أبحاث

نظرة منهجية واقعية في موضوعات النقود والبنوك والبورصات والتأمين (1)

العدد 110

أولاً :

‌أ- تمر ســــاحة البنوك الإسلامية -وما يتصل بها من جهات الفتوى- بأزمة لا مفر من مواجهتها، خاصة بعد حرب الفتاوى التي اندلعت مؤخرًا بسبب أو بغير سبب يراه الناس(1).

لقد كان مفهومًا من ردود الفعل الأولى لقيام البنوك الإسلامية منذ أكثر من ربع قرن – سواء من قبل البنوك التقليدية في العالم الإسلامي أو من البنوك العالمية – والتي تمثلت بداية بالمعارضة والمقاومة ثم بالتعاون بين البنوك العالمية والبنوك الإسلامية ثم بفتح فروع أو نوافذ إسلامية تابعة للبنوك العالمية أو للبنوك التقليدية في العالم الإسلامي، كان مفهومًا أن الأمور استقرت عند هذا الوضع، وضع التعايش بين الفريقين. ثم بدأت مؤخرًا حملة إعلامية استخدمت فيها الفتاوى الشرعية، بما يطرح التساؤل:

1. هل البنوك التقليدية متضررة فعلاً من وجود البنوك الإسلامية إلى الحد الذي يدعو إلى إطلاق هذه الحملة؟

2. أم أنها محاولة لتعليق أزمة البنوك التقليدية على مشجب البنوك الإسلامية لشغل الرأي العام عن الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة: من سوء إدارة، وفساد، وضعف الضمانات أو وهميتها؟

3. أم أن الحملة جزء من المخطط الأمريكي الهادف إلى محاربة الإسلام على كافة الأصعدة؟

الله أعلم.

‌ب- وأيًا كان الوضع فإن هناك مظاهر في ممارسات المؤسسات المالية الإسلامية وفي الفكر الفقهي الذي يساندها، تحتاج إلى وقفة لرصدها تمهيدًا لتحليلها ومعالجتها:

تنبع هذه المظاهر من الفكر النصوصي الذي كان -ومازال- مسيطرًا في مواجهة الفكر المقاصدي الذي لم يتح له إلا مساحة ضيقة في التطبيق.

لم تكن هناك مصارف أو بورصات أو غيرها من المعاملات والأنظمة المعاصرة حتى نتوقع نصوصًا في الكتاب والسنة لتنظيم هذه المسائل على وجه التفصيل وبالتالي لا نجد تنظيمًا مفصلاً إلا للواقع الذي كان موجودًا، ولكننا:

* نجد نصوصًا تحوي مبادئ عامة كتحريم الغرر والربا وأكل أموال الناس بالباطل.

* كما نجد قواعد فقهية مثل (كل قرض جر نفعًا فهو ربا)، ومثل (لا ضرر ولا ضرار)،

* وكذلك نجد مقاصد للشريعة إما منصوصًا عليها وإما مستنبطة من الأحكام.

لابد إذن من اجتهاد معاصر لبيان حكم الشارع في هذه المسائل والأنظمة المعاصرة.

‌ج- وهنا تكمن المشكلة:

1. فقد تصور البعض إمكان تفكيك هذه المعاملات لتطبيق الأحكام الشرعية على أجزائها حينما لا نجد حكمًا لها بصورتها المركبة.

2. كما تصور البعض الآخر ضرورة التمسك بالشكليات والإجراءات دون النظر إلى المقاصد والمعاني.

3. وحاول البعض الثالث استخدام الحيل لتفادي الوقوع في المحرمات على نحو ما فعله بعض الأقدمين في بيع العينة وغيرها.

ثانيًا :

وقبل أن نتغلغل أكثر في بحث الموضوع لابد من استيضاح الواقع المعاصر الذي نعيشه:

ويمكن أن نرصد سبعة اتجاهات أخذها تطور الواقع نتيجة تطور وسائل الإنتاج ونظم الحياة والمعاملات ووسائل الاتصال وأثر التكنولوجيا في هذه المجالات وانعكاس ذلك على المعاملات المعاصرة في مجال الأعمال المصرفية، وذلك على النحو التالي:

‌أ- نشأة الشخصيات المعنوية وتطورها وتعددها وتنوعها.

‌ب- اتجاه نشأة وتطور مؤسسات مالية وسيطة.

‌ج- اتجاه نشأة وتطور نظم وآليات جديدة.

‌د- اتجاه تطور النقود من الذهب والفضة إلى النقود الورقية.

‌هـ- اتجاه نشأة وتطور عقود مركبة من عقود قديمة.

‌و- اتجاه نشأة وتطور عقود مفككة من عقود قديمة.

‌ز- اتجاهات إبداعية أخرى.

الاتجاه الأول – نشأة الشخصية المعنوية:

وهي مجرد افتراض قانوني fiction juridiquصلى الله عليه وسلم ولكنها أصبحت واقعًا حقيقيًّا في حياتنا المعاصرة، ولم تعد مجرد ذمة مالية منفصلة كما كانت في حالة المسجد والوقف وبيت المال في تاريخنا الفقهي، وإنما أصبح لها نظامها المؤسسي الذي يحدد كيف تنشأ وكيف تعيش وكيف تنتهي، والذي يحدد الأجهزة التي تتصرف بواسطتها وكيف تختار وحقوق هذه الأجهزة ومسئولياتها، كما يحدد الجزاءات التي يمكن توقيعها على الشخص المعنوي والمختلفة في طبيعتها عن جزاءات الشخص الطبيعي بما يناسب هذه الشخصية المعنوية.

ولم تقف المسألة عند هذا الحد بل تباينت الشخصيات المعنوية ما بين الشركة والجمعية والدولة والأشخاص العامة الأخرى وأصبح لكل نوع من هذه الأشخاص نظام مختلف يناسب الهدف من إنشائها والوظائف التي تقوم بها. فالجمعيات لا تستهدف الربح ويقوم نشاطها على أساس تطوعي، وإن كان ذلك لا يمنع من وجود بعض أشخاص بها يتقاضون أجورًا على أعمالهم، وهي غير خاضعة للضرائب، بينما الشركات تستهدف الربح وتقوم بأعمال تجارية وصناعية وزراعية ومصرفية وتأمينية وغير ذلك وتخضع للضرائب. أما الدولة فلها سلطات تناسب وظائفها ولها أملاك خاصة كأملاك الأفراد، وأملاك عامة لها خصوصيات، فلا يحوز التصرف فيها أو وضع اليد عليها. والدولة لا تدفع ضرائب، وهكذا نجد أننا نتعايش مع أشخاص معنوية كثيرة ومتنوعة، ولكل نوع منها نظامها الذي لا يكاد يتفق مع النظام الذي يخضع له الأفراد أي الأشخاص الطبيعيون إلا في القليل، ومن هنا كان من الضروري حين التفكير في إخضاعها للشريعة استنباط أحكام خاصة بها أو – وهذا هو المتفق مع سياسة الإسلام التشريعية – استمرار الأحكام الخاصة بكل نوع منها إلا ما كان مخالفًا لثوابت الشريعة، فهذا الذي يجري تعديله بما يتناسب مع هذه الثوابت.

الاتجاه الثاني – اتجاه نشأة وتطور مؤسسات مالية وسيطة:

شهد العالم القديم نشاطًا تجاريًّا نتج عنه في عهد ازدهار الحضارة الإسلامية نشاط مالي يمكن أن نشير إلى بعض مظاهره وتطورها:

أ. عقد المضاربة الذي نشأ في الجاهلية وأقره الإسلام وطوره على الصورة التي وصل إليها في الفقه الإسلامي، ويلبي حاجة رجـل الأعمال (التاجر غالبًا والصانع إلى حد ما) إلى تمويل زائد عما يملكه، وحاجة من لديه فائض من مال يريد أن ينميه، وكان شرط نجاح صيغة المضاربة هو معرفة الأخير للأول وثقته في كفاءته وأمانته. ونجد انعكاس هذا الشرط الأخير واضحًا في أحكام المضاربة الفقهية.

وكان طبيعيًّا مع اتساع العمران الاتجاه إلى إنشاء صورة مؤسسية للعمل الذي قام به في الماضي أفراد: فقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالمضاربة في مال خديجة قبل بعثته، وأقر هذه المعاملة بعد البعثة، وكان بعض الصحابة يدفعون بأموالهم إلى من يضارب بها كحكيم بن حزام والعباس بن عبد المطلب، وكان جمع من الصحابة يدفعون أموال اليتيم مضاربة، منهم عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر وعائشة رضي الله عنهم جميعًا(1).

وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ ودائع الناس ولذلك سمي الأمين، كما كان الزبير بن العوام t يتقبل الودائع بشرط الاتفاق مع أصحابها على أنها قروض حتى تكون مضمونة في ذمته ويكون له حق التصرف فيها بدلاً من تركها مختزنة عنده.

ولم تحدث هذه النقلة المؤسسية داخل العالم الإسلامي بل حدثت على يد اليهود في إيطاليا أولاً ثم في هولندا؛ حيث كانت نشأة أول بنك بالصورة الحالية للبنوك والتي تقوم على صيغة القــــرض وليس على صيغـــة القراض (المضاربة). وكان لليهود نشاط سابق في مجال النقود في العالم الإسلامي امتدادًا لنشاطهم القديم المبني على الربا والذي نهوا عنه في التوراة والإنجيل، ولكن هذا النشاط أخذ صورة مناسبة للبيئة الإسلامية حيث كانوا يقدمون للخلفاء العباسيين ما يحتاجونه من أموال مقابل إعطائهم سلطة جباية الزكاة في أطراف الدولة الإسلامية، وكان لهم في ذلك حيل فضحها ماسينيون في بحث له منشور ضمن الكتاب التكريمي له.

ولم يقف تطور المؤسسة المالية الوسيطة عند هذا الحد، بل تطورت خاصة في القرن الأخير في عدة اتجاهات:

1- اتجاه وظيفي تخصصي، فانفصلت البنوك التي تتلقى ودائع جارية تحت الطلب عن المؤسسات التي تتلقى ودائع لمدة طويلة، وهذه بدورها تفرعت إلى بنوك استثمار وإلى شركات استثمار، وتخصصت بنوك الاستثمار ما بين تجارية وعقارية وزراعية وصناعية …  ولكل من هذه الأنواع نظامها وآلياتها وقيودها التي تناسب تخصصها.

2- اتجاه تنويعي من حيث تأسيسه القانوني فوجدت بنوك تتعامل مع الأفراد وهي مملوكة للدولة بالكامل أو بنسبة أكثر من 50% ونشأت بنوك مركزية لا تتعامل مع الأفراد وإنما تخدم الدولة في احتياجاتها المصرفية وتشرف على البنوك الأخرى، وفي بعض الدول استقل بالإشراف على البنوك جهاز منفصل عن البنك المركزي. كما وجدت منذ البداية بنوك أخذت الشكل التعاوني إلى جانب البنوك التي أخذت الشكل التجاري في صورة شركات مساهمة، وأخيرًا وجدت البنوك الدولية والإقليمية لأغراض محددة غير التعامل مع الأفراد …

وإلى جانب هذا كله نشأت البورصات وشركات التأمين وتطورت كذلك وتخصصت على النحو الذي سنعرض له بعد قليل.

المهم أن التطوير الطبيعي الذي كان متوقعًا لصيغة المضاربة الشـرعية والقـائم علـى المشاركة لم يتم حتى جاءت مؤخرًا البنوك الإسلامية وشركات توظيف الأموال وشركات المضاربة (في باكستان) بعد أن استقر وضع البنوك الربوية (التقليدية) فأصبحت في البلاد الإسلامية استثناءً بدل أن تكون أصلاً.

المهم كذلك تقرير أن المؤسسة المالية الوسيطة أصبحت ضرورة لعدة أسباب من أهمها:

1- أنها تناسب أصحاب المدخرات الذين ليس لديهم وقت أو خبرة في الاستثمار على عكس البنوك التي لديها الخبرة في اختيار نوع الاستثمار ودراسته وإدارته أو متابعة ومراقبة إدارته.

2- أنها تناسب صغار المدخرين الذين لا تكفي مدخراتهم لتمويل أي استثمار، ولكنها بتجميعها تكون مبالغ كبيرة يمكن استثمارها.

ب- البورصات هي التطور الطبيعي للأسواق التي حرص الإسلام على إيجادها وتنظيمها، والأحكام الخاصة بتلقي الركبان وألا يبيع حاضر لباد، وألا يبيع أحد على بيع أخيه، ومجلس العقد، ومنصب المحتسب، وغيرها كثير- تصب في هذا الاتجاه وتؤكد مدى حرص الإسلام على توفير الظروف الملائمة لنجاح الأسواق في تلاقي العرض بالطلب دون جهالة أو غش أو غرر أو خلابة أو ميسر … الخ.

والبورصات الحالية اتجهت إلى التخصص، فمنها بورصات للمعادن الثمينة وبورصات للمحاصيل الزراعية وبورصات للأسهم والسندات وبورصات للعملات وبيوتات لخصم الأوراق التجارية وغير ذلك.

وتتعامل هذه البورصات تعاملات عاجلة وأخرى آجلة.

ويدخل في معاملات هذه البورصات من هم بحاجة حقيقية إلى خدماتها كما يدخل فيها مضاربون لا يقصدون حقيقة إلى ما يشترونه أو يبيعونه وإنما يدخلونها للمضاربةspصلى الله عليه وسلمculation  على فروق الأسعار، وتذكر الدراسات أنه في سنة 1975 كانت نسبة عمليات المضاربة في بورصات النقد الأجنبي تشكل 20% من حجم ما يتم من عمليات، ولكنها وصلت الآن إلى نسبة 97,5% ،أي أن العمليات الحقيقية التي تتم لا يتجاوز حجمها 2,5% من حجم عمليات هذه البورصات(1) مما يترتب عليه كوارث مالية تطالعنا أنباؤها من حين لآخر، وتطال منا بعض الأشخاص والمؤسسات المصرفية والمالية التي تتورط في هذه العمليات ومنها للأسف بعض المؤسسات الإسلامية التي تزيد فوائضها المالية عن إمكانات استثمارها فتدفع بها إلى الأسواق العالمية. ولا يقف ضرر هذه الكوارث على المتعاملين وإنما يتعداهم للإضرار بالاقتصاد الحقيقي ذاته كما هو مشاهد في الأزمات الكبرى مما لا يتسع المجال لتفصيل الحديث عنه.

المهم أن تعاملات هذه البورصات بعضها حلال شرعًا وبعضها محرم، وقد أصبحت واقعًا لا مجال لتجاهله ولا مناص من تحديد الموقف منه.

جـ- كان التكافل الاجتماعي قائمًا منذ زمن سحيق على أساس قبلي، إذ كانت القبيلة هي وحدة المجتمع البشري الأولى. ثم جاء الإسلام فوضع نظامًا للتكافل الاجتماعي متمثلاً في الزكاة ونفقات الأقارب ومسئولية العاقلة وجميعها أحكام ملزمة ترعاها الدولة، فضلاً عن أحكام أخرى اختيارية كالصدقات والوصايا والأوقاف. وقد عاش العالم الإسلامي قرونًا تحت مظلة هذا النظام في وقت كانت تتعاظم فيه في الغرب النزعة الفردية المتمثلة في الرأسمالية الجشعة وانحصار دور المجتمع والدولة في أضيق نطاق، فكان طبيعيًّا أن يتجه التفكير إلى إقامة نظام تعاوني للتأمين لمواجهة مواقف تخلى المجتمع والدولة عن مواجهتها، وانتهز الفكر الرأسمالي الفرصة فأقام نظامًا تجاريًّا لبيع الأمن للناس الذين تخلى المجتمع والدولة عنهم، فكانت شركات التأمين التجاري.

وكان طبيعيًّا أن ينتقل النظامان التعاوني والتجاري للتأمين إلى العالم الإسلامي ضمن ما انتقل إليه من بضائع ونظم غربية، ولكن اللافت للنظر أن النظام التعاوني لم ينتقل بل أوصدت أمامه الأبواب ليس في مجال التأمين فحسب بل في مجالي البنوك والاستثمار كذلك بالنص صراحة على أن هذه الأنشطة الثلاثة لا يسمح القيام بها إلا لشركات مساهمة، أي تجارية رأسمالية. وانشغل الفكر الإسلامي بتحديد موقفه من نظام التأمين، وبدلاً من تطوير نظام التكافل الإسلامي الأصيل انحصر الجدل في النظام البديل بصورتيه التعاونية والتجارية، أيهما الحلال وأيهما الحرام، فكان من رأي البعض حل الاثنين، بينما رأى البعض الآخر حل التعاوني وحرمة التجاري. واعتمد القائلون بحرمة التجاري على ما يشوبه من غرر، كما جذبهم إلى القول بحل التعاوني صفة (التعاون) في اسمها وقامت بالفعل بعض شركات التأمين (الإسلامية)، التعاونية اسمًا، التجارية فعلاً، لغياب الإطار القانوني للشركات التعاونية في مجالات التأمين والبنوك والاستثمار كما أشرنا سابقًا، فأخذت صورة الشركات المساهمة أي التجارية الرأسمالية.

أما الغرر الذي كان سببًا في القول بحرمة التأمين التجاري فهو موجود كذلك في التأمين التعاوني؛ لأن العملية التأمينية واحدة وآلياتها واحدة وحساباتها الاكتوارية واحدة، وهي عملية تبادلية وليست تطوعية كما يصورها البعض، وهي متمثلة في العلاقة بين المؤمن لصالحه والشركة وهي واحدة في الحالتين، أما العلاقة بين أعضاء الشركة التعاونية فمسألة أخرى مؤسسية منفصلة عن العلاقة التأمينية.

وأما صفة (التعاون) التي أسيء فهمها فهي بدورها لا تعني معاونة القادر للمحتاج، فالشركة التعاونية لا تخدم إلا أعضاءها ولو كانوا غير محتاجين ولا تخدم غيرهم ولو كانوا محتاجين … إنه مجرد اسم ليس له من الحقيقة إلا القدر اليسير، المنتفي عملاً في النماذج التي قامت بالفعل باسم التعاون الإسلامي.

الاتجاه الثالث – اتجاه نشأة وتطور نظم وآليات جديدة:

لم يقف التطور عند نشأة مؤسسات مالية وسيطة، بل نشأ وتطور من خلال هذه المؤسسات ونتيجة تطور أنشطتها عدد من النظم والآليات التي تحقق نجاح هذه المؤسسات في أداء وظائفها. فمن هذه النظم والآليات:

أ- تدخل الدولة في الجهاز المصرفي بما يكفل سلامة أدائه، وتختلف صور هذا التدخل ما بين تدخل مباشر في حالة ملكية الدولة للمؤسسة المصرفية أو غير مباشر بواسطة أجهزة الإشراف الحكومية، ومالها من حق توجيه البنوك، وذلك للتأكد من حسن سير العمل المصرفي، مما يجعل ضمان الدولة الفعلي للودائع مدعاة لاستقرار الأوضاع المالية، بالإضافة إلى اعتبار بنك الدولة ملجأ أخيرًا land of last rصلى الله عليه وسلمsort للبنوك في حالة تعثرها.

ب- ومن صور تدخل الدولة استخدامها الجهاز المصرفي والنقود كأدوات لتنفيذ سياستها المالية في حالتي التضخم والركود الاقتصاديين، وذلك بسحب السيولة النقدية من السوق أو ضخ المزيد من النقود، وباستخدام سعر الفائدة رفعًا وخفضًا لتحقيق هذا الغرض وغير ذلك.

جـ- نتيجة تجميع البنك للمدخرات الصغيرة، وعدم توافق آجال هذه الودائع مع الفرص الاستثمارية المتاحة للبنك وبالتالي عدم إمكان تخصيص كل وديعة باستثمار محدد، فقد لجأت البنوك الإسلامية إلى خلط الودائع في سلة عامة تخرج منها المبالغ اللازمة لتمويل الاستثمارات المختلفة، وتقسيم عوائد هذه الاستثمارات على كافة المودعين وفقًا لحجم كل وديعة والمدة التي بقيت خلالها في سلة البنك، وذلك دون التقيد بتوافق مدة وديعة معينة مع مدة استثمار معين، مما يعني إمكان مشاركة الوديعة في نشاط استثماري بعد بدئه وإمكان الخروج منه قبل نهايته، وهو ما يخالف قواعد التنضيد في المضاربة الشرعية وقواعد القانون القاضية بالتصفية عند دخول شريك أو خروجه.

ومن فوائد هذا التجميع للمدخرات المستثمرة في سلة واحدة أن نتيجة الاستثمار تكون هي متوسط عوائد كل المشروعات التي استخدمت فيها أموال السلة بما في ذلك الاستثمارات الخاسرة والاستثمارات ذات العائد المنخفض وذات العائد المرتفع، ويكون هذا المتوسط عادة ربحًا معقولاً بالنظر إلى حسن اختيار البنك للمشروعات وإدارته لها أو رقابته على إدارتها لما له من خبرة في هذا الصدد من ناحية ولوجود أجهزة متخصصة لديه من ناحية أخرى.

د- ومن الآليات التي دخلت على النظم التجارية حلول القيود الحسابية مكان التسليم الفعلي للنقود في معاملات الصرف والحوالة وغيرها مما يتعارض مع أحكام الصرف الشرعية القاضية بالتسليم الفعلي الفوري (هاء وهاء).

الاتجاه الرابع – اتجاه تطور النقود من الذهب والفضة إلى النقود الورقية والائتمانية:

هذا الموضوع هو من أهم الأحداث التي طرأت على الساحة المالية، ومن أهم أسباب الاضطراب القائم فيها:

أ- كانت النقود من الذهب والفضة ذات قيمة ذاتية، ولذلك كانت تؤدي وظائف النقود المعروفة كمقياس للقيمة، وكوسيلة للتبادل، وكمخزن للقيمة. وعلى هذا الأساس كانت الأحكام الفقهية للنقود تحقق مقاصد الشريعة من عدالة ومنع أكل أموال الناس بالباطل ومنع الغرر والغبن والجهالة والربا …

ولأن لها قيمـة ذاتية لم تكن الدولة – في أول الأمر – هي التي تصدر النقود أو تصكها، وإنما كان للأفراد أن يفعلوا ذلك، وتكتفي الحكومة بمراقبة العملية والتفتيش عليها كما تصنع مع المكاييل والموازين للتأكد من دقة العيار والوزن حتى يستقيم تعامل الناس بها، ثم كان تدخل الدولة بصك النقود وإصدارها تحقيقًا لحماية الناس كذلك.

ثم جاء إصدار النقود الورقية المغطاة بالكامل بقيمتها ذهبًا مزيدًا من حماية الناس وتسهيل تداول النقود دون حمل الذهب معهم، ولهم في أي وقت أن يطلبوا من الجهة الحكومية المختصة المقابل الذهبي لنقودهم الورقية، وكان مثل هذا الطلب يلقي الاستجابة الفورية، كما كان بإمكان الناس أن يتطلبوا من المتعاملين معهم الوفاء بالتزاماتهم بالذهب دون أن يرغمهم أحد على قبول النقود الورقية.

– ثم أعطيت للنقود الورقية القوة الإلزامية فصار الناس مرغمين على قبولها في التداول ومهّد هذا للتلاعب في غطائها الذهبي، فبدأ إصدار نقود ورقية لا يغطيها الذهب مائة بالمائة وأضيف إلى الذهب عملات من البلاد الأخرى وسندات مديونية من الحكومات، وكانت عملات البلاد الأخرى خاصة الدولار الأمريكي محلاًّ للثقة لأنها مغطاة بالذهب مائة بالمائة.

– ثم جاءت الطامة الكبرى حين قررت الولايات المتحدة سنة 1971م عدم الالتزام بتغطية عملتها بالذهب مائة بالمائة، فانفصلت بذلك العملات الورقية عن غطاء الذهب، وفقدت قيمتها الذاتية، واختل أداؤها لوظائف النقود المعروفة.

ب- ونتج عن فقدان النقود الورقية غطاءها الذهبي الانفصال بين مفهوم النقود الشرعي ومفهومها الاقتصادي الدارج، وأصبح ضروريًّا من الناحية الشرعية البحث عن تكييف شرعي لهذا الوضع الجديد: هل تقاس النقود الورقية على النقود الذهبية وتأخذ حكمها؟، وإذا لم يمكن قياسها عليها فماذا يكون حكمها من حيث الربا والزكاة وغير ذلك؟ لقد أثار البحث عن علة تحريم الربا في الذهب والفضة خلافات في الفقه المذهبي(1) نعرض لها بإيجاز شديد:

(1) يرى عثمان البتي، وطاووس، وقتادة، ومسروق، والشعبي، وداوود الظاهري، ونفاة القياس قصر حكم الربا على الأصناف الستة، وما عدا هذه الأصناف باق على أصل الإباحة .

(2) علة تحريم الربا في الذهب والفضة عند الحنفية هو الوزن، فلا تقاس عليهما النقود الورقية لأنها لا توزن .

(3) علة تحريم الربا في الذهب والفضة عند المالكية والشافعية هي الثمنية، ولكنها عندهم قاصرة على الذهب والفضة فلا تتعداهما إلى النقود الورقية أو غيرها وإن كانت تتحقق فيها الثمنية، أي أنهم ينفون القياس عليهما وإن كانوا ليسوا من نفاة القياس من حيث المبدأ.

(4) للحنابلة في علة ربا الفضل في الذهب والفضة ثلاث روايات : إحداها قريبة من علة الحنفية، والثانية وتالثالثة قريبة من علة الشافعية أي الثمنية غير أنهم لم يجعلوا العلة مقصورة على الذهب والفضة كالشافعية.

أما علة ربا النَسَاء عند الحنابلة فلهم فيها خمس روايات: اثنتان شبيهتان بقول الحنفية، وثالثة شبيهة بقول الشافعية، ورابعة شبيهة بقول المالكية، أما الخامسة فتحريم النَسَاء في كل مال بيع بجنسه أو بغير جنسه إذا لم يكن مكيلاً أو موزونًا.

أي أن قياس النقود الورقية على الذهب والفضة جائز في حرمة ربا الفضل في قولين من ثلاثة عند الحنابلة، وجائز في حرمة النَسَاء في قول من خمسة عند الحنابلة.

أما على الأقوال الأخرى عند الحنابلة، وعلى المذاهب الثلاثة الأخرى، فلا يجوز قياس النقود الورقية على الذهب والفضة لا في حرمة ربا الفضل ولا في حرمة ربا النساء.

(5) ثبوت صفة النقدية للنقود الورقية باصطلاح الناس على أساس أن الشرع اعتبر العرف دليلاً من أدلة الشرع، وبالتالي تأخذ النقود الورقية حكم الذهب والفضة، وهو ما بنى عليه الفقهاء المعاصرون رأيهم، يخالف الآراء الصريحة للفقهاء الأقدمين لكافة المذاهب عدا بعض أقوال الحنابلة التي أشرنا إليها.

جـ- وصل الأمر إلى اعتبار أن النقود التي كانت مقياسًا لقيمة الأشياء أصبحت هي ذاتها تقاس قيمتها بالأشياء، وهو ما يعرف بالتقييس indexation المنتشر في البلاد الغربية حيث تنظمه القوانين، إذ تحدد أنواع الأشياء ومقاديرها التي تدخل في حساب سلة التقييس الذي يتم مراجعته شهريًّا وتنشر نتيجته في الصحف (بنسبة القيمة الحالية للسلة بعملة البلد إلى قيمتها في التاريخ الذي بدأ به تطبيـق النظـام والذي يعتبر 100%)، وهكذا يظهر التقييس أن قيمة السلة أصبحت 120% أو 200% أو أكثر طبقًا لزيادة أسعار الأشياء المكونة للسلة، وهذه النسبة تكون هي مقياس التضخم أي انخفاض القوة الشرائية للنقود.

ويرتبط بهذا النظام ضرورة تعويض الموظفين والعمال في القطاعين الحكومي والخاص عند انخفاض القوة الشرائية للرواتب والأجور التي يتقاضونها بنفس نسبة التضخم التي تظهرها تقارير التقييس حتى لا يكونوا ضحايا لزيادة الأسعار.

كما يرتبط بهذا النظام احتساب فوائد البنوك والديون الحقيقية بحيث تخصم نسبة التضخم من نسبة الفائدة الظاهرية، ويكون الفرق بين النسبتين هو (الفائدة الحقيقية) كما يعبر عنها اقتصاديًّا.

(10% فائدة ظاهرية – 6% تضخم= 4% فائدة حقيقية، أو10% فائدة ظاهرية – 15% تضخم = -5% فائدة حقيقية أي عجز الفائدة الظاهرية عن تغطية التضخم) .

د- ينتج التضخم عادة عن الاختلال بين كمية النقود المطروحة في السوق وكمية السلع المطروحة وحجم حاجة السوق من هذه السلع.

وتتم زيادة كمية النقود بعدة طرق منها:

– زيادة المطبوع من أوراق النقد دون غطاء

– عملية خلق النقود التي تقوم بها البنوك عند منح عملائها ائتمانات تفوق كمية الودائع الفعلية لديها .

– استخدام بطاقات الائتمان البلاستيكية ووسائل الدفع الأخرى غير النقود .

– هذا التضخم الناتج عن زيادة حجم النقود هو أحد أبشع صور أكل أموال الناس بالباطل وبخس الناس أشياءهم الذي ورد الشرع بالنهي عنهما، والآكل والباخس هنا هو الدولة، والضحايا هم الناس الذين تقل القوة الشرائية للنقود التي في أيديهم والتي يفرض القانون عليهم الثقة فيها لإصدارها من قبل الدولة !!!

هـ- هذا التطور في النقود الذي أثر على وظائفها كان لابد أن ينعكس على الأحكام الشرعية المتعلقة بها بسبب الأثر الناتج عن اضطراب وظائفها والذي أدي بالتالي إلى الاضطراب في الحياة الاقتصادية.

الاتجاه الخامس – اتجاه تركيبي: يتمثل على سبيل المثال في نظام الاعتمادات المستندية والحوالات المصرفية الخارجية:

أ- فنظام الاعتمادات المستندية وضع لتحقيق اطمئنان كل من المشتري والبائع إلى قيام الطرف الآخر بالتزاماته: فالمشتري لا يريد أن يحول الثمن إلى البائع قبل أن يطمئن إلى قيام البائع بشحن البضاعة المباعة له، وكذلك البائع لا يريد أن يشحن البضاعة قبل أن يطمئن إلى قيام المشتري بدفع الثمن. فتفاديا لمخاطر إخلال أي منهما بالتزامه وضع نظام الاعتمادات المستندية واعتمدته غرفة التجارة الدولية بباريس، وأصبحت البنوك هي الوسيط الذي يحقق اطمئنان الطرفين، وبالتالي يسهل التجارة الدولية والداخلية أيضًا. وهذا النظام وحدة مترابطة من عدة علاقات لو أردنا تفكيكها لوجدناها تشتمل على عدة عقود منها البيع والوكالة والصرف وحوالة النقود وغيرها. وتركيبها وترابطها كوحدة يجعل منها معاملة مستحدثة قائمة بذاتها، والدخول فيها يجعل أطرافها ملتزمين بأحكامها الواردة في النظام الموضوع لها من قبل غرفة التجارة الدولية، وليس بأحكام كل من عقود البيع والوكالة والحوالة الواردة في قوانين البلاد ذات الصلة.

ب- الحوالات المصرفية معاملة مستحدثة أيضًا – وإن كانت لها صور قديمة كرقاع الصيارفة في تاريخ الفقه الإسلامي، والتي لم يرد إلينا الكافي من القواعد التي كانت تحكمها – وهي أيضًا تشتمل على عقود الصرف والحوالة والوكالة، ولها كوحدة مترابطة أحكام تنظمها بما يحقق وصول النقود من طرف إلى طرف آخر موجود في مدينة أخرى أو دولة أخرى، وفي صورة عملة مختلفة غالبًا عن العملة التي تم بها الدفع. ولأن البنك الذي يقوم بهذه العملية ينفذها بواسطة فرعه أو بنك آخر مراسل له، فإنها تتطلب مدة زمنية قد تصل إلى ثلاثة أيام (72 ساعة) في الأحوال العادية، وقد يمكن باستخدام وسائل الاتصال الأحدث أن تتم في بضع ساعات فقط. وفي كل الحالات لا نكون بإزاء عقد واحد من نوع واحد، كما لا يتيسر لنا تطبيق أحكام الفقه التقليدية الخاصة بعقد الصرف وشرط التقابض في المجلس.

الاتجاه السادس – وكما وجد الاتجاه التركيبي في الحالتين السابقتين لتحقيق مصالح المتعاملين، وجد اتجاه تفكيكي أو تفريغي يحقق كذلك مصالح أخرى للمتعاملين. ونعرض كأمثلة لهذا الاتجاه:

أ- خطاب الضمان: عبارة عن كفالة تتطلبها جهة حكومية أو خاصة من المقاولين الذين يقومون بأعمال لحسابها ضمانًا لجديتهم في العمل ولتغطية ما قد يسببونه من أضرار لها، وكان من الممكن أن يحل محل خطاب الضمان إيداع مبلغ نقدي من قبل المقاول لدى الجهة صاحبة العمل، ولكن المقاول لا يملك عادة هذا المبلغ (10% من قيمة المقاولة التي قد تبلغ عدة ملايين) وإذا ملكه فإنه يفضل عدم تعطيله مدة تنفيذ المقاولة (التي قد تمتد شهورًا أو سنوات) فوجد هذا النظام حيث يقوم البنك بضمانه بإعطائه هذا الخطاب، والبنك إذ يقوم بذلك يتخذ مع عميله المضمون الإجراءات الكفيلة بتغطية المخاطر الناتجة عن تعرضه لالتزام دفع قيمة الخطاب إلى الجهة صاحبة العمل والرجوع بالتالي على عميله المقاول. وقد يكون من هذه الإجراءات توقيع رهن عقاري لصالح البنك أو تطلب كفالة المقاول بواسطة عملاء مليئين للبنك أو غير ذلك. والبنك لا يقوم بإصدار خطاب الضمان وما يترتب عليه من التزامات تطوعًا إذ هو ليس جهة خيرية وإنما هو مؤسسة تجارية تبغي الربح؛ ولذلك تتقاضى من عميلها المقاول رسومًا أو عمولة كأجر لها على هذه الخدمة وتنسبها إلى مبلغ الضمان إذ يختلف التزامها جسامة وفقًا لحجم هذا المبلغ. نحن إذن أمام عقد كفالة بأجر ضرورية لتسهيل عقد أصلي هو عقد المقاولة، ولا مجال هنا للقول بأن الكفالة من عقود التبرع؛ لأن الفقهاء القدامى قالوا بهذا التصنيف من منطلق الصنعة الفقهية وليس اتباعًا لنص من الكتاب أو السنة، ولو كانوا بيننا الآن لقالوا أن الكفالة نوعان: نوع تطوعي هو تبرع ونوع بمقابل هو من عقود المعاوضات.

ب- المراجحة arbitrage إجراء يقوم به المقاول (عادة) ليتفادى أحد الخطرين اللذين يهددانه، فهو عند التقدم للمناقصة يقوم باحتساب تكلفة المواد التي سيحتاج إليها لتنفيذ المقاولة ويضيف إليها تكاليف العمالة وهامشًا من الربح. الخطر الذي يهدده عند تنفيذ المقاولة مزدوج إذ قد يرتفع ثمن المواد الخام اللازمة له سواء اشتراها من داخل البلاد أو استوردها من الخارج، وفي حالة استيرادها من الخارج قد ترتفع قيمة العملة التي سيشتري بها هذه المواد. وحيث إن ارتفاع ثمن المواد أو قيمة العملة يحيقان به خسارة فادحة؛ لأن السعر الذي تعاقد عليه مع صاحب العمل ليس فيه إلا هامش ضئيل للربح، فإنه يجد من مصلحته تثبيت سعر المواد وسعر العملة لأنه ليس بإمكانه شراء المواد فور التعاقد وتخزينها لحين موعد استعمالها الذي قد يمتد لعدة سنوات. وهو يقوم بتثبيت سعر المواد بالاتفاق مع البائع، وتبقى مخاطرة سعر العملة فيقوم بتثبيتها مع البنك الذي يلتزم بأن يبيعها له بالسعر المتفق عليه حتى لو ارتفع السعر بعد ذلك عند حاجته إلى العملة. ويقوم البنك بتغطية موقفه هو بشراء هذه العملة حالاً وإيداعها لحين الحاجة إليها بحيث لا يتعرض هو لمخاطر ارتفاع سعر العملة وإنما تقتصر مخاطرته على الفرق بين فائدة وديعة العملة الأجنبية وفائدة مقابلها بالعملة الوطنية، ويحمّل عميله بهذا الفرق بالإضافة إلى هامش ربح بسيط.

فالعملية تتضمن وعدًا ملزمًا بالصرف، وصرفًا فعليًّا، وعمولة البنك تتضمن الفرق بين سعرين للفائدة. وهي في مجموعها متفرعة عن عقد مقاولة بين عميل البنك والجهة صاحبة العمل، وضرورية لتحقيق العقد المقصود منه، وبدونها يصبح العقد نوعًا من القمار، فإما أن تظل الأسعار ثابتة فيحقق العقد مقصده وإما أن تتغير إلى الانخفاض فيكسب المقاول أرباحًا غير متوقعة، أو إلى الزيادة وهو الغالب فيخسر المقاول خسارة عظيمة تؤدي إلى إفلاسه أو يتوقف عن تنفيذ العقد ويدخل مع صاحب العمل في قضية يحاول بها تعديل سعر العقد استنادًا إلى ما طرأ على الأسعار من ارتفاع ويتعطل العمل في انتظار البت في القضية، وما قد يترتب على ذلك من أضرار للطرفين.

جـ- خصم الكمبيالات صورة من صور التفكيك؛ حيث تفصل عملية التمويل عن العقد الأصلي في حالات الثمن الآجل الذي تحرر به كمبيالة قابلة للتداول ويقوم البائع الذي لا يستطيع انتظار موعد استحقاقها بخصمها لدى مؤسسات متخصصة هي بيوت الخصم؛ حيث تدفع له قيمة الكمبيالة مخصومًا منها مبلغ يتحدد وفقًا لسعر الخصم/الفائدة وللمدة المتبقية حتى تاريخ استحقاق الكمبيالة، ويمكن إعادة الخصم مرة أخرى أو مرات ويجري في كل مرة خصم مبلغ بنفس الطريقة، ويوقّع كل من المستفيد الأول من الكمبيالة ومن قاموا بتداولها على ظهرها – ومن هنا تسمية العملية بتظهير الكمبيالة – ويصبح جميع من ظهّروا الكمبيالة مسئولين بالتضامن في حالة عدم الوفاء بقيمتها في تاريخ استحقاقها، فهي إذن وسيلة للمشاركة في تمويل العملية على سبيل التتالي. ويتيح تنظيم عملية الخصم فرصة للاستثمار القصير لمن لديه سيولة يريد استثمارها، كما يتيح له فرصة تسييل الكمبيالة قبل موعد استحقاقها عند حاجته للسيولة النقدية. وتمنع القوانين استخدام هذا الأسلوب بشكل صوري للحصول على قرض في صورة ما يسمى بكمبيالة المجاملة التي ليست نتيجة عملية بيع جدية.

د- الفاكتورنج نظام بدأ استعماله في الستينات من القرن الماضي يشترك مع نظام الخصم الذي تقوم به بيوت الخصم ويضاف إليه خدمات أخرى تقدمها شركة الفاكتورنج تشمل الاستعلام عن حالة طرف لصالح الطرف الآخر، والاستعلام عن سوق البلد الآخر، وكفالة المدين لصالح الدائن، ومتابعة المدين المتأخر عن السداد في موعد الاستحقاق. وتستعين شركة الفاكتورنج في أداء هذه الخدمات بشبكة من شركات الفاكتورنج القائمة في بلاد مختلفة والتي يضمها اتحاد ينظم علاقاتها.

سابعًا – اتجاهات إبداعية أخرى:

يمكن أن نرصد إلى جانب المستجدات السابقة مستجدات أخرى أبدعها الفكر الإنساني لتحقيق مصالح معينة أعان التطور التكنولوجي والنظمي على إنجازها، فمن ذلك:

أ- بطاقات الائتمان التي كثر تداولها بحيث أصبحت أداة وفاء هامة. وتتمثل آلية هذه البطاقات في قيام الشركات التي تصدرها بترتيب اتفاقات مع البنوك ومع المحلات التجارية ثم مع مستعملي البطاقات بحيث يستغني المستعمل عن اصطحاب النقود معه، فما عليه إذا أراد شراء سلعة أو الحصول على خدمة إلا أن يقدم البطاقة ويوقع على ورقة مذكور بها المبلغ المستحق عليه ويكون بذلك قد قام بالوفاء بما عليه، وترسل المحلات هذه الورقة إلى شركة البطاقات التي تقوم بدورها بإرسالها إلى البنك الذي يحتفظ حامل البطاقة بحسابه لديه والذي يقوم بدوره بخصم القيمة من حسابه بعد مضي 30 يومًا من تاريخ المعاملة وذلك دون احتساب فوائد عليه إذا كان حسابه لا يفي بالمبلغ، فإذا لم يقم العميل بتغطية حسابه خلال الثلاثين يوما فيبدأ بعدها احتساب الفائدة عليه. الذي يتحمل تكاليف هذه الخدمة هو المحل الذي يقبل البطاقة ويتمثل في خصم نسبة يتفق عليها- في ترتيباته مع شركة البطاقات – من قيمة المعاملة، وتتراوح هذه النسبة بين 3%، 7%، ويقبل المحل بخصم هذه النسبة مقابل تشجيع العملاء على الشراء، وإراحته من عبء تحصيل الشيكات إذا تم الوفاء بها. فإذا كانت قيمة السلعة 100 والنسبة الخاصة بالبطاقة 3% فإن العميل المشتري يخصم من حسابه 100 ويسجل لحساب المحل 97 وتوزع الثلاثة الباقية بين شركة البطاقات والبنك (في حالة عدم كفاية حساب العميل خلال الثلاثين يومًا) وتغطي شركة البطاقات مصاريفها ويكون الباقي ربحًا لها. وفي حالة تأخر العميل عن تغطية حسابه بالبنك بعد الثلاثين يوما فإن الفوائد المترتبة على ذلك يتم الحساب عليها بين العميل والبنك مباشرة. تشتمل هذه الآلية على ترتيب علاقات بين أطرافها الأربعة: الشركة والبنك والمحل والعميل، وتشمل خليطًا من عقود القرض والوكالة والبيع والحوالة والإجارة. وهي تخلو من الفوائد تمامًا في حالة كفاية حساب العميل بالبنك لتغطية قيمة مشترواته، كما تخلو من تحميل العميل الفوائد خلال فترة الثلاثين يومًا.

ويعتمد البيع الإلكتروني بواسطة الإنترنت على بطاقات الائتمان في سداد القيمة.

ب- بطاقات تزويد السيارات بالوقود.

جـ- بطاقات سداد المكالمات الهاتفية:

ونكتفي بما شرحناه في بطاقات الائتمان عن شرح هذين النوعين حيث يندمج فيهما غالبًا أحد الأطراف حين تقوم شركة الوقود أو هيئة الهاتف بإصدار البطاقات. وتخلو هذه المعاملات من عنصر الفائدة.

د- بطاقات سحب النقود من الصراف الآلي.

هـ- أجهزة صرف النقود آليًّا (أي تحويلها من عملة إلى أخرى).

و- أجهزة تبديل النقود من القطع الكبيرة إلى القطع الصغيرة من نفس العملة (الفكة) .

في هذه العمليات نكون أمام طرفين فقط، أحدهما العميل، والآخر هو البنك أو الشركة صاحبة الجهاز. وتخلو هذه العمليات كذلك من عنصر الفائدة.

ثالثًا :

كانت هذه محاولة مبسطة موجزة لبيان الخطوط العريضة للواقع المعاصر وكيف تطور من صور قديمة تمثل الواقع الذي كان قائمًا في عصور نشأة المذاهب الفقهية وازدهارها، والذي وضعت لتنظيمه الأحكام الفقهية المعروفة. فماذا كان رد فعل العلماء الشرعيين المعاصرين، هذا ما سنحاول بيانه بإيجاز كذلك:

‌أ- يمكننا أن نتبين ثلاثة مواقف: موقف المبيحين للمعاملات المعاصرة، وموقف المانعين لها، وموقف المتوسطين.

يشمل موقف المبيحين ثلاثة فرقاء:

1. انطلق فريق من العلماء  – في مقدمتهم العلامة ابن عابدين – من النظر إلى هذه المعاملات على أنها ضرورة، والضرورة تبيح المحظور وتقدر بقدرها، ولكن الضرورة لها تعريفها الشرعي الذي يضيّق من استخدامها بصورة موسعة، وبالتالي تكون نتيجة هذا الموقف هو عزلة المسلمين عن الحياة الاقتصادية، فضلاً عن أن هذا الرأي غير عملي كذلك لأن من يتوافر فيه شرط الاضطرار يكون عادة من الفقراء الذين لا تتعامل معهم البنوك أصلاً لعدم تمكنهم من تقديم الضمانات التي تتطلبها النظم المصرفية.

2. ونظر فريق آخر من العلماء إلى هذه المعاملات على أنها من النوازل التي لا تلبث أن تزول أو تنقشع وتعود الأمور إلى أحوالها العاديـة ، ( والنازلة -كما عرفها أبو البقاء في الكليات- هي الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس).

وكتب النوازل التي بين أيدينا لا ينطبق عليها هذا التعريف وإنما هي مجموعة من الفتاوى في أمور عادية ليست من شدائد الدهر.

والنظر إلى هذه المعاملات على أنها من النوازل لا يحل بذاته المشكلة وإنما يتعامل معها على أساس الضرورة وهو ما أسلفنا الحديث عنه.

ثم إن هذا التوجه يستبطن افتراض أن الأحوال العادية قبل النوازل وبعدها هي الأحوال التي كانت سائدة في قرون ماضية؛ وبالتالي تصلح لتنظيمها الأحكام التي كانت سائدة وقتذاك. والواقع خلاف هذا التصور، فعجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، وما أنجزته البشرية من تقدم تقني ونظمي -يحقق مصالح الناس- لا يمكن الاستغناء عنه وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله – وعلينا أن ننظم حياتنا على أساس أن هذه المستجدات وجدت لتبقى طالما فيها نفع للناس.

3. ونظر فريق ثالث إلى هذه المعاملات على أنها مستجدات ليس لها حكم في الشريعة، وعلينا بالتالي تقبلها بما تحمل من مشاكل وقيم دون وزنها بميزان من خارجها، وموقف القبول الأعمى هذا سطحي هروبي، ولكنه مع الأسف يناسب حالة الاسترخاء التي تعيشها عقول معظم (العلماء) المعاصرين.

‌ب- أما فريق المانعين فيقابل موقف القبول الأعمى بالتشدد الأعمى الذي يحاول رفض تيار المستجدات جملة، والإفتاء بأنه (حرام) حتى تتاح لنا فرصة بحثه، وهو اعتراف بالعجز وعدم الاستعداد، فضلاً عن أنه تقوقع على الذات وهروب من واقع الحياة.

‌ج- لا خيار أمامنا إلا أن نواجه الموقف، وهذا ما فعله فريق المتوسطين الذين حاولوا التيسير على الناس وإيجاد المبررات والبحث عن مخارج في كتب الأقدمين(1).

وفكرة التخريج على آراء الفقهاء فكرة قديمة لجأ إليها أتباع المذاهب حين أعوزهم الاجتهاد الصحيح فأعملوا فكرة القياس على آراء أئمة المذاهب ثم على آراء كبار فقهائها، والقياس كما هو معلوم إنما يكون على نص الكتاب أو السنة وليس على آراء البشر.

هذا فضلاً عن أنه حل وقتي، فكما تعذر القياس لبعد الواقع عن مجال النصوص الجزئية فكذلك حدث للآراء الفقهية، إذ تعذر التخريج عليها لبعد الواقع عن مجالها.

وكانت النتيجة ما وصلنا إليه من مآزق:

فبيع المرابحة للآمر بالشراء مبني على ثلاثة سطور من كتاب الأم للشافعي.

والوعد بالشراء ملزم على أساس رأي لابن شبرمة.

وخطاب الضمان يعامل على أنه وكالة لأن الكفالة عقد تبرع لا يصلح أساسًا لأخذ عمولة عليه.

والأحكام الخاصة باستصناع الخف تطبق على استصناع الطائرات والسفن.

والنقود الورقية تأخذ حكم الفلوس.

والاستلام الحكمي يأخذ حكم الاستلام الحقيقي.

والتنضيد الحكمي يأخذ حكم التنضيد الحقيقي.

والقائمة لا تنتهي … فكلما ابتدع الغرب نظامًا اكتشفنا له في الفقه قرينًا، وأقنعنا أنفسنا بوجه شبه، ولو بعيد، يربط بين الاثنين.

الطريق مسدود في نهايته، وبيت جحا إذا سد مخرجه، فلن تجد طريقك، مهما تعددت المسالك داخله وظننت أنك في الاتجاه الصحيح.

رابعًا :

والرأي عندي هو في العودة إلى كليات الشريعة، سواء نص عليها صراحة في الكتاب والسنة أو استنبطت من أحكامهما الجزئية، أي إلى مقاصد الشريعة وقواعدها.

هذا البحر الواسع الذي يخشى الكثيرون الاقتراب منه تفاديًا لمخاطره وإيثارًا للسلامة هو المنقذ لنا مما نحن فيه.

والخوض في البحر يحتاج إلى خرائط وأجهزة وبحارة، وهذا ما ينبغي أن نحصل عليه … وإذا لم يكن موجودًا ينبغي أن نوجده … مناهج، وآليات، وأدوات لخوض غمار الاجتهاد، المستنير بنور الشريعة والمنفتح على واقع العصر.

وهذا ما يقتضي مراجعة لمناهج الاجتهاد وإعمالاً لها مما لا يتسع المجال هنا لتفصيل الكلام فيه، ولكن نكتفي بإيضاح بعض الاتجاهات:

‌أ- جواز إنشاء عقود ومعاملات مستحدثة:

هذا الأصل مقرر عند الفقهاء من قديم(1)، فقد نصوا على أن العادات الأصل فيها العفو بخلاف العبادات التي الأصل فيها التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله، أما العادات فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله(2).

ورغم تقرير هذا الأصل إلا أن استخدامه في الماضي كان قليلاً لتشابه المجتمعات عبر القرون، حتى جاء عصرنا الحاضر بالكثير من المستجدات التي تستدعي استخدام هذا الأصل المقرر(3).

‌ب- الاستدلال بالقواعد الفقهية:

درج الأصوليون والفقهاء على القول بأن القواعد لا تستخدم في الاستدلال بها إلا إذا كانت منصوصًا عليها كقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ويكون الاستدلال بها في هذه الحالة لا بصفتها قاعدة وإنما بصفتها نصًّا، وفيما عدا ذلك تنحصر فائدة القواعد في ضبط أحكام الفروع التي تنطبق عليها.

والسبب في هذا التضييق هو أن القاعدة أغلبية بمعنى أنها لا تنطبق على جميع الفروع أي يوجد لها استثناءات، وبالتالي لا يعرف إن كانت الحالة التي يراد الاستدلال عليها بالقاعدة في حكم أغلبية الحالات أم أنها من قبيل الاستثناءات، شأن باقي استثناءات القاعدة.

ونرى أن هذا التبرير ترد عليه الاعتراضات الآتية:

1. أن معظم الأحكام الفقهية مبني على الظن الغالب ولا يشترط فيه القطع، وكون القاعدة مبنية على الأغلبية لا يفيد أكثر من كونها ظنية، وهذا لا يقدح في صلاحيتها للاستدلال بها.

2. أن الاستثناءات التي ترد على القاعدة تكون عادة إما منصوصًا على حكمها بما يخالف حكم القاعدة، وإما خاضعة لقاعدة أخرى اقتضت إعطاءها حكمًا مخالفًا للقاعدة، وفي كلتا الحالتين لا يقدح هذا السبب أو ذاك في صحة القاعدة.

3. إن الحالة المفترضة التي نحتاج إلى الاستدلال بالقاعدة فيها هي حالة فراغ تشريعي ليس فيها نص كتاب أو سنة أو إجماع ولم يمكن قياسها على حالة منصوص عليها، وبالتالي يكون إدراجها تحت حكم القاعدة مع حالات الأغلبية الأخرى موضوع القاعدة أولى من اللجوء بشأنها إلى المصلحة المرسلة، وأقرب إلى الاطمئنان على اتساقها مع النسق الفقهي المقرر بالقاعدة طالما أنه لا يردها أصل مقطوع به مقدم عليها من الكتاب والسنة والإجماع.

‌ج- العلة والحكمة:

مسألة أخرى من مسائل التجديد في أصول الفقه تتمثل في اللجوء عند القياس إلى الحكمة من حكم الأصل لتطبيقه في الفرع إذا لم تحقق العلة الحكمة المقصودة، إذ من العلوم أن العلة هي مجرد وسيلة منضبطة لإجراء عملية القياس وتحقيق مقصد الشارع من حكم الأصل في الفرع، وقد ذهب إلى جواز ذلك بعض الأصوليين ومنهم الرازي في المحصول(1).

وهذه المسألة لم تكن ظاهرة الفائدة في البداية حيث كانت ظروف الحياة قريبة من ظروف عصر الرسالة بحيث يسهل وجود نص تقاس عليه الوقائع الجديدة، ولكن مع تطور الحياة وجدت وقائع بعيدة كل البعد عن الاشتراك في علة حكم الأصل، ومن هنا بدأ التفكير في صورة جديدة من القياس أطلق عليها أصحابها القياس الكلي، القياس المصلحي، القياس المرسل، القياس الواسع، القياس الإجمالي، قياس المصالح المرسلة إلى غير هذه الأسماء التي يجمعها جميعًا محاولة التحرر من الشروط التقليدية للقياس خاصة موضوع العلة وأن يستعاض عنها بالحكمة، ولكن دائمًا مع البقاء في إطار نقل حكم الأصل الجزئي إلى الفرع الجزئي.

‌د- الاستدلال بمقاصد الشريعة:

مسألة أخرى تتعلق بالاستدلال بالمقاصد عن طريق المصالح المرسلة، ولتوضيح الصورة نضرب بعض الأمثلة:

1. أصل حفظ العقل بتحريم شرب الخمر يمكن نقل حكمه بطريق القياس العادي إلى باقي أنواع المسكرات بجامع الإسكار في المقيس عليه وهو الخمر وفي المقيس وهو الأنواع الأخرى.

2. باستخدام القياس الواسع بأسمائه المختلفة التي أشرنا إليها يمكن أن نترك علة الإسكار ونصعد إلى حفظ العقل فننقل حكم التحريم إلى كل ما يؤثر في العقل – وإن لم تسكر – كالمخدرات.

ويمكن أن نتوسع أكثر فننقل حكم التحريم إلى كل ما يضر بالعقل كالخرافات، والشعوذات، وعمليات غسيل المخ، وتقليد الأسلاف دون برهان … الخ.

3. باستخدام النصوص العامة التي تمنع الضرر كحديث (لا ضرر ولا ضرار) يمكن أن نصل إلى حكم التحريم لهذه الصور دون الانطلاق من نص تحريم الخمر، وبالتالي نكون قد تركنا طريق القياس بصورتيه العادية والواسعة.

4. باستخدام آلية المصلحة المرسلة – والابتعاد أيضًا عن آلية القياس بصورتيه، يمكن أن ننطلق من مقاصد شرعية عرفت بأدلة كثيرة لا حصر لها، أو مندرجة تحت أصل غير معين دون معارض لها، كمقصد تكوين العقلية العلمية والاستدلال العقلي وطلب العلم، والتفكير، والنظر … الخ.

وهذه الطريقة – المصلحة المرسلة – ينبغي في تصوري تطويرها بصورة عامة – دون انتظار واقعة جزئية نبحث عن حكمها الشرعي – من خلال مراحل عملية معينة توصلاً إلى عملية تنظير شاملة على النحو التالي:

1- التعرف إلى المقاصد التي تنطبق عليها الشروط التي أشار إليها الغزالي(1) بدرجتيها: ما عرف بأدلة كثيرة لا حصر لها ووقع موقع القطع، وما عرف ولو بأصل غير معين ولم يعارضه معارض مقطوع به.

2- أن تضاف هذه المقاصد وتركب في بناء فكري تجمع فيه الأشباه والنظائر وتقسم إلى مجموعات وفقًا لموضوعاتها حسب تقسيمات الكتابات الفقهية المعاصرة حتى تستبين معالم التصور الشرعي في كل موضوع(2).

3- أن تضاف إلى كل مقصد من هذه المقاصد الوسائل الموصلة إلى تحقيقه، ويستعان في ذلك بأدوات العصر وأساليبه التي لا تتعارض مع أصل شرعي.

4- أن تضاف إلى مقاصد ووسائل كل مجموعة ما يخصها من القواعد الشرعية، وكذلك القواعد الشرعية العامة التي تنطبق عليها، وتعتبر هذه القواعد بنوعيها جزءًا أساسيًّا من هيكل بناء كل مجموعة لأنها تمثل الأحكام الشرعية المتوصل إليها بالأدلة الشرعية الأخرى.

5- أن يتم بناء نظرية متكاملة في كل مجموعة تصلح للتفريع عليها والاستمداد منها بما يحقق التوصل إلى المقاصد وينسجم مع القواعد في نسيج واحد.

هـ- التفرقة بين الحكم الأصلي والحكم الانتقالي:

من القواعد المقررة في مجال مقاصد الشريعة أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرورات تقدر بقدرها، وأن الحاجيات تنزل منزلة الضرورات عامة كانت أو خاصة، وأن ما جاز لعذر بطل بزواله، إلى غير ذلك من القواعد. وقد وضع الفقهاء ضوابط وشروطًا لإعمال هذه القواعد.

وهناك تطبيقات كثيرة في الفقه التقليدي لهذه القواعد، ولكن التطبيقات المعاصرة يشوبها الكثير من التردد وعدم الجرأة مما يترك كثيرًا من الوقائع معلقة ويضع الناس في حرج شديد مما يضطر بعضهم إلى أن يفتي لنفسه بما يراه تطبيقًا لهذه القواعد وقد تكون هذه الفتاوي صحيحة أو خاطئة لصدورها من غير المختصين. وأغلب الظن أن الدافع إلى عدم الجرأة هو الخوف من فتح الباب أمام المزيد من الترخصات المؤدية إلى التسيب وفتح ثغرة يصعب سدها بعد ذلك.

وعلاج هذه الحالة يكمن في مراعاة الضوابط والشروط لا في التضييق على الناس بما ينافي المصلحة التي وضعت هذه القواعد لتحقيقها.

ومما نص عليه الفقهاء أن الإباحة في حالة الضرورة وإن كان الأخذ بها واجبًا في بعض الحالات إلا أنها لا تعني إلغاء الحكم الأصلي الذي يظل قائمًا يعمل به في حالة زوال الضرورة المبيحة للمحظور.

ولأن بعض الضرورات قد تمتد زمنيًا لسنوات أو عقود، كان على الفقهاء أن يبذلوا مزيدًا من الجهد في تفصيل أحكام كل حالة من الحالات المزمنة كحالات تطبيب الرجال للنساء والنساء للرجال، والتعامل مع البنوك وشركات التأمين والبورصات وغيرها من المسائل التي تحتاج إلى التفرقة بين حكمها الأصلي وحكمها الانتقالي المؤقت بوجود أوضاع مخالفة لأصول الحياة الإسلامية وتحتاج في إصلاحها إلى تدخل جذري من جانب الدولة قد تمضي السنوات والعقود والأجيال قبل تحققها.

* * *

بعد هذا الاستعراض للواقع الحالي، وللمناهج المختلفة لمواجهة هذا الواقع، نصل إلى النتيجة العملية، وهي تطبيق المنهج المختار على الواقع الحالي.

وهذا ما نتناوله تباعًا في الأعداد القادمة بإذن الله.

 

المراجع

 

عن التحرير الإسلامي للمرأة النموذج .. والشبهات – د. محمد عمارة

 

(1) ساهم الكاتب تنظيريًّا وتطبيقيًّا في حركة البنوك الإسلامية، واستمر يراقب مسيرتها ويرصد تداعياتها، ويجيل النظر في فروضها ونظرياتها وفي الجدل القائم حولها، حتى استنفرته الظروف الأخيرة فكتب هذا المقال.

(1) عبد العزيز الخياط، الشركات ط 2، 1983، ج 2 ص 51، الموسوعة الفقهية الكويتية، 1998 ج 38 ص37.

(1) ولبيان مدى ضخامة هذه العمليات فإن التقديرات تشير إلى أن حجم هذه العمليات في سنة 1997 بلغ 2 ترليون دولار يوميا أي ثلث الدخل القومي للولايات المتحدة وثلاثة أضعاف الاحتياطي الرسمي من العملات الأجنبية لدي البنوك المركزية / د. عمرو محيي الدين، أزمة النمور الأسيوية، دار الشروق، 2000 ص 206 – 209

(1) هذا هو رأى جمهور الفقهاء: يراجع في ذلك مغنى المحتاج للشربيني، طبعة الحلبي ج 2 ص 25، والمجموع للنووي ج 9 ص 392 – 395، وحاشية الجمل على المنهج ج 2 ص 41، والشنقيطي على الشرح الصغير للدردير.

1 انظر: محمد مصطفي أبوه الشنقيطي، دراسة شرعية لأهم العقود المالية المستحدثة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 2 سنة 2001، حيث أورد ثمانية تخريجات للاعتمادات المستندية ص 297 – 308، وثلاثة تخريجات لخطاب الضمان ص 321 – 330، وأربعة تخريجات لخصم الأوراق التجارية ص 349 – 358، وخمسة تخريجات لتحصيل الشيكات ص 360 – 364، وخمسة تخريجات لعقد الحوالة ص 415 – 419، وهكذا …

1 قال بذلك أحمد ومالك، وخالف فيه أهل الظاهر وأبو حنيفة والشافعي وطائفة من أصحاب مالك وأحمد. انظر لتفصيل ذلك: القواعد النورانية لابن تيمية ص 128 – 152. وقد ناقش د. علي محيي الدين القره داغي مقولة ابن تيمية واثبت إن هذا هو رأي الجمهور (مذاهب السنة الأربعة والجعفرية والزيدية)، وأنه لم يخالف في ذلك سوى الظاهرية. انظر لذلك كتابه مبدأ الرضا في العقود ص 1148 – 1164.

2 القواعد النورانية لابن تيمية ص 79.

1 ومن هنا كنا بصدد وجوب وليس فقط جواز استخدام هذا الأصل، والوجوب هنا على الكفاية بطبيعة الحال وليست وجوبا عينيا.

1 الجزء الثاني القسم الثاني ص 389 – 400.

1 المستصفى ج 1 ص 257، 264، المنخول ص 364 – 372، وهامش ص 370.

2 لنا اقتراح تفصيلي في هذا الصدد صدر تحت عنوان (تجديد الفقه) ضمن سلسلة حوارات لقرن جديد نشر دار الفكر دمشق.

1 لمزيد من التفاصيل يرجع إلى موقع إسلام أون لاين على الإنترنت مقال خالد حنفي بتاريخ 5/1/2003 (دينار محمد يهدد الدولار).

2 يعود إلى البنوك الإسلامية فضل تطوير فقه المعاملات الذي إذا تحاشى منهج التخريج والشكليات انطلق في آفاق التجديد وأرسى قواعد مدرسة إسلامية في المعاملات المصرفية.

1 عمرو، مرجع سابق، ص 408.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر