أبحاث

خلافات المسلمين رؤية نفسية (2)

العدد 84

أولاً: أنواع الخلافات:

إن تحديد أنواع الخلافات، ومستويات كل نوع منها، هي الخطوة الأولى لفهم ديناميات الخلاف، وذلك الفهم الذي يمكننا من التحكم في درجة الخلاف ومداه؛ لأن الخلافات ليست واحدة دائماً، إنما تتنوع بتباين عوامل مختلفة، منها:

1.  النوع: فالبشر في بداية الخلق فرد واحد هو آدم عليه السلام، ثم كان أول اختلاف في البنية الجسمية وتركيبها العضوي (وخلق منها زوجها) (النساء: 1)، لجعل احدهما سكناً للآخر. ثم كان الاختلاف الثاني في اللون (ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه) (فاطر: 28)، وكذلك (لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات: 13). ثم كان الاختلاف الثالث في الألسنة (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) (الروم: 22). وذلك لتبادل النفع والفائدة بواسطة تبادل الخبرات وسهولة ذلك.

2.  العقيدة أو نسق الاعتقادات أو الأحكام التي يصدرها فرد – أو مجموعة أفراد – على جوانب الكون وخالقه، فإذا اتصلت هذه الأحكام بالخالق سبحانه وتعالى، كان البشر ثلاثة أقسام:

‌أ.     أهل إيمان يؤمنون بوجود الله وقدرته والبعث والحساب.

‌ب.           أهل كفر ينكرون كل هذا.

‌ج.أهل نفاق يظهرون الإيمان بوجود الله ويبطنون الكفر.

أما إذا كان موضوع هذه الأحكام جوانب أخرى من الكون غير خالقه، إلا أنها تتسق مع المعتقدات عن الخالق، كان أهل الإيمان أو أهل الكفر – أمماً متعددة، فأهل الإيمان ينقسمون إلى: أمة اليهود – أمة النصارى – أمة الإسلام… وكل أمة منهم تنقسم إلى جماعات تندرج تحتها (الشهرستاني، 1968: 36 – 38) ويعبر ابن كثير 1980، 1 : 98) عن هذا الانقسام بقوله: ((المؤمنون صنفان: مقربون وأبرار، والكافرون صنفان: دعاة ومقلدون، والمنافقون صنفان: منافق خالص، ومؤمن فيه شعبة من شعب النفاق ((وأورد قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((القلوب أربعة: قلب أسرج: قلب المؤمن فيه نوره، وقلب أغلف: قلب الكافر، وقلب منكوس: قلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، وقلب مصفح: قلب فيه إيمان ونفاق)).

ويتم انقسام الأمة الواحدة إلى فرق، والفرقة الواحدة إلى جماعات بفضل الاستدخال Internalization؛ وهو العملية التي من خلالها يستوعب الفرد الدين – أو أي نسق قيمي – ويعيد صياغته ليصبح ذا معنى يفهمه الفرد القائم بهذه الصياغة، ويمكنه من التعامل مع المجهول والغيبيات، ويوجهه في هذا التعامل. وتتفاوت درجات الاستدخال وأنماطه من فرد لآخر مما يؤدي لاختلافات بينهم في فهم الدين والالتزام بتعاليمه (Ryam et al, 1993).

3.  على أساس أسباب الخلاف بين أهل أمة الإسلام:
فبناء على سبب الخلاف يمكن التمييز بين نوعين:

‌أ.     خلافات أسبابها خلقية كالغرور وحب الذات وسوء الظن بالآخرين، والتعصب والعصبية.. وما شابه، والخلاف الناتج عنها خلاف مذموم.

‌ب.           خلافات أسبابها فكرية لاختلاف وجهة النظر وزاوية الرؤية وتقدير النتائج والوجهة العقلية والمزاجية للأفراد وظروف البيئة التي يعيشون فيها، والخلاف الناتج عن هذه الأسباب خلاف محمود وفطري ومقبول (يوسف القرضاوي، 1990 : 13).

4.  على أساس موضع الخلاف نميز بين خلافات:

‌أ.     في أصول العقيدة أو الأساس الفكري (الأيديولوجي) الذي تنطلق منه كافة مواقف الأفراد وتصرفاتهم، والمعايير التي يحتكمون إليها ومصدر هذه المعايير. مثل الخلاف بين المنادين بتطبيق الشريعة الإسلامية (الحاكمية لله) والعلمانيين (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) في مصر المعاصرة، ومثل الخلاف بين أهل السنة وكل من الخوارج والشيعة والمعتزلة… إلخ، وما تشعب عنهم من جماعات حصرها البغدادي المتوفى عام 1037م (ب ت: 10 – 11) والشهرستاني المتوفى عام 1153م (1968 : 12 – 13) ومحمد أبو زهرة (1989م)، وحصروا الأصول التي اختلفوا فيها، وهو اختلاف – أي الاختلاف في أصول العقيدة – منهي عنه ومذموم.

‌ب.           في فروع العقيدة، أي في كل ما يتم التوصل إليه بالقياس والاجتهاد – لا بالوحي كما في الأصول – حيث يختلف الأفراد في فهم النص (قرآن وسنة) وفي تأويله؛ لتباين قدراتهم واستعداداتهم وظروف البيئة التي يعيشون فيها… وما شابه، مثل الخلاف الذي كان بين أئمة المذاهب الفقهية الخمسة وتابعيهم، وكان اختلافاً في طلب الحقيقة – كما يقول محمد أبو زهرة (ذ989 : 254) – رائده الإخلاص، ويشحذ العقول ويوصل إلى الأمر، وهو اختلاف لا تترتب عليه آثار سلبية تضعف وحدة المسلمين، كما يتناسب هذا الاختلاف مع الفطرة، ويسمح بتعدد البدائل التي تناسب ظروف معيشة كل فرد أو مجموعة من الأفراد ويحقق يسر الإسلام؛ لذا يقبل الإسلام هذا النوع من الاختلاف؛ إذ يحض على الاجتهاد ويحبذ محاولة فهم النصوص وتأويلها، فللمجتهد أجر إذا أخطأ وأجران إن أصاب – بنص الحديث الشريف – بشرط أن يلتزم المجتهد ضوابط وآداباً معينة حتى لا يتحول الاختلاف إلى شقاق*(عرض هذه الضوابط والآداب: طه جابر العلواني، 1984، محمد أبو زهرة، 1989 : 321 – 328).

ويعد الاختلاف الناتج عن هذا الاجتهاد – كما يقول الشاطبي – رحمة بالأمة؛ إذ بإمكان كل فرد الأخذ برأي أحد الأئمة، إذا تناسب مع ظروف يعايشها في لحظة ما، أو كما يقول خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز: ((ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة (محمد أبو زهرة، 1989 : 254، يوسف القرضاوي، 1990 : 49).

‌ج.في المواقف الحياتية اليومية، والتي تختلف تصورات الأفراد عنها أو اتجاهاتهم نحوها أو أفعالهم إزاء هذه المواقف التي قد تكون قضية اجتماعية أو سياسية معينة، مثل اختلاف المهاجرين والأنصار في شأن خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الخلاف بين فئات المنادين بتطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمع المصري من حيث توقيت هذا التطبيق: فوراً أم بالتدريج، أو اختلافهم في وسيلة هذا التطبيق: بالقوة والعنف أم بالنصح والدعوة، أو اختلافهم في مدى هذا التطبيق: على كل نواحي الحياة أم على جرائم الحدود المنصوص على أحكامها فقط، أو الاختلاف في الجمهور الذي يشمله هذا التطبيق: كل الشعب المصري أم المسلمون منه فقط (عبدالحليم محمود السيد، 1985)، ومثل الخلافات بين فئات الفرقة الواحدة من المسلمين، وتؤدي هذه الخلافات إلى انقسامها لجماعات، فالشيعة على سبيل المثال ينقسمون إلى أكثر من عشرين جماعة، وكذلك الخوارج والمعتزلة… وهكذا.

ومثل الخلافات بين فئات المذهب الفقهي الواحد. وهكذا تنقسم الأمة إلى عدة فرق أو مذاهب سياسية أو أحزاب أو مذاهب فقهية، وتنقسم كل فرقة أو حزب أو مذهب فقهي منها إلى عدة جماعات. وكل هذه الانقسامات تترجم الاختلافات بين المسلمين – أو أفراد المجتمع – لتباين إدراكاتهم للقضية (أو الموقف – موضع الاختلاف، وتنوع آرائهم فيها وتعدد مسالكهم نحوها، وكما سبقت الإشارة، فإن كل هذا يعبر عن اختلاف دائم وقائم إلى يوم القيامة، وليس بالإمكان منع هذا الاختلاف أو إلغاؤه أو تجاهله، وإنما الأسلوب الوحيد المتاح للتعامل معه هو توجيهه لصالح الأمة والمجتمع، بحيث تتحقق التعددية والوحدة في الآن ذاته، ويقتضي هذا التوجيه تحديد مستوى الاختلاف.

5.  على أساس مستوى الاختلاف، يمكن التمييز بين مستويات ثلاثة:

(أ‌)خلاف محدود؛ إذ يقف عند موضع بعينه، يعترف الأفراد باختلافهم فيه، ولا يمنع اختلافهم هذا من إظهار اتفاقهم على مواضع أخرى. وهذا المستوى هو الذي تم وصفه في الفقرة السابقة (أي (جـ) من الخلافات المصنفة على أساس موضع الاختلاف، أي تباين مواقف الأفراد من قضية معينة، وكذلك الفقرة (ب)، أي الخلافات في الفروع من العقيدة الإسلامية)، وهذا المستوى المحدود من الخلاف يقبله الإسلام ولا ينكره، بل يضع الضوابط لتوجيهه، فأفكار الناس وأقوالهم وأفعالهم تختلف بتباين خصال شخصياتهم وتنوع قدراتهم وإمكانياتهم، وتعدد حاجاتهم واهتماماتهم وظروف معيشتهم… إلخ.

(ب‌)       خلاف شديد، ومن السهل أن يتعدى – لشدته هذه – موضع الاختلاف إلى مواضع أخرى ليست محل خلاف، مما يصعب معه الاتفاق، مثال ذلك، الخلافات بين المسلمين في الرأي من قضايا فقهية معينة، والتي كانت محدودة في البداية، ثم اشتدت حدتها واتسع مداها بسبب تدخل الملوك والشعوبيين ومحاولاتهم إذكاء الخلاف وزيادة الهوة بين المتخالفين، حتى أصبح بأس المسلمين بينهم (محمد أو زهرة، 1989 : 17 – 18)، ومثل الخلاف الذي كان بين علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – والخارجين عليه بشأن التحكيم بينه وبين معاوية، وذلك الخلاف الذي اقتصر في البداية على هذا الموضع، ثم اشتد واتسع حتى أصبح الالتقاء بعيداً.

(جـ) خلاف بالغ الشدة، يعقبه نزاع يصعب معه الالتقاء – إن يكن ميئوساً منه – ويسمى شقاقاً (خلاف يؤدي للعداوة والاقتتال).

ثانياً: أضرار تحول الخلاف المحدود إلى خلاف شديد أو إلى شقاق:

إذا انتقل الاختلاف من المستوى المحدود المقبول والمطلوب إلى المستوى المذموم أي الشديد أو المنهي عنه أي بالغ الشدة (الشقاق)، فإن هذا الانتقال في المستوى يؤدي إلى إلحاق الأضرار بالمتخالفين، من هذه الأضرار:

1.  الجهل بمعلومات قد تفيد:

يؤدي الاختلاف الشديد – أو الشقاق – بين مجموعتين من أفراد الأمة إلى رفض إحداهما الأخرى، ورفض إنتاج أعضائها الفكري والعملي، ويعني هذا الرفض خسارة ما قد يكون عوناً لحل مشكلة ما تواجه أحد المتخالفين، وسوف يتضح لاحقاً – إن شاء الله – كيف يؤدي الرفض إلى الجهل، إذ تكتسب المعرفة بطريقة انتقائية، أي أن الفرد يعرض نفسه للمعلومات التي يجب التعرض لها، ويتجنب التعرض لمعلومات لا يرغب فيها، فيؤدي الرفض إلى التجنب الذي يؤدي بدوره إلى الجهل، فتصبح معلومات الفرد عن الآخر محدودة، وبالتالي يعتمد في الحكم عليه على مضمون انفعالي تقويمي فقط، والذي يكون سلبيّاً في أغلب الأحيان؛ وذلك لغياب المضمون المعلوماتي الموضوعي (Rejecki, 1990 : 293).

وهذا ما أدى إلى عصور الجمود في المجتمعات الإسلامية؛ إذ أدت الخلافات الفقهية إلى انحياز مذهبي، أصبح بمقتضاه إلى انحياز مذهبي، أصبح بمقتضاه يجتهد المجتهد في دائرة مذهبه فقط، متقيداً بأصول المذاهب وآراء إمامه، مبتعداً عن أصول المذاهب الأخرى وآراء أئمتها، فانتهى الأمر إلى الجمود (محمد أبو زهرة، 1989 : 281) وما نتج عنه تخلف الأمة الإسلامية في كافة مجالات الحياة.

2.  شيوع أنماط سلوكية شاذة في المجتمع:

يضعف الخلاف الشديد (أو الشقاق) الأواصر الاجتماعية نتيجة غياب العلاقات الإيجابية المتبادلة بين الأفراد، ويترتب على ذلك غيب الضبط الاجتماعي للسلوك، ويعد هذا الغياب العامل الأول وراء شيوع أنماط سلوكية شاذة وغير مقبولة، مثل:

‌أ.     الاعتماد على المسكرات والمخدرات؛ إذ يعد غياب الضبط الاجتماعي أهم شرط بين شروط ثلاثة – بالإضافة إلى دافعية التعاطي وكون المادة المتعاطاة متاحة وفي متناول الفرد – يؤدي تفاعلها معاً إلى ارتفاع معدلات التعاطي لكل أنواع المسكرات والمخدرات*في بلدان العالم كله.

‌ب.           اضطرابات السلوك الجنسي، إذ يعد غياب الضبط الاجتماعي للعلاقات الجنسية، بالإضافة إلى الحافز الجنسي وكون النوع الآخر متاحاً أيضاً هي العوامل المسئولة عن شيوع هذه الاضطرابات في المجتمعات التي تضعف فيها الأواصر الاجتماعية.

‌ج.الاضطرابات النفسية والأمراض النفسجسمية، حيث تكشف البحوث أن معدل الشكوى من هذه الاضطرابات يزيد بشكل واضح إذا كان الأفراد يعايشون ظروفاً اجتماعية سلبية، كالتفكك الأسري والصراع وشيوع الخلافات بين هؤلاء الأفراد (انظر الفصول: 6، 12، 13، 15 من A1 Issa, 1982).

‌د.    زيادة معدل جنوح الأحداث وارتكاب الجرائم، فالبحوث تبين أن شيوع الخلافات بين أفراد الأسرة وخصوصاً الوالدين – تزيد معدلات جنوح أطفالها، وتيسر تورطهم في إصدار سلوك غير مقبول اجتماعياً (Lewis, et al, 1989) كما تؤكد البحوث أيضاً أن ضعف أواصر التضامن الاجتماعي يؤدي إلى غياب الإدانة الشعبية للجريمة*مما يشجع الأفراد الذين لديهم استعدادات إجرامية على ارتكاب الجرائم وتيسر لهم ذلك (Willson, 1975 : 26, 80).

مما سبق يتبين أن تحول الخلاف المحدود إلى شقاق يؤدي إلى شيوع أنماط سلوكية شاذة ولا توافقية، مما يهدد المجتمع وبقاءه.

3.  التعصب Prejudice:

هو اتجاه attitudeيجعل صاحبه يفكر ويشعر ويسلك بطرق مفضلة أو مستهجنة، نحو أو ضد جماعة معينة أو أحد أعضائها (Secord & Backman 1974 : 145)، أي أن التعصب قد يكون إيجابياً، أي التمسك بموقف – فكرة – ملائم ورفض موقف آخر غير ملائم، وهذا أمر مستحسن تماماً ومستحب، وقد يكون التعصب سلبياً، أي رفض موقف – فكرة – ملائم، وتقبل موقف آخر غير ملائم والالتزام به. والنوع الأخير (أي التعصب السلبي) هو المقصود هنا كنتاج لتحول الخلاف المحدود إلى شقاق وكمقدمة لهذا التحول أيضاً، ويتمثل هذا التعصب في إصدار الفرد حكماً متسرعاً ومبالغاً فيه على فرد آخر – جماعة – موضع الحكم، وتكون هذه المبالغة مصحوبة بتفكير منمط يجعل الفرد يرفض تعديل حكمه هذا في ضوء أدلة جديدة، ويستحث هذا الحكم صاحبه لإصدار فعل مباشر ضد الآخر – الجماعة – موضوع الحكم أو ضد ممتلكاته، يتفاوت هذا الفعل بين التعليق اللفظي (التوبيخ أو إطلاق النكات مثلاً) والاعتداء عليه بالضرب أو القتل أو نهب ممتلكاته أو تدميرها (Harding, et al, 1969)، وهكذا يؤدي تفاوت الأفراد في القدرات العقلية، بما في ذلك تفاوت القدرة على تقدير الموقف، واختلاف الأفراد في المكانة أو العقيدة أو اللون… الخ، ويخلق هذا التفاوت والاختلاف مواقف يتنافس فيها الأفراد، مما يترتب عليه إخفاق بعضهم وإحباطهم، وتكون نتيجة ذلك البغض المتبادل والتشاحن والتحيز الذي يتم التعبير عنه بصور نمطية**

Rajeck, (1990 : 265).

وتختلف أشكال التعصب بتباين الإطار الاجتماعي الثقافي الذي يحدد الصراع بين الأفراد والجماعات وتنافسهم على العمل أو المكانة الاجتماعية Brown, 1986 : 543))؛ لذا يشيع التعصب الديني في لبنان والهند والبوسنة على سبيل المثال، ويشيع التعصب العرقي (العنصري) ethicفي الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا ودول أوربا، ويشيع التعصب الإقليمي، أي تعصب أهل الشمال، وكذلك سكان المدن ضد أهل الجنوب وسكان الريف أو العكس، يشيع هذا الشكل للتعصب في مصر والولايات المتحدة على سبيل المثال أيضاً، وكان هذا الشكل شائعاً في بلاد العرب قبل الإسلام، حيث كان الفرد ينصر قبيلته ظالمة أو مظلومة، وقد كان أول سلوك تعصبي في تاريخ الخلق، هو ما صدر عن ((إبليس)) – عليه اللعنة – حينما رفض السجود استكباراً بالمادة التي خلق منها (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (ص : 76، انظر كذلك الأعراف : 12، الحجر : 33) (الشهرستاني، 1978 : 14)، هنا سوغ إبليس سلوكه باصل العنصر الذي خلق منه، عادّاً النار أشرف من الطين، استناداً إلى قياس فاسد – وهو أول من استخدم القياس كدليل – لأن من شأن الطين الرزانة والحلم والأناة والتثبيت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح، بينما النار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة، وهكذا أبلس إبليس، أي يئس من رحمة الله، بينما تاب آدم وغفر له الله فنفعه عنصره (ابن كثير، 1980، 3 : 149)، وهكذا نجد تبريراً للتعصب بصور نمطية مبسطة ومبتسرة، فيأتي التبرير في غير محله، فالتعصب السلبي اتجاه برفض فرد آخر – جماعة – لاختلافه عنا في السلالة أو الدين أو الموطن أو النوع أو الإطار الفكري (الأيديولوجي) أو المذهب الفقهي أو العمر أو المكانة الاجتماعية أو… الخ. ولهذا التعصب آثار غير مرغوبة منها:

‌أ.     عدم السماح بالمخالطة الاجتماعية في الأماكن العامة، وما يترتب على ذلك من خسارة مؤازرة الآخرين ومساندتهم في مواقف تتطلب هذه المساندة.

‌ب.           عدم الامتزاج الدموي – رغم وحدة العقيدة أو الوطن – بعدم المصاهرة، مما يضعف أواصر المجتمع ويعمل على تفككه.

‌ج.نشر فكاهات تنال المستهدف بالتعصب*وتضخم عيوبه، مما يزيد الفجوة بين فئات المجتمع ويفجر مشاعر العداء (عبدالحميد الهاشمي، 1989 : 133).

‌د.    الاعتداء عليه – أي المستهدف بالتعصب – سواء كان هذا الاعتداء اعتداء انفعاليّاً يتمثل في تجاهله أو بخس ما يقدمه من فكر وعمل، أو كان إعتداء مباشراً يأخذ شكلاً لفظياً أحياناً كالسب، أو يأخذ شكلاً بدنيّاً في أغلب الأوقات كالضرب والقتل، وما نار الحروب بين فئات الأمة الواحدة إلا تعصب أعمى، وأي خلاف – مهما كان موضوعه – يمكن أن يظل محدوداً، ويمكن أيضاً أن تزداد حدته فيصبح تعصباً، حتى الخلاف الفقهي – أي الاختلاف في فهم نص ديني – يكون كذلك، وقد أكد محمد الغزالي (1981 : 98) أنه راى من أمراض التعصب المذهبي بين فئات الأمة الإسلامية ما يثير الإشمئزاز، ويدعو إلى الدهشة، وكأن الذين خاضوا المعارك الجدلية يقصدون قصداً إلى تمزيق المسلمين*وإهانة معارضيهم في الفكر بعلل مختلفة، مضيفاً ((أن هذا التعصب بدد قوى الذين أنشأوا باكستان المسلمة)) (محمد الغزالي، 1981 : 103)، وتشهد أفغانستان والجزائر – وغيرهما – الحال نفسه.

لكن هذه الأضرار الناتجة عن التعصب أو العصبية، نهى عنها رسول الله قائلً: ((من ينصر قومه على غير الحق فهو كالبعير..)) واجتث جذور التعصب بين المهاجرين والأنصار قائلاً: ((دعوها أي العصبية فإنها منتنة)). ((فليس منا من دعا إلى عصبية، ليس منا من قاتل على عصبية، ليس منا من مات على عصبية)) (عن: أبي الحسن الندوى، 1973 : 110)، واصفاً عليه الصلاة والسلام أباذر – ذات مرة – قائلاً: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) لأن أباذر سب أحد الرجال بالقول: ((يا ابن السوداء))، وخطب في الناس قائلاً: ((إن الرب واحد وإن الدين واحد وإن الأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم إنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي)) وذلك لينهى العرب عن التعصب ضد الروم والحبش (عمر عودة الخطيب، 1983 : 127)، وأكد ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لاتهلك أمتي حتى يكون بينهم التمايل والتمايز))، وقوله الكريم ((كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى))، ((الناس سواسية كأسنان المشط)) (المرجع السابق : 151)، وأوصى المسلمين بالمحبة: ((لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، ((من نفس عن مؤمن كربة، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة))، ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبيع أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله…)).

وجاء هذا تفصيلاً لقول الله جل وعلا: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً) (الحجرات: 11 – 12)، (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم، فلا تتناجوا بالإثم والعدوان) (المجادلة : 9)، 0ولا تبخسوا الناس أشياءهم) (هود : 85)، (ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا) (الحشر : 10).

والتعصب كاتجاه، مثله مثل أي إتجاه، يعد نسقاً من مكونات ثلاثة تتبادل التأثير (عبدالمنعم شحاتة، 1989) وهي:

‌أ.     المكون المعرفي، أو معلومات الفرد المتعصب عن الآخر موضوع التعصب، وهي عبارة عن أحكام باتسام هذا الآخر بصفات معينة، مصدر هذه الأحكام معتقدات beleifesمفرطة في بساطتها ومبالغ في تعميمها، مثال لهذه المعتقدات: اعتقاد البيض في المجتمع الأمريكي أن الزنوج كسالى وأدنى من الناحية العضوية التشريحية ويميلون بطبعهم للاستعباد، مثال آخر لهذه المعتقدات، ما يتبادله سكان الريف والمدن في مصر من أحكام باتسام كل منهم بصفات ليست فيه، مثال ثالث: ما يتبادله أفراد الفرق الإسلامية على مر تاريخها من أحكام تصل إلى تكفير بعضهم بعضاً، وتمتد هذه الأحكام إلى نياتهم ومقاصدهم، وتقدم هذه المعتقدات التبرير للسلوك التعصبي أو التمييز (بين أبيض وأسود، أو حضري وريفي، أو سني وشيعي… وهكذا).

‌ب.           المكون الوجداني أو مشاعر البغض والكراهية والاستهجان.. والتي يكنها المتعصب للآخر موضوع التعصب، وتتسق هذه المشاعر مع الأحكام أو المعارف أو المعلومات فوجهتهما سلبية دائماً.

‌ج.المقاصد السلوكية intentionsوتتمثل في الميل للتمييز discrimination، فبعد تصنيف الآخر ضمن الجماعة الخارجية (التي لا ينتمي إليها صاحب الاتجاه التعصبي) بناء على إدراك اختلاف الآخر (في اللون أو العقيدة أو الفرقة أو المذهب أو الحزب السياسي… إلخ) عن الفرد المتعصب، يتم خلع صورة نمطية على أي فرد يدرك المتعصب أنه ينتمي لتلك الجماعة الخارجية، وهي صورة مكونة من صفات مبالغ في تبسيطها، وفي اتسام أعضاء الجماعة الخارجية بها، ومن خلال ذلك يصبح هؤلاء الآخرون هدفاً لتفريغ الشحنات الانفعالية السلبية التي تكونت لدى المتعصب وترسخت ضد تلك الجماعة الخارجية، ويترتب على كل هذا تعبيرات متفاوتة الشدة عن رفض هذه الجماعة ومعارضة أعضائها في أفكارهم وآرائهم من خلال إصدار استجابات يتم بموجبها التمييز بين أفراد الجماعة الداخلية (التي ينتمي إليها المتعصب) وأفراد الجماعة الخارجية (التي لا ينتمي إليها)، ويكون التحيز للأولى ولأعضائها ضد الأخيرة وأعضائها أيضاً.

ومن النادر أن يكون سلوك التمييز أو التحيز مباشراً، فغالباً ما يعبر المتعصب عن اتجاهاته التعصبية تعبيراً غير مباشر، ففي دراسة تقارن بين مقابلة صاحب عمل أبيض لمرشحين لوظيفة لديه من البيض والسود، تبين أن المسافة الفاصلة بين صاحب العمل الأبيض والمرشح الأسود كانت 69,29 بوصة، ومدة مقابلتهما كانت 9,42 دقيقة، معدل أخطاء حديث صاحب العمل معه (أي المرشح الأسود) في الدقيقة الواحدة هو 3,54 خطأ، وفي المقابل كانت المسافة الفاصلة بين صاحب العمل الأبيض والمرشح الأبيض 58,43 بوصة، ومدة مقابلتهما 12,77 دقيقة، ومعدل أخطاء الحديث في الدقيقة الواحدة 2,37 خطأ، أي أنه حينما كان المرشح أبيض كانت المسافة أقصر واللقاء أطول ومعدل أخطاء الحديث أقل، مما يعني أنه أكثر قربا لصاحب العمل الأبيض، وأنه أقل إثارة للتوتر الناتج عن الصراع بين السلوك الممارس والمعتقدات غير المعلنة لاتساقهما إن لم يكن تطابقهما، بينما كان الأمر عكس ذلك بالنسبة للمرشح الأسود (Rajecki, 1990 : 287).

واختيار الفرد للتعبير المباشر أو غير المباشر عن اتجاهاته التعصبية يعتمد على عدة عوامل، منها ما يلي:

‌أ.     خصائص هذه الاتجاهات مثل: رسوخها، فكلما كان الاتجاه التعصبي راسخاً، كان التعبير عنه مباشراً، ومثل: هيمنة centralityأحد مكونات الاتجاه التعصبي، خصوصاً المكون الوجداني وهذه الهيمنة لا تجعل التعبير عن الاتجاه التعصبي مباشراً فحسب، وإنما تزيد أيضاً من مقاومة هذا الاتجاه للتغيير والتعديل. ومثل: تطرف extremecityالاتجاه، فكلما زاد تطرفه، زادت أيضاً شدته، وزادت بالتالي احتمالات التعبير المباشر عنه.

‌ب.           السياق الاجتماعي الذي يسمح بترسيخ الاتجاهات التعصبية أو يسهم في إنقاص شدتها، وذلك من خلال مدى ما يسمح به هذا السياق من اتصال بين أفراد الجماعات العرقية (أو الدينية، أو المذهبية… إلخ) المختلفة، من خلال ما يمارسه هذا السياق أيضاً من ضبط اجتماعي بواسطة العرف والقيم والتقاليد، هذا الضبط الذي إما يسهم في زيادة السلوك التمييزي، كما حدث في بلاد العرب قبل الإسلام وبعده، فقد كان الضبط الاجتماعي وراء العصبية القبلية قبل الإسلام، وكان أيضاً وراء غيابها بعد الإسلام.

‌ج.التغيرات الاقتصادية، فهي أيضاً قد تزيد احتمالات إصدار الفرد لسلوك تمييزي بين أفراد جماعات المجتمع وفئاته، وقد تقلل هذه الاحتمالات. فعلى سبيل المثال: أدت هذه التغيرات الاقتصادية إلى تضاؤل الاتجاهات التعصبية ضد الآسيويين في المجتمع الأمريكي (المرجع السابق: 84 – 85) كما أن هذه التغيرات ايضاً وراء غياب المعاداة للسامية في أوربا، كما أنها وراء تضاؤل الأفعال التمييزية ضد اليهود في المنطقة العربية في الآونة الأخيرة كذلك.

‌د.    التغيرات السياسية وما يصاحبها من عدم استقرار الأنساق القيمية الموجهة للعلاقات المتبادلة بين أفراد المجتمع، وما ينتج عن ذلك من صراع بين فئاته وتنافسها على تأكيد المكانة، فيزيد إحساس أفراد بعض هذه الفئات بالتهديد، وتزيد بالتالي كل من الاتجاهات التعصبية والاستجابات التمييزية.

‌ه.    تعرض المجتمع للخطر نتيجة حروب أو كوارث، ففي مواجهة الخطر يميل الأفراد لتأكيد وحدتهم كمجتمع من خلال إظهار المزيد من التعصب ضد أفراد الأقليات.

‌و.   خصال الأفراد وسماتهم، فالذين يتسمون بالتوتر المرتفع وعدم تحمل الغموض والتصلب والميل لمسايرة الآخرين والميل للصرامة وانخفاض المستوى التعليمي، أكثر تعصباً، وميلاً للتعبير المباشر عن اتجاهاتهم التعصبية بالمقارنة بأفراد آخرين يتسمون بالإسترخاء والقدرة على تحمل الغموض والمرونة والاستقلالية والتسامح وارتفاع مستوى التعليم.

هذه بعض العوامل التي تزيد الاتجاهات التعصبية رسوخاً وشدة وتطرفاً، وتزيد بالتالي احتمالات اللجوء إلى تعبير مباشر عنها. ومما سبق تتضح خطورة التعصب على المجتمع؛ إذ يعمل على تفكيكه إلى فئات*، ويعمق تبايناتها ويرجح تبادلها العداوة والإقتتال.

ثالثاً: العوامل التي تؤدي إلى تحول الخلاف المحدود والمقبول إلى شقاق:

هناك عوامل عدة تسهم في زيادة حدة الخلاف بين المسلمين – أو فئات أي مجتمع – وتحوله إلى شقاق، ويمكن تقسيم هذه العوامل إلى فئتين كما يلي:

‌أ.     عوامل مستنبطة من تاريخ الخلافات بين المسلمين.

‌ب.           عوامل مستمدة من بحوث علم النفس المعاصر.

(أ‌)من العوامل التي يرجح مؤرخو خلافات المسلمين، أنها وراء زيادة هذه الخلافات عمقاً ما يلي:

1.  العصبية القبلية التي كانت سائدة بين العرب قبل الإسلام، واختفت في عصر النبي، وعادت للظهور في عهد الخليفة عثمان بن عفان وبعده، فظهر الخلاف بين الأمويين والهاشميين، وبين القبائل الربعية (التي شاع بين أفرادها مذهب الخوارج) والقبائل المضرية.

2.  التنازع على الخلافة*، كالذي بدا وحسم فوراً بين المهاجرين والنصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكالذي بدا واستمر بين الأمويين والهاشميين أو بين الشيعة والخوارج، أو بين غيرهما.

3.  ظهور القصص في عهد عثمان، وما ترتب على ذلك من شيوع خرافات السابقين وأساطيرهم، وتحريفات أهل الديانات السابقة، خصوصاً الإسرائيليات.

4.  ترجمة الفلسفة، وشيوع طريقتها في التفكير عند تناول موضوع ديني، كما فعل المعتزلة (محمد أبو زهرة، 1989 : 12 – 16).

5.  التأثر بعقائد أخرى، كما حدث في صدر الإسلام، حينما أثار المسلمون الجدد الخلافات، متأثرين بما تنطوي عليه نفوسهم من عقائد (يهودية – مسيحية – مجوسية.. إلخ) كانوا يؤمنون بها قبل إسلامهم، وأدى ما أثاروه من قضايا وإشكالات إلى ظهور صور من النزاع كانت سبباً في التفرق (محمد علي أبو ريان، 1976 : 116).

6.  الثورة الثقافية المضادة من قبل الشعوب التي تم فتح بلادها، فهذه الثورة أدت إلى زيادة هوة الخلافات بين المسلمين، بل ساهمت في نقل هذه الخلافات من مستوى الفروع إلى مستوى الأصول (المرجع السابق : 137).

7.  اشتمال القرآن الكريم على آيات محكمات وأخرى متشابهات، وتضمُّن الشريعة الإسلامية أحكاماً منصوصاً عليها وتعد قطعية صريحة، وأخرى مسكوتاً عنها أو ظنية أو تقبل الاجتهاد، مما أدى إلى اختلاف الفهم والتأويل؛ لتفاوت قدرة العقول على الإدراك والاستدلال (يوسف القرضاوي، 1990 : 41)، وهذا الاختلاف مشروع ومقبول إلا أنه تحول إلى شقاق نتيجة تدخل الحكومات والشعوبيين وغيرهما.

8.  أن النصوص – القرآن الكريم والسنة المطهرة – قولية لفظية، فيها الحقيقة والمجاز، وعرضة لاختلاف الدلالات، مما أوجد مجالاً لتباين الأفكار وتعارضها (هناك أمثلة عديدة لهذه الاختلافات وتداعياتها في المرجع السابق : 43، القرافي، ب ت : مواضع متفرقة، محمد أبو زهرة 1989 : 253).

9.  اختلاف روايات الأحاديث، وكونها صحيحة عند بعضهم فأخذ بها، وعدم صحة هذه الرواية عند بعضهم فلم يأخذ بها، مما أدى إلى تعداد المذاهب والأحكام الفقهية (محمد أبو زهرة، 1989 : 253).

10.        سوء النية؛ إذ لم تكن الخلافات بين المسلمين تهدف إلى معرفة الحق، بقدر ما هي استجابة لدوافع أخرى كالسيطرة على الحكم أو نتيجة الكبرياء أو الاستعلاء، ونتذكر أن الخلاف بين إبليس وآدم كان مصدره استعلاء إبليس (الشهرستاني، 1968 : 14)، وأن الخلاف بين ولدي آدم ((هابيل وقابيل)) كان مصدره الغيرة (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق، إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك) (المائدة : 27)، وقياساً على ذلك يمكن إرجاع الخلافات الحادة بين فئات المسلمين إلى دوافع عديدة ليس من بينها معرفة الحق واتباعه.

11.        تدخل الحكومات، وكذلك الأجانب*، وتنافس الفئات المتخالفة في جعل الدولة – أو القوة الأجنبية – إلى جانبها. وقد نهى الله العلي الجبار عن ذلك بقوله: (والفتنة أشد من القتل) (البقرة : 191)، (والفتنة أكبر من القتل) (البقرة : 217)، وما روي عن رسول الله ((الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها))، ولم يكتف الله سبحانه وتعالى بالنهي عن ذلك التدخل فقط، بل نهى المتخالفين عن الاستجابة له (سماعون للكذب سماعةن لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه) (المائدة : 41)، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) (الممتحنة : 1)، والسمع من درجات الموالاة، ليس هذا فحسب، بل طالبهم المولى عز وجل بتحري الدقة والصدق فيما يصلهم من أنباء ينقلها إليهم من لا يوثق بدينه أو أمانته (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (الحجرات : 6).

ومثال لتدخل الحكومات، وما فعله الأمويون لإذكاء نار التعصب بهدف مساندة العرب ضد معارضي الداخل (عباسيين وعلويين وخوارج) والأعداء البيزنطيين (إحسان النص، 1973 : 274)، وكذلك فعل الأمر ذاته العباسيون والعثمانيون والحكومات الإسلامية المعاصرة، كما حدث في عهد الرئيس السادات (1970 – 1981) في مصر، حينما تدخلت الحكومة المصرية في الصراع بين الإسلاميين والاشتراكيين.

أما تدخل الأجانب، فالأمثلة عليه عديدة نذكر منها، ما قام الفرنسيون به لتشجيع محمد علي كي يستقل عن الخلافة (محمد قطب، 1982 – 127)، ومحاولات الاستعمار الصليبي العديدة لتفتيت الأمة الإسلامية وهدم قيم الوحدة لديها (المرجع السابق : 122 – 183)، وتقدم الجزائر وفلسطين وأفغانستان في الأعوام الأخيرة أمثلة حية لتدخل الأجانب في الصراع بين فئات الشعب الواحد، وآخر الأمثلة ما حدث بعد الانتخابات التركية التي أجريت يوم 24/12/1995، وما تلاها من تحرك القبارصة والأرمن واليونانيين بإيعاز من الدول الغربية (أوربا وأمريكا) لمنع حزب الرفاة من السيطرة على السلطة.

12.        فصل الدين عن الدولة، أو العلم عن الحكم، وما ترتب على ذلك من ظهور فرق ذات توجهات سياسية مختلفة، كان لها الأثر الشديد في زيادة هوة الخلاف بين المسلمين وتعميقه أمثلة لذلك أنظر: أبا الحسن الندوى، 1973 : 216 – 220، طه جابر العلواني، 1984 : 78 – 79، 152 – 155، محمد الغزالي، 1981 : 100 – 101، 125 – 127).
وبين تاريخ الخلافات بين المسلمين أن بدايتها كان خلافاً سياسياً، أدى إلى خلاف فقهي، ثم انتهى إلى خلاف عقائدي متعصب (محمد أبو زهرة، 1989 : 19)، ويعتقد بعض المفكرين أن الخلاف – الذي ظهر خصوصاً في عصور ما بعد الخلافة الراشدة – خلاف شاذ، ومصدر شذوذه هو قلب الأمر، فالأصل أن يكون الفكر مقدمة والخلاف نتيجة. فلا تثريب على الذين بدأوا مفكرين أن ينتهوا مختلفين، ولكن الطامة الكبرى عندما يكون الخلاف مقدمة والفكر نتيجة، عندئذ تكون الفكرة ثمرة الخلاف، ومجرد ذريعة له، وهكذا ظهر مذهب الجبرية وشجعه الأمويون كي يبرروا اغتصاب الخلافة، كما يقدم فكر الخوارج تبريراً لموقفهم المسبق من الخلافة، وكذلك غيرهم من فرق المسلمين (الدمرداش ذكي العقال، 1992).

(ب‌)        عوامل مستمدة من بحوث علم النفس المعاصر:

وتسهم العوامل المشار إليها – سابقاً – في تحول الخلاف المحدود المقبول إلى شقاق مذموم وتعصب ممقوت، من خلال عمليات نفسية تتوسط بين هذه العوامل ونتائجها من شقاق وتعصب، وبمعنى آخر: فإن تأثير العوامل السابقة يتوقف على هذه العمليات النفسية والتي نعرض لبعض منها كما يلي:

1)تكوين الجماعة والانشقاق عليها:

لدى الإنسان ميل فطري للدخول في علاقات اجتماعية متبادلة مع غيره من البشر؛ وذلك لحاجته إلى تقويم نفسه من خلال مقارنتها بالآخرين؛ لذا نجده مدفوعاً بفطرته للارتباط بهم، أي للانتماء إلى جماعة. وهكذا يختار من بين جماعات المجتمع الموجودة – ويتم هذا الاختيار عبر كل الثقافات البشرية – إحداها لينجذب إليها على أساس أقصى درجة من الإحساس بالرضا تحققها له الجماعة نتيجة تبنيها لآراء قريبة من آرائه، فيميل للانضمام إليها – وكذلك يفعل غيره – ويميل في الوقت نفسه لتحاشي عضوية الجماعة التي تختلف آراؤها عن آرائه (Fiske, 1992).

وهكذا تتكون الجماعة وتنمو نتيجة تكامل أعضائها وسعيهم نحو إيجاد حلول للمشاكل التي تواجه تكوين جماعتهم واستمرارها، ويتم هذا التكوين والنمو عبر مراحل ثلاث:

‌أ.     مرحلة تكوين الجماعة، حيث تؤدي الحاجة المتبادلة للارتباط والحب إلى تكوين علاقات انفعالية بين الأعضاء، يتم التعبير عنها إما بشكل إيجابي (يتدرج من الانجذاب إلى الحب) ويحقق الرضا الناتج عن العضوية في الجماعة فتشكل هذه العضوية قيمة للفرد وتدفعه إلى الالتزام بما تفرضه عليه هذه العضوية. وإما أن يكون التعبير عن العلاقات الانفعالية سلبيّاً (يتدرج من الاستهجان إلى الثورة بغرض تغيير معايير الجماعة) وتنتج عنه مشاعر عدم الانتماء للجماعة والانشقاق عليها.

وهكذا يتفاوت سلوك أعضاء الجماعة بين التفاعل المكثف وتكاتف جهود الجميع مما يزيد الجماعة تماسكاً ويضمن استمراريتها وبين الانسحاب الكامل من الجماعة*لأن عضويتها لا تحقق الرضا المنشود، مما يؤدي إلى تفكيكها وانشقاقها إلى جماعات فرعية متصارعة.

‌ب.           مرحلة استقرار الجماعة، حيث تتجه جهود أعضائها المتواجدين فيها – وتمثل عضويتها قيمة لهم – إلى عمليات اتخاذ القرار بشأن استمرار الجماعة متماسكة قوية قادرة على تحقيق أهدافها، هنا تظهر الخلافات بين الأعضاء بشأن توزيع مسئوليات الجماعة ومصادر القوة والتحكم فيها، ويسعى كل عضو منهم لشغل المكانة الأعلى وموقع المسئولية الذي يعطيه قدرة تحكم أعلى في الجماعة.

‌ج.مرحلة تفكك الجماعة، حيث تتطور الخلافات السابقة بشأن المسئوليات والتنافس على المواقع إلى مستوى الصراع، حيث يسعى كل عضو إلى ترسيخ موقعه في الجماعة، مما يجعل ظهور انفعالات الغضب والعداء والتعبير عنها أمراً شائعاً بين الأعضاء، ويصعب تجنب ذلك، مما يؤدي إلى ظهور الجماعات المنشقة (Shaw & Costanzo, 1982 : 360 – 365) وتزيد احتمالات ظهور هذه الجماعات المنشقة في حالة:

1.  أن يكون لدى الجماعة نسق اعتقادي أو قيمي قوي؛ إذ يقدم هذا النسق للأعضاء بدائل سلوكية عديدة للموقف الواحد يمكنهم المفاضلة بينها واختيار أحدها، ويعكس اختيار العضو أحد هذه البدائل درجة التزامه بمعايير الجماعة ومدى ارتفاع، أي قوة، هذا الالتزام أو انخفاضه أي ضعفه، وهكذا يحدث التمايز بين الأفراد، ففي دراسة عن تطرف الاستجابة في المواقف الاجتماعية، أمكن التمييز بين مواقف ترتبط الاستجابة فيها بنسق اعتقادي أو قيمي معين، وبالتالي تتباين الاستجابات بتمايز كل من: أنساق الاعتقاد أو القيم ودرجة التزام الأفراد بها. وبين مواقف لا ترتبط الاستجابة فيها بتلك الأنساق وبالتالي لم تتمايز استجابات الأفراد فيها بل تشابهت، معنى هذا أن وجود نسق اعتقادي أو قيمي قوي يؤدي إلى تمايز استجابات الأفراد وتفاوت شدتها (محمد حسن عبدالله وعبدالمنعم شحاتة، 1991) مما يفتح مجالاً للخلاف والتفرق.

2.  أن يكون أعضاء الجماعة شديدي الاهتمام بأهدافها ونشاطها، فكلما زاد هذا الاهتمام أدى فشل الجماعة في تحقيق أهدافها إلى درجة كبيرة – لا يمكن تحملها – من الإحباط لأعضائها، مما يدفعهم – كرد فعل – إلى الانشقاق عن الجماعة وتكوين جماعة أخرى أكثر قدرة على تحقيق الأهداف من الجماعة الأولى (Shaw & Costanzo 1982 : 367).

3.  أن تكون هناك صعوبة في تبادل المعلومات داخل الجماعة، ذلك إما لتعقد شبكة التخاطب (الاتصال) مما يوجد عقبات – تتمثل في تعدد الوسائط – تمنع تدفق المعلومات داخل الجماعة، وإما لأن هذا الاتصال في اتجاه واحد – من القائد للأتباع دون العكس – وإما لوجود قيود تجعل الاتصال مصدر تهديد مما يخلق فرصاً كبيرة لكل من: تشويه المعلومات وسوء الفهم وتبادل العداوة بين الأعضاء وكل هذا يرجح الانشقاق عن الجماعة.

وهكذا يعد الانشقاق عن الجماعة أمراً عاديّاً ومتوقعاً ولا يمثل مشكلة كبيرة طالما تتسق الأهداف العامة للجماعات المنشقة مع أهداف الجماعة التي انشقوا عليها، مما يعني أن جهودهم جميعاً ستتلاقى، ويسهل تحقيق الاعتماد المتبادل والمشاركة. أما إذا تعارضت هذه الأهداف، فإن ذلك يؤدي إلى تصادم الجهود والتفرغ للصراع والمعارك الجانبية، مما يضعف الجميع ويصرفهم عن تحقيق أهدافهم ويخلق المزيد من التعارض والتنافس والإحباط، ومن السهل جداً خلق تعارض الأهداف بين الجماعات المختلفة، وبإمكان أي صاحب مصلحة – كالحكومات والقوى الأجنبية – إحداث هذا التعارض، وتاريخ الجماعات الإسلامية يظهر ذلك بوضوح.

2)التأثير الاجتماعي:

إذ تمارس الجماعة التي ينتمي إليها الفرد ضغوطاً معينة تؤثر في سلوكه ومعتقداته عن أعضاء الجماعات الأخرى وإتجاهاته نحوهم، بهدف إحداث تغيير في هذا السلوك وإحداث تعديل في تلك المعتقدات والاتجاهات. ويختلف التأثير الاجتماعي الناتج عن ضغوط الجماعة تبعاً لنمطها*وذلك على النحو التالي:

‌أ.     إذا كانت الجماعة تعتمد في تكوينها على مجرد انتماء الأفراد إليها وعلى أساس أن السيادة للأرض، وأن ملكيتها مشاع، ويسمى نمط الجماعة ((الشيوعي أو الاشتراكي؛ Communal Sharing (Fiske, 1992)حيث يكون التأثير الاجتماعي ناتجاً عن ضغوط غير مباشرة يقوم بها أغلبية الأعضاء، هنا ويميل الفرد لتغيير سلوكه استجابة لتلك الضغوط، وحتى يصبح أكثر تشابهاً مع الأغلبية (عبدالمنعم شحاتة، 1988)، وهذا التغيير يسمى المجاراة Conformity(أو المسايرة أو الاتباعية)، حيث يكون سلوك الفرد تحت سيطرة معيار جماعي يتمثل في الاتفاق على مبدأ ما يحتكم إليه الأفراد، أي أن للأغلبية تأثيراً في سلوك الفرد أو الأقلية**. ويكون هذا التأثير بهدف إبراز الهوية الاجتماعية للجماعة وتفرد معاييرها بالمقارنة بالجماعات الأخرى، ولتيسير حركتها نحو تحقيق أهدافها وتجاوز العقبات التي تواجه هذا التحقيق، ولتقليل احتمالات الانشقاق الناتج عن انحراف المخالفين لمعايير الجماعة: (Secord & Backman, 1974 : 305; Fiske, 1992).

ويستجيب الأفراد للضغوط التي تمارسها أغلبية الجماعة إما للحصول على معلومات مؤكدة عن موقف ما ينبغي التصرف فيه؛ وذلك لأن معايير الجماعة مصدر مهم لهذه المعلومات، وإما إشباعاً لحاجات لا يتم إشباعها إلا من خلال تقبل الآخرين للفرد وحبهم وتقديرهم له (Latane & Wolf, 1981)، وإما لتجنب الصراع والتنافر المعرفي الناتج عن مخالفة الفرد لمعايير الجماعة، فيلتزم بهذه المعايير تجنباً للصراع النفسي الناتج عن مخالفة الفرد لمعايير الجماعة، فيلتزم بهذه المعايير تجنباً للصراع النفسي الناتج عن مخالفتها (Billing, 1982 : 175)، وإما لتحاشي أذى الأعضاء الآخرين في الجماعة، أو كما يقول ابن القيم الجوزية: (1975 : 193) ((لابد للإنسان أن يعيش مع الناس، وللناس إرادات وتصورات واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه)).

ويمكن التمييز بين المجاراة ((واللامجاراة)) Anticonformityفي كون الأخيرة تشير إلى إصدار الفرد سلوكاً ما في الاتجاه المعاكس لتوقعات الجماعة المعيارية، وتختلف اللامجاراة عن الاستقلال الذي يشير إلى إصدار الفرد لسلوكه بغض النظر عن توقعات الجماعة، وإنما في ضوء معايير ذاتية للفرد توجه سلوكه (Shaw & Costanzo, 1982 : 459).

‌ب.           إذا كانت الجماعة تعتمد في تكوينها على أساس التدرج الهرمي authority rankingحيث يعد الفرد الذي يحتل قمة الهرم هو الأكثر قوة وتحكماً في بقية الأعضاء وتكون السيادة فيها لهذا الفرد (Fiske, 1992)، وفي هذا الحال ينتج التأثير الاجتماعي عن ضغوط مباشرة يمارسها هذا الفرد (أو القادة أو رجال السلطة) لدفع بقية أعضاء الجماعة إلى تغيير سلوكهم، ويقوم الأعضاء بهذا التغيير كوسيلة لخفض الصراع بين مواقف كل منهم ومواقف السلطة، وتسمى هذه الاستجابة وهذا التغيير طاعة obedience (Billing, 1982 : 193).

‌ج.إذا كانت الجماعة تعتمد في تكوينها على مبدأ المساواة بين الأعضاء في المكانة والحقوق والواجبات أي equality matchingويكون مصدر التأثير الاجتماعي رأي الأغلبية كما يعكسه التصويت وتسمى الاستجابة لهذا التأثير إذعاناً (Fisker, Compliance 1992) وتشير هذه التسمية إلى إصدار الفرد لسلوك ترغب فيه الجماعة دون أن يكون متقبلاً له أو مقتنعاً بمعتقدات الجماعة واتجاهاتها.

‌د.    إذا كانت الجماعة تعتمد في تكوينها على أساس المصالح المتبادلة أو ما يسمى تقويم السوق market pricingحيث تعتمد علاقات أعضاء الجماعة بعضهم ببعض على حساب قيمة المغارم والمغانم أو الخسائر والأرباح المترتبة على عضوية جماعة ما، ويكون الدور الاقتصادي الذي تلعبه الجماعة – أو أحد أعضائها – هو مصدر التأثير في الآخرين (المرجع السابق) ويعكس هذا التأثير تذبذب العلاقات المتبادلة بين أعضاء جماعة واحدة أو بينهم وبين أعضاء الجماعات الأخرى، ويمكن تفسير تذبذب علاقات دول العالم بعضها ببعض في الآونة الأخيرة بين المهادنة والعداوة استناداً إلى هذا.

وهكذا، تنقسم الأمة إلى جماعات متباينة في أنماط تكوينها ومصادر التأثير الاجتماعي فيها، ويترتب على انتماء فرد ما إلى إحداها التزامه بمعاييرها وآرائها من القضايا السياسية والاجتماعية المختلفة، هذا الالتزام الذي يأتي استجابة لضغوط متنوعة يمارسها المؤثرون الاجتماعيون بالجماعة – سواء كانت الأغلبية أو السلطة أو المصلحة… والذين تختلف قدرتهم على التأثير وتتباين أهدافهم منه، ويؤدي هذا الاختلاف إلى تعدد الجماعات وتباين الأفراد نتيجة انتماء كل منهم إلى إحدى هذه الجماعات التي تمارس ضغوطاً لتغيير سلوكه ومواقفه، وكذلك يحدث الأمر ذاته لفرد آخر ينتمي لجماعة أخرى، فتزيد هوة الخلاف بينهم.

3)الاستقطاب:

ولأن الإنسان لا يعيش بمفرده؛ إذ هو منتم دائماً لجماعة ما، إن لم تكن عدة جماعات، فإن انتماءه هذا يزيد شدة خلافه مع الآخر المنتمي لجماعة أخرى، فمن بين آليات الجماعة ووسائلها لتحديد هويتها الاجتماعية واستمرار كيانها متماسكاً، ما يسمى ((الاستقطاب     polarization))، أي أن أن أحكام الأفراد (إدراكاتهم – معتقداتهم – اتجاهاتهم – أنساقهم القيمية) المتعلقة بقضية ما، بعد مناقشتها في إطار جماعي، تصبح أكثر تطرفاً بالمقارنة بها قبل المشاركة في هذا النقاش (عبدالمنعم شحاتة، 1994)، وأيّاً كان مصدر زيادة التطرف هذه لدى الفرد، وسواء كان:

‌أ.     رغبة الفرد في استحسان الآخرين وتقديرهم (Isenberg, 1986).

‌ب.           أو تأثره بما يتضمنه النقاش من معلومات تقنع الفرد بتغيير موقفه (Myers & Bach, 1986).

‌ج.أو رغبة الفرد في تأكيد عضويته في الجماعة وترسيخاً لهويتها الاجتماعية (Mackie, 1974).

‌د.    أو لما يمثله هذا النقاش الجماعي من إثارة تدفع الفرد إعادة تنظيم معتقداته عن موضوع النقاش وتقويمها، مما يزيد اتساقها فيما بينها (Tesser, 1978)، وبالتالي يزيد تطرفها، فأيّاً كان مصدر تطرف مواقف الفرد من قضية ما بعد مناقشتها في إطار جماعي، فلاستقطاب ظاهرة ثابتة، تكشف عن نفسها في كثر من المواقف، بغض النظر عن نوع القضايا المطروحة للنقاش أو موضوعها، أو نوع المشاركين في النقاش، أو أعمارهم أو خصالهم الشخصية، أو سياقهم الثقافي الحضاري، أو مستوى البحث الذي من خلاله تمت دراسة ظاهرة الاستقطاب (عبدالمنعم شحاتة، 1994)، فانتماء الفرد لجماعة ما يزيد فرص مشاركته في مناقشة قضايا خلافية، ويزداد ابلتالي تطرف مواقفه من هذه القضايا، وفي المقابل يفعل الآخر الأمر ذاته بانتمائه لجماعة أخرى، وهكذا تزيد هوة الخلاف بينهما وترتفع حدته، ويرجع ذلك – من بين ما يرجع إليه – إلى الاستقطاب أو الآلية التي من خلالها تحافظ الجماعة على استمرارها متماسكة. وهكذا أيضاً يمكن فهم التزايد المستمر لحدة الخلاف بين جماعات سياسية أو مذهبية أو اعتقادية على مدى تاريخ الأمة الإسلامية.

4)الإدراك الاجتماعي:

لدى كل فرد – بل كل كائن حي*– ميل فطري للاجتماع بآخرين، أي التفاعل معهم، وفي إطار هذا التفاعل، يتفقون أحياناً، إذا تشابهت أفعالهم أو أهدافهم أو معتقداتهم، ويختلفون أحياناً أخرى، إذا تعارضت هذه الأفعال أو الأهداف أو المعتقدات، وينتج ذلك التعارض – وما يترتب عليه من اختلاف – عن:

‌أ.     تركيز بعض منهم على أفعال الآخرين، وإساءة تفسيرها، أي أن الصراع – بين فردين أو جماعتين – يقتصر على المستوى السلوكي، فيكون في هذا الحال نوعيّاً ومحدوداً.

‌ب.           أن يرفض بعض الأفراد خصالاً وسمات معينة يتصف بها الآخرون، هنا يكون مستوى الصراع أشد درجة من مستواه السابق.

‌ج.تركيز بعض الأفراد على حقوقهم واللجاجة في المطالبة بها، في الوقت الذي يهمل فيه ما التزم به من واجبات تعد حقوقاً لأفراد آخرين، هنا يكون الصراع صراعاً معيارياً، أي أنه يتعلق بمعايير السلوك المقبول وغير المقبول، وما ينبغي أن يصدر عن الفرد وما لا ينبغي صدوره، وفي هذا الحال يكون الصراع أشد أثراً وأطول أمداً.

‌د.    أن يتسع التعارض بين الأفراد – أو الجماعات – ليشمل كل جوانب التفاعل الاجتماعي المختلفة من سلوكية وانفعالية ومعيارية، في هذا الحال يتحول الصراع إلى شقاق وعداوة. (Sears; et al., 1991 : 232).

وهذا التزايد في شدة الخلاف والصراع يبدأ بما يسمى ((الإدراك الاجتماعي Social perceptionالذي هو عملية تكوين الانطباعات المتبادلة، وتعد هذه العملية نقطة البدء في تكوين علاقات اجتماعية متبادلة، وما يعقبها من تكوين جماعة، فالانطباعات التي يكونها فرد ما عن آخر تشكل أساساً للتفاعل المتبادل بينهما، وتؤثر في وجهة هذا التفاعل وفي شدته.

وتعد عملية تكوين الانطباع بمثابة عملية تكوين حكم على الآخر، وتمر هذه العملية بمراحل ثلاث:

‌أ.     تؤدي رؤيتنا لفرد ما – مجرد الرؤية – إلى تكوين انطباع أول عنه، وحتى لو لم تتوفر لدينا معلومات تكفي لتكوين هذا الانطباع.

‌ب.           هذا الانطباع عبارة عن علاقات مفترضة بين تفاصيل صورة الآخر التي يدركها الفرد من خلال النظرة العابرة، كأن يفترض علاقة بين نوع الآخر وخصال شخصيته، فعلى سبيل المثال نربط بين الذكورة والجرأة، وبين الأنوثة والحياء. أو يفترض علاقة بين ملبس الآخر وموطن نشأته أو مستواه الاقتصادي الاجتماعي، كما هو الحال عند ربط ارتداء الفرد جلباباً ذا مواصفات معينة بكونه سعوديّاً أو سودانيّاً أو مصريّاُ… إلخ، ليس هذا فحسب، بل ربط مواصفات الجلباب بإقليم معين في المجتمع المصري، على سبيل المثال نربط مواصفات الجلباب وكون لابسه صعيديّاً أو إسكندريّاً… إلخ.

وهذه العلاقات المفترضة بين تفاصيل صورة الآخر، يتم التوصل إليها من خلال عملية الاستدلال السببي Causal inferenceأي عزو أشياء إلى أشياء أخرى، وتعد هذه العملية، أي العزو والاستدلال، خطوة سابقة لكثير من مظاهر السلوك الاجتماعي كالتفضيل والحب والسلوك الجماعي، هذه المظاهر التي من خلالها تكون المفاضلة بين الجماعات السياسية أو المذهبية أو العرقية أو الدينية… إلخ.

‌ج.ومن خلال هذه العلاقات المفترضة التي يكونها الفرد، يتوقع سلوك الآخر في موقف معين، وتحدد هذه التوقعات تفسير الفرد لسلوك الآخر وردود أفعاله تجاه هذا السلوك (Berkowitz, 1986 : 187; Show & Costanzo, 1982 : 233).

وتعكس المراحل الثلاث السابقة نشاطاً ذهنيّاً عقليّاً يقوم به الفرد في أثناء سعيه لتكوين انطباع عن الآخر، وويتمثل هذا النشاط الذهني في كل من:

(أ‌)التصنيف في فئة نمطية Categorization، ويعد هذا التصنيف عملية أساسية في تكوين الانطباع، ويعتمد على القالب النمطي أو الصورة النمطية، وهم مفهوم استعاره ((ولتر ليبمان)) Lipmanمن تقنيات الطباعة، وعرفه بأنه صورة شديدة التبسيط للعالم، تجعل الفرد يراه بشكل مفهوم ويراه ذا معنى أكثر مما هو عليه في الواقع (Brown, 1986 : 586)، وتتسم هذه الصورة بـ: البساطة وعدم التعقيد – وتتسم بكونها خاطئة أكثر من تمتعها بالدقة – ويتم التوصل إليها عن طريق النقل عن شخص آخر وليس عن طريق الخبرة المباشرة بموضوعها – وتقاوم التعديل الذي يتلاءم مع خبرات التفاعل الجديد مع موضوعها إذا حدث هذا التفاعل – ولا يوجد دليل يؤيدها، وإن وجد فهو واه (Harding, 1969).

وفي ضوء هذه الصورة النمطية، يتم تصنيف الآخرين، ويتم عزو صفات الجماعة التي صنفوا ضمنها إليهم*، وتلعب هذه الصفات التي تم عزوها إليهم دوراً مهماً في إثارة توقعات الأفعال الصادرة عنهم وردود الفعل إزاءها، وغالباً ما تتسق تصورات القائم بتكوين الانطباع تجاه الآخرين مع التوقعات التي يرسمها لسلوكهم، ودائماً ما تكون هذه التوقعات متحيزة ضدهم (Capeland 1994). وهكذا، فلأن الصور النمطية التي يكونها أحد المخالفين عن الآخر سلبية، فإنها تؤدي به إلى عزو صفات سلبية إلى الآخر، ثم توقعات بسلوك عدائي سيصدر عنه، فيبادر هو بالاعتداء عليه، مما يزكي أواصر الصراع والتنافس بينهما، ويعوق تفاعلهما معاً في المستقبل، فتزيد هوة الخلاف بينهما.

(ب‌)       ويأتي بعد التصنيف في فئة نمطية، استنتاج الأسباب التي تدفع الآخر للاستجابة بشكل معين في موقف ما، فعلى سبيل المثال، حينما يبتسم لك شخص يقابلك في الطريق، فإنك تتساءل عن سبب ابتسامته لك، وتحاول استنتاج هذا السبب، مثال آخر، فأنت حينما تسمع صراخ شخص ما، فإنك تحاول معرفة سبب صراخه، يتم ذلك من خلال تنظيم مشاهداتك أو تفاصيل الموقف في علاقة سببية، وأنت تقوم بهذا التنظيم لكي تكون فهماً متسقاً – أو رؤية متكاملة – للبيئة المحيطة بك، وبواسطة هذا الفهم وتلك الرؤية تتمكن من التعامل مع الموقف بشكل يحقق لك الإحساس بالراحة وتصل من خلاله إلى أهدافك (Berkowitz, 1986 : 186) والأسباب التي نعزو إليها سلوك الأفراد الآخرين يوضحها الشكل المبين بعاليه الذي يفسر أسباب النجاح الدراسي على سبيل المثال:

الأسباب

     داخلية

                                 خارجية


تحت السيطرة

   خارج السيطرة

    تحت السيطرة

      خارج السيطرة

مستقرة

(مهارة:

أي القدرة على الأأداء)

متغيرة

(دافعية: أي الرغبة في بذل الجهد

مستقرة

(استعداد وراثي للتفوق)

متغيرة

(استعداد بدني للأداء)

مستقرة

(تحيز الأساتذه عند تقدير النجاح)

متغيرة

(ظروف أداء)

مستقرة

(صعوبة المهمهمة أو الامتحان)

متغيرة

(الحظ أو مساعدة الآخرين)

والذي يرجح سبباً من هذه الأسباب على الآخر هو: إما قاعدة التلازم Covariationأي كيفية ربط التغير في الحالة الدراسية (النجاح أو الفشل) بالتنوع في الموقف (ظروف الامتحان)، وإما قاعدة التغاضي Discountingأي إبراز أحد عناصر الوقف (أسباب التغير في الحالة) والتغاضي عن بقية العناصر أو الأسباب. والفرد يفعل هذا على الرغم من أن ظهور حدث ما هو نتيجة تضافر عدة أسباب معاً، فحادث سير مثلاً ينتج عن: كون السيارة تسير بسرعة شديدة، أو أن هذا السير كان في الاتجاه الخاطئ، أو لصعوبة الرؤية لوجود ضباب أو ما شابه، أو لعدم اعتياد السائق المنطقة التي يسير فيها، أو لأنه يقود سيارته وهو تحت تأثير مخدر، أو… إلخ. وحينما نشاهد هذا الحادث، فإننا نتغاضى عن كل هذه الأسباب، ونعزو الحادث إلى سبب آخر مختلف (Santrock, 1986 : 411). وفي أغلب الأحوال، يكون العزو، أي استنتاج أسباب فعل ما صادر عن الآخر، خاطئاً، وتكون بالتالي الآحكام التي بنيت عليه – أي العزو – غير صحيحة؛ لأن ما بني على خطأ فهو خطأ.

ويرجع خطأ العزو أو الاستدلال إلى عوامل عديدة أهمها: التسرع في القيام به – والبعد عن استخدام القواعد المنطقية عند إجراء الاستدلال – وميل الشخص القائم بالاستدلال للتساهل والتهاون – ورغبته في تحقيق ذاته بالإصرار على صحة انطباعاته الأولية (المرجع السابق: Sears, et al, 1991 : 94 – 95; Berkowitz, 1986 : 323; 414).

(جـ) ويأتي بعد التصنيف، ثم عزو السلوك إلى أسبابه: التقويم evaluationأي إصدار حكم إيجابي أو سلبي على الآخر، فالانطباع الأول الذي بموجبه يتم تصنيف الآخر في فئة نمطية وعزو صفات إليه، هذا الانطباع نواة اتجاه attitude– سواء كان إيجابياً أو سلبياً – نحو الآخر، وكأي اتجاه له جانبه الأساسي وهو التقويم (عبداللطيف خليفة وعبدالمنعم شحاتة، 1994 : 15)، الذي يتأثر بميل الفرد إلى الاتساق، وميله إلى التحيز، أي تفضيل من يتشابه معه في الشكل والأيديولوجية، ورفض من يخالفه في ذلك (Santrock. 1986 : 484).

وهكذا يؤدي تصنيف الفرد في فئة ما إلى عزو صفات ليست فيه، وإرجاع سلوكه إلى أسباب غير التي دفعته إلى إصدار هذا السلوك، وتقويم سلوكه بشكل يعكس التحيز ضده. أي أن كل فرد يصنف نفسه في جماعة (هي الجماعة الداخلية ingroup) ويعد نفسه عضواً فيها، ويصنف الآخر في جماعة أخرى (الجماعة الخارجية outgroup) ويعده عضواً فيها؛ ونتيجة ذلك يفضل أعضاء جماعته (تمركز عنصري أو عقائدي) ويزيد هذا التفضيل من تقديره لذاته وتقديره لجماعته وعزو الصفات الإيجابية إلى أعضائها وتقدير أعمالهم، وفي المقابل، يكون تقديره للآخر سلبياً، ويعزو إلى الجماعة التي ينتمي إليها الآخر (الجماعة الخارجية) وإلى أعضائها صفات سلبية، ويبخس قدرها ويقلل من قيمة أعمالها، ويدرك أي شيء صادر عن أعضائها وكأنه اعتداء على جماعته يجب دفعه بعدوان مضاد (Brown, 1986 : 552). وقد يكون قادراً على هذا الدفع الآن، إلا أنه في كثير من الأحيان قد لا يستطيع ذلك، بل وقد لا يكون غير قادر أيضاً على تجنب التعامل مع الآخر – أو الحدث أو الموقف المرتبط به – غير المرغوب، في هذه الحالة سيحاول الفرد إصدار سلوك يستطيع به إنقاص المترتبات السلبية للتعامل مع الآخر – أو الحدث المرتبط به – في هذه الحالة، فإن رد الفعل الأكثر اندفاعاً ومباشرة وشيوعاً بين الأفراد هو إعادة التعامل retreatمع الآخر ومع الحدث المرتبط به باعتبارهما منفصلين – وهذا يعد معاكساً لعملية العزو المشار إليها آنفاً – بمعنى أن يمارس الفرد أنشطة تمده بتفسيرات تمكنه من رؤية كل من الآخر والحدث بشكل مختلف، وهذه الأنشطة وما يترتب عليها من تفسيرات تعمل على:

1.  تقليل شدة الحدث من خلال تبريرات تعمل على توضيح عدم مسئولية الآخر عن حدوث الحدث أو التسبب فيه؛ إذ لم يفعل شيئاً يتعلق بحدوثه، أو على الأقل تقلل هذه التبريرات من مسئولية الآخر عن الحدث إذا كانت مئوليته عن وقوعه مؤكدة، ومصدر هذا التقليل هو حسبان المترتبات غير المرغوبة المصاحبة للحدث لم تكن مقصودة، أو نتجت عن تدخل آخرين أو عن الظروف (أي عوامل خارجة عن إرادة المتسبب في الحدث)، وقد يكون مصدر هذا التقليل أيضاً هو محاولة إنقاص درجة سلبية المترتبات غير المرغوبة للحدث، وجعلها أقل سلبية مما هي عليه بالفعل، وذلك بإصدار تبريرات مباشرة أو غير مباشرة تتمثل في اللجوء إلى المقارنة الاجتماعية، أي مقارنة ما يصدر عن الآخر بما صدر عنه من قبل أو بما يصدر عن غيره، وتتمثل أيضاً في عد الحدث وسيلة لتحقيق غاية عالية أو ما شابه*.

2.  أو إظهار الحدث غير المرغوب والمرتبط بالآخر باعتبار أنه ليس مصدراً للخوف، وقيام الآخر بالطمأنة من خلال الاعتراف بمسئوليته عن ذلك الحدث والإعتذار عن إصداره ومعاقبة من تسبب في هذا الإصدار واستحسان السلوك البديل والوعد بإصداره مستقبلاً**(Shaw & Costanzo, 1982 : 333 – 334).

وتعد إعادة التعامل هذه استثناء؛ إذ القاعدة هي أن يتعامل الفرد مع الآخر وفق المراحل المشار إليها سابقاً، أي تكوين انطباع أول بموجبه يتم تصنيف الآخر في فئة نمطية (الجماعة الخارجية) وعزو صفات سلبية إليه وتقويم عضويته في الجماعة وسلوكه تقويماً سلبياً، ونتيجة كل هذا تزيد هوة الخلاف بين أعضاء الجماعات المتعددة.

5)سمات شخصية المتخالفين:

ينشق بعض الأفراد عن الجماعة، ويشكلون جماعة أخرى ويأتي هذا الانشقاق نتيجة عدم قدرة بعض منهم على الالتزام بمعايير الجماعة الأولى، أو لعدم قدرة هذه الجماعة على إشباع حاجات بعض آخر، وهكذا تتعدد الجماعات وتتعارض أهدافها ويكون تصنيفها – وكذلك الأفراد – على أساس العضوية – إلى جماعة داخلية وأخرى خارجية، ويترتب على هذا التصنيف إتساع هوة ال[1]خلاف بين أفراد الأمة الواحدة، وتلعب خصال شخصية الأفراد المتخالفين وميل بعضهم إلى الشدة والغلظة، مقابل ميل بعضهم الآخر إلى اللين والتسامح، تلعب هذه الخصال وذاك الميل دوراً مهمّاً في تعميق الخلاف بين الأفراد والجماعات؛ إذ يؤدي اختلاف الفرد في الميل – وكذلك في درجته – إلى الشدة أو إلى اللين، يؤدي هذا الاختلاف إلى تمايز أفكارهم وتباين أفعالهم، ويمكن أن تجد دليلاً على ذلك من المقارنة بين فقه ابن عمر وفقه ابن عباس، وعزو الفروق بينهما إلى ميل الأول للشدة وميل الثاني للتسامح، وقبل هذا الخلاف، يمكن أن نستدل بالخلاف الذي كان بين أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – في بعض المواقف***، هذا الخلاف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليلين قلوب الرجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب الرجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم علي السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (إبراهيم : 36)، وكمثل عيسى عليه السلام قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (المائدة : 118)، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (يونس : 88)، وكمثل نوح عليه السلام قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا) (نوح : 26) (يوسف القرضاوي، 1990 : 44 – 37).

ويرجع المؤرخون تزايد الفتن واتساع خلافات المسلمين في عهد عثمان ابن عفان رضي الله عنه إلى لينه وافتقاده الحزم*(مححمد أبو زهرة، 1989 : 29)، وأيدت بحوث علم النفس المعاصر ذلك؛ حيث أدت الفروق في سمات الشخصية إلى ظهور تفضيلات سياسية واجتماعية متنوعة، ففي الخمسينيات من هذا القرن، بدأت سلسلة دراسات تهدف إلى فهم التعصب والاتجاهات المعادية للسامية، من خلال مقارنة سمات شخصية الأفراد الأكثر تعصباً بسمات شخصية الأفراد الأقل تعصباً، وقد تبين من هذه الدراسات وجود فروق بين الفئتين من الأفراد في المرونة وفي القدرة على التكيف. ثم اتسع مجال هذه الدراسات ليشمل فلسفة الأفراد الخاصة أو نظرتهم للحياة، والتي تنتظم فيها اتجاهاتهم نحو المواقف الاجتماعية المختلفة، وتسمى هذه الفلسفة أو النظرة: الأيدلوجية**.

وأجريت هذه الدراسات بهدف فهم الأساس النفسي للفاشية وانعكاساته على التوجهات السياسية والاقتصادية في المجتمعات المعاصرة، وفهم تباين بناء الشخصية لدى أصحاب الأيديولوجيات (الفلسفات) المختلفة – خصوصاً اليمينية – الذي يحدد كلاً من آمالهم وطموحاتهم، ومخاوفهم ومصادر توترهم، والذي يجعلهم يظهرون التعصب الشديد لمعتقداتهم، مصحوباً بالرفض الشديد لمعتقدات الآخرين. ثم اتسع مجال هذه الدراسات مرة أخرى ليشمل معرفة الفروق بين الأشخاص المتسمين بالجمود والانغلاق، والذين يشكلون جمهور التعصب العقائدي الأيديولوجي) سواء كانوا متعصبين يمينيين أو متعصبين يساريين – المتمثلين في ((اللينينية)) – وبين أصحاب الذهن المتفتح والمرن كما يمثلهم أنصار الحريات الفردية أو ((الليبراليون))، وكان تطرق ((أيزنك)) لهذه الاختلافات معتقداً أنها انعكاس لفروق وراثية***(Billing, 1982 :  102 – 103; 117; 120)، وتمكن من تفسير سيادة أيديولوجية سياسية في فترة ما من خلال تحديد سمات شخصية دعاتها أو قادتها، وذلك في ضوء الأبعاد الموضحة بالشكل السابق:

                          الشدة أو الغلظة Toughminded

التسلطية                                                                           الإلحاد

المحافظة                                                                           التحرر

Conservation                                                           radicalism

النزعة الدينية                                                            النزعة الإنسانية

                         اللين أو التسامح Tenderminded

وترتبط هذه الأبعاد ببعدي الانبساط والذهانية اللذان يعدان – بالإضافة إلى العصابية – أساساً لفهم الشخصية من وجهة نظر ((أيزنك)) فهناك تداخل بين الانبساط والشدة Tough mindedوكلا البعدين تحددهما عوامل وراثية، كما أن الذهانية عامل مهم لتحديد إتجاهات الأفراد التي يغلب عليها الشدة، وأن ارتفاع درجة الفرد على بعد العصابية يعد مؤشراً جيداً للتمركز السلالي (العنصري) وعدم تحمل أعضاء الجماعة الخارجية، كما يعد المنبسطون أكثر استغراقاً في العلاقات الاجتماعية وأكثر انفتاحاً على الآخرين (Wilson, 1981).

وقد أمكن في إحدى الدراسات التي قارنت بين عدد من الجماعات المختلفة عقائديّاً وأيديولوجيذاً، أمكن إرجاع تمايز استجابات أعضاء هذه الجماعات المختلفة لمواقف اجتماعية إلى فروق بينهم في سمات الشخصية وخصوصاً التصلب والنزعة التسلطية وحب النظام والتدرج الوظيفي (محمد حسن عبدالله وعبدالمنعم شحاتة، 1991)، كما تبين عدة بحوث أن لدى بعض الأفراد مفهوماً مستقلاً للذات، وهؤلاء الأفراد يتسمون بالصفات التالية:

‌أ.     يرون أنفسهم أقل تشابهاً مع الآخرين.

‌ب.           ينظمون المنبهات الاجتماعية في شكل هرمي متدرج.

‌ج.مستعدون لتقديم حلول لمشكلة ما.

‌د.    مستعدون لتقبل أية معلومات متعارضة وغير متسقة.

وهؤلاء الأفراد يضعون في حسبانهم عند تقديم أنفسهم للآخرين، أنهم الأكثر تأثيراً في السياق الاجتماعي والأكثرتحملاً للاختلاف، أي أكثر تعايشاً مع مخالفة الآخرين لهم أكثر من التعايش مع التشابه، وبالتالي يميل هؤلاء الأفراد لإثارة الخلاف خاصة وأن دافعيتهم مرتفعة لإظهار القوة والسعي لأن يكونوا أقوياء (Waike, 1994).

وهكذا، تلعب خصال شخصية الأفراد وسماتهم دوراً أساسيّاً في تحديد مدى تقبلهم لاختلافهم بعضهم عن بعض، وأي درجة من الخلاف يمكنهم تحملها، كما تحدد أيضاً نوعية ودرجة الاستجابة لموقف الخلاف والمخالفين.

6)التحكم في تبادل المعلومات:

ولأن التعصب ينتج عن تصنيف الآخر في فئة الذين تختلف معهم – أي الأعداء – وأن أساس هذا التصنيف هو الصورة النمطية أو معتقد شديد التبسط، أي معلومة، حيث يشير المعتقد إلى معلومة تلقاها الفرد، سواء تم هذا التلقي من خلال الملاحظة المباشرة، أو بواسطة عمليات الاستدلال، أو من مصادر خارجية، ويعد المعتقد بهذا المعنى حكماً باحتمال تمتع موضوعه بخصائص معينة، ولأن المعتقدات معلومات احتمالية، فهي تختلف في درجة التأكيد (عبدالمنعم شحاتة، 1989)، وطبقاً لهذا المعنى، يمكن لأي طرف ثالث أن يزيد هوة الخلاف بين طرفين تعصب أحدهما ضد الآخر، وتتم هذه الزيادة من خلال التحكم في عملية تبادل المعلومات*بينهما؛ إذ بإمكان هذا الطرف الثالث:

‌أ.     حجب هذه المعلومات (أي التعتيم الإعلامي).

‌ب.           تشويهها، إما بحذف جانب من المعلومات، وإما بإضافة أجزاء إليها، وإما بإعادة ترتيب فقراتها، بحيث يحدث ذلك تغييراً مقصوداً في معناها.

‌ج.تقديم المعلومات بطريقة غامضة تساعد على تضارب الفهم والتأويل**، وترسخ الخلاف وتعمقه.
وكثيراً ما تلجأ الأمم المعادية إلى استخدام الحرب النفسية بوسائلها المختلفة سواء الكلمة المكتوبة أو الكلمة المسموعة أو الصورة المرئية، وبواسطة هذه الوسائل تستطيع الأمم العادية أن:
(أ) تبث شائعات وفكاهات ونكات، بهدف إثارة عوامل الفرقة بين أفراد الأمة الواحدة، لإضعاف إيمانهم بعقيدتهم ومبادئهم.
(ب) تضخيم أخطاء الماضي، واستغلال هذه الأخطاء لإضعاف الروح المعنوية للأمة (عبدالحميد الهاشمي، 1989 : 272)، ويذكر ابن كثير (1980 ، 2 : 85 – 86) ما حدث حينما مر أحد اليهود بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الإتفاق والألفة، فبعث رجلاً كان معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم ((بعاث)) ففعل الرجل ولم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض وتثاوروا ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى ((الحرة)) فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يسكنهم ويقول: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)).

وهكذا، فإن بإمكان أي طرف ثالث أن يزيد هوة الخلاف بين فردين أو جماعتين من خلال قيامه بالتحكم في حجم ونوعية المعلومات المتبادلة بينهما، وفي طريقة تبادلها.

7)صعوبة الاتصال أو التخاطب:

أضف إلى تدخل طرف ثالث في عملية تبادل المعلومات مما يؤدي إلى إعاقتها، أن هذه الإعاقة تنتج في المقام الأول عن صعوبة تبادل الاتصال (التخاطب) المباشر بين فردين أو جماعتين، فهذه الصعوبة تخلق الفرصة لتدخل الطرف الثالث لإعاقة عملية تبادل المعلومات بين أفراد الجماعتين، وتتمثل صعوبة الاتصال في:

(أ‌)صعوبة قيام أحد المتخالفين بدور مصدر المخاطبة؛ إذ يلعب تصنيف الفرد كعضو في جماعة خارجية دوراً مهمّاً في إعاقة مخاطبته للآخرين من غير أعضائها، وإنما هم أعضاء جماعة داخلية.

وتؤدي هذه الإعاقة إلى تعميق خلافه معهم، حيث تبين بحوث الاستمالة بالمخاطبة persuasion through communicationأن المتلقي يقوم – وقبل تلقيه مخاطبة المصدر – بعملية العزو السببي casual attribution، أي توقع الأسباب التي يرى المتلقي أن المصدر تبنى موقفه – المعبر عنه في المخاطبة – على أساسها، حيث تتوقف استجابة المتلقى لهذه المخاطبة على معلومات متوفرة لديه عن خصال شخصية المصدر وعن الضغوط الموقفية التي يتعرض لها*، واعتماداً على هذه المعلومات، يتوقع المتلقى الموقف الذي سيتبناه مخاطبه في مخاطبته، وتؤثر درجة اتساق أو تعارض هذا التوقع مع الموقف الفعلي للمصدر على معالجة المتلقى للمخاطبة أثناء تلقيها، تلك المعالجة التي تتم وفق الخطوات التالية:

1.  يستنتج المتلقي أسباب تبني مصدر المخاطبة لموقفه المعلن عنه في المخاطبة، وهل يرجع هذا التبني لخصال شخصيته أو لضغوط خارجية تمارس عليه أو أن ذلك يرجع إلى أدلة منطقية وواقعية تتضمنها المخاطبة؟

2.  بناءً على ذلك، يحدد المتلقي درجة تحيز مصدر المخاطبة على أساس ان:

‌أ.     اتساق توقع المتلقي لموقف مصدر المخاطبة مع موقف هذا المصدر الفعلي، في ظل اعتقاد المتلقي بان هذا المصدر تبنى موقفه استناداً إلى خصال شخصية أو إلى مطامع يسعى لتحقيقها من وراء المخاطبة، أو إلى ضغوط تمارس عليه، فإن المتلقي يعد مصدر المخاطبة متحيزاً.

‌ب.           إذا لم يتسق توقع المتلقي لموقف هذا المصدر مع موقفه الفعلي، أو إذا تبنى هذا المصدر موقفه استناداً إلى أدلة منطقية وواقعية ملائمة؛ فإن المتلقي يعده غير متحيز.

3.  فإذا أدرك المتلقي أن مصدر المخاطبة متحيز، فسوف يقوم بتقويم المخاطبة بعناية، وسيجتهد في إعداد حجج مضادة لهذه المخاطبة، مما يقلل من درجة تقبله لها ويزيد بالتالي من احتمالات رفضه إياها. أما إذا أدرك المتلقي أن مصدر المخاطبة غير متحيز، فلن يقوم المتلقي بتحليل جيد للمخاطبة ولن يقوم بإعداد حجج مضادة لها، وإنما سيكون أكثر ميلاً لتقبلها والاقتناع بها وتبني الموقف الذي تدعوه إليه هذه المخاطبة.
وهكذا، يقلل تصنيف مصدر المخاطبة في جماعة خارجية من قدرته على مخاطبة الآخرين مما يعوق تبادل المعلومات بينهما ويزيد بالتالي هوة الخلاف. (عبدالمنعم شحاتة، 1995، عبداللطيف خليفة وعبدالمنعم شحاتة، 1994 : 221).

(ب‌)       صعوبة قيام أحد المتخالفين بدور المتلقي، حيث يلعب التعرض الانتقائي selective exposureدوره الكبير في زيادة هوة الخلاف بين أعضاء الجماعات المتخالفة، حيث يسعى الفرد إلى تعريض نفسه للمعلومات التي تتسق مع وجهة نظره، أو مع وجهة نظر الجماعة التي ينتمي إليها أو يطمح في أن يكون عضواً بها، كما يسعى هذا الفرد، وفي الوقت نفسه، إلى تحاشي التعرض للمعلومات التي تناقض تلك الوجهة من النظر، وإذا تعرض رغماً عنه لهذه المعلومات المعارضة لوجهة نظره أو وجهة نظر جماعته، فإنه يدرك هذه المعلومات على أنها أقل وضوحاً وأقل تشويقاً وأقل دقة مما هي عليه بالفعل، وهذا ما يسمى ((التحريف الإدراكي)) (المرجعان السابقان : 198 – 199).

وهكذا يلعب انتماء الفرد لجماعة ما دوراً مهمّاً في إعاقة تلقيه ومخاطبته عضو جماعة أخرى، وتزيد هذه الإعاقة من هوة الخلاف بين أعضاء الجماعتين.

تلعب إذن الجماعة التي ينتمي إليها الفرد دوراً أساسياً في تعميق خلافاته مع الآخرين أعضاء الجماعات الأخرى؛ وذلك نتيجة ممارسة الجماعة الضغوط عليه حتى يظهر الالتزام بمعاييرها وآرائها أي المجاراة أو الاتباعية، وقد يؤدي هذا إلى زيادة تطرف مواقفه أي الاستقطاب، من القضايا الخلافية، وزيادة تعصبه لهذه المواقف، وزيادة رفضه لمواقف الآخرين من ذات القضايا.

كذلك أيضاً تلعب الجماعة التي ينتمي إليها الآخر دورها في تعميق هذه الخلافات، فلأن الآخر سيتخذ موقفاً مسبقاً – استناداً إلى وجهة نظر جماعته المألوفة جداً له – برفض مخاطبة الفرد له والسعي إلى عدم تعريض نفسه لها واتخاذ السبل المختلفة لإعاقة هذا التعرض بما في ذلك تشويه مضمون المخاطبة، لأنه سيعد المخاطب قد قام بهذه المخاطبة استجابة منه لضغوط جماعته أو سعياً منه إلى تحقيق مكانة مرموقة في جماعته. لكل هذا سيكون صعباً على الفردين تسويغ مواقف كل منهم[1]ا للآخر من خلال المخاطبة.

وهكذا تكشف بحوث علم النفس عن عدة آليات تزيد الخلاف بين فردين أو جماعتين، ومن الضروري فهم هذه الآليات عند التعامل مع هذا الخلاف.





*ينقسم هذا البحث على ثلاثة أجزاء في ثلاثة أعداد متتالية، وهذا الجزء هو الجزء الثاني منه.

**أستاذ مساعد علم النفس بجامعتي المنوفية والملك سعود.

*فخلافات المسلمين في بادئ الأمر كانت خلافات رأي ووجهة نظر ناتجة عن اجتهاد في فهم النصوص، ولم يتجاوز الخلاف ذلك المدى إلا بعد تدخل الحكومات والشعوبيين (محمد أبو زهرة، 1989 : 17 – 18).

*وقد تبين الأمر نفسه، وبدرجة شديدة الوضوح، بالنسبة لتدخين السجائر، فغياب الضبط الاجتماعي لهذا السلوك هو المسئول الأول لزيادة معدلات التدخين (انظر: عبدالمنعم شحاتة، 1992 : 42، 65، 142).

*وقد أشار ابن خلدون – في مقدمته ص 274 – إلى أثر ضعف الضبط الاجتماعي في شيوع الجريمة – حينما ربط بين جرائم معينة ومجتمع السوق وجرائم أخرى ومجتمع المدينة.. وهكذا.

**الصورة النمطية Stereotypeصورة شديدة التبسيط لفرد ما أو جماعة، لا تستند إلى دليل يؤيدها، ولا تقبل التعديل إذا ظهر دليل يعارضها، وقد تكونت هذه الصورة قبل التفاعل المباشر مع من تكونت عنه، وتوجه هذا التفاعل ولا تتأثر بنتائجه.

*كما يحدث في مصر؛ إذ ينشر سكان المدن وكذلك الشما فكاهات (نكات) ضد سكان الريف والجنوب (الصعايدة). ويحدث الأمر ذاته ضد الزنوج في أمريكا.

*يؤدي اختلافنا في الفكرة إلى تضاد في أفعالنا، حيث يسلم علم النفس المعاصر بأن السلوك معرفي المنشأ، أي أن الفرد يتصرف في ضوء المعلومات المتاحة له وطبقاً لها (انظر: عبدالمنعم شحاتة، 1992 أ 55 : 1992ب). وتقدم كتب تاريخ الفرق الإسلامية الأدلة على ذلك، فالخلاف في البداية كان نزاعاً سياسياً حول أحقية الخلافة، أفضى إلى خلاف ديني، ظهر بعده التكفير، أي أن الفرق الإسلامية تكفر بعضها بعضاً، ثم تحول هذا إلى شقاق اجتماعي (لمعرفة هذا انظر: البغدادي، ب ت : 10 – 12، الشهرستاني، 1968 : 20 – 37 ن محمد أبو زهرة، 1989 : 17 – 18، محمد علي أبو ريان، 1976 : 136 – 140).

*فقد كان التعصب المتبادل بين اليمنيين (عرب الجنوب) والمضريين (عرب الشمال) وراء سقوط حكم بني أمية، وكان التعصب أيضاً وراء انقسام الأمة الإسلامية في العصر العباسي الثاني، وكان ذلك وراء غياب الخلافة وتفتيت الأمة الإسلامية إلى دويلات في القرنين الأخيرين..

*يرادفها هذه الأيام الصراع على السلطة، ففي كل أنحاء العالم تشتعل حروب بين فئات المجتمع الواحد، أو يتم إخماد حروب لأهداف انتخابية، أي للحفاظ على السلطة من قبل القائمين عليها، وتقدم أفغانستان المثل على ذلك، ولا يقتصر الأمر على الصراع داخل الدولة الواحدة، بل قد يؤثر صراع السلطة في دولة ما على أحوال دولة أخرى ويعكس حال الحرب في البوسنة والشيشان والوضع في فلسطين… وغيرهم، عامي 95/1996 مدى تأثير الانتخابات الأمريكية في دول العالم.

*تدور أحاديث كثيرة حول الدور الأمريكي الإسرائيلي في النزاع اليمني الإريتري حول جزر حنيش، والذي اشتعل أواخر عام 1995 وأوائل عام 1996.

*تلعب سمات الشخصية دوراً أساسيّاً في استمرارية عضوية الفرد في جماعة ما أو انسحابه منها فالمنبسطون أكثر اهتماماً بعضوية الجماعة، ومرتفعوا العصابية يواجهون صعوبات في سلوكهم الاجتماعي ناتجة عن تقلبهم الانفعالي، والذهانيون يميلون للانسحاب من العلاقات الاجتماعية المتبادلة (بما فيها عضوية جماعة ما) وذلك لأن توجهاتهم نحو الآخرين يغلب عليها الشك والعداء (Wilson, 1981).

*كما تتفاوت استجابة الأفراد لهذا التأثير بتباين سمات شخصيتهم، فعلى سبيل المثال، يعد المنبسطون أكثر استجابة للتأثير الاجتماعي بكافة صوره بالمقارنة بالمنطويين (Wilson, 1981).

**ولا يكون هذا في كل الأحوال، فأحياناً ما يكون الفرد – أو الأقلية – نشطاً، فيصدر سلوكاً معيناً ويصر عليه ويكرره، فيمارس بذلك ضغوطاً على الأغلبية ويصبح مصدراً للتأثير فيها، ويتوقف كون الأغلبية أو الأقلية مصدراً للتأثير في الآخر على قوتها ومكانتها وعدد أعضائها ومدى لجوئها إلى السلوك المباشر (Latane & Wolf, 1981).

*إذ يقول الله سبحانه وتعالى: (وما من دابة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه، إلا أمم أمثالكم) (الأنعام : 38).

*أظهرت محاكمة النجم الرياضي الأمريكي الأسود O. J. Simpsonالمتهم بقتل زوجته البيضاء وصديقها – وقد تمت هذه المحاكمة في ديسمبر 1995 – وأظهرت مدى تأثير الانطباعات والصور النمطية المتبادلة بين البيض والسود بالمجتمع الأمريكي في مسار العدالة، وأثارت جدلاً واسعاً حول التعصب والتحيز السلالي أو العنصري.

*ينطبق هذا الحال على علاقة العرب بإسرائيل في الآونة الأخيرة؛ إذ يحاول بعض العرب تسويغ التطبيع مع إسرائيل على هذا المنوال.

**هكذا تفعل الولايات المتحدة في كثير من المواقف التي لا ترضي بعض الدول.

***كموقفهما من أسرى بدر خصوصاً، ومن قضايا أخرى على وجه العموم.

*لعل إجراء دراسات نفسية لشخصيات الصحابة – رضي الله عنهم – بواسطة أسلوب تحليل مضمون السير، يكون مفيداً في فهم دور سمات الشخصية – كإخلاص أبي بكر وحزم عمر – التي أدت إلى تضييق خلافات المسلمين في حقبة ما من تاريخهم، ودور تلك  – كتهاون عثمان ودهاء معاوية – التي أدت إلى تعميقها في حقب أخرى.

**يتعامل علماء النفس مع علاقة الفرد بغيره – من الأشخاص أو المواقف أو القضايا أو الأفكار – باعتبارها نتاج حكم يصدره الفرد على غيره، وهذا الحكم إذا كونه الفرد عن جانب مفرد، كاتسام – أو عدم اتصاف – الآخر بصفة ما، سمى ((معتقداً)) beleif، وإذا عبر الفرد عن هذا الحكم المفرد تعبيراً لفظياً فقط سمي ((رأياً)) opinion، فإذا تعددت جوانب الآخر التي تشملها أحكام الفرد، وتعددت تعبيرات هذا الفرد – اللفظية وغير اللفظية – عنها أيضاً، اتسق كل هذا معاً سمي ((إتجاهاً)) attitude، فإذا تعددت الاتجاهات وانتظمت في نسق أصبح موجهاً لسلوك الفرد سمي ((قيمة)) value، فإذا انتظمت القيم معاً في نسق وتبادلت التأثير سمي ((أيديولوجية)) ideologyوالتي تعد الأكثر عمومية وتجريداً؛ إذ تعكس ررؤية الفرد الواحدة لقضايا متباينة، لذا لا تتوفر إلا لعدد محدود جداً من البشر، وإذا كانت الأيديولوجيات في العالم كله لا تتجاوز أصابع اليد، فبالإمكان إحصاء عشرات القيم ومئات الاتجاهات وآلاف المعتقدات والآراء. (انظر عبدالمنعم شحاتة، 1992 أ : 54).

***لتقويم محاولات اكتشاف الأساس النفسي للأيديولوجية، أنظر: Billing, 1982 : 96 – 134.

*يكشف ((شيللر)) (1986) أساليب هيئات الإعلام الأمريكية للسيطرة على عملية تداول المعلومات، ومن خلال هذه العملية يشكلون معتقدات الآخرين وسلوكهم وفق نماذج تخدم أهداف السياسة الغربية، ويمكن استنتاج أهمية هذه العملية مما أحدثه تبني ((اليونسكو)) – منذ عقدين – لنظام إعلامي جديد يقلل من هذه الهيمنة، فقد أدى ذلك إلى أزمة خطيرة بين ((اليونسكو)) والولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

**كما فعل المستشرقون بأحداث تاريخ الأمة الإسلامية ومصادر فكرها.

*يعاني الوعاظ الأزهريون في مصر من هذه النقطة أحياناً – إذ يتوقع بعض المتلقين المعارضين للحكومة المصرية أن الوعاظ الأزهريين يدافعون عن موقف الحكومة استجابة لضغوط تمارسها عليهم، ويرفض هؤلاء المتلقون الإستماع إليهم بغض النظر عن مضمون ما يقدمه هؤلاء الوعاظ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر