كلمة التحرير

تحديات الهوية العربية بين ثقافة العولمة وعولمة الثقافة

العدد 98

بالرغم من القصر النسبي للفترة التى عرفت فيها الكتابات العربية مصطلح «العولمة» ، فإن كثيرًا من حلقات البحث والمؤتمرات قد تناولت هذه الظاهرة ، في أبو ظبي والقاهرة والدار البيضاء وبيروت والرباط وعمان وتونس وغيرها من المدائن العربية ، وظهرت المقالات والكتب المؤلفة بالعربية أو المترجمة إليها محاولة طرح التساؤلات حول هذه الظاهرة السريعة الانتشار ، والمثيرة

للمشاعر المتفاوتة والمتضاربة أحيانًا في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لمعظم شعوب العالم ، وخاصة تلك الشعوب التى خرجت مهزومة من حروب القرن الكبرى ، وهي الحروب التىكانت «عالمية» على نحو تام أو جزئي ، أو تلك التى وقعت بين سنابك الغالبين والمغلوبين فتحملت غبار المعارك ودخلت في مناطق «فراغ النفوذ» حسب تصور القوى الكبرى ، وهو التصور الذي تطورت حلقاته منذ عصر الثورة الصناعية الأوروبية حتى عصر الهيمنة المطلقة الأمريكية .

وإذا كانت اللغة قد نحتت مصطلح «العولمة» ، على وزن «الفوعلة» ترجمة للمصطلح الإنجليزي Globalization أو المصطلح الفرنسي Mondialisation ، وأيًّا ما كانت درجة الدقة في اختيار اللفظ المقابل للعالم Monde أو الكرة الأرضية Globe ، فقد تم اختيار صيغة «فوعل» بدلالتها على التشكيل المفروض من خارج المادة، والذي يحمل معنى الفوقية وأحادية الاتجاه، في مقابل صيغة «تفاعل» التي توحي بالحوارية وثنائية الاتجاه، وقد تنبهت اللغة هنا إلى ما لم تنتبه إليه منذ نحو ثلاثة قرون عندما فاجأتها البذرة الأولى لظاهرة العولمة ممثلة في الإمبريالية الأوروبية Imperialism التي تمت ترجمتها إلى مصطلح «الاستعمار»، مع أن الدلالة الأولى لهذا المصطلح هي السعي إلى إعمار الأرض، كما جاء في القرآن الكريم : {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود:61)، ولعل هذا يفسر ميل اللغة إلى استخدام مصطلح الامبريالية بدلاً من الاستعمار في كثير من الأحيان.

ونحن نقول: إن العولمة امتداد للظاهرة الاستعمارية، متابعة لما يراه زمرة المتخصصين، وخاصة في المجال الاقتصادي من أن «هناك عولمتين؛ قديمة وحديثة، ظهرت الأولى مع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ، واستطاعت تنفيذًا لخطتها أن تزيد في إنتاج السلع زيادة كبيرة دفعت بأوربا إلى البحث عن أسواق جديدة أقامتها عن طريق إنشاء المستعمرات بأمريكا وآسيا ، كما مكنتها هذه من الحصول على المواد الخام بأسعار جد منخفضة ، وهذا يفسره ما كان من اندماج للدول الفقيرة المستعمرة في اقتصاديات الدول الصناعية الأوربية ، أما العولمة الثانية ، العولمة الحديثة، فإن تحققها لا يكون عن طريق الاستعمار في شكله القديم وما كان يوفره من آليات ، ولكن عن طريق تحرير التجارة الدولية والتنامي على النطاق الدولي بالاعتماد على التقدم التكنولوجي وتطوره في مختلف المجالات وتسـابق الدول على اقتنـائه وتملك أزمته»(1) .

ولا يختلف المحللون السياسيون كثيرا عن المحللين الاقتصاديين في الربط بين المرحلتين ، فهم يرون أن نظرية «ملء الفراغ» التي سادت منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية خاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، والتي دفعت القوى التي ساعدت في انتصار الحلفاء في الحرب إلى اعتبار نفسها الأحق بالهيمنة على مناطق الفراغ مع تطور في الهيمنة من الاستعمار المباشر إلى الهيمنة السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية ، هذه الفكرة هي التي تطورت بعد الانتصار في الحرب الباردة لتظهر في شكل العولمة، باعتبارها طبعة جديدة من نظرية ملء الفراغ (2) .

وإن كان بعض المتشائمين يرى أن العولمة ليست تطويرًا للرأسمالية والاستعمار ، وإنما هي عودة لمساوئ الرأسمالية في عهد الثورة الصناعية ، وإلغاء لكل ما حققته البشرية في قرن كامل من المطالبة بتحقيق الاشتراكية والديمقراطية ، والقرن القادم يحمل مساوئ البطالة ودكتاتورية رأس المال واتساع الفروق الطبقية الرهيبة، والانكفاء على الذات بدلاً من الانفتاح الذي تدعو له العولمة (3) .

الاستعمار الأوربي ، أو الطبعة الأولى للعولمة في العصر الحديث ، تحول إذن بالتدريج بعد الانتصارات في الحروب الساخنة والباردة في نصف القرن الأخير إلي ظاهرة محاولة فرض الهيمنة الأمريكية في العقد الأخير تحت مسمى «العولمة» ، وهو مسمى يكاد يرادف الأمركة ، والأمريكيون أنفسهم يعتزون بذلك ، كما يقول فريدمان : «نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة ، العولمة هي الأمركة ، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطيرة ، وأولئك الذين يخشوننا على حق ، إن صندوق النقد قطة أليفة بالمقارنة مع العولمة، في الماضي كان الكبير يأكل الصغير، أما الآن فالسريع يأكل البطيء».

ومع أن ظاهرة العولمة كل لا يتجزأ بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية، من حيث تداخل العناصر واعتمادها على بعضها البعض في الوصول إلى الهدف ، إضافة إلى وحدة المصدر المهيمن في عالم القطب الواحد ، فإننا سنركز حديثنا هنا على البعد الثقافي الذي يعد من أكثر الأبعاد تأثيرًا على هوية الفرد والجماعة معًا ، وبالتالي على صمود أو ذوبان مجموعة من الكيانات القومية المستهدفة ، في مقدمتها الكيان العربي الإسلامي . ومع أن الثقافة كانت دائمًا عنصرًا مهمًّا في حملات الترويج الإيديولوجي أو الغزو الاستعماري يراد من خلالها طرح أفكار الغالب على المغلوب ، أو تحطيم روح المقاومة من خلال إضعاف عناصر الروح القومية لدى الشعوب المستهدفة، فإن موقع الثقافة في نظرية العولمة قد ازداد أهمية إلى حد بعيد ، وشهد نقلة نوعية ؛ فلم يعد الاستهداف الثقافي وسيلة إلى غاية ، وإنما أصبح غاية في ذاته « لقد ارتقت الثقافة من كونها وسيلة لتحقيق الغايات ، لتكون هي الغاية ذاتها وكان من الطبيعي أن تسعى القوى الرأسمالية التقليدية ، وقد أدركت الاحتمالات الاقتصادية الهائلة للموارد الثقافية إلى تحويل الثقافة إلى واحدة من أهم الصناعات الاستراتيجية التي تحكم موازين القوى عالميًّا إن لم تكن أهمها على الإطلاق »(4) .

ولا نريد أن نستعيد كثيرًا من تفاصيل الحوار الذي يدور بين بعض المفكرين العرب المعاصرين حول المفهوم الدقيق لكلمة «الثقافة»، والفروق المحتملة بينها وبين «الحضارة»، ومدى تطابقها في المعنى مع كلمة Culture الدالة على معنى الثقافة في لغة العولمة الأولى (5) ولكننا نكتفي بإيراد بعض المفاهيم الأساسية التي يوردها الباحثون وهم يتحدثون عن الإيحاءات الأولية لمفهوم كلمة «الثقافة» في الاستخدام العربي، ومن هذه الإيحــــــاءات أو التعريفات الجامعة(6):

1 ـ الثقافة هي السر الكامن وراء كل ما نمارسه من سياسات وممارسات .

2 ـ الثقافة هي ما يبقي في الذهن بعد نسيان كل شيء .

ومن هذا المنطلق فإن الثقافة يمكن أن ينظر إليها باعتبارها تراثًا قديمًا لتشمل المأثورات والكتب والمخطوطات والوثائق والآثار والمتاحف والتراث الشعبي وطراز العمارة ، أو باعتبارها إبداعًا لتشمل الأدب بألوانه المختلفة والمسرح والسينما والفنون التشكيلية والموسيقى ، أو باعتبارها تعبيرًا لتشمل اللغة بدرجاتها المختلفة، أو باعتبارها عادات وتقاليد تتميز بها كل أمة عما سواها .

ولقد عرفت البشرية في تاريخها الطويل كثيرًا من الثقافات المتعاقبة والمتحاورة والمتصارعة، وكان جزء من سر تقدم البشرية يكمن في هذه الصلة المعقدة التي كانت تتبادل فيها الثقافات والحضارات مواقع الصدارة دون أن تصل واحدة منها لفرض هيمنتها المطلقة على كل ما عداها ، كانت الوسائل المتبعة في طرح ثقافة أمة على أمة أخرى تتمثل غالبًا في اللجوء إلى «إغراء العرض»، وعندما كان يتم اللجوء إلى «سطوة الفرض» كان يقترن ذلك بالتعسف الواضح وبمطالبة المضطهدين بإعادة هويتهم إليهم ، وبتعاطف الآخرين معهم.

لكن النقلة النوعية التي حدثت مع ثقافة العولمة في العلاقة مع ثقافة الآخر تكمن في أنها لجأت إلى ما يمكن أن يسمى «إغراء الفرض»، بمعنى أنها لم تعد تعرض بل تفرض، ولكن هذا الفرض لا يأتي من خلال استخدام العصا أو السيف ، وإنما من خلال استغلال الإغراءات التي منحتها التقنيات الحديثة في الاتصال ، وقد أدى ذلك إلى تغيير جذري في نظرية حوار الثقافات ، تمثل هذا التغيير على نحو خاص في محورين :

1 ـ اللجوء إلى ثقافة الصورة بدلاً من ثقافة الكلمة .

2 ـ التوجه المباشر للقاعدة العريضة دون التوقف للجدل مع الصفوة .

ونبادر فنقول: إن هذين المحورين في ذاتهما يمكن أن يشكلا عاملاً إيجابيًّا مهمًّا على طريق « عولمة المعرفة » إذا ما أحسن استغلالهما من كل الأطراف الغازية والمغزوة، ولكنهما يشكلان عامل تهديد خطير لمقومات التماسك الثقافي والقومي للأطراف الأقل قوة وتقدمًا إذا لم يتم التعامل معهما بوعي وتخطيط مدروس . واحتلال الصورة لمكانة في التواصل البشري أهم من الكلمة ، كان إحدى نتائج تقدم الاتصال عن طريق الفضاء واحتلال «الأقمار » المكانة الأولى قبل «الأوراق» في إحداث ذلك التواصل، وبفضل هذا التطور ومن خلال القنوات وشبكات الاتصال أصبحت الصورة هي المفتاح السحري للنظام الثقافي الجديد ، نظام إنتاج وعي الإنسان بالعالم … ولا تحتاج الصورة ـ دائمًا ـ إلى المصاحبة اللغوية كي تنفذ إلى إدراك المتلقي ، فهي – بحد ذاتها – خطاب ناجز مكتمل ، يمتلك سائر مقومات التأثير الفعال في مستقبليه (7).

إن هذه الخطوة في التواصل الإنساني، والمتمثلة في إحلال الصورة محل الكلمة ترتبت عليها خطوة أخرى في إذابة كثير من درجات التأمل أو التردد على سلم الاقتناع أو الرفض بين المرسل والمستقبل؛ ذلك أن الطبيعة الغالبة علي تلقي رسالة ما من خلال الكلمة هي طبيعة التلقي الفردي، على حين أن تلقى الصورة غالبًا ما يكون تلقيًا جماعيًّا وآنيًّا، وبين طبيعة استقبال الوعي الفردي والوعي الجماعي فروق شائعة في درجة التمحيص وسهولة التقبل، ويتصل بهذه الفروق أيضًا بين طبيعة الكلمة والصورة ، درجة النخبوية أو العمومية في الاستقبال ، فعلى حين أن ثقافة الكلمة تكاد تحصر إلى حد ما الموجة الأولى من الرسائل الثقافية في طبقة الصفوة الذين يتلقونها من خلال القراءة الاختيارية، ثم يعملون في مرحلة تالية على بثها أو حجبها عن القاعدة العريضة ، فإن ثقافة الصورة تتجه مباشرة لهذه القاعدة العريضة متجاوزة حواجز التصفية والتنقية كما تتجاوز السلع الاقتصادية في عصر العولمة حواجز الجمارك والقوانين الوطنية .

