أبحاث

منهج النظر في أسس البناء الديمقراطي والتعددية ومؤسسات المجتمع المدني

العدد 84

(1)

المطلوب مني – حسبما فهمت – هو تحرير ورقة نقاش تتضمن ما أتصوره خطوطاً عامة للتغير الديمقراطي في الوطن العربي، وعلاقة ذلك بحركة التشكل الديمقراطي على مستوى العالم. وهذا التشكل الديمقراطي يتضمن عملية المشاركة السياسية من خلال الانتخابات، وكذلك التعددية بما تفيده من تمثيل للمصالح المتنوعة من خلال مؤسسات المجتمع المدني.

ولست واثقاً من أنني سأوفي هذا الموضوع حقه، لست واثقاً من قدرتي على ذلك، وفي حدود ما أقدر عليه، لست واثقاً من إمكان التعبير عنه في صفحات معدودة. ولكنني سأضع محاولتي، يشجعني أن هذا الموضوع بالذات هو ما استحوذ على اهتمامي الأساسي خلال السنوات الأخيرة، وأنني سرت فيه شوطاً وأنجزت فيه بعض المحاولات.

وفي ظني أن المشكل الرئيسي الذي يعاني منه العرب شعوباً وأقطاراً في هذا الزمان، هو مشكل تنظيمي، ولا أقصد بالمجال التنظيمي فقط الجانب الذي يعالج به علم الإدارة أمور الوزارات والهيئات والشركات ونحوها، كما لا أقصد فقط الجانب الذي يعالج به الفكر الدستوري تكوين مؤسسات الدولة وتشكيلها وعلاقة بعضها ببعض وحقوق الأفراد إزاءها، إنما أقصد الأشمل والأعم من ذلك كله وهو إدارة المجتمع، وهذا التشكيل الذي يربط مؤسسات المجتمع كلها ويجانس بينها ويواجه أزماتها.

(2)

لقد استحسنا أخذ النظم الحديثة من تجارب الغرب المعاصرة، جرى ذلك على مدى يزيد على مائة وعشرين سنة حتى الآن، وبدا لنا أن أمورنا تتحسن ونهوضنا يقوى ويسرع بقدر ما نتبنى هذه النظم الغربية، باعتبار أنها هي ما نهض بالغرب وكسب له التفوق. وأنا ممن يترجح لديهم الظن بأن نهوض الغرب وتفوقه الساحق في القرون الأخيرة يعود فيما يعود إلى ما استطاع أن يبلوره من نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية وإنتاجية سواء من حيث تنظيم الجماعات السياسية أو من حيث بلورة النظام النيابي التمثيلي، أو بلورة مؤسسات الحكم وتوزيع السلطة بين هيئات الحكم المختلفة، وسواء من حيث نظم الشركات وطريقة إدارة وحدات الإنتاج وتقسيم العمل، وسواء من حيث نظم الجماعات والهيئات الأهلية والنقابية والتعاونية.

ولكن هناك فرق بين أن تنبثق أساليب الإصلاح الاجتماعي والتنظيمي من داخل النسق التنظيمي والحضاري كتاريخ أنظمة ومعاملات وكلغة ثقافية ومرجعية شرعية، هناك فرق بين ذلك وبين أساليب إصلاح ترد من بيئة حضارية مختلفة ومن نسق تاريخي متباين، وليس من المحتم أن نموذج إصلاح ينتقل من بيئة إلى أخرى، أن تكون له ذات الوظيفة ويتكرر منه الأداء ذاته، وسأضرب على ذلك مثالين:

المثال الأول: إننا عندما نقارن بين أي من وجوه التنظيم الاجتماعي أو السياسي الآتي من الغرب وبين أي من وجوه هذا التنظيم فيما انحدر إلينا من أوضاع الماضي، إننا عندما نفعل ذلك فكثيراً ما نغفل عن المغايرة الحادثة في النسق الكلي لكل من التنظيمين وعن الدور الخاص الذي يقوم به كل من الجزأين المقارنين داخل نظامه.

فنظام تعدد الأحزاب نظام جزئي يرتبط بالتكوين الكلي الذي تقوم به الدولة في التنظيم الغربي الحديث؛ ولذلك فهو يختلف في أدائه ووظيفته عن الأداء الوظيفي الذي يقوم به هذا النظام الحزبي التعددي في غير بلدان الغرب. ولي دراسة أوضحت فيها أن التنظيم الحزبي والغربي نشأ تعبيراً عن أوضاع الجماعات الفرعية الأوروبية المتنازعة على نصيب كل منها في حصيلة المنتج الوطني العام، في ظروف كانت المجتمعات القومية الأوروبية آمنة على نفسها من أي خطر خارجي عليها، بينما الأحزاب في بلادنا الشرقية (سواء كانت عربية أو إسلامية أو غير ذلك من بلاد الهند والصين …. إلخ) نشأت الأحزاب فيها بعد سقوط مقاومة دولها في مواجهة الغزو الأجنبي الحادث في القرنين الماضيين، ونشأت كتجمع وطني ينظم الجماعة الأهلية لمهام مقاومة ذلك الغزو. ومن الطبيعي أن ((التعددية)) لم تكن مما يقوم بالأداء المطلوب لهذه المهمة حتى استعادت هذه البلاد استقلالها. ولكننا كنا نغفل عند المقارنة عن هذا الفارق المهم.

وكذلك الحال بالنسبة لتوزيع السلطة في الدول الغربية الحديثة، حسبما صيغ هذا النظام في النظم الدستورية الغربية الحديثة، فيما عُرف بسلطات التشريع والتنفيذ والقضاء. ونحن قد لا نجد مثيلاَ لسلطة التشريع بهذا الأداء الوظيفي المنضبط المحدد وبهذه الطريقة في التشكيل الانتخابي النيابي، قد لا تجد مثيلاً لها في النظم القديمة للدولة في بلدان العرب والمسلمين، ولكن هذا لا يعني أن وظيفة التشريع تابعة لوظيفة التنفيذ وأن دور الممارسة المستقلة لها من جهاز مختص به دور مفتقد؛ لأنه مردود إلى النسق الكلي لكل نظام وطريقته الخاصة في توزيع وظائفه المختلفة، وإن عدم وجود العضو المثيل لا يعني بذاته أن الوظيفة المثيلة مفتقدة.

والحاصل أننا إذا لم نجد في النظام الذي ساد المجتمعات الإسلامية من قبل، مؤسسة مثيلة للمجلس أو الهيئة التشريعية التي ظهرت في أوروبا، فإننا يثور لدينا السؤال عن الذي كان يشرّع لهذه الدولة، ولا نجد من السلطات التي صورها الفقه للخليفة أو الإمام أو غيره من الأمراء، ولا نجد لأي منهم سلطة تشريع ما. وهنا سنتلمس وجودها في أحكام القرآن والسنة النبوية، وفي اجتهادات الفقهاء والمفتين الذين كانوا لقرون طويلة لا يعينهم أحد في مراكز رسمية، وإنما يكتسبون مركزهم بالتقبل العام لجمهور الرأي العام، ومنهم يتأسس هيكل تنظيم الأحكام السائدة ونظام المعاملات، وهذا ما يعطي لهذه الجهة استقلالاً له اعتباره في تنظيم المجتمع.

وثاني المثلين: يتعلق بالكثير من أدوات التنظيم ونماذج هياكله التي أمكن استيرادها من نظم الغرب وفكره، وقد أظهر التطبيق أنها في البيئة المحلية المنقول إليها، إنما أتت بآثار مغايرة لما نتج عنها في بيئتها الأصلية، وأحياناً ما أنتجت آثاراً عكسية؛ وذلك بسبب العمال في سياق مختلف.

لقد جربنا في مصر أنواعاً من ذلك، منها أنه في ظل العمل بدستور سنة 1923م، في الفترة من 1924 حتى 1952م، كانت السلطة التشريعية تتكون من مجلسين: مجلس للنواب ومدته خمس سنوات ينتخب كله بالانتخاب المباشر، وله سلطة سحب الثقة عن الوزارة فتسقط، ومجلس الشيوخ ينتخب ثلاثة أخماسه ويعين الملك خمسيه ومدته عشر سنوات بتجديد نصفي، ويساهم في إصدار التشريعات دون أن تكون له سلطة إسقاط الحكومة، وكان الجليّ أن مجلس النواب هو الأكثر اتصالاً بتيارات الرأي العام، والأفسح لوجود المعارضة السياسية ولممارستها لنشاطها في رقابة الوزارة، والأقدر على التعبير عن التيارات الاجتماعية الجديدة، لا سيما أن مجلس الشيوخ لا يدخله بحكم الدستور إلا الفئات العليا من النخب الاجتماعية، من كبار ملاك الأراضي والماليين والموظفين السابقين.

ولكن الذي حدث على مدى ثلاثين سنة هو عكس ذلك، فكانت الوزارة تسقط مجلس النواب وتتدخل في حرية الانتخاب فيه، ولا تستشعر خطورة مجلس الشيوخ بالدرجة المماثلة؛ فكانت النتيجة في الواقع أن مجلس النواب صار هادئاً وتحولت المعارضة السياسية لتعبر عن ذاتها في مجلس الشيوخ، وهذا المجلس الذي يشغله كبار ملاك الأراضي هو المجلس الذي ظهر فيه أول مشروع لتحديد ملكية الأراضي الزراعية في سنة 1950م.

قصرت أمثلتي هنا على التكوينات الكلية التي تعبر عن الدولة في عمومها وفي مركزيتها، ولكن الملاحظة ذاتها تصدق أيضاً على العديد مما لا يحصى من الهيئات والمؤسسات الأهلية والتطوعية، سواء التقليدية التي ألغيت أو الحديثة التي نشأت، وكان لانتهاء الأولى أو لنشأة الثانية ما لم يكن متوقعاً من الآثار، وقد ترد في سياق الحديث أمثلة على ذلك فيما بعد.

(3)

إن الحديث عن الديمقراطية أو عن التعددية هو في عمومه حديث عن ((المؤسسات)) في المجتمع، أي الهيئات التي تنظم الجماعة في عمومها أو في تكويناتها الفرعية، أقصد بالجماعة في عمومها الجماعة السياسية التي تكون ((الدولة))، وأقصد بالتكوينات الفرعية الجماعات الثقافية أو المهنية أو الإقليمية أو العرفية أو الاقتصادية وتندرج في الوعاء العام للجماعة السياسية.

والذائع في بلادنا في الحقبة الأخيرة هو الحديث عن التعددية باعتبار أنها تعني تعدد الأحزاب  وتعدد منابر التعبير عن الرأي السياسي، وذلك في مقابل نظم التنظيم السياسي الواحد الذي عرفته هذه البلاد منذ الخمسينيات وفي أول عهود الاستقلال السياسي فيها.

وفي تصوري أن التعددية هي شأن لا يقوم النظام الديمقراطي إلا به، وهي ليست قاصرة على التعدد الحزبي، بل إن التعدد الحزبي مشروط بغيره من ضروب التعددية في المجالات الأخرى، ومع التعدد الحزبي يتعين أن يقوم تعدد في مؤسسات الدولة يتوزع عليها اتخاذ القرار العام والقيام بالعمل العام، وهي ما تعارفنا على تسميته بسلطات الحكم الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهذه المؤسسات الثلاث هي بمثابة أقفال ثلاثة لكل منها مفتاح تمسك به جهة مستقلة عن الجهتين الأخريين فلا ينفتح العمل العام إلا باجتماع الجهات الثلاث.

والتعددية الحزبية تعني فيما تعنيه احتمال تداول السلطة من القوى السياسية المختلفة، واحتمال التشكيل المتنوع لمؤسستي التنفيذ والتشريع بما يحفظ التوازن بينهما، ويجعل كلاًّ منهما قيداً على الأخرى، ومن البدهي أنه لا يتصور قيام تعدد حزبي إذا اندمجت مؤسسات الحكم في إرادة واحدة لا تتبدل.

ثم بعد ذلك يرد تعدد التنظيمات الاجتماعية للجماعات الفرعية، وهذه الجماعات تمثل التكوينات الوسيطة بين الجماعات السياسية العامة التي تقوم الدولة على أساسها وبين الأفراد، وهي الكفيلة بجمع الإرادات الفردية وتنظيمها وإقامة وجه من وجوه الإدارة الذاتية لكل من الجماعات، وهي أيضاً الكفيلة بتنظيم القوى الشعبية المتنوعة وإقامة نوع من التوازن بين هذه القوى وبين السلطات المركزية، أي إقامة نوع من التوازن بين الجماعة السياسية الكلية المعبر عنها من الدولة، وبين هذه المكونات الفرعية في تكاثر ما تعبر كل منها عن ذاتها.

وأتصور أن هذا النوع الأخير هو الذي عليه المعوّل في نجاح أو فشل وجوه التعدد من النوعين الأولين، وأتصور أن التعدد الحزبي – وهو النوع الثاني – له وجه انتماء لهذا النوع الثالث فهو واحد منها، وإن تميز عنها بأن نظرته أوسع تتعلق بالسياسة أي بفن إدارة المجتمع كله، وأنه يستهدف اعتلاء سلطة الدولة أي يستهدف الهيمنة على المؤسسة المعبرة عن الجماعة العليا في المجتمع والمنظمة لشئونها العامة، ومع هذا التميز فإن فاعلية النظام الحزبي من حيث كونه يتعلق بإدارة المجتمع كله إنما تتوقف على فاعلية تلك التنظيمات الاجتماعية المعبرة عن الجماعات الفرعية.

كما أتصور أن الخلل التنظيمي الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية والإسلامية في القرنين الماضيين إنما نتج عن وهن تلك التنظيمات الخاصة بالجماعات الفرعية؛ لذلك سأحاول في الصفحات التالية أن أشغل القارئ معي بهذا الأمر، أمر مؤسسات المجتمع المدني وفقاً للمصطلح الحديث المستخدم في الكتابات الغربية.

(4)

إن التكوين المؤسسي إنما يمثل هيكلاً تنظيميّاً لجماعة بشرية يربطها نوع من التقارب المشترك، وتتواجد ذات جماعية بجوار الذات الفردية لكل من مكوناتها، وهي تقوم على أساس تكوين فكري متجانس قادر على تحقيق هذه الذات الجماعية وعلى قيامها في نفوس الأفراد بجوار الذات الفردية لكل منهم، وهي تتوخى تحقيق أهداف مشتركة سواء لهذا الجمع المؤسسي نفسه أو لجماعة كبرى تشمل هذه الجماعة الفرعية.

هذه الأبنية التنظيمية يقيمها الأفراد والجماعات طوعاً وبإرادتهم، أو يجدون أنفسهم منتمين لها بالاندراج فيها مما هو قائم منحدر من الماضي بتقاليد التجمع وأعرافه، المهم أن الجانب الطوعي هو أساس التكون والبقاء؛ لذلك فهي دائماً تنظم أوضاع جماعات ذات مصالح مشتركة أو ذات هوية مشتركة وشعور بالانتماء الجمعي.

حضرت محاضرة عن نظم الاتصال في العصور الوسيطة، وكان أول ما جذب المحاضر به انتباه سامعيه أن عرض عليهم خريطة للدول في تلك العصور، وتساءل كيف كانت المعلومات تنتقل في أرجاء كل من هذه الدول، وأن أقلد هذا المحاضر الآن وأرجو من القارئ أن يتصور خريطة لدول العالم الوسيط، ويتساءل كيف كان المجتمع ينظم شئونه ويدير أموره، بغير تلك الأجهزة الكبرى المركزية المهيمنة وبغير وسائل الانتقال والاتصال السريع التي نشأت في العصور الحديثة، إن الجواب عن ذلك لابد وأن يشير إلى الأهمية الكبرى لهذه الجماعات الفرعية ونظمها المؤسسية، وقدرتها على إدارة شئونها الذاتية ووجه العلاقة التي تقوم بين بعضها البعض وبينها وبين السلطة المركزية.

هذه الهيئات قد بنشئها أفراد بجهود واعية لطلائع العمل، وينشطون بوضع برامج تمثل أهدافاً لما اكتشفوا احتياج مجتمعاتهم له، وينشطون بدعوات يتجمع حولها أفراد آخرون لتقديم ذات النوع من النشاط وإشاعته في المجتمع، بمعنى أنها تنشأ لهدف غائي يراد تحقيقه، مثالها جمعيات البر والجماعات السياسية والثقافية.

هذه الهيئات قد تتشكل للتعبير عن وجود جماعي قائم، وهي تتشكل لتنظم هذا الوجود الجماعي وتنسق نشاطه وتزيده وعياً بتكوينه الجماعي وتعبر عن احتياج لديه لاعتراف الجماعة الكبرى بوجوده وحقوقه بما يتناسب مع حجمه وحاجته، وذلك شأن الملل والجماعات المذهبية الثقافية أو القبلية العرقية أو الإقليمية أو اللغوية.

وقديماً كانت هذه الهيئات تتكون بطريقة أهلية وطوعية بحتة، حتى في نظمها وأساليب إدارتها، كان ذلك ينشأ ويتشكل عبر مسار تاريخي وبالتراكم طويل المدى، وتتحدد نظمه باجتماع لسوابق أنشطة وإطراد عادات لتصير أعرافاً لها وجه إلزام يستقر في وعي المتعاملين مع هذه الهيئات.

والنظم التي تعتمد على الأعراف وتنشأ نشأة تاريخية، إنما تعتمد على قواعد للتنظيم والإدارة تكون عامة وغير مفصلة، وهي قواعد تتصل بالجوانب الموضوعية للعمل المؤدى ولا تتناول الجوانب الإجرائية التي تفتقت عنها النظم البيروقراطية الحديثة، والتي تعالج الأعمال من خلال الأوراق المكتوبة وبالضبط الرقمي للمواعيد والإجراءات.

ويتفرع على ذلك أن شرعية الوجود المؤسسي لما يعبر عن جماعة ما، إنما يجري بصناعة شعبية أهلية بقواعد عامة استقرت في الضمير الجمعي، وانتقلت من ناس إلى ناس بالتقبل الشعبي العام.

وذلك على خلاف الوجود المؤسسي الذي يجري في الأزمنة الحديثة والذي يجري بقوانين ونظم مكتوبة تصدرها الدولة المركزية ما يكفل لسلطة هذه الدولة التدخل المستمر وإلحاق هذه المؤسسات الشعبية بها، عن طريق وضع النظم والتحكم في الإجراءات ورقابتها، مما ستجيء الإشارة إليه إن شاء الله.

(5)

التكوينات المؤسسية للوحدات الاجتماعية المقصودة هنا، هي ما سبقت الإشارة إليه من جماعات يربط بينها أصل مشترك أو مصلحة مشتركة أو هدف مشترك لتحقيق غاية معينة، وينشأ لها نوع تنظيم يستوعب حركتها، أي يحولها لتحقيق أهداف متعارف عليها، والغايات والأهداف المشتركة يصعب أن يحوطها التعيين أو الحصر إنما هي ما طرأ ويطرأ في مجال السياسة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لأي جماعة قديمة أو ناشئة.

والمصالح المشتركة لا تعني المصالح المادية التي تنصرف إلى الجوانب الاقتصادية وحدها، إنما تعني عندي ما يشمل ذلك ويشمل مصالح التواجد المعنوي الآتي عن اختيار مذهبي أو ثقافي والذي يتمثل في الدعوات المختلفة، ومنها حفظ الوجود المعنوي وحفظ فكر معين ونشره وحفظ تكوين مذهبي والدعوة إليه. والأصل المشترك يقوم وفق تصنيفات شتى: منها الأصل الأسري والقبلي والعرقي، والتكوين اللغوي الواحد، والتكوين المذهبي أو الديني والثقافي العام، والتكوين الإقليمي الجغرافي من قرية أو حي في مدينة أو قطر أو نحو ذلك.

هذه التكوينات الاجتماعية تتنوع وتتعدد دون أن تؤدي إلى تناثر أو تشتت اجتماعي؛ لأنها تجري وفقاً لتصنيفات شتى، وليس وفقاً لتصنيف واحد، وعلى سبيل المثال: فإن الماركسية تصنف الإنسان وفقاً لمعيار واحد، فهو إما عامل أو رأسمالي، والتداخل بين الفريقين هو شذوذ أو اختلاط، وهذا التصور ذو المعيار الوحيد في تصنيف البشر يفضي بالحتم لا إلى الصراع فقط، ولكنه يفضي إلى جعل الصراع هو وضع طبيعي. أما تعدد معايير التصنيف وتنوعها ثقافيّاً وإقليميّاً وعرقيّاً ولغويّاً واقتصاديّاً، فهو ينتج تداخلاً بين دوائر الانتماء المتولدة عن هذه التصنيفات.

قديماً كان مؤلف الكتاب يشير إلى نفسه وفقاً إلى دوائر انتمائه كلها فيقول مثلاً: ((المصري (إقليمه) الأزهري (معهده العلمي) القرشي (نسبه) الشاذلي (طريقته الصوفية) النحوي (تخصصه العلمي) )). المهم من هذه الملاحظة أن تعدد التصنيفات بما يقيم من تداخل بين دوائر الانتماء، إنما يوثق قوى التماسك في المجتمع ويدعم الشعور بالمساواة؛ لأن الأفراد إذا تمايزوا بمعيار الإقليم مثلاً فسيوحّد بينهم معيار المذهب، والعكس صحيح، ومن هنا نجد مؤسسات المجتمع المدني تترابط مثل ترابط أجهزة الآلة الميكانيكية.

ومن جهة أخرى، فإن هذه التكوينات تحتاج إلى عدد من الأمور المعنوية: ومنها الشعور المشترك بالانتماء لجماعة معينة، وهو شعور يجد سنده في الأسس الفكرية والثقافية التي تقوم عليها الجماعات وفي الأطر المرجعية ذات الاعتراف والتقبل العام في البيئة الحضارية والتي تحكم قيم المجتمع وسلوكه ومعاملاته. لقد أشرت من قبل إلى التكوين المؤسسي الذي تشكل بأسلوب طوعي واستند في تنظيمه وإدارته وتحديد وجوه نشاطه إلى تراكم سوابق وعادات صارت إعرافاً تفرض نفسها بوصفها قواعد مقررة، ولكنها في مراحل تكوينها وتهيُّئها إنما تصدر بالتقبل العام وباستنادها لأسس الشرعية ومعايير الاحتكام ذات الهيمنة على العقول والقلوب في الجماعة.

والذي يحفظ التناسق والتجانس بين وحدات الانتماء الفرعية بعضها وبعض ويبقي على خاصة التلاؤم بينها وبين الجامع السياسي الأعم – هو وحدة الأطر المرجعية والتكوين الثقافي والوجداني الواحد بين هذه الجماعات ومؤسساتها. كما أن ما يمكّن من قدرة كل منها على تسيير شئونه الداخلية بغير فرض هيمنة تنظيمية من خارجها وبغير تناقض بين بعضها البعض – هو وحدة الأطر المرجعية التي تصدر كلها عنها وتصدر أعرافها عنها كذلك.

للمفكر الجزائري مالك بن نبي تفرقة فكرية هادية، فهو يفرق بين الفكرة المشخصة والفكرة المجردة، والفكرة المشخصة لا يكون لها وجود اجتماعي ولا استمرار زماني إلا بأشخاص محددين يقومون بها أو مؤسسة تنشط في تطبيقها وإعمالها. أما الفكرة المجردة فإنها يكون لها من ذلك ما يجعل وجودها وإعمالها غير متوقف على تشخصها في رجال محددين أو مؤسسات بذاتها، وهي توجد حيثما وجد قوم يتعاملون أو يتحاكمون.

ومن أهم تطبيقات الفكرة المجردة في المجتمعات العربية والإسلامية، هي الأفكار الإسلامية، إننا في أية لحظة إذا تصورنا أن زواجاً يتم أو طلاقاً يحدث أو خلافاً على ميراث جرى، سواء في القاهرة أو في واحة في صحراء موريتانيا أو بين مسلمي الصين، أي من ذلك يحدث سيذهب ذووه إلى من يتوسمون فيه معرفة بأحكام الإسلام في هذا الأمر ويتقبلون نتيجة ما يحسمه من أمرهم.

ووفقاً لهذا النظر فإن التكوين الطوعي لمؤسسات الانتماء الفرعي يقوم بشكل حقيقي ويكسب ذاتيته الصحيحة وقدرته على الإدارة الذاتية لشئونه، بقيام معايير احتكام وأطر مرجعية صادرة عن الفكرة المجردة ذات التقبل والذيوع العام في المجتمع وذات الاتصال بأوضاع الانتماء السائدة في الجماعة.

هنا كان دور الإسلام كجامع سياسي وكشريعة حاكمة وأطر شرعية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وكان هذا أثره في بناء هيئات المجتمع وتكويناته وعلاقات جماعاته، فكان الفكر الآخذ من الشرعية الإسلامية يربط بين النسق العقيدي وبين القيم السائدة وبين الأبنية التنظيمية ونظم تبادل الحقوق والواجبات، ونحن نلحظ مثلاً أن الفقه القانوني الآخذ من الشريعة الإسلامية طوّر نظماً قانونية تخدم وحدات الانتماء الفرعية، مثل نظام الشفعة وحقوق الارتفاق التي تجرم علاقات الجوار المكاني، ومثل نظام النفقة والميراث الذي يدعم علاقات القرابة الأسرية، ونظام العاقلة الذي يدعم علاقات القرابة الأسرية، ونظام العاقلة الذي يدعم التضامن بين ذوي القرابة الأسرية في المسئولية، أي أن القريب يتحمل عن قريبه أداء التعويض المستحق عليه إن عجز عن أدائه… وهكذا.

(6)

إن أهمية هذه التعددية الاجتماعية لمؤسسات المجتمع الأهلي، تبلور من ناحية اتجاهات الرأي العام، وتقوي أواصر الترابط بين الجماعات الفرعية في امجتمع، وتجعل ثمة إمكانية كبرى لتقدير اتجاهات الرأي العام وتوقع مساراتها وردود فعلها، وهذه النقطة ذات أهمية ليست قليلة في ترشيد عمليات الانتخاب السياسي للمجالس التشريعية وفي حساب قوى التيارات السياسية والحزبية في المجتمع، قد أستطيع أن أخاطر بالقول بأن الانتخابات السياسية التي عرفتها دولنا في ظل قوة هذه الجماعات الفرعية، كروابط الأسر والروابط الريفية، كانت أكثر رشداً وأبعد في نتائجها عن المفاجآت غير المحسوبة وغير المتوقعة.

ومن جهة أخرى فإن هذه التعددية الاجتماعية لمؤسسات المجتمع الأهلي، تقوم بشئون الإدارة الذاتية للجماعات الفرعية، وبذلك فهي تخفف عن عاتق الإدارة المركزية وسلطات الدولة المركزية الكثير من الأعباء التي تبهظها من حيث أعباء الإدارة وأعباء التمويل.

وفي الوقت ذاته فهي تحد من إطلاق السلطات المركزية وتقلل من الميل الاستبدادي الطبيعي الذي نلحظه دائماً لدى سلطات الدولة المركزية؛ لذلك كانت توجد قدراً من التوازن بين مؤسسات الدولة والمجتمع، والاستبداد في تقديري هو خلل في التوازن الاجتماعي، والديمقراطية في أصل ضمان وجودها واستمرارها وفي إمكانيات تحققها هي محصلة هذا التوازن الاجتماعي، وهو توازن يقوم بين سلطات الدولة المركزية بعضها وبعض، كما يقوم بين مؤسسات المجتمع الأهلي بعضها البعض وبينها وبين السلطات المركزية.

إن مؤسسات المجتمع الأهلي المعنيّة هنا، كانت تعاني من العديد من السلبيات وخاصة في بدايات العصر الحديث، وكان تنظيمها الداخلي تنظيماً يعتمد على القيادة الفردية والعلاقات الشخصية بما لم يكن قادراً على التمشي مع متطلبات الأوضاع التي جدت مع بدايات القرن التاسع عشر، ولكن لم يكن ذلك يعني أن صلاح المجتمع يكون بالتخلص منها، إنما كان ثمة إمكان لإدخال قدر من الإصلاحات التنظيمية المناسبة.

والحاصل أنه منذ منتصف القرن التاسع عشر بدأ التحول الاجتماعي في أقطارنا، كان النفوذ الغربي قد بدأ قبل ذلك بنصف قرن أو ثلاثة أرباع القرن، ومن الربع الأخير من القرن الثامن عشر تمثل هذا النفوذ في مخاطر عسكرية، آتية من الإنجليز عبر الهند إلى المنطقة الإسلامية وآتية من روسيا عبر مناطق الشمال الآسيوي، ثم أتت من فرنسا بحملة نابليون على مصر، وبدأت تجارب النهوض الشرقية والإسلامية بتجارب محمود الثاني في اسطنبول ومحمد علي في القاهرة، ولكنها كانت تجارب تتعلق بتمثل أسس النهوض الأوروبي في مجال الصنائع والفنون العسكرية ولم تؤثر تأثيراً فعالاً على البنية الاجتماعية لا من الناحية التنظيمية ولا الثقافية، وتتسم ملامح هذه الفترة بثلاثة أمور: استيراد علوم الصنائع وفنونها، والهيمنة المركزية دون تغيير في الهوية، واستمرار الفكرية الإسلامية هي الفكرية الحاكمة.

ولكن مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تغيرت الأحوال، فقد كان التوغل الاقتصادي السياسي والعسكري من جانب الغرب أسرع من أن تؤتي وسائل الإصلاح أثرها، وكان عام 1839 – 1840م عاماً شبه حاسم في اتباع سياسات الباب المفتوح على بلدان العرب وتوابع الدولة العثمانية، وبدأ الوفود الأجنبي السياسي والاقتصادي والاجتماعي يظهر ويتوغل، سواء في أوضاع المجتمع أو في تنظيماته أو في المناخ الثقافي.

لا أريد أن أستطرد في ذكر قصة هذا الأمر، وحسبي هنا ما أثبته في هذه الورقة من قبل، من ذكر كل مسألة في نقاط مختصرة وعناصر محددة. والمهم أن الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر ثم بدايات القرن العشرين، على مدى ثلاثة أرباع القرن أيضاً ثم الاحتلال العسكري والحكم السياسي الأوروبي للمنطقة العربية كلها، ظهر النفوذ اقتصاديّاً وسياسيّاً ثم تطور إلى النفوذ العسكري ثم الإمساك بآلة الدولة الحديثة التي نشأت، وكان هذا المسار يظهر بطيئاً متردداً ثم يتجه مع مرور السنين إلى السرعة والحسم.

ظهرت للنظم الأوروبية في المعاملات مجالس للحكم زاحمت المحاكم الشرعية وقوانين زاحمت القانون الإسلامي، ومدارس تبشير ومدارس أجنبية زاحمت التدريس التقليدي، ثم عمت النزعة التغريبية في التعليم من خلال المدارس الحكومية.

تخلخلت التكوينات الاجتماعية التقليدية كنقابات الطوائف وتنظيمات الطرق وغيرها مما كنا نجده فاعلاً يقوم بدوره في التحريك والتنظيم والتعبئة للناس في حركاتهم ضد حاكم ظالم أو احتلال أجنبي كحملة نابليون على مصر في سنة 1798م، أو مقاومة حملة الإنجليز على رشيد في سنة 1807م وهكذا، أو تولية محمد علي ولاية مصر في سنة 1805م، ومما كنا نرى له أثراً في تنظيم أنشطة الخدمات الاجتماعية كالوقف على المعاهد التعليمية وغيرها من المرافق أو أثراً في تنظيم طوائف الحرف. أقول تخلخلت هذه التكوينات ثم تحطمت.

(7)

وظهرت الدولة المركزية الحديثة، بدأ ظهورها مع بدايات القرن التاسع عشر، ولكنه كان ظهوراً يجري في إطار ضرورات تحديث الجيش والاقتصاد والتعليم، استجابة للتحديات التي بدت، وكان ظهورها في هذه البداية يجري ضمن النسق الثقافي والحضاري الاجتماعي السائد، ثم لما فشلت تجارب محمد علي ومحمود الثاني ومن على شاكلتهما، أورثت هذه البنية الجديدة للدولة أهدافاً أخرى تتعلق بتسويغ التغلغل الاقتصادي والاجتماعي الوافد من الغرب، صارت مع نهايات القرن التاسع عشر وسيطاً يصل بين الحضارة الأوروبية وأبنيتها وهياكلها التنظيمية والثقافية وبين المجتمعات التقليدية. وكان لذلك مع بدايات القرن العشرين تأثيره الكبير على التعليم والقوانين والنظم المؤسسية، وكانت الدولة الحديثة يمسك بزمامها نخب من ذوي الثقافة الوافدة من الغرب.

وظهرت تكوينات اجتماعية حديثة كبديل عن التكوينات التقليدية الآخذة في الانهيار، أو كتكوينات موازية لها ولكنها مدفوعة بقوى الدفع السياسي والاجتماعي الحديثة، مثال لها الحركة النقابية العمالية التي ظهرت أولاً كتنظيمات للعمال الأجانب في المصانع الجديدة ثم دخلها المصريون، ومن جهة أخرى اتخذت بعض التشكيلات التقليدية أطراً تنظيمية حديثة كالجمعيات الإسلامية التي ظهرت وقتها.

مع تغير المفاهيم والقيم ونظم التعليم ومناهجه والقوانين ونظم الإدارة، ومع ظهور الأحياء السكنية الجديدة على النمط الغربي وظهور أساليب العيش الغربية في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها، ومع التغير الثقافي – بدأت المفاهيم الثقافية الإسلامية وأطرها المرجعية تفقد صدارتها وسيادتها، بمعنى أن الفكرة المجردة التي أشري إليها من قبل بدأت تفقد قوتها وهيمنتها، وهذا الوهن الذي أصابها أفقد المؤسسات الاجتماعية التقليدية قدرتها على الإدارة الذاتية. وفي المقابل استبدت الدولة الحديثة ووحداتها الإدارية بوضع النظم لكل مؤسسات المجتمع الأهلي ولفرض سطوتها وهيمنتها عليها.

وعلى مدى القرن العشرين، من بعد، آلت إدارة المجتمع كله إلى نخب لها وضع شبه منعزل عن الجماهير التي تملأ الريف والأحياء الشعبية، وذلك من النواحي الثقافية والحضارية. لم يكن ثمة انعزال صارم بطبيعة الحال وكان ثمة تداخل وحوار وانحسار ومدّ وحركات متقابلة، ولكني أميّز بين الأمور وأصنّف الظواهر وفقاً للطابع الغالب فيما أتصور، وأنا أدرك أنني أغامر بطرح تعميمات يمكن أن يرد عليها كثير من التحفظ، وأنا اعترف مسبقاً بالكثير الذي يثور من تحفظات، ولكن يبقى عندي شعور بصواب ما أتصوره من طابع غالب.

وزاد هذه الظواهر كلها الحراك الاجتماعي الواسع والسريع نسبيّاً الذي عرفته مجتمعاتنا خلال القرن ونصف قرن الأخير والذي زاد سرعة وتتابعاً مع مرور السنين، ومن أسبابه العامة المعروفة، الهجرة من الريف إلى المدن بما يفيد تمزق علاقات قرابة وعلاقات جوار ونشوء غيرها نشوء غير مستقر.

التعليم الحديث أوجد حراكاً طبقيّاً واسعاً، وحراكاً من الأقاليم إلى المدن ومن الأحياء الشعبية التقليدية إلى الأحياء الجديدة، وكذلك ظهور مهن جديدة اقتضاها التعليم الحديث ونظم الإدارة والقضاء الحديثة واستخدام وسائل إنتاج واستهلاك جديدة، وكذلك التجنيد في الجيش أوجد حراكاً حرفيّاً. وكل ذلك خلل البنية الاجتماعية وهزّ أسس التنظيمات التقليدية وعلاقات الانتماء السابقة.

كل هذه الظواهر معاً أدت إلى عدد من النتائج أوجزها فيما يلي:

v    أن وحدات الانتماء التقليدية تخلخلت والمؤسسات القائمة على وفقها تحطم الكثير منها ووهن القليل الباقي فلم يستطع أن يفرض ذاته كقوة اجتماعية ضاغطة بشكل منظم، إنما يظهر بشكل انفجارات مفاجئة في ظروف غير متوقعة. ولم يعد رجال السياسة وعلماء الاجتماع قادرين على التوقع والحساب ووزن ردود الفعل.

v    المؤسسات الحديثة ظهرت من نخب شبه معزولة ثقافيّاً وحضاريّاً ومن أعداد قليلة لا تستطيع أن تستوعب حركة المجتمع، وهي ذات ظهور لا ينتمي إلى ثقافة المجتمع السائد، إنما تستمد وجودها من اعتراف جهاز الدولة المركزية الحديث بها، فظهرت ملحقة بهذا الجهاز مرتبطة به. ولذلك استمر الغالب منها غير قادر على أن يمثل قوة ضغط على السلطة المركزية، وإن كان بعضها في المراحل الأخيرة قد أمكنه أن يقوم بهذا النفوذ كالنقابات المهنية منذ الأربعينيات. ولكن ذلك لم يعصمها في المواقف الحاسمة مع الدولة المركزية.

v    القوانين صارت خارجية وغير مرتبطة بأصول الشرعية ذات التقبل العام من الجمهور العريض، وهذا مال ((بالفكرة)) إلى أن تصير فكرة مشخصة وليست ((مجردة)) بالمعنى الذي استخدمته من قبل. وخير مثال على ذلك: أن ((الفكرة الليبرالية)) التي تبناها حزب الوفد بين 1919 و 1952م سقطت بسقوط الوفد وحله في 1953م. وأن ((الفكرة الاشتراكية)) التي تبناها نظام عبدالناصر في الخمسينيات والستينيات سقطت بسقوط هذا النظام في 1971م مع عهد أنور السادات.

v    القديم تحطم والجديد واهن؛ لذلك لم نجد في 1882م بعد هزيمة جيش عرابي أمام العسكر الإنجليز، لم بجد مقاومةم شعبية مثل ما حدث في 1798 و 1907م السابق الإشارة إليهما. ولذلك أيضاً أمكن بعد نجاح ثورة 23 يولية 1952م ضرب ما كان قائماً من أحزاب سياسية ومؤسسات للعمل الشعبي ومؤسسات للدولة الديمقراطية؛ لأن المؤسسات الوسيطة في المجتمع الأهلي كانت بين قديم مضروب وبين جديد معزول.

أقول هذه الأوصاف مجازفاً بهذا القدر من التعميم الذي لجأت إليه لأجسم الصورة، مع إدراكي بما يجب الاعتراف به من تحفظات وتقييد لهذه العبارات المطلقة.

(8)

من منتصف القرن التاسع عشر (أو من الربع الأخير منه) بدأت الدولة الحديثة في بلادنا، وكانت لها وجوه إيجابية عديدة انتفعنا بها ولا زلنا نستكملها، ومن هذه الوجوه الإيجابية، أننا استعضنا عن نظم الإدارة الشخصية بنظم البيروقراطية الحديثة، بالمواصفات التي عبر عنها ماكس فيبر، ومنها تقسيم العمل الإداري والفصل بين أدوات العمل والعامل في هذا المجال، ومن هذه الوجوه أيضاً أننا بدأنا نطبق فكرة أن العمل العام تتداوله عدة هيئات منفصل كل منها  عن الآخر من الناحية التنظيمية، وكل منها يستكمل بعض جوانب هذا العمل حتى يتم، ومنها كذلك الأساليب التنظيمية لاتخاذ القرار الجماعي، ومن ذلك نظم المجالس؛ إذ يصدر العمل منسوباً إلى المجلس كهيئة معنوية وليس لأعيان أفراده، ويصدر بأغلبية أعداد المشاركين في صنعه فينسب إلى الجميع لا إلى من وافق عليه فقط. ومن ذلك أيضاً بلورة مفهوم ((التمثيل)) وإجراءاتها الانتخابية… وهكذا. وهذا مما أخذناه من نظم الغرب الحديثة، وهي من أنفع ما تفتقت عنه الحضارة الأوروبية المعاصرة.

ولكن مع كوننا – في بناء الدولة المركزية الحديثة – قد استفدنا نماذج تنظيم وإجراءات، إلا أننا فقدنا صلة الدولة المركزية الحديثة ((بالفكرة المجردة)) وصلتها بالمرجعية والأطر الشرعية الذائعة ذات القبول العام لدى الجماعة البشرية المحكومة، فقدنا العلاقة الرابطة بين الدولة والجماعة البشرية من حيث الفلسفة السائدة التي يتولد عنها الشعور بالانتماء للجماعة والتقبل الفكري والوجداني للأسس الشرعية الموضوعية التي يقوم عليها نشاط الدولة ومن هنا ظهرت الشرعية التي تدعوا إليها الدولة الحديثة المركزية في بلادنا شرعية إجرائية في الأساس، تتعلق بوضع دساتير على نحو معين، وتقسيم السلطة إلى عدد من المؤسسات يشبه مؤسسات السلطة في الغرب، وإصدار القرارات بتمثيل جماعي.

تضمن كل ذلك بطبيعة الحال عدداً كبيراً وهامّاً من مبادئ الديمقراطية الحديثة من حيث حقوق الإنسان وضمان الحريات الشخصية والجماعية، ولكن كل ذلك جرى التعبير عنه منفصلاً عن الأطر المرجعية السائدة ذات التقبل الشعبي العام والمستمدة من فكر الإسلام وفقهه؛ ولذلك فيمكن القول بأن الدولة المركزية من حصيلة ما أفضى إليه التطور الفكري الغربي ذو التقبل الشعبي العام من قيم ومبادئ وأصول – اندمجت خلاصات إيجابيات الفكري الغربي عبر تاريخه الطويل من الطور الإغريقي الروماني إلى الطور المسيحي الكنسي إلى الطور الحديث. أقول جرت العلمانية عندنا لا بهذا المضمون الذي عرفه التاريخ الفكري الغربي، ولكنها جرت بمحض كونه المفهوم العلماني يفيد القطيعة مع الأصول الفكرية والتراثية السائدة واستلهام خلاصات فكرية وافدة غريبة في مرجعيتها شاردة عن التطور الفكري في بلادنا.

لذلك ينبغي النظر إلى العلمانية في توظفها في مجتمعاتنا لا على صورة ما يفضى إليها تطبيقها في الغرب بحسبانها خلاصة تاريخية هناك، ولكن ينظر إليها على أنها توظف في مجتمعنا بما يفيد القطيعة مع تاريخه وناسه وأطره المرجعية، وهي لا تفيد في مجتمعنا إلا إضفاء شرعية إجرائية، أما المضمون الفكري فهو يتعلق بأطر مرجعية لم تنغرس إلا في نخب محدودة، نخب تلقت تعليمها في مدارس حديثة أنشئت على غير اتصال عضوي بالفكر السائد، وهي من تولى إنشاء الدولة المركزية الحديثة، وهي ايضاً من قاد حكومات التحرر الوطني ذات الطابع العلماني في أواسط القرن العشرين، ونقلت الدولة المركزية الحديثة نقلة كبيرة في مجال السطوة والنفوذ والإمساك بمقدرات المجتمع، وذلك بمرجعية شرعية تعتمد في الساس على فكرة الدولة بحسبانها الحقيقة الأساسية في المجتمع، وهكذا انتقلت صناعة الدولة المركزية الحديثة من السيطرة الأجنبية الغربية عقب الاحتلال العسكري إلى نخب علمانية إلى حكومات تحرر وطني علماني، كل ذلك بالمعاني التي استخدمت في هذه الورقة. وصارت مهمة الدولة الحديثة وفق النموذج الغربي.

نقطة ثانية، وهي أن الدولة المركزية الحديثة نشأت على أساس ((قطري))، والدولة كما هو معروف ذات عناصر مكونة، تتعلق بالإقليم والجماعة السياسية والسلطة، وهذه الدول العربية والإسلامية ودول آسيا وإفريقيا عامة، تحددت حدودها الجغرافية لا وفقاً لتحدد الجماعة السياسية التي تقطن الأرض بجامع رابطة القومية أو رابطة الدين أو رابطة العرق، ولكنها تحددت بالحدود الجغرافية التي فرضتها السيطرة الأجنبية السابقة وهذه الحدود دخل في تحديدها علاقة موازين القوى بين الدول الأجنبية المسيطرة، واحتياجات الدولة المسيطرة، وكذلك علاقة موازين القوى بين حركات التحرر الوطني والسيطرة الأجنبية التي كانت قائمة. بمعنى أن ظرفاً سياسياً تحدد به أمر يتعلق بالجماعة السياسية، وهو الذي تحكم في بيان حدود ((القطر)) الذي قامت الدولة على أساسه، فلم تعد الدولة تعكس جامعة سياسية تستند على أساس فكري أو فلسفي من رابطة دين أو رابطة قومية أو رابطة عرق. ولكن وجود الدولة بفعل الأمر الواقع قد ولّد في ذاته أمراً واقعاً جديداً صارت الدولة تعمل على تثبيته وبقائه، حتى بعد انتصار حركات الاستقلال بشكلها الفطري الذي حدث. فصارت الدولة هي أساس رابطة الولاء والانتماء وليس العكس، صارت الدولة أساس الشعور الذاتي للجماعة وليس العكس. وهذا ما نجده بخاصة في إفريقيا وفي الكثير من دول المشرق والمغرب العربي. وحتى أن الكثير من مشاريع الوحدات السياسية نشأ نشأة ذرائعية إجرائية لا تستند إلى أسس فكر فلسفي أو نظري يشكل رابط انتماء وإطار مرجعي. وذلك مثل ((وحدة وادي النيل)) أو ((الهلال الخصيب)).. الخ دون أن تصل إلى معيار ديني أو قومي أو عرقي.

(9)

من هنا ظهرت الدولة الحديثة المركزية منعزلة عن الجماعة مفروضة عليها من علٍ وخارجية عنها، أي أنها دولة ((مفارقة)) بالمعنى الفلسفي للفظ ((مفارق)) وهي منفصلة عن الأطر المرجعية السائدة في المجتمع والمكونة للجماعات البشرية والحاكمة للعلاقات والمعاملات وصارت مهمتها التبشير بمرجعية جديدة. والأهم من ذلك أن الدولة لم تعد من الشرعية في المجتمع، ولكنها صارت هي ذاتها مصدر الشرعية. ولم تعد محكومة بشرعية وأطر شرعية مستمدة من نسق فلسفي أو فكري عقيدي، وإنما صارت هي الحاكمة للشرعية، وصار القانون من حيث هو إجراءات تصدر بها الأحكام والنظم هو المعبر عن الشرعية التي هي إرادة الدولة؛ ومن ثم فهي علمانية بالضرورة بالمعنى ((الشرقي للكلمة)) أو بالأداء الوظيفي لهذا المفهوم في دولتنا. وما نقوله الدولة هو الإطار المرجعي ذاته الذي يخلق القيم وينشئ نموذج العلاقات، وسيطرت بذلك على الفكر والثقافة وصناعة العقول بدلاً من أن تكون نتاج ذلك.

صار من الأهداف الأساسية المتضمنة في أدائها الوظيفي أن تؤكد النزعة القطرية الإقليمية، وأن تؤكد الوجه العلماني الوضعي للمشرب الفكري، لا ثقة بالمنهج العلماني الذي أسفر عنه التطور الفكري الأوروبي في ظروفه التاريخية؛ ولكن لأنه الوجه الذي يمكنها من امتلاك ناصية الشرعية واستيعاب المرجعية ذاتها، بحيث تكون هي المشرع والمرجع.

وبهذا عملت الدولة المركزية الحديثة على تصفية المؤسسات الاجتماعية التقليدية التي كانت تشكلها الجماعات الأهلية، وعملت على إنشاء مؤسسات اجتماعية حديثة لا تستمد شرعية وجودها من ((الفكرة المجردة)) السائدة بين الجماعات الأهلية، ولكنها تستمد هذه الشرعية من اعتراف الدولة بها وإفساحها لها ورقابتها لنشاطها وهيمنتها عليها، وكان هذا وضع نظم الجمعيات والنقابات الحديثة وغيرها.

ومن هنا تفككت الجماعات الأهلية من حيث الانتماء ومن حيث كونها قوى متماسكة تفككت إلى أفراد، وهذا في ظني من أخطر ما هدد إمكانات التطور الديمقراطي وظهور التعددية الحقيقية والفعلية على المستويات الوسيطة التي تكون أساس التعددية الحزبية من بعد وأساس تعدد سلطات الدولة من فوق.

قديماً كانت الجماعة هي ما يكسب أية مؤسسة شرعية وجودها ونشاطها وذلك باعتراف الجماعة بها، والآن صار الاعتراف يأتي من الدولة كمؤسسة ((مفارقة)) وليس من الجماعة، وبدلاً من ((الفكرة المجردة)) التي كانت تشكل مادة التماسك والتناسق الاجتماعي بين الهيئات والمؤسسات العديدة والمتنوعة التي تؤسس بنية المجتمع، بدلاً من ذلك صارت الشرعية الإجرائية التي تستبد الدولة بإيجادها أو محوها هي ما يشكل هذا الترابط الشكلي، الذي يقيم الدولة كمؤسسة حكماً وحيداً على كل ما عداها.

وهي عندما ترفض ((الشرعية الإسلامية)) الناتجة من الفكرة المجردة، لا ترفضها لكونها إسلامية، فالدولة تتشكل من مسلمين يراعون ضوابط هذا الدين، ولكنها ترفضها من حيث هي تفرض عليها شرعية حاكمة لها من خارجها، وهي في الوقت ذاته شرعية تمكن الناس المحكومين من يقيسوا شرعية سلوك الدولة بمقاييس يملكون زمامها وتدخل في إطار تكوينهم العقلي الثقافي العام. الدولة ترفض شرعية ليست من إنشائها وليست قادرة على التحكم فيها، ترفض مرجعية لا يملك أحد على أحد بها سلطة إنفاذ إلا بالإقناع وبترجيح الجماعة.

وعندما تنهدر الشرعية الآتية عن الفكرة المجردة، تنهدر القدرة على الإدارة الذاتية التي تستند في الأساس إلى التقبل العام للتحاكم على شرعية تتصل بوجدان الجماعة وبالاحترام المتبادل بين الناس بعضهم ببعض أو لا يتوقف ذلك على ((إصدار)) من الدولة أو من مؤسسة بعينها.

(10)

أضع هذه الملاحظات راجياً أن يكون فيها ما يثير النقاش النافع، وراجياً أن يكون فيها ما يظهر أن المؤسسات التقليدية ليست قرينة الاستبداد، وأن مؤسسات المجتمع الحديثة وعلى رأسها الدولة الحديثة، إنما تقوم بأداء وظيفي لا يسير في طريق تكوين البنية الأساسية التحتية لتشييد الهيكل الديمقراطي، وأن الشرعية الإسلامية هي في ظني من الشروط المسبقة لإقامة هذا الهيكل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر