساد التي تطرأ عليه لأنها كما يقول ابن خلدون (صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة).

ويركب ابن خلدون هذا المقياس حينما يعيد تعريف الظلم وما يترتب عليه من فساد؛ من أنه هو أخذ المال أو الملك من يدي أهله من غير عوض ولا سبب كما هو المشهود، بل الظلم أعم من ذلك، “فكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عملة أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه”.

فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصَّاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله.

ويستكمل ابن خلدون مقياسه المركب لحالة الظلم والعدوان والاستبداد المفضية إلى الفساد بالحديث عن أصول العمران في سياق يستدعي فيه مقياسًا يتعلق بالمقاصد الكلية العامة للشريعة من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال؛ بحيث يجمع إلى المقياس الأول ميزان المصالح وميزان الأضرار: “واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ثبت عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري؛ وهي الحكمة العامة المراعاة للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال”، فلما كان الظلم -كما رأيت- مؤذنًا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان تحريمه مهمًا”.

ذلك أن الظلم لا يقدر عليه إلا من لا يُقدر عليه؛ لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان.. إنما تعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب… ومن أشد الظلمات وأعظمها في فساد العمران تكليف الأعمال وتخسير الرعايا بغير حق.. فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخريًا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك وهو متمولهم، فدخل عليهم الضرر وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل ذهب معاشهم بالجملة، وإن تكرر ذلك أفسد آمالهم في العمارة وفقدوا من السعي فيها جملة، فأدى ذلك إلى انتفاض العمران وتخريبه.

وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع.. وقد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة والواردين في الأوقاف من البضائع.. فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات، وتتوالى على الساعات، وتجحف برؤوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح، ويتثاقل الواردون من الآفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك، فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرعايا، لأن عامتهم من البيع والشراء، وإذا كانت الأسواق عطلاً منها بطل معاشهم وتنقص جباية السلطان أو تفسد، ويؤول ذلك إلى تلاشى الدولة وفساد عمران المدينة ويطرق هذا الخطر على التدريج ولا يشعر به.

وكذلك من الفساد الذي يطرأ على هذا الأمر هو الفساد في تقدير حقوق الإنسان الأساسية والتأسيسية فيقول: “هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال. وأما أخذها مجانًا والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأغراضهم. فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدولة سريعًا لما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض، وانتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش”.

وضمن هذه الشبكة التي تربط بين الاستبداد والفساد وحال الفسق في الأخلاق والترف يكون هذا المقياس المركب.

“واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال، فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة، فيستحدثون ألقابًا ووجوها يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج ثم لا يزال الترف يزيد والخروج بسببه يزيد بكثير، “الحاجة إلى أموال الناس تشتتد، ونطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تنمحى دائراتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها”.

الشاكلة العمرانية: الترف – الفساد- الظلم(55)

هذه الدورة السننية تشير بل وتسهم في التعرف والتفهم لكل ما يتعلق بأصول السنه وتصنيفها وارتباطاتها، خاصة حينما تشير إلى السنة العمدة:

فالنظر إلى الدور السننية والرابطة السننية والمنظومة السننية تعبير عن عمق تفكير ابن خلدون بالسنن، ولنتعلم منه في هذا الباب من المهم أن نفتح باب القراءة المتواصلة لاكتشاف ابن خلدون لا هدمه أو تمثل عرضه البحثي والتأليفي. ومن المهم أن نؤسس علم السنن الذي أشار ابن خلدون لأهمية وضرورة المراكمة عليه.

ويتضح من تلك الشبكية الخلدونية أنه كان عليه أن يقدم إضافة للإطار النظري إمكانات تحرك التشابك بين الترف والجباية والاستبداد والفساد والظلم، لم تكن تلك الشبكة لدى ابن خلدون إلا في ذلك الناظم السنني.

هذه الرؤى المتكاملة والمتساندة التي تقدمها المدرسة الخلدونية بامتداداتها توضح -فضلاً عن شمول تصور ظاهرة الفساد وشبكية وتراكب مقاييسه- إمكانات هائلة يمكن أن يراكم عليها في الجماعة العلمية التي تهتم بمعايشة التراث الإسلامي وتثق في رؤية مدرسته العمرانية التي يمثلها ابن خلدون وزملاؤه وتلاميذه ضمن ما يعرف بضرورات القراءة الإيجابية للتراث ننفض بها كل آثار تلك القراءات السلبية التي لم تحسن إلا تشويه ذلك التراث وحرث الأرض لإحداث قطيعة معرفية معه.

والله أعلم

الهوامش

1.        انظر فى آلية الاستدعاء عند تحليل النصوص والجمع فيما بينهما:

سيف الدين عبد الفتاح ، إشكالية التعامل مع السلطة : دراسة فى نصوص تراثية ومنهجية مقترحة ، سلسلة بحوث سياسية ، (114) ، القاهرة :كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، مركز البحوث والدراسات السياسية ، 1997 ، ص4 .

سيف الدين عبد الفتاح ، العلاقة بين العروبة والاسلام (تحليل نص: عن العروبة والاسلام)، ضمن ندوة (من حملة مشاعل التقدم العربى : عصمت سيف الدولة ، محمد عبد الشفيع عيسى (محرر) ، بيروت القاهرة : (مركز دراسات الوحدة العربية المركز العربى لبحوث التنمية والمستقبل 2001)، ص57 – ص58 .

2.        انظر شبكة الاسنادات الرجعية محاولاتنا فى الربط بين عناصر المرجعية المختلفة فى: سيف الدين عبد الفتاح، مدخل القيم إطار مرجعى لدراسة العلاقات الدولية فى الاسلام ، ضمن مشروع العلاقات الدولية فى الاسلام () ، القاهرة : المعهد العالمى للفكر الإسلامى، 1999، ص91 –ص95 .

سيف الدين عبد الفتاح ، العلاقة بين العروبة و الإسلام …، مرجع سابق ، ص45 .

3.        فى إطار التعريفات الاجرائية يمكن مراجعة ذلك فى :- سيف الدين عبد الفتاح ، النظرية السياسية من منظور حضارى إسلامى: منهجية التجديد السياسى وخبرة الواقع العربى المعاصر ، عمان –الاردن : المركز العلمى للدراسات السياسية، مطبعة الجامعة الاردنية ، 2002 ، ص65- ص85 .انظر فى تفصيل واهمية فكرة المؤشرات د. عبد الباسط عبد المعطى، البحث الاجتماعى : محاولة نحو رؤية نقدية لمنهجه وأبعاده، الاسكندرية : دار المعرفة الجامعية ، 1984 ، ص200- ص201.

4.        انظر فى إطار فكرة بناء المقاييس ومتطلباتها وأركانها وقدراتها وفاعلياتها :

د. عبد الغفار رشاد، مناهج البحث فى علم السياسة، الكتاب الثانى: “بناء المقاييس”، القاهرة: مكتبة الآداب ، ص163 وما بعدها .

5.        فى اطار المعايب التى تطول عملية بناء المقاييس ومعمارها انظر :

سيف الدين عبد الفتاح ، النظرية السياسية …، مرجع سابق ، ص67 وما بعدها.

عبد الغفار رشاد ، مرجع سابق ..، ص171 و ما بعدها (أخطاء والمقياس).

6.        فى اطار فكرة التعقيد فى فى مقابل الاختزال و عناصر التبسيط المخلة انظر :

ادجار موران، الفكر والمستقبل : مدخل الى الفكر المركب، ترجمة: أحمد القصوار ومنير الحجوجى ، الدار البيضاء : دار توبقال للنشر ، 2004 ،ص21 وما بعدها .

7.        المقياس ميزان وموازين المصالح والاضرار فى إطار المقاربة الشاطبية حول جدول المصالح والذى سنضمنه البحث لاحقا فيما يمكن أن نسميه بمقياس التدافع (درء المفاسد وجلب المصالح ) أو (دفع المضرة وجلب المصلحة ) انظر :

سيف الدين عبد الفتاح، نحو تفعيل النموذج المقاصدى فى المجال السياسى الاجتماعى، لندن، مركز المقاصد العامة لشريعة، 2005.

8.        انظر فى تصنيف المقاييس :

حامد عبد الماجد، مقدمة فى منهجية دراسة وطرق بحث الظواهر السياسية، جامعة القاهرة : قسم العلوم السياسية، سلسلة الكتب الدراسية، 2000، ص185 وما بعدها .

9.        انظر فى ذلك : د. عطية حسين افندى ، الممارسات غير الاخلاقية فى الادارة العامة، ضمن : الفساد والتنمية (الشروط السياسية للتنمية الاقتصادية)، تحرير : مصطفى كامل السيد، صلاح سالم زرنوقة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، 1999، ص42 وما بعدها .

10.   راجع وقارن فى هذا المقام : د. هدى ميتكيس، الشروط السياسية للتنمية (خبرة دول الجنوب) ضمن المرجع السابق ، ص28 وما بعدها .

11.   حول اتجاهات تعريف الفساد يمكن ملاحظة : إكرام بدر الدين (محرر)، الفساد السياسى : النظرية والتطبيق ، القاهرة: دار الثقافة العربية ، 1992 ،ص15 وما بعدها .

12.   انظر معانى الفساد فى المعاجم اللغوية .

13.   انظر فى نظرية الحفظ البحث المتعلق بالمدخل المقاصدى : سيف الدين عبد الفتاح، المدخل المقاصدى وفقه الواقع ……….. مرجع سابق.

14.   انظر هذا المقام :

د.إسماعيل صرى مقلد ، د. محمد محمود ربيع (محرران) موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت، 1993 -1994. مادة الفساد السياسى من 488-489.

15.   انظر فى هذا المقام وقارن فى تأثيرات المدرسه السلوكية : عبد الغفار رشاد ، مناهج البحث ،  الكتاب الثانى ، مرجع سابق ، ص15-21.

16.   فى اطار المدرسة السلوكية التقليدية واعتناقها القياس كغاية ولس كوسيلة انظر وقارن: المرجع السابق، ص29-33.

قارن فى هذا المقام : سيف الدين عبد الفتاح ، الاسلام والتنمية ، المساعدات الخارجة والتنمية فى العالم العربى ، رؤية من منظور عربى وإسلامى، محمد صفى الدين خربوش (محرر) ، عمان- الاردن ، المركز العلمى للدرسات السياسية، 2001 ، ص29-30.

17. انظر: د. إبراهيم شحاتة، وصيتى لبلادى (محاربة الفساد)، القاهرة: مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية . دار الامين، ح4 ، 1997، من 9 وما بعدها .

18. إشارة الى الآيه فى سورة الحديد 17 (….فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) .

19. الزخرف 54 .

20. الأعراف 58 .

21. القوم البور اشارة إلى آية الفرقان 18 ، و الفتح 12 .

22. النحل 92 .

23. انظر فى العلاقة التدافعية بين الإصلاح والفساد :

سيف الدين عبد الفتاح ، تفعيل المنظور المقاصدى ودراسة الظاهرة الاجتماعية والسياسية، ضمن الندوة التأسيسية، لندن : مركز المقاصد العامة للشريعة ، 2005 .

24. انظر طارق البشرى، دور مؤسسات الدولة فى مكافحة الفساد، ضمن ندوة الفساد والحكم الصالح فى البلاد العربية ، بيروت-القاهرة . مركز داسات الوحدة العربية، المعهد السويدى بالإسكندرية، ديسمر 2004 ، ص 510 ومابعدها .

25. المرجع السابق ، ص 514 ومابعدها .

26. فى إطار علاقة الخطاب السياسى والسطة انظر :

عمر اوكان ، مدخل لدراسة النص والسلطة ، الدار البيضاء : إفريقيا الشرق ، 1991 .

27. وفى إطار المقولات الاسطورية الخمسة يمكن ماجعة كتابات متقدمة أشارت الى بعضها وأهمها ، ندوة مركز دراسات الوحدة العربية- المعهد السويدى بالاسكندرية ، الفساد والحكم الصالح فى البلاد العربية، مرجع سابق ، مواضيع متفرقة .

ندوة مركز دراسات وبحوث الدول النامية، الفساد والتنمية (الشروط السياسية                                                                                                        للتنمية الاقتصادية) ، مرجع سابق ، مواضع متفرقة .

28. فى إطار فهم السنة الالهية وحاكميتها وعمل سنة التدافع على وجه الخصوص يمكن مراجعة : سيف الدين عبد الفتاح، مرجع سابق ، مواضيع متفرقة . مدخل القيم…… مجع سابق ، ص 186 ومابعدها .

انظر كذلك المدخل السننى لدى ابن خلدون فى: سيف الدين عبد الفتاح، المدخل السننى لدى ابن خلدون؛ تحت الطبع.

29. الانفال 24 .

30. ضمن مقولة الفساد الوظيفى انظر : إكرام بدر الدين، الفساد السياسى: النظرية والتطبيق ……. ، مرجع سابق ، ص46-50 .

31. فى إطار النسبية والعلاقة فيا بينهما ونسق القيم انظر وراجع وقارن :

سيف الدين عبد الفتاح ، مدخل القيم ……. ، مرجع سابق ، ص20 ومابعدها.

32. وفى إطار صيغة المجتمع الانتقالى انظر :

Lerner ،Daniel ،The Passing Of Traditional society- Modernizing The Middle East ،New York ،The free Press،1958.

أما إساءة ستخدامها فذلك فى قمة الفساد إذ تعد هذه المقولة تثبيتا للأمر الواقع والواقع المرتبط به على فساده وتراكم الفساد فيه .

33. محمد بن محمد بن خليل الاسدى، التيسير والاعتبار والتحرير والاختيار، يما يجب من حسن التدبير والتصرف والاختيار ، تحقيق: عبد القادر أحمد طليمات، القاهرة  دار الفكر العربى، 1967 . ص 159 .

34. المرجع السابق ، ص 54 .

35. المرجع السابق ، ص 35 .

36. المرجع السابق ، ص 84-85 .

37. المرجع السابق ، ص 87-88 .

38. المرجع السابق ،ص46 .

39. المرجع السابق ، ص 47 .

40. المرجع السابق ، ص 46 .

41. المرجع السابق ، ص 47 وما بعدها .

42. المرجع السابق ، ص47 .

43. المرجع السابق ، ص114- ص115.

44. المرجع السابق ، ص116- ص126.

45. أمانى غانم، الجهود الدولية لمكافحة الفساد، ضمن ندوة: الفساد والتنمية …، مرجع سابق، ص357 – ص369 .

46. المرجع السابق ، ص365 – ص366.

د. حسن نافعة، دور المؤسسات الدولية ومنظمات الشفافية فى مكافحة الفساد، ضمن ندوة (الفساد والحكم الصالح فى البلاد العربية ) ، مرجع سابق ، ص531 وما بعدها .

انظر على وجه الخصوص تقرير “منظمة الشفافية الدولية حول الفساد وقياساته “، ص2 .

قارن: تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004 (نحو الحرية فى الوطن العربى)، U.N.D.P، المكتب الإقليمى للدول العربية، برنامج الامم المتحدة الإنمائى، 2005 .

وقارن كذلك : برنامج إدارة الحكم فى الدول العربية، البرنامج الإنمائى للامم المتحدة، مؤشرات ادارة الحكم .

47. كبمبر لى آن إليوت، الفساد والاقتصاد العالمى، ترجمة: محمد جمال امام، القاهرة: الأهرام للترجمة والنشر ، 2000 مواضيع متفرقة .

48. البنك الدولى للانشاء و التعمير، تقرير عن التنمية فى العالم ، “الدولة فى عالم متغير”، القاهرة: مركز الاهرام للترجمة والنشر، 1997، انظر الفصل السادس، الحد من الفساد والتصرفات التحكمية للدولة، ص108 – ص118 .

49. البقرة من آية 11-12 .

50. انظر : عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون ، تحقيق : د. على عبد الواحد وافى، القاهرة: نهضة مصر، ج2، 2004، ص688 – ص704 .

51. انظر الجدول الذى يتعلق بموازيين المصالح والاضرار والمنافع والمقاصد فى شكل تدافعى ضمن المقاربة الشاطبية  والتى أشرنا اليها سابقا .

52. فى إطار هذه الرؤية التكاملية ضمن المدرسة الخلدونية من المهم ان تلحظ عناصر الشبكة الاستبدادية لدى الكواكبى :

عبد الرحمن الكواكبى ، الاعمال الكاملة للكواكبى، إعداد و تحقيق : محمد جمال طحان، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، يونيو 1995، ص413 – ص435

ومحمد بن خليل الاسدى الذى قدم شبكة الفساد :

محمد بن خليل الاسدى ، التيسير و الاعتبار …، مرجع سابق ، مواضع متفرقة .

والمقريزى الذى قدم حالة الازمة وارتباطها بالفساد انظر :

تقى الدين احمد بن على المقريزى، اغاثة الامة بكشف الغمة، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، مواضيع متفرقة .

53. اعتمدنا فى صياغة هذه الرؤية للحالة الجبائية والحالة الترفية والحالة الاستبدادية والحالة الاخلاقية والمعنوية على فصول مهمة من مقدمة ابن خلدون سبقت الاشارة اليها .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر