أبحاث

منهجية التعامل مع الفكر التربوي الغربي المعاصر : طبيعته ومحدداته وتقويمه ضمن المعايير المناسبة

العدد 98

توطئة:

معالجة موضوع التعامل مع الفكر التربوي الغربي تستلزم ممن يتصدى له أن يوفر لمعالجته أمورًا عدة ، وأبرز المتغيرات ذات العروة الوثقى بهذا الموضوع _ فيما أرى _ :

إحلال التعامل مع الفكر الغربي بعامة ، والتربوي منه بخاصة في مكانه ومكانته في السياق العالمي الراهن ، وأن ينظر في تأصيل التعامل المنشود إلى العلاقات التاريخية بين العرب والغرب في التاريخ الحديث ، والموقف الراهن لتلك العلاقات ، وتقتضي المعالجة _ أيضًا _ أن يعرض من يقوم بها لجذور التباين والاختلاف الفكري بين العرب والغرب، وأن ينظر في وسائل التواصل بينهما وما يكتنفها من غموض أو التباس أو خفاء في الدلالات ، وهذا ما سوف يحرص كاتب هذه الدراسة على الإشارة إليه دون إفاضة .

وتأسيسًا على ما تكشف عنه الدراسة في الجوانب الأساسية التى  أشرنا إليها آنفًا سوف أنتقل إلى عرض تصور لمنهجية التعامل ، بوصفها لقاء عقل جمعي عربي بعقل جمعي غربي ، ولقاء العقول وسيلته الحوار الحر الذي يقوم على الندية والتكافؤ ، وليس على التصادم أو التعالى . وأعرض في هذا الصدد العمليات العقلية والنفسية التى تجعل الوصال الفكري ذا ثمرة لقطبي التواصل ( الأمة العربية والغرب ) .

ويخصص الجزء الأخير في الدراسة للحديث عن طبيعة العلم التربوي ، الذي يرجى التحاور حول كلياته بين العرب والغرب . وأعرض في هذا الجزء أمثلة لموضوعات الحوار في صورة أسئلة، يتضمن الواحد منها البحث في جوانب شتى تمثل « نماذج» فكريةConceptual Models  . وتختتم الدراسة باقتراح معايير لتقويم المستحدثات التربوية التى يتوقع أن يسفر عنها التحاور مع الفكر التربوي الغربي المعاصر .

التواصل الفكري مع الغرب في سياق العولمة :

أرى لزامًا .. قبل الحديث عن سياق العولمة _ أن أحدد الدلالة التي يشير إليها مصطلح الغرب في هذه الدراسة فأقول: «الغرب» مصطلح يمكن أن تكون له دلالة جغرافية ، ومقابله الشرق ، ويعنى _ لغويًّا _ طلوع الشمس ، ومادته شرق، بفتح الشين والراء . ويقال: شرق المكان، بفتح الأول وكسر الثاني ، شرقًا: بمعنى أشرقت عليه الشمس وأضاءت أرضه . والمشرق : جهة شروق الشمس(1)، والمشرقان : المشرق والمغرب على التغليب . قال تعالى : {يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْن} (الزخرف : 38) . والدلالة الجغرافية لمصطلح الشرق ومقابله «الغرب» لا تعنينا كثيرًا في هذه الدراسة؛ لأن الشمس تشرق وتغرب _ في مدى زمنى مختلف _ في كل أنحاء المعمورة . والدلالة الجغرافية للمصطلح من شأنها أن تجعل الموقع الجغرافي هو العامل الحاسم في المغايرة بين الشرق والغرب ، وأن تنفى أو تقلل من شأن المتغيرات الاقتصادية والثقافية والتاريخية.

ويستخدم مصطلح «الغرب» _ أيضًا _ على أنه مصطلح «اقتصادي» ويشار به في مجال الاقتصاد إلى الدول ذات الاقتصاد المرتفع ، ويشار به _ أحيانًا _ إلى «الدول الصناعية» التى استطاعت من خلال ما أحرزته من تقدم : علمي وتقني وإداري أن تصنع الآلات والأجهزة التى تستخدم في تحويل المواد الخام إلى سلع معقدة ومركبة ، تستخدمها وتصدرها إلى أسواق العالم؛ لتستخدم في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات والفنون المختلفة .

ويندرج تحت مصطلح « الشرق» _بوصفه مفهومًا اقتصاديًّا _ الدول غير الصناعية التى تستورد من « الغرب» الاقتصادي سلعًا ومصنوعات وخدمات، أخذت موادها الخام من الدول النامية، أو لم تتوفر مهارات تقديمها في تلك الدول _ و« الشرق» في قلب هذه الدول _ كالنفط من سواحل الخليج العربي، والكتان والتوابل من الهند ، والغاز والأفيون من الصين، وكثير من المواد الخام التى تصدرها دول أفريقيا إلى الدول الصناعية .

ويضرب مثالان لتأصيل الاستعمال الاقتصادي لمصطلح «الغرب»، ودحض استخدامه على أنه مفهوم جغرافي : الأول ، جنوب أفريقيا ، وتقع في أقصى جنوب القارة ، ولكن بنياتها: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، تؤكد أنها قطعة من الغرب. والثاني، دول أمريكا اللاتينية، حيث تقع في نصف الكرة الأرضية الغربي؛ ويصدق عليها _اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا _ أنها تنتمي إلى الشرق(2) .

وأعتقد أن تعدد أوصاف «الشرق» إلى : أقصى، وأوسط، وأدنى، يمثل أوصافًا صكها الاستعمار الغربي؛ ليميز بها مدى قرب أو بعد البلاد التى يحتويها كل «شرق» عن مركز الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر، وما تلاه من صور استعمارية، سواء أكان الاستعمار استيطانيًّا أم اقتصاديًّا أم ثقافيًّا.

واستخدام المصطلح بمعناه الاقتصادي يحجب الدلالات الثقافية لهذا المصطلح ، ويوحى بأن من يستخدم المصطلح بهذا المعنى يغلب المتغيرات الاقتصادية على ما عداها من متغيرات فكرية واجتماعية فاعلة في هوية المجتمعات . وهذا التوجه في جعل الاقتصاد هو محور الحياة ، وجماع الهوية في المجتمعات منهج تتبناه فئة من المفكرين ، يغلب على فكرهم التركيز على العامل الاقتصادي ، وقد عدلت عن هذا المنهج الدراسات الخاصة بقياسات مستوى التنمية في بلاد العالم، ومن أجل هذا طورت الأمم المتحدة معايير لقياس النمو في المجتمعات ، فأضافت إلى المؤشرات الاقتصادية مؤشرات تتصل : بالثقافة والصحة والتعليم ومدى إحساس المواطنين بالسعادة في أوطانهم، ومدى مشاركتهم في اتخاذ القرارات ذات العلاقة بحياتهم .

وتأسيسًا على ما تقدم فإن هذه الدراسة لا تقصر استخدام مصطلح «الغرب» على دلالاته الجغرافية أو دلالاته الاقتصادية ، وإنما تتجاوز هذا الاستخدام إلى استخدام أشمل ؛ هو الاستخدام «الثقافي» بوصف أن الثقافة محصلة مركبة لكثير من العوامل الاقتصادية والايكولوجية التى تحيط بالفرد ، وتكتنف المجتمعات .

«والثقافة» مصطلح تجريدي مركب، لا يعاين ولا يلمس ؛ وإنما يستدل عليه بما هو كائن في عقول الناس ووجداناتهم من معتقدات ، وقيم ، وأفكار واتجاهات وطموحات ، كما يستدل عليها _ أيضًا _ بالإنجازات الفكرية والعلمية والعملية والفنية التى حققها البشر في مجتمع ما ، وبما تجليه هذه الإنجازات من أشكال وصور تتصل بالسلطة ، وأنماط العلاقات الإنسانية ، ونمط الإنتاج بأوسع ما يعنيه مصطلح «إنتاج» ، ويستدل على الثقافة _ أيضًا _ بنوعية السلوك (قيمي _ اتباعي _ إبداعي) وبعادات العمل في المواقف الاجتماعية المختلفة .

والثقافة ظاهرة إنسانية في جوهرها ، تكتسب بالمحاكاة والتعليم ، ولا تورث بيولوجيًّا . وقد هيأ الله _ جلت قدرته _ للإنسان وحده دون سائر المخلوقات أن يؤسس نظمًا ثقافية ، فميزة بقابليات بدنية : كانتصاب القامة ، واتساع مجال الرؤية البصرية ، ومرونة بنانه ، وقابليات عقلية ؛ جعلته قادرًا على استيعاب الرموز المادية واللغوية ، وقادرًا على التفكير ، والتعبير والتذكر ، والربط، والتحليل والتخيل ، ونقد الذات ، وضبطها ، واستشراف المستقبل. وقابليات اجتماعية : تتمثل في حاجته إلى التواصل الاجتماعي مع الآخرين ، والاعتماد المتبادل بينه وبينهم، بصورة تقلل من مظاهر الصراع، وتؤدى إلى تماسك الجماعة واستمرارها ، على نحو يتجاوز حياة الذوات الفردية لأبناء المجتمع .

والثقافة _ بالمعنى الذي أوضحناه _ ليست مجرد كيان ينتمي إليه الأفراد ؛ وإنما هي رموز يملكونها ، وتختلج في عقولهم ووجدانهم ؛ فتدفعهم إلى الكفاح والعمل والتضحية وتحمل المعاناة في سبيل ما يتطلعون إليه ، وإن لم يتحقق بصورة كاملة . وتشمل الثقافة _ على هذا الوجه _ النشاط المعرفي والفكري السائد بين أبناء الثقافة، سواء في ذلك مضامينه ، ومحتوياته ، وطرائق إنجازه ، كما تشمل ألوان الإبداع الجمالي والفني التى يعضدها المجتمع ، وتؤثرها الجماهير الواسعة في المجتمع على ما عداها في الاستمتاع .

تؤكد دراسات حديثة(3) أن الثقافة تؤدى دورًا جامعًا ومانعًا في آن واحد ، ففي كل الثقافات قدر إنساني جامع لكل الناس ، يستند إلى خبرات الجنس البشري المشتركة في تلبية الاحتياجات الفيزيقية والاجتماعية والإنسانية ، مما يسوغ الحديث عن «ثقافة» الإنسان .

والخصائص الإنسانية للثقافة تمايز مجتمع الناس عن مجتمع «القردة» ، و«مجتمع النحل» و«مجتمع الحيتان» أو النمل الأبيض، وهي كائنات تتواصل فيما بينها ، ويحقق تواصلها أغراضًا لأفرادها ولمجتمعاتها ، ولكن هناك عوامل فارقة بين التواصل الإنساني وتواصل تلك الكائنات الحية الأخرى.

وفي الثقافات المحلية والإقليمية قدر مشترك يسم جمهرة أبناء كل ثقافة بميسم واحد في المعتقدات والقيم والأفكار وطرائق التفكير والفعل ، وبهذا القدر يتمايزون عمن عداهم في الثقافات الأخرى ، بحيث يتأتى في التحليل الثقافي الجاد فرز ما هو داخل في ثقافة ما ، وماهو خارج عنها ، وهذا القدر هو ما يشار إليه بمصطلح «التنوع الثقافي» أو « الخصوصية الثقافية» .

وفي ضوء ما قدمت فإن هذه الدراسة تستند إلى المسلمات التالية :

_ «الثقافة» مفهوم تجريدي ومعقد ، يجمع بين ما هو إنساني عام ، وما هو قومي خاص تنفرد به مجموعات من البشر .

_ إن وحدة «الثقافة» القومية لا تعنى تطابق كل فئاتها في المعارف والقيم والاتجاهات والسلوك ، وألوان التذوق والإبداع ، وهذا يعنى التسليم بوجود «ثقافات» فرعية داخل الثقافة الواحدة ، مثلاً (ثقافة الزنوج داخل الثقافة الأمريكية) وتتفرع الثقافة الواحدة إلى ثقـافات فرعية تبعًا لمتغيرات شتى : المهنة(4) والعرق ، والجنس ، والموقع الايكولوجي ، والتنشئة الاجتماعية ، وفرص التعليم والتنمية المتاحة داخل الثقافة الواحدة .

_ الثقافة في أي مجتمع ظاهرة نامية متطورة ، وليست ثابتة ، ونمو الثقافة وتطورها ينشأ عن عاملين أساسيين هما: جهود التنمية البشرية التى توجه إلى الأفراد داخل التكوينات الاجتماعية، والتبادل الثقافي الذي يحدث بين الثقافات ، فالثقافات في عصرنا الحالي ليست أنساقًا مغلقة ، وإنما هي أنساق مفتوحة ، يمكن اختراقها بوسائل شتى يطلق عليها وسائل «الغزو الفكري» أو «الاختراق الثقافي» مما سنعود إليه في مواضع كثيرة في هذه الدراسة ، ونكتفي هنا بمجرد الإشارة إلى المصطلح دون حكم أو تعليق عليه .

السياق العالمي الجديد :

وحديثنا عن منهجية التعامل مع الفكر التربوي الغربي يجرى في سياق عالمي ؛ وتنتشر فيه مقولات كثيرة حول ما يسمى بـ «العولمة» وجوهر ما يقال عنها : إن نظامًا عالميًّا جديدًا قد بزغ في بواكير العقد الأخير من القرن العشرين ، وأن هذا النظام في طريقه إلى التكوين والتجسيم .

ومن أبرز معالم هذا النظام تحرير الاقتصادات القومية ، وتركها لقوى السوق العالمية ، والدعوة إلى تقليل القيود والضوابط التى تفرضها الحكومات الوطنية على مسيرة الاقتصاد والتجارة والاستثمار ، على أن يتولى القطاع الخاص في كل مجتمع ، متعاونًا مع الشركات التى توصف بأنها «عملاقة» أو متعدية الجنسيات سد الاحتياجات الوطنية في المجتمعات كلها.

ويقترن بهذه التحولات الاقتصادية مزاعم تشير إلى أن الجانب الأكبر في الحياة الاجتماعية سوف تتحدد من خلال عمليات «معولمة» تذوب فيها الخصوصيات الثقافية ، وتسودها حضارة عالمية ؛ هي الحضارة الغربية .

ولعل أكثر الكتابات انتشارًا حول «عولمة الحضارة» ما كتبه «صامويل هنتنجتون» في مؤلف عنوانه : صدام الحضارات وإعــــادة صنع النظام العالمي(5). وفيه يدعو المؤلف الدول غير الغربية إلى ما يسميه «التحديث المحايد» ويقصد به أن تسود حضارة الغرب المجتمعات غير الغربية ، وأن تعمم ثقافة الغرب في كل بلاد العالم ، دونما نظر إلى محتوى التحديث ودلالاته الاقتصادية والسياسة والدينية والخلقية والاجتماعية، في إطار السياق التاريخي الموضوعي والاستشرافات المستقبلية لكل ثقافة على حدة .

ويقطع «هنتنجتون» بأن صدامًا حتميًّا سوف يقع يبن الحضارتين : العربية الإسلامية والحضارة الغربية ، مؤسسًا قوله هذا على ما بين الحضارتين من «تباين» في القيم الأساسية العليا ؛ لا يمكن تصفيته إلا عن طريق الصراع والتصادم بين الحضارتين .

وقد سبق رأى «هنتنجتون» ما يمكن النظر إليه على أنه « إعلان حرب» على الحضارة الإسلامية متمثلاً في حديث أجراه مراسل مجلة النيوزويك الأمريكية مع سياسي إيطالي ووزير خارجية سابق، كان في وقت إجراء المقابلة معه رئيسًا للمجلس الوزاري الأوربي(6) هو: «جياني ديميلكيس» ، سأل المراسل هذا السياسي الغربي : ما مبررات بقاء حلف الأطلنطي ، بعد انتهاء المواجهة بين الغرب الليبرالي والمعسكر الذي كان اشتراكيًّا ؟

فأجاب : صحيح أن المواجهة مع الشيوعية لم تعد قائمة ، إلا أن ثمة مواجهة أخرى يمكن أن تحل محلها بين العالم الغربي والعالم الإسلامي .

سأل المراسل : وكيف يمكن تجنب المواجهة المحتملة ؟

فأجاب ديميلكيس : « ينبغي أن تحل أوربا مشاكلها ليصبح النموذج الغربي أكثر جاذبية وقبولاً من جانب الآخرين في مختلف أنحاء العالم ، وإذا فشلنا في تعميم ذلك النموذج الغربي فإن العالم سيصبح مكانًا في منتهى الخطورة».

ومن خلال هذا العرض السريع للسياق العالمي الذي يتم فيه التواصل المنشود نستنتج أن تعامل الآخرين مع الفكر الغربي بعامة مواجه بدعاوى رائجة ، مفادها أن النظام العالمي الجديد أو «العولمة» الليبرالية الأمريكية في سبيلها إلى القضاء على الخصوصيات الثقافية لتعم ثقافة الحضارة الغربية ، وأن التباين حاد بين هذه الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية من وجهة نظر معظم المفكرين والسياسيين في الغرب الذين قدمنا مثالين لهما .

وفي الرد على هذه الدعاوى _ تمهيدًا لإرساء الحوار الذي نتصوره منهجًا للتعامل مع الفكر الغربي التربوي المعاصر _ سوف أوجز هنا وجهات النظر التى تفند دعاوى ومزاعم «العولمة» ، وتؤكد على ضرورة «الحوار» بين الثقافات بصورة تصون «الخصوصيات الثقافية» وتؤدى إلى ترسيخ نظام عالمي جديد  يختلف جذريًّا عن نظام «العولمة» الليبرالية التى تقودها أمريكا اليوم ، نظام يفضي إلى تحول عالمي تفيد منه الإنسانية في جميع أنحاء العالم .

وفي تكثيف شديد أقول عن العولمة:

– يرتاب أهل الثقة في شئون الاقتصاد والاجتماع بشدة في أن يتبلور قريبًا نظام اقتصادي معولم تكون فيه قوى السوق غير القومية هي المتغير الفاعل والحاسم، ويقررون أن اقتصاد العالم بعيد عن أن يكون «كوكبيًّا» ، وأن كل ما حدث _ حتى الآن _ تركيز للتجارة والاستثمار والتدفقات المالية في ثلاثي : «أوروبا _ اليابان _ الولايات المتحدة الأمريكية» . وهذه السيطرة _ وحدها _ هي القابلة للاستمرار . ويؤكد هؤلاء المتخصصون أن التأثير السياسي للعولمة يمثل حالة مرضية معقدة، تتناقض توقعات تطورها إلى أقصى مدى، وأن الحماس الزائد لدعاة «العولمة» من المفكرين والسياسيين والإعلاميين يوشك أن يحولها إلى « أسطورة يفتتن الناس بها، وهي لا تجلب راحة ولا عزاء لمعظم بلاد العالم»(7) .

ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى الاحتجاجات والمظاهرات التى نظمت ضد العولمة في سياتل، وفي واشنطن العاصمة الأمريكية، وفي دافوس بسويسرا، وأخيرًا تظاهر عشرين ألف شخص من المزارعين وأعضاء نقابات العمال والفلاحين في مدينة « ميو» الفرنسية . هذا بالإضافة إلى الإضرابات العمالية في فرنسا وبلجيكا وأسبانيا وبريطانيا ضد الخصخصة  .

_ يقال : إن «العولمة» الليبرالية المتطرفة حتمية : « اقتصادية _ تكنولوجية» ، وأنها حدث وموقف لا تستطيع الاقتصادات القومية الوقوف أمامه . ويعجب المرء أن يقال مثل هذا القول مع فساد فرض «الحتمية» حتى في العلوم الفيزيقية ، واستقرار أن «اللاحتمية» أصبحت الآن نظرية عامة شاملة لمجمل نسق العلم  الطبيعي _ وما بالك بالعلم الاجتماعي _ وما بال المروجين للعولمة يستحوذ عليهم الغرور، ويجعلون الفروض المحتملة يقينًا يقطعون بصحته ، ويفرضونه على الواقع الإنساني ، برغم أن كل قوانين العلم ، مهما اتصفت بالبراعة والنفاذ ليست إلا قوانين احتمالية ، أي أنهــا قابلة للتعديل(8).

_ يؤكد أهل الثقة من المتخصصين زيف مقولات: « إن العالم قد صار سوقًا واحدة موحدة» وأنه « قد غدا قرية كونية» ؛ ويقررون أن التوحد الأوحد الذي حدث هو التوحد التليفزيوني الذي يربط بين من يعيشون في أفريقيا وآسيا وكاليفورنيا ، وأن ثورة الاتصالات والتقنيات تركزت في ربط بعض مدن  العالم الصناعية بالعالم الخارجي ، وأن الجزء الأعظم من العالم قد تحول إلى جزر منفصلة ، وإلى عالم ينتشر فيه البؤس والفاقة ، ويكتظ بالمدن القذرة والفقيرة(9) .

_ تمثل «العولمة» على الوجه الليبرالي الأمريكي اعتداء على الديمقراطية وعلى رخاء ورفاهية الشعوب ، والتلازم الذي يدعيه من يروجون للعولمة بين اقتصاد السوق والديمقراطية زعم زائف ؛ لأنهما ليسا متلازمين دائمًا ، والعلاقة الأقرب للحقيقة بينهما هي علاقة التعارض ؛ بدليل أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية الحادثة الآن في مختلف بلاد العالم تواكبها ديمقراطية تحمى مصالح الأثرياء والمتفوقين اقتصاديًّا، وتلحق أضرارًا جمة بالعمال ، والطبقة الوسطى؛ متمثلة في تخفيض الأجور ، وزيادة ساعات العمل ، والمعاش المبكر ، وخفض الدعم الحكومي للخدمات الأساسية ، ويحدث كل هذا بحجة «تهيئة الشعوب لمواجهة سوق المنافسة الدولية»، والصواب أن الديمقراطية الحقة تمارس في مناخ يأمن فيه الناس غوائل الفقر والمرض والبطالة، وهذا المناخ غير متحقق في كثير من دول العالم(10) .

يرى المتخصصون أن العودة إلى الاستقلالية النسبية التى كانت للدول الوطنية في فترة الستينيات وأوائل السبعينيات في القرن العشرين وَهمُ لا يجوز أن يقع فيه الناس ؛ وإنما تستطيع الدول الوطنية في الدول غير الصناعية أن تأخذ زمام المبادرة للوقوف في وجه «العولمة» المنفلتة ، وذلك بمثل ما يلي :

_ عمل سريع ودءوب، من شأنه توجيه التنافس العالمي وجهة تخدم الجوانب الاجتماعية ، والحياة الديمقراطية، والتكافل الاجتماعي الذي ترعاه الدولة .

_ إصلاح النظام الضريبي وتطوير نظم التأمينات الاجتماعية .

_  إدخال إصلاحات جذرية في نظم التعليم تكفل التوسع فيه ، ورفع مستوى كفايته وجدارته في خدمة المواطنين والمجتمع في مختلف مرافق الحياة .

_ ألا تتخذ في السياسة المالية والاقتصادية إجراءات تؤدى إلى هروب رءوس الأموال من داخل الدولة إلى خارجها.

_ المبادرة بتخطيط وتنفيذ مشروعات قومية لحماية البيئة المحلية من التلوث ، وتنمية المصادر الطبيعية بطريقة نظيفة ومطردة(11) .

عن «الخصوصية الثقافية» :

يؤكد الخطاب الغربي الذي قدمنا أمثلة له فيما يقوله « هنتنجتون» وبعض السياسين الغربيين شبهة تمام الانقطاع في أمل التواصل الفكري بين الغرب والعرب بعامة ، والمسلمين منهم بخاصة. وأعتقد أن نغمة هذا الخطاب ليست جديدة ؛ وإنما هي امتداد لمقولات شاعت في البيئات الغربية العلمية والسياسية ، وأنها إفرازات كريهة لروح استعمارية متعصبة ، ونتاج عفن لحركة «الاستشراق» ، القديم منها والجديد ، التى واكبت الاستعمار ، ولا تزال مطردة موصولة في تحقيق أهدافها ضد الحضارة الإسلامية ، و« الثقافة العربية الإسلامية» .

ولابد في هذا المقام أن نذكر بالتقدير كتابات معتدلة لعدد من المستشرقين ، منهم توماس أرنولد في كتابه « الدعوة إلى الإسلام»، وزيجريد هونكه في مؤلفها الشهير : « شمس العرب تسطع على الغرب»، وهادريان ربلاند في كتابه عن الديانة المحمدية الذي حرمت الكنيسة تداوله . ونعتقد أن كتابات مثل هؤلاء المستشرقين القدامى (نسبيًّا) قد أسهمت في تعريف الغربيين بحقائق الإسلام .

ونود أن نتذكر ونذكر بدوافع الاستشراق القديم ؛ سواء في ذلك الدافع الديني القائم على تشويه صورة الإسلام عمومًا، وصورة القرآن الكريم ورسول الإسلام محمد e خصوصًا ، ودافع الاستعمار السياسي وحركة التنصير في الشرق الإسلامي (ماسيينون عمل مستشارًا لفرنسا في تخطيط سياساتها ضد المسلمين في شمال أفريقيا، وبرنارد لويس عمل ولا يزال يعمل مستشارًا لحكومة إسرائيل في وضع وتنفيذ سياساتها ضد عرب فلسطين) هذا بالإضافة إلى الدافع الاقتصادي والتجاري فيما يخص الاستيراد من الغرب إلى المنطقة العربية ، وتصدير بعض موادها الخـــام إلى أوروبا وأمريكا(12).

وأعتقد أن الخطاب الغربي المعاصر عن الإسلام ، وعن الأمة العربية ، لا يزال مروجوه يعيشون في مناخ الموجات الصليبية ، وأن الغرب إذا كان قد فشل في عمليات الاستعمار الاستيطاني لدول المنطقة ، فإنه يحاول بديلاً آخر هو «استيطان العقول» بدلاً من استيطان الأرض . ومن هنا كان حرص الغرب على تكبيل العقل العربي بقيود فكرية ، تجعله تابعًــــــــا للفكر الغربي المركزي (الأوربي والأمريكي) في السياسة والاقتصاد والتعليم والمأكل والملبس . ونجح هذا التغريب في استقطاب عدد من النخب في مجالات الحياة المختلفة .

ومن شواهد هذا النجاح حركة «الاستشراق الجديد» التى تعقد لها المؤتمرات وتنظم الندوات ، وفيها اتسع مجال الاستشراق ، متمثلاً في مراكز لبحوث الشرق الأوسط ؛ سواء في ذلك البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية ، ويتم التركيز في هذه البحوث على أقاليم ودول الشرق الأوسط واحدة واحدة ، بما يدعم القطرية والتجزئة . كما تتمثل جهود «الاستشراق الجديد» في استخدام مناهج «الهرمونطيقا» ( أساليب التأويل والتفسير) والإبستمولوجيا (النظرية العامة للمعرفة) وأساليب الدارسة الحديثة في «الألسنيات» والبلاغة الجديدة وتطبيقاتها على النصوص العربية ، بما في ذلك نصوص القرآن الكريم(13) .

ويستشعر كثير من المفكرين العرب أن هدف «الاستشراق الجديد» متمثلاً في رصيد من المناهج والأساليب المستخدمة فيه : الميثولوجي ، والإيديولوجي ، والبنيوي وما بعد البنيوي ، والحداثة ، وما بعد الحداثة _ يستشعر المفكرون العرب أنها حملة صليبية جديدة، يراد بها ومنها كشف نواقص عدة في التراث العربي الإسلامي إذا ما أخضع للمعايير والمناهج الغربية الحديثة، ويعجب المرء لهذا التعنت الفادح، والظلم القادح والفاضح لمن ينادون به : كيف يستساغ _ عمليًّا وعقلانيًّا _ محاكمة نصوص «مقدسة» وفقًا لمناهج فكرية ابتدعت في ثقافة مغايرة ، بعد أكثر من أربعة عشرة قرنًا من تنزيل هذه النصوص ؟

ويستحضر في هذا المقام سلمان رشدى «بآياته الشيطانية» ، والكاتب السورى صاحب «وليمة لأعشاب البحر» . وكيف يستساغ _ علميًّا وعقليًّا _ أن تطبق على التراث الفكري الغربي معايير استحدثت في ثقافات ولغات تختلف أصـــولها اختلافًا جذريًّا (الإنجليزية والفرنسية مثلاً) عن أصول اللغة العربية ؟

إن الاستشراق الجديد برزت أفكاره الأساسية في الفكر الغربي ، وقد تكون هذه الأفكار ملائمة للثقافة الغربية ، ولكنها _ بالقطع _ ليست ملائمة للفكر العربي الإسلامي ، فهي تتحدث عن موت الإله (استغفر الله) العليم الخبير، وتتحدث عن موت مؤلف النص ، والاعتداد بالنص وحده منعزلاً عن مؤلفه ، وعن عصره ، وعن قارئ النص. ودعاة «الاستشراق الجديد» بهذا يحولون المنهج إلى مذهب يضارع اليقين الاعتقادي .

هذا بالإضافة إلى أن تطبيق مثل هذه المعايير يتناقض مع ما هو شائع في الفكر الغربي ذاته ، متصلاً بمبدأي : «النسبية اللغوية » ، و« الحتمية اللغوية» وهما من القضايا الجدلية بين الفكر الغربي والفكر العربي الإسلامي .

والسؤال الذي يجب أن يجاب عنه هو : ماذا في الفكر الإسلامي عن الخصوصية الثقافية ؟

_ من الثوابت في الفكر العربي الإسلامي مبدأ «تنوع الثقافات» وهذا المبدأ لا ينفى وحدة الجنس البشري ولا وحدة النظام الكوني ، المخلوق لله سبحانه وتعالى ، وهو جلت قدرته قيوم عليه ، في النشأة ، وفي المسار وفي المصير. « وتنوع الثقافات» مفردة في منظومة لمفاهيم تضم في آن واحد «وحدانية الخالق المعبود» ، فاطر السماوات والأرض وما بينهما ، و«عبودية المخلوقات جميعًا» للخالق العظيم، و«استخلاف الإنسان» لحمل أمانة عمران الكون ، وانفراده بأنه أكرم مخلوقات الله ، ومن ثم فليست هناك قيمة مادية تعلو قيمة هذا الإنسان ، أو من أجلها تهدر قيمته (14).

_ أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الكون متنوعًا : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} (البقرة : 164) . و«تنوع الثقافات» آية من آيات الله ، ونعمة من نعمه ، ورحمة من رحماته {وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِين} (الروم :22) ويؤكد التنزيل الحكيم أهمية «التنوع البشري» في توازن الحياة الاجتماعية {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير} (الشورى :8) والمسلمون مدعوون بشدة إلى استيعاب حقيقة «التنوع البشري» أكمل استيعاب ، وإلى تجنب الصراعات والمنازعات فيما يخص العقيدة ، فلكل أمة شرعة ومنهاج، والتنوع البشري واقع لا يمكن تجاهله سواء في التصور الاعتقادي ، أو في العبادات ، أو في الإنجازات البشرية ، أي في الحضارات . وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشهد لهذا التنوع :

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة : 48) .

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْــتَقِيم} (الحج : 67) .

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس : 99) .

_ والغاية العليا «للتنوع البشري» _ وفقًا للتصور الإسلامي _ هي أن يتعاون «النوع البشري» على الإعمار ؛ أداء للأمانة التى حملها الإنسان ، ومن أجلها كرمه خالقه ، وسخر له ما في الطبيعة من مكنونات . ويبدأ التواصل بين النوع البشري بالتعارف ، والتعارف مناقض للتناكر والتصادم الذي يدعو إليه بعض مفكرى الغرب ، والتعارف يبدأ بالتقابل أو المقابلة ، وهما لا يعنيان تقبل أو قبول كل ما تقابله أو من تقابله ، وسنعود إلى هذا المعنى في موضع تال في هذه الدراسة .

_ والإسلام يدعو دائمًا إلى «التأليف» لا إلى التفريق بين البشر ، ويذكر الناس بنعمة التأليف والاعتصام بحبل الله ، الذي كان الركيزة للحضارة الإسلامية ، وسبيلاً إلى الـتآخي بين من كانوا أعداء قبل دخولهم في الإسلام {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} ( آل عمران: 103) .

هذا ، والإسلام ينفى العنف والإكراه ، وينهى عن التعصب والاحتراب مع ذوى الديانات الأخرى الذين لم يبادئوا بحرب المسلمين . وفي آيات الذكر الحكيم نصوص قاطعة تدعو إلى احترام عقائد الآخرين ، واستيعاب حق الأفراد والأمم في اختيار عقيدتهم ، ومجادلتهم بالحسنى وبالموعظة الحسنة .

{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة : 256) .

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس : 99) .

{وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} (العنكبوت : 46).

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة} ( النحل : 125).

وفي مقام الحديث عن «الخصوصية الثقافية» لابد من لفت الانتباه إلى سوء استخدام هذا المصطلح في الدول النامية؛ ففي « المؤتمر الأوروبي الإفريقي» الذي عقد في القاهرة في أبريل 2000م تحدث بعض ممثلي الدول الأفريقية عن « الخصوصية الثقافية» في دول أفريقيا ، وكأنها «حصانة» تخول للسلطات الحاكمة في بعض الدول إهدار حقوق المواطنين في حرية التعبير ، وحقهم في نصيب عادل من الناتج الإجمالي للدولة، وفي تنصيب مؤسسات حكومية وأهلية تتصف في إجراءاتها وفي التعامل مع المواطنين بالديمقراطية ، وتحفظ للمواطنين كرامتهم ، وتخول لهم المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات ذات الصلة بالأوضاع الاقتصادية والسياسة والثقافية والتعليمية ، ومحاربة الفساد ، ومقاومة مظاهر الاستبداد والاستغلال والقهر التي تعاني منها الدول النامية، واستخدام (الخصوصية الثقافية) حجة لمثل الانحرافات التى أشرنا إليها منكر منهى عنه في شرعة الإسلام فالله يقول: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران : 71) .

جذور التباين بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي :

إن جذور التباين بين الفكر الغربي والفكر العربي الإسلامي هي اختلافات راسخة وعميقة في « الإطار الفكري العام» أو « الصيغة الذهنية» التى تحكم تصور أهل كل ثقافة للكون ؛ ولخالق الكون، وللإنسان ودوره في الحياة ، ولغايات الحياة ذاتها ، وللمعرفة والعلم والعقل . وهذه «الصيغة» هي ما يعبر عنه في الفكر الغربي بمصطلح Paradigm . وأوثر ترجمتها إلى « الصيغة» استنادًا إلى أن من معاني اللفظة في اللغة الإنجليزية «الصيغة اللغوية» أو « الجذر اللغوي» الذي تشتق منه كلمات أخرى. ويترجم المصطلح في بعض الكتابات بأنه «الاتجاه» أو النموذج الأساسي ، أو النموذج الإرشادي، ولا أزكى هذه الترجمة ؛ لأنها تسوى بين مصطلح Paradigm ومصطلح  «نموذج» Model والفرق بينهما _ فيما أرى _ كبير.

أقول: إن التباين بين الفكرين : الغربي والإسلامي مرده إلى اختلاف في التصور «الاعتقادي» الذي يواكبه تصور« اجتماعي _ معرفي» يفرز اختلافات في « الرؤية الذهنية» لمفاهيم كلية ، أنتقى منها ما يلي :

مفهوم «العالم»

من ثوابت الفكر الإسلامي أن «العالم» عالمان : عالم «الغيب» المتصل بذات الله وصفاته ، وبالحياة الآخرة والملائكة والجن. وعالم « الشهادة» ويدخل فيه كل ما في الأرض وفي الكون من ذوات وأشياء وظواهر وأحداث وعلاقات تجرى وفقًا لسنن الله في الكون .

ومصدر العلم بعالم الغيب في التصور الإسلامي هو الله {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } (الأنعام :59) والمعارف المتصلة بعالم الغيب مصدرها هو «الوحي»، والإيمان بالغيب ضرورة في الاعتقاد الإسلامي ، وإنكاره       يخرج المرء من زمرة المؤمنين . وعالم الشهادة ماثل في كتاب الكون المفتوح ، الذي هيأ الله الإنسان لقراءته وتدبره بالبحث والدراسة ، والتجريب ، وتسخير ما فيه لعمران الأرض ، وفقًا لما شرع الله .

والفكر الغربي يتناقض تناقضًا حادًّا مع ما يتصوره الفكر الإسلامي عن العالم؛ إذ تحكمه بوجه عام «الفلسفة الطبيعية» التى يؤمن أنصارها بالعالم «المشهود» وحده ، ولا شيء قبله ولا شيء بعده ، وما عدا العالم المشهود خرافة «ميتافيزيقية»، وهذا يعنى رفض الوحي السماوى بصورة مطلقة ، ورفض فكرة «النبوة» والمعجزات ، وقصر المعارف على ما هو حسي ، أو ما يمكن أن يشاهد . وللمعرفة منهج مفضل في الفكر الغربي هو «المنهج التجريبي» .

مفهوم «الإنسان»

يؤكد الفكر الإسلامي في رؤيته للإنسان ، أنه أكرم مخلوقات الله ، وتميزه على ما عداه من المخلوقات راجع إلى ما فطره الله عليه من قابليات هيأت له قدرات في إدراك المؤثرات الكونية والاجتماعية ،والانفعال بها ، والاستجابة لها بكل ما ركب فيه من طاقات عقلية مثل التفكير ، والتأمل ، والتذكر ، والتدبر ، والتوقع ، واستشراف المستقبل ، والاختيار .

والإنسان _ في الفكر الإسلامي _ خليفة الله في عمارة الأرض بما أقدره الله عليه ، في الكشف عن أسرار الخالق في الكون ، وفي الأنفس ، وبقدرته على اختزان المعارف ، و استدعائها ، وتوليد معارف جديدة يوظفها في نشاط متجدد ، وابتكارات تؤدى إلى تنمية الحياة وترقيتها .

ويعترف الإسلام بالحرية الإنسانية ، وبالاختيار الإنساني ، دون حتم أو إطلاق ، فالفرد حر ، بحيث لا تنفى حريته حرية الآخرين ، والجماعة حرة بصورة لا تهدر حرية الفرد ، وأفراد النوع الإنساني متساوون في عبوديتهم لله ، ومتساوون في حقوقهم وواجباتهم، وليس في الإسلام خطيئة موروثة ، ويقرر الإسلام مسئولية الفرد {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه} (الإسراء : 13) {وَلاَ تَـزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىْ} (الأنعام : 164) كما يقرر المسئولية الاجتماعية {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِـــــهِم} (الرعد :11) والتبادل الفكري بين الثقافات غايته «التعارف» والتعارف  أولى خطوات التعاون والتكامل في أداء أمانة الاستخلاف عن الله في التعمير والإنشاء . والتبادل الثقافي مشروط بألا يكون فيه ما يناقض عقيدة الإسلام وشريعته {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَــــــــدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم} (البقرة:109).

وينظر في الفكر الغربي إلى الإنسان على أنه مفردة من مفردات «الطبيعة» وتؤكد «الوضعية المنطقية» والمدرسة السلوكية في علم النفس على أن «العلم الاجتماعي» الإنساني لا يختلف في طبيعته ولا في منهجيته عن « العلم الطبيعي» بمعنى أن البحث في العلم الاجتماعي يجب أن يجرى معزولاً عن السياقات الاجتماعية، ومفرغًا من القيم الدينية والخلقية أو الاتجاهات الفكرية والنفسية لدى الباحث، « والصرامة العلمية» والموضوعية الكاملة مطلوبتان في « البحث الاجتماعي» مثلما هما مطلوبتان في البحث  الطبيعى ؛ حتى يتأتي للعلم الاجتماعي أن يصل إلى قوانين ونظريات _ تضاهي قوانين العلوم الطبيعية والحيوية _ من شأنها أن تؤدى إلى التفسير «الموضوعي» للعلاقات والديناميات الاجتماعية وإلى «التنبؤ» بسلوك الأفراد والجماعات ، وأخيرًا «ضبط السلوك والتحكم فيه» .

مفهوما «العلم» والمعرفة

يصدق على مفهوم «العلم» في الإسلام أنه مفهوم شامل ، فهو يعني كل معرفة منظمة يصل إليها الفكر الإنساني ، من خلال : الوحي الإلهي ، والإلهام ، أو النظر والتأمل الذاتي ، والملاحظة والتجريب ، والتعامل الفعلي مع الظواهر الطبيعية والاجتماعية .

والمزية التى تنفرد بها «الحضارة الإسلامية» عما سبقها وما تلاها من حضارات هي أنها قد انبثقت من نصوص القرآن الكريم واعتمدت عليه ، وجاءت السنة النبوية المشرفة شارحة لنصوص القرآن الكريم. وقد كثفت السيدة عائشة رضى الله عنها تعبيرها عن أثر القرآن في بناء الحضارة الإسلامية حين سئلت عن خلق رسول الله e فأجابت : كان خلقه القرآن. وقد حدد القرآن الكريم إطار المعرفة الإنسانية بأنها النظر العلمي الدءوب إلى آيات الله _ عز وجل _ في الآفاق وفي الأنفس، وهو إطار شامل وواسع وعميق ، يشمل علوم الدين وعلوم الدنيا ، أو علوم النقل وعلوم العقل التى تستوعب كل ما أنتجه وينتجه الفكر الإنساني من العلوم والآداب والفنون التى تتسق مع فلسفة الدين الإسلامي ، وروح الحضارة الإسلامية التى وصفها  «ابن خلدون» بأنها حضارة عمران .

ودوائر المعرفة _ في الفكر الإسلامي _ رحبة واسعة ، تستوعب علوم الكون والحياة ، وتستوعب علوم الدين واللغة والاجتماع البشري ، وهذا ما تؤكده الآية الكريمة {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (سورة الأعراف :185) وإنتاج المعارف في هذه المجالات الواسعة والممتدة والعميقة والمتجددة _ لا يتم إلا بالمعاناة وبذلك الجهد ، وتنوع المنهج ، والصبر على ما يلاقيه العلماء في سبيل تحصيل المعارف وتوليدها وشكر المنعم على ما يتم إنجازه منها. وصدق الله العظيم القائل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ ءَايَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُــلِّ صَبَّـارٍ شَكُور} (لقمان : 31) .

هذا ويمكن القول _ دون مخاطرة كبيرة _ أن الفكر الغربي استنادًا إلى الصيغة الكلية السائدة  فيه يمايز بين المعارف ، ويميز بعضها عن بعض . ومناط التأكيد في الفكر الغربي علىالعلوم الطبيعية والحيوية ولا اعتراض لنا على هذا التأكيد؛ إذ إن هذه العلوم تتصل أوثق اتصال بحياة الإنسان ، والإنجازات فيها كما يقول الشيخ محمد الغزالي _ يرحمه الله _ : أولى من معرفة فروع شتى في فقه العبادات والمعاملات؛ لأنها الأصل ، ورعاية الأصل أرجح من رعاية الفروع(15) .

ولعل ما يلفت الانتباه في الفكر الغربي بالنسبة لمفهومي : العلم والمعرفة هو التصنيف الغربي الشائع للمعارف ، وحصرها _ في الأعم والأغلب _ في صنفين أساسيين، هما : معرفة الماهيات”know what’s”  ومعرفة الكيفيات أو التقنيات ”know how” وإهمال صنف ثالث يتحكم _ أو ينبغي أن يتحكم _ في توليد المعارف وفي توظيفها ، وهو مجال واسع تدخل فيه المعتقدات الدينية والقيم الخلقية والمعارف النقلية والعقلية التى تضبط توليد وتوظيف المعارف المولدة في مجالي: الماهيات والتقنيات، وهو مجال وردت إشارة ذكية إليه فيما كتب أحد فلاسفة الغرب عام 1975(16) .

وقد أدى إهمال الفكر الغربي الواضح لهذا المجال الذي يعبر عنه على أنه مجال معرفي يتصل بتحديد غايات العلم وتعيين مسارته”know where to” أدى هذا الإهمال إلى أن يشيع في الفكر الغربي أن الطريقة الوحيدة لتوليد معارف صادقة يعتمد عليها هي «التجريب والتحليل» وهذا -فيما أرى- افتراض خاطئ تؤكد خطأه دراسات كثيرة ، أجريت في الغرب حول طرق المعرفة ، وأثبتت أن لتوليد المعارف طرقًا شتى حددتها في أنها : أساليب روحية Spiritual وإلهامية Intuitive وعملية Practical وجمالية (Aesthetic (17.

مفهوم العقل :

ومن أبرز المعالم الفارقة بين التصور الإسلامي والفكر الغربي المعاصر مفهوم «العقل» ؛ فالفكر الغربي يعزل الدين عن الدولة ، وينفى عالم الغيب ، ويحيله إلى التفكير الخرافي أو الأسطوري ، ولا يؤمن كثير من مفكري الغرب بالوحي، ولا بإعمال النصوص القرآنية المحكمة في أمور تخص الشئون الدنيوية ، ويرون أنه لا سيادة على العقل إلا للعقل ، وأن المعارف المستقاه من النصوص الدينية يجب أن تبقى محصورة في العبادات والطقوس الدينية، وأن الباحث العلمي يجب ألا يسقط أيًّا من معتقداته ، أو القيم والمبادئ التى يؤمن بها على موضوع بحثه ، أو أن يتأثر بأي منها في منهجية البحث ؛ فالموضوعية «الصارمة» في البحث العلمي مطلب أساسي في البحث . وأفضل البحوث هي تلك التى تستخدم فيها المعادلات الرياضية البحتة. ويسوى الفكر الغربي في «منهجية» البحث بين الموضوعات الجيولوجية والموضوعات النفسية والاجتماعية ، والموضوعات الاقتصادية، بحجة أن منهج البحث العلمي واحد ، وأن تعريف «العلم» مؤسس على منهجه ، وليس على الموضوع الذي يتناوله الباحث بذلك المنهج ؛ إذ إن الموضوعات تتعدد وتتنوع أما منهج البحث العلمي فواحد من حيث المبادئ العلمية ، فلا فرق بين أن يكون موضوع البحث العلمي سرعة الضوء وقوانين انعكاس الأشعة أو انكسارها ، وبين أن يكون موضوع البحث هو تذكر الإنسـان ، أو الفوارق الطبيعية في المجتمع(18) .

والتصور الإسلامي يمجد العقل ، ويرى أن إعماله في شئون الدين وشئون الدنيا على سواء فرض عين «ويتفق أهل الملة الإسلامية _ إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه_ على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل»(19) .

والقرآن الكريم _ معجزة الإسلام _ حجة عقلية ، وكثيرة تلك الآيات التى وردت فيه تحض على إعمال العقل ، وتدعو إلى التفكير والتدبر والنظر في آفاق الطبيعة وفي أنفس البشر _ فرادى ومجتمعين .

والعقل هو أثمن ما وهبه الله لعباده وفطرهم عليه، ولكنه لا يولد تامًّا ناضجًا وإنما يتم وينضج بوسائل شتى ، تقوم عليها قوى تربوية مختلفة : التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة ، ومؤسسات التعليم ، والإعلام ، وقادة المجتمع في مستوياتهم المختلفة .

ونظرًا لتوزع جهود تنمية العقل بين هذه المؤسسات كان ضروريًّا أن تكون هناك مرجعية نهائية ، يحتكم إليها الناس إذا اختلفوا ، بعد إعمال عقولهم في أمور دنياهم ودينهم ، والمرجع النهائي في شئون الدين والدنيا هو رأى الأمة ، أى رأي «العقل الجمعي» لأهل المعرفة والثقة في المجال المختلف . وهكذا يتضح أن الإسلام لا ينفى العقل ، بل يمجده ويدعو إلى إنمائه ، ويؤاخي بينه وبين النقل في «وسطية» رشيدة وعاقلة.

وقصور العقل البشرى أمر يشهد له التقدم العلمي والتقني عبر العصور ، فما ارتأته عقول البشر من العلماء في القرن الثامن عشر الميلادي _ مثلاً _ قد أبطلته عقول العلماء في القرن العشرين؛ حتى ليبدو أن ما كان ينظر إليه في الماضي على أنه «نظرية علمية» استحال إلى ما يشبه الأساطير والخرافات بمضى الوقت، وبتعاون العقل البشري الجمعي في المجالات المختلفة التى دعا الإسلام إلى متابعة النظر فيها وتسخيرها أفضل تسخير ممكن للعمران البشري ، الذي استخلف الإنسان في تأسيسه وتطويره بما يلائم احتياجات الناس ومعطيات الإنجازات العلمية والتقنية في الحضارة الإنسانية .

الحوار : السبيل الأوحد للتعامل

أحسب أني لا أبالغ إن قلت إن الحوار هو السبيل الأوحد للتعامل بين الثقافات والجماعات والأفراد . وأعتقد أن الخبرة الإنسانية المشتركة _ حتى اليوم _ ترفض العنف والتحارب والتصادم والصراع . وترى أن الدعوة إلى أي من بدائل الحوار لا تعنى في التحليل النهائي إلا تدمير الذات ، وإبادة الجماعات وتخلف المجتمعات . وأنها دعوة «جاهلية» تحط من قدر الداعين إليها ، وتسيء إلى حاضر البشر ومستقبلهم، وخاصة في عصر تقدمت فيه وسائل التواصل بين الناس بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية .

فلنسلم بأن الحوار بين البشر منجاة من شرور كثيرة لا تحتملها الإنسانية، ولنتساءل ما كنه هذا الحوار الذي نقترح أن يقوم بين الفكر التربوي الغربي والفكر التربوي في الدول العربية الإسلامية ؟ وما الشروط والملابسات التىتكفل إنجاح مثل هذا الحوار المنشود؟ فلننظر في المعنى اللغوي أولاً .

حار يحور حورًا : رجع ، وفي القرآن { إِنَّــــــــهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُور } (الانشقاق :14) ، والحوار أو المحاورة يعنيان تبادل الكلام بين طرفين في أمر يهمهما ، وفيه معنى الجدل ، ففي القرآن الكريم {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (الكهف :34) والتحاور «يعني أن يراجع فرد أو جماعة كلام فرد آخر أو جماعة أخرى . وفي القرآن الكريـم {وَاللَّهُ يَسْـــمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (المجادلة :1) .

«والمحور» : العود من حديد أو غيره تدور عليه البكرة، و«المحور» في الهندسة: الخط المستقيم الواصل بين قطبي الكرة، وجمعه «محاور» وهي المراكز الأساسية التى يدار حولها. ويقال : قلقت محاوره : اضطربت أموره(20) .

ويستفاد من هذه المراجعة اللغوية أن الحوار يتصل بكليات الأمور ومحاورها ومراكزها ، وأنه أداة للوصل بين طرفين أو قطبين ، وأنه وسيلة لتجنب القلق والاضطراب في أمور تهم حياة البشر . تلك هي الدلالة المعجمية للفظ «الحوار» وهي وحدها غير كافية، ويجب أن تستكمل بدلالة «السياق» .

والسياق يعنى أن ينظر في الحوار دائمًا إلى تأثير الأزمنة والأمكنة والأحوال العامة التى تكتنف الحوار ، لما لها من آثار إيجابية وسلبية في مسيرة الحوار وفي العائد منه .

والحديث الذي أسلفناه _ حتى الآن _ في هذه الدراسة أريد به الإحاطة قدر الطاقة بالمعالم الأساسية في سياق الحوار المنشود بين الفكر التربوي الغربي المعاصر وبين التربويين العرب .

ورغبة في تجنب التكرار فإنى أرى هنا أن الحوار المنشود يراد له أن يتم بين عقلين جمعيين : عقل عربي مسلم ، وعقل غربي . والوصال العقلي بين فردين أو جماعتين يعنى أن يفقه كل طرف في الحوار كنه الخطاب السائد عنه في عقل الطرف الآخر ؛ أي أن الطرفين المتحاورين لا يقدمان على الحوار، وعقل كل منهما صفحة بيضاء فارغة من تصور للآخر ، ولكن الحوار دائمًا يجرى متلبسًا بصورة ذهنية مستقرة في عقل كل طرف عن الطرف الآخر. وهذه الصورة الذهنية ذات أثر كبير على الحوار . فما هو الخطاب السائد عن العرب والمسلمين في الفكر الغربي؟

قد لا نجاوز الحقيقة كثيرًا إن قلنا: إن المقولات الغربية الشائعة عن العرب في الفكر الغربي تمثل «التيار الرئيسي» في هذا الفكر ، وللتيار الرئيسي جانبان يوازيانه في المسيرة ويختلفان عنه في شدة المقولات وحدتها ؛ فثمة جانب يتصور العرب في أوضاع أفضل مما يشيعه «التيار الرئيسي»، وهناك جانب آخر يرى أن صورة العرب أسوأ كثيرًا مما يتصور «التيار الرئيسي» في الفكر الغربي بعامة .

وفي ضوء هذا التحديد أقول : إن الشائع في البيئات الغربية عن العرب سواء في ذلك المؤسسات العلمية والسياسية تمثله مقولات على النحو التالي(21) :

_ إن العرب بسبب ارتباطهم بالإسلام لا يتقبلون ما يتحدث عنه الفكر الغربي وتشير إليه كلمات مثل الحرية ، والديمقراطية ، وتعدد الآراء ، وتنوع الرؤى ؛ ولذا فإن محاولات التحديث والتقدم في البيئة العربية سوف تفشل تمامًا .

_ إن الثقافة العربية تمثل نسقًا مغلقًا، وإن أبناءها عاجزون عقليًّا ونفسيًّا عن استيعاب الآخر فكرًا أو ثقافة أو حضارة.

_ إن العرب إن أرادوا نهوضًا وتقدمًا فإن عليهم أن يسلكوا ذات المنهج الذي سلكه ويسلكه الغرب منذ عصر النهضة، بمعنى أن يتخلوا عن القيم الدينية المعوقة للتنوير والتقدم الحضارى _بالمفهوم الغربي _ وأن يتبنوا القيم التى آتت ثمارًا جنية في ثورات الغرب : الثورة العقلية والثورة الصناعية والثورة العلمية والتقنية التى تتجلى للناظرين في كل مرافق الحياة .

وسبيل العرب إلى هذا أن يكونوا تابعين للغرب باختيارهم ، فهذا أفضل من أن يقهروا على تبيعتهم للغرب ، ومن أجل هذه الغايات الغربية كان التنادي بالعولمة وضرورة اللحاق بالدول المتقدمة في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية .

وإحقاقًا للحق يجب أن نقرر هنا أن هذا الخطاب «الاستتباعي» لا يقتصر على مفكري الغرب ؛ وأن مقولاته الرئيسية قالها مفكرون عرب ، ولا يزال بعض المفكرين يرددها في الصحافة اليومية والأسبوعية ، وفي الندوات والمؤتمرات . وأصحاب هذه المقولات من المفكرين العرب لا يمثلون «التيار السائد» في الفكر العربي الإسلامي ، وإنما يمثلون «صفوة» بعض النخب الثقافية في بعض الدول العربية من العلمانيين والماركسيين ، ممن ابتلوا بالتغرب والتبعية الفكرية للغرب الرأسمالي الليبرالي أو الغرب الذي كان «اشتراكيًّا» أو ماركسيًّا .

هذا والخطاب السائد في البيئات العربية عن الفكر الغربي تمثله مقولات مثل مايلي :

_ التيار السائد في الفكر الغربي تيار متعصب ، وكاره للإسلام والمسلمين. وشواهد هذه الكراهية ماثلة تاريخيًّا في موجات الحروب الصليبية، وفي الاستعمار الغربي للدول العربية بكل ما صاحبه من استعمار سياسي واقتصادي وثقافي . وحين فشل الغرب في الاستعمار الاستيطاني لجأ إلى غزو عقول العرب ثقافيًّا، واستخدم في هذا كل الحيل ، واصطفى حكومات عربية تيسر له كل مظاهر الهيمنة والاستعلاء على شعوبها.

_ إن العلاقات القائمة بين الدول العربية والدول الغربية ، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ، تتسم بأنها تتم لمصالح الدول الغربية التى تعلى دائمًا القيم المادية على القيم الروحية ، وتهدر كرامة الشعوب الأخرى في سبيل رخاء الحياة في الدول الغربية .

_ وأقرب الشواهد الراهنة «التحيز» الفاضح الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد العرب في مناصرة إسرائيل ضد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ، والحصار القاتل الذي يمثل إبادة جماعية للشعب العراقي ، والحصار الذي ظل مفروضًا على ليبيا لسنوات طويلة ، والحصار المفروض على السودان ، ومساعدة إسرائيل بصورة مباشرة في التسليح المتميز ؛ لتظل متفوقة دائمًا على الدول العربية جميعها .

_ سعت الدول الغربية بوسائل شتى إلى تعميق تجزئة الدول العربية ، وتشجيع النزاعات القطرية لدى الحكام والمثقفين العرب ، وإثارة النزعات الطائفية والعرقية والدينية لدى الأقليات في الدول العربية .

_ مساندة الأنظمة الحاكمة المستبدة بشعوبها في الدول العربية ، وتناسى الديمقراطية وحقوق الإنسان في الدول العربية ، واصطناع معايير مزدوجة في القضايا الإقليمية والعربية ، يكفل للولايات المتحدة بخاصة ، والدول الغربية بعامة، إحكام قبضتها على الدول العربية سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا.

_ إن التفوق العلمي والتقني الراهن في الغرب قد مكنه عن طريق وسائل الإعلام العالمية والمحلية أن يزرع في نفوس العرب مشاعر الإحساس بالدونية والانبهار بإنجازات الغرب ، والافتتان بحضارته .

وأحسب أن مقولات هذين «الخطابين» سوف تكون ماثلة بصورة مكثفة أو مخففة، حين يلقى الفكر العربي الفكر الغربي ، في مجالات التربية والتعليم. وعلى كل طرف من طرفى الحوار أن ينقد بطريقة ذاتية وطواعية الصورة الذهنية التى ترسبت ورسخت في عقول أبنائه ووجداناتهم عن الطرف الآخر ؛ وهذا يعنى أن يلتزم ممثلو الطرفين بشروط محددة للحوار.

شروط لنجاح الحوار

1_ أن يستقر في عقول  ووجدانات ممثلي الطرفين أن فكرة «الاستئصال الثقافي» أو «الاستبدال الثقافي» ، بمعنى أن يتخلى أبناء ثقافة ما عن انتمائهم إلى ثقافتهم وأن يدخلوا مكرهين في ثقافة أخرى «عمل غير أخلاقي» ، ولا يقل في بشاعته وسذاجته أيضًا عن الهيمنة العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية ، وماثل لكل ذي بصر وبصيرة حالة الدول الإسلامية في الاتحاد السوفيتي وحالة البوسنة والهرسك وكوسوفا في أوروبا.

2_ أن يعلن الطرفان عن أن الغاية من الحوار هي التبادل والتشاور من أجل التعارف الذي يعقبه تآخ إنساني و«تكافل» مهنى في أمور التربية ، وهذا هو قلب عملية التنمية المنشودة في كل أنحاء العالم .

3_ تعميق الإيمان بأن «التنوع الثقافي» و«التغاير الحضاري» مصدر غنى من مصادر الحضارة الإنسانية ، وأن الحضارة الغربية في مرحلة من مراحل تطورها قد ازدهرت وأثمرت بفضل ما نقلته عن الحضارة العربية التى نشأت في الأندلس ..وكانت الحضارة العربية قد استوعبت ما سبقها من حضارات : اليونانية والرومانية والفارسية ، فصهرتها في بوتقة إسلامية استفاد منها الغرب في عصر نهضته ، على نحو يشهد به المعتدلون من مفكرى الغرب .

4_ أن يؤمن ممثلو الطرفين أن حوارهما _ في جوهره _ ليس حوارًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا وإنما هو حوار مهني، والحوار المهني شأنه شأن العمل المهني _ هدفه الجوهرى هو خدمة البشر، ورفع مستواهم ، وزيادة فاعليتهم العقلية، وتعضيد كفايتهم الاجتماعية؛ ليكونوا أكثر قدرة على إعمار الكون، وأعظم أثرًا في تحقيق سعادة الإنسانية، وفي عبارة أخرى أقول : إن المهنى في عمله وفي حواره يجب أن يتخلص من أي ضغط تمليه عليه في خدمته للناس قوة سياسية أو إدارية أو اقتصادية أو عسكرية ، محلية كانت أو إقليمية أو دولية ، كما يجب أن يتجنب الأهواء والشهوات العرقية والدينية والجنسية والطبقية والاجتماعية .

5_ ومن شروط الحوار المنتج أن يفقه ممثلو كل طرف فيه حقيقة «الخطاب السائد» في ثقافته هو عن ثقافة الآخر الذي يحاوره ، وأن ينقده نقدًا ذاتيًّا موضوعيًّا ؛ ليتبين أوجه الصواب ، ومواطن الخطأ في هذا الخطاب ، وأعتقد أن مثل هذا النقد سوف يسفر عن كثير من الجوامع المشتركة بين الفكر الغربي والفكر العربي الإسلامي ، وسوف يتأكد التربويون الغربيون أن ما يُشاع عن الثقافة العربية في أذهان الغربيين ، من أنها ثقافة عدوانية يتسم أبناؤها بالعنف والجمود أو التصلب ظلم فادح وجهل  فاضح . وفي ضوء مثل هذه الشروط يتوقع أن يجرى الحوار المنشود في جو يتسم بالندية والحرية ، وينأى عن الاستعلاء ، أو الشعور بالنقص ، أو الافتتان بإنجازات سطحية مؤقتة في أي من الجانبين : عالم الغرب والعالم الإسلامي العربي .

وأنتقل الآن إلى بيان الكيانات التى تقوم بهذا الحوار ، والصور التي يمكن أن تحقق غاياته .

كيانات الحوار وصوره:

أحسب أن التحاور بين الفكر التربوي الغربي المعاصر والفكر العربي الإسلامي يجب أن ينهض به المؤهلون لهذا الحوار علميًّا ومهنيًّا، وأعنى بذلك أن يستشعر التربويون في الفكرين العربي والغربي أنهم ينتمون إلى «مهنة» تتوزع نشاطاتها في الثقافات المختلفة ، ولكنها توشك أن تكون ثقافة خاصة ، لها معايير عامة محددة ، تتمثل في نشاطات كلية يتم التركيز عليها، وإن اختلفت أساليب الأداء فيها من ثقافة إلى أخرى، ولاستيعاب هذه الثقافة وسائل مختلفة أبرزها ما يلي :

1_ الابتعاث للدراسة وللتأهيل العلمي رفيع المستوى يتطلب أن يكون المشارك فيه من كل طرف من أطراف الحوار فقيهًا تربويًّا ، عليمًا بغايات التربية ونظرياتها وممارساتها ، وليس لدينا مقياس محدد لهذا الفقه يمكن الاعتماد عليه سوى المؤهل التربوي ، وحده الأدنى في كل طرف من أطراف الحوار هو «درجة الدكتوراه» التى يتم الحصول عليها بالابتعاث الطويل إلى الجامعات العربية والغربية، وهذا المعيار يستبعد الممارسات الأرستقراطية بالبهلوانية غير المجدية _ في نظري _ وهي: ابتعاث عدد من المدرسين العرب إلى بعض دول أوروبا وإلى الولايات المتحدة الأمريكية ؛ للاطلاع على التقدم التربوي في تلك الدول لمدة ثلاثة أو ستة أشهر . مثل هذه الممارسة _ فيما أرى _ مدعاة للإحباط ، ومثيرة لليأس ودعوة للافتتان بالآخر ، فكيف يتصور أن يستفيد معلم أو مدير مدرسة من مثل هذا الابتعاث ، وهو بالتأكيد غريب عن الثقافة الغربية ، وغير مجيد للغة البلد الذي يبتعث إليه، وما يتناقله المعنيون بأمر تدريب المعلمين عن هذه الممارسة من أحداث وحكايات يخجل منها كل تربوي عربي ويجب العدول عنها بصفة نهائية.

ولست أريد أن أفرض تصوري للابتعاث إلى الدول الغربية وقد مارسته لمدة خمس سنوات إلى الولايات المتحدة، ولكنني أقول إن الحد الأدنى للابتعاث الهادف إلى معرفة نظم التعليم في الدول الغربية يحتاج في الأقل إلى ثلاث سنوات لمن يجيد لغة البلد الذي يبتعث إليه .

2 – توثيق العرى بين الجمعيات المهنية العربية والغربية :

في دول الغرب جمعيات مهنية ذات شأن عظيم في تبادل الحوار المهني بين الفكر الغربي والفكر العربي الإسلامي ، وواجب أن تنفر طائفة من التربويين العرب لاكتساب العضوية العاملة في هذه الجمعيات ، والمشاركة في أعمالها وأزكي في هذا الصدد المؤسسات التي يتضمنها الملحق الأول في هذه الدراسة.

ويتمثل التبادل في حضور المؤتمرات والندوات والحصول على الدوريات الشهرية ، وربع السنوية والكتب التي تصدر في مجلدات خاصة سنوية عن هذه الجمعيات .

3 ـ الترجمة :

في بعض البلاد العربية مشروعات قومية للترجمة من لغات أجنبية، وقد دلني اطلاعي على الكتب المترجمة في نطاق هذا المشروع في جمهورية مصر العربيـة ( المجلس الأعلى للثقافة ) خلوه من ترجمة بعض الكتب في الفكر التربوي الغربي إلى اللغة العربية ، وأحسب أن مشروع ترجمة « الألف كتاب » الذي اضطلعت به إدارة الثقافة في وزارة التربية والتعليم في خمسينيات القرن العشرين وستينياته كان أكثر اهتمامًا بترجمة الفكر التربوي الغربي .

ولذا فإن كليات التربية والجمعيات المهنية التربوية في الوطن العربي بحاجة إلى أن تختار – وفقًا لمعايير ونظام أولويات – بعض الأدبيات التربوية الغربية لترجمتها إلى اللغة العربية، ولست بحاجة كبيرة إلى لفت الانتباه إلى أن الترجمات التربوية تحتاج إلى أن يستحوذ من يتولاها على ثلاث مهارات : إجادة اللغة التي يترجم عنها، وإجادة اللغة العربية ، وأن يكون على قدر كبير من المعرفة والخبرة بدلالة المصطلحات في اللغة التي يترجم منها ، وفقًا لدلالة الأسيقة العامة والخاصة التي تكتنف المواد التي يراد ترجمتها .

4 – تبادل الزيارات بين أعضاء هيئات التدريس :

ومما يثري الحوار بين التربويين في الدول الغربية ونظرائهم في الدول العربية تنظيم برامج تبادل الزيارات بين أعضاء هيئات التدريس في كليات التربية والعاملين في وزارات التربية والتعليم وفي مراكز البحوث المختلفة، وأعتقد أن برنامجًا لهذا التبادل كان قائمًا إلى وقت قريب ويستفيد منه أعضاء هيئات التدريس في كليات الطب والهندسة والعلوم والصيدلة، ويجب أن يتم التوسع فيه ليشمل كليات التربية في العالمين العربي والغربي .

5 ـ تنسيق جهود التبادل التربوي :

ورغبة في تنظيم الجهود التي تبذل في تحقيق أهداف الحوار المنشود يجب أن تقوم في الدول العربية هيئة أو أكثر بتنظيم جميع الجهود التي تبذلها المنطقة العربية وتنسيقها، تفاديًا للتكرار ، ورغبة في تقليل التكلفة وتجنب إهدار الوقت والمال ، وأقترح أن يعهد بهذا التنظيم والتنسيق إلى وزارات التعليم في كل بلد عربي بمعاونة جمعياتها التربوية والمهنية ، وأن يتولى مكتب التربية العربي لدول الخليج ومنظمة التربية والثقافة والعلوم بجامعة الدول العربية بتنسيق وتقويم الأنشطة التي تبذل في مجالات هذا الحوار التربوي ، وأن تحرص المنظمة والمكتب على دعم جهود التبادل التربوي بين الغرب والدول العربية ماديًّا ومعنويًّا .

طبيعة العلم التربوي :

ومن موجبات معرفة السياق الذي يجري فيه تحاور التربويين العرب مع الفكر التربوي الغربي أن يفقه طرفا السياق كنه الموضوعات التي يدور حولها الحوار ، وأعني بذلك طبيعة مـا نطلـق علـيه « العلم التربوي »، إن علم التربية ليس علمًا خالصًا يضارع في بنيته العلوم ذات البنية المنتظمة محكمة البناء كالفيزياء أو اللغة ؛ إذ أن لكل منهما بنية ـ مستقرة نسبيًّا ـ يبني فيها اللاحق على السابق ، ويثري تعلم السابق منهما تعلم اللاحق وييسره على نحو يستفيد منه واضعو المناهج ومطوروها والقائمون على التدريس، ابتغاء تحقيق الهدف الأسمى من التربية وهو « التعليم » .

والتربية ـ فيما أرى ـ علم من علوم الأداء أو علم من علوم الممارسة، كالطب والزراعة والهندسة. وتتميز علوم الأداء جميعها بأنها تستند إلى علوم أساسية أخرى ، تتوافر فيها نظريات وقوانين ومباديء تتصل ( والحديث عن التربية ) بطبيعة المتعلم ـ بدنيًّا وذهنيًّا ووجدانيًّا ـ كما تتصل بطبيعة المادة التي يتعلمها، واستراتيجيات تعلمها وتعليمها، وللتربية روافد من مجالات معرفية نظرية متخصصة مثل : الفلسفة وعلم النفس وعلوم اللغة وعلم الاجتماع وعلم الحياة والفسيولوجيا وغيرها من العلوم والمعارف، وتظل الروافد معارف نظرية، وقيمتها لعلم التربية مرهونة بممارستها ، واكتشاف مدى صدق هذه المعارف وصلاحيتها في الممارسة الفعلية في بيئة اجتماعية معينة.

والفجوة بين المعارف النظرية وتوظيفها في مجالات الحياة ليست مقصورة على التعليم بوصفه مهنة ، ولكنها عامة في كل المهن، ففي الطب مثلاً يتندر الأطباء بسلوك بعضهم في إجراء العمليات لكل الناس وفي جميع الحالات بطريقة تطابق ما هو مذكور في كتاب ما دون مغايرة تلائم بين النصوص الطبية والحالة الصحية والنفسية والثقافية للمريض، ودون اعتبار للتفاعلات الدينامية بين وظيفة الجزء الذي تحوي عليه الجراحة وباقي الأنظمة في بنية المريض .

وقد أسلفت القول في موضوع سابق ـ بهذه الدراسة ـ في أن التعليم  ومؤسساته يمثلان ثقافة فرعية، سوغت لبعض العلماء أن يتحدثوا عن ثقافة كل مدرسة على حدة .

ونضيف هنا أنهم يتحدثون عن نظام التعليم في كل مجتمع علي أنه نسق ثقافي إيكولوجي (22).

«ووصف التعليم بأنه » «نسق إيكولوجي» يعني أنه ليس نظامًا مستقلاًّ بذاته ، منعزلاً عن الأنظمة الأخرى في المجتمع : النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي والإداري ، ولكنه نظام وثيق العرى بكل هذه الأنظمة ، يغذيها ويتغذى منها ، في صورة دينامية ويتأثر بها جميعًا ويؤثر فيها .

ولذا فإن الحوار المنشود لا يجوز أن يقتصر على فنيات التعليم وتقنياته؛ لأنها فروع، ولا يجوز أن نتعامل مع الفرع التربوي دون أن نفقه جذره الثقافي ، وسوف أنتقي لأغراض هذه الدراسة ـ بعض النماذج الفكرية في التربية لتكون موضوعات للحوار .

* والنموذج التصوري ليس تركيبًا ذهنيًّا مجردًا ، وإنما هو تصور يلتئم في النظر الفكري مع خطة للتطبيق العلمي، إنه تركيب يصدق عليه أنه أكبر من النظرية، وهو في ذات الوقت أصغر من النظرية، كيف ؟

* النموذج أكبر من النظرية؛ لأنه يمتاز عنها بإجراءات ترسم خطة للتطبيق العملي في مجال ما ( المناهج ـ التدريس ـ التقويم، ونحو ذلك ) أما كونه أصغر من النظرية فيعني أنه لا يُعْني في تصميمه باللجوء إلى البدهيات والمسلمات والمبادئ والقوانين التي تكون النظرية، وإنما تكون ماثلة فيه على أنها تضمينات مسلم بها، وإن لم يتم الإفصاح عنها في تصميم النموذج (23)، ولن أعرض النماذج على النحو الذي تعرض به أكاديميًّا، وأنما سأتبدل بها أسئلة تعبر عن جوهر النموذج .

* ووصف التربية في مجتمع ما بأنها نسق ثقافي سمة تجعل التواصل في شأنها بين الثقافات المختلفة أصعب كثيرًا من التواصل فيما يخص العلوم الطبيعية والحيوية والتقنية وغيرها من العلوم التي يتفق – أو يمكن أن يتفق – على دلالات مصطلحاتها ومفاهيمها بين ذوي الثقافات المختلفة ، ويمكن معرفة أو معاينة مكوناتها أو عملياتها .

* ويقال في الصعوبة التي يواجهها الحوار البناء في العلوم الاجتماعية: (إن الالتزام بالحياد الموضوعي في ملاحظة الظواهر الاجتماعية ـ وخاصة عندما يراد تفسير سلوك الفرد ـ تستخدم فيه مصطلحات ومفاهيم معبأة بقيم ومعتقدات ثقافية لدى من توافقوا على استخدامها ، وذلك حادث في الظواهر الطبيعية أيضاً ، ولكن المشكلة تتضاعف حين يلجأ إلى الوضعية المنطقية في الظواهر الاجتماعية، وتضاعف الصعوبة في العلم الاجتماعي ينشأ من أن الألفاظ والمصطلحات ذاتها معبأة بقيم ثقافية معينة يجب أن تفهم مرتبطة بالسياق الذي نشأت فيه، وأن من يستخدمونها أنفسهم لهم تصورات « ذهنية ثقافية خاصة » يحب أن يتم فهمها) (24).

ولذا فإن الحوار المنشود يحتاج إلى أن تبذل فيه جهود رؤية غير عادية ، وأن يختار له أفضل الكفاءات المتاحة في العالم الغربي ، ومن نظرائهم في العالم العربي، وغني عن البيان أن الركيزة الأساسية في نجاح هذا الحوار هي أن يتضح في أذهان ممثلي كل طرف من أطراف الحوار الجذور الأساسية للتباين بين الفكر التربوي الغربي والفكر التربوي الإسلامي بصفة عامة ، وهي ماثلة ـ كما أسلفت القول عنها في هذه الدراسة – في التصور الإسلامي العام أو التصور الكلي للكون وللحياة، وأن يتفق على الجوامع الحضارية المشتركة بين الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية، وهي كثيرة في التعلم والتعليم.

وأعتقد  أن كثيراً من مراكز الدراسات الإسلامية قد أنشئ في العالم الغربي ، والهدف الأساسي لإنشائها هو تقديم صورة صحيحة وعميقة عن المذهبية الإسلامية في شئون الدين والدنيا على سواء . وأعتقد أيضًا أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن ، وفروعه في المدن الغربية الأخرى ، يمكن أن يقدم خدمات جليلة في هذا الشأن تفيد الفكر التربوي في الغرب وتيسر تعامل العرب المسلمين معه .

عمليات التواصل العقلي

قلت في موضوع سابق : إن التعامل مع الفكر التربوي الغربي المعاصر يمثل لقاء عقل جمعي عربي بعقل جمعي غربي، وأضيف هنا أن السياق العالمي الذي يكتنف العالم اليوم من شأنه أن ييسر هذا اللقاء ، فثورة المعلومات والثورة العلمية والتقنية، وخاصة ما يتصل بتقنيات الاتصال قد اختصرت المسافات الزمينة والمكانية ، وأتاحت في يسر المواد التي  يمكن الحوار حولها ، وليس ضروريًّا أن يكون الحوار مباشراً ، وجهًا لوجه ، وليس ضروريًّا أن تكون مادة الحوار كلامًا ملفوظا أو مكتوبًا، وإنما يمكن أن يكون صورًا أخرى من صور الإبانة عن الفكر ، والتعبير عن المعتقدات والقيم والاتجاهات، وإبراز السلوك المفضل لدى الناس بصورة عملية .

وفي عبارة أخرى أقول : إن وسائل التعامل مع الفكر الغربي تتمثل في التعامل مع رموز ، قد تكون قولية أو رقمية ، أو فنًّا من فنون الأداء الحركي، أو التشكيلي .

وهذه الأدوات جميعها ليست الواقع أو الوقائع، وإنما هي تمثيلات للواقع كما تراه عين العقل الغربي من خلال بنيته الذهنية العميقة، وأي هذه الأدوات لا يمكن أن توصف بأنها تعبير كامل أحاط بكل جوانب الذوات أو الظواهر أو الأشياء أو الحالات التي يعبر عنها ، ولذا فإنها جميعًا حينما تقرأ أو تسمع أو تشاهد ، يجد من يتلقاها، إن دلالاتها ليست حاسمة، وأنها متلبسة ببعض الغموض الذي يجب أن يَجِدَّ العقل الإنساني في كشفه ، والاستجابة له ، ومعرفة مكنوناته ، ومن خلال هذا التفاعل النشط يصل العقل المتلقي إلى صورة ذهنية لا تطابق الصورة التي توخى الطرف المرسل إرسالها وإنما هي نسيج عقلي جديد أنشأه المتلقي مستخدمًا في صياغته الجديدة خلفيته الذهنية ، وخبراته الماضية ووعيه بذاته ، ووعــيه بالآخــر ( المرسل ) ممزوجة بما استوعب من الرسالة التي لقيها أو تلقاها.

والعمليات التي تحدث في التواصل العقلي – اليوم – موضوع لكثير من الأبحاث التي تدور في فلك النظرية البنائية Construction ونظرية تشغيل المعلومات Information Processing وعلم نفس التعرف Cognitive Pathology ولا يتسع المقام هنا، وليس في طاقتي، أن أرصد عمليات التواصل العقلي من منظور كل نظرية أو علم مما أشرت إليه، وسأكتفي بإيراد تصور ذهني  عام لهذه العمليات ، أحسب أنها عمليات كلية عامة يمارسها الفرد في تواصله من خلال قراءة مادة جديدة ، أو الاستماع إلى حديث مباشر، أو «متلفز» أو مشاهدة فيلم أو مشاهدة تمثيلية أو مسرحية ، أو زيارة أحد المتاحف المتخصصة، أو المشاركة في ندوة أو مؤتمر.

أتصور أن لقاء العقول الممتد المنظم ، الذي يتوقع أن يكون منتجاً يسير في حركة دائرية دينامية مفتوحة على مثل الوجه التالي :

1- عملية التحسس أو الاستكشاف:

وهي أكثر المعالم أهمية ، وأشدها أساسية في نتاج لقاء العقول ، وفيها يتطلع كل مشارك في هذا اللقاء إلى معرفة أهداف التلاقي وأغراضه ، ويسعى إلى استبانة المعتقدات والمقاصد لدى المتحاورين معه ، ويود كل مشارك أن يعرف كيف يمكن أن يتحقق لقاء عقلي منتج مع تباين الثقافات، إنها -فيما أرى- عملية معبأة بذاتية كل مشارك .

ولا يعتمد المشاركون في اللقاء العقلي في هذه الخطوة من اللقاء على النظريات العلمية ؛ وإنما يتفاعل بعضهم مع بعض مستندين إلى نظريات حدسية  Intuitive  – إن جاز التعبير – يندر أن تكون معلنة أو مصاغة علي نحو مرضي، وتقع مثل هذه النظرية في نطاق ما يشار إليه في أحدث الكتابــات على أنـه علـم النفـس الشعبي(25).

هذا ونجاح هذه العملية في الوصال العقلي يتوقف على الإعلان الصريح عن أن غرض اللقاء هو استثمار التنوع الثقافي لصالح الفكرين ، وتجلية أن الغاية من اللقاء هي المشاركة في عمليات التنمية، وفي القلب منها العمليات التربوية، على نحو ما قدمنا من مواضع سابقة حين تحدثنا عن التعارف والتآخي والتكافل بين أبناء الثقافات المختلفة؛ أداء لأمانة استخلاف الله جل وعلا للإنسان ـ كل إنسان ـ في العمران .

2 ـ الاستيعاب والتمثيل :

وتنصب هذه العملية علي ضرورة ان يستوعب التربويون العرب والمسلمون الفكر التربوي الغربي ، والاستيعاب عملية أعم وأشمل من الفهم، ومن مقتضياتها الإحاطة بكل جوانب الموضوع المعروض ، المضيء منها والمظلم على سواء . وسبيل ذلك قراءة هذا الفكر في مصادره الأصيلة الموثوق بها، أو في ترجمات قام بها أكفاء ومجيدون في اللغة المنقول منها وفي اللغة العربية ، ممن لديهم  معرفة وخبرة كافية بالأسبقية التربوية ، ويحتاج الاستيعاب إلى جمع المعلومات وتنظيمها، وتصنيفها  بصورة تيسر استدخالها في عقل التربوي العربي المسلم، وتكشف عن دلالاتها الفردية والاجتماعية والمهنية والإنسانية ، وتعين على تفسيرها في ضوء البنى المعرفية / الذهنية للمذهبية الإسلامية . هذا وناتج هذه العملية يحدث زيادة كمية في حجم البنية الذهنية التربوية للفكر التربوي العربي، ولكنه لا يغيرها .

3 ـ المواءمة :

والمواءمة في نظر «بياجيه» مثلاً هي توأم العملية السابقة، «الاستيعاب والتمثل»، وتعني أن الزيادة الكمية التي حدثت من خلال عملية الإحاطة والاستيعاب السابقة لا تغني عن المدركات والتصورات والمفاهيم والأفكار التي أستدخلت في العملية السابقة على الحال الذي دخلت به ، وإنما تعرضها المواءمة لعملية تنقية وتصفية، وتسلط عليها موجات عقلية تشعها عليها الصبغة الكلية الإسلامية Paradigm وينشأ عن هذه العملية تغييرات كيفية في البنى المعرفية للتربوي المسلم ، تتمثل في توليد معارف ومفاهيم وممارسات جديدة أو تصحيح معارف قديمة خاطئة أفضى بها استيعاب الفكر الغربي والممارسة الغربية، التي لا تتناقض مع التصور الإسلامي الشامل .

وأستأذن في تقديم مثال توضيحي وشخصي هو أننى حين أقرأ عن المبررات الفلسفية والعقلية والتربوية في الكتابات الغربية لاستخدام مدخل «تعلم كل اللغة» -وليس فروعها أو فنونها- في تعليم اللغة العربية، أجد أن هذا الجديد الذي أقرأ عنه في الكتابات الغربية لا يتناقض بأي حال مع المنظور الإسلامي ، وأن هذا المدخل قديم في التراث العربي ، ابتدعه عبد القاهر الجرجاني وثابت في كتابه « دلائل الإعجاز» ؛ ولذا فإني سعيت إلى تبنيه في إعداد العناصر الشابة من أعضاء هيئات التدريس في مجال تعليم اللغة العربية ممن أشرف على بحوثهم للماجستير والدكتوراه في التربية .

4 _ عملية «التكامل _ التمايز» :

ويمكن أن يطلق عليها عملية «التعميم _ التخصيص» وفيها يسعى التربويون العرب بصورة تلقائية وعقلانية حرة إلى تجريب أو تبني بعض مقولات ونماذج الفكر والممارسة التربوية الغربية. ومن أمثلة جانب التكامل في هذه العملية _ في مسيرة التعليم في مصر _ تجريب وممارسة «طريقة المشروع» التى تنسب إلى الفيلسوف الأمريكي «وليام كلباتريك» في تعليم عدد من المواد الدراسية، بطريقة تتحدد فيها وحدة المعرفة ، ووظيفتها ، ونشاط المتعلم .

ومن أمثلة جانب « التمايز» في هذه العملية أن يرفض التربوي الغربي المسلم ما يقال في النقد الأدبي بالجامعات عن «الحداثة الغربية » و«ما بعد الحداثة»، وأن يحجم بشدة عن تطبيق مبادئ هذه الحداثة الغربية في التعليم ؛ لأنها مفهوم غربي محض ، نشأ في بيئة غربية وأفرزته ثقافة تؤكد على عدم وجود إله خالق للكون يقوم عليه ، وتشدد في عدم الخضوع للمقدسات ومنها نصوص القرآن الكريم ، وتدعو إلى تجاوز المحرمات أيًّا كانت مصادرها : دينية أو سياسية أو اجتماعية ، وتنادي بإطلاق حرية التفكير ، وحرية التعبير ، وتفتح الباب واسعًا أمام الإبداع العقلي بغير حدود أو ضوابط؛ لأن فلسفتها تقوم على مبدأ أنه لا سيادة على العقل  إلا للعقل ، وأن الإنسان سيد هذا الكون وأن الإله (وأستغفر الله ) قد مات ، وأن مؤلف النص قد مات أيضًا .

في المثال الأول الذي قدمته طريقة «المشروعات» استشعرنا نحن المدرسين العرب في المدارس النموذجية بمصر في أربعينيات القرن العشرين أن الفكرة الغربية يمكن استنباتها في الثقافة العربية، فقمنا بتجريبها ، بطريقة واعية ومنضبطة، وثبت نجاحها في المدارس المصرية، ومثلها طريقة «تكامل العلوم» في المدارس الابتدائية والإعدادية .

والمثال الثاني «الحداثة» و«ما بعد الحداثة» أجد – وأنا أحد التربويين العرب _ أن فلسفتها وتطبيقاتها تتناقض بصورة حادة مع التصور الإسلامي؛ ولذا فإن عقلي يحيلها إلى «فضلات» يجب أن يتخلص منها الفكر التربوي الإسلامي ، لأن بقاءها أو استبقاءها ضمن نسيجه سوف يسمم العقل العربي، وعلينا في هذا الصدد أن نتأسى بحكمة البدن «التى فطر الله عليها بدن الإنسان وهي تمثل الغذاء وتحويل الصالح منه إلى دم يجرى في شرايين الإنسان ويمنحه القوة، ويجدد طاقته ، والتخلص من الفضلات الضارة .

ويهمنى أن أؤكد أن العمليات العقلية التى تحدثت عنها هنا لا تؤدى وظائفها في ترتيب خطى تبدأ بالتحسس وينتهى «بالتكامل _التمايز» وأن عرضها على هذا النحو الرأسي كان الدافع إليه                تيسير الفهم والإفهام .

ولعل أصوب الآراء أنها عمليات «دينامية» يؤثر بعضها في بعض، وأنها تحدث متواكبة ومتزامنة ولا يستطيع المرء أن يقطع أين ومتى تبدأ أية عملية .

محاور التبادل التربوي

مع الفكر الغربي

أن يستقل تربوي واحد بوضع محاور التبادل التربوي مع الفكر الغربي افتئات على حق الجماعة التربوية؛ ولذا فإني سوف أقدم بعض المعايير التى يمكن أن تختار في ضوئها موضوعات الحوار ، وبعض الأمثلة لهذا الموضوعات :

معايير اختيار المحاور :

تختار موضوعات الحوار التى تسهم في تحقيق الأهداف التالية :

1_ أن يكون التعليم أداة لتغيير الشخصية   العربية المسلمة إلى حال أفضل مما هي عليه الآن ؛ كأن يقل اعتمادها على الآخر سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، وتنخفض لديها النزعة العارمة إلى الاستهلاك، ويرتفع التوجه إلى إنتاج المواد الأساسية ، وتقليل نسبة الجرائم ، وتمتين العلاقات داخل الأسرة وفي مواقع العمل ، وأماكن التجمعات الجماهيرية، وأن يكون التعليم _ أيضًا _ وسيلة إلى حفز الناس للمشاركة في القضايا الاجتماعية والسياسية ، والانشغال بالكليات لا بالجزئيات ، والجنوح إلى الإبداع لا الاتباع ، وتجنب الخوف من السلطة في مواقف التعامل الاجتماعي المختلفة ، وتنمية مهارات التفكير المدعم للذات والمجتمع والثقافة التى يعيش فيها وبها المواطنون ، والعزوف عن تقديس ما ليس مقدسًا .

2_ أن تكون الموضوعات المختارة للحوار نابعة من التحديات الفعلية التى تواجه الأمة العربية ، نتيجة لتحليل شامل وكامل لأوضاعها السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية . ولا يجوز أن تفرض أية قوة خارجية جدول أعمال لحوار تصب الجهود المبذولة فيه لغير صالح الأمة العربية ، بل يجب أن يكون القول الفصل في اختيار الموضوعات للجماعات التربوية .

3_ أن يستهدف في الموضوعات المختارة تأصيل الهوية الذاتية للأمة العربية، وخاصة ما يتصل بثوابت العقيدة الدينية، وترسيخ القيم الأساسية العليا التى يدعو إليها الإسلام، مثل : المساواة بين البشر ، وتأكيد الحرية المسئولة ، والعدل بين الناس في فرص التعليم وفرص العمل ، والتعاون وليس التنافس، والتكافل الاجتماعي لا الفردية المفرطة، والحياة الديمقراطية لا المستبدة المستغلة للبشر ولثروات الأمة .

أمثلة لموضوعات الحوار :

وفي ضوء مثل المبادئ التى قدمنا قبل، يمكن أن نقترح بعض النماذج التصورية للمعالم الرئيسية في التربية بوصفها علم أداء ، ولن أعرض هنا مثل هذه النماذج ، وإنما سأحول كلاًّ منها إلى سؤال حول قضية تربوية معقدة ، وذلك على الوجه التالي :

1_ ما الأهداف الكبرى التى يجب أن يتوجه إليها التعليم في الأمة العربية؟

_ اللحاق بالدول المتقدمة وعدم الالتفات إلى تراث الأمة .

_ تأصيل الهوية الذاتية للأمة العربية وتجديد عناصرها المتغيرة لا ثوابتها ، في ضوء المنجزات العلمية الحديثة .

_ دور التعليم في النماء الشامل للمجتمع (سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا)

_ تنمية مهارات التفكير العليا.

2_ ما «النموذج» الأمثل أو «النماذج المثلى» لتصميم المناهج الدراسية لتعليم الأمة العربية خلال القرن الحادي والعشرين؟

_ النموذج التقني (رالف تايلر ، هيلدا تابا وغيرهما )

_ النماذج القائمة على تعليم المعارف الأساسية التى أنتجتها البشرية .

_ النماذج المتمركزة حول الطفل .

_ النماذج المتمركزة حول المجتمع .

_ النماذج «الناقدة» التى تتبنى أن غاية التعليم هي «التغيير» وليست التناقل الثقافي ولا استقرار الأوضاع القائمة سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا.

_ كيف يتم تنظيم محتويات المنهج حول مراكز؟ (المتعلم _ المفاهيم الموحدة _ مشكلات اجتماعية _ بنية المعرفة _ البنية الذهنية للمتعلمين)

2_ ما الاستراتيجيات التى يفضل تبنيها في التعلم وفي التدريس بوجه عام؟

3_ ما استراتيجيات (التعلم _ التعليم) التى يفضل الأخذ بها في تعليم : اللغة القومية ، أو القيم ، أو المواد الاجتماعية، أو العلوم ، أو الرياضيات، وباقي المواد الدارسية ؟

4_ ما أثر التبكير بتعليم اللغات الأجنبية بدءًا من مرحلة الروضة على تعلم اللغة العربية ؛ اللغة الأم ؟

5_ يقال: إن إعداد المعلم لمدارس القرن الحادي والعشرين يجب أن يرسخ فيه السمات التالية :

* التعلم المستمر .

* البحث الدائم في مشكلات عمله اليومي .

* إجادة القيادة الجماعية .

* أن يكون قدوة لطلابه في تفكيره وسلوكه .

* أن يستيقن أنه ميسر لتعليم التلاميذ، وليس صانعًا لهم .

والتسليم بهذه السمات يفرض الإجابة على السؤال التالي :

ما مقتضيات هذا التصور في إعداد المعلمين بكليات التربية؟ وفي برامج تدريبهم في أثناء الخدمة ؟

7_ ما السمات الأساسية التى يجب أن تتوفر في برامج الدراسات العليا الخاصة بإعداد أعضاء هيئات التدريس في كليات التربية ؟

8 _ ما العوامل التى جعلت «البحث التربوي» بعامة وفي الدول العربية بخاصة       عملاً قليل الجدوى في تطوير التعليم؟

9_ ما الصيغ المناسبة لتطوير التعليم في البلاد العربية بعامة وفي كل بلد عربي على حدة؟ (التطوير المركزي _ اللامركزي _ التوسط بين المركزية واللامركزية _ كيف؟)

10_ كيف يمكن إصلاح الاختبارات والامتحانات بحيث تكون :

1_ أداة يعتمد عليها في تقييم الطالب، والمعلم ، والمنهج ، وإدارة التعليم المحلية وإدارته المركزية ؟

2_ أدوات صادقة في توجيه الطلاب علميًّا ومهنيًّا ؟

3_ وسيلة يعتمد عليها في تطوير التعليم في جوانبه كافة؟

معايير للحكم على نواتج التبادل:

قد لا أكون مغاليًا إن قلت: إن من أخطر الأدواء التى يعاني منها التعليم في البلاد العربية محاولة استعارة الفكر الغربي والممارسات التربوية الغربية وتوظيفها في نسيج نظم التعليم العربية، انبهارًا بإنجازات الغرب في مجالات التصنيع ، وافتتانًا بإنجازاته في الخدمات. وأحمق ذلك الذي يعزل نفسه عن منجزات العلم في الثقافات الأخرى، ويضاهيه في الخرق والحمق ذلك الذي يحسب أن كل فكرة أو ممارسة تربوية نجحت في الغرب تكون ناجحة في الدول العربية ؛ ولذا فإنه من الضروري أن تكون لدينا معايير نقيم في ضوئها ناتج التعامل مع الفكر التربوي الغربي ، وأستأذن في أن أعرض بعض هذه المعايير:

1_ الملاءمة للأصول الثقافية الإسلامية :

وتعني أن كل فكرة أو ممارسة أو نموذج يستعار من الفكر الغربي يجب أن يكون في هيكله وفي نواتجه ملائمًا للأصول الثقافية في المجتمع العربي المسلم. وأؤكد على لفظة الأصول، وفي مقدمتها : الدين واللغة . وقد قدمت أمثلة _ في موضع سابق _ لبعض الأفكار والمفاهيم التى تتناقض تناقضًا حادًّا مع أصول المذهبية الإسلامية ، حين تحدثت عن نقل مفهوم «الحداثة» في النقد الأدبي من الغرب ، وإعماله في النصوص الأدبية والمواقف التعليمية في مؤسسات التعليم العربية .

2_ التجريب:

والحكمة تقتضي أن يتم «تجريب» عملي في البيئة العربية لما يرى المفكرون العرب استعارته من الفكر الغربي ؛ لأن التربية ليست علمًا نظريًّا ، وإنما هي علم من علوم الأداء والممارسة ؛ وقد يفضى التجريب العملي إلى نقض أو دحض الفكر النظري أو الممارسة العملية التى نجحت في الغرب ؛ لأن «ثقافة» المجتمع أو «ثقافة» المدرسة غير مهيأة لمثل هذا الاستزراع التربوي لعوامل كثيرة .

3_ الصدق :

أن يكون الجديد التربوي المستعار أو المستنبت في البيئة الثقافية العربية صادقًا بمقاييس التقدم العلمي في مجالات المعرفة والتكنولوجيا ، وينطبق هذا المعيار _أكمل انطباق _ على محتويات العلوم الفيزيقية والحيوية والرياضيات .

4_ التكلفة :

ومرة أخرى أقول : إن الحكمة تقتضي أن تختار الأفكار والممارسات والمشروعات ذات التكلفة المالية المناسبة التى تكون في طاقة النظام التعليمي العربي .

5_ القابلية للممارسة :

وأقصد بهذا المعيار أن تكون الأفكار والممارسات التربوية قابلة للتعلم إذا كانت موجهة إلى الطلاب ، وأن تكون قابلة للممارسة والأداء إذا كانت موجهة إلى المعلمين ومديري المدارس .

وأنهى بتأكيد أننى لا أدعى لهذه المعايير المقترحة سمة « الموضوعية» المحضة فلست من المؤمنين بوجود حكم موضوعي خالص ، وإنما هي معايير يمكن أن تطلق عليها صفة مركبة: هي «الموضوعية – الذاتية – الجمعية»؛ بمعنى أن هذه المعايير لا تطبق وفقًا لرؤية فرد واحد، وإنما هي معايير تنظر فيها الجماعة المهنية التربوية ، وتطبقها على عائد الحوار التربوي بين الفكر العربي والفكر الغربي، وأختم بقول العليم الخبير:

{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين} (البقرة :286)

والله _ وحده _ يقول الحق ، وهو يهدي إلى سبيل الرشاد .

 

المراجع :

1)      انظر المادة : “شرق” في المعجم الوسيط، من إصدارات مجمع اللغة العربية في القاهرة.

2)      يراجع في هذا الصدد :

جلال آل أحمد، الابتلاء بالتغرب. ترجمة وتعليق: إبراهيم الدسوقي. القاهرة : المجلس الأعلى للثقافة، 1999.

والمؤلف مفكر إيراني مرموق، أعد كتابه هذا في صورة تقرير قدم إلى مجلس أهداف التعليم في إيران عام 1961 م.

3)      لمن يريد متابعة الفكرة “التعليم كامهنة” – مراجعة المصادر التالية:

–          Sarason, S. B, The Culture of the school and the Problems of Change. Boston Mass.,; Allyn and Bacon, 1982.

–          Goodlad, J. I (editor), The Ecology of school Renewal. Chicago: The University of Chicago Press, NSSE Yearbook. Part I, 1987.

4)      تراجع كتابات إدوارد سعيد وخاصة ما يلي:

–          Said, E, The World, The Text and the Critic. Cambridge Mass.,: Harvard University Press, 1983.

5)      صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي. ترجمة طلعت الشايب، وتقديم د. صلاح قنصوة، القاهرة : كتاب سطور رقم 2، 1998.

6)      فهمي هويدي، مقال في الأهرام القاهرية بتاريخ 17 يوليو 1990 بعنوان: من يعادي من؟ نقل فيه عن عدد مجلة “النيوزويك” الصادر بتاريخ 2 يوليو 1990.

7)      انظر : بول هيرست زجراهام تومبسون، مساءلة العولمة : الاقتصاد الدولي وإمكانات التحكم، ترجمة إبراهيم فتحي، القاهرة : المجلس الأعلى للثقافة، 1999.

8)      تراجع كتابات يمنى طريف الخولي التالية:

–          العلم والاغتراب : مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية. القاهرة : الهيئة العامة للكتاب، 1987.

–          الحرية الإنسانية والعلم : مشكلة فلسفية، القاهرة : دار الثقافة الجديدة، 1990.

9)      هانس – بيتر مارتين وهارالد شومان، فخ العولمة : الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، ترجمة د. عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم أ. د. رمزي زكي، الكويت : عالم المعرفة، الكتاب رقم 238، 1998.

10)  رمزي زكي، المصدر السابق، مقدمة المراجع، ص 15.

11)  المرجع السابق: ص ص 16 – 17.

12)  تراجع مقالة متوسطة الحجم عن “الاستشراق” في الموسوعة العربية العالمية التي تصدرها مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع في الرياض بالمملكة العربية السعودية. طبعة أولى ص ص 676 – 689.

13)  انظر في موضوع الاستشراق الجديد ما كتبه د. مصطفى عبد الغني، في الأهرام القاهرية يوم 3 يوليو 2000م. عن ندوة أقيمت أخيرا “بالأهرام الدولي”.

14)  سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي. القاهرة : دار الشروق. ط الحادية عشر. ص 7.

15)  محمد الغزالي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين. القاهرة : دار الشروق، 1997 م ص 151.

16)   Jantasch, E. Design for Evaluation. New York: George Braziller, 1975. P. 7.

17)   Eisner, E. (editor) Learning and teaching: The Ways of Knowing. Chicago : The University of Chicago Press, NEES 1985 Yearbook, Part II.

18)  زكي نجيب محمود، مقال في صحيفة الأهرام القاهرية بعنوان”لك الله يا علوم الإنسان” عدد يوم 22/12/1986 م.

19)  محمد عمارة (دراسة وتحقيق) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، الجزء الثالث ص 282 – 283، طبعة بيروت، 1972.

20)  يراجع المعجم الوسيط، إصدار مجمع اللغة العربية في القاهرة.

21)  يراجع في شأن هذه الصورة الذهنية :

–          طه جابر علواني، “التعددية : أصول ومراجعات بين الاستتباع والإبداع” منبر الحوار، مجلة تصدرها دار الكوثر في بيروت، المجلد التاسع، العددان 32 – 33 ربيع وصيف 1994.

22)  يراجع في هذا الصدد :

–          Sarason, S. B, The Culture of the school and the Problems of Change. Boston Mass.,; Allyn and Bacon, 1982.

–          Goodlad, J. I (editor), The Ecology of school Renewal. Chicago: The University of Chicago Press, NSSE Yearbook. Part I, 1987.

23)   Ahmed E. Abdel-Halim, “An intersystem Model For Curriculum Theory and Practice.” Ph D. Diss-ertation the Ohio State University, 1965.

24)   Helen Longino, “Subjects, Power and Knowledge” in Feminist Epistemology (eds) Linda Alcoff and Elisabeth Potter New York : Routaledge, 1991.

25)   David Olson and Jerome S. Bruner. “Folk Psychology and Folk Pedagogy” ch 2 in David Olson and Naney Tarrance (Editors) The Handbook Education and Human Development, U. K Oxford : Black well Publisher, 1998. PP 90 – 97.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر