شاع فى العقود الأخيرة استعمال مصطلح “حوار” Dialogue على كافة الأصعدة؛ السياسية؛ والاقتصادية، والثقافية، والدينية، فنشأ ما يعرف بـ (حوار الأديان)، أو (الحوار بين الأديان) Interreligious Dialogue أوInter Faith ، أو حوار الحضارات أو حوار الثقافات dialogue of civilization، وصار محبذا لدى المشتغلين فى هذا الحقل، مقدما على غيره من الاصطلاحات، مما يستدعي إلقاء الضوء على دلالته.
فالحوار من حيث اللغة، مادته (حور) والحوار: الرجوع عن الشيء إلى شيء.. والمحاورة: المجاوبة، والتحاور: التجاوب.. والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام فى المخاطبة(1) وعلى هذا النحو جاء استعماله فى القرآن، قال الراغب فى “مفردات القرآن”: “والمحاور، والحوار: المرادة فى الكلام، ومنه التحاور، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)(2) وقد جاءت الكلمة فى القرآن الكريم فى ثلاثة مواضع، ومن هنا يتبين أن الحق والباطل فى صراع دائم، والجدال سلاح يستخدمه أهل الحق كما يستخدمه أهل الباطل، والحوار لون من ألوان الجدال بالتى هي أحسن بين فريقين، يحاول كل فريق إثبات وجهة نظره، ورغبته الصادقة للوصول إلى الحق.
أما المعجم الفلسفي فى تحليل لفظ حوار Dialogue، فيذهب إلى أن: حاوره محاورة وحوارا، والمحاورة: المجاوبة، أو المراجعة النطق والكلام فى المخاطبة والتحاور والتجاوب، ولذلك كان لابد فى الحوار من وجود متكلم ومخاطب، لا الاقتصار على عرض الأفكار القديمة، وفى هذا التجاوب توضيح للمعاني وإغناء للمفاهيم، يفضيان إلى تقدم الفكر، وإذا كان الحوار تجاوبا بين الأضداد، كالمجرد والمشخص، والمعقول والمحسوس، والحب والواجب، سمي جدالا(3).
وهذا الذي ذهب إليه المعجم الفلسفي لا يبعد كثيرا عن معناه فى الفكر الإسلامي، فالجدل أو الحوار هو عبارة عن دفع المرء خصمه عن فساد قوله بحجة أو شبهة، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره، والنظر قد يتم به وحده(4)، فحقيقته اللغوية مطابقة لحقيقته الاصطلاحية التى تعني التباحث بين طرفين أو أكثر، ومراجعة الكلام بينهم بغرض التوصل إلى اتفاق وإبداء وجهة نظر. وهكذا فالحوار: جدال كلامي يتفهم كل طرف من الفريقين المتحاورين وجهة نظر الطرف الآخر، ويعرض فيه كل طرف منهما أدلته التى رجحت لديه استمساكه بوجهة نظره، ثم يأخذ بتبصر الحقيقة من خلال الأدلة التى تنير له بعض النقاط التى كانت غامضة عليه(5).
وأما مشروعيته وهل أقره الإسلام؟ فلا شك أنه يعد من الوسائل الحضارية التى استخدمها الإسلام لنشر أفكاره، وإقناع الآخرين (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) والإسلام قد شرع الوسيلة هذه للدفاع عن الحق مشروطا بشرط عام هو أن يكون الحوار بالتي هي أحسن، قال تعالى مخاطبا نبيه r: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، يقول “حسن حبنكة الميداني”: “والتقدير فى الآية إن سلك مجادولكم مسالك غير مهذبة القول فاسلكوا كل طريقة هي أحسن وأفضل”(6) وعبارة “بالتى هي أحسن” عامة وشاملة لكل الأساليب المتاحة: القولية والفكرية.. الإسلام شرع هذه الوسيلة مشروطة بشرطها، وطلب من المسلمين أن يكونوا فى حوارهم فى حالة من الرقي والأدب قولا وفكرا.
لقد كان من قيم الإسلام الأساسية ومبادئه الأخلاقية البحث عن الحقيقة والانتصار لها ودعمها بالحجج والبراهين التى تؤدي إلى التفاف الناس حولها بإرادتهم وحريتهم دون خوف أو إكراه، وهذا بالطبع لا يتم إلا بالحوار الإيجابي الذي رسم القرآن الكريم طريقه وعبّد مسلكه ومنهجه.
وقد كان القرآن الكريم خاتمة الكتب السماوية التى جاءت لتعلم الإنسان كيف يكون الحوار طريقا للفكر، ومنهجا للعقيدة والعمل، وأسلوبا للتواصل مع الآخرين وجاء الإسلام ليكون دين الحوار الذي يطلق للفكر أن يفكر فى كل شيء وليتحدث عن كل شيء، وليحاور الآخرين على أساس الحجة والبرهان والدليل(7).
فى البدء كان الحوار، كان الملائكة يسبحون ويقدسون الله فى ابتهال وخشوع وإخلاص، ويشاء الله تعالى أن يخلق الإنسان ليكون “خليفة فى الأرض” ويعلن لهم هذه المشيئة الحاسمة.
ويبدأ الحوار فى سؤال عن طبيعته وعن دوره وعن سلبياته وإيجابيته، يقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة 30- 33).
يقول المفسرون إن خطاب الله تعالى لملائكته بأنه سيجعل فى الأرض خليفة، ليس المقصود به المشورة وإنما التعريف بوجه الحكمة من هذه الخلافة، أو المقصود تعليم العباد المشاورة فى أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على عقلائهم وحكمائهم.
كما أوضح الله تعالى بعد ذلك بعض جوانب الحكمة من خلق آدم وجعله خليفة فى الأرض، لأنه علمه ما لا علم لهم به، وسخر له ما فى الأرض جميعا، وجعله مسيطرا عليه، وأنه حمَّله الأمانة التى لم تستطع أن تحملها السماوات والأرض والجبال، وعندئذ سجد الملائكة لآدم سجود تحية وتكريم وامتثال لأمر الله”(8).
ثم يأتي الحوار فى أكثر من سورة من سور القرآن الكريم، ومنها على سبيل المثال سورة الحجر، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (الحجر: 28-31)، الملائكة أطاعوا وسجدوا، وأقام الله لهم الحجة، أما إبليس فإنه استكبر وعاند ورفض السجود، وازداد غيا بمحاجاة الحق سبحانه وادعاء ما لا يملكه.
ويحكي القرآن الكريم ما دار بين الخالق سبحانه وتعالى وبين إبليس من محاورات، فيقول فى آياته: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (الحجر: 32) فأجابه إبليس: (قَالَ لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (الحجر: 33)، وهناك حوار آخر يوضح سبب عدم سجود إبليس حين يقول تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف: 12-13).
وهنالك أيضا حوارات بين ولدي آدم قابيل وهابيل فى سورة المائدة آية 27 – 31، وكذلك بين نبـي الله إبراهيم u وعبدة الكواكب في سورة الأنعام آية 74 – 79 وسورة مريم آية 41- 48، وكذلك حوار موسى u مع قومه في سورة البقرة آية 67 – 71 وهي كثيرة فى القرآن الكريم.
وقد وردت كلمة “حوار” فى القرآن الكريم فى ثلاثة مواضع وجاءت اثنتان منها فى سورة الكهف فى معرض الحديث عن قصة صاحب الجنتين، وحواره مع صاحبه الذي لا يملك الكثير من المال، فقد استعمل القرآن الكريم كلمة (حوار) في موضعين منها: (..فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف: 34)، و(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا) (الكهف: 37)، أما الآية الثالثة التى وردت فيها هذه الكلمة فقد جاءت فى سورة المجادلة فى قصة المرأة التى أتت إلى النبي شاكية زوجها إلى الله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة: 1).
ومن هنا يتبين لنا كيف اهتم الإسلام بإفساح المجال للأفكار والرؤى وتعدد المنظور لإثراء الفكر وتعميق الرؤية، ولإقناع الآخرين لا من موقع الرغبة فى الغلبة من أجل الغلبة والإفحام، ولكن من موقع الإقناع والاقتناع.
ولهذا لجأ الإسلام إلى الجدل القائم على الحوار المباشر، الذي ينطلق من طرح الفكرة فى ميدان الصراع من أجل اشغال الساحات بعلامات الاستفهام التى يطرحها الإسلام مع أجوبتها أحيانا، ليوفر على المتصارعين عناء جهد البحث عن سؤال، قد لا يجدونه جاهزا فى أفكارهم، وربما يواجهون صعوبة فى العثور عليه(9).
كل ذلك من أجل أن تدخل الفكرة فى وعي الإنسان بعمق، وتقتحم أفكاره بقوة، ولهذا طرح الإسلام – فى القرآن الكريم – جدال الإنسان وحواره الذاتي مع نفسه إلى جانب حواره مع مجتمعه، ومع الفئات التى كانت تمثل القوة المعارضة آنذاك.
ثم لم يقف عند ذلك، بل حاول أن يخلِّد كل ما أثير من مفردات الجدال حول العقيدة، من أجل استمرار الإيحاء بضرورة التوفر على هذا الأسلوب فى حركية العقيدة والحياة، ويتبين لنا مدى أصالة الرؤية الإسلامية فى جعل (الحوار) منهجا من مناهج العرفان، وطريقا إلى إدراك الحق فى ذاته، وأصالة القرآن الكريم فى احترام الآخر، سواء كان شيطانا أو ملاكا أو إنسانا يتفق أو يختلف فى العقيدة والدين أو الرؤية والإدراك، حتى يكون الأمر عليه حجة بالغة.
وقد انطلق الإسلام – فى هذا الاتجاه – إلى أبعد حد، فأكد فى أكثر من مجال على دور الحجة فى الإيمان وفى المسؤولية، فمن ذلك ما جاء فى القرآن الكريم عن الله تعالى، وهو يحدثنا عن الحجة البالغة التى أقامها على العباد فيما يريدهم أن يؤمنوا به فى قضية الكفر والإيمان كما فى قوله تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام: 149).
ويحدثنا فى بعض الآيات عن رفضه لوقوف المؤمنين موقف الضعف أمام الناس الذين يحاولون أن يثيروا الحجج ضد الإيمان والمؤمنين، فى قوله تعالى:.(.. لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) (البقرة: 150)، وهناك آيات كثيرة توضح لنا الصورة الحية للمنهج الإسلامي والذي يجعل المركز الأول فى العقيدة للحجة والبرهان، فلا إيمان بدون حجة، ولا مسؤولية إلا بعد إقامة البرهان، وإثارة الأجواء التى تنطلق بالحجج الإلهية لتدفعهم إلى التفكير والحوار فى رحلة الإنسان من الشك إلى الإيمان.
حتى فى يوم القيامة، لا يقف الإنسان مكتوف اليدين أمام مصيره، بل يترك له مجال الدخول فى حوار وجدال يدافع به عن نفسه، على أساس من العدالة التى تحترم فى الإنسان حقه الطبيعي فى الدفاع عن نفسه حتى أمام الله تعالى، ألا يعلم كل شيء ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا في السماء، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وذلك فى قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (النحل: 111).
ويعتبر الجدل والحوار ميزة وخاصية من خصائص الإنسان عبَّر عنها القرآن وأشار إليها وعول عليها، فإذا تتبعنا المقامات القرآنية التى تناولت الحديث عن الحوار والجدل تجد منها ما يفيد أن “الجدل” منـزع جِبلي فى الإنسان، فالقرآن يصرح ببيان خاصية من خاصيات الكائن البشري وميزة من مميزاته، وهي كونه “أكثر الأشياء جدلا” (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف: 54).
ومعنى هذا أن الإنسان بحكم كونه يملك إمكانات ذهنية، إلى جانب ما يحمله من نوازع تحرص كل الحرص على الإشباع، والظفر بمبتغاها، نراه قادرا على الدفاع عن كيانه، وعن ذاتيته، بشكل تلقائي، وهو ما يولد فيه – جبلة – الميل للخصام، وحتى المراء، فهو ينازع ويعاند، ويجادل إثباتا لوجوده وتأكيدا لبقائه، وإظهارا لشخصيته، قال الإمام المراغي: “إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل، لما أوتيه من سعة حيلة وقوة المعارضة واختلاف النـزعات والأهواء وقوة العزيمة على غير حد”(10).
وفى الحