أبحاث

التكليف الشرعي والسلوك المقاصدي

العدد 127

مقدمة :

نبحث في هذا الموضوع ما يمكن أن يجعل من فقه المقاصد سلوكًا يطبع العمل الإسلامي عامة، وسلوك الأفراد خاصة، وذلك ببيان أن الإنسان أمام مقصدين كبيرين لا ينفك أحدهما عن الآخر:

مقصد عدلي، أو استخلافي، ترمى إليه تكاليف تهتم أساسًا بعلاقة الأفراد بعضهم مع بعض، أو مع أجهزة الحكم، قوامها العدل بجميع صوره ومجالاته وفك رقاب الناس من ظلم الطغاة.

مقصد إحساني، تقصد إليه تكاليف تهم بالأساس علاقة الإنسان بربه عز وجل، تعنيه هو أولاً في مصيره وعاقبته…

وإذا كان الحكم التكليفي بما يحتويه من دلالات (الوجوب، الندب، الإباحة، الكراهة، التحريم) يتناول المهمة الأساسية للإنسان، فإن الصياغة الحالية والسائدة لهذا الباب لا تسعف لتحصيل البعدين الأساسيين للتصور الخلافي (نسبة إلى الخلافة).

وهذا يدعو إلى بحث العناصر الآتية:

1- وظائف مقاصد الشريعة.

2- مقاصد الشريعة بين العاجل والآجل.

3- العدل والإحسان المقصد الشرعي من وضع الشريعة.

4- نحو صياغة مقصدية تؤهل للسلوك المقاصدي.

– 1 –

وظائف مقاصد الشريعة

ازدهرت الكتابة في مقاصد الشريعة في عصرنا هذا، حتى تكاد تكون السمة المميزة للفكر الإسلامي المعاصر، وقد تعددت هذه الكتابة ما بين دراسات موجزة في مجلات ودوريات وبين أبحاث معمقة مستفيضة تحويها كتب ومؤلفات.

والملاحظ في هذه الكتابات أنها انصرفت إلى:

– الاقتصار على المصالح الدنيوية دون الأخروية، وهذا عكس ما ذهب إليه الشاطبي من تلازم بينهما…

– ثم إن البحث في حظوظ المكلف لم يوفّ حقه، بل لا نكاد نجد شيئًا ذا بال ممن جاء بعد الشاطبي الذي جعل المقاصد نوعين: فيما يرجع إلى مقاصد الشارع، وما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف، وهذا قسم نفيس يحتاج إلى شرح وتفصيل(1).

– وجنحت إلى الكلام عن المقاصد باعتبارها أداة من أدوات الاجتهاد الفقهي، في حين أن المقاصد ينبغي أن تصبح سلوكًا عامًا في الفكر الإسلامي، وفي العمل الإسلامي المعاصر…. وما يعانيه العمل الإسلامي اليوم إلا من غياب المقصد من توجهاته. وقلّ ما نجد الكلام عن المقاصد باعتبارها سلوكًا ينبغي أن يطبع العمل الإسلامي وسلوك الأفراد، لتحقق بذلك المقصدية للفكر الإسلامي. ولعل هذا ما يقتضي جهودًا متضافرة تنتقل بالمقاصد من الأفق النظري إلى الواقع العملي.

وسنعرض هنا لوظائف مقاصد الشريعة الإسلامية كما عرضتها المؤلفات المعتمدة في هذا العلم.

1- التقليل من الخلاف:

هذه الوظيفة نجدها عند ابن عاشور رحمه الله في كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية” الذي أراده أن “يكون نبراسًا للمتفقهين في الدين ومرجعًا بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف”(2).

وهكذا، فإن مقاصد الشريعة الإسلامية، كما يريدها ابن عاشور:

– نبراس للمتفقهين في الدين.

– مرجع بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار.

– توسل إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار.

– دربة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح الأقوال بعضها على بعض عند تطاير شرر الخلاف.

وما دعا ابن عاشور إلى صرف همته إليه ما رأى من عسر الاحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة….

2- بيان صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان وتفوقها على كل قانون:

إن تناول علال الفاسي رحمه الله لموضوع كتابه لم يكن بالشكل الذي سار عليه الشاطبي في جزء المقاصد، أو ابن عاشور في كتابه آنف الذكر، وإنما تميز تحليله بعرض الشبهات التي أثيرت وتثار حول بعض مناحي الشريعة، خصوصًا من قبل أولئك الذين تشبعوا بالأفكار الغربية. وهنا نسأل عن وظيفة المقاصد في نظر علال: هل يمكن القول إن علال الفاسي كتب مقاصد الشريعة الإسلامية ليواجه تيار التغريب الذي بدأ يفد على المغرب أواخر الخمسينات وبداية الستينات؟

إن الجواب بالإيجاب هو الذي تؤكده صفحات الكتاب في مختلف فقراته، حيث لم يغفل عن عرض الآراء المخالفة للإسلام ولنظام الإسلام، وانبرى يقارن الشرائع الوضعية بشريعة الإسلام مستعرضًا آراء أعداء الإسلام الذين يملكون رؤى منصفة لنظام الإسلام، ليختم كتابه بصرخة بها حرقة كبرى يوجهها إلى أبناء بلده ودينه.

3- المقاصد أداة اجتهاد

هذا هو المعروف لدى غالب الأئمة والفقهاء والباحثين، ولا يفتأ كل منهم يؤكد على ضرورة اعتماد مقاصد الشريعة الإسلامية في الاجتهاد، فيعدون التمكن منها شرطًا من شروط التمكن من الاجتهاد فيما لم يرد به نص، بل، وحتى ما ورد بشأنه نص عند ابتغاء تنـزيله.

فهذا الإمام الشاطبي رحمه الله يقرر: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها”(3).

4- المقاصد منهج فكر ونظر

هذه الوظيفة نص عليها مجموعة من المفكرين والباحثين الذين تناولوا قضايا المقاصد. ولعل أول ما يحضرني هنا كلام للأستاذ عمر عبيد حسنة حيث أكد أن “العقل المقاصدي حقق التحول من عقلية التلقين والتلقي إلى عقلية التفكير والاستنتاج والاستدلال والاستقراء والتحليل والنقد والموازنة والاستشراف المستقبلي، وعدم القبول لأي فكر أو اجتهاد بغير سلطان أو بغير برهان تحت شعار (هاتوا برهانكم)، ويمتلك أدوات البحث والمعرفة، وإمكانية النظر في المآلات والعواقب، ويصبح عقلاً مستبينًا يحسن التعامل مع الأسباب والمقدمات والتسخير للسنن، ويمتلك ناصية سنة المدافعة فيستطيع مدافعة قدر بقدر أحب إلى الله….

ثم يضيف: إن بناء العقل المقاصدي يحدث تغييرًا استراتيجيًا في الثقافة، ونقلة فكرية نوعية في الحياة العقلية والذهنية، ويعيد للوحي عطاءه المتجدد على يد البشر، وإعادة النظر فيما وضعوا من آليات مجردة للتعامل معه وتنـزيله على الواقع، بعيدًا عن مصالح الناس(4).

يقترب الأستاذ عمر عبيد حسنة من معنى أعمق للمقاصد، حيث يريدها ميزة لدى العقل المسلم، وخصلة متميزة لدى الإنسان المسلم، يستعملها في أي وقت وحين، بل تكون صفة ملازمة له.

5- وظائف أخرى للمقاصد

نعرض هنا لمجموعة من فوائد التأليف في فن المقاصد، كما عرضها الدكتور جمال الدين عطية، والتي يمكن أن تدلنا على وظيفة مقاصد الشريعة الإسلامية في الفكر الإسلامي، خصوصًا المعاصر(5).

أولاً: بيان كمال الشريعة. وقد سبق التعرض لذلك في نموذج علال الفاسي.

ثانيًا: الاطمئنان على الإيمان.

ثالثًا: أن يعرف المؤمن مشروعية ما يعمل.

رابعًا: ردع المشككين. وهذه وظيفة ندب إليها علال الفاسي في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية أيضًا.

خامسًا: بيان أن الأحاديث الصحيحة توافق المصالح الشرعية.

سادسًا: الترجيح. وهو من الوظائف التي حددها ابن عاشور لمقاصد الشريعة.

سابعًا: منع التحيل(6).

ثامنًا: فتح الذرائع وسدها(7).

تاسعًا: النصوص والأحكام بمقاصدها.

عاشرًا: الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة.

حادي عشر: اعتبار المآلات.

ثاني عشر: التوسع والتجديد في الوسائل(8).

ثالث عشر: التقريب بين المذاهب وإزالة الاختلاف. وقد سبق التعرض لهذا في نموذج ابن عاشور.

هذه أهم الوظائف التي تناط بمقاصد الشريعة الإسلامية. وهذه هي الفوائد التي تؤديها للمتمكن منها. لكن يبدو أنها على مستوى عال من الخصوصية والتخصص، لا تهم عموم المسلمين. في حين، وكما يستفاد من آيات وأحكام القرآن الكريم، أن المقاصد يجب أن تكون فائدة وثمرة بادية للعيان، وإن اختلفت المستويات وتعددت، أو تعمقت التخصصات.

وتبدو، في هذا الشأن النقطة الثانية، الاطمئنان على الإيمان، ثمرة مستفادة لعموم المسلمين، بل، في نظري، قد تكون الغاية الأساس من مقاصد الشريعة.

– 2 –

مقاصد الشريعة بين العاجل والآجل

خلق الله عز وجل الإنسان ليكون له خليفة. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف: 172 – 173).

والملاحظ في دعوة الرسل هؤلاء عليهم السلام أنها دائمًا ذات شقين، تقصد إلى:

– توحيد الخالق عز وجل.

– وإصلاح ما فسد من أحوال الناس في سائر مناحي الحياة. وهو ما عبر عنه الشاطبي رحمه الله بمسلمة “وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل”(9).

وفي مقابل الإقرار بالعبودية لله عز وجل أعطى الإنسان الخلافة عنه. هذه الخلافة التي تحدثنا عنها الآية الكريمة:  ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 29). وعبر الرسل أرسل للناس منهاج هذه الخلافة مادامت النفس الإنسانية وحدها غير قادرة على اكتشاف هذا المنهاج الذي يقتضي النظر في مصالح دنيوية وأخروية لا قبل للإنسان بمعرفتها بعقله.

وكان سيدنا محمد r خاتم الرسل، أرسله الله تعالى بالقرآن الكريم بعد سلسلة من الرسالات أبلغت الإنسانية مرحلة الرشد تدريجيًا ليكتمل لدى الإنسان منهاج الاستخلاف: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ (المائدة: 4).

فإن اتبع الإنسان هذا المنهاج وامتثل تحققت له غايتان:

– الأولى: نال السعادة الأخروية والقرب من الله عز وجل، وهي لب ما رغب فيه الشرع الحنيف، وهي الجزاء الأخروي الأوفى الذي حدثنا عنه القرآن الكريم في غير ما موضع، وكذا الحديث الشريف.

لكن هذه السعادة الأخروية لا تنال بالتقاعس والتواكل، وإنما بالاجتهاد في العبادات وحسن التعامل وجميل التصرفات داخل المجتمع وخارجه، تمثل شعب الإيمان جميعها أو أغلبها، بدءًا من لا إله إلا الله، وهي شهادة ميلاد المرء في عالم الإيمان، إلى إماطة الأذى عن الطريق، انخراطًَا في معالجة قضايا أمته الكلية، كما في الحديث الشريف: “الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”(10). بل إن عملاً دنيويًا يقوم به الإنسان لا يريد به إلا وجه الله يكون طريقًا إلى هذه السعادة. وكذلك العكس، ولو في الفرائض والواجبات، إن لم تصح فيها النية فإنها لن تؤدي إلى هذه السعادة.

– الغاية الثانية: كانت أعماله متفقة مع ضرورات الاستخلاف، وهذا مما يساعد على تحقيق العبودية لله عز وجل.

والأعمال المتفقة مع الاستخلاف هي الأعمال التي تلتزم حدود الشرع، أوامره ونواهيه، وإن شئت فقل هي الأعمال الموافقة لمقاصد الشرع.

وهكذا يبدو كل تصرف أو عمل يعود على هذه الضروريات بالإبطال إنما هو مما ينبذه الشرع الحنيف، ولا يقوم عليه استخلاف، بل يحدث ثقوبًا في بنائه.

وعن هاتين الغايتين تكلم الإمام الشاطبي رحمه الله حينما قال: “الشرائع إنما وضعت لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل معًا”(11).

وإذا كان المقصد الشرعي من وضع الشريعة، كما يقول الشاطبي رحمه الله “إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا”(12)، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، فإن ذلك يقتضي اندراج جميع التكاليف كيفما كان نوعها تحت هذا المقصد، ومن يتبع الهوى فإنه عابد لهواه، ولا يحقق مقاصد الشرع. فعبادة الله عز وجل هي الغاية الأسمى من هذه التكاليف التي وضعها الله عز وجل. والمقصد الأسمى للمكلف هو نيل رضى ربه عز وجل والنظر في وجهه الكريم.

– 3 –

العدل والإحسان: المقصد الشرعي من وضع الشريعة

تتحقق مقاصد الشرع بالتكاليف التي أنيطت بالإنسان، وطُلب منه الامتثال لها، أمرًا ونهيًا، وإن اختلفت درجاتها وتفاوتت قوتها. ولا يمكن – كما سبقت الإشارة – تحقيق مقاصد الشرع خارج هذه التكاليف…

لقد تبين لنا أن الإنسان في هذه الدنيا أمام مقصدين: دنيوي وأخروي. لكن لا نعني بالدنيوي تحصيل الملذات والسعادة الدنيوية الصرفة، ولكن من حيث خدمتها للمصلحة الأخروية . فالمصلحة الدنيوية التي يعتبرها الشرع إنما هي مصلحة الجماعة، ولا تعتبر مصلحة الفرد إلا إذا اندرجت في سلك المصلحة العامة ولم تعارضها. كما أن مصلحة الفرد ليست أهواء أو نزوات تنـزل به إلى درك الحيوانات، وإنما ما تقام به ضرورات الحياة ولا تخرج عن المقصد الآخر وهو تحقيق العبودية لله عز وجل، وتهم جميع العلاقات الإنسانية على اختلاف أنواعهم ودياناتهم.

وهكذا، يمكن القول: إن الإنسان أمام مقصدين لا ينفك أحدهما عن الآخر:

– مقصد استخلافي، أو عدلي، ترمى إليه تكاليف تهتم أساسًا بعلاقة الأفراد بعضهم مع بعض، أو مع أجهزة الحكم، قوامها العدل بجميع صوره ومجالاته وفك رقاب الناس من ظلم الطغاة.

والعدل هو إعطاء الحق لصاحبه… وهو ضد الجور. وقد بينت مجموعة من الآيات أقسام العدل وفصلت مجالاته:

ففي العدل الأسري يقول الله عز وجل: ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً﴾ (النساء: 30).

وفي مجال القرابة، قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ (الأنعام: 152).

وفي إطار الجماعة المسلمة قوله عز وجل: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات: 9).

وفي مجال الحكم بين الناس يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: 58).

والعدل من أهم وظائف النبوة التي يمثلها قول الله عز وجل: ﴿وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ (الشورى: 15)، فهذه الآية تمثل أساس بعثة النبي r وهو إقامة العدل بين الناس في شتى المجالات لما كانوا يعيشونه من ظلم وفساد. وجميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية إنما جاءت لأجل تحقيق العدل.

– مقصد أخروي، أو إحساني، تقصد إليه تكاليف تهم بالأساس علاقة الإنسان بربه عز وجل، تعنيه هو أولاً في مصيره وعاقبته…

والإحسان هو الإتقان. ويشمل كذلك مجالات مختلفة، منها قوله عز وجل: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ﴾ (الإسراء: 7).

وقوله عز وجل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ (النساء: 36).

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ (البقرة: 78)…

وغير ذلك من الآيات التي يصعب حصرها والتي تدل على أن ما من أمر إلا ومطلوب فيه الإحسان. غير أننا نستطيع أن نحدد أعلى هذه المجالات وأصلها الذي عنه تتفرع المجالات الأخرى في جواب رسول الله r عن سؤال جبريل عليه السلام عن الإحسان في الحديث: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”(13). وأدنى مراتب الإحسان ما في حديث الموطأ أن امرأة بغيا رأت كلبًا يلهث من العطش يأكل الثرى، فنـزعت خفها وأدلته في بئر ونزعت فسقته فغفر الله لها.

هذه المعاني والمراتب تعطينا في مجموعها مواصفات المؤمن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع، تعطينا الوصف المرغوب لعلاقات العبد بربه وبالناس، وحتى بالأشياء …..

وعندما يسود الإحسان، فإن ذلك ضمان للمجتمع من مجموعة من الشرور والفتن، ذلك أن الإحسان، بما هو فضل وزيادة ومرتبة عليا في الدين والتقوى، معنى زائد على العدل، بل قد يحتويه.

وهذا الإحسان هو الذي يؤهل إلى السعادة الأخروية التي سبق لنا الكلام عنها.

ويمثل الغايتين قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90)، هذه الآية الجامعة لأصول التشريع الإسلامي جاءت في سياق بيان أن القرآن الكريم كلام الله تعالى تبيان لكل شيء، وهو هدى ورحمة وبشرى للمسلمين….

من هنا، نرى من المفيد جدًا أن نعيد النظر في أحكام الفقه وأوامر الشرع ونصوغها على ضوء هذين المقصدين، حتى يتبين الإنسان المسلم مهمته فينهض في طلبها، ويعرف الغاية من وجوده في هذا الكون ويستعد لمصيره بعد هذه الدنيا.

 

– 4 –

نحو صياغة مقصدية

للحكم التكليفي في ضوء

مقصديْ العدل والإحسان

لقد جاء الشرع الحكيم يوجه الناس في حياتهم الدنيا في أمور شتى، يرتب على ذلك جزاء أخرويًا مصيريًا. وفي غمرة الجري وراء الكسب المعاشي الدنيوي يغيب عن الإنسان هذا البعد الأخروي.

1– مفهوم التكليف

التكليف إلزام ما فيه كلفة، أي مشقة. قالت الخنساء:

يكلفه القوم ما نابهم

وإن كان أصغرهم مولدا(14)

… وكلفه تكليفًا أي أمره بما يشق عليه(15).

وقال القاضي أبو بكر رحمه الله: “إنه الأمر بما فيه كلفة والنهي عما في الامتناع عنه كلفة”(16).

وحقيقة خطاب التكليف المطالبة بالفعل أو الاجتناب له لأنه في وضع اللسان تحميل لما فيه كلفة ومشقة إما في فعله أو تركه وهو من قولهم كلفتك عظيمًا أي أمرًا شاقًا(17).

فالتكليف إذن، هو خطاب الأمر والنهي.

والمكلف هو كل إنسان لم تعترضه العوارض التي يصفها النبي r في قوله: “رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ”(18).

ولكي يصح التكليف لابد من شروط ثلاثة:

– علم المكلف المأمور به، فلا يصح تكليفه بما لا يعلم ولا يفهم. ويوضح هذه النقطة الإمام الشوكاني فيقول: “أعلم أنه يشترط في صحة التكليف بالشرعيات فهم المكلف لما كلف به، بمعنى تصوره بأن يفهم من الخطاب القدر الذي يتوقف عليه الامتثال، لا بمعنى التصديق به، وإلا لزم الدور ولزم عدم تكليف الكفار لعدم حصول التصديق”(19).

– أن يكون التكليف ممكنًا فلا يصح التكليف بالمحال.

– علم المكلف بحسن ما يكلف به. وهذا الشرط لم أعثر عليه سوى عند أبي الحسين البصري الذي قال: “بأن الواجب في التكليف أن يكون المكلف عالمًا بحسن ما يقدم عليه من الأفعال قبل إقدامه”(20). وهذه نظرة مقاصدية مبكرة لأحكام التكليف.

ولقد اهتم بالتكليف مبحث الحكم التكليفي في أصول الفقه، حيث نجد كل ما يتعلق بتكليف الإنسان وعوارض هذا التكليف. وهو مبحث نفيس جدًا يحتاج إلى مزيد مراجعة وبحث في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، كما سنرى بعدُ.

والحكم التكليفي هو ما اقتضى طلب فعل من المكلف، أو كفه عن فعل، أو تخييره بين فعل والكف عنه. ويشمل الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح.

وإذا كان العلم بأصول الفقه من الواجب الكفائي، فإن العلم بالحكم التكليفي يبدو مهمة عينية تخص كل مسلم. ذلك أن معرفة أوصاف وأحكام الأعمال، مقدمة ضرورية لسلوك طريق السعادة الأخروية: الإسلام والإيمان إلى الإحسان، كما في حديث جبريل عليه السلام الذي يرويه الفاروق عمر رضي الله عنه قائلاً: “بينما نحن جلوس عند رسول الله r ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي r، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله r: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً فقال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أمارتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن تجد الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق، فلبث مليًا ثم قال لي يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”(21).

إن المكلف الذي يؤدي تكاليف الشرع على وجهها الأكمل هو الذي يحقق مقاصد الشرع من جهتين، كما سبقت الإشارة.

ونذكر بأن امتثال المكلف لأوامر الشرع، واجبات كانت أو مندوبات أو مباحات، وترك المنهيات، محرمات كانت أو مكروهات، ليست مقصودة لذاتها، وإنما من أجل المقاصد والمصالح الناجمة عن هذا الامتثال أو ذاك الترك. فالحكم التكليفي بما يحتويه من دلالات (الوجوب، الندب، الإباحة، الكراهة، التحريم) يتناول المهمة الأساسية للإنسان، التي كنا بصدد الكلام عنها، إلا أن الصياغة الحالية والسائدة لهذا الباب لا تسعف لتحصيل البعدين الأساسيين للتصور الخلافي، وهذا ربما بفعل ما حصل للأمة من تجزئ في العلم وما تلا ذلك من جمود في الفكر والاجتهاد….

وفي نظرنا لو كانت هناك صياغة مقصدية لهذا الباب، لكان طريقًا أقرب إلى تحقيق التدين وسلوك الإنسان المكلف هذا السلوك المقاصدي، وتحقيق الغايتين. فالطالب يقضي سنوات في دراسة علوم الشريعة ويحفظ عن ظهر قلب الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام دون أن تتحرك فيه حوافز الامتثال للأمر أو الترك، أو يدرك مقاصد هذه الأقسام…

وهكذا، نرى أن الطريق الأقرب لتحقيق هذا الغرض صياغة باب الحكم التكليفي صياغة تتوافق والتصور العام للاستخلاف، أي في ضوء غايتي العدل والإحسان اللتين تقصد إليهما تكاليف الشرع، وصياغة الأعمال المطلوب إلى الإنسان القيام بها أو تركها، صياغة مقصدية، في ضوء العلل المنوطة بها والغايات التي تقصد إليها.

ويقتضي هذا:

– الدراسة الواعية والعميقة لأسباب النـزول.

– النظر في الحديث النبوي الشريف بالبحث عن أسباب وروده. إذ لا يكفي ذكر الحديث معزولاً عن سبب وروده إن نحن أردنا إدراك مقاصده وغاياته.

– استقراء تام لمختلف الأحكام التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

2- نماذج:

ونقتصر في ملامح الصياغة هنا على نماذج من الواجب والمندوب والحرام.

أولاً: الواجب

وهو ما طُلب فعله على وجه اللزوم، بحيث يأثم تاركه ويعاقب فاعله…. هكذا تحدثنا كتب الأصول عن ماهية الواجب.

ويعتبر مبحث الواجب من أهم المباحث التكليفية والأصولية، لأنه الحكم الذي يصف أفعال المكلف، ولما يترتب عنه من نتائج وآثار لا تقف عند حد الأبواب الفقهية والأصولية فقط، ولكن ترتبط بالفرد إلى ما بعد الحشر والحساب، فيتحدد طبقًا لذلك مصيره ودرجته….

وهنا تكمن أهمية البحث في الواجب وضرورة إعادة النظر فيه في واقعنا اليوم. وتزداد أهمية الموضوع عندما نرى كثيرًا من الناس يخلطون ولا يفرقون بين أنواع الواجب ومستوياته، مبتعدين في فهمهم عن التصور القرآني وعن مقاصد الشرع.

ففي واقعنا المعاصر، مثلاً، اختلط الأمر على كثير من الناس بخصوص نوعي الواجب:

الكفائي والعيني، حتى أصبح العيني محل الكفائي، والكفائي محل المندوب، وإن شئت فقل لقد جُرِّد الكفائي من وجوبه، وأصبح في حكم المندوب!

ونؤكد أن الواجب أمر إلهي طُلب إلى المكلف فعله على وجه اللزوم، فإن لم يفعل صار عاصيًا، وإن أنكره كان كافرًا.

وقد عُرف الواجب الكفائي أنه الذي يكون المطلوب فيه الفعل من الجماعة على حد سواء، فإذا وقع الفعل من البعض سقط الإثم عن الباقين، ولا يستحق أحد ذمًا، وإذا لم يقم به أحد أثم الجميع. وهذا ما ذهب إليه الجمهور: “إن الواجب الكفائي موجه إلى كل فرد”(22).

إن المجتمع الإسلامي اليوم أحوج إلى إحياء الواجب الكفائي، لأن الفهم المعوج ورّث في الأمة الخمول والاتكالية. فهناك من يضع في حسبانه أن هناك من يقوم بالفعل فلا يعنيه هو، بل هو ساقط عنه، والأمثلة في مجتمعنا عديدة.

والذي يستقرئ الواجب الكفائي يرى أن مقاصده بالأساس مقاصد اجتماعية، تهتم بعلاقة الفرد مع غيره من أفراد مجتمعه، أو بأمر جماعة المسلمين، يحقق مصالحها ويحفظ مكانتها وعزتها وهيبتها بين باقي المجتمعات…

والواجب عينيًا، كان أو كفائيًا، لابد وأن يحقق مقصدين للمكلف:

الأول: فهو يقرب الإنسان من الله تعالى خالقه، بل به يبدأ المسلم التدرج في عالم الإيمان. وهذا هو مقصد جميع العبادات، بل وحتى المعاملات التي تكتسي صفة الوجوب.

والثاني: عندما يقوم المكلف بواجب ما فإنه بذلك يساهم في البناء الاستخلافي، أي أن ذلك الواجب لا تقتصر فوائده على المكلف كفرد، ولكن يتعدى أثره إلى الجماعة.

1- الصلاة تكفر الذنوب وتنهى عن الفحشاء والمنكر، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ (العنكبوت: 45)، وبها يكون العبد أقرب إلى الله تعالى، يناجيه ويدعوه ويتبتل إليه.

وعن أبي هريرة أن رسول الله r قال: “الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغشَ الكبائر”(23).

وتأمل كيف أن الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر هي صلاة غير معتبرة، حركات بلا روح! هذا حال من قام بها ولم تحقق مقاصدها، أما من لم يقم بها، فإنه يبتعد رويدًا رويدًا عن الله عز وجل. يقول رسول الله r: “إن بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة”(24). فانظر كيف يكون ترك الواجب بابًا ومدخلاً إلى الكفر!

2- والصيام من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، به ينتقل الإنسان من عالمه المادي إلى العالم الروحاني الصافي، كما يزداد به المسلم قربًا من مولاه، وينال ثوابًا أعظم وأكبر. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ﴾ (البقرة: 182).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول r قال: “الصيام جنة. فلا يرفث ولا يجهل. وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين. والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها”(25). فانظر كيف يقرب الصيام العبد من مولاه. ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه. وهو أيضًا وُجاءٌ من كثير من المعاصي…

وإذا كان الصيام موجبًا لترك المعاصي، فإن الصائم يقي المجتمع من شره ويكفيه نفسه، لاسيما وأن الصوم يهذب الغرائز، فلا تطغى القوة الشهوانية والغضبية على الإنسان. وهو بهذا يحافظ على نظام الأمة ونظام التعايش على الأرض. “إذا كان يوم صوم أحدكم….”. كما أن الصائم يكون أكثر كرمًا وعطاء وأصفى ذهنًا وأنقى سريرة.

وفي الزكاة، نجد الأمر أكثر وضوحًا، وأثرها أبين. فالذي يدفع الزكاة يزكي نفسه بها أولاً، فتسمو روحه وتغفر ذنوبه ويزداد قربًا من الله عز وجل. يقول الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ (التوبة: 103).

ومن جهة أخرى، فإنه يساعد المحتاج في قضاء حوائجه، ولا يحس الفقير حنقًا وكرهًا للغني، ويلتحم جسم الأمة محققًا بذلك العدل الذي لا يتم استخلاف من دونه، ويتحقق بذلك المقصد الأسمى الذي يحدثنا عنه رسول الله r: “مثل المؤمنين في توادهم  وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”(26).

ثانيًا: المندوب

والمندوب هو ما طلب الشارع فعله طلبًا غير لازم، أو هو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. وهو ثلاثة أقسام:

– مندوب فعله على وجه التأكيد، وهو لا يستحق تاركه العقاب، ولكن يستحق اللوم والعتاب. ومثاله الصلاة جماعة.

– مندوب مشروع فعله، وفاعله يثاب وتاركه لا يستحق عقابًا، ولا لومًا. ومثاله النافلة والصدقة.

– مندوب زائد، يعد من الكماليات للمكلف. ومثاله الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.

وكما قلنا في الواجب، فالإنسان المكلف إذا قام بفعل حكمه مندوب، فإنه يحقق مقصدين ويحصل فائدتين:

– مقصد إحساني: وهذا يعني مزيد قرب من خالقه تعالى ارتقاء في مدارج الإيمان، ويتحقق فيه الحديث الشريف: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم. وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا. وإن أتاني يمشي أتيته هرولة”(27). والتقرب إلى الله عز وجل هو إتيان النفل بعد الفرض. وهذا هو المندوب. فكيف يزهد المؤمن في عمل يدرك أن فيه محبة الله عز وجل له؟ نعم قد يعتريه ضعف في الأداء، لكن دائمًا يحركه الشوق فينتفض أحيانًا طلبًا لمحبة الله تعالى له.

– مقصد عدلي (المشاركة في البناء الاستخلافي): ذلك أن المؤمن التقي المتقرب إلى الله عز وجل أقدر في الغالب على إقامة صرح الخلافة، وأقدر على تحمل المشاق في سبيل ذلك، من أمر بمعروف ونهي عن منكر وتعامل ورع مع الغير.

ولا ننس أن القيام بالمندوب يعني طاعة وولاء للآمر، والمطيع دائمًا له قوة تنفيذية خارقة في سبيل من يطيع، ولا ينظر أبدًا إلى العقبات والأشواك الموجودة في الطريق. وإذا غفل الإنسان عن المندوبات، كان ذلك سببًا في ترك الواجبات، لأنها سياجها. كما أن المسلم في حال الترك لا يكون له وارد إيماني يزداد به قربًا من الله تعالى ويعينه على مواجهة الشدائد والصعاب في سبيل دين الله عز وجل. وهذا يعني فيما يعني غياب رابط قوي بين الإنسان وخالقه تعالى، فلا نجد للطاعة قوتها وتماسكها وانطلاقها. فالطاعة تعني الانقياد، والانقياد يبرره العمل… كما أن ترك المندوبات تعني حيادًا أو سلبية في البناء الاستخلافي. وهذا أمر خطير جدًا. فدعوة الله عز وجل لا تحتاج لمن يقف عند حد الفروض، أو من خلص نفسه فقط، وإنما تطلب مشاركة الجميع لتخليص رقاب خاضعة لغير الله عز وجل ونصب راية الشرع وتقديمه للناس في أحسن حلة.

ولعل هذا ما نلمسه اليوم، فالناس مكتفون بالحد الأدنى من التدين، ولا يهمهم الارتقاء. وما هذا، في نظرنا، إلا لغياب التصور الاستخلافي الذي بني عليه الإسلام… فإذا كان المندوب لا يستحق تاركه العقاب، أو يستحق اللوم والعتاب فقط، فإن المكلف يعتقد أن ذلك يكفيه ولا يحس بأدنى مسؤولية أو حرج، ولا يتوق إلى الارتقاء في سلم الإيمان ودرجاته، أو السعي إلى الفاعلية والإيجابية في البناء العام للاستخلاف. كل هذا بسبب الصياغة الضيقة للأحكام التكليفية.

ونتوقف هنا عند أمثلة ثلاثة:

1- في صلاة الجماعة، نقف مع حديث النبي r: “لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فاحرق عليه بيوتهم. والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء”(28).

فهذا غضب رسول الله r على من لا يشهدون صلاة الجماعة، وقد رأينا أنها من المندوبات. وغضب رسول الله r لا يكون إلا في أمر ذي بال. فهل يكفي هنا القول إن المندوب يثاب فاعله ويعاقب أو يلام تاركه؟

ألا تحقق صلاة الجماعة مقاصد التعارف والتعاون والتحاب والتكافل والتواصي بالحق والصبر والمواساة والمشاركة في السراء والضراء….؟ ألا تحقق وحدة الجماعة وهي المظهر الأساس للإسلام؟

أليست صلاة الجماعة من علامات الإيمان؟ كما يقول رسول الله r: “إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ (التوبة: 18)”(29).

هذا فضلاً عن الأحاديث الكثيرة التي تبين فضل صلاة الجماعة ومقاصدها.

2- وصيام التطوع أيضًا، لا يخرج عن هذا الإطار، فهذا رسول الله r يخبرنا عن مقام الصائم: “إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم. يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد”(30). وهذا لفضل ما يقومون به.

ومن جهة أخرى، فالصائم يكون أبعد عن إيذاء غيره، حيث له وجاء من المعاصي، ولا تتحرك فيه الغرائز الحيوانية كغيره. وبهذا لا يحدث خرمًا في البناء الخلافي، بل يساعد على إقامته وتشييده، والصائم تكون نفسه أميل إلى العطاء والبناء.

3- وصدقة التطوع، أيضًا، أمرها أبين وأوضح، فهي دليل على تمكن الإيمان من مؤديها، وبها يزداد العبد تقربًا من مولاه، وقد جاء في الحديث: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه”(31).

قد يبدو أن المال ملك لصاحبه وهو حر في إنفاقه، لكن ذلك محل سؤال يوم القيامة، إذ أن الشرع حدد أين تصرف الأموال دون تبذير، وإن كان ذلك لا يكتسي صفة الوجوب، بل يأخذ صفة الندب ويندرج ضمن مقصد حفظ المال.

ثالثًا: الحرام:

والحرام هو ما طُلب إلى المكلف الكف عن فعله على وجه اللزوم، ويعاقب فاعله.

وارتكاب الحرام لا يقف أثره عند التعريف فقط، بل يتعدى الفرد في علاقته مع ربه عز وجل أولاً، وفي علاقته مع مجتمعه ثانيًا.

فعلى المستوى الإحساني، أي علاقة مرتكب الحرام بخالقه، فإن العلاقة لا تبقى قوية، لأن حبل الإيمان لم يعد قويًا كما كان قبل ارتكاب الحرام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن”(32). ويسجل هذا في صحيفته، ويدعوه الأمر إلى الاستغفار الفوري والتوبة المنيبة.

ففي الخمر يقول رسول الله r: “كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكرًا بخست صلاته أربعين صباحًا، فإن تاب تاب الله عليه”(33).

وإذا كانت استجابة الدعاء ليلاً على قرب العبد من مولاه، فإن رسول الله r وعد مقترف الحرام بعد استجابة دعوته قائلاً: “أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (المؤمنون: 51). وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ (البقرة: 172). ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟”(34). فانظر إلى مصير العبد عند ربه حين يقترف الحرام.

ومن جهة أخرى، فالذي يتناول المسكر، يكون قد أحدث بذلك خرمًا بمقصد ضروري أمر الشرع بحفظه، وهو حفظ العقل. ونحن ندرك اليوم ما يلحق المجتمع والأمة من جراء الخمر على مختلف المستويات….

والذي يقتل نفسًا بغير وجه حق، يكون قد أخل بضروري، وهو حفظ النفس.

ومن زنى، فإنه يحدث خرمًا بمقصد كلي هو حفظ النسل.

وهكذا، تكون مقاصد الشرع عرضة للضياع، ولا يبقى للأمة نظام، ولا مجال، إذن، للكلام عن مهمة الإنسان في هذا الوجود وهي الاستخلاف.

خاتمة:

إن علم مقاصد الشريعة الإسلامية، رغم المجهودات التي بذلت في الآونة الأخيرة من أجل إبرازه، فإنه لم يأخذ حقه بعدُ في منظومة العلوم الإسلامية، وهو أعظمها وأشرفها. وإذا كان هذا العلم حاضرًا، ضمنًا، عند صحابة رسول الله r، لا يصدرون إلا عنه، في اجتهاداتهم وممارساتهم اليومية، فإنه، وبفعل الجمود الفكري عامة، والفقهي خاصة، أصيب بالضمور. بل إن كتاب الموافقات للإمام الشاطبـي رحمه الله لم يحظ بعناية أهل العلم والفقه إلا مع بداية النهضة العربية الحديثة، قبيل بداية القرن الرابع عشر الهجري…. هنا فقط، بدأ الاهتمام بهذا العلم والنظر فيما كتبه الإمام الشاطبـي رحمه الله بالتفسير والتعليق والتطبيق ….

ورغم هذه المجهودات الطيبة المباركة، ورغم ما نلم من آثار لها في بعض الاجتهادات، إلا أن ذلك لا يوافق تطلعات الصحوة الإسلامية المعاصرة، ولا تستطيع أن تؤهل للتدين المطلوب.

وهكذا، كانت النقطة التي حاولت التنبيه إليها في هذا الموضوع هي سبيل الانتقال بمقاصد الشريعة من كونها أداة للاجتهاد يمتلكها العلماء والمجتهدون، إلى سلوك يطبع تصرفات كل متدين له يصبو نحو غايتين:

 

الأولى: تمتين الصلة بالخالق عز وجل من أجل رضاه…. غاية إحسانية.

والثانية: المشاركة الجماعية في البناء الاستخلافي الذي نُدب إليه الإنسان بتكليف الشرع…. غاية عدلية.

هذا اجتهاد، وأملنا أن تتواصل الأبحاث في هذا الاتجاه للانتقال بفقه مقاصد الشريعة الإسلامية من مجال النظر والتنظير إلى مجال العمل والسلوك.

الهوامش

(1) انظر بهذا الصدد كتاب مقاصد المكلفين للدكتور/ عمر سليمان الأشقر.

(2) ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية ص 5.

(3) الموافقات 4/106.

(4) عمر عبيد حسنة في تقديمه لكتاب الاجتهاد المقاصدي… حجيته… ضوابطه…. مجالاته للدكتور نور الدين بن مختار الخادمي 1/17. سلسلة كتاب الأمة رقم 65/66. وقد أعاد نشر مقدمتي الكتاب في كتاب يدل عنوانه على الفكرة نفسها وهو التفكير المقصدي، بدار المكتب الإسلامي.

(5) راجع الفصل الرابع من كتاب نحو تفعيل مقاصد الشريعة للدكتور جمال الدين عطية.

(6) انظر ابن القيم، إعلام الموقعين 3/111 وما بعدها.

(7) انظر أيضًا: د. أحمد الريسوني، الفكر المقاصدي ص 105.

(8) انظر أيضًا: نفسه ص 129.

(9) الشاطبي، الموافقات 2/6.

(10) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان.

(11) الشاطبي، الموافقات 2/6.

(12) نفسه 2/168.

(13) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل عن الإسلام.

(14) من قصيدة ترثى فيها أخاها صخر والتي مطلعها: (أعيني جودا ولا تجمدا *** ألا تبكيان لصخر الندى)، وفي بعض النسخ “ما عالهم” عوض “ما نابهم”.

(15) ابن منظور، لسان العرب، مادة “كلف”.

(16) البرهان في أصول الفقه 1/88.

(17) الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول ص 127.

(18) صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب لا يرجم المجنون ولا المجنونة.

(19) إرشاد الفحول 1/32.

(20) المعتمد 2/331.

(21) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل عن الإسلام.

(22) وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي 1/26.

(23) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.

(24) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة.

(25) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب فضل الصوم.

(26) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم.

(27) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ﴾.

(28) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة.

(29) سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب سورة التوبة.

(30) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الريان للصائمين.

(31) سنن الترمذي/ كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص.

(32) صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب لا يُشرب الخمر، وقال ابن عباس: ينـزع منه نور الإيمان في الزنا.

(33) سنن أبي داود، كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر.

(34) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر