عندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى (11هـ ـ 632م) كان تعداد الأمة المؤمنة التى دخلت الإسلام، وانخرطت في رعية الدولة الإسلامية الأولى …,124 من المسلمين والمسلمات.
وعندما رصد علماء (التراجم .. والطبقات) أسماء الأعلام والصفوة والنخبة التى تربت في مدرسة النبوة، وتميز عطاؤها في مختلف ميادين العطاء – من الصحابة والصحابيات – رصدوا أسماء نحو من ثمانية آلاف من صفوة الصفوة، والطلائع الذين قادوا وأنجزوا – مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – تأسيس الدين وإقامة دولة الإسلام .. ومن بين الثمانية آلاف هؤلاء كان هناك أكثر من ألف من النساء!.. أي أن التحرير الإسلامي للمرأة قد دفع إلى مراكز القيادة والريادة أكثر من واحدة من بين كل ثمانية من الصفوة والنخبة، إبان ثورة التحرير الإسلامي، في أقل من ربع قرن من الزمان! .. وهي أعلى نسبة للريادات النسائية في أي ثورة من ثورات التحرير أو نهضة من النهضات في أي مجتمع من المجتمعات أو أية حضارة من الحضارات عبر تاريخ الثورات والنهضات والحضارات.
ولم تكن عظمة التحرير الإسلامي للمرأة – التى كانت توأد حية .. وتوأد معنويًّا.. وتُعامل كأنها من سقط المتاع – لم تكن عظمة هذا التحرير واقفة فقط عند هذا العدد وهذا الكم وهذه النسبة – غير المسبوقة ولا الملحوقة! – وإنما كانت العظمة أيضًا – وبالدرجة الأولى – في (نوعية التحرير)، الذي أثمر ريادات وقيادات نسائية لا تزال حضارتنا الإسلامية تباهى بهن الدنيا حتى هذه اللحظات .. ويكفى أن نعلم بعض من نماذج هذه الريادات والقيادات من صفوة الصحابيات، رضوان الله عليهن، أمثال:
* خديجة بنت خويلد (68 – 3ق هـ/ 566 – 620م) التى سبقت كل الرجال إلى الإيمان بالدين الوليد، وكانت الداعمة والمجاهدة بالعقل والحكمة والمال – وأيضًا بالعواطف المعطاءة لرسول الإسلام ودعوته وأمته.. حتى كان عام وفاتها عام الحزن والحداد للجماعة المؤمنة كلها ..
*وأسماء بنت أبى بكر الصديق ( 27ق هـ – 73هـ/ 597 – 692م) التى حملت أمانة سر الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة ( 1هـ – 622م) وشاركت في تنفيذ هذا الحدث المحوري العظيم.. وشدت أزر زوجها البطل الزبير بن العوام (28ق هـ ـ 36هـ / 596 – 656م) فكانت تهيئ له بيته.. وتزرع له حقله.. وترعى فرس جهاده.. وتقاتل معه في بعض الغزوات .. وتربى ولده عبدالله بن الزبير ( 1- 73هـ / 622 ـ 692م) على البطولة والفداء والاستشهاد.. وتعارض وتجابه الطغاة، من أمثال الحجــــاج بن يوسف الثقفى (40- 95هـ/ 660 – 714م) .. ومع كل ذلك ، تظل أسماء الأنثى التى تتزين بالحشمة الإسلامية، فلا تلبس ما يكشف أو يصف أو يشف.. وتحافظ على مشاعر الغيرة المفرطة عند زوجها!..
* وسمراء بنت بهيك .. التى مارســت – على عهد النبوة – ولايات الوعظ والإرشاد .. والسوق.. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر..
* والشفاء بنت عبدالله بن عبد شمس، القرشية العدوية (20هـ ـ640م) التى سبقت إلى الإسلام.. وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدخول في الإسلام وأمته ودولته.. وتميزت بالعقل والرأى والحكمة .. واشتغلت بتعليم القراءة والكتابة، حتى كانت المعلمة لحفصة أم المؤمنين.. وروت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت تحاوره، وأحيانًا تلومه، فيعتذر إليها صلى الله عليه وسلم !.. وبلغت في المشاركة في السلطة والدولة، أن ولاها عمر بن الخطاب (ولاية الحسبة) أي (وزارة ) التجارات والأسواق، وأوزانها ومعاملاتها!.. تراقب وتحاسب وتفصل بين التجار وأهل السوق، من الرجال والنساء..
* وأم هــانئ فاختـــة بنت أبى طالب (40هـ – 661م) التى أسلمت عام الفتح (8هـ – 629م) .. ومع أن زوجها المشرك قد فرّ بشركه إلى نجران يوم الفتح، فلقد أجارت – أي أعطت الأمان – لرجلين من قومه – بنى مخزوم – كانا مطلوبين للقصاص الإسلامي.. ووقفت – لذلك – في وجه أخيها على بن أبى طالب – الذي هم بتنفيذ القصاص فيهما – فصارعته، حماية لمن أجارت ، حتى لم يستطع من قوتها فكاكًا!.. واستجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعهدها ولإجارتها قائلاً:
– (قد أجرنا من أجرت، وأمّنا من آمنت يا أم هانئ.. لكن، لا تغضبي عليًّا، فإن الله يغضب لغضبه!.. فأطلقت أخاها! .. فداعبه الرسول، صلى الله عليه وسلم، قائلاً:
– (يا علي، غلبتك امرأة)!
فقال علي: والله يارسول الله ، ما قدرت أن أرفع قدمّى من الأرض!.. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
– (لو أن أبا طالب والد الناس كانوا شجاعًا)!..
ولقد بلغ الإسلام بالتحرير لضمير المرأة وإرادتها الذروة.. فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي .. وقائد الأمة .. ورئيس الدولة والفاتح المنتصر – يخطب لنفسه أم هانئ – بعد أن فرّق الإسلام بينها وبين زوجها المشرك – لتكون له زوجًا، وللمؤمنين أمًّا .. فتعتذر أم هانئ عن خطبة الرسول لها، في أدب جم وحكمة بالغة، فتقول لخير خلق الله:
– يا رسول الله ، لأنت أحب إلى من سمعى وبصري. وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلتُ على زوجى أن أضيع بعض شأنى وولدى، وإن أقبلتُ على ولدي أن أضيّع حق زوجيّ..
فقبل المصطفى صلى الله عليه وسلم اعتذارها، واحترم رغبتها التفرغ لأولادها.. صنع ذلك ، وهو القائد المنتصر يوم الفتح الأكبر والانتصار الأعظم.. وغالب عاطفته الإنسانية، وحبه لأم هانيء – وهو الذي كان قد سبق وخطبها من أبيها أبى طالب، بعد وفاة زوجه خديجة، وقبل زواجها في بنى مخزوم .. ولكن عمه أبا طالب اعتذر يومها للرسول، بأنه قد وعد آل مخزوم، أن يزوجها فيهم لهبيرة بن أبى وهب المخزومي ، وقال أبو طالب للرسول صلى الله عليه وسلم ، يومئذ:
– يا ابن أخى، إنا قد صاهرنا لكم، والكريم يكافئ الكريم ..
غالب الرسول عواطفه الإنسانية. واحترم حرية أم هانئ .. لأن مدرســته – مدرسة النبوة – هي التى أنجزت هذا التحرير للنساء – وأثنى عليها وعلى ما تمثل من منظومة للقيم وشموخ للحرية والتحرير فقال، صلى الله عليه وسلم :
– (إن خير النساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل في ذات يده)! .
* وعائشـة بنت أبى بكر الصديق (9ق هـ – 58هـ/ 613 – 678م) .. زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين .. الزوجة الرقيقة والحبيبة.. وراوية الحديث وحافظة السنة النبوية والسيرة العطرة.. والفقيهة التى تراجع القراء والرواة والفقهاء والمجتهدين من الرجال.. والمشيرة في الشئون العامة.. والمتذوقة للفنون التى تعرضها فرقة فنية – من الأحباش – في مسجد النبوة.. والممارسة لرياضة الجرى مع زوجها صلى الله عليه وسلم، ، أثناء السفر إلى الغزو والجهاد.. والمشاركة في الصراع السياسى، الذي بلغ حد القتال، إبان الفتة الكبرى! .
* وحفصــة بنت عمر بن الخطاب (18ق هـ – 45 هـ/ 604 – 665م) زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين التى سبقت إلى الإسلام بمكة .. وهاجرت بدينها وعقيدتها إلى المدينة المنورة.. وكانت شاعرة.. وخطيبة فصيحة.. وراوية للحديث.. ائتمنتها الأمة على حفظ صحائف القرآن عندما جمع المسلمون صحائفه، على عهد أبى بكر الصديق، فحفظته حتى أسلمته إلى الخليفة عثمان بن عفان.. وشاركت حفصة بالرأى في تدبير شئون الأمة بعد استشهاد أبيها الفاروق .. ورثته نثرًا وشعرًا.. وخطبت في الناس بمناقب وفضائل أبى بكر وعمر..، وتحدثت عن سنة الإسلام في الاختيار الشوريّ للخلفاء، والبيعة التعاقدية بين الأمة وبينهم ..
* * *
هذه نماذج سبعة لأكثر من ألف من النساء اللاتي حررهن الإسلام، فتبوأن مكان الريادة والقيادة بين النخبة والصفوة التى أقامت الدين وأسست الدولة ووحدت الأمة.. قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان ..
وإذا كانت رياح الجاهلية قد أعادت بعض التقاليد والعادات – التى سبقت وسادت مجتمعات ما قبل الإسلام – فإن هذه التقاليد الراكدة لم تستطع غلبة إنجازات التحرير الإسلامي للمرأة – رغم مغالبتها لهذه الإنجازات – فظلت روح هذا التحرير وثمراته ملحوظة حتى في عصور التراجع الحضاري الذي أصاب عالم الإسلام، في ظل عسكرة الدولة، تحت حكم المماليك.. والعثمانيين.. فظلت حياتنا الاجتماعية الإسلامية زاخرة بنماذج النساء المحدثات .. والفقيهات .. والشاعرات والأديبات .. اللائي بلغ شأوهن في العلم الحد الذي تتلمذ عليهن وأخذ (الإجازة) العلمية منهن عدد من كبار أئمة الفقهاء والحفاظ والمحدثين والمجددين!..
وعندما رصد عالم التاريخ والتراجم والطبقات عمر رضا كحالة (1323 – 1408هـ 1905 – 1987م) أعلام النساء اللائي تفوقن وبرزن وتقدمن صفوف الصفوة في تاريخنا الحضاري ، إذا به يترجم لثلاثة آلاف من أعلام النساء في المحيط العربي وحده – وهو محيط لا يمثل إلا خُمس أمة الإسلام!..
فلما جاءت نهضتنا الحديثة، لتنقل العلم والتعليم من (فرض الكفاية) إلى (فرض العين)، سبق التعليم المدنى تعليمنا الديني في هذا الميدان.. فتخرجت من مؤسسات التعليم المدنى نماذج رائدة وقائدة من النساء.. لكن ظلت المرأة بعيدة عن التخصص في الشريعة الإسلامية وعلومها .. اللهم إلا من فلتات اقتحمن هذا الميدان بجهدهن الذاتي والخاص.. فلما كان تطوير الأزهر في ستينيات القرن العشرين، انفتحت الأبواب مرة أخرى أمام المرأة المسلمة لحمل أمانة الدين مع أمانة الدنيا.. فتواصل واقعنا المعاصر مع عصر النبوة.. ورأينا فقيهات يتخرجن من الأزهر الشريف، يحملن أمانة الدين إلى الناس . بينما لا تزال كنائس النصرانية وحاخامات اليهودية يحرمون المرأة من هذا الشرف حتى هذه اللحظات!..
خمس شبهات
وإذا كانت هذه هي الرؤية الإسلامية لأهلية المرأة.. ولمكانتها من الرجل.. ولموقعها من المشاركة في العمل الاجتماعي العام.. وهي الرؤية الوسط، التى تُنصف المرأة مع الرجل في النهوض بولايات العمل الاجتماعي العام – التى تجمعها فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ..
إذا كانت هذه هي الرؤية الإسلامية – الوسط: العدل – لهذه القضية – التى دار ويدور حولها لغط كثير وجدل كبير وشديد – فإن اكتمال مقومات هذه الرؤية مرهون بإزالة كل ما أثير ويثار حولها من الشبهات.. ففي المنهاج الإسلامي لا يكفى تبليغ الدعوة .. ولا حتى إقامة الحجة .. وإنما لابد – معهما أيضًا – من إزالة الشبهات..
ولأن هذه الرؤية التى قدمناها هي الوسط – أي الإسلامية الحقة .. – كما نحسب – فلقد اتفق أطراف الغلو على ما أثير ويثار ضدها من شبهات!.. فصدقت في هذا الاتفاق الذي جمع طرفى الغلو.. غلو الجمود والتقليد لتراث عصر تراجعنا الحضاري.. وغلو الجمود والتقليد العلماني للنموذج الغربي الوضعي اللاديني – صدقت في هذا الاتفاق والاجتماع المقولة السياسية المعاصرة التى تقول : إن أقصى اليمين وأقصى اليسار إنما يجتمعان على الأرض المشتركة للموقف الخاطئ!.
ومن هنا رأينا طرفى الغلو الديني واللاديني يجتمعان على إثارة خمس شبهات.. يحسبها الإسلاميون الغلاة، الذين حملوا العادات والتقاليد الراكدة على الإسلام، فجعلوها دينا.. يحسبونها مانعة دينيًّا من اكتمال أهلية المرأة، ومن مشاركتها في العمل الاجتماعي العام.. ويحسبها غلاة العلمانيين عقبات إسلامية تحول دون اكتمال أهلية المرأة، فتجعل منها – من ثم – نصف إنسان.. ولذلك كانت دعوتهم إلى إسقاط الحل الإسلامي لتحرير المرأة، وإلى التماس هذا الحل في النموذج الغربي لهذا التحرير ..
فمع اختلاف وتناقض المنطلقات والانتماءات ، اتفق أهل الغلو، الديني واللاديني، على إثارة هذه الشبهات الخمس، التى يحسبها الإسلاميون منهم دينًا، فيدافعون عنها .. ويحسبها العلمانيون منهم دينًا، فيرفضون الإسلام بسببها! ..
ولذلك كانت إزالة هذه الشبهات جهادًا فكريًّا على الجبهتين معًا.. جبهة الغلو والتقليد والجمود الديني.. وجبهة الغلو والتقليد والجمود التغريبي اللاديني.
أما هذه الشبهات الخمس – المثارة حول أهلية المرأة .. ومشاركتها للرجل في العمل الاجتماعي العام – فهي:
1- أن الإسلام يجعل ميراث الأنثى نصف ميراث الذكر ((لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ )) (النســاء :11) .. وفي ذلك – كما يقول العلمانيون – انتقاص من أهلية المرأة، يجعلها نصف إنسان!!..
2- وأن الإسلام يجعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل ((فَإِنْ لَمْ يَكُونَــا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَـــــانِ )) (البقرة: 282) – وفي ذلك انتقاص من أهليتها، يجعل منها نصف إنسان !..
3- وأن الإسلام – بنص الحديث النبوي الشريف – يجعل النساء ناقصات عقل ودين .. وهو بذلك يقنن ويشرع انعدام أهلية المرأة ، ويحول دون مساواتها بالرجال .
4- وأن الإسلام يُشرع لعزل المرأة عن المشاركة في ولايات العمل العام، وذلك عندما يجعل ولايتها فيه وله المقدمة المفضية لعدم الفلاح (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة).
5- كما أن المفهوم الشائع – لدى أهل الغلو الديني واللاديني – عن (القوامة) التى قررها الإسلام للرجال على النساء – قد جعل فريقى الغلو يجتمعون على أن هذه القوامة إنما تنتقص من كمال أهلية المرأة ومن مساواة النساء للرجال .. لأنها تجعل النساء أسيرات مقهورات عند القوامين عليهن من الرجال ..
تلك هي الشبهات الخمس، التى (عششت وتعشش) في عقول غلاة الإسلاميين – الذين جعلوا تقاليد مجتمعاتهم، الموروثة عن عصور التراجع الحضاري، دينًا يتدينون به! – والتى (عششت وتعشش) في العقل العلماني، حتى لقد رفض، لذلك، سبيل الإسلام لتحرير المرأة ، والتمس هذا التحرير لها في النموذج الغربي اللاديني ..
وهي الشبهات التى لابد من محاكمتها بالمنطق الإسلامي، لكشف زيفها، وبراءة الإسلام من عوارها وعوراتها ..
الشبهة الأولى
أن الأنثى – في الميراث – نصف إنسان
صحيح وحق أن آيات الميراث، في القرآن الكريم، قد جاء فيها قول الله، سبحانه وتعالى : ((لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن)) (النساء: 11) .. لكن كثيرين من الذين يثيرون الشبهات حول أهلية المرأة في الإسلام، متخذين من التمايز في الميراث سبيلاً إلى ذلك، لا يفقهون أن توريث المرأة على النصف من الرجل ليس موقفًا عامًّا ولا قاعدة مطردة في توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث.. فالقرآن الكريم لم يقل: يوصيكم الله في المواريث والوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.. وإنما قال : ((يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ )) (النساء: 11) .. أي أن هذا التمييز ليس قاعدة مطردة في كل حالات الميراث، وإنما هو في حالات خاصة، بل ومحدودة ، من بين حالات الميراث..
بل إن الفقه الحقيقي لفلسفة الإسلام في الميراث تكشف عن أن التمايز في أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة.. وإنما لهذه الفلسفة الإسلامية في التوريث حِكَم إلهية ومقاصد ربانية قد خفيت عن الذين جعلوا التفاوت بين الذكور والإناث في بعض مسائل الميراث وحالاته شبهة على كمال أهلية المرأة في الإسلام.. ذلك أن التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات – في فلسفة الميراث الإسلامي – إنما تحكمه ثلاثة معايير :
أولها : درجـة القرابــــة بين الوارث – ذكر أو أنثى – وبين الـمُوَرَّث – المتوفى – فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث.. وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث، دونما اعتبار لجنس الوارثين ..
وثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمنى للأجيال.. فالأجيال التى تستقبل الحياة، وتستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التى تستدبر الحياة، وتتخفف من أعبائهـا ، وتصبح أعباؤها – عادة – مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات .. فبنت المتوفَّىّ ترث أكثر من أمه – وكلتاهما أنثى – .. بل وترث البنت أكثر من الأب – حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها.. وحتى ولو كان الأب هو مصدر الثروة التى للابن، والتى تنفرد البنت بنصفها -.. وكذلك يرث الابن أكثر من الأب- وكلاهما من الذكور!..
وفي هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث في الإسلام حِكَم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين!.. وهي معايير لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق..
ثالثها: العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين .. وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتًا بين الذكر والأنثى .. لكنه تفاوت لا يفضى إلى أي ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها.. بل ربما كان العكس هو الصحيح!..
ففي حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون في درجة القرابة.. واتفقوا وتساووا في موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال – مثل أولاد المتوفى، ذكورًا وإناثًا – يكون تفاوت العبء المالي هو السبب في التفاوت في أنصبة الميراث؛ ولذلك لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى في عموم الوارثين، وإنما حصره في هذه الحالة بالذات، فقالت الآية القرآنية : ((يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ )) (النساء: 11) .. ولم يقل يوصيكم الله في عموم الوارثين..
والحكمة في هذا التفاوت ، في هذه الحالة بالذات، هي أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى – هي زوجه – مع أولادهما.. بينما الأنثى الوارثة – أخت الذكر – إعالتها، مع أولادها ، فريضة على الذكر المقترن بها.. فهي – مع هذا النقص في ميراثها – بالنسبة لأخيها الذي ورث ضعف ميراثها، أكثر حظًّا وامتيازًا منه في الميراث.. فميراثها – مع إعفائها من الإنفاق الواجب – هو ذمة مالية خالصة ومدخرة، لجبر الاستضعاف الأنثوى، ولتأمين حياتها ضد المخاطر والتقلبات.. وتلك حكمة إلهية قد تخفى على الكثيرين ..
وإذا كانت هذه هي الفلسفة الإسلامية في تفاوت أنصبة الوارثين والوارثات – وهي التى يغفل عنها طرفا الغلو، الديني واللاديني ، الذين يحسبون هذا التفاوت الجزئي شبهة تلحق بأهلية المرأة في الإسلام – فإن استقراء حالات ومسائل الميراث – كما جاءت في علم الفرائض (المواريث) – يكشف عن حقيقة قد تذهل الكثيرين عن أفكارهم المسبقة والمغلوطة في هذا الموضوع . فهذا الاستقراء لحالات ومسائل الميراث، يقول لنا :
1- إن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
2- وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة مثل الرجل تمامًا.
3- وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
4- وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال .
أي أن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه أو ترث هي ولا يرث نظيرها من الرجال، في مقابلة أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل(1) ..!!
تلك هي ثمرات استقراء حالات ومســائل الميراث – في علــم الفرائــض (المواريث) ، التى حكمتها المعايير الإسلامية التى حددتها فلسفة الإسلام في التوريث.. والتى لم تقف عند معيار الذكورة والأنوثة، كما يحسب الكثيرون الذين لا يعلمون!..
وبذلك نرى سقوط الشبهة الأولى من الشبهات الخمس المثارة حول أهلية المرأة، كما قررها الإسلام .
الشبهة الثانية
أن المرأة – في الشهادة – نصف إنسان
أما الشبهة الثانية – والزائفة – التى تثار حول موقف الإسلام من شهادة المرأة.. والتى يقول مثيروها: إن الإسلام قد جعل المرأة نصف إنسان، وذلك عندما جعل شهادتها نصف شهادة الرجل، مستدلين على ذلك بآية سورة البقرة : ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) (البقرة : 282).
ومصدر الشبهة التى حسب مثيروها أن الإسلام قد انتقص من أهلية المرأة، بجعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل ((فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)) هو الخلط بين (الشهادة) وبين (الإِشهاد) الذي تتحدث عنه هذه الآية الكريمة .. فالشهادة التى يعتمد عليها القضاء فى اكتشاف العدل المؤسس على البينة، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تأخذ من الذكــورة أو الأنوثــة معيارًا لصـدقها أو كذبها، ومن ثم قبولها أو رفضها.. وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضى لصدق الشهادة، بصرف النظر عن جنس الشاهد، ذكر أكان او أنثى ، وبصرف النظر عن عدد الشهود .. فللقاضى ، إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة أن يعتمد شهادة رجلين، أو امرأتين، أو رجل وامرأة، أو رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين، أو رجل واحد ، أو امرأة واحدة.. ولا أثر للذكورة أو الأنوثة في الشهادة التى يحكم القضاء بناء على ما تقدمه له البينات .
أما آية سورة البقرة ، التى قالت : ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)) .. فإنها تتحدث عن أمر آخر غير (الشهادة) أمام القضاء.. تتحدث عن (الإشهاد) الذي يقوم به صاحب الدين، للاستيثاق من الحفاظ علىدينه، وليس عن (الشهادة) التى يعتمد عليها القاضى في حكمه بين المتنازعين .. فهي – الآية – موجهة لصاحب الحق – الدين ، وليس إلى القاضى الحاكم في النزاع.. بل إن هذه الآيـــة لا تتوجه إلى كل صــاحب حق – دين – ولا تشترط ما اشترطت من مستويات الإشهاد وعدد الشهود في كل حالات الدين.. وإنما توجهت بالنصح والإرشاد – فقط النصح والإرشاد – إلى دائن خاص، وفي حالات خاصة من الديون ، لها ملابسات خاصة نصت عليها الآية .. فهو دين إلى أجل مسمى، ولابد من كتابته.. ولابد من عدالة الكاتب ويحرم امتناع الكاتب عن الكتابة. ولابد من إملاء الذي عليه الحق.. وإن لم يستطع فليملل وليه بالعدل.. والإشهاد لابد أن يكون من رجلين من المؤمنين.. أو رجل وامرأتين من المؤمنين.. وأن يكون الشهود ممن ترضى عنهم الجماعة .. ولا يصح امتناع الشهود عن الشهادة.. وليست هذه الشروط بمطلوبة في التجارة الحاضرة.. ولا في المبايعات.
ثم إن الآية ترى في هذا المستوى من الإشهاد الوضع الأقسط والأقوم.. وذلك لا ينفى المستوى الأدنى من القسط.
ولقد فقه هذه الحقيقة ، حقيقة أن هذه الآية إنما تتحدث عن (الإشهاد) في دين خاص، وليس عن (الشهادة).. وأنها نصيحة وإرشاد لصـــاحب الدين ذي المواصفات والملابسات الخاصة وليســت تشـــريعًا موجهًا إلى القاضى – الحاكم – في المنازعات ، فقه ذلك العلماء المجتهدون .
ومن هؤلاء العلماء الفقهاء الذين فقهوا هذه الحقيقة، وفصلوا القول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية ( 661 – 728هـ/ 1263 – 1328م) وتلميذه العلامة ابن القيم (691 – 751هـ / 1292 – 1350م) من القدماء – والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1265 – 1323هـ/ 1849 – 1905م) والإمام الشيخ محمود شلتوت (1310 – 1383هـ / 1893 – 1963م) من المحدثين والمعاصرين – فقال ابن تيمية – فيما يرويه عنه ويؤكد عليه ابن القيم – :
قال – عن (البينة) التى يحكم القاضى بناء عليها.. والتى وضع قاعدتها الشرعية والفقهية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه) رواه البخاري والترمذى وابن ماجة.
( إن البينة، في الشرع، اسم لما يبين الحق ويظهره ، وهي تارة تكون أربعة شهود، وتارة ثلاثة، بالنص في بينة المفلس، وتارة شاهدين، وشاهد واحد، وامرأة واحدة، وتكون نُكولاً(1) ، ويمينًا، أو خمسين يمينًا، أو أربعة أيمان، وتكون شاهد الحال. فقوله ، صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعى) ، أي عليه أن يظهر ما يبين صحة دعواه، فإذا ظهر صــدقه بطــريق من الطرق حُكم له..)(1).
فكما تقوم البينة بشهادة الرجل الواحد أو أكثر. تقوم بشهادة المرأة الواحدة أو أكثر، وفق معيار البينة التى يطمئن إليها ضمير الحاكم – القاضى – :
* ولقد فصّل ابن تيمية القول في التمييز بين طرق حفظ الحقوق، التى أرشدت إليها ونصحت بها آية الإشهاد – الآية 282 من سورة البقرة – و هي الموجهة إلى صاحب (الحق – الدين) وبين طرق البينة، التى يحكم الحاكم – القاضى – بناء عليها .. وأورد ابن القيم تفصيل ابن تيمية هذا تحت عنوان (الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه).. فقال:
(إن القرآن لم يذكر الشاهدين، والرجل والمرأتين في طرق الحكم التى يحكم بها الحاكم، وإنما ذكر النوعين من البينات في الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه، فقال تعالى : ((إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضـَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء)) (البقرة: 282) .. فأمرهم ، سبحانه، بحفظ حقوقهم بالكتاب(2) ، وأمر من عليه الحق أن يملى الكاتب، فإن لم يكن ممن يصح إملاؤه أملى عنه وليه، ثم أمر من له الحق أن يستشهد على حقه رجلين، فإن لم يجد فرجل وامرأتان، ثم نهى الشهداء المتحملين للشهادة عن التخلف عن إقامتها إذا طلبوا لذلك، ثم رخص لهم في التجارة الحاضرة ألا يكتبوها، ثم أمرهم بالإشهاد عند التبايع، ثم أمرهم إذا كانوا على سفر، ولم يجدوا كاتبًا، أن يستوثقوا بالرهان المقبوضة .
كل هذا نصيحة لهم، وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم، وما تحفظ به الحقـــوق شـيء وما يحكــم به الحاكم (القاضى) شيء، فإن طرق الحكم أوسع من الشاهدين والمرأتين، فإن الحكم يحكم بالنكول، واليمين المردودة، ولا ذكر لهما في القرآن – وأيضًا، فإن الحكم يحكم بالقرعة – بكتاب الله وسنة رسوله الصريحة الصحيحة – ويحكم بالقافة(1) – بالسنة الصريحة الصحيحة، التى لا معارض لها – ويحكم بالقسامة(2) – بالسنة الصحيحة الصريحة – ويحكم بشاهد الحال إذا تداعا الزوجان أو الصانعان متاع البيت والدكان، ويحكم، عند من أنكر الحكم، بالشاهد واليمين، بوجود الآجر في الحائط، فيجعله للمدعى إذا كان جهت – وهذا كله ليس في القرآن، ولا حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه .
فإن قيل : فظاهر القرآن يدل على أن الشاهد والمرأتين بدل عن الشاهدين، وأنه لا يُقضى بهما إلا عند عدم الشاهدين. قيل: القرآن لا يدل على ذلك، فإن هذا أمر لأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم، فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق، فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها.. وهو، سبحانه ، لم يذكر ما يحكم به الحاكم، وإنما أرشدنا إلى ما يحفظ به الحق، وطرق الحكم أوسع من الطرق التى تحفظ بها الحقوق)(3)..
وبعد إيراد ابن القيم لهذه النصوص، نقلاً عن شيخه وشيخ الإسلام ابن تيمية، علق عليها، مؤكدًا إياها، فقال:
(قلت -أي ابن القيم-: وليس في القرآن ما يقتضي أنه لا يُحْكَم إلا بشاهدين، أو شاهد وامرأتين، فإن الله سبحانه إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النصاب، ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به، فضلاً عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك. ولهذا يحكم الحاكم بالنكول، واليمين المردودة، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات، لا رجل معهن، وبمعاقد القُمط(4)، ووجوه الآجر، وغير ذلك من طرق الحكم التي لم تُذكر في القرآن، فطرق الحكم شيء، وطرق حفظ الحقوق شيء آخر، وليس بينهما تلازم، فتُحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم مما يعلم صاحب الحق أنه يحفظ به حقه، ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه، ولا خطر على باله..(1)) .
فطرق الإشهاد، في آية سورة البقرة -التي تجعل شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد- هي نصيحة وإرشاد لصاحب الدَّيْن -ذي الطبيعة الخاصة- وليســت التشــريع الموجـه إلى الحاكم -القاضي- والجامع لطرق الشهادات والبينات.. إنها خاصة بدَيْن له مواصفاته وملابساته، وليست التشريع العام في البينات التي تُظهر العدل فيحكم به القضاة .
* وبعد هذا الضبط والتمييز والتحديد، أخذ ابن تيمية يعدد حالات البينات والشهـادات التي يجوز للقاضي -الحاكم- الحكم بناء عليها، فقال:
(إنه يجوز للحاكم -القاضي- الحكم بشهادة الرجل الواحد إذا عرف صدقه، في غير الحدود، ولم يوجب الله على الحكام ألا يحكموا إلا بشاهدين أصلاً، وإنما أمر صاحب الحق أن يحفظ حقه بشاهدين، أو بشاهد وامرأتين، وهذا لا يدل على أن الحاكم لا يحكم بأقل من ذلك، بل قد حكم رسول اللهصلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين، وبالشاهد فقط، وليس ذلك مخالفًا لكتاب الله عند من فهمه، ولا بين حكم الله وحكم رسوله خلاف.. وقد قبل النبي شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان، وتسمية بعض الفقهاء ذلك إخبار، لاشهادة، أمر لفظى لا يقدح في الاستدلال، ولفظ الحديث يردّ قوله . وأجاز صلى الله عليه وسلم، شهادة الشاهد الواحد في قضية السلب(2)، ولم يُطالب القاتل بشاهد آخر، ولا استحله، وهذه القصة (وروايتها في الصحيحين) – صريحة في ذلك .. وقد صرح الأصحاب: أنه تُقبل شهادة الرجل الواحد من غير يمين عند الحاجـــــة ، وهــو الذي نقلــه الخرقى (334هـ، 945م) في مختصره ، فقال: وتُقْبَلُ شهادة الطبيب العدل في الموضحة(3) إذا لم يقدر على طبيبين ، وكذلك البيطار في داء الدابة ..)(4) .
وكما تجوز شهادة الرجل الواحد في غير الحدود .. وكما تجوز شهادة الرجال وحدهم في الحدود، تجوز – عند البعض – شهادة النساء وحدهن في الحدود .. وعن ذلك يقول ابن تيمية ، فيما نقله عنه ابن القيم :
(وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، وقد شهدت على فعل نفسها، ففي الصحيحين عن عقبة ابن الحارث: ( أنه تزوج أم يحيى بنت أبى إهاب، فجاءت أمة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما، فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنى، قال: فتنحيتُ فذكرتُ ذلك له ، قال: فكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما.!
وقد نص أحمد على ذلك رواية بكر ابن محمد عن أبيه، قال: في المرأة تشهد على ما لا يحضره الرجال من إثبات استهلال الصبي(1)، وفي الحمام يدخله النساء، فتكون بينهن جراحات.
وقال إسحاق بن منصور: قلتُ لأحمد، في شهادة الاستدلال : تجوز شهادة امرأة واحدة في الحيض والعدة والسقط والحمام، وكل ما لا يطلع عليه إلا النساء؟
فقال: تجوز شهادة امرأة إذا كانت ثقة، ويجوز القضاء بشهادة النساء منفردات في غير الحدود والقصاص عند جماعة من الخلف والسلف. وعن عطاء (27 – 114هـ ـ 647 – 732م) أنه أجاز شهادة النساء في النكاح، وعن شريح (78هـ – 697م) أنه أجاز شهادة النساء في الطلاق. وقال بعض الناس: تجوز شهادة النساء في الحدود. وقال مهنا : قال لي أحمد بن حنبل: قال أبو حنيفة: تجوز شهادة القابلة وحدها، وإن كانت يهودية أو نصرانية(2) ) .
ذلك أن العبرة هنا – في الشهادة – إنما هي الخبرة والعدالة ، وليست العبرة بجنس الشاهد – ذكرًا كان أو أنثى – ففي مهن مثل الطب.. والبيطرة.. والترجمة أمام القاضى .. تكون العبرة (بمعرفة أهل الخبرة)(3) .
بل لقد ذكر ابن تيمية – في حديثه عن الإشهاد الذي تحدثت عنه آية سورة البقرة – أن نسيان المرأة ، ومن ثم حاجتها إلى أخرى تذكرها ((أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)) ليس طبعًا ولا جبلة في كل النساء، وليس حتمًا في كل أنواع الشهادات.. وإنما هو أمر له علاقة بالخبرة والمران، أي أنه مما يلحقه التطور والتغيير.. وحكى ذلك عنه ابن القيم فقال:
(قال شيخنا ابن تيمية ، رحمه الله تعالى: قوله تعالى : ((فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)) إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط.. فما كان من الشهادات لا يُخاف فيه الضلال في العادة لم تكن فيه على نصف الرجل.. )(1) .
فحتى في الإشهاد، يجوز لصاحب الدّين أن يحفظ دينه – وفق نصيحة وإرشاد آية سورة البقرة – بإشهاد رجل وامرأة ، أو امرأتين ، وذلك عند توافر الخبرة للمرأة في موضوع الإشهاد .. فهي – في هذا الإشهاد – ليست شهادتها دائمًا على النصف من شهادة الرجل..
ولقد كرر ابن القيم – وأكد – هذا الذي أشرنا إلى طرف منه، في غير كتابه (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ، فقال، في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) – أثناء حديثه عن (البينة)، وحديث رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : (البينة على المدعى واليمين على من أنكر) خلال شرحه لخطاب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى (21 ق هـ ـ 44هـ/ 602- 665م) في قواعد القضاء وآدابه – قال:
( إن البينة في كلام الله ورسوله، وكلام الصحابة اسم لكل ما بين الحق.. ولم يختص لفظ البينة بالشاهدين.. وقال الله في آية الدّيْن ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ )) فهذا في التحمل والوثيقة التى يحفظ بها صاحب المال حقه، لا في طرق الحكم وما يحكم به الحاكم، فإن هذا شيء وهذا شيء، فذكر سبحانه ما يحفظ به الحقوق من الشهود، ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك.. فإن طرق الحكم أعم من طرق حفظ الحقوق.. وقال سبحانه : ((مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ )) لأن صاحب الحق هو الذي يحفظ ماله بمن يرضاه..).
وعلل ابن تيمية حكمة كون شهادة المرأتين في هذه الحالة – تعدل شهادة الرجل الواحد، بأن المرأة ليست مما يتحمل عادة مجالس وأنواع هذه المعاملات .. لكن إذا تطورت خبراتها وممارساتهــا وعاداتها ، كانت شهادتها – حتى في الإشهاد على حفظ الحقوق والديون – مساوية لشهادة الرجل.. فقال:
(ولا ريب أن الحكمة في التعدد هي في التحمل، فأما إذا عقلت المرأة، وحفظت وكانت ممن يوثق بدينها فإن المقصود حاصل بخبرها كما يحصل بأخبار الديانات، ولهذا تُقبل شهادتها وحدها في مواضع، ويُحكم بشهادة امرأتين ويمين الطالب في أصح القولين، وهو قول مالك (93 – 179هـ / 712 ـ 795م) وأحد الوجهين في مذهب أحمد ..
والمقصود أن الشارع لم يقف الحكم في حفظ الحقوق البتة على شهادة ذكرين، لا في الدماء ولا في الأموال ولا في الفروج ولا في الحدود.. وسر المسألة ألا يلزم من الأمر بالتعدد في جانب التحمل وحفظ الحقوق الأمر بالتعدد في جانب الحكم والثبوت، فالخبر الصادق لا تأتى الشريعة برده أبدًا)(1) .
وهذا الذي قاله ابن تيمية وابن القيم – في حديثهما عن آية سورة البقرة – هو الذي ذكره الإمام محمد عبده، عندما أرجع تميز شهادة الرجال على هذا الحق – الذي تحدثت عنه الآية – على شهادة النساء، إلى كون النساء – في ذلك التاريخ – كن بعيدات عن حضور مجالس التجارات، ومن ثم بعيدات عن تحصيل التحمل والخبرات في هذه الميادين.. وهو واقع تاريخي خاضع للتطور والتغيير، وليس طبيعة ولا جبلة في جنس النساء على مر العصور.. ولو عاش الإمام محمد عبده إلى زمننا هذا، الذي زخر ويزخر بالمتخصصات في المحاسبة والاقتصاد وإدارة الأعمال، وبـ (سيدات الأعمال) اللائي ينافسن (رجال الأعمال) لأفاض وتوسع فيما قال، ومع ذلك ، فحسبه أنه قد تحدث – قبل قرن من الزمان – في تفسير لآية سورة البقرة هذه، رافضًا أن يكون نسيان المرأة جبلة فيها وعامًا في كل موضوعات الشهادات ، فقال:
(تكلم المفسرون في هذا، وجعلوا سببه المزاج ، فقالوا إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعارضات، فلذلك تكون ذاكرتها ضعيفة ، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التى هي شغلها، فإنها أقوى ذاكرة من الرجل، يعنى أن من طبع البشر، ذكرانًا وإناثًا، أن يقوى تذكرهم للأمور التى تهمهم ويكثر اشتغالهم بها)(1).
ولقد سار الشيخ محمود شلتوت – الذي استوعب اجتهادات ابن تيمية وابن القيم ومحمد عبده – على هذا الطريق، مضيفًا إلى هذه الاجتهادات ملمحًا آخر عندما لفت النظر إلى تساوى شهادة المرأة بشهادة الرجل في (اللعان).. فكتب يقول عن شهادة المرأة، وكيف أنها دليل على كمال أهليتها، وذلك على العكس من الفكر المغلوط الذي يحسب موقف الإسلام من هذه القضية انتقاصًا من إنسانيتها.. كتب يقول:
(إن قول الله ، سبحانه وتعالى : ((فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)) ليس وارد في مقام الشهادة التى يقضى بها القاضى ويحكم، وإنما هو في مقام الإرشاد إلى طريق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ)) إلى أن قال: ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)) (البقرة : 282) … فالمقام استيثاق على الحقوق، لا مقام قضاء بها. والآية ترشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذي تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهما .
وليس معنى هذا أن شهادة المرأة الواحدة أو شهادة النساء اللاتي ليس معهن رجل ، لا يثبت بها الحق، ولا يحكم بها القاضى، فإن أقصى ما يطلبه القضاء هو (البينة).
وقد حقق العلاقة ابن القيم أن البينة في الشرع أعم من الشهادة، وأن كل ما يتبين به الحق ويظهره، هو بينة يقضى بها القاضى ويحكم. ومن ذلك : يحكم القاضى بالقرائن القطعية، ويحكم بشهادة غير المسلم متى وثق بها واطمأن إليها.
واعتبار المرأتين في الاستيثاق كالرجل الواحد ليس لضعف عقلها، الذي يتبع نقص إنسانيتها ويكون أثرًا له، وإنما هو لأن المرأة – كما قال الشيخ عبده – (ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التى هي شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التى تهمهم ويمارسونها، ويكثر اشتغالهم بها.
والآية جاءت على ما كان مألوفًا في شأن المرأة ، ولا يزال أكثر النساء كذلك، لا يشهدن مجالس المداينات ولايشتغلن بأسواق المبيعات، واشتغال بعضهن بذلك لا ينافى هذا الأصل الذي تقضى به طبيعتها في الحياة).
وإن كانت الآية ترشد إلى أكمل وجه الاستيثاق، وكان المتعاملون في بيئة يغلب فيها اشتغال النساء بالمبايعات وحضور مجالس المداينات، كان لهم الحق في الاستيثاق بالمرأة على نحو الاستيثاق بالرجل متى اطمأنوا إلى تذكرها وعدم نسيانها على نحو تذكر الرجل وعدم نسيانه .
هذا وقد نص الفقهاء على أن من القضايا ما تقبل فيه شهادة المرأة وحدها، وهي القضايا التى لم تجر العادة باطلاع الرجال على موضوعاتها، كالولادة، والبكارة، وعيوب النساء، والقضايا الباطنية. وعلى أن منها ما تقبل فيه شهادة الرجل وحده، وهي القضايا التى تثير موضوعاتها عاطفة المرأة ولا تقوى على تحملها، على أنهم قد رأوا قبول شهادتها في الدماء إذا تعينت طريقًا لثبوت الحق واطمئنان القاضى إليها. وعلى أن منها ما تقبل شهادتهما معًا .
وما لنا نذهب بعيدًا، وقد نص القرآن على أن المرأة كالرجل – سواء بسواء – في شهادات اللعان، وهو ما شرعه القرآن بين الزوجين حينما يقذف الرجل زوجه وليس له على ما يقول شهود ((وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ(6)وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(7)وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ(8)وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)) (النور : 6، 9) . أربع شهادات من الرجل، يعقبها استمطار لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويقابلها ويبطل عملها، أربع شهادات من المرأة، يعقبها استمطار غضب الله عليها إن كان من الصادقين. فهذه عدالة الإسلام في توزيع الحقوق العامة بين الرجل والمرأة ، وهي عدالة تحقق أنهما في الإنسانية سواء..)(1) .
هكذا وضحت صفحة الإسلام.. وصفحات الاجتهاد الإسلامي في قضية مساواة شهادة المرأة وشهادة الرجل ، طالما امتلك الشاهد أو الشاهدة مقومات ومؤهلات وخبرة هذه الشهادة.. لأن الأهلية الإنسانية بالنسبة لكل منهما واحدة، ونابعة من وحدة الخلق، والمساواة في التكاليف، والتناصر في المشاركة بحمل الأمانة التى حملها الإنسان، أمانة استعمار وعمران هذه الحياة .
وأخيرًا – وليس آخرا – فإن ابن القيم يستدل بالآية القرآنية ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )) (البقرة: 143) – على أن المرأة كالرجل في هذه الشهادة على بلاغ الشريعة ورواية السنة النبوية .. فالمرأة كالرجل في (رواية الحديث، التى هي شهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
وإذا كان ذلك مما أجمعت عليه الأمة، ومارسته راويات الحديث النبوى جيلاً بعد جيل، والرواية شهادة (فكيف تقبل الشهادة من المرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تقبل على واحد من الناس؟ . إن المرأة العدل – بنص عبارة ابن القيم – كالرجل في الصــدق والأمانـة والديانة)(2).
ذلكم هو منطـق شريعــة الإســـلام – وكلها منطق – وهذا هو عدلها بين النساء والرجال – وكلها عدل – وكما يقول ابن القيم : (وما أثبت الله ورسوله قط حكمًا من الأحكام يُقطع ببطلان سببه حسًّا أو عقلاً، فحاشا أحكامه سبحانه من ذلك، فإنه لا أحسن حكمًا منه، سبحانه وتعالى، ولا أعدل . ولا يحكم حكمًا يقول العقل: ليته حكم بخلافه ، بل أحكامه كلها مما يشهد العقل والفطرة بحسنها ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها ، وأنه لا يصلح موضعها سواها)(3).
هذا .. ولقد تعمدنا في إزالة هذه الشبهة أمران:
أولهما: أن ندع نصوص أئمة الاجتهاد الإسلامي هي التى تبدد غيوم هذه الشبهة ، لا نصوصنا نحن.. وذلك حتى لا ندع سبيلاً لشبهات جديدة في هذا الموضوع !.
ثانيهما: أن تكون هذه النصوص للأئمة المبرزين في إطار السلف والسلفيين.. وذلك حتى نقطع الطريق على أدعياء السلفية الذين حملوا العادات الراكدة لمجتمعاتهم على دين الإسلام، فاستبدلوا هذه العادات بشريعة الإسلام!..
وحتى نقطع الطريق – كذلك – على غلاة العلمانيين والعلمانيات، الذين استبدلوا البدع الفكرية الوافدة بحقائق وحقيقة الإسلام، والذين يتحسسون بسياساتهم إذا ذكرت مصطلحات السلفية والسلفيين!..
فإنصاف المرأة، وكمال واكتمال أهليتها هو موقف الإسلام ، الذي نزل به الروح الأمين على قلب الصادق الأمين.. وهو موقف كل تيارات الاجتهاد الإسلامي، على امتداد تاريخ الإسلام .
الشبهة الثالثة
أن النساء – في الإسلام – ناقصات عقل ودين
المصدر الحقيقي لهذه الشبهة هو العادات والتقاليد الموروثة ، والتى تنظر إلى المرأة نظرة دونية.. وهي عادات وتقاليد جاهلية، حرر الإسلام المرأة منها.. ولكنها عادت إلى الحياة الاجتماعية ، في عصور التراجع الحضاري مستندة – كذلك – إلى رصيد التمييز ضد المرأة الذي كانت عليه مجتمعات غير إسلامية ، دخلت في إطار الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، دون أن تتخلص تمامًا من هذه المواريث.. فسرعة الفتوحات الإسلامية التى اقتضتها معالجة القوى العظمى المناوئة للإسلام – قوى الفرس والروم – وما تبعها من سرعة امتداد الدولة الإسلامية، قد أدخلت في الحياة الإسلامية شعوبًا وعادات وتقاليد لم تتح هذه السرعة للتربية الإسلامية وقيمها أن تخلص تلك الشعوب من تلك العادات والتقاليد، والتى تكون – عادة – أشد رسوخًا وحاكمية من القيم الجديدة .. حتى لتغالب فيه هذه العادات الموروثة العقائد والأنساق الفكرية والمثل السامية للأديان والدعوات الجديدة والوليدة، محاولة التغلب عليها!..
ولقد حاولت هذه العادات والتقاليد – بعد أن ترسخت وطال عليها الأمد، في ظل عسكرة الدولة الإسلامية – في العهدين المملوكي والعثماني – أن تجد لنظرتها الدونية للمرأة (غطاء شرعيًّا) في التفسيرات المغلوطة لبعض الأحاديث النبوية، وذلك بعد عزل هذه الأحاديث عن سياقها، وتجريدها من ملابسات ورودها ، وفصلها عن المنطق الإسلامي – منطق تحرير المرأة، كجزء من تحريره للإنسان ، ذكرًا كان أو أنثى هذا الإنسان – فلقد جاء الإسلام ليضع عن الناس إصرهم والأغلال التى كانت عليهم، وليحيي ملكات وطاقات الإنسان – مطلق جنس ونوع الإنسان – وليشرك الإناث والذكور جميعًا في حمل الأمانة التى حملها الإنسان ، وليكون بعضهم أولياء بعض في النهوض بالفرائض الاجتماعية، الشاملة لكل ألوان العمل الاجتماعي والعام ..
لكن العادات والتقاليد الجاهلية في احتقار المرأة ، والانتقاص من أهليتها، وعزلها عن العمل العام، وتعطيل ملكاتها وطاقاتها الفطرية – قد دخلت في حرب ضروس ضد القيم الإسلامية لتحرير المرأة، وسعت إلى التفسيرات الشاذة والمغلوطة لبعض الأحاديث النبوية والمأثورات الإسلامية كي تكون (غطاء شرعيًّا) لهذه العادات والتقاليد ..
فبعد أن بلغ التحرير الإسلامي للمرأة إلى حيث أصبحت به وفيه :
* طليعة الإيمان بالإسلام .. والطاقة الخلاقة الداعمة للدين ورسوله صلى الله عليه وسلم كما كان حال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ( 68 – 3ق هـ / 566 – 620م) رضى الله عنها .. حتى لقد كان عام وفاتها عام حزن المسلمين ورسول الإسلام ودعوة الإسلام ..
* وطليعة شهداء الإسلام .. كما جسدتها شهادة سمية بنت خياط (7ق هـ – 615م) أم عمار بن ياسـر (57ق هـ – 37هـ/ 567 657م) ..
* وطليعة المشاركة في العمل العام – السياسى منه، والشورى، والفقهي، والدعوى ، والأدبي، والاجتماعي .. بل والقتالى – كما تجسدت في كوكبة النخبة والصفوة النسائية التى تربت في مدرسة النبوة..
بعد أن بلغ التحرير الإسلامي للمرأة هذه الآفاق.. أعادت العادات والتقاليد المرأة – أو حاولت إعادتها – إلى أسر وأغلال منظومة من القيم الغريبة عن الروح الإسلامية.. حتى أصبحت المفاخرة والمباهاة بأعراف ترى :
* أن المرأة الكريمة لا يليق بها أن تخرج من مخدعها إلا مرتان: أولاهما: إلى مخدع الزوجية .. وثانيتهما: إلى القبر الذي تُدفن فيه!!..
* فهي عورة، لا يسترها إلا (القبر)!
ولم أر نعمة شملت كريمًا كنعمة عورة سُترت بقبر!
وإذا كان الإسلام قد حفظ حياتها من الوأد المادى: القتل ، فإن المجد والمكرمات – في تلك العادات – هي في موتها !
ومن غاية المجد والمكرمات بقاء البنين وموت البنات!
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقًا والموت أكرم نزال على الحرام !
* وشوراها شؤم يجب اجتنابها.. وإذا حدثت فلمخالفتها ، وللحذر من الأخذ بها!
والأكثر خطورة من هذه الأعراف والعادات والتقاليد، التى سادت حياتنا الاجتماعية إبان مرحلة التراجع الحضاري، هي التفسيرات المغلوطة لبعض المرويات الإسلامية، بحثًا عن مرجعية إسلامية وغطاء شرعي لقيم التخلف والانحطاط التى سادت عالم المرأة في ذلك التاريخ.. ولقد كان الحظ الأوفر في هذا المقام للتفسير الخاطئ الذي ساد وانتشر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم – الذي رواه البخاري ومسلم – عن نقص النساء في العقل والدين.. وهو حديث رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري، رضى الله عنه فقال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أضحى أو فطر – إلى المصلين، فمر على النساء، فقال:
– (يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن).
– قلت: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟
– قال: (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل) ؟
– قلن: بلى .
– قال: ( فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟
– قلن : بلى .
– قال: (فذلك من نقصان دينها).
ذلكم هو الحديث الذي اتخذ تفسيره المغلوط – ولا يزال – (غطاء شرعيًّا) للعادات والتقاليد التى تنتقص من أهلية المرأة .. والذي ينطلق منه نفر من غلاة الإسلاميين في (جهادهم) ضد إنصاف المرأة وتحريرها من أغلال التقاليد الراكدة وينطلق منه المتغربون وغلاة العلمانيين في دعوتهم إلى إسقاط الإسلام من حسابات تحرير المرأة ، وطلب هذا التحرير في النماذج الغربية الوافدة .
الأمر الذي يستوجب إنقاذ المرأة من هذه التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث.. بل وإنقاذ هذا الحديث الشريف من هذه التفسيرات!..
وذلك من خلال نظرات في (متن) الحديث و (مضمونه) ، نكثفها في عدد من النقاط:
أولاها: أن الذاكرة الضابطة لنص هذا الحديث قد أصابها ما يطرح بعض علامات الاستفهام.. ففي رواية الحديث شك – من الراوى – حول مناسبة قوله.. هل كان ذلك في عيد الأضحى؟ أم في عيد الفطر؟ .. وهو شك لا يمكن إغفاله عند وزن المرويات والمأثورات.
وثانيتها: أن الحديث يخاطب حالة خاصة من النساء، ولا يشرع شريعة دائمة ولا عامة في مطلق النساء.. فهو يتحدث عن (واقع) .. والحديث عن (الواقع) القابل للتغير والتطور شيء، والتشريع (للثوابت) – عبادات وقيم ومعاملات – شيء آخر..
فعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إنا أمّة أُمية، لا نكتب ولا نحسُب) – رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والإمام أحمد – فهو يصف (واقعًا) ، ولا يشرع لتأبيد الجهل بالكتابة والحساب، لأن القرآن الكريم قد بدأ بفريضة (القراءة) لكتاب الكون والكتابات بالأقلام ((اقْرَأْ بِاسْــمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَـــانَ مِنْ عَلَقٍٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَم )) (العلق: 1-5) ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي وصف (واقع) الأمية الكتابية والحسابية، هو الذي غير هذا الواقع، بتحويل البدو الجهلاء الأميين إلى قراء وعلماء وفقهاء، وذلك امتثالاً لأمر ربه في القرآن الكريم ، الذي علمنا أن من وظائف جعل الله سبحانه وتعالى القمر منازل أن نتعلم عدد السنين والحساب ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّـــلُ الآيَــــاتِ لِقَــــوْمٍ يَعْلَمُونَ)) (يونس:5) . فوصف (الواقع) – كما نقول الآن مثلا: (نحن مجتمعات متخلفة) – لا يعنى شرعنا هذا (الواقع) ولا تأييده ، فضلاً عن تأبيده، بأي حال من الأحوال.
وثالثتها: أن في بعض روايات هذا الحديث – وخاصة رواية ابن عباس، رضى الله عنهما – ما يقطع بأن المقصود به إنما هي حالات خاصة لنساء لهن صفات خاصة، هي التى جعلت منهن أكثر أهل النار، لا لأنهن نساء، وإنما لأنهن – كما تنص وتعلل هذه الرواية – (يكفرن العشير) ، ولو أحسن هذا العشير إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منه هنــة أو شيئًا لا يعجبهــا ، كفرت – كفر نعمة – بكل النعم التى أنعم عليها بها، وقالت – بسبب النزق أو الحمق أو غلبة العاطفة التى تنسيها ما قدمه لها هذا العشير من إحسان – : (ما رأيت منك خيرًا قط)! – رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ ..
فهذا الحديث – إذن – وصف لحالة بعينها، وخاص بهذه الحالة .. وليس تشريعًا عامًّا ودائمًا لجنس النساء..
ورابعتها: أن مناسبة الحديث ترشح ألفاظه وأوصافه لأن يكون المقصود من ورائها المدح وليس الذم.. فالذين يعرفون خلق من صنعه الله على عينه، حتى جعله صاحب الخلق العظيم ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) (القلم:4) .. والذين يعرفون كيف جعل صلى الله عليه وسلم، من من (العيد) – الذي قـال فيه هذا الحديث – (فرحة) أشرك في الاستمتاع بها – مع الرجال – كل النساء، حتى الصغيرات، بل وحتى الحيض والنفساء!.. الذين يعرفون صاحب هذا الخلق العظيم، ويعرفون رفقه بالقوارير، ووصاياه بهن حتى وهو على فراش المرض يودع هذه الدنيا.. لايمكن أن يتصوروه صلى الله عليه وسلم، ذلك الذي يختار يوم الزينة والفرحة ليجابه كل النساء ومطلق جنس النساء بالذم والتقريع والحكم المؤبد عليهن بنقصان الأهلية، لنقصانهن في العقل والدين !..
وإذا كانت المناسبة – يوم العيد والزينة والفرحة – لا ترشح أن يكون الذم والغم والحزن والتبكيت هو المقصود.. فإن ألفاظ الحديث تشهد على أن المقصود إنما كان المديح، الذي يستخدم وصف (الواقع) الذي تشترك في التحلى بصفاته غالبية النساء.. إن لم يكن كل النساء..
فالحديث يشير إلى غلبة العاطفة والرقة على المرأة، وهي عاطفة ورقة صارت (سلاحًا) تغلب به هذه المرأة أشد الرجال حزمًا وشدة وعقلاً.. وإذا كانت غلبة العاطفة إنما تعنى تفوقها على الحسابات العقلية المجردة والجامدة، فإننا نكون أمام عملة ذات وجهين، تمثلها المرأة.. فعند المرأة تغلب العاطفة على العقلانية – وذلك على عكس الرجل – الذي تغلب عقلانيته وحساباته العقلانية عواطفه.. وفي هذا التمايز فطرة إلهية، وحكمة بالغة، ليكون عطاء المرأة في ميادين العاطفة بلا حدود وبلا حسابات.. وليكون عطاء الرجل في مجالات العقلانية المجردة والجامدة إكمالاً لما نقص عند (الشق اللطيف والرقيق!)..
فنقص العقل – الذي أشارت إليه كلمات الحديث النبوي الشريف – هو وصف لواقع تتزين به المرأة وتفخر به؛ لأنه يعنى غلبة عاطفتها على عقلانيتها المجردة.. ولذلك، كانت (مداعبة) صاحب الخلق العظيم – الذي آتاه ربه جوامع الكلم – للنساء، في يوم الفرحة والزينة، عندما قال لهن : إنهن يغلبن بسلاح العاطفة وسلطان الاستضعاف أهل الحزم والألباب من عقلاء الرجال ، ويخترقن بالعواطف الرقيقة أمنع الحصون!..
– (ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن).
فهو مدح للعاطفة الرقيقة التى تذهب بحزم ذوى العقول والألباب.. ويا بؤس وشقاء المرأة التى حرمت من شرف امتلاك هذا السلاح الذي فطر الله النساء على تقلده والتزين به في هذه الحياة!.. بل – وأيضا – يا بؤس أهل الحزم والعقلانية – من الرجال – الذين حرموا – في هذه الحياة – من الهزيمة أمام هذا السلاح .. سلاح العاطفة والاستضعاف!..
وإذا كان هذا هو المعنى المناسب واللائق – بالقائل وبالمخاطب وبالمناسبة – وأيضًا المحبب لكل النساء والرجال معًا – الذي قصدت إليه ألفاظ (نقص العقل) في الحديث النبوى الشريف.. فإذا المراد (بنقص الدين) – هو الآخر – وضعف الواقع غير المذموم – بل إنه الواقع المحمود والممدوح! ..
فعندما سألت النسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن المقصود من نقصهن في الدين، تحدث عن اختصاصهن (برخص) في العبادات تزيد عن (الرخص) التي يشاركهن فيها الرجال.. فالنساء يشاركن الرجال في كل (الرخص) التى رخص فيها الشارع – من إفطار الصائم في المرض والسفر.. إلى قصر الصلاة وجمعها في السفر .. إلى إباحة المحرمات عند الضرورات .. إلخ، ثم يزدن عن الرجال في (رخص) خاصة بالإناث – من مثل سقوط فرائض الصلاة والصيام عن الحيض والنفساء.. وإفطار المرضع، عند الحاجة في شهر رمضان .. إلخ.. إلخ ..
وإذا كان الله، سبحانه وتعالى ، يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تُؤتى عزائمه، فإن التزام النساء بهذه (الرخص) الشرعية هو الواجب المطلوب والمحمود، وفيه لهن الأجر والثواب .. ولا يمكن أن يكون بالأمر المرذول والمذموم.. ووصف واقعه – في هذا الحديث النبوي – مثله كمثل وصف الحديث لغلبة العاطفة الرقيقة الفياضة على العقلانية الجامدة، عند النساء، هو وصف لواقع محمود.. ولا يمكن أن يكون ذمًّا للنساء، ينتقص من أهلية المرأة ومساواتها للرجال، بأي حال من الأحوال .
إن العقل ملكة من الملكات التى أنعم الله بها على الإنسان، وليس هناك إنسان – رجلاً كان أو امرأة – يتساوى مع الآخر مساواة كمية ودقيقة في ملكة العقل ونعمته.. في ذلك يتفاوت الناس ويختلفون .. بل إن عقل الإنسان الواحد وضبطه – ذكرًا كان أو أنثى – يتفاوت، زيادة ونقصًا، بمرور الزمن، وبما يكتسب من المعارف والعلوم والخبرات وليست هناك جبلة ولا طبيعة تفرق بين الرجال والنساء في هذا الموضوع.
وإذا كان العقل – في الإسلام – هو مناط التكليف، فإن المساواة بين النساء والرجال في التكليف والحساب والجزاء شاهدة على أن التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث النبوي الشريف، هي تفسيرات ناقضة لمنطق الإسلام في المساواة بين النساء والرجال في التكليف.. ولو كان لهذه التفسيرات المغلوطة نصيب من الصحة لنقصت تكاليف الإسلام للنساء عن تكليفاته للرجال ، ولكانت تكاليفهن في الصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة وغيرها على النصف من تكاليف الرجال!.
ولكنها (الرخص) ، التى يُؤجر عليها الملتزمون بها والملتزمات ، كما يُؤجرون جميعًا عندما ينهضون بعزائم التكاليف.. إن النقص المذموم – في أي أمر من الأمور – هو الذي يمكن إزالته وجبره وتغييره، وإذا تغير وانجبر كان محمودًا.. ولو كانت (الرخص) التى شرعت للنساء – بسقوط الصلاة والصيام للحائض والنفساء مثلاً – نقصًا مذمومًا، لكان صيامهن وصلاتهن وهن حيض ونفساء أمرًا مقبولاً ومحمودًا ومأجورًا.. لكن الحال ليس كذلك، بل إنه على العكس من ذلك .
وأخيرًا ، فهل يعقل عاقل.. وهل يجوز في أي منطق، أن يعهد الإسلام، وتعهد الفطرة الإلهية، بأهم الصناعات الإنسانية والاجتماعية، صناعة الإنسان، ورعاية الأسرة، وصياغة مستقبل الأمة، إلى ناقصات العقل والدين، بهذا المعنى السلبي، الذي ظلم به غلاة الإسلاميين وغلاة العلمانيين الإسلام، ورسوله الكريم الذي حرر المرأة تحريره للرجل، عندما بعثه الله بالحياة والإحياء لمطلق الإنسان ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم)) (الأنفال:24) فوضع بهذا الإحياء، عن الناس – كل الناس – ما كانوا قد حملوا من الآصار والأغلال ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)) ( الأعراف: 157).
إنها تفسيرات مغلوطة، وساقطة، حاول بها أسرى العادات والتقاليد إضفاء الشرعية الدينية على هذه العادات والتقاليد التى لا علاقة لها بالإسلام .. والتى يبرأ منها هذا الحديث النبوى الشريف..
وإذا كان لنا – في ختام إزالة هذه الشبهة – أن نزكى المنطق الإسلامي الذي صوبنا به معنى الحديث النبوى الشريف، وخاصة بالنسبة للذين لايطمئنون إلى المنطق، إلا إذا دعمته وزكته (النصوص) ، فإننا نذكر بكلمات إمام السلفية ابن القيم، التى تقول:
(إن المرأة العدل كالرجل في الصدق والأمانة والديانة)(1) .
وبكلمات الإمام محمد عبده التى تقول:
(إن حقوق الرجل والمرأة متبادلة، وإنهما أكفاء.. وهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل، أي أن كلاًّ منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويُسر به، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه ..)(2) .
وبكلمات الشيخ محمود شلتوت، التى تقول:
(لقد قرر الإسلام الفطرة التى خلقت عليها المرأة.. فطرة الإنسانية ذات العقل والإدراك والفهم.. فهي ذات مسئولية مستقلة عن مسئولية أخيها الرجل، مسئولة عن نفسها، وعن عبادتها، وعن بيتها، وعن جماعتها.. وهي لا تقل في مطلق المسئولية عن مسئولية الرجل، وإن منزلتها في المثوبة والعقوبة عند الله معقودة بما يكون منها من طاعة أو مخالفة، وطاعة الرجل لا تنفعها وهي طالحة منحرفة، ومعصيته لا تضرها، وهي صالحة مستقيمة ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)) (النساء :124) ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ )) (آل عمران :195)..
وليقف المتأمل عند هذا التعبير الإلهي ((بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ )) ، ليعرف كيف سما القرآن بالمرأة حتى جعلها بعضًا من الرجل، وكيف حد من طغيان الرجل فجعله بعضًا من المرأة، وليس في الإمكان ما يؤدى به معنى المساواة أوضح ولا أسهل من هذه الكلمة التى تفيض بها طبيعة الرجل والمرأة، والتى تتجلى في حياتهما المشتركة، دون تفاضل وسلطان ((لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)) (النساء: 32).
وإذا كانت المرأة مسئولة، مسئولية خاصة فيما يختص بعبادتها ونفسها، فهي في نظر الإسلام أيضًا مسئولة مسئولية عامة فيما يختص بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والإرشاد إلى الفضائل، والتحذير من الرذائل. و قد صرح القرآن بمسئوليتها في ذلك الجانب، وقرن بينها وبين أخيها الرجل في تلك المسئولية كما قرن بينها وبينه في مسئولية الانحراف عن واجب الإيمان والإخلاص لله وللمسلمين ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُــمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (التوبة:71) ((الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍِ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(67)وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)) (التوبة: 67، 68) ..
فليس من الإسلام أن تُلقى المرأة حظها من تلك المسئولية – الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهي أكبر مسئولية في نظر الإسلام – على الرجل وحده ، بحجــة أنه أقدر منها عليها ، أو أنها ذات طابع لا يسمح لها أن تقوم بهذا الواجب، فللرجل دائرته، وللمرأة دائرتها، والحياة لا تستقيم إلا بتكاتف النوعين فيما ينهض بأمتهما، فإن تخاذلا أو تخاذل أحدهما انحرفت الحياة الجادة عن سبيلها المستقيم ..
والإسلام – فوق ذلك – لم يقف بالمرأة عند حد اشتراكها مع الرجل في المسئوليات – جميعها خاصها وعامها – بل رفع من شأنها، وقرر – لقاء تحملها هذه المسئوليات – احترام رأيها فيما تبدو وجاهته، شأنه في رأى الرجل تمامًا سواء بسواء. وإذا كان الإسلام جاء باختيار آراء بعض الرجال، فقد جاء أيضًا باختيار رأي بعض النساء..
وفي سورة المجادلة احترم الإسلام رأى المرأة وجعلها مجادلة ومحاورة للرسول، وجمعها وإياه في خطاب واحد ((وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)) (المجادلة:1) وقرر رأيها، وجعله تشريعًا عامًّا خالدًا.. فكانت سورة المجادلة أثرًا من آثار الفكر النسائي، وصفحة إلهية خالدة تلمح فيها على مر الدهور صورة احترام الإسلام لرأى المرأة، فالإسلام لا يرى المرأة مجرد زهرة، ينعم الرجل بشم رائحتها، وإنما هي مخلوق عاقل مفكر، له رأي ، وللرأى قيمته ووزنه.
وليس هناك فارق ديني بين المرأة والرجل في التكليف وأهليته، سوى أن التكليف يلحقها قبل أن يلحق الرجل ، وذلك لوصولها – بطبيعتها – إلى مناط التكاليف، وهو البلوغ، قبل أن يصل إليه الرجل(1)! .
هكذا تضافرت الحجج المنطقية مع نصوص الاجتهاد الإسلامي على إزالة شبهة الانتقاص من أهلية المرأة، بدعوى أن النساء ناقصات عقل ودين ..
وهكذا وضحت المعاني والمقاصد الحقة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي اتخذت منه التفسيرات المغلوطة (غطاء شرعيًا) للعادات والتقاليد الراكدة، تلك التى حملها البعض -من غلاة الإسلاميين- على الإسلام ، زورًا وبهتانًا.. والتى حسبها غلاة العلمانيين دينًا إلهيًّا، فدعوا – لذلك – إلى تحرير المرأة من هذا الإسلام! .
* * *
لقد صدق الله العظيم : ((سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فصلت: 53) .
إننا نلح منذ سنوات طوال – وقبلنا ومعنا الكثيرون من علماء الإسلام ومفكريه – على أن هذا الدين الحنيف إنما يمثل ثورة كبرى لتحرير المرأة . لكن الخلاف بيننا وبين الغرب والمتغربين هو حول (نموذج) هذا التحرر.. فهم يريدون المرأة (ندًّا مساويًا للرجل).. ونحن – مع الإسلام – نريد لها (مساواة الشقين المتكاملين، لا الندين المتماثلين).. وذلك، لتتحرر المرأة، مع بقائها أنثى، ومع بقاء الرجل رجلاً، كي يثمر هذا التمايز الفطرى بقاء وتجدد القبول والرغبة والجاذبية والسعادة بينهما – سعادة النوع الإنساني.
ونلح على أن هذا (التشابه.. والتمايز) بين النساء والرجال، هو الذي أشار إليه القرآن الكريم عندما قرن المساواة بالتمايز ، فقالت آياته المحكمات: ((وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَـــالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة)) (البقرة : 228) (( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى )) (آل عمران : 36) نلح على ذلك المنهاج في التحرير الإسلامي للمرأة.. ولقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يشهد شاهد من أهلها على صدق هذا المنهاج الإسلامي، فتنشر صحيفة (الأهرام) تقريرًا علميًّا عن نتائج دراسة علمية استغرقت أبحاثها عشرين عامًا ، وقام بها فريق من علماء النفس في الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا بها تكشف عن مصداقية حقائق هذا المنهاج القرآني مع تشابه الرجال والنساء في اثنين وثلاثين صفة.. وتميز المرأة عن الرجل في اثنين وثلاثين صفة.. وتميز الرجل عن المرأة ، – كذلك – في اثنين وثلاثين صفة ، فهناك التشابه ((وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ))(البقرة: 228) ((خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )) (النساء: 1) ((بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)) (آل عمران: 195) .. وهناك التمايز الفطرى ((وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى )) فهما يتشابهان في نصف الصفات، ويتمايزان في نصفها الآخر..
فالنموذج الأمثل لتحررهما معًا هو (مساواة الشقين المتكاملين، لا الندين المتماثلين) ولذلك، آثرت أن أقدم للقارئ خلاصة هذه الدراسة العلمية، كما نشرتها (الأهرام) – تحـــت عنوان (اختلاف صفات الرجل عن المرأة لمصلحة كليهما) – ونصها :
(في دراسة قام بها علماء النفس في الولايات المتحدة الأمريكية ، على مدى عشرين عامًا، تم حصر عدد الصفات الموجودة في كل من الرجل والمرأة، ووجد أن هناك 32 صفة مشتركة في كل منهما، وأن 32 صفة أخرى موجودة في الرجل، و32 صفة أخرى موجودة عند المرأة، بدرجات مختلفة في الشدة، ومن هنا جاءت الفروق بين صفات الرجولة والأنوثة .
وتوصل العلماء من خلال هذه التجارب إلى أن وجود نصف عدد الصفات مشتركة في كل من الرجل والمرأة يعمل على وجود الأسس المشتركة بينهما، لتسهيل التفاهم والتعامل مع بعضهما البعض..
أما وجود عدد آخر من الصفات متساويًا بينهما ومختلفًا عند كل منهما في الدرجة والشهرة فمعناه تحقيق التكامل بينهما . كما توصلوا إلى أنه كي يعيش كل من الرجل والمرأة في انسجام وتناغم تام، لابد أن يكون لدى كل منهما الصفات السيكولوجية المختلفة، فمثلاً الرجل العصبي الحاد المزاج لا يمكنه أن يتعايش مع امرأة عصبية حادة المزاج، والرجل البخيل عليه ألا يتزوج امرأة بخيلة، والرجل المنطوى، الذي لا يحب الناس، لا يحوز أن يتزوج من امرأة منطوية ولا تحب الناس . وهكذا.
وكان من نتائج هذه الدراسات الوصول إلى نتيجة مهمة، ألا وهي أن كل إنسان يحب ألا يعيش مع إنسان متماثل معه في الصفات ، أي صورة طبق الأصل من صفاته الشخصية، ومن هنا جاءت الصفات المميزة للرجولة متمثلة في : قوة العضلات وخشونتها، والشهامة، والقوة في الحق، والشجاعة في موضع الشجاعة، والنخوة، والاهتمام بمساندة المرأة وحمايتها والدفاع عنها وجلب السعادة لها. كما تتضمن أيضًا صفات الحب والعطاء، والحنان والكرم، والصدق في المشاعر وفي القول ، وحسن التصرف.. الخ.
أما عن صفات الأنوثة، فهي تتميز بالدفء والنعومة، والحساسية، والحنان، والتضحية، والعطاء، وحب الخير، والتفاني في خدمة أولادها، والحكمة، والحرص على تماسك الأسرة وترابطها، وحب المديح، والذكاء، وحسن التصرف، وغير ذلك من الصفات..
ولذلك فمن المهم أن يكون لدى كل من الرجل والمرأة دراية كافية بطبيعة الرجل وطبيعة المرأة، وبذلك يسهل على كل منهما التعامل مع الطرف الآخر في ضوء خصائص كل منهما . فعندما يعرف الرجل أن المرأة مخلوق مشحون بالمشاعر والأحاسيس والعواطف، فإنه يستطيع أن يتعامل معها على هذا الأساس . وبالمثل، إذا عرفت المرأة طبيعة الرجل ، فإن هذا سيساعدها أيضًا على التعامل معه…)(1).
تلك هي شهادة الدراسة العلمية، التى قام بها فريق من علماء النفس – في الولايات المتحدة الأمريكية – والتى استغرق البحث فيها عشرين عامًا، والتى تصدق على صدق المنهاج القرآني في علاقة النساء بالرجال: الاشتراك والتماثل في العديد من الصفات – والتمايز في العديد من الصفات، لتكون بينهما (المساواة) و (التمايز) في ذات الوقت .
ومرة أخرى – لا أخيرة – صدق الله ((سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فصلت: 53) .
الشبهة الرابعة
أن المرأة – في الإسلام – محرومة من الولايات
إن (الولاية) بكسر الواو وفتحها – هي (النصرة) .. وكل من ولي أمر الآخر فهو وليه(1) ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا )) (البقرة : 257) ((إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّه)) (الأعراف: 196) ((وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين)) (آل عمران: 68) ((قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْت)) (الجمعة : 6) ((مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْء)) (الأنفال: 72) .
وإذا كانت (النصرة) هي معنى الولاية فلا مجال للخلاف على أن للمرأة نصرة وسلطانًا، أي ولاية، في كثير من ميادين الحياة..
فالمسلمون مجمعون على أن الإسلام قد سبق كل الشرائع الوضعية والحضارات الإنسانية عندما أعطى للمرأة ذمة مالية خاصة، وولاية وسلطانا على أموالها، ملكًا وتنمية واستثمارًا وإنفاقًا، مثلها في ذلك مثل الرجل سواء بسواء .. والولاية المالية والاقتصادية من أفضل الولايات والسلطات في المجتمعات الإنسانية ، على مر تاريخ تلك المجتمعات.. وفي استثمار الأموال ولاية وسلطان يتجاوز الإطار الخاص إلى النطاق العام ..
والمسلمون مجمعون على أن للمرأة ولاية على نفسها، تؤسس لها حرية وسلطانًا في شئون زواجها، عندما يتقدم إليها الراغبون في الاقتران بها، وسلطانها في هذا يعلو سلطان وليها الخاص ، والولى العام لأمر أمة الإسلام ..
والمسلمون مجمعون على أن للمرأة ولاية ورعاية وسلطانًا في بيت زوجها، وفي تربية أبنائهما.. وهي ولاية نص على تميزها بها وفيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذيلفصل أنواع وميادين الولايات: (كلكلم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد ..
لكن قطاعًا من الفقهاء قد وقف بالولايات المباحة والمفتوحة ميادينها أمام المرأة عند (الولايات الخاصة) ، واختاروا حجب المرأة عن (الولايات العامة)، التى تلى فيها أمر غيرها من الناس، خارج الأسرة وشئونها ..
ونحن نعتقد أن ما سبق وقدمناه – في القسم الأول من هذه الدراسة – من وقائع وتطبيقات وممارسات مجتمع النبوة والخلافة الراشدة لمشاركات النساء في العمل العام – بدءًا من الشورى في الأمور العامة .. والمشاركة في تأسيس الدولة الإسلامية الأولى .. وحتى ولاية الحسبة والأسواق والتجارات، التى ولاها عمر بن الخطاب ، بt، للشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس (20هـ ـ 641م) .. وانتهاء بالقتال في ميادين الوغي.. وأيضًا ما أوردناه من الآيات القرآنية الدالة على أن الموالاة والتناصر بين الرجال والنساء في العمل العام – سائر ميادين العمل العام – وهي التى تناولها القرآن الكريم تحت فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (التوبة: 71) .
نعتقد أن ما سبق وأوردناه حول هذه القضية – قضية ولاية المرأة ومشاركتها مع الرجل في ولايات العمل العام – كاف وواف في الرد على الذين يمارون في ولاية المرأة للعمل العام ..
أما الإضافة التى نقدمها في هذا القسم من هذه الدراسة – قسم إزالة الشبهات – فهي خاصة بمناقشة الفهم المغلوط للحديث النبوى الشريف: (ما أفلح قوم يلى أمرهم امرأة) .. إذ هو الحديث الذي يستظل بظله كل الذين يحرمون مشاركة المرأة في الولايات العامة والعمل العام..
ولقد وردت لهذا الحديث روايات متعددة، منها: (لن يفلح قوم تملكهم امرأة).. و (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) .. و (لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة) رواها: البخاري والترمذي والنسائي والإمام أحمد..
وإذا كانت صحة الحديث – من حيث (الرواية) – هي حقيقة لا شبهة فيها.. فإن إغفال مناسبة ورود هذا الحديث يجعل (الدراية) بمعناه الحقيقي مخالفة للاستدلال به على تحريم ولاية المرأة للعمل العام .
ذلك أن ملابسات قول الرسول صلى الله عليه وسلم، لهذا الحديث تقول: إن نفرًا قد قدموا من بلاد فارس إلى المدينة المنورة ، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
– (من يلى أمر فارس)؟
– قال أحدهم : امرأة .
– فقال صلى الله عليه وسلم 🙁 ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ..
فملابسات ورود الحديث تجعله نبوءة سياسية بزوال ملك فارس – وهي نبوءة نبوية قد تحققت بعد ذلك بسنوات – أكثر منه تشريعًا عامًا يحرم ولاية المرأة للعمل السياسي العام..
ثم إن هذه الملابسات تجعل معنى هذا الحديث خاصًّا (بالولاية العامة) ، أي رئاسة الدولة وقيادة الأمة.. فالمقام كان مقام الحديث عن امرأة تولت عرش الكسروية الفارسية ، التى كانت تمثل إحدى القوتين الأعظم في النظام العالمي لذلك التاريخ.. ولا خلاف بين جمهور الفقهاء – باستثناء طائفة من الخوارج – على اشتراط (الذكورة) فيمن يلي (الإمامة العظمى) والخلافة العامة لدار الإسلام وأمة الإسلام.. أما ما عدا هذا المنصب – بما في ذلك ولايات الأقاليم والأقطار والدول القومية والقطرية والوطنية – فإنها لا تدخل في ولاية الإمامة العظمى لدار الإسلام وأمته.. لأنها ولايات خاصة وجزئية، يفرض واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر المشاركة في حمل أماناتها على الرجال والنساء دون تفريق..
فالشبهة إنما جاءت من خلط مثل هذه الولايات – الجزئية والخاصة – بالإمامة العظمى والولاية العامة – دار الإسلام وأمته – وهي الولاية التى اشترط جمهور الفقهاء (الذكورة) فيمن يليها.. ولا حديث للفقه المعاصر عن ولاية المرأة لهذه الإمامة العظمى ، لأن هذه الولاية قد غابت عن متناول الرجال، فضلاً عن النســاء، منذ سقــوط الخلافــة العثمانية (1342هـ ـ 1924م) وحتى الآن! .
وأمر آخر لابد من الإشارة إليه، ونحن نزيل هذه الشبهة عن ولاية المرأة للعمل العام، وهو تغير مفهوم الولاية العامة في عصرنا الحديث، وذلك بانتقاله من (سلطان الفرد) إلى (سلطان المؤسسة) التى يشترك فيها جمع من ذوى السلطان والاختصاص..
لقد تحوّل (القضاء) من قضاء القاضى الفرد إلى قضاء مؤسسى، يشترك في الحكم فيه عدد من القضاة. فإذا شاركت المرأة في (هيئة المحكمة) فليس بوارد الحديث عن ولاية المرأة للقضاء، بالمعنى الذي كان واردًا في فقه القدماء، لأن الولاية هنا – الآن – لمؤسسة وجمع، وليست لفرد من الأفراد، رجلاً كان أو امرأة.. بل لقد أصبحت مؤسسة التشريع والتقنين مشاركة في ولاية القضاء، بتشريعها القوانين التى ينفذها القضاة .. فلم يعد قاضى اليوم ذلك الذي يجتهد في استنباط الحكم واستخلاص القانون، وإنما أصبح (المنفذ) للقانون الذي صاغته ونفذته مؤسسة، تمثل الاجتهاد الجماعي والمؤسسي – لا الفردي – في صياغة القانون ..
وكذلك الحال مع تحول التشريع والتقنين من اجتهاد الفرد إلى اجتهاد مؤسسات الصياغة والتشريع والتقنين.. فإذا شاركت المرأة في هذه المؤسسات ، فليس بوارد الحديث عن ولاية المرأة لسلطة التشريع بالمعنى التاريخي والقديم لولاية التشريع..
وتحولت سلطات صنع (القرارات التنفيذية) – في النظم الشورية والديمقراطية – عن سلطة الفرد إلى سلطان المؤسسات المشاركة في الإعداد لصناعة القرار.. فإذا شاركت المرأة في هذه المؤسسات فليس بوارد الحديث عن ولاية المرأة لهذه السلطات والولايات، بالمعنى الذي كان في ذهن الفقهاء الذين عرضوا لهذه القضية في ظل (فردية) الولايات، وقبل تعقد النظم الحديثة والمعاصرة، وتميزها بالمؤسسة والمؤسسات..
لقد تحدث القرآن الكريم عن ملكة سبأ – وهي امرأة – فأثنى عليها وعلى ولايتها للولاية العامة، لأنها كانت تحكم بالمؤسسة الشورية – لا بالولاية الفردية – ((قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَـــةً أَمْرًا حَتَّى تَشْـــهَدُونِ)) (النمل: 32) .. وذم القرآن الكريم فرعون مصر – وهو رجل – لأنه قد انفرد بسلطان الولاية العامة وسلطة صنع القرار ((قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَــبِيلَ الرَّشَادِ)) (غافر: 29) .. فلم تكن العبرة بالذكورة أو الأنوثة في الولاية العامة – حتى الولاية العامة – وإنما كانت العبرة بكون هذه الولاية (مؤسسة شورية) ؟ أم سلطانا فرديًّا مطلقًا؟ ..
* * *
أما ولاية المرأة للقضاء.. والتى يثيرها البعض كشبهة على عدم اكتمال أهلية المرأة في الرؤية الإسلامية.. فإن إزالة هذه الشبهة يمكن أن تتحقق بالتنبيه على عدد من النقاط:
أولها: أن ما لدينا في تراثنا حول قضية ولاية المرأة لمنصب القضاء هو (فكر إسلامي) و (اجتهادات فقهية) أثمرت (أحكامًا فقهية).. وليس (دينًا) وضعه الله، سبحانه وتعالى، وأوحى به إلى رسوله ، عليه الصلاة والسلام، فالقرآن الكريم لم يعرض لهذه القضية، كما لم تعرض لها السنة النبوية، لأن القضية لم تكن مطروحة على الحياة الاجتماعية والواقع العملي لمجتمع صدر الإسلام، فليس لدينا فيها نصوص دينية أصلاً، ومن ثم فإنها من مواطن ومسائل الاجتهاد ..
ثم إن هذه القضية هي من (مسائل المعاملات) ، وليست من (شعائر العبادات) .. وإذا كانت (العبادات توقيفية) ، تلتمس من النص، وتقف عند الوارد فيه، فإن (المعاملات) تحكمها المقاصد الشرعية، وتحقيق المصالح الشرعية المعتبرة.. والموازنة بين المصالح والمفاسد فيها .. ويكفي في (المعاملات) أن لا تخالف ما ورد في النص، لا أن يكون قد ورد فيها نص..
ومعلوم أن ( الأحكام الفقهية) ، التى هي اجتهادات الفقهاء ، مثلها كمثل الفتاوى، تتغير بتغير الزمان والمكان والمصالح الشرعية المعتبرة .
فتولى المرأة للقضاء قضية فقهية، لم ولن يُغلق فيها باب الاجتهاد الفقهى الإسلامي ..
وثانيها: أن اجتهادات الفقهاء القدماء حول تولى المرأة لمنصب القضاء هي اجتهادات متعددة ومختلفة باختلاف وتعدد مذاهبهم واجتهاداتهم في هذه المسألة، ولقد امتد زمن اختلافهم فيها جيلاً بعد جيل.. ومن ثم فليس هناك (إجماع فقهي) في هذه المسألة حتى يكون هناك إلزام للخلف بإجماع السلف – وذلك فضلاً عن أن إلزام الخلف بإجماع السلف هو أمر ليس محل إجماع، ناهيكم عن أن قضية إمكانية تحقق الإجماع – أي اجتماع سائر فقهاء عصر ما على مسألة من مسائل فقه الفروع – كهذه المسألة – هو مما لا يتصور حدوثه – حتى لقد أنكر كثير من الفقهاء إمكانية حدوث الإجماع في مثل هذه الفروع أصلاً.. ومن هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل (164 – 241هـ /780- 855م) الذي قال : ( من ادعى الإجماع فقد كذب!)..
فباب الاجتهاد الجديد والمعاصر والمستقبلى في هذه المسألة – وغيرها من فقه الفروع – مفتوح .. لأنها ليست من المعلوم من الدين بالضرورة، أي المسائل التى لم ولن تختلف فيها مذاهب الأمة ولا الفطر السليمة لعلماء وعقلاء الإسلام..
وثالثها: أن جريان (العادة) ، في العصور الإسلامية السابقة، على عدم ولاية المرأة لمنصب القضاء لا يعنى (تحريم) الدين لولايتها هذا المنصب، فدعوة المرأة للقتال، وانخراطها في معاركه هو مما لم تجر به (العادة) في العصور الإسلامية السابقة، ولم يعن ذلك (تحريم) اشتراك المرأة في الحرب والجهاد القتالي عند الحاجة والاستطاعة وتعين فريضة الجهاد القتالي على كل مسلم ومسلمة.. فهى قد مارست هذا القتال وشاركت في معاركه على عصر النبوة والخلافة الراشدة .. من غزوة أحد (3هـ – 625م) إلى موقعة اليمامة (12 هـ – 633م) ضد ردة مسيلمة الكذاب .. فـ (العادة) مرتبطة (بالحاجات) المتغيرة بتغير المصالح والظروف والملابسات ، وليست هي مصدر الحلال والحرام .
ورابعها: أن علة اختلاف الفقهاء حول جواز تولى المرأة لمنصب القضاء، في غيبة النصوص الدينية – القرآنية والنبوية – التى تتناول هذه القضية ، كانت اختلاف هؤلاء الفقهاء في الحكم الذي (قاسوا) عليه توليها للقضاء.. فالذين (قاسوا) القضاء على (الإمامة العظمى) التى هي الخلافة العامة على أمة الإسلام ودار السلام – مثل فقهاء المذهب الشافعي – قد منعوا توليها القضاء، لاتفاق جمهور الفقهاء – باستثناء بعض الخوارج – على جعل (الذكورة) شرطًا من شروط الخليفة والإمام، فاشترطوا هذا الشرط – (الذكورة) – في القاضى ، قياسًا على الخلافة والإمامة العظمى ..
ويظل هذا (القياس) قياسًا على (حكم فقهى) – ليس عليه إجماع – وليس (قياسًا) على نص قطعى الدلالة والثبوت ..
والذين أجازوا توليها القضاء، فيما عدا قضاء (القصاص والحدود) – مثل أبى حنيفة (80 – 150هـ / 699 – 767م) وفقهاء مذهبه – قالوا بذلك (لقياسهم) القضاء على (الشهادة) ، فأجازوا قضاءها فيما أجازوا شهادتها فيه، أي فيما عدا (القصاص والحدود).
فالقياس هنا – أيضًا – عل (حكم فقهي) وليس على نص قطعى الدلالة والثبوت .. وهذا الحكم الفقهى المقيس عليه – وهو شهادة المرأة في القصاص والحدود .. أي في الدماء – ليس موضع إجماع .. فلقد سبق وذكرنا – في رد شبهة أن شهادة المرأة هي على النصف من شهادة الرجل – إجازة بعض الفقهاء لشهادتها في الدماء، وخاصة إذا كانت شهادتها فيها هي مصدر البينة الحافظة لحدود الله وحقوق الأولياء..
أما الفقهاء الذين أجازوا قضاء المرأة في كل القضايا – مثل الإمام محمد بن جرير الطبري (224 ـ 310هـ / 739 ـ 933م) فقد حكموا بذلك (لقياسهم) القضاء على (الفتيا).. فالمسلمون قد أجمعوا على جواز تولى المرأة منصب الإفتاء الديني – أي التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو من أخطر المناصب الدينية – وفي توليها للإفتاء سنة عملية مارستها نساء كثيرات على عهد النبوة – من أمهات المؤمنين وغيرهن – فقاس هؤلاء الفقهاء قضاء المرأة على فتياها، وحكموا بجواز توليها كل أنواع القضاء، لممارستها الإفتاء في مختلف الأحكام ..
وهم قد عللوا ذلك بتقريرهم أن الجوهرى والثابت في شروط القاضى إنما يحكمه الهدف والقصد من القضاء، وهو: ضمان وقوع الحكم بالعدل بين المتقاضيين.. وبعبارة أبي الوليد بن رشد – الحفيد – (520 – 595هـ / 1126- 1198م) : فإن (من رأى حكم المرأة نافذًا في كل شيء قال: إن الأصل هو أن كل ما يأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز، إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى)(1) .
وخامسها: أن (الذكورة) لم تكن الشرط الوحيد الذي اختلف حوله الفقهاء من بين شروط من يتولى القضاء.. فهم – مثلاً – اختلفوا في شرط (الاجتهاد)، فأوجب الشافعي (150- 204هـ / 767 – 820م) وبعض المالكية أن يكون القاضى مجتهدًا.. على حين أسقط أبو حنيفة هذا الشرط، بل وأجاز قضاء (العامي) ، أي الأمى في القراءة والكتابة – وهو غير الجاهل – ووافقه بعض فقهاء المالكية قياسًا على أمية النبي صلى الله عليه وسلم ، ..(1) .
واختلفوا – كذلك – في شرط كون القاضى (عاملاً) ، وليس مجرد (عالم) بأصول الشرع الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.. فاشترطه الشافعي، وتجـــاوز عنه غيره من الفقهاء(2) .
كما اشترط أبو حنيفة ، دون سواه، أن يكون القاضى عربيًّا من قريش(3) .
فشرط (الذكورة) في القاضى، هو واحد من الشروط التى اختلف فيها الفقهاء، حيث اشترطه البعض في بعض القضايا دون البعض الآخر، وليس فيه إجماع . كما أنه ليس فيه نصوص دينية تمنع أو تقيد اجتهادات المجتهدين .
وسادسها: أن ولاية القضاء قد أصابها هي الأخرى ما أصاب الولايات السياسية والتشريعية والتنفيذية من تطور انتقل بها من (الولاية الفردية) إلى ولاية (المؤسسة) ، فلم تعد (ولاية رجل) أو (ولاية امرأة) ، وإنما أصبح (الرجل) جزءًا من المؤسسة والمجموع، وأصبحت (المرأة) جزءًا من المؤسسة والمجموع . ومن ثم أصبحت القضية في (كيف جديد) يحتاج إلى (تكييف جديد)، يقدمه الاجتهاد الجديد لهذا الطور المؤسسى الجديد الذي انتقلت إليه كل هذه الولايات.. ومنها ولاية المرأة للقضاء..
الشبهة الخامسة
أن الرجال – في الإسلام – قوامون على النساء
في المدينة المنورة نزلت آيات (القوامة) – قوامة الرجال على النساء – وفي ظل المفهوم الصحيح لهذه القوامة تحررت المرأة المسلمة من تقاليد الجاهلية الأولى، وشاركت الرجال في العمل العام – مختلف ميادين العمل العام – على النحو الذي أشرنا إلى نماذجه في القسم الأول من هذه الدراسة – فكان مفهوم القوامة حاجزًا طوال عصر ذلك التحرير ولم يكن عائقًا بين المرأة وبين هذا التحرير ..
ولحكمة إلهية قرن القرآن الكريم – في آيات القوامة – بين مساواة النساء للرجال وبين درجة القوامة التى للرجال على النساء، بل وقدم هذه المساواة في تلك الدرجة، عاطفًا الثانية على الأولى بـ (واو) العطف، دلالة على المعية والاقتران.. أي أن المساواة والقوامة صنوان مقترنان ، يرتبط كل منهما بالآخر ، وليسا نقيضين ، حتى يتوهم واهم أن القوامة نقيض ينتقص من المساواة ..
لحكمة إلهية جاء ذلك في القرآن الكريم، عندما قال الله سبحانه وتعالى – في سياق الحديث عن شئون الأسرة وأحكامها : ((وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم)) (البقرة : 228) .
وفي سورة النساء جاء البيان لهذه الدرجة التى للرجال على النساء – في سياق الحديث عن شئون الأسرة، وتوزيع العمل والأنصبة بين طرفى الميثاق الغليظ الذي قامــت به الأســرة – الرجل والمرأة – فإذا بآية القوامة تأتى تالية للآيات التى تتحدث عن توزيع الأنصبة والحظوظ والحقوق بين النساء وبين الرجال، دونما غبن لطرف، أو تمييز يخل بمبدأ المساواة، وإنما وفق الجهد والكسب الذي يحصل به كل طرف ما يستحق من ثمرات.. ((وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِــهِ إِنَّ اللَّــهَ كَانَ بِكُـلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا(33)الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)) (النساء:32 ـ 34) .
ولقد فقه حبر الأمة ، عبد الله بن عباس (3ق هـ – 68هـ / 619 – 687م) الذي دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أن يفقهه في الدين – فهم الحكمة الإلهية في اقتران المساواة بالقوامة، فقال – في تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى ((وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف)) تلك العبارة الإنسانية، والحكمة الجامعة: (إننى لأتزين لامرأتى، كما تتزين لي، لهذه الآية ) .
وفهم المسلمون – قبل عصر التراجع الحضاري، الذي أعاد بعضًا من التقاليد الجاهلية الراكدة إلى حياة المرأة المسلمة مرة أخرى – أن درجة القوامة هي رعاية ربان الأسرة – الرجل – لسفينتها ، وأن هذه الرعاية هي مسئولية وعطاء.. وليست ديكتاتورية ولا استبدادًا ينقص أو ينتقص من المساواة التى قرنها القرآن الكريم بهذه القوامة، بل وقدمها عليها..
ولم يكن هذا الفهم الإسلامي لهذه القوامة مجرد تفسيرات أو استنتاجات، وإنما كان فقهًا محكومًا بمنطق القواعد القرآنية الحاكمة لمجتمع الأسرة، وعلاقة الزوج بزوجه .. فكل شئون الأسرة نذار، وكل قراراتها تتخذ بالشورى، أي بمشاركة كل اعضاء الأسرة في صنع واتخاذ هذه القرارات، لأن هؤلاء الأعضاء مؤمنون بالإسلام، والشورى صفة أصيلة من صفات المؤمنين والمؤمنات: ((وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ(37)وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38)وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُــمُ الْبَغْـــيُ هُمْ يَنْتَصِــــــرُون)) (الشورى: 37 ـ 39) .
فالشورى واحدة من الصفات المميزة للمؤمنين والمؤمنات، في كل ميادين التدبير وصناعة القرار.. والأسرة هي الميدان التأسيسي والأول في هذه الميادين.. تجب هذه الشورى ، ويلزم هذا التشاور في مجتمع الأسرة – لتتأسس التدابير والقرارات على الرضى، الذي لا سبيل إليه إلا بالمشاركة الشورية في صنع القرارات .. يستوى في ذلك الصغير والخطير من هذه التدابير والقرارات.. حتى لقد شاءت الحكمة الإلهية أن ينص القرآن الكريم على تأسيس قرار الرضاعة للأطفال – أي سقاية المستقبل وصناعة الغد – على الرضى الذى تثمره الشورى.. ففي سياق الآيات التى تتحدث عن حدود الله في شئون الأسرة.. تلك الحدود المؤسسة على منظومة القيم .. والمعروف.. والإحسان.. ونفى الجُناح والحرج.. وعدم المضارة والظلم والعدوان.. والدعوة إلى ضبط شئون الأسرة بقيم التزكية والطهر، لا (بترسانة) القوانين الصماء!.. في هذا السياق ينص القرآن على أن تكون الشورى هي آلية الأسرة في صنع كل القرارات ((وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِه ِوَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا ءَاتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (البقرة:233) .
هكذا فهم المسلمون معنى القوامة .. فهي مسئولية وتكاليف للرجل، مصاحبة لمساواة النساء بالرجال.. وبعبارة الإمام محمد عبده (إنها تفرض على المرأة شيئًا وعلى الرجل أشياء).
وكانت السنة النبوية – في عصر البعثة – البيان النبوى للبلاغ القرآني في هذا الموضوع.. فالمعصوم صلى الله عليه وسلم ، الذي حمّله ربه الحمل الثقيل – في الدين .. والدولة .. والأمة .. والمجتمع.. ((إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)) (المزمل : 5) هو الذي كان في خدمة أهله – أزواجه – وكانت شوراهن معه وله صفة من صفات بيت النبوة، في الخاص والعام من الأمور والتدابير .. ويكفى أن هذه السنة العملية قد تجسدت تحريرًا للمرأة، شاركت فيه الرجال بكل ميادين الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.. وحتى القتال.. كما كان صلى الله عليه وسلم، دائم التأكيد على التوصية بالنساء خيرًا.. فحريتهن حديثة العهد، وهن قريبات من عبودية التقاليد الجاهلية، واستضعافهن يحتاج إلى دوام التوصية بهن والرعاية لهن.. وعنه صلى الله عليه وسلم، تروى أقرب زوجاته إليه – عائشة رضى الله عنها – (إنما النساء شقائق الرجال) – رواه أبو داود والترمذي والدارمي والإمام أحمد – وعندما سئلت:
– ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعمل في بيته؟
– قالت : (كان بشرًا من البشر، يفلى ثوبه ، ويحلب شاته، ويخدم نفسه) رواه الإمام أحمد.
يفعل ذلك ، وهو القوام على الأمة كلها، في الدين والدولة والدنيا جميعًا..
وفي خطبتــــه صلى الله عليه وسلم ، بحجـــة الوداع (10هـ -632م) – وهي التى كانت إعلانًا عالميًّا خالدًا للحقوق والواجبات، الدينية والمدنية – كما صاغها الإسلام – أفرد صلى الله عليه وسلم، للوصية بالنساء فقرات خاصة، أكد فيها على التضامن والتناصر بين النساء والرجال في المساواة والحقوق والواجبات، فقال:
(ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. ألا إن لكم على نسائكم حقًّا ولنسائكم عليكم حقًّا.. فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرًا، ألا هل بلغت! . اللهم فاشهد)(1) .
هكذا فهمت القوامة في عهد التنزيل.. فكانت قيادة للرجل في الأسرة، اقتضتها مؤهلاته ومسئولياته في البذل والعطاء.. وهي قيادة محكومة بالمساواة والتناصر والتكافل بين الزوج وزوجه في الحقوق والواجبات – ومحكومة بالشورى التى يسهم بها الجميع ويشاركون في تدبير شئون الأسرة.. هذه الأسرة التى قامت على (الميثاق الغليظ) ميثاق الفطرة – والتى تأسست على المودة والرحمة، حتى غدت المرأة فيها السكن والسكينة لزوجها، أفضى بعضهم إلى بعض، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، فهي بعض الرجل، والرجل بعض منها ((بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ )) (آل عمران: 195) ((وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (الروم:21) ((هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُن)) (البقرة: 187).. ((وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْـــضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُــمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)) (النساء: 21) .
وإذا كانت القوامة ضرورة من ضرورات النظام والتنظيم في أية وحدة من وحدات التنظيم الاجتماعي، لأن وجود القائد الذي يحسم الاختلاف والخلاف، هو مما لا يقوم النظام والانتظام إلا به.. فلقد ربط القرآن هذه الدرجة في الريادة والقيادة بالمؤهلات والعطاء، وليس بمجرد (الجنس) فجاء التعبير : ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء)) وليس كل رجل قوام على كل امرأة.. لأن إمكانات القوامة معهودة في الجملة والغالب لدى الرجال، فإذا تخلفت هذه الإمكانات عند واحد من الرجال، كان الباب مفتوحًا أمام الزوجة – إذ امتلكت من هذه المقومات أكثر مما لديه – لتدبير دفة الاجتماع الأسرى – على نحو ما هو حادث في بعض الحالات!..
هكذا كانت القوامة – في الفكر والتطبيق – في عصر صدر الإسلام .. لكن الذي حدث بعد القرون الأولى، وبعد الفتوحات التى أدخلت إلى المجتمع الإسلامي شعوبًا لم يهذب الإسلام عاداتها الجاهلية، في النظر إلى المرأة والعلاقة بها، مما أصاب النموذج الإسلامي بتراجعات وتشوهات أشاعت تلك العادات والتقاليد الجاهلية في المجتمعات الإسلامية من جديد .
ويكفى أن نعرف أن كلمة (عوان) التى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، بها النساء في خطبة حجــة الوداع ، والتى تعنى – في (لســان العرب) (النصف والوسط)(1) -أي الخيار- وتعنى ذات المعنى في موسوعات مصطلحات الفنون(2) .. قد أصبحت تعنى – في عصر التراجع الحضاري – أن المرأة أسيرة لدى الرجال، وأن النساء أسرى عند الرجال.. وأن القوامة هي لون من (القهر) لأولئك النساء الأسيرات!!.. حتى وجدنا إمامًا عظيمًا مثل ابن القيم، يعبر عن واقع عصره -العصر المملوكي- فيقول هذا الكلام الغريب والعجيب:
(إن السيد قاهر لمملوكه، حاكم عليه، مالك له. والزوج قاهر لزوجته، حاكم عليها، وهي تحت سلطانه وحكمه شبه الأسير)(3)!!
وهو فهم لمعنى القوامة، وعلاقة الزوج بزوجته، يمثل انقلابًا جذريًّا على إنجازات الإسلام في علاقة الأزواج بالزوجات!.. انقلاب العادات والتقاليد الجاهلية التي ارتدت تغالب قيم الإسلام في تحرير المرأة ومساواة النساء للرجال .
ووجدنا كذلك -في عصور التقليد والجمود الفقهي- تعريف بعض (الفقهاء) لعقد النكاح، فإذا به: (عقد تمليك بضع الزوجة)!!.. وهو انقلاب على المعاني القرآنية السامية لمصطلحات (الميثاق الغليظ) و(المودة.. والرحمة.. والسكن والسكينة.. وإفضاء كل طرف إلى الطرف الآخر، حتى أصبح كل منهما لباسًا له).
هكذا حدث الانقلاب، في عصور التراجع الحضاري لمسيرة أمة الإسلام.
ولذلك؛ كان من مقتضيات البعث الحضاري، الحديث والمعاصر، لنموذج الإسلام في تحرير المرأة وإنصافها، كبديل للنموذج الغربي، الذي اقتحم عالم الإسلام في ركاب الغزوة الاستعمارية الغربية لبلادنا- والذي شقيت وتشقى به المرأة السوية في الغرب ذاته – كان من مقتضيات ذلك إعادة المفاهيم الإسلامية الصحيحة لمعنى قوامة الرجال على النساء.. وهي المهمة التي نهضت بها الاجتهادات الإسلامية الحديثة والمعاصرة لأعلام علماء مدرسة الإحياء والتجديد .
فالإمام محمد عبده، قد وقف أمام آيات القوامة ((وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَــالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )) (البقرة : 228) – فإذا به يقول:
(هذه كلمة جليلة جدًّا، جمعت، على إيجازها ، ما لا يؤدى بالتفصيل إلا في سفر كبير، فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق، إلا أمرًا واحدًا عبر عنه بقوله : ((وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة)) وقد أحال في معرفة ما لهن وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشرتهن ومعاملاتهن في أهليهن، وما يجرى عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم..
فهذه الجملة تعطى الرجل ميزانًا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشئون والأحوال، فإذا هم بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه، ولهذا قال ابن عباس t، : إننى لأتزين لامرأتى كما تتزين لي، لهذه الآية .
وليس المراد بالمثل المثل بأعيان الأشياء وأشخاصها، وإنما المراد: أن الحقوق بينهما متبادلة، وأنهما كفئان، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله لها، وإن لم يكن مثله في شخصه، فهو مثله في جنسه، فهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل، أي أن كلاًّ منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدًا يستذله ويستخدمه في مصالحه، ولا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة التى لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه ..
هذه الدرجة التى رُفع النساء إليها، لم يرفعهن إليها دين سابق ولا شريعة من الشرائع، بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده..
لقد خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة، في العبادات والمعاملات، كما خاطب الرجال، وجعل لهن عليهم مثل ما جعله لهم عليهن، وقرن أسماءهن بأسمائهم في آيات كثيرة، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنات كما بايع المؤمنين، وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم، وأجمعت الأمة على ما مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن في الدنيا والآخرة..
وأما قوله تعالى: ((وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة)) فهو يوجب على المرأة شيئًا وعلى الرجال أشياء، ذلك أن هذه الدرجة درجة الرياسة والقيام على المصالح، المفسرة بقوله تعالى : ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ )) (النساء: 34) .
إن الحياة الزوجية حياة اجتماعية ، ولابد لكل اجتماع من رئيس، لأن المجتمعين لابد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور ، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يُرجع إلى رأيه في الخلاف، لئلا يعمل كل ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المُطالب شرعًا بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف.
إن المراد بالقيام (القوامة) – هنا هو الرياسة التى يتصرف فيها المرءوس بإرادته واختياره، وليس معناه أن يكون المرءوس مقهورًا مسلوب الإرادة لا يعمل عملاً إلا ما يوجهه إليه رئيسه..
إن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد، فالرجل بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن..
أما الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة في بيوتهم، فإنما يلدن عبيدًا لغيرهم)(1)!!..
وإذا كانت عصور التراجع الحضاري – كما سبق وأشرنا – قد استبدلت بالمعاني السامية لعقد الزواج – المودة والرحمة والسكن.. والميثاق الغليظ – ذلك المعنى الغريب – ( عقد تمليك بُضع الزوجة وعقد أسر وقهر !.. فلقد أعاد الاجتهاد الإسلامي الحديث والمعاصر الاعتبار إلى المعانى القرآنية السامية .. وكتب الشيخ محمود شلتوت (1310 – 1383هـ / 1893 – 1963م) في تفسير للقرآن الكريم – تحت عنوان (الزواج ميثاق غليظ) يقول:
(لقد أفرغت سورة النساء على عقد الزواج صبغة كريمة أخرجته عن أن يكون عقد تمليك كعقد البيع والإجارة) أو نوعًا من الاسترقاق والأسر.. أفرغت عليه صبغة (الميثاق الغليظ).
ولهذا التعبير قيمته في الإيحاء بموجبات الحفظ والرحمة والمودة . وبذلك كان الزواج عهدًا شريفًا وميثاقًا غليظًا ترتبط به القلوب ، وتختلط به المصالح، ويندمج كل من الطرفين في صاحبه، فيتحد شعورهما، وتلتقى رغباتهما وآمالهما في علاقة دونها علاقة الصداقة والقرابة، وعلاقة الأبوة والبنوة ((هُنَّ لِبَـــاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَــاسٌ لَهُن)) (البقرة: 187) ((وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (الروم:21) يتفكرون فيدركون أن سعادة الحياة الزوجية إنما تُبنى على هذه العناصر الثلاثة: السكن، المودة، والرحمة..
وإذا تنبهنا إلى أن كلمة ميثاق لم ترد في القرآن الكريم إلا تعبيرًا عما بين الله وعباده من موجبات التوحيد، والتزام الأحكام، وعما بين الدولة والدولة من الشئون العامة والخطيرة، علمنا مقدار المكانة التى سما القرآن بعقد الزواج إليها. وإذا تنبهنا مرة أخرى إلى أن وصف الميثاق (بالغليظ) لم يرد في موضع من مواضعه إلا في عقد الزواج وفيما أخذه الله على أنبيائه من مواثيق ((وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)) (النساء: 21) . تضاعف لدينا سمو هذه المكانة التى رفع القرآن إليها هذه الرابطة السامية ).
ثم تحدث الشيخ شلتوت عن المفهوم الإسلامي الصحيح (للقوامة) ، فقال:
(وبينت السورة الدرجة التى جعلها الله للرجال على النساء، بعد أن سوى بينهما في الحقوق والواجبات، وأنها لا تعدو درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التى يمتاز بها الرجل على المرأة ، وبحكم الكد والعمل في تحصيل المال الذي ينفقه في سبيل القيام بحقوق الزوجة والأسرة، وليست هذه درجة الاستعباد والتسخير، كما يصورها المخادعون المغرضون..)(1) .
تلك هي شبهة الفهم الخاطئ والمغلوط لقوامة الرجال على النساء.. والتى لا تعدو أن تكون الانعكاس لواقع بعض العادات الجاهلية التى ارتدت، في عصور التراجع الحضاري لأمتنا الإسلامية ، فغالبت التحرير الإسلامي للمرأة، حتى انتقلت بالقوامة من الرعاية والريادة، المؤسسة على إمكانات المسئولية والبذل والعطاء، إلى قهر السيد للمسود والحر للعبد والمالك للمملوك!..
ولأن هذا الفهم غريب ومغلوط، فإن السبيل إلى نفيه وإزالة غباره وآثاره هو سبيل البديل الإسلامي، الذي فقهه الصحابة رضوان الله عليهم، للقوامة.. والذي بعثه – من جديد – الاجتهاد الإسلامي الحديث والمعاصر ، ذلك الذي ضربنا عليه الأمثال من فكر وإبداع الشيخ محمد عبده والشيخ محمود شلتوت..
بل إننا نضيف، للذين يرون في القوامة استبدادًا بالمرأة وقهرًا لها – سواء منهم غلاة الإسلاميين ، الذي ينظرون للمرأة نظرة دونية ، ويعطلون ملكاتها وطاقاتها بالتقاليد – أو غلاة العلمانيين، الذين حسبوا ويحسبون أن هذا الفهم المغلوط هو صحيح الإسلام وحقيقته، فيطلبون تحرير المرأة بالنموذج الغربي.. بل وتحريرها من الإسلام!.. نقول لهؤلاء جميعًا :
إن هذه الرعاية، التى هي القوامة، لم يجعلها الإسلام حكرًا للرجل بإطلاق.. ولم يحرم منها المرأة بإطلاق.. وإنما جعل للمرأة رعاية – أي (قوامة) – في الميادين التى هي فيها أبرع وبها أخبر من الرجال.. ويشهد على هذه الحقيقة نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم، وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهى مسئولة عنهم.. ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) رواه البخارى ومسلم والإمام أحمد.
فهذه الرعاية – القوامة – هي في حقيقتها (تقسيم للعمل) تحدد الخبرةُ والكفاءةُ ميادين الاختصاص فيه (فالكل راع ومسئول – وليس فقط الرجال هم الرعاة والمسئولون – وكل صاحب أو صاحبة خبرة وكفاءة هو راع وقوام أو راعية وقوامة على ميدان من الميادين وتخصص من التخصصات.. وإن تميزت رعاية الرجال وقوامتهم في الأسر والبيوت والعائلات وفقًا للخبرة والإمكانات التى يتميزون بها في ميادين الكد والحماية.. فإن لرعاية المرأة تميزًا في إدارة مملكة الأسرة وفي تربية الأبناء والبنات.. حتى لنلمح ذلك في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سبق إيراده – عندما جعل الرجل راعيًا ومسئولاً على (أهل بيته) بينما جعل المرأة راعية ومسئولة عن (بيت بعلها وولده)!..
فهي – (القوامة) – توزيع للعمل، تحدد الخبرة والكفاءة ميادينه.. وليست قهرًا ولا قسرًا ولا تملكًا ولا عبودية، بحال من الأحوال.
هكذا وضحت قضية القوامة .. وسقطت المعاني الزائفة والمغلوطة لآخر الشبهات التى يتعلق بها الغلاة غلاة الإسلاميين.. وغلاة العلمانيين.
وأخـــيرًا
فسواء نظرنا إلى قضية المرأة وإنصافها وتحريرها، في إطار النظرة العامة التى نظر الإسلام بها إلى المرأة – نظرة الإنصاف والمساواة للرجل في الخلق من نفس واحدة.. وفي الإنسانية.. وفي التكريم لكل بنى آدم.. وفي حمل الأمانة التى عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان – ذكرًا أو أنثى – .. وفي الأهلية للتكاليف.. وفي الحساب.. وفي الجزاء – .. مع الحفاظ على فطرة تميز الأنوثة عن الذكورة، تميز التكامل لا الأنداد والأضداد..
سواء نظرنا إلى هذه القضية في إطارها النظري هذا.. أم نظرنا إليها من خلال تطبيقات مجتمع النبوة، الذي مارست فيه المرأة فقه هذا التحرير الإسلامي لملكاتها وطاقاتها – على النحو الذي شاركت فيه الرجال بإقامة الدين.. وبناء الدولة.. والمجتمع.. والحضارة.. أم نظرنا إلى هذه القضية من خلال الفكر الفقهى الإسلامي، الذي اختلف أئمته حول بعض القضايا الفرعية – التى اتخذت في عصر التراجع الحضاري، ومن قبل تيارات الجمود والتقليد منطلقات لشبهات ضد أهلية المرأة وإنصافها – فنفذنا إلى فقه النصوص التى تصورها البعض شبهات وعقبات على طريق تحرير المرأة وإنصافها ..فإننا سنجد الآفاق واسعة وفسيحة وممتدة أمام إنهاض المرأة بالإسلام.. وليس بتجاوز الإسلام، كما يريد المتغربون من غلاة العلمانيين.
وإذا كان الاجتهاد الإسلامي – القديم منه والحديث – هو الذي انطلقت منه هذه الدراسة، لتقرير مشاركة المرأة في العمل العام، سائر ما تطيق وتحسن من ميادين العمل العام.. والذي انطلقت منه للرد على ما أثير ويثار من شبهات حو ل أهلية المرأة لهذه المشاركة في العمل العام.. فإن هذا الاجتهاد الإسلامي إنما يستند إلى النصوص القرآنية التى أشركت المرأة والرجل في القيام بفرائض التكاليف الاجتماعية لهذا العمل العام .. وإلى تطبيقات عصر النبوة – أي السنة العملية – لهذه النصوص القرآنية.. وإلى الآفاق المفتوحة دائمًا وأبدًا أمام المرأة، لتقتحم المزيد والمزيد من ميادين المشاركة التي تطيقها وتحسنها كالأنثى، وفق السنة النبوية التي فتحت لها هذه الآفاق، عندما بايعت النساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيعتهن الخاصة بهن، فلم ينب عنهن فيها الرجال، وفتح الرسول صلى الله عليه وسلم أمامهن هذه الآفاق، وطريق التطور والتقدم نحوها، قائلا لهن: (فيما استطعتن وأطقتن) .
وإذا كانت بعض المجتمعات والبيئات الإسلامية، تسود وتتحكم فيها عادات وتقاليد وأعراف تحجب المرأة عن المشاركة فيما هي أهل له وقادرة عليه من ميادين العمل العام.. فإن المنهاج الإسلامي يدعو إلى تطوير هذه العادات والتقاليد والأعراف نحو النموذج الإسلامي لتحرير المرأة وإنصافها ، في تدرج لا يقفز على الواقع ولا يتجاهله – فتجاهل الواقع والقفز على عاداته بتجاهل تقاليده وأعرافه، هو جهل لا يليق بالمصلحين .. كما يدعو هذا المنهاج الإسلامي إلى رفض – بل وإدانة – إلباس هذه العادات والتقاليد والأعراف لبوسًا إسلاميًّا، يجملها، ومن ثم يكرسها، بالزور والبهتان..
وكذلك الحال مع البيئات والمجتمعات الإسلامية التى اقتحمها النموذج الغربي (لتحرير) المرأة، ذلك الذي أرادها (ندًّا) للرجل، وتجاهل تميز (الأنوثة) عن (الذكورة) في تقسيم العمل الاجتماعي بين النساء والرجال، كما تجاهل منظومة القيم الإسلامية وضوابط الشريعة في الزي والسلوك والأخلاق، على النحو الذي أهان المرأة واستباح حرماتها، وأهدر – مع حقوقها كأنثى – حقوق الله، سبحانه وتعالى.
إن هذا النموذج الغربي في (تحرير) المرأة، لابد من إدانته، وطى صفحات فكره وممارساته في واقعنا الإسلامي – بالنقد الموضوعي، وبتقديم البديل الإسلامي.. لا بالمصادرة التعسفية – .. ولابد، كذلك، من تطوير هذا الواقع الاجتماعي في اتجاه التقبل للنموذج الإسلامي والالتزام به.. ذلك النموذج الذي كشفت هذه الدراسة عن معالمه في مشاركة المرأة بالعمل العام.. وردت عنه الشبهات التى أثارها ويثيرها غلاة الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء..
إن المرأة المسلمة خاصة، والمرأة الشرقية عامة، بل ومطلق المرأة ، مدعو إلى استلهام نموذج المرأة التى حررها الإسلام.. وذلك عندما :
* جعل من خديجـــة بنت خويلــد (68 – 3ق هـ / 566 – 620م) طليعة الذي سبقوا إلى الإيمان بالإسلام، ونصروا دعوته، وآزروا رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لقد مثلت وحدها التجسيد لأمة الإسلام إلى أن ائتم بها من فتح الله صدره لهذا الدين من السابقين الأولين..
* كما جعل هذا النموذج التحريري من سمية بنت خياط (7ق هـ ـ 615م) زوج ياسر، وأم عمار – طليعة شهداء الإسلام وأمته، الأحياء عند ربهم يرزقون..
* كما جعل من عائشة – أم المؤمنين – (9ق هـ ـ 58 هـ / 613 – 678م) رضى الله عنهما، راوية السنة النبوية.. والفقيهة والمفتية في الدين.. والمشيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الأمة .. والمشاركة في الشأن العام، سياسة واجتماعًا، سلمًا وحربًا ..
* كما جعل من نسيبة بنت كعب الأنصارية – أم عمارة – (13هـ – 634م) المشارة في تأسيس الدولة .. وفي بيعة الرضوان – بيعة القتال – تحت الشجرة ، عام الحديبية (6هـ ـ 628م) والتى نهضت في ساحات المعارك القتالية بما قصر عنه كثير من الرجال! ..
* كما جعل من أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية (30هـ – 650م) خطيبة النساء ، التى تهز أعواد المنابر.. ووافدة النساء إلى رسول الله ، للمطالبة بحقوق من خلفها من نساء المؤمنين .
* كما جعل من أسماء بنت أبى بكر الصديق (27 ق هـ – 73هـ/ 597 – 692م) الأنثى التى تشارك في صناعة الأحداث الكبرى والمحورية في تاريخ الدعوة والدولة الإسلامية .. والتى ترعــى منزل زوجهـــا الزبير بن العوام (28ق هـ – 36هـ/ 596 – 656م).. وفرس جهاده.. وتزرع حقله.. وتقاتل معه في الغزوات .. وتحافظ على مشاعره وغيرته الشديدة!.. وتتزين بالحشمة التى لا تكشف ولا تشف ولا تصف.. وتربى ولدها عبد الله بن الزبير (1 – 73هـ / 622 – 692م) على بطولة الفداء والاستشهاد .. وتسهم معه، بالشورى، في أحداث ثورته الكبرى .. وتتصدى لطغيان الحجاج ابن يوسف الثقفى (40 – 95هـ / 660 – 714م) على النحو الذي غدا مضرب الأمثال في تاريخ الأبطال والبطولات!..
إلى آخر نماذج النخبة والصفوة التى تربت في مدرسة النبوة، والتى زاد عددهن عن ألف امرأة، أطلق التحرير الإسلامي طاقاتهن وملكاتهن في أقل من ربع قرن، هو عمر البعثة النبوية.. وعشر سنوات هي عمر دولة الرسولصلى الله عليه وسلم ، في المدينة المنورة..
فللإسلام نموذجه المتميز في تحرير المرأة.. ولهذا النموذج طلائعه في تاريخ هذا التحرير..
وإذا كانت الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء الأمة، فإن المرأة هي الراعية وصانعة المستقبل، بصياغة وصناعة الإنسان، وتربية وإعداد عدة الغد وتنمية أعظم رأس مال في الوجود!..
ومع عظم وعظمة هذه المهمة.. فإن آفاق عمل المرأة لا تقف عند نطاق الأسرة.. فلقد فتح التحرير الإسلامي أمام عملها آفاق الاشتراك في العمل الاجتماعي العام – مُوكلة.. ووكيلة.. ناخبة.. ومنتخبة – لتشارك في شورى صناعة القرارات التى تُرشد مسيرة الأسرة والأمة .. نهوضًا – مع الرجل – بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التى فرضها الله، سبحانه وتعالى، على الجميع .. والتى تندرج تحتها وتتفرع منها سائر ميادين العمل العام.. على أن يخضع ذلك كله لتوفر الأهلية والقدرة – وهو شرط عام فيمن ينهض بأي تكليف شرعي، رجلاً كان أم امرأة – وألا يخل هذا الاشتراك في العمل العام بحق وواجب المرأة لأسرتها، ومملكتها الأولى، وإطار قوامتها الأساسية، أو بضابط من الضوابط الشرعية التى جاء بها الإسلام ..
المراجع
(*) ورقة مقدمة إلى مؤتمر تحرير المرأة في الإسلام الذي عقدته اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل ودار القلم للنشر والتوزيع، بمركز الشيخ صالح كامل – جامعة الأزهر، في الفترة من 22 – 23 فبراير 2003م.
(**) عضو مجمع البحوث الإسلامية – مصر.
(1) د. صلاح سلطان: (ميراث المرأة وقضية المساواة). ص 10 ، 46 طبعة دار نهضة مصر (سلسلة في التنوير الإسلامي) – القاهرة 1999م.
(1) النكول : هو الامتناع عن اليمين .
(1) ابن القيم (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 34. تحقيق محمد جميل غازي. طبعة القاهرة 1977م.
(2) أي الكتابة .
(1) القافة: مفردها قائف – هو الذي يعرف الآثار – آثار الأقدام – ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه .
(2) القسامة : الأيمان ، تقسم على أهل المحلة الذين وجد المقتول فيهم .
(3) ( الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 103 – 105 ، 219 ، 236 .
(4) مفردها قِمْط – بكسر القاف وسكون الميم – : ما تشد به الأخصاص ومكونات البناء ولبناته .
(1) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 198.
(2) السلب – بفتح السين مشدودة، وفتح اللام- : هو متاع القتيل وعدته، يأخذه قاتله .. وفي الحديث: (من قتل قتيلاً فله سلبه) .
(3) الموضحة: هي الجراحات التى هي دون قتل النفس .
(4) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ) ص 98، 113، 123 .
(1) استهلال الصبي: هو أن يحدث منه ما يدل على حياته – ساعة الولادة – من رفع صوت أو حركة عضو أو عين، وهو شرط التمتع بحقوق الأحياء.
(2) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 115 – 117 .
(3) المصدر السابق . ص 188، 193.
(1) المصدر السابق . ص 221 .
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج1 ص 90 – 92، 94، 95، 103، 104 . طبعة بيروت 1973م.
(1) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، ج4 ص 732. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة . طبعة القاهرة 1993م.
(1) ( الإسلام عقيدة وشريعة) ص 239 – 241 . طبعة القاهرة سنة 1400هـ ـ 1980م.
(2) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 244، 236 .
(3) المصدر السابق . ص 329 .
(1) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 236 .
(2) (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده) ج4 ص 606. دراسة وتحقيق : د. محمد عمارة. طبعة القاهرة 1993م.
(1) (الإسلام عقيدة وشريعة) ص 223 – 22 /8. طبعة القاهرة 1400هـ ـ 1980م .
(1) (الأهرام) في 29 / 4 / 2001م. ص 2 .
(1) الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد (المفردات في غريب القرآن) طبعة دار التحرير – القاهرة – 1991م.
(1) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ج2 ص 494. طبعة القاهرة 1974م . والماوردي (أدب القاضى) ج1 ص 625 – 628 طبعة بغداد 1970م . و (الأحكام السلطانية ) ص 65 . طبعة القاهرة 1973م.
(1) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ج2 ص 493، 494.
(2) (أدب القاضى) ج1 ص 643.
(3) ( أدب القاضى) ج1 ص 643 .
(1) (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة) ص 283. جمعها وحققها: د. محمد حميد الله. طبعة القاهرة 1956م.
(1) ابن منظور (لسان العرب) طبعة دار المعارف. القاهرة.
(2) انظر: الراغب الأصفهاني (المفردات في غريب القرآن) طبعة دار التحرير. القاهرة 1991. وأبو البقاء الكفوى (الكليات) ق 2 ص 287. تحقيق : د. عدنان درويش، محمد المصرى. طبعة دمشق 1982م.
(3) (إعلام الموقعين) ج2 ص106، طبعة بيروت 1973م .
(1) (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده) ج4 ص 606- 611- و ج5 ص 201 ، 203 . دراسة وتحقيق : د. محمد عمارة. طبعة القاهرة 1993م.
(1) (تفسير القرآن الكريم) ص 172 – 174 . طبعة القاهرة 1399هـ ـ 1979م.
(1) د. صلاح سلطان: (ميراث المرأة وقضية المساواة). ص 10 ، 46 طبعة دار نهضة مصر (سلسلة في التنوير الإسلامي) – القاهرة 1999م.
(1) النكول : هو الامتناع عن اليمين .
(1) ابن القيم (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 34. تحقيق محمد جميل غازي. طبعة القاهرة 1977م.
(2) أي الكتابة .
(1) القافة: مفردها قائف – هو الذي يعرف الآثار – آثار الأقدام – ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه .
(2) القسامة : الأيمان ، تقسم على أهل المحلة الذين وجد المقتول فيهم .
(3) ( الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 103 – 105 ، 219 ، 236 .
(4) مفردها قِمْط – بكسر القاف وسكون الميم – : ما تشد به الأخصاص ومكونات البناء ولبناته .
(1) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 198.
(2) السلب – بفتح السين مشدودة، وفتح اللام- : هو متاع القتيل وعدته، يأخذه قاتله .. وفي الحديث: (من قتل قتيلاً فله سلبه) .
(3) الموضحة: هي الجراحات التى هي دون قتل النفس .
(4) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ) ص 98، 113، 123 .
(1) استهلال الصبي: هو أن يحدث منه ما يدل على حياته – ساعة الولادة – من رفع صوت أو حركة عضو أو عين، وهو شرط التمتع بحقوق الأحياء.
(2) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 115 – 117 .
(3) المصدر السابق . ص 188، 193.
(1) المصدر السابق . ص 221 .
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج1 ص 90 – 92، 94، 95، 103، 104 . طبعة بيروت 1973م.
(1) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، ج4 ص 732. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة . طبعة القاهرة 1993م.
(1) ( الإسلام عقيدة وشريعة) ص 239 – 241 . طبعة القاهرة سنة 1400هـ ـ 1980م.
(2) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 244، 236 .
(3) المصدر السابق . ص 329 .
(1) (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص 236 .
(2) (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده) ج4 ص 606. دراسة وتحقيق : د. محمد عمارة. طبعة القاهرة 1993م.
(1) (الإسلام عقيدة وشريعة) ص 223 – 22 /8. طبعة القاهرة 1400هـ ـ 1980م .
(1) (الأهرام) في 29 / 4 / 2001م. ص 2 .
(1) الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد (المفردات في غريب القرآن) طبعة دار التحرير – القاهرة – 1991م.
(1) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ج2 ص 494. طبعة القاهرة 1974م . والماوردي (أدب القاضى) ج1 ص 625 – 628 طبعة بغداد 1970م . و (الأحكام السلطانية ) ص 65 . طبعة القاهرة 1973م.
(1) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ج2 ص 493، 494.
(2) (أدب القاضى) ج1 ص 643.
(3) ( أدب القاضى) ج1 ص 643 .
(1) (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة) ص 283. جمعها وحققها: د. محمد حميد الله. طبعة القاهرة 1956م.
(1) ابن منظور (لسان العرب) طبعة دار المعارف. القاهرة.
(2) انظر: الراغب الأصفهاني (المفردات في غريب القرآن) طبعة دار التحرير. القاهرة 1991. وأبو البقاء الكفوى (الكليات) ق 2 ص 287. تحقيق : د. عدنان درويش، محمد المصرى. طبعة دمشق 1982م.
(3) (إعلام الموقعين) ج2 ص106، طبعة بيروت 1973م .
(1) (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده) ج4 ص 606- 611- و ج5 ص 201 ، 203 . دراسة وتحقيق : د. محمد عمارة. طبعة القاهرة 1993م.
(1) (تفسير القرآن الكريم) ص 172 – 174 . طبعة القاهرة 1399هـ ـ 1979م.