الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها أكثر ما تميز به مؤتمر “المقاومة.. خيار أم ضرورة؟”، فهو مؤتمر فرض أسئلته الحية والساخنة التي يطلقها الجميع، مواطنين، ومثقفين، يوميا أمام حالة من العجز التي تعيشها المنطقة العربية.
تلك الأسئلة التي أثارها عدد كبير من الباحثين والأكاديميين والمهتمين المشاركين المصريين والعرب في أعمال المؤتمر مكن من الخروج بحالة بحثية شاملـة طرحت الأفكار، حول قضية جوهرية تتمثل بكلمة واحدة وهي “المقاومة”.
المقاومة الصوتية:
بداية المؤتمر، الذي عقده مركز الإعلام العربي للأبحاث والمعلومات والنشر في مقر نقابة الصحفيين المصرية ما بين 17-18/9/2006، خصصت لمحور “التأصيل المعرفي لفكرة المقاومة” والتي استدعت سؤال: “ما مشروعية المقاومة على المستوى الفلسفي والشرعي والقانوني والإنساني؟”.
فلسفيا، يرى د. “حسن حنفي” عدم وجود تعارض بين اعتبار المقاومة ضرورة أو اختيارا، فهي خيار إنساني وضرورة اجتماعية، فهي تعبير عن حرية الإنسان لم يختَرْها وإنما فُرضت عليه.
ورأى أن المقاومة تتبدد في ظل الأنظمة الاستبدادية حيث تشاع في ظلها ثقافة الخضوع أو ما يطلق عليه “المقاومة الصوتية”. وهي مع ذلك ضرورية في مواجهة عدو الخارج والداخل، فهي فرض شرعي في مواجهة العدو الخارجي. وهي إعمالٌ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفع الظلم والقهر والاستبداد في مواجهة العدو الداخلي.
وميز “حسن حنفي” بين أربعة نماذج من المقاومة: مقاومة السلاح – نموذج الخوارج، المقاومة السرية – نموذج الإسلاميين والشيوعيين في ظل الأنظمة الاستبدادية، المقاومة العقلية – نموذج المعتزلة، مقاومة الرأي – نموذج الصوفية.
إحقاق الحق :
فيما رأى د. “السيد السيلي” عميد أكاديمية الشريعة بالولايات المتحدة، أن جوهر المقاومة هو إحقاق الحق أو الدفاع عن الحق ومناهضة الباطل. فهي مصطلح إسلامي، أصلته الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، وأيده الكثير من فقهاء الأمة الإسلامية. وبالتالي هو لا يختلف عن مصطلح الجهاد في تحقيق مقاصد الإسلام الخمسة.
ويرى “السيلي” أن المقاومة في الشريعة الإسلامية تحكمها ضوابط، منها: عرض الدعوى، والنهي عن قتل الذين لا يقاتلون والتنكيل بهم، والنهي عن هدم البيوت وقطع الأشجار ونقض العهود. وهي في ذلك وسيلةٌ وليست غاية، هدفها إصلاح الأرض، وهي ضرورة حتمية، وفرض عين على كل مسلم ومسلمة في مقاومة الاحتلال.
أما المـحور القــانوني فتناوله د. “محمد عبد العال”، أستاذ القانون الدولي بجامعة القاهرة، حيث عرفها على أنها استخدام القوة من غير أفراد القوات المسلحة النظامية لتحقيق هدف وطني.
وأشار إلى أن الفقه والقانون الدوليين حرما اللجوء إلى استخدام القوة في حل المنازعات التي تنشب بين الدول؛ إلا أنه قيد هذا التحريم باستثناءيْن: الأول: الدفاع عن النفس، والثاني: اتخاذ تدابير الأمن الجماعي، فالقانون الدولي المعاصر أعطى الحق للشعوب التي تخضع للاحتلال بمقاومته بأشكال المقاومة كافة بما فيها المسلحة، وذلك بعد أن كانت محرمة في نطاق قواعد القانون الدولي التقليدي.
كما ميز “عبد العال” بين المقاومة والإرهاب من حيث مشروعية الهدف، فالدول الكبرى تسعى إلى تغيير قواعد القانون الدولي المعاصر بما ينسجم مع مصالحها التي منها سعيها في تشويه مفهوم المقاومة وتوصيفه بالإرهاب.
شروط استعادة العافية:
سياسيا يرى الدكتور “محمد سعيد إدريس”، الخبير في الشؤون الإيرانية، أن المقاومة مفهومٌ دفاعي، أقرته الأديان والشرائع السماوية والنظريات الوضعية، لتكون المقاومة حق وجود.
كما يشير إلى جملة تطورات سياسية تعرضت لها الأمة العربية، الأمر الذي أدي إلى تراجع مفهوم المقاومة لديها، ومنها: اتفاقية “كامب ديفيد”، ومؤتمر مدريد للسلام، وأحداث 11 أيلول/سبتمبر. وبعض المشاريع السياسية كمشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد.
ويؤكد “إدريس” أنه وفي حال تراجع دور الجيوش في الدفاع عن الأوطان، فحق الشعوب أن تقاوم.
كما يطرح شروطا للمقاومة كي تستعيد عافيتها، وهي:
المشاركة السياسية، فإذا كانت الشعوب مغيبة عن المشاركة، فلن تستطيع أن تقاوم، الظلم في الداخل المتمثل في الاستبداد والعدو في الخارج.
امتلاك ثقافة المقاومة.
أدوار.. وواجبات:
“المقاومة.. الأدوار والواجبات” كانت موضوع أحد المحاور، وفيه طرح سؤال: “ما الأدوار والواجبات التي يجب أن تضطلع بها القوى الفاعلة في المجتمعات العربية لدعم المقاومة؟”.
وكانت الإجابات مختلفة ومتنوعة بحسب القوى الفاعلة، فعلى مستوى الأحزاب والقوى السياسية يرى “أمين إسكندر”، القيادي في حركة كفاية، أن حزب الله حزبٌ مقاوم؛ لأنه يمتلك عناصر البنية الداخلية لأي حزب مقاوم، وهي: فكرة النسق أي العقيدة، والبرنامج السياسي الذي يحدد رؤيته من الصراع، والعدالة الاجتماعية، ومسألتا الهوية والانتماء، بمعنى أنه يحمل هموم أمته ومرتبط مع الناس، وكادر عضوي، وهي بمجملها عناصر اختبرت بشكل فعال في أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان وأفرزت نصرا.
أما على مستوى المجتمع المدني العالمي، فترى “هبه رءوف” المدرسة المساعدة بكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة أن حزب الله يجسد المجتمع المدني العالمي، وتوصلت إلى هذه النتيجة من خلال تفكيك مصطلح المجتمع المدني العالمي، ومن ثم إسقاطه على حزب الله. فالمجتمع يعني الإنسان، والمعرفة، والتخطيط، والشهادة، والتربية العبادية، والمصداقية الأخلاقية، أما المدني فيعني السلم. ولا تقصد هنا بالسلم المجتمعي ذلكَ الذي تدعيه الأنظمة الحاكمة، فهي أنظمة قمعت الناس باسم الحداثة والعقلانية.
أما العالمية فهي –كما تراها– وحدة للتميز، فهي الدفاع عن المجتمع بالوسائل السلمية وغير السلمية.
وتعتقد “هبة رءوف” أن النصر الذي حققه حزب الله في العدوان الإسرائيلي على لبنان يعود إلى أن حزب الله ليس دولة؛ لأن الدول في عالمنا العربي تعجز عن تحقيق الانتصار لأنها مرتبطة بالمؤسسات وحسابات النخبة، ولأنه ليس ضد الدولة ولأنه يتجاوزها؛ فلذلك انتصر. وهي ترى أنك ما دمت تدافع عن الإنسان فأنت المجتمع الدولي العالمي.
حفظ الذاكرة:
وتحدثت الأديبة والأكاديمية “رضوى عاشور” عن دور الأكاديميين والمثقفين، وأكدت أن المقاومة بجوانبها كافة هي أساسا ثقافة وأسلوب حياة، وأن هذه الثقافة قوامها قناعة عميقة بالحقوق وبالذات الجماعية.
وللحفاظ على ثقافة المقاومة أكدت على مفهوم الذاكرة الشعبية التي تسجل الأحداث التي تتعرض لها أمتنا، ولكي لا ننساها علينا أن نؤرخها ونوثقها للأجيال القادمة.
وعن دور الفن والفنانين تحدث الفنان “عبد العزيز مخيون” عن تردي الإنتاج الفني بشكل عام، والمصري بشكل خاص، “فما يعرض على شاشات التلفاز لا يرتقي للمستوى المطلوب من التوعية الجماهيرية بقضايا الأمة”، وعلاجا لذلك يطرح مفهوم “الفن البديل الملتزم بقضايا وهموم الأمة ويعبر عنها”.
ولتحقيق هذا الفن يرى “مخيون” أنه لا بد من توافر ظروف مناسبة، منها: تنامي حركات المقاومة، وتزايد دور الحركات الشعبية، والتأكيد على أهمية دور الفن في ظل غياب الأحزاب والقيود المفروضة عليها من ممارسة العمل السياسي.
الإنتاج.. لا المضاربة:
وعن دور العلماء والدعاة، أكد الدكتور “طلعت عفيفي”، الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف، أن أساس المقاومة هم العلماء والدعاة، فالداعية قلب الأمة النابض، والأدوار التي لعبها الدعاة تؤكد أنهم قادوا عبر التاريخ حركات التحرر والمقاومة، أمثال صلاح الدين الأيوبي، وعمر المختار، والمهدي في السودان.
فيما أكد “محسن صالح” أستاذ التاريخ الإسلامي ورئيس مركز الزيتونة للدراسات الفلسطينية على الأدوار التي يمكن أن تلعبها مراكز الأبحاث والدراسات في دعم مشاريع المقاومة، ولكي تقوم بهذا الدور لا بد من رفع سقف الحريات حتى تشجع حرية التفكير والإبداع، ووضع ميزانيات مالية للبحث العلمي، والعمل على وقف هجرة العقول، وبناء علاقة إيجابية بين المراكز البحثية وصناع القرار، والارتقاء النوعي في التعليم وصولا إلى المقاومة الشاملة التي تربط الطلاب والباحثين بقضايا أمتهم وترسيخ العزة والكرامة لديهم.
أما عن دور رجال المال والأعمال في دعم المقاومة، فيؤكد نائب رئيس القسم الاقتصادي بجريدة الأهرام “ممدوح الولي” على جملة أمور، منها: توظيف الفائض المالي لدعم المقاومة من خلال الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، ومنها رفع مستوى التبادل التجاري العربي، ونشر ثقافة الإنتاج والبعد عن ثقافة المضاربة، كما أكد على ضرورة الاندماج بين الشركات العربية لتتحول من شركات ينافس بعضُها بعضا إلى شركات متعاونة كل حسب إنتاجه.
ما مستقبل المقاومة؟
سؤال مستقبل مشروع المقاومة كان حاضرا في محاور المؤتمر: “فما مستقبل مشروع المقاومة في ظل التحديات والعوائق التي تواجهها؟ وهل الميزان العسكري يصب لصالح المقاومة أم يسير باتجاه معاكس؟”.
السؤال الأول الذي يتعلق بالتحديات التي تواجه المقاومة تناوله الكاتب والباحث الفلسطيني “محمد خالد الأزعر” والذي قال: “المقاومة استجابة لمجموعة من التحديات التي تواجه الفرد والمجتمع، ومن التحديات التي تواجه المقاومة، برأيه، الخصوصية التي تشير إلى أنه لكل أمة تجربتها الخاصة بالمقاومة، فهي تختلف باختلاف الأمم، إذ لا يجوز النسخ الخطي لتجارب المقاومة كأن نقول: التجربة الهندية السلمية، والتجربة الفيتنامية تنسجم مع ظروفنا الموضوعية والذاتية”.
ومن التحديات برأي الأزعر ضبط مفهوم المقاومة في ظل سعي الدول الكبرى لتشويه مفهوم المقاومة وتوصيفه بأنه إرهاب. وهناك تحدي التجزئة الذي يعني حالة الانقسام التي تعاني منها الأمة العربية تؤثر بشكل سلبي على المقاومة، فضلا عن العداء العربي– العربي. وتحدي التعدد التنظيمي لتجربة المقاومة الواحدة. إضافة إلى التحدي الثقافي المتمثل بشيوع ثقافة السلام وعدم كراهية الآخر حتى إذا كان هذا الآخر محتلا، فضلا عن استنساخ قيم وسلوكيات لا تنسجم وقيمَنا العربية الإسلامية، وبروز ظاهرة الميوعة والخنوثة في سلوك الشباب العربي. ناهيك عن الإحباط المنتشر بين الشباب.
كما تعاني المقاومة من تحدي الديمقراطية، والبيئة الدولية، وتحدي افتقاد القاعدة الآمنة والافتقاد للعمق المجتمعي.
وحاول الدكتور “سيف الدين عبد الفتاح” أستاذ النظرية السياسية في جامعة القاهرة تلمس طرق مستقبل المقاومة، وبدأ ذلك بتعريفها، فهي حالة عملية، وسياسات، وأطراف، وسلوك ممتد. فالمقاومة ليست أحداثا أو لحظات، بل هي فعل حضاري شامل ومستمر ومستقر ومتكامل ومستقل في مواجهة التحديات والعدوان.
ورأى أنه من الصعوبة بمكانٍ قراءةُ المستقبل بمنأى عن قراءة التحديات فهي غايةٌ في الأهمية كفعل حضاري مستمر. وهذا فعل يتطلب بيئة حاضنة، كما يتطلب الوعي بالتحديات، فلا يمكن الحديث عن المقاومة إلا بوعي مكين في إطار ما يسمى بفعل الإرادة القوى.
وعبر مداخلته قدم عدة قراءات قصيرة لمستقبل المقاومة: منها القراءة التحمُّلية، بمعنى ألا نُحمل الخارج كل الشر والمفاسد، ونبرئ أنفسنا، إذ يجب أن ننظر لكل شيء على أنه من عند أنفسنا. ويستشهد الدكتور هنا بالآية الكريمة ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ (آل عمران: 165).
أما القراءة الانفعالية فمضمونها أنه متى وُجد الباطل وُجدت المقاومة. فتفاعلنا مع الأحداث التي تمر بها أمتنا تفاعل وقتي، فمتى انتهى الحدث، عادت الجماهير إلى ما كانت عليه من وهن واستكانة.
ودعا إلى تدريب النفس على ثقافة المقاومة، ورفض ثقافة “الفرجة” أو المشاهدة التي لا تسهم في المقاومة، ورفض ثقافة الرصيف المستندة على الغيبيات، كأن تنتهي إسرائيل عام 2020، والولايات المتحدة الأمريكية عام 2040 .
وتساءل د. عبد الفتاح: “لماذا لا تساند الأنظمة العربية المقاومة بشكل عام؟” ويجيب بأن المقاومة ملة واحدة، فمن يقاوم العدو الخارجي يقاوم الاستبداد الداخلي، فهما وجهان لعملة واحدة. فالمقاومة سنة ماضية تتأهل بالفعل الإنساني، ما دام هناك فعلٌ آخر قد استدعى المقاومة.
ورأى أن النظام الإقليمي العربي عاجز عن مواجهة الضغوط الخارجية التي تمارَس عليه من التحالف الأمريكي الصهيوني؛ لأنه فاقد للإرادة السياسية، وبالتالي خارج من دائرة المقاومة.
ودعا “سيف عبد الفتاح” إلى تبني إستراتيجيـة عسـكرية ترتكز على مفهوم الصراع المنخفض الشدة، والذي يتمثل في دعم الشعب لفصائل المقاومة، وقيام منظمات المجتمع المدني بالضغط على أنظمتها لتعديل خارطة التحالفات.