إن المخاطبة المباشرة للقاعدة العريضة في العالم من خلال الصورة ، جعل «ثقافة العولمة» تنتقي لونًا من ألوان الثقافة الأمريكية لتصديره وهو الثقافة الشعبية وليس ثقافة الصفوة أو النخبة مع وجود صفوة ونخبة بالتأكيد في الثقافة الأمريكية، وهنا نجد فرقًا واضحًا بالقياس لاختيار المادة الثقافية التي صاحبت موجة المد الرأسمالي لأوربا الغربية أو المد الاشتراكي لأوربا الشرقية خلال فترة ما بعد الثورة الصناعية، وحتى ظهور مرحلة ثقافة العولمة، فلقد كانت الثقافة الأوربية المنتشرة تتجسد في مؤلفات كبار المفكرين في الآداب والفنون والسياسة والاقتصاد والنظريات الفلسفية والعلمية، ولكنــــه «خلافًــــا لأوربــــا  الغربيـــة ( والشرقية ) أدركت الولايات المتحدة أن الحضارة الرفيعة سوقها محدودة، ففيما تنفق وزارات الثقافة العليا في أوروبا الأموال الباهظة لدعم أفضل الفنانين والموسيقيين والشعراء والروائيين والمخرجين السينمائيين ، تركت الولايات المتحدة الأمر إلى هوليود وإلى وكالات الإعلان في نيويورك لتقرر ما هي المنتوجات الثقافية الأكثر قابلية للتسويق في العالم، ومع العلم أن في الولايات المتحدة شعراء وروائيين وفلاسفة ومخرجين سينمائيين من أعلى المستويات، فقد تبين أن رامبو ومادونا ومايكل جاكسون لهم أفضلية اقتصادية، وهي تدرك أن للثقافة المتدنية المستوى سوقًا أوســــع كثيرًا من سوق الثقافة الراقية»(8)، وهذه الثقافة الشعبية الأمريكية تجد رواجًا أكثر لدى جيل الشباب، وهم حملة المسئولية في المستقبل، ويزيد من انتشارها وجود فراغ ثقافي لديهم ناتج -في جانب كبير منه- من انعدام التخطيط العلمي غير العاطفي لزرع الثقافة القومية في نفوسهم؛ لكي تساعد على الأقل في إحداث لون من التوازن لديهم، ولكيلا تبدو الصورة متحاملة فإنه لابد من الاعتراف بوجود لون من الثقافة الأمريكية الرفيعة في الجامعات ومراكز الأبحاث، وقدر كبير منها متاح لمن يحسنون استخدام التقدم التقني الذي تصلنا على شبكاته ذاتها المادة الشعبية المتدنية التي أشرنا إليها .

لقد نتج عن الهيمنة السريعة لثقافة العولمة المعتمدة على لغة الصورة ومعطيات التكنولوجيا المتقدمة ظواهر تهدد التنوع الثقافي الذي تعتمد عليه الحضارة البشرية منذ فجر تاريخها ، كما ظهرت ردود أفعال قوية لدى كثير من الشعوب التي تحرص على هوياتها الثقافية وشخصياتها القومية .

وفي إطار تهديد التنوع الثقافي للبشرية الذي يحقق التوازن الضروري يرى بعض الباحثين (9) أن ذلك جزء من مخاطر التكنولوجيا التي يسعي الإنسان إلى ابتكارها أملاً منه في أن تساعده على حياة أفضل فإذا بها تفرض منطقها عليه، وتوجه حياته في مسارات ربما لم تكن في حسبانه ، ومن هذا المنطلق فإن التكنولوجيا الحديثة تحول الإنسان شيئًا فشيئًا من «التمايز الفردي» إلى «التوحد النمطي»، سواء في ميدان الإنتاج الذي يحل فيه «خط الإنتاج» محل «ابتكارات الأفراد» أو في مجال الاستهلاك الذي تسيطر فيه الوجبات السريعة والمعلبات والملابس النمطية ، وأخيرًا في مجال التفكير من خلال ما تطرحه القوة الطاغية لإمبراطوريات الإعلام في عصر العولمة من قضايا نمطية يراد من خلالها اختفاء الثقافات الخاصة في طرق التفكير، «وهذا الأثر من آثار التقدم التكنولوجي في طمس الهوية الثقافية للأمم لا يختلف في طبيعته عن أثره في الاعتداء على هوية الإنسان الفرد داخل الأمة الواحدة، فالأثر بشع في الحالتين والخسارة فادحة.. ومن الغريب أن القلق المتزايد داخل المجتمعات المتقدمة اقتصاديًّا من التهديد الذي تتعرض له بعض أنواع الحيوانات والطيور التي يهددها التقدم التكنولوجي بالانقراض، لا يقابله قلق لما يحدث لثقافات الأمم المختلفة من وراء هذا التقدم التكنولوجي نفسه، مع أن هذه الثقافات مهددة هي أيضًا بالانقراض، والخسارة في هذه الحالة لا تقل فداحة (10) .

ولقد ازداد قلق المؤسسات الدولية المعنية بالثقافة من خطر التطبيق غير الواعي لثقافة العولمة على حق التنوع الثقافي ، وهو الخطر المماثل لما لحق بالبيئة من أضرار قاتلة حرمها من «التنوع البيئي» نتيجة للتطبيق غير الواعي لقوانين التنمية، «لقد باتت هذه القضية المحورية هي شاغل الجميع بعدما اتضح ما لوسائل الاتصال الحديثة، وعلي رأسها الإنترنت، من إمكانيات تؤهلها لتصبح أمضى أسلحة الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية والأمنية أيضًا ، ولقد جثم هذا الهاجس المخيف على المؤتمر الذي عقدته منظمة اليونسكو حول الثقافة والتنمية في مارس 1998م بمدينة استكهولم، والذي كانت ورقة عمله الرئيسية هي التقرير الذي أعدته اللجنة الخاصة التي شكلتها الأمم المتحدة بعنوان «تنوعنا البشري الخلاق»(11) Our Creative Diversity وكانت منظمة اليونسكو ذاتها هي التي استشعرت قبل ذلك بستة عشر عامًا مخاطر العولمة على الهوية الثقافية حين ندد المؤتمر الدولي للسياسات الثقافية المنعقد في المكسيك سنة 1982 بمواقف الولايات المتحدة التي تبذل جهودا كبيرة لنشر الثقافة الأمريكية واستعمال جميع الوسائل المتاحة لتحقيق هذا الهدف وحين أعلنت فرنسا رفضها للتوقيع علي الجزء الخاص بالسلع والمواد الثقافيــة في اتفاقيـة الجـات» (12) .

ولا يقتصر القلق من نزعة فرض ثقافة العولمة ، على المؤسسات الدولية وحدها، وإنما يساور أيضًا أصحاب الثقافات الغربية غير الأمريكية ، حتي وإن كان أصحابها من أقرب الحلفاء لأمريكا ، وها هو فولكنر وزير الخارجية الكندي الأسبق يتحدث عن تدفق البرامج الأمريكية على وسائل الإعلام؛ مما جعل الأطفال الكنديين لا يدركون أنهم كنديون، فيقول : « لئن كان الاحتكار أمرًا سيئًا في صناعة استهلاكية ، فإنه أسوأ إلى أقصى درجة في صناعة الثقافة، حيث لا يقتصر الأمر على تثبيت الأسعار وإنما يتعــداه إلى تثبيت الأفكــار» (13) .

ومن اللافت للنظر أن بعض المفكرين الأمريكيين أنفسهم يصرحون في بعض كتاباتهم باستحالة تحقيق ثقافة للعولمة تندرج من خلالها الشعوب غير الغربية في الثقافة الغربية المتفردة التي تحمل خصائص تاريخية وثقافية ودينية ، تجعل من الصعب على غير أبناء الغرب الاندماج فيها ، وها هو المنظّر المشهور صمويل هنتنجتون صاحب كتاب: صدام الحضارات ينشر سنة 1996م دراسة له بعنوان : الغرب ، متفرد وليس عالميًّا West Unique, Not Universal يقول فيها : «إن شعوب العالم غير الغربية لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب حتى وإن استهلكت البضائع الغربية ، وشاهدت الأفلام الأمريكية ، واستمعت إلى الموسيقي الغربية ، فروح أي حضارة هي اللغة والدين والقيم والتقاليد والعادات ، وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والرومانية والمسيحية الغربية والأصول اللاتينية للغات شعوبها، والفصل بين الدين والدولة ، وسيادة القانون والتعددية في ظل المجتمع المدني ، والهياكـل النيابية والحريـة الفردية» (14) .

ومثل هذا الرأي كان من شأنه أن يثير قدرًا من التريث لدى المهرولين الذين ينادون بالإسراع بالأخذ بكل الأسباب الممكنة وغير الممكنة للحاق بركاب ثقافة العولمة؛ ظنًّا منهم أن ذلك من شأنه أن يذيب الفوارق بين أبناء الحضارات المختلفة ، وهم على استعداد في سبيل تحقيق ذلك الظن أن يتنازلوا عن أي مقومات لغوية أو تراثية أو خلقية تحول بينهم وبين أهدافهم، ناسين أن أصحاب الدعوة إلى ثقافة العولمة لا يقبلون بالتنازل عن أي من مقوماتهم الخاصة وأنهم يعتصمون بأبراجهم العالية لمن يريد الصعود إليهم فضلاً عن أنهم لا يمنحون أولئك الذين يهرولون إليهم متجردين من كل شيء، شرف الانتماء إلى مملكتهم .

ومن هنا ظهرت كثير من ردود الأفعال لدى أصحاب الثقافات المتماسكة يعلنون فيها أنهم يرحبون بالاشتراك في عولمة ثقافية لكن بشرط أن يساهموا بنصيب في صنعها، وألا تكون «غربنة» تكتسي ثقافتها العالمية بثقافة الغرب وحدها ، وهي الثقافة التي أعلن هنتنجتون أنها لا تقبل الدخول للآخرين في نسيجها بسهولة ، وهناك دراسات لكتاب صينيين ويابانيين وأفارقة تمثل لونًا من الصدى الإيجابي لفكرة التوازن في ثقافة العولمة ، ومن بينهــا دراســة الكاتب الصــيني «لاوسـي» التي ترجمت إلى الفرنسية بعنوان Mondialisation Oui, Occidentalisation Non وقد تمت ترجمتها إلى العربية بعنوان: «نعم للعولمة .. لا للغربنة»(15) وفيها يعلن الكاتب أن الظاهرة التي يسميها الغربيون بالعولمة ، لا تعني بالنسبة للصينيين شيئًا غير الأهمية المتنامية لآسيا في التجارة العالمية وتأكيد وضعها المركزي في قلب العلاقات الدولية ، وأن المفاهيم الثقافية لمصطلحات مثل المصلحة الخاصة ، والمصلحة العامة ، والهيمنة وحقوق الإنسان تحتفظ بمفهوماتها الصينية ولا تخضع عند التعامل لما يمليه الغرب من تفسيرات خاصة بها ، وكذلك كان الشأن في الاعتزاز بالثقافة الخاصة في مقال للكاتب الياباني هاماتا نوبورو نشرته أيضًا مجلة الثقافة العالمية في نفس العدد بعنوان : «اليابان هي العالم الآن».

ونستطيع ألا نذهب بعيدًا ونحن نرى الدولة العبرية في قلبنا وعلى حدودنا تتمسك بكل خصائصها الذاتية والثقافية منها خاصة، وهي مع ذلك تستفيد من الإمكانيات الهائلة للعولمة إلى أبعد مدى، بل وتحاول أن تجعل من نفسها قوة مهيمنة علي المستوي الإقليمي تحقق العولمة الأمريكية في شكل «الشرق أوسطية» في جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية، ولسوف نرى بعض آثار ذلك في الجانب الثقافي على نحو خاص .

هذا العرض السريع لواقع ثقافة العولمة ولبعض ردود الأفعال الأولى تجاهها من ثقافات أخرى كالفرنسية والصينية واليابانية واليهودية وغيرها يمكن أن ينتهي بنا إلى تحديد ملامح ثقافة العولمة في الخطوط التالية :

1 – ثقافة العولمة هي الثقافة الأمريكية في عصر هيمنة القطب الواحد.

2 – تعتمد هذه الثقافة في انتشارها على التقدم الهائل في تقنية الاتصال .

3 – اللغة السائدة هي لغة الصورة في ثقافة ما بعد المكتوب، وهي سريعة الإغراء والتأثير، ولها منطقها الأخلاقي الخاص الذي لا يتفق بالضرورة مع ما تعارفت عليه الثقافات الأخرى .

4 – الجمهور المستهدف هو القاعدة العريضة والشباب على نحو خاص ، والمادة المعروضة ينتمي معظمها إلى الثقافة الشعبية الأمريكية في الغناء والرقص والموسيقى والإعلان وهي تتسم غالباً بإبهار الحواس وسرعة توالي الصورة والمعلومات والتأثير غير المباشر على تشكيل الوعي .

5 – يتوازي مع هذه المادة الشعبية ، مادة علمية أكاديمية ، قد يكون بعضها مزيفًا لخدمة أغراض خاصة ، لكنها تبث على شبكات يقبل بعضها من الناحية النظرية الحوار ، وسماع رأي الآخر ، ومن تفوته فرصة المشاركة وإبداء وجهة نظره بالطريقة الملائمة تتجاوزه دائرة الحوار .

6 – ثقافة العولمة تعتمد على فكرة «صراع الحضارات» وتكاد تشبه نظريتها الثقافية ، نظرية «الانتخاب الطبيعي» عند دارون، وبمقتضاها فإن الثقافات التي لا تثبت أمام المنافسة سيكون مصيرها التلاشي .

7 – الراغبون في الذوبان في ثقافة العولمة قد تصدمهم فكرة هنتجتون التي أشرنا إليها حول عدم سهولة استيعاب الحضارة الغربية للمنتمين إليها من غير أهلها .

8 – الراغبون في المحافظة على الهوية الثقافية عليهم أن يتدارسوا بدقة حجم الخطوات التي تفصل بين «ثقافة العولمة» ومحاولة «عولمة الثقافة»، وستحاول الفقرات التالية أن تثير بعض التساؤلات حول جانب من هذه الخطوات .

إن ردود الأفعال التي ثارت وما تزال تثور في الأوساط الثقافية العربية ، تجاه ثقافة العولمة تتردد بين محاور متباعدة في بعض الأحيان، مثل التهوين والتهويل، فهناك من يرى أننا نبالغ في إثارة المخاوف من «الغزو الثقافي» المحتمل وأن القدر الذي نخاف عليه من الضياع من موروثنا الثقافي ، ليس إلا بعض التفاصيل التي تشكل حاجزًا دون انطلاقنا والتحامنا بثقافة العالم المتقدم وصيرورتنا جزءًا منه، ولا يخفي أن هذا الفريق يدعو إلي الذوبان في ثقافة العولمة دون تحفظ ولا نقاش، ويركز على المزايا التي يمكن أن تعود من وراء ذلك على الفرد والجماعة ، «هؤلاء المفتونون بالديمقراطية الغربية ، وبالعلاقات الاجتماعية الغربية ، وبغزارة ونوع الإنتاج الثقافي في الغرب ، يتمنون لشعوبهم سرعة اللحاق بكل هذه الإنجازات ، ويجدون في العولمة السبيل إلى ذلك ، ومن هؤلاء من لا تثير لديهم مسألة الهوية الثقافية إلا السخرية والاستهزاء ، ويتساءلون : هل تعني هذه الهوية شيئًا آخر غير التخلف والجهل والفقر .. والاستسلام للخزعبلات والتقاليد التي لم يعد لها دور في العالم الحديث» (16) .

وهناك في المقابل بمن يرتاب في كل ما يصدر عن العولمة وما يعبر عن ثقافتها، فهي نابعة من لغة مختلفة وعقيدة مختلفة، وهي هادفة إلى تحطيم مقوماتنا الثقافية والقومية من خلال موجات البث الفضائي المحرضة على التحلل من القيم الموروثة، والمشكلة لرأي عام تتحقق معه أهداف وخطط القوى المهيمنة وأتباعها في السيطرة على المنطقة سياسيًّا واقتصاديًّا، وطمس معالمها الثقافية والحضارية .

ورد الفعل المصاحب لهذه النظرة غالبًا يكمن في احداث التوازن من خلال العودة إلى الماضي لتأكيد عالمية الثقافة العربية الإسلامية وامتدادها إلى كثير من أرجاء المعمورة في فترة إزدهارها، ويتبع ذلك بالضرورة عقد مقارنات بين ما كانت تتميز به حضارة الإسلام في هيمنتها من سماحة وعون للضعفاء وما تتميز به العولمة المعاصرة من صفات مضادة «ولا يستطيع أحد أن ينكر على الحضارة العربية عراقتها ومكانتها حتى أشد خصومها تعنتًا ، لقد قامت هذه الحضارة على قيم سامية طالما تطلعت الانسانية لها ، قوامها الحق والعدل والمساواة والتآخي مع الأهل ومع الغير .. وعراقة الحضارة العربية .. هي سر مقاومتها لمحاولات الاستيعاب والاستلاب التي توالت عليها ، أو من خلال ما استجد من أسلحة الغزو الثقافي التي استخدمت بضراوة ضد شعوب الأمـــة العربية مشرقها ومغربها»(17) .

ومع التسليم بالحقائق الواضحة في هذا التصور والاعتزاز بها فإن الاكتفاء بالوقوف عنها لإشباع الزهو التاريخي دون الانطلاق منها إلى تنمية الحاضر والمشاركة في صنع المستقبل ، يهدد بتحويل هذه الثروة الحضارية إلى عكس ما هدفت إليه، «فبدلاً من اندفاعنا نحو المستقبل نحمل في جوفنا ماضينا ، يريد لنا البعض أن نتقهقر إلى هذا الماضي لنطابق حاضرنا عليه بحثًا عن مهرب أو ذريعة إزاء ما ينطوي عليه هذا الحاضر من تحديات وتهديدات ، وبدلاً من أن نؤمن بعالمية الحضارة الإنسانية كي تثري حضارتنا بها، وأن نقر بمنطق التاريخ ووحدة المعرفة، يسعى البعض ليضعنا في مواجهة مع العالم لتتسع بذلك خطوط المواجهة» (18) .

إن هذه الملاحظات تقودنا إلى الاتجاه الوسط الذي يهدف إلى تلمس طرق المشاركة في بناء ثقافة العالم من خلال مراجعة بعض أدوات التوصيل والحوار لدينا بما يجعلها صالحة لمهمة عولمة ثقافتنا دون التخلي عن منطلقاتها الأساسية، ويجعلنا أيضًا نرفض من ثقافة العولمة ما لا يتفق مع هذه المنطلقات .

قد نتساءل عن إمكانية مراجعة إنتاجنا في ثقافة ما بعد المكتوب وهي ثقافة الصورة التي تبنتها العولمة لغة لخطاب القاعدة العريضة ، ونحن نشكو من أن ثقافة العولمة دخلت عن طريق الصورة كل البيوت فشكلت وعي أطفالنا من خلال الرسوم المتحركة وشبابنا من خلال أفلام العنف ، وحاولت ترسيخ مفهوم للعلاقات الفردية والجماعية مخالف لعاداتنا وتقاليدنا ، وبثت من البرامج الحضارية والسياسية ما لا يتفق مع وجهة نظرنا ، فهل لدينا خطة يطرحها أصحاب الإعلام في عشرات القنوات الفضائية العربية التي تجوب الفضاء فرادى، يصطدم بعضها ببعض وكأنها لا تنتمي إلى أسرة واحدة ؟

هل هناك أهداف جادة أبعد من التسلية وقتل الوقت ، تحاول أن تستغل هذه التقنية الهائلة -وقد وضعت في أيدينا- للمساعدة في بنــاء الأمة ثقافيـًّـا وحضارياً ؟

هل هناك تصور لمحاولة الإسهام في تشكيل ثقافة العالم من خلال نفس الوسائل التي يحاول بها العالم التأثير في ثقافتنا ؟

وإذا كان هناك حديث عن نقص الإمكانات والقدرات الفنية للتصميم والإنتاج والدخول في المنافسة ، فقد يكون التساؤل حول ما الذي نصنعه لكي نتلافى ذلك النقص، ولكي نستكمل تلك القدرات التي لا نستطيع في غيابها التحدث عن جهد مؤثر في الحماية الثقافية فضلاً عن عولمة الثقافة ؟

وإذا لم تكن تحت أيدينا دراسات مفصلة عن الإمكانات المتاحة أو المفقودة التي تساعد أو تحول دون مشاركة القنوات الفضائية العربية في خطة مرجوة لعولمة الثقافة ، فإن لدينا بفضل جهود المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم دراسة عن «صورة الثقافة والحضارة العربية الإسلامية في الإنترنت، وخطة تنفيذية مقترحة لإقامة شبكة مواقع خدمات للإعلام الثقافي»، وهي الدراسة التي وضعها الدكتور نبيل علي والدكتور محمد الناصر شمام، واعتمدا فيها على الواقع الفعلي لشبكات الإنترنت باللغتين الإنجليزية والفرنسية ، وبقدر ما تبرز الدراسة من صور تخلفنا النسبي في بعض المواقع الهامة ، فإنها تبين إمكانيات تلافي القصور والمشاركة الفعالة في هذه الوسيلة البالغة الأهمية في عصر العولمة الثقافية . يشير التقرير -وهو يرسم الملامح البارزة لصورة الثقافة العربية والحضارة الإسلامية على الإنترنت- إلي نقاط مهمة مثل (19) :

ـ غياب التنسيق والمشاركة في الموارد بين الأقطار العربية والإسلامية، وعدم استغلال الإمكانيات العديدة على شبكة الإنترنت .

ـ المشهد الحزين لصورة الثقافة العربية والحضارة الإسلامية ، ناتج عن تقاعسنا واسترخائنا أكثر من كونه ناتجًا عما يقوم به الآخرون من تشويه وطمس.

ـ من الجهات المساهمة في تشكيل هذه الصورة أقسام الدراسات واللغات الشرقية بالجامعات الأمريكية والأوروبية، ويسودها الطابع الأكاديمي، وهي من أخطر المواقع المؤثرة في تشكيل صورة الثقافة العربية والحضارة الإسلامية ، وكثير من هذه الأقسام في قبضة اللوبي الثقافي اليهودي الأمريكي.

ـ في المادة المطروحة تطغى الأمور المتعلقة بالعقيدة ووضع المرأة في الإسلام على كل النواحي الأخرى ، وتكاد تغيب ألوان الأدب والموسيقي واللغة والتراث الشعبي ، ويتم التركيز على الماضي دون الحاضر .

وإذا تمت المقارنة الرقمية بين المواقع التي تمتلكها ثقافتنا علي شبكة الإنترنت وبين ما تمتلكه ثقافة منافسة مثل الثقافة اليهودية يقل عدد المنتسبين إليها حوالي خمسين مرة عن الثقافة الإسلامية فسوف نجد الفرق واضحًا، فهنالك 702 موقع للثقافة اليهودية تغطي 14 صنفًا من صنوف المعلومات مقارنة مع 228 موقعًا للثقافة الإسلامية و4 صنوف أساسية ، وبالنسبة للثقافة العربية يوجد 88 موقعًا و7 صنوف للمعلومات ، والتباين بين مواقع الثقافة الإسلامية من ناحية والعربية من ناحية أخرى وبينهما مجتمعين وبين مواقع الثقافة اليهودية واضح للعيان .

في حين يلاحظ التقرير أن مواقع المؤسسات الدينية الرسمية كالأزهر وسفارات الدول العربية الإسلامية يسود رسالتها الطابع التقريري، وتظل بمنأى عن ساحة الجدل المؤثر في تشكيل صورة الثقافة العربية والإسلامية، يلاحظ ديناميكية الخطاب الثقافي اليهودي عبر الإنترنت حيث يغطي معظم عناصر منظومتي الثقافة والحضارة من الفلسفة إلى الفولكلور ، ومن نظرية الأدب إلى قصص الأطفال ، ومن التاريخ إلى قضايا الحاضر، ومن شعر الجاهلية لدى العرب إلى شعراء اليهود في الأندلس، وإلى طلب الدعم لأصدقاء الجولان من السكان اليهود والدعاء لهم بالخلاص من عدوان سوري وشيك الوقوع لاغتصاب الهضبة! .

وبالإضافة إلى ما يذكره التقرير يمكن أن نشير إلى ما هو معروف من أن حظ الثقافة العربية من شبكة المعلومات العالمية رهن بقدرة أصحابها على أقلمة الحاسب الآلي للتعامل مع لغتهم ، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي تفرضه علينا العولمة؛ لأن الأمم التي لا تستطيع أن تتخاطب مع العالم لا تستطيع أن تنشر ثقافتها ، وإن أهم  وسيلة للتخاطب في عصر العولمة هي الحاسب الآلي . بل إن الأمم التي لا تؤقلم لغتها مع الحاسب لن تعجز عن التخاطب مع العالم وحسب، بل ستعجز كذلك عن اللحاق بركب الحضارة .

شبكة المعلومات العالمية هذه الأيام هي مكتبة عملاقة ومنتدى هائل وسوق لا حدود له . فهل للعرب حضور فيه ؟ إن لم يكن لهم حضور فلا حضور لثقافتهم ، وإن لم يكونوا نبعًا للثقافة كانوا سوقًا لثقافات غيرهم ، فما نصيبهم من شبكة المعلومات العالمية ؟

حسب إحصائيات عالمية جمعتها يورو ماركيتينج ، فإن في العالم الآن 215 مليون مشترك في الإنترنت ، منهم 57,4% من أبناء اللغة الإنجليزية و26,4% من أبناء اللغات الأوربية الأخرى و 16,2% من أبناء لغات غير أوربية ، أما حضور المشتركين العرب فهو 0,004% مع العلم بأن حضورهم في معظمه باللغة الإنجليزية .

لا شك أن هذا الحضور الواهن للعرب يعود لعدة أسباب منها الاقتصادية والتعليمية ، لكن أهمها علي الإطلاق هو عجز العرب عن أقلمة لغتهم مع الحاسب الآلي . فلو كانت هذه العقبة قد ذللت تمامًا لسهل أن تنشر الثقافة العربية في عالم الانترنت الذي لا تحده حدود ، ولأمكن للأمة أن تدخل سباق الفرسان ، أما واللغة العربية قاصرة عن التأقلم مع الحاسب الآلي أو عجز الحاسب عن التعايش مع اللغة العربية، فإن الأمة ستتأخر عن ركب الأمم .

مشكلة اللغة العربية ليست خاصة بها . فالحاسب الآلي تكنولوجيا طورها الناطقون بالإنجليزية فجعلوا لغتهم لغته ، لكن الأمم التي رغبت أن تلحق الركب طوعته لخدمة لغتها، ويمكن أن نأخذ اللغة الصينية مثالاً لما عملته الأمم تطويعًا للمشاركة في العولمة الثقافية . فهذه اللغة ليس لها حروف هجائية ، وبذا فإن لوحة مفاتيح الحاسب الآلي لا يمكن أن تستوعب اللغة الصينية . ومع ذلك فلوعي أهل هذه اللغة وتصميمهم على المحافظة على هويتهم الثقافية فإنهم أنطقوا الحاسب بلغتهم، وأصبح للصينيين حضور على شبكة المعلومات العالمية يقدر بـ 4,4%، حتي اللغة العبرية التي هي لغة سامية كذلك فإن لها حضورًا على الشبكة العالمية لا يتناسب مع عدد الناطقين بها ؛ إذ أن حضورها يكاد يساوي حضور لغة المائتين وثلاثين مليون عربي . إذن فالقضية ليست لغة، بل هي قضية عزيمة وتخطيط من أهل اللغة .

لو اجتمعت العزائم للمحافظة على الهوية الثقافية للأمة العربية ، لأصبح من الفرض العين على جميع المؤسسات الثقافية حكومية وخاصة أن تستثمر في جهد عربي مشترك لأقلمة اللغة العربية مع الحاسب الآلي وتطويع الحاسب الآلي للتعامل مع اللغة العربية، ويمكن أن نشير إلى أن هنالك دراسات وخططًا علمية تعدها جامعة السلطان قابوس في هذا الاتجاه . إن هذه الصورة نموذج لمجال يمكن العمل من خلاله على وضع خطة جادة لاستخدام تقنية جديدة في عصر العولمة وللدخول إلا مجال تحسين صورتنا والمساهمة في عولمة ثقافتنا، بدلاً من الاكتفاء بلعن ثقافة العولمة، وإذا كانت هذه الخطة تتعلق في جوهرها برموز الخطاب التي نتعامل بها مع الآخرين ، سواء كانت هذه الرموز صورة في حالة قنوات البث المرئي ، أو شفرة فنية يتم من خلالها تنسيق المعلومات علي شبكات الإنترنت ، فإن تطوير هذه الرموز يتطلب في خطوة سابقة أو موازية إعادة النظر في طريقة تعاملنا مع الرموز الداخلية التي نحملها مفهومنا للثقافة التي نسعى إلى عولمتها ، ونعني بها اللغة العربية التي ما تزال طريقة تعاملنا معها أو اعتزازنا بها أو إهمالنا لها أو تعلمنا من خلالها أو تكوين شخصيتنا عبرها أو اعتبارها عائقًا لا يساعد الجيل الجديد من أبنائنا على النفاذ إلى العالمية، أو اعتبارها من ناحية أخرى جسرًا لابد من ترسيخ صلابته حتى تتأكد جذور الشخصية التي نحرص على امتداداتها الرأسية والأفقية لكي تتماسك في وجه طوفان الإذابة المكتسح ، ما تزال كل هذه الأسئلة حائرة وغير محسومة علي مستوى المسلمات ، التي ينبغي أن يجري الاتفاق حولها حتى ننطلق منها إلى التفكير في المهام الحضارية والثقافية التي يطلب من هذه الرموز أداؤها .

وما زال كثيرون منا ينظرون إلى اللغة العربية باعتبارها قشرة خارجية يتم تعلم الحد الأدنى منها للتعامل به في التواصل العام وتظل بمعزل عن أمور المعرفة المتقدمة ، ومن هنا فإنها تختفي أو تكاد في بعض فروع الدراسات العلمية الحديثة ، وكأن تقدم الشخصية العربية يمكن أن يتم بمعزل عن تقدم اللغة العربية، مع أن النظريات المعاصرة من حولنا ترى استحالة الفصل بين اللغة ومتكلميها، ومنها نظرية الحتمية اللغوية للفيلسوف الألماني ولهام همبولدت الذي يرى أن «الناس هم تبع في تفكيرهم وإحساسهم ومشاعرهم ونظرتهم للكون، للعادات التي اكتسبوها من خلال ممارستهم للغة»؛ لذا فاللغة تسمو بأهلها مع سموهم وتنحط الشعوب مع لغاتها وبلغاتها(20)، وفي الوقت الذي يشهد فيه العصر الحديث شعوبًا تعتز بلغاتها التي كانت منقرضة أو شبه منقرضة فتسعى إلى إحيائها فيما يسمى بظاهرة الانفجار اللغوي ، كما حدث مع العبرية في إسرائيل واللغات المحلية في أوروبا مثل الكاتلانية في أسبانيا ولغة ويلز أو اللغات المحلية في آسيا مثل اللهجات الصينية في سنغافورة وغيرها من اللغات التي بدأت تشكل نواة للقوميات المستيقظة في أوروبا وآسيا وأفريقيا ، في هذا الوقت يبدو إهمالنا للغة العربية على مستوى التعلم والتعليم والتطوير والاعتزاز الحقيقي لافتًا للنظر ، ويكفي أن نقول إن موجة التحديث والتطوير التي مست معظم فروع العلوم الإنسانية عندنا بطريقة أو بأخرى ، لم تكد تمس طريقة تعلمنا لللغة العربية وتعليمنا إياها؛ مما يشكل سببًا رئيسيًّا لعزوف جمهرة المثقفين العرب عنها إلا في إطار الواجب الثقيل(21) .

ومن هنا فإن الاهتمام بتطوير اللغة العربية وطريقة تعلمها وتعليمها لأبنائها أو غيرهم وتذليل صعوبات تعاملها مع المعرفة الحديثة من خلال التأليف بها أو الترجمة لها ، وتقليل غربتها عن المناخ العلمي من خلال دخولها التدريجي إلى قاعات الدروس ومعامل البحوث في فروع الدراسات العلمية بالجامعات العربية، فضلاً عن إشاعتها في لغة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء وفي اللقاءات والمؤتمرات والمحافل الدولية والمحلية وفي وسائل خطاب تكوين الوعي علي كل مستوياته ، بدءًا من لعب الأطفال حتى المناقشات الأكاديمية الجادة ، كل ذلك يمثل خطوات لابد منها لتأسيس الاعتزاز الحقيقي – لا اللفظي – بمكون من أهم مكونات تماسك الشخصية ، والانطلاق من هذا التماسك لمحاولة الإسهام في حركة العولمة الثقافية التي تحيط بنا من كل جانب ، والأرض ممهدة أمام اللغة العربية لتلعب دورًا رئيسيًّا في حركة عولمة الثقافة من خلال تاريخها الحضاري المشرف والذي كانت بمقتضاه واسطة فعالة بين حضارات العالم القديم والعالم الحديث، وحملت بكفاءة مهمة اللغة الحضارية والعلمية الأولى للعالم عدة قرون متوالية ، ويساند هذا عدد المتحدثين بها اليوم وموقعهم الجغرافي ومكانتهم السياسية والاقتصادية، إضافة إلى دائرة شديدة الاتساع من لغات العالم الإسلامي ، ينظر أصحابها إلى العربية كلغة مقدسة، وإذا ما تم التطور الكافي بها لتدخل منتدى حوار الثقافات المعاصرة ، فستكون كل هذه العوامل عونًا مساعدًا لها لتعلب دورًا رئيسيًّا في عولمة الثقافة .

إن المتخصصين في الدراسات الإسلامية يعرض بعضهم منهجًا وسطًا للحوار حول قضية ثقافة العولمة أو عولمة الثقافة(22) ويتساءل هذا المنهج عن موقف الرفض المبدئي لفكرة العولمة على يد بعض المهتمين بالدراسات الدينية، وهل هو قائم انطلاقًا من فكرة «بديل» لدينا يمكن أن نقدمه أو تخوفًا غريزيًّا من كل جديد في ذاته؟ وهو يرى أن «موضع العظمة أو الإعجاز في ديننا وثقافتنا يتمثل في هذا الجمع بين عدد من الثوابت التى تكون بنية أساسية لثقافتنا وبين القدرة غير المحدودة على التجاوب مع الجديد وتوظيفه من خلال جهد مسئول ليخدم القيم العليا والمصالح الكبرى للأفراد والأمة ولا نتصور أبدًا أن نتخلى عن هذه المهمة الثقافية الإنسانية الكبرى اكتفاء بموقف دفاعي انكماشي يمليه الإحساس المبالغ فيه بالضعف والعجز عن التعامل مع كل جديد» .

وفي إطار هذه النظرة التى تفضل الحوار مع ثقافة العولمة ، يرى هذا الاتجاه أننا يمكن أن ننطلق من فكرة حاجة الثقافة العالمية الجديدة إلى الأساس الأخلاقي الذي عرفته النظم السياسية والاقتصادية السابقة في نظام القبيلة أو الدولة ولم تتفق عليه بعد في النظام العالمي، وأن هذا النظام الأخلاقي يمكن أن يستمد مضمونه من الثقافات المتعددة التى ينتمي إليها الشركاء متجاوزًا مواطن الخلاف مركزًا على مواضع الالتقاء، وأن هذا الأساس المشترك يمكن أن يبنى على تلافي ما ساد بعد الثورة الصناعية من «عبادة المال» «وعبادة الذات» وإحساس البشرية بفقدان السعادة والاستقرار في ظلهما رغم التقدم المادي، وأنه يمكن للأديان في مرحلة أولى أن تتكاتف في صياغة مبادئ مواجهة تيار «اللادينية» متبنية في ذلك حسن الحوار ووقف الصراع فيما بينها، ولسوف يجد المنطق الإسلامي في ذلك فرصة تتحرك من خلالها مبادؤه السمحة في حركة عولمة للثقافة تتلافى الآن ألوان الصراع الديني بين دين ودين وطائفة وطائفة، ويتبع ذلك بالنسبة لمنظرى الخطة على الساحة الإسلامية تصحيحًا داخليًّا على ثلاثة محاور ، يتصل أولها «برسم الخط الفارق بين الإسلام كما يفهمه ويمارسه ويعرفه مئات الملايين من المسلمين وبين تيار الغلو في الدين أو ما يسميه الغربيون «الأصولية»، ويتصل الثاني «بتصحيح  فهم عالمية الإسلام باعتباره دعوة إنسانية موجهة للكافة وليس نظامًا يسعى أتباعه إلى فرضه عنوة وقسرًا على سائر الناس، أما المحور الثالث فيتصل بممارسة الاجتهاد والإقبال على التجديد في الفقه وفي أصوله على نحو يسمح باستيعاب  صور التطور العمراني ويواكب حركة العلم والتقنية، ويسهم فيها كما أسهم المسلمون الأوائل في تطور العلوم والمعارف الإنسانية مع التأكيد على إعادة قيم الحرية والديمقراطية  إلى مكانهما الصحيح من التصور الإسلامي ومن الحياة اليومية والسياسية والاجتماعية للمسلمين، ومع إعادة النظر في علاقة المسلمين بغيرهم القائمة على أساس سنة التعددية التى أرادها الله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } وعلى أساس الود والتعاون على الخير والتراحم .

إن نظرة معتدلة كتلك يمكن أن تحمل معها مفاتيح الدخول بقوة وثقة إلى دائرة «عولمة الثقافة» يكون لنا فيها مكان متميز عندما نملك روح الحوار المعتدلة وقيمه الحضارية وأساليبه المتطورة.

المراجع :

(1) انظر: محمد الحبيب بلخوجة: إيجابيات العولمة وسلبياتها، ضمن ملف «العولمة والهوية»، ص92، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية – الرباط، 1997.

(2) انظر: د. عبد العزيز التويجري، «الهوية والعولمة من منظور حق التنوع الثقافي في ضوء فلسفة حوار الأديان والحضارات»، المرجع السابق، ص160،161 بتصرف.

(3) انظر كتاب «فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية»، تأليف: هانس بيتر مارتيني وهارولد شومان، ترجمة: د. عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة، أكتوبر 1998.

(4) د. نبيل علي، صورة الثقافة والحضارة العربية الإسلامية في الإنترنت، ص 23، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، تونس 1999.

(5) انظر د. نبيل علي : مرجع سابق ص 8 وما بعدها .

(6) انظر بعض تفاصيل هذا الحوار في التعقيب المطول للدكتور سامر عكاش في مجلة المستقبل 1998/10 على دراسة د. محمد عابد الجابري عن الهوية والعولمة الثقافية في مجلة المستقبل 1998/2 .

(7) د . عبد العزيز بلقريز : العلولمة والهوية الثقافية ص 95 مجلة المستقبل العربي ، مارس 1998م .

(8) د . بول سالم ، الولايات المتحدة والعولمة ص 87 ، المستقبل، فبراير سنة 1998 .

(9) انظر : د . جلال أمين : العولمة والهوية الثفافية والمجتمع التكنولوجي الحديث ، المستقبل، أغسطس 1998 .

(10) انظر: المرجع السابق ص 64 .

(11) د. نبيل علي ، مرجع سابق ص 3 .

(12) انظر : د . ناصر الدين الأسد ، الهوية والعولمة ضمن إصدار العولمة والهوية، ص 6، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1997 .

(13) نقلاً عن الدكتور أحمد ثابت : العولمة والخيارات المستقلة، ص 20 ، المستقبل العربي، 1998 .

(14) انظر : د. عبد العزيز التويجري : مرجع سابق ص 167 .

(15) نشرت في مجلة الثقافة العالمية ص 60 ـ 66 .

(16) د. جلال أمين : مرجع سابق ، ص 58 .

(17) د . نبيل علي : العرب وعصر المعلومات ص 322 ، سلسلة عالم المعرفة ـ ابريل 1994 .

(18) المرجع السابق ص 322 .

(19) صورة الثقافة والحضارة العربية الإسلامية على الإنترنت، ص 33 ، المنظمة العربية للثقافة والعلوم بتونس، 1999 .

(20) انظر : العرب وعصر المعلومات ، مرجع سابق ص 347 .

(21) عالجنا هذه القصية بالتفصيل في كتابنا: إنقاذ اللغة من أيدي النحاة، دار الفكر ـ دمشق دار الفكر المعاصر / بيروت 1999 .

(22) انظر الدكتور أحمد كمال أبو المجد «العولمة والهوية ودور الأديان» في مطبوعات العولمة والهوية _ أكاديمية المملكة المغربية ، مرجع سابق .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر