أبحاث

مكانة علم الأخلاق في التراث العربي والإسلامي

The Status of Deontology in the Arab and Islamic Legacy - العدد 172 /173

مفتتح استشكالي:

من الأسئلة التي تتقدم إشكاليات الخطاب الأخلاقي الإسلامي هي مدى حيازة هذا التراث على فلسفة أخلاقية نظيراً للثقافات الأخرى، فعلم الأخلاق الذي يعدّ فناً وصناعة فلسفية ترتبط بكلا البعدين النظري والعملي من الخطاب الفلسفي، قد يجري سحبه (ها) عن التراث الإسلامي بتهمة أنّ طابعه الأخلاقي ذو صبغة عملية لا فلسفية عقلانية، فهي بلا منهج، وهي إلى الوعظ والإرشاد أقرب منها إلى الاستدلال العقلي، حتى جاز عند بعضهم نعتها بالأخلاق “الكلاسيكية”([1]). أو لأن الدّراسات الأخلاقية في المنظومة الإسلامية وعلومها لم تخرج من إطار علم الفقه ورجال الدّين والتصوف، فغلبة الفتوى والوعظ الدّيني على الحكم الأخلاقي مؤشر واضح عن صحة هذا الادعاء([2]).

لذلك ما من مهتم بالفكر الأخلاقي العربي والإسلامي إلاّ وينطبع في ذهنه سؤال رئيس مفاده “إلى أيّ مدى يمكن الحديث عن نظريّة إسلاميّة في الأخلاق”؟ هذا الاستفهام لا ينفك عن سابقيه، من قبيل؛ هل هنالك فلسفة إسلاميّة؟ وهل هنالك نزعة إنسانيّة إسلاميّة؟ وهل هنالك تنوير أو حداثة إسلاميّة؟.

هي أسئلة استفهاميّة أخذت طابعاً استنكارياً بالغالب، تعبّر عن إدانة أكثر من اعتراف بأحقيّة التّراث الإسلامي في إرساء أنماط من الفلسفة والحداثة الإنسانيّة بما في ذلك الصّناعة الأخلاقيّة، برؤى مخصوصة. لذلك يُعد في رأي هؤلاء المنكرين أنّ الحديث عن فلسفة أو نظريّة أخلاقيّة إسلاميّة مجرّد ادّعاء وأمل في معدوم.

تفاعلاً مع الإشكاليات المطروحة، اقتضت الدراسة توزيع الموضوع على الاهتمامات الآتية:

القيم والقيم الأخلاقية؛ ضبط للمفاهيم؛ بسطنا فيه تحليلاً مفاهيمياً للمصطلحات الثلاثة، الأخلاق والقيم، وكذا الأدب. وذلك بعرض الجدل الحاصل حول تلك المفاهيم وأيهما الأصل وأيهما الموروث، وفي أيّ سياق يكون أحدهما الأنسب من الآخر، بل والكشف عن وجود خلفيات معرفية وحتى أيديولوجية عند من يستأثر بأحدهما دون الآخر.

شبهات ثلاث؛ كان تقصياً لأهم الادعاءات التي تعرض لها علم الأخلاق الإسلامي ثم الرد عليها، وهي تنحصر في الغالب في الإنكار على المسلمين والعرب عدم عنايتهم بعلم الأخلاق، وأنّ الأخلاق الإسلامية هي من جنس العلوم الفقهية وليست بفلسفة للأخلاق، ثم أنّ فلسفة الأخلاق المتوافرة عند المسلمين منحولة من التراث الإغريقي خاصة في شقه الأرسطي.

مكانة علم الأخلاق راهناً؛ ينهض هذا العنصر بالبحث في مسألة عودة الاهتمام بالفكر الأخلاقي عند المفكرين العرب والمسلمين المعاصرين، وذلك بعد القطيعة التي عمرت لقرون طويلة بين المسلمين وتراثهم الأدبي والفلسفي الخلاق.

عودة النقاش الأخلاقي بين الفضاءين الغربي والإسلامي؛ وهو سؤال يتضمن مقارنة بين الفكرين الإسلامي العربي والغربي في اهتمامهما المشترك بالفكر الأخلاقي، والرد على ادعاء أنّ اهتمام المسلمين المعاصر بالفكر الأخلاقي هو تقليد لنظرائهم في الغرب، وهو ادعاء يعود للجابري بشكل خاص، حيث بيّنا فيه وجود مشاكلة بين السياقين الإسلامي والغربي، بله وأسبقية الأخير على الأول، غير أنّ الأسباب التي حملتهما على الاهتمام بالفكر الأخلاقي ليست واحدة، ذلك أنّ لكل سياق أزماته الحضارية؛ فأزمات العالم الإسلامي والعربي هي أزمات ما قبل الحضارة، بينما أزمات العالم الغربي هي أزمات ما بعد الحضارة.

أولاً: القيم والقيم الأخلاقية؛ ضبط للمفاهيم:

ليس الهدف من وراء هذا الطرح المفاهيمي مجرد العرض والتحليل، وإنّما الأمر يتجاوز التوظيف الاصطلاحي ليضرب بجذوره في عمق التوظيف الأيديولوجي وصراع الأنظمة القيمية في فترة من فترات تاريخ الفكر الأخلاقي العربي. فليس يخفى مدى الالتباس والتضارب المفهومي الذي يجعل الأمر قريباً من فتنة مفهومية تهزّ أركان ميدان الأخلاق، الوضع الذي أشار إليه طه عبد الرحمن بقوله: “لعله ليس في أبواب الفلسفة المعاصرة باب حملت مفاهيمه وأحكامه من مظاهر الاشتباه والاختلاط ما حمله باب الأخلاقيات”([3]). وإن كان يقصد بكلامه هذا الاضطراب المفاهيمي في علم الأخلاق الغربي. فإنه على التحقيق ينطبق قليلاً أو كثيراً على تراثنا الإسلامي والعربي.

 القيم من المصطلح إلى الرؤية: لغوياً، القيم جمع قيمة، وشيء ما ذي قيمة بمعنى كونه مفضلاً عند الآخرين، وذلك لاعتبارات نفسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو أخلاقيّة أو جمالية([4]). وقيمة الشّيء من الناحية الذّاتية، الصفة التي تجعل ذلك الشّيء مطلوباً ومرغوباً فيه عند شخص……

 

————————————————————————————

([1]) وصف يعود لجدعان إذ في نظره أنّ هذا النّمط “الكلاسيكي” من الخطاب الأخلاقي يأخذ شرعيته في ظل ما يتميز به الخطاب الأخلاقي العربي من ثنائية راديكالية ضدّية بين من يحاول تأسيس الأخلاق على أسس عقلية أنثروبولوجية (عادل ضاهر في جدليته الراديكالية المتعلقة بـ “أوّلية العقل” 2001، والتسويغ العقلاني للأخلاق “نقد الفلسفة= =الغربية الأخلاق والعقل” 1990) هذا من جانب، وبين جانب ثان يحاول تأسيسها على أسس أنطولوجية مفارقة (طه عبد الرحمن “سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية” 2000)، “إنّها مجابهة جذرية لا ينعقد معها توافق، في أجواء تظل المواعظ الدينية والدعوية التي ينشرها الأئمة والدعاة في شتى الوسائل والمنابر هي الأكثر تداولا وانتشارا وتأثيرا”. فهمي جدعان. مركب أخلاقي حديث للمستقبل العربي، تبيُّن للدراسات الفكرية والثقافية، العدد 22، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، خريف 2017، ص ص09، 10.

([2]) تأمل في قول الجابري: “صحيح أنّ الفقهاء قد اهتموا بمسائل تدخل في نطاق “علم الأخلاق”، إذ خصص معظمهم في كتبهم ملحقاً يسمى بـ “الجامع” منه موطأ الإمام مالك ذكروا فيه من جملة ما ذكروا أموراً تتعلق فيما سُمِى فيما بعد بـ “الآداب الشرعية”… ويبدو أنّ وجود هذه الآداب الشرعية المكملة للفقه “المجّملة” لتآليفه قد رسخ في نفوس الفقهاء والمحدثين والمتكلمين الاطمئنان إلى أنّ علوم الدّين هي نفسها “الأخلاق”، فكان أن غاب لديهم، لعدّة قرون، الشعور بالحاجة إلى الكتابة في حقل معرفي يختص بالقيم والأخلاق”. محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2001، ص 536.

([3]) طه عبد الرحمن. سؤال الأخلاق: مساهمة في النّقد الاخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي: بيروت، ط1، 2000، ص 15.

([4]) Le Petit Larousse de la philosophie: Sous la direction de HERVE BOILLOT, 2011, P 978.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر