حوار

العمل الأهلي : رؤية إسلامية

العدد 91

تقديم :

يهدف هذا المقال _ بشكل أساسي _ إلى إعادة تعريف مفهوم  المجتمع المدني ليس بغرض تبني تضميناته الفلسفية ، وإنما بهدف بيان الأسس الفلسفية التي يمكن إن نؤسس عليها مفهومنا للعمل الأهلي ، مع توضيح الخبرة الحضارية التي  يمكن ان تسهم بها أمتنا علي المستوى العالمي في إثراء النقاش والجدل الدائر حول هذا الموضوع .

إن إعادة البناء هذه ، عملية منهاجية بالغة التعقيد ؛ لأنها تتضمن عمليات عديدة تتكامل فيما بينها ، وبالمناسبة فهذه العمليات ليست مقصورة على موضوع العمل الأهلي ، وإنما تمتد لتشمل غيرها من القضايا والموضوعات التي تتعلق بمناطق الاحتكاك الحضاري والثقافي بين أمتنا والغرب ، وهذه العمليات المنهاجية المركبة من شأنها أن تؤدي بنا إلى أن نمسك الميزان ثم نستورد ما هو موزون لنقوم نحن بوزنه، وعلي هذا فإننا لسنا ضد الوافد أيا كان، ولكن ضد أن نستورد الميزان من الآخر لنزن به ، ونحن بهذا الشكل نطرح رؤية انفتاحية حقيقية يعبر عنها كلمة أو مصطلح  اجتهاد في الرؤية الإسلامية ، الذي يعني النسق المفتوح وليس النسق المغلق المصمت، ولكنه يظل في النهاية اجتهادًا نابعًا من الذات الحضارية لأمتنا.

هذه العمليات هي :

1_ جانب تصور عقدي يحرر الموقف الفلسفي للإسلام ، ويبين التصورات التي يستند إليها العمل الأهلي ، وبالمقابل فإن هذا الموقف العقدي يتطلب إدراك الأسس الفلسفية التي تستند إليها الحضارة الغربية ، أي إدراك ملامح الرؤية الكونية الغربية وتأثيرها في مناهج ومقتربات ومفاهيم ومظاهر الحضارة الغربية .

2 _ جانب فقهي تشريعي يؤصل المبادئ والأصول العامة ، كما يرسم الضوابط والحدود للموضوع المطروح.

3 _ جانب واقعي يتعلق بالصيغ والأشكال المؤسسية والتنظيمية التي تم من خلالها التعبير عن العمل الأهلي في الخبرة الحضارية لأمتنا ، فهذه الأشكال والصيغ المؤسسية تكشف عما استقر في الضمير الجمعي للأمة ، وانتقل من ناس إلى ناس بالتقبل الشعبي العام .

وعلى هذا فإن هذا المقال  ينقسم إلى النقاط الخمس التالية :

أولاً : بواعث رواج مفهوم المجتمع المدني في الخطاب السياسي العربي المعاصر .

ثانيًا : الأسس الفلسفية لمفهوم المجتمع المدني في خبرته الغربية .

ثالثًا :مقومات مفهوم المجتمع المدني.

رابعاً : الأسس الإسلامية للعمل الأهلي .

خامسًا : العلاقة بين العمل الأهلي أو الأمة والدولة في الخبرة الحضارية لأمتنا .

أولاً : بواعث رواج مفهوم المجتمع المدني في الخطاب السياسي العربي المعاصر :

يبدو مفهوم  المجتمع المدني اليوم أشبه بالموضة ، فما من بحث فلسفي أو تاريخي أو سياسي ، وما من مقال أو تعليق أو تصريح إلا ويعرض لمفهوم المجتمع المدني برؤى وتصورات متعددة ، وتوظيفات مختلفة ، ومن المؤكد أن المفهوم قد اكتسب ذيوعًا وانتشارًا في السياق الثقافي والسياسي العـربي ، حيث انتقـل المفهـوم _ مفهوم المجتمع المدني ـ إلى مصطلح ، وتحول المصطلح إلى شعار ، ثم تحول الشعار إلى  قيمة مرجعية في حد ذاته مثل مفاهيم الديمقرطية وحقوق الإنسان التي ارتبطت أساسًا بتطور الشكل الحضاري الغربي ، فهذه المفاهيم جميعًا وغيرها تحولت في واقعنا العربي إلى منظومة متكاملة يستخدمها البعض بدلالات ومعانى ومضامين معينة ، تمثل في أحيان كثيرة رؤيته هو لهذه الدلالات وتلك المعاني والمضامين ، وجعلها هؤلاء معيارًا لتحديد الموقف من القوى السياسية والاجتماعية الموجودة على الساحة العامة : قبولاً ورفضًا ، وتحول هؤلاء من مجرد مفكرين وباحثين أو حتى سياسيين إلى حراس علي بوابة المجتمع المدني يدخلون فيه من شاءوا ويحرمون منه من شاءوا ، هذا الذيوع والانتشار الذي تحول إلى هوس عبر عنه بعض المتفيكهين قائلين : إن المرء يخشى أن يطالعه مفهوم المجتمع المدني اليوم ليس حين يفتح كتابًا أو مجلة، بل حين يفتح الباب أو يطّلع من النافذة .

ويمكن رصد عوامل متعددة وبواعث شتى وراء الاهتمام المتزايد بالموضوع أهمها :

1 _ المثقف العربي والموضة الفكرية:

يلاحظ بصفة عامة أن كثيرًًا من المثقفين العرب _ على خلاف طائفة العلماء والفقهاء في تاريخنا القديم وإلى حد ما في تاريخنـا الحـديث _ قـد عانـوا _ بشكل كبير _ من مشكلة انصراف الأمة بطوائفها وفئاتها عنهم نتيجة أسباب متعددة ، ليس مجال سردها الآن، ولكن ما يعنينا في الأمر ان الطائفة المتغربة من المثقفين ارتبطت أجندة تفكيرها وأولويات اهتمامها بما هو قائم في الغرب من موضوعات وقضايا ، والغرب هنا المقصود به التشكيل الحضاري الغربي بشقيه الرأسمالي والاشتراكي قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، وبقواه المهيمنة في النظام الدولي المنعوت بالجديد .

جزء من مثقفينا العرب ولى وجهه شطر الغرب فاتخذه قبلة يردد في رجع للصدى ما يتردد في الغرب من قضايا ومفاهيم وإشكاليات ، فإذا قال الغرب:  ديمقراطية قال هؤلاء المثقفون  ديمقرطية،  ديمقراطية،  ديمقراطية وإذا قال الغرب :  مجتمع مدني قالوا:  مجتمع مدني،  مجتمع مدني،  مجتمع مدني،وإذا قال الغرب  عولمة قالوا :  عولمة ،  عولمة ،  عولمة وإذا قالوا ، قالت طائفة أو جمع معهم مثل ماقالوا ، وقلنا نحن ما قالوا .

ولقد انتقل اهتمام المثقفين العرب من قضية لأخري علي مدار العقود الثلاثة الماضية : ففي سبعينيات القرن العشرين شهد العالم العربي اهتمامًا متصاعدًا بين طائفة من المثقفين بفكرة الديمقراطية , وبات هؤلاء المثقفون ينظرون إلى الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطية على أنها الوصفة السحرية التي ستزول بها كل أسقام المجتمع العربي وأمراضه ، واستثار الجدل حول الموضوع خيال الكتاب العرب للإسهام في مناقشات مترامية الأطراف على صفحات الجرائد والدوريات والمجلات المتخصصة التي صدرت في أماكن شتى ، كما عقد في الثمانينيات مؤتمرات وندوات وصدرت كتب ومجلدات تناقش مكانة الديمقراطية  في المجتمعات العربية المعاصرة ، وتحول النقاش والجدل إلى حركة في الواقع السياسي العربي ، فشهدنا تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان سنة 1983 ، التي أعقبها تأسيس منظمات ومؤسسات قطرية تعنى بحقوق الإنسان في بلدانها ، ثم تلا ذلك في التسعينيات زيادة كبيرة في إنشاء هذه المنظمات ، وتوسع في نطاق ومجال عملها بحيث أصبح عندنا عدد من المنظمات المتخصصة في موضوعات وقضايا بعينها من قضايا حقوق الإنسان (ومنظمات للمرأة وأخرى للسجناء وثالثة فكرية فقط…).

ويلاحظ بحق د. وليد قزيها _ أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة _ أن كثيرًا من المثقفين الذين اهتموا بموضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان كانت خلفيتهم علمانية ، أو ذات صلة بالحركات الوطنية العربية والشيوعية ، ويعزو ذلك إلى انهيار الناصرية وفشل حزب البعث في التصدي لمهام الصحوة الوطنية والاجتماعية وتحرير فلسطين ، كل ذلك نزع المصداقية عن حقبة كاملة من الصراع العربي السياسي ؛ لذا أضحى كثير من المثقفين العرب _ بعد إصابتهم بخيبة الأمل والإحباط إزاء تجربتهم السياسية وامتلائهم بالغضب تجاه أداء الأنظمة العربية ـ ينظرون إلي الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطي أنها الحل لمشاكل ومعضلات الواقع العربي .

ومع اتساع المناقشة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في الثمانينيات ازداد تداول مصطلح  المجتمع المدني أكثر فأكثر في الخطاب العربي بالنسبة للشيوعيين والماركسيين والتحرريين من المثقفين العرب ، وكان الشيوعيون والماركسيون هم أكثر المثقفين اهتمامًا به ، وبخاصة في التسعينيات ، وهذه المرة، ليس نتيجة فشل مشروع دولة ما بعد الاستقلال ، ولكن نتيجة سقوط المشروع الشيوعي بسقوط الاتحاد السوفيتي ، وأراد هؤلاء أن يجددوا مشروعهم السياسي ويضخوا فيه دماء  جديدة ، فكانت قضايا الديمقرطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني هي المرشحة لضخ هذه الدماء خاصة أن جزءًا كبيرًا منهم قد أدركوا التحولات العالمية بعمق ، ورأوا أن هذه القضايا هي أيديولوجية النظام الدولي الجديد فتجاوبوا معها سريعًا .

2 _ موت الدولة القومية :

يلاحظ أن الدولة العربية قد بلغ دورها التوسعي _ باعتبارها أداة تحقيق وإنجاز التنمية ، منتهاه في السبعينيات من هذا القرن ، بعد أن قد بلغ ذروته في الخمسينيات والستينيات، فمنذ السبعينيات أدت مسيرة الأحداث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخليًا وخارجيًا ، إلى إجبار الدولة العربية على التراجع عن العديد من وظائفها الاجتماعية والاقتصادية بل حتي السياسية والثقافية التي ادعتها في الخمسينيات والستينيات .

ويبدو أن هذا التراجع قد عبّد الطريق لطرح فكرة المجتمع المدني في العالم العربي ، حيث نشطت بعض الفاعليات من نقابات وأحزاب لمحاولة ملء الهامش السياسي الذي أتاحته الدولة ذاتها ، إلى أن الأهم أن تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي والاقتصادي الذي تحملت عبئه في الخمسينيات والستينيات حين تحولت إلي مطعم وكاس وموظف لجميع رعاياها ، هذا التخلي أو التراجع عن أداء هذا الدور حفز قوي المجتمع لمحاولة تغطية احتياجاته الأساسية التي لم تعد الدولة توفرها له ، وهنا برزت فعاليات الجمعيات الخيرية إسلامية وغير إسلامية، وخاصة في الدول غير النفطية ، حيث ظلت الدول النفطية لمنتصف الثمانينيات ملتزمة بتوفير هذه الاحتياجات الأساسية لمواطنيها في ظل ارتفاع أسعار النفط منذ منتصف السبعينيات .

3 _ البواعث الدولية :

لا شك ، أن التطوارات الدولية التي أحاطت بالمنطقة قد دفعت لانتشار مفهوم المجتمع المدني في واقعنا العربي ، في هذا السياق يمكن رصد عدد من التطورات كانت بمثابة قوة دفع للمفهوم: أولها سقوط الاتحاد السوفيتي الذي تم بــ وعلى يد قوى المجتمع المدني وقتها ، وقد أدى هذا السقوط إلى توهم كثير من المثقفين العرب على اختلاف اتجاهاتهم بقرب تكرار التجربة في واقعنا العربي ، وتواكب مع سقوط الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية تدشين مفهوم  النظام الدولي الجديد وهذا النظام يتطلب أيديولوجية يروج بها لممارساته ، فكانت منظومة حقوق الإنسان والديمقراطية والمجتمع المدني باعتبار الأخير أداة إنجاز التحول الديمقراطي .

أما ثاني التطورات الدولية المهمة فكان مؤتمرات الأمم المتحدة الكبرى التي عقدت حول القضايا المصيرية في العالم : كان أول هذه المؤتمرات هو مؤتمر ريودجانيرو المدعو بقمة الأرض سنة 1990 ، وثانيها مؤتمر فينا المدعو قمة حقوق الإنسان سنة 1993 ، وثالثها مؤتمر السكان بالقاهرة 1994 ، ورابعها مؤتمر التنمية الاجتماعية بكوبنهاجن 1995 ، وخامسها مؤتمر المرأة في بكين 1995 ، وآخرها مؤتمر المستوطنات باستانبول بتركيا 1996 .

هذه المؤتمرات جميعا تأتي نتيجة الإحساس بالحاجة لرؤية جديدة للعالم يشارك فيها الجميع ، وكان من ضمن الجميع الذي دعي للمشاركة هي مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني ، حيث كان في كل قمة من القمم الست مؤتمران في وقت واحد ، الأول للوفود الرسمية والثاني للوفود غير الرسمية ، وكان الثاني يعقد قبل الأول بأيام قليلة، حتى يخلص المؤتمرون إلى رؤيتهم بشأن الوثيقة التي ستصدر عن المؤتمر الرسمي ، وكانوا يسعون إلى لعب دور في صياغة الوثيقة الرسمية .

وهكذا ، فإن مؤتمر الأمم المتحدة قد دشنت بحق منظمات ومؤسسات المجتمع المدني باعتبارها شريكًا في صياغة مستقبل البشرية ، وتواكب مع ذلك أيضًا ، وهذا هو التطور الدولي الثالث ، أن العالم بات يشهد عددًا من الفواعل الدولية التي تصيغ العلاقات الدولية بخلاف الدول ، في هذا الصدد يمكن أن نشير إلى الشركات متعدية الجنسية ، ومنظمات الإغاثة العالمية مثل أطباء بلا حدود ، وأجهزة الإعلام ، ومنظمات حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية، وقد ترتب على ذلك زيادة الحديث عن  المجتمع المدني العالمي ، و  التحالف العالمي لمشاركة المواطنين، و دعم المجتمع المدني في العالم . وهذا التطور انتقل من التبشير بالفكرة والدعوة إليها إلى إنشاء مؤسسات وتدشين مشاريع بحثية ، وتوفير تمويل ضخم أخذت به الفكرة قوة دفع جديدة.

4_ بواعث أكاديمية :

جزء من البواعث الأكاديمية يرتبط بتطور دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية أساسًا ، والجزء الآخر يرتبط برؤية الأكاديميين العرب وأولوياتهم البحثية : ويلاحظ _ في هذا الصدد _ أن دراسات المجتمع المدني التى اهتم بها الأكاديميون الغربيون هي امتداد لتقاليد جديدة في دراسات الشرق الأوسط التى ظهرت في فترة سابقة كمعارضة للدرسات الاستشراقية التى انصب اهتمامها أساسًا على الأبعاد الثقافية للمجتمع العربي ، وأصبح الاتجاه ينحو أكثر في دراسات الشرق الأوسط نحو العناية بخصوصية الواقع العربي ، فكان التأكيد على الدور الممكن للمبادرة الأهلية في العملية السياسية .

أما الأكاديميون العرب فرأوا في قضية المجتمع المدني فرصة لدراسة قضايا وموضوعات جديدة بعد أن انصب جل تركيزهم في حقل العلوم السياسية سابقًا على الدراسات التى تدور حول الدولة أساسًا ونظامها السياسي ، ودعم هذا التوجه حجم التمويل الكبير نسبيا والمتاح في هذه الدراسات .

ثانيًا : الأسس الفلسفية لمفهوم المجتمع المدني في خبرته الغربية :

لا يمكن بحال عزل مفهوم  المجتمع المدني عن السياق التاريخي الذي نشأ فيه ، ونقصد بالسياق التاريخي ، هنا ، نشأة المفهوم داخل التشكيل الحضاري الغربي باعتبار المفهوم بلفظه والدلالات التى يحملهـا ، والمضمـون الـذي يحـدده _ قد نشأ وتطور داخل هذا التشكيل بواقعه وصراعاته الاجتماعية والفكرية .

إن هذا التاريخ من شأنه أن يدلنا أولا على الظروف التاريخية التى أحاطت بتشكيله وتشكله حتى استقر الحال على ما هو عليه الآن من طرحه  كقيمة مرجعية حاكمة _ أو ينبغي أن تحكم _ حركة التطورات العالمية في علاقة المجتمع بالدولة وفي تحقيق النظام الديمقراطي .

كما أن إدراك هذا التاريخ من شأنه أن يوضح لنا ثانيًا التضمينات الفلسفية التى تقف وراء المفهوم فتلتبس به ولا تنفك عنه ، وهذا الإدراك من شأنه أن يساعدنا _ نحن العرب والمسلمين _ على تحديد أو بناء موقف أكثر تركيبًا وعمقًا في النظر إلى مفهوم  المجتمع المدني والتفاعل معه . وأخيرًا فإن إدراك الظروف التاريخية التى أحاطت بنشأة المفهوم تساعدنا على بلورة وتحديد الملابسات التى يجب أن نعيها عند نقل هذا المفهوم _ الذي نشأ داخل تشكيلة حضارية ما _ إلى التشكيلة الحضارية للأمة بقيمها وفلسفتها ونظرتها للكون والحياة والإنسان .

مفهوم  المجتمع المدني _ في جذوره التاريخية _ نشأ في إطار الصراع بين القديم والجديد في أوربا القرن السابع عشر والثامن عشر ، أو بعبارة أخرى: فقد نشأ المصطلح في إطار التخلص من  أزمنة العصور الوسطى ، وفي إعلان القطيعة مع النظام القديم جملة وتفصيلاً، وقبول نظام جديد يقوم على أسس مختلفة ومخالفة ، وقد التبس هذا الصراع بمعارك فكرية وأيديولوجية ، كما ارتبط بقوى اجتماعية صاعدة وأخرى مندثرة، وقد تركت هذه المعارك آثارها على الأسس الفلسفية التى يتأسس عليها المفهوم _ مفهوم المجتمع المدني _ وينطلق منها ، أهمها :

1_ الصراع :

والصراع هنا ليس مقصورا على الصراع بين المجتمع والدولة ، كما يحلو لبعض أنصار المجتمع المدني أن يصوره ، ولكنه صراع _ أيضًا _ بين الأفراد والتكوينات داخل  المجتمع بغية تحقيق صالحهم الخاص ، فالمجتمع المدني يعرف بأنه  مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التى تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة؛ لتحقيق مصالح أفرادها  .

وإذا كانت نشأة مفهوم المجتمع المدني قد تمت في إطار الصراع بين الأفراد لتحقيق مصالحهم الخاصة ، فإنه أيضًا نشأ نتيجة الصراع بين الدولة والمجتمع المدني في أوربا ، وفي ظل تطورات العلاقة التي قامت بينهما حين تكونت لدى الدولة إرادة السيطرة والاحتواء ، وتكون في المجتمع نزوع نحو مزيد من الاستقلال والتمايز عن الدولة، ودعوة إلى التقليل من ثقل حضورها .

إن نشأة   الدولة القومية  في أوربا ذات دلالة مهمة في فهم الملابسات التى أحاطت ببروز مفهوم المجتمع المدني ، فقد كانت الدولة سبيلاً أساسيًّا ، وأداة ناجعة في التخلص من العصور الوسطى والانتقال إلى العصور الحديثة . كانت  الدولة القومية أداة توحيد للقوميات المتباينة والمنقسمة بشدة في أوربا ، كما كانت السبيل لتحقيق  السوق الواحد الذي يعد متطلبًا أساسيًّا من متطلبات الانتقال من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية ؛ لأنه _ أي السوق الواحد _ سبيل تبادل السلع والخدمات بحرية كاملة ، وما يرتبط بذلك من إنتاج كبير ووفير يسمح بهذا التبادل .

في هذا السياق ، ولتحقيق هذه الأغراض ، تغولت الدولة القومية في أوربا ، وزادت سطوتها على المجتمع؛ حيث أنيط بها إنجاز كثير من المهام والأدوار لصالح بعض الفئات الاجتماعية الصاعدة، وبخاصة الفئة الرأسمالية ، وقد تأكد هذا التوسع في دور الدولة مع المرحلة الاستعمارية حين تحولت الدولة إلى أداة الاستعمار الغربي ووسيلته الأساسية .

كل هذه التطورات أدت إلى ميل الكفة لصالح الدولة على حساب المجتمع، ثم في تطور آخر كان لابد للمجتمع أن يعود للتوازن بينه وبين الدولة، وهنا ملاحظة جديرة بالتأمل ، وهي أن بعض دعاة المجتمع المدني في بلداننا يحلو لهم أن يروجوا لأسطورة الفصل التام بين الدولة والمجتمع ، أو الصراع الدائم والمستمر بين الاثنين ، وهؤلاء يتناسون أو يتغافلون عن أن هذا الفصل ليس هو واقع الحال بين الطرفين في الغرب ، ولم يكن كذلك في الماضي: فالدولة والمجتمع نشآ متضافرين لتحقيق  مشروع الحداثة وفي إطار التحول عن القديم ، وهذا لايعني بالطبع عدم وجود قدر من الصراع بينهما، ولكنه صراع على حدود الفعل ومساحته ، وليس على المقصد من وراء الفعل أو الغاية منه.

إن الصراع المتوهم بين المجتمع والدولة في واقعنا العربي والإسلامي من شأنه _ كما يروج بعض دعاة مفهوم  المجتمع المدني ـ أن يضعف كلاًّ منهما لصالح الخارج ، وهذا هو خطورة نقل خبرة حضارية من واقع لواقع آخر دون إدراك خصوصياته وتوظيفاته في الواقع الجديد ، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن خبرة العلاقة بين المجتمع والدولة في الغرب أدت إلى إيجاد  اعتماد متبادل بينهما لتحقيق مصالح وغايات الحضارة الغربية وأهدافها العليا .

2_ التعاقدية :

التعاقدية من الأسس الفكرية التى يقوم عليها مجمل البناء الحضاري الغربي، فالتعاقدية تحكم علاقات الأفراد مع بعضهم البعض ، كما ترسم مسار التفاعل بين الفرد والمؤسسات، وهي أسس علاقة الإنسان الغربي بالآخر (غير الغربي) . وفكرة التعاقد تفترض أن الأفراد قادرون تمامًا على الفهم الكامل لجميع القوانين الآنية والوقتية التى نتعرض لها في الحياة ، أو في الوضع الحالي أو التى نتعاقد عليه ، كما أنها تفترض أني لو استطعت أن أسخر الآخر أو ألتهمه ، فهذا من حقي طالما أن العقد يسمح لي بذلك وطالما أملك القدرة عليه .

يعود مفهوم التعاقد بحذوره الفلسفية إلى نظرية  العقد الاجتماعي التي دشنها فلاسفة أوربا اعتبارًا من نهاية القرن السابع عشر وخلال الثامن عشر ، وهذه النظرية أحد أهم الجذور الفكرية والفلسفية لمفهوم المجتمع المدني ، وهي تقوم على فكرة افتراضية مؤادها أن الأفراد كانوا يعيشون في حرية تامة فيها أطلق عليه  حالة الطبيعة الأولي ، يعيش كل واحد منهم مستقلاًّ وغير مرتبط بالآخر ، أي دون ارتباط اجتماعي ، وقد تنازل هؤلاء الأفراد عن جزء من إرادتهم مقابل العيش في مجتمع تتحقق فيه الرابطة الاجتماعية  المجتمع المدني ، أي أن المجتمع  الجديد هو وليد عقد معين بين الأفراد ، وهذا يعني أن كل الأنظمة الاجتماعية هي أنظمة إنسانية أي من صنع الإنسان ، ومن ثم فإن المجتمع ليس نتاجًا لإرادة إلهية أو قوى فوق الطبيعة .

وهكذا فإن نظرية العقد الاجتماعي التى جاءت لتهدم الأساس الطبيعي للنظام الإقطاعي وتستبدله بنظام جديد ، تقوم على أساسين متكاملين هما بمثابة أحد أركان الحضارة الغربية ذاتها :

الأول الفردية :

يقوم النظام الاجتماعي على عقد بين الأفـراد الأحـرار المتساوين بما يترتب عـلى ذلك من حق الأفراد في تغيير النظام الاجتماعي القائم بعقد اجتماعي جديد يبرمونه فيما بينهم . فالعقد الاجتماعي يؤكد _ إذن _ على الإرادات الحرة للأفراد نشاطًا وبحثًا عن مصالحهم الخاصة ، ويقوم كل فرد باعتباره ذاتا مستقلة منعزلة عن الذوات الأخرى .

الثاني : العلمانية :

وهي تعنى _ كما قدمت _ أن تأسيس النظام الاجتماعي يقوم به الأفراد متخلين فيه عن أية قوة أخرى غير إرادتهم  الحرة ، والقوة المقصودة هنا هي قوة الكنيسة في العصور الوسطي ، وما يرتبط بها من نسق قيمي وأخلاقي، فالفكر والممارسة الغربية في عصرها الحديث هي نتاج الفكر الوضعي ، وإفرازا لمنطلقاته التى هي في جوهرها تحلل دائم ومستمر من جميع القيود الأخلاقية والمعايير الثابتة ، والقيم الحاكمة ، والأطر المرجعية الملزمة من خارج البشر . عملية التحلل هذه توجد حالة من النسبية المطلقة بما يعنيه ذلك من عدم وجود معيار أو مقياس يمكن التمييز به بين الخير والشر ، والظلم والعدل ، بحيث تصبح المصلحة في اعتبار القوم هي المعيار الوحيد أو القانون المهيمن الذي يجب أن تعالج في ضوئه الشئون كافة .

3_ المدنية :

لفظة  المدني في مفهوم المجتمع المدني تتسم بغموض شديد، فأحيانًا تطرح في مقابل العسكرى عند الحديث عن العلاقات المدنية العسكرية ، وفي أحيان أخرى تطرح في مقابل الريف أو البداوة ، إلا أن الأهم هو أنها تطرح في مقابل الديني . هذا الغموض الذي يحيط بلفظة المدني يسمح لبعض دعاة المجتمع المدني أيضًا باستخدامه وتوظيفه لتحقيق أغراض يضمرونها، فهم في بعض الأحيان يستخدمون لفظ المدني لاستبعاد جميع الحركات  الدينية من تعريف المجتمع المدني .

والحقيقة أن لفظة المدنى تعني المجتمع الحديث الذي قامت أسسه إبان عصر النهضة في أوربا ، والذي قام على هدم جميع التكوينات الاجتماعية التقليدية والموروثة عن النظام القديم، لذا فالتعريف الذي يقدم للمدني _ عادة _ يستبعد التنظيمات الإرثية منه ( الأسرة _ القبيلة …) ويقصره على التنظيمات الطوعية الحرة التى ينضم إليها الفرد بملء إرادته وباختياره الحر .

والتعريف بهذا المضمون يستبعد العديد من التكوينات الاجتماعية _ التى أطلق عليها  التراحمية _ التى ما زالت فاعلة في واقعنا العربي ، بل تشهد نموًّا متزايدًا قد يكون أحد أسبابه الرئيسية أن الأدوات أو المؤسسات الحديثة _ بما فيها الدولة ذاتها _ لا تقوم بأداء وظائفها المنوطة بها ، وأهمها تحقيق قدر من الولاء لعموم مواطنيها ، كما لا يشعر المواطن بانتماء حقيقي تجاهها، بل يشعر في أحيان كثيرة أنها غريبة عنه .

ثالثًا : مقومات مفهوم المجتمع المدني:

وإذا كانت مفاهيم الصراع والتعاقدية والمدني هي الأسس الفلسفية التى يقوم ويتأسس عليها مفهوم المجتمع المدني في خبرته الغربية ، فإن المفهوم يستند إلى عدد من المقومات الأساسية أهمها :

1_ فكرة الطوعية : باعتبارها أحد أسس تكوين بعض التشكيلات المؤسسية والاجتماعية .

2_ المؤسسية : أو بالأحرى المؤسسات الوسيطة التى تنشأ لتملأ الفراغ بين الدولة والسلطة السياسية والأسرة ، ولتقوم بوظائف ومهام متعددة .

3_ أما العنصر الثالث فيتعلق باستقلال هذه المؤسسات عن السلطة السياسة ، ومحاولة التملص من هيمنة الدولة وطغيانها على المجتمع .

4_ وأخيرًا ، فإن المفهوم يرتبط بعدد من القيم والمفاهيم الأخرى التى تنفك عنه لزومًا وتلازمًا، أبرزها: مفهوم المواطنة، ومفهوم حقوق الإنسان، والمشاركة السياسية والشعبية، والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف .. إلخ .

إن التمييز بين الأسس الفلسفية التى يستند إليها مفهوم  المجتمع المدني ، وبين المقومات التى تمثل مؤشرات دالة عليه وموضحة لمضمونه ؛ إن هذا التمييز من شأنه أن يساعدنا في بناء موقف أكثر تعقيدًا وتركيبًا في النظر إلى المفهوم والتعامل معه : فإذا كان الإنسان المسلم _ عند تعامله مع هذا المفهوم _ يرفض الأسس الفلسفية التى ينطلق منها المفهوم باعتباره يحمل نظرة للكون والحياة والإنسان تتناقض أو تتباين مع هذه الأسس ، إلا أن الموقف من المقومات موقف مختلف؛ لأنه قد يقبل من هذه المقومات ويرفض ، بل إن الخبرة الحضارية لأمتنا تسمح بتقديم نموذج مختلف يمثل إسهامًا حقيقيًّا لها في صياغة الواقع والأفق العالمي المنشود ، وهذا ما سأناقشه في الجزء التالي من المقال .

رابعًا : الأسس الإسلامية للعمل الأهلي:

العمل الأهلي هو جهد تبذله الأمة بجميع فئاتها وطوائفها ومؤسساتها مستهدفة تحقيق مقاصد الشرع الخمسة (حفظ الدين ، وحفظ العقل ، وحفظ النسل ، وحفظ النفس ، وحفظ العرض)، أو بعبارة أخرى، فإن جوهر العمل الأهلي _ في الرؤية الإسلامية _ هو تحقيق مقصد  العمران في الأرض {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود : 61)، الذي هو سبيل تحقيق ذاتية الأمة ومثاليتها في أرض الواقع .

العمل الأهلي بهذا المعنى يتأسس على مجموعة من المفاهيم المحورية أهمها:

1_ فروض الكفاية والمسئولية الجماعية للأمة :

تجد فروض الكفاية سندها في توجه الخطاب القرآني بتكاليف الله سلبًا وإيجابًا للأمة {يا أيها الناس …} {يا أيها الذين آمنوا …} {أقيموا الصلاة …} {وافعلوا الخير …}. وخطاب الله للأمة شمل التكاليف الفردية كما شمل التكاليف الجماعية ، فالإسلام لا يخاطب الفرد فحسب وإنما يخاطب الجماعة في عمومها أيضًا ، فهناك فروض أوجبها الإسلام على كل فرد بعينه وهناك فروض أوجبها الإسلام على الجماعة بجمعها وبوصفها كلاًّ متميزًا عن ذات الأفراد المندرجين فيها ، وهذه الفروض هو ما يطلق عليها  فروض الكفاية التى تعد بمثابة واجبات اجتماعية تسهم في تماسك نسيج الأمة الاجتماعي وتشعرها بالمسئولية التضامنية، وتنتهي بها إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي على مختلف الأصعدة ، مما تتحول معه فروض الكفاية التى إذا قام بها البعض سقطت عن الآخرين إلى فروض عين على من توفرت فيه أهلية القيام بها حتى يؤديها على الوجه الأكمل إلى درجة الكفاية الاجتماعية . ولا يعنى ذلك مباشرة الفروض فقط كما هو شائع؛ إذ العبرة بتحقيق المقصود وإنجاز المصلحة ودفع المضرة وتحقيق الطلب . وعلى هذا فإن معيار القصد والغرض والمصلحة المعتبرة شرعًا تتحكم في الكم ، كم القائمين بفرض الكفاية ، إلى الدرجة التى يتحول معها فرض الكفاية إلى فرض عين . ومن هنا جاءت المسئولية التضامنية والجماعية في القيام بهذه الفروض أو في الجزاء عليها فيما يعرف بالحساب الجماعي للأمم والمجتمعات فكما أن للأفراد أجل، فكذلك للأمم والمجتمعات، أجلاً {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون}، وكما أن للفرد كتابه فكذلك للأمم كتابها : {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وعدم الأخذ على يد الظالم ما يزال موجبًا لنزول العقاب على الجماعة كلها : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

وفروض الكفاية تعبير عن مدى التزام الأمة أولاً بأحكام الإسلام وشرائعه وإن لم تلتزم السلطة بتلك الأحكام وهذه الشرائع ، فمقصود الدين في الرؤية الإسلامية يتحقق بالأمة _ كما يرى ابن تيمية _ وليس بالسلطة أو الإمام، باعتبار أن السلطة مؤسسة من مؤسسات كثيرة تنشئها الأمة لتحقق بها مقصود الدين وتجسده في واقع معيش .

2_ المسئولية الفردية :

الإنسان وفق الرؤية الإسلامية إنسان مكلف ومسئول عن أعماله : إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر ، وهو يقوم بدوره وواجبه انطلاقًا من هذه المسئولية {وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} .

وهنا ملاحظة جديرة بالتأمل ترتبط بموضوعنا ، وهي قول الفقهاء في موضوع الوقف أن  شرط الواقف كنص الشارع حين يعبر الفرد عن إرادته في صورة مجموعة من الشروط التي يحدد بها كيفية إدارة أعيان الوقف ، وتقسيم ريعه ، وصرفه إلى الجهات التي ينص عليها أيضًا .

ويلاحظ أن الفقهاء بهذه المقولة قد أضفوا على هذه الشروط _ شرط الواقف _ صفة القداسة ، ما لم تحرم حلالاً أو تحل حرامًا ، وجعلوا لها حرمة لا يجوز انتهاكها إلا في حالات استثنائية وذلك بأن دفعوها إلى منزلة النصوص الشرعية من حيث لزومها ووجوب العمل بها ، فالفرد ينشئ الشخصية المعنوية للوقف التي تنشأ مع نشأة الوقف وبإرادة الواقف .

إن المسئولية الجماعية والمسئولية الفردية معًا ، والتوازن الدقيق الذي يقوم بينهما في الرؤية الإسلامية يستدعيان مفهومين على درجة كبيرة من الأهمية يتأسس بهما العمل الأهلي في الرؤية الإسلامية وهما الفرد والأمة .

فالإرادة الفردية تتأكد حين يتحول الفرد إلى  شارع ، ليس عبر حركة الاجتهاد التي قررها الإسلام لكل مسلم اجتمعت فيه شروط الاجتهاد ، ولكن من خلال ممارساته الأهلية والاجتماعية أيضًا ، كما ظهر ذلك في مسألة الوقف. إن تأكيد دور الفرد يسمح له بالوقوف أمام تغول كلٍّ من السلطة أو الدولة والمؤسسة ، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى استعادة دور الفرد الذي لا يمكن تصوره موجودًا أو فاعلاً في واقعنا القائم إلا في إطار مؤسسة ، على الرغم من أنه هو الذي ينشئ المؤسسات ويعطي لها فاعليتها .

ومن المفاهيم الجوهرية لمسألة العمل الأهلي مفهوم  الأمة التي هي أيضًا في الرؤية الإسلامية  أمة شارعة ، أي أن لها دورًا تشريعيًّا ، ويجد هذا الدور التشريعي سنده في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي جعلت للأمة دورًا تشريعيًّا تقوم به بجوار العلماء والمجتهدين : فما  يراه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن . و  لا تجتمع أمتي على ضلالة ، وقد تمثل هذا الدور التشريعي للأمة في شكلين :

الأول : الرضاء والقبول الاجتماعي لاجتهادات الفقهاء والمفتين الذي جعلها تتحول من مجرد آراء واجتهادات إلى نوع من الإلزام القانوني .

الثاني : اعتماد الفقهاء والأصوليين للعرف كأحد الأدلة الشرعية ، فالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه في أمور حياتهم ومعاملاتهم من قول أو فعل أو ترك ، ولا يخالف دليلاً شرعيًّا ، ولا يحرم محرمًا ولا يبطل واجبًا ،  فالعادة شريعة محكمة، كما قال الأصوليون .

إن إعادة الاعتبار لمفهوم الأمة يحمل في طياته  رادعًا اجتماعيًّا يجعل محاولة الخروج على أحكام الإسلام وشرائعه أمرًا بالغ الصعوبة ، ذلك أن من أهم الآثار التي تنتجها الرؤية الإسلامية أنها تعطي للأمة وحدة فكرية وتشريعية وإدراكًا واحدًا لكل ما له صلة بالإسلام، مما يدعم كيانها ويقوي بنيانها ويربط شعوبها برباط التضامن والتكافل ، ويحميها من مخاطر التجزئة الفكرية والسياسية ، ويجعل أية محاولة للخروج على هذه الشرعية تحمل عقاباً اجتماعيًّا تفرضه الجماعة المسلمة على المنتهكين لحرمة شرعيتها وشريعتها ، خاصة إذا تضافر مع ذلك وتساند معه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، ذلك الفرض الكفائي الذي يجب على العالم كما يجب على السلطان ، وهو كذلك واجب على مجموع الأمة حسب الوسع، يؤديه المسلم حسب طاقته ، فالمعروف هو كل ما ينبغي فعله أو قوله طبقًا لنصوص الشريعة ، والمنكر هو كل قول أو فعل لا ينبغي فعله طبقًا لنصوص الشريعة .

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يخلق حالة من الوعي الجماعي بالمثالية الإسلامية التي تؤكد المسئولية الجماعية والتضامنية ، ويجعل من الجماعة المسلمة كلاًّ مترابطًا وجسمًا واحدًا ، مما يتعين معه أن يحفظ الجسم بعضه بعضًا ويتداوى بذاته من داخله ، وهو ما يضمن للجماعة الإسلامية أن تكون قادرة على أن تفرز من داخلها وسائل حمايتها الذاتية ووسائل تجددها . وكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبًا شرعيًّا يعني أن من أوجب واجبات المسلم أن يحفظ كيانه ، فالواجب الديني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرتبط بالواجب الاجتماعي ويتصل به على وجه الاختصاص؛ لأن السكوت على ترك المعروف وعلى فعل المنكر يعني نشوء انتهاك الشرعية في السلوك الاجتماعي وهو يؤدي إلى استفحال الأدواء وتمكنها من المجتمع بحيث تنفك عروة الجماعة ويفسد قوامها ، وتضيع مسئولية الفرد ، وتتحلل قوى التماسك في المجتمع .

ويحول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مساهمة ومشاركة المواطن في العمل العام إلى واجب ديني وحق يأثم إن تقاعس فيه مع القدرة عليه ، ويثاب إن أداه على وجهه .

ولقد مثلت مؤسسة الحسبة في الخبرة الحضارية لأمتنا تجسيدًا لواجب وحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبارها ولاية مقصدها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله . وهي تمثل واجبًا عامًّا على جميع المسلمين ولا تخص قومًا دون قوم ، ولا يشترط لوجوبها تكليف يصدر عن الإمام أو ولي الأمر ، فحيث وجد معروف ظاهر تركه ، أو منكر ظاهر فعله فقد علق في ذمة المسلمين واجب الأمر أو النهي عنه، وهو واجب لا يسقط عنهم إلا بالأداء ، ولا يسقط إثمه عن الأمة جميعًا أن يؤديها عنها البعض منها .

خامسًا : العلاقة بين العمل الأهلي والدولة في الخبرة الحضارية لأمتنا :

الخطاب الغربي لمفهوم  المجتمع المدني (ولا أقول الخطاب العالمي؛ لأن الغربي لا يعني العالم كله) يتضمن فيما يتضمن مقابلة وصراعًا _ كما قدمت _ بين الدولة والمجتمع ، وهذا في جزء كبير منه نتاج الخبرة الحضارية الغربية في بناء الدولة القومية التي قامت على نظرية العقد الاجتماعي التي هي في جوهرها تعتمد على فكرة افتراضية تقوم على تنازل الأفراد عن جزء من سلطانهم لصالح الدولة من أجل صالح الجميع .

وهذه النظرية تختلف كليًّا عن نظرية نشأة الدولة في التصور الإسلامي : فالأمة هي التي أنشأت مؤسسة الدولة ، كما أنشأت بجوارها العديد من المؤسسات التي تستهدف منها تحقيق ذاتيتها ومثاليتها. ففي البدء كانت الأمة.

الأمة استطاعت أن تقدم مفهومًا للعمل الأهلي _ يختلف بالكلية عن الخبرة الغربية في مجال المجتمع المدني ، هذه الخـبرة جـوهـرها قـدرة كـلّ من الدولة (السلطة) والأمة أن تصنع مجالاً مشتركًا بينهما مع وجود مجالات منفصلة لكل منهما عن الآخر ، فالأمة التي تنهض بنفسها وتؤسس فاعليتها وحركتها ومشاركتها ، ليست بديلاً عن الدولة ولا مزاحمة لها ، وإنما موازية ومتكاملة معها. العمل الأهلي الفاعل _ إذن _ هو مصدر من مصادر قوة الدولة والأمة معًا: أما كونه مصدرًا من مصادر قوة الأمة ، فيما يمكن أن يوفره من مؤسسات تتمتع بالاستقلال المالي والإداري ، ربما يمكن أن تقدمه تلك المؤسسات من خدمات في مجالات الحياة المختلفة .

أما كونه مصدرًا من مصادر القوة للدولة ، فيما يمكن أن يخفف عنها من أعباء القيام بتلك الخدمات ، وإدارة تلك المؤسسات ومراقبتها ، فالرؤية الإسلامية في هذا الشأن هي أنه يجب ألا تمتد يد الدولة إلى عمل أو مهنة يمكن أن يقوم به أو بها المسلمون فرادى أو جماعات .

وبهذا المعنى يمكن أن يكون العمل الأهلي أحد أهم آليات ضبط العلاقة بين الأمة والدولة ضمن إطار تعاوني غير صراعي ، لا يسمح فيه للدولة بالتضخم على حساب الأمة أو السيطرة عليها بحجة توفير الخدمات العامة بينما هي تحتكر المبادرات الاجتماعية وتصادر الجهود التطوعية ، كما لا تتلاشى فيه سلطة الدولة أو تصبح ضعيفة ، وإنما تظل حاضرة وقوية في حدود وظائفها الأساسية التي لا تتخطاها بالتدخل في الشئون الأهلية .

بعبارة أخرى ، العمل الأهلي يمكن أن يكون مجالاً مشتركًا بين السلطة والأمة ، وليس مجالاً للصراع بين الطرفين كما هو مطروح في مفهوم  المجتمع المدني، فهذا الصراع المفترض  بين المجتمع والدولة في مفهوم  المجتمع المدني من شأنه أن يضعف كلاًّ منهما في واقعنا العربي والإسلامي ، وهذا هو خطورة نقل خبرة حضارية من واقع لآخر دون إدراك خصوصياته وتوظيفاته في الواقع الجديد .

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه إذا كانت نشأة المجتمع المدني في الخبرة الغربية قد أحاطت به ظروف الصراع بينه وبين الدولة ، إلا أن الاثنين معًا قد استطاعا تطوير علاقة  شراكة أو اعتماد متبادل بينهما بهدف تحقيق مقاصد وجوهر الحضارة الغربية . فالتصور السائد الآن في الدراسات المتعلقة بموضوع المجتمع المدني ترى أن المجتمع المدني القوي أو العمل الأهلي القوي يكون موجودًا في دولة قوية ، أي أن هناك علاقة طردية بين قوة المجتمع المدني وفاعليته وبين فاعلية الدولة ، وغير صحيح أن هناك علاقة عكسية بين القطاع الأهلي وفاعليته وبين فاعلية الدولة ، لأن الدولة حين تكون قوية ، فإنها تثق في القطاعات الأخرى ، والثقة دائمًا لا تكون إلا من الدولة القوية التي وصلت إلى مستوى مستقر من القوانين والمؤسسات .

وهذا التفاعل الصحي أو الثقة المتبادلة بين القطاعات الثلاثة (القطاع الحكومي ، والقطاع الخاص ، والقطاع الأهلي) في داخل الوطن الواحد توجد مؤسسات مشتركة تتكون على الحواف بين القطاعات الثلاثة ، وهذا يوجد قدرًا من التشبيك بين الثلاثة بغرض خدمة الأهداف والمصالح المشتركة .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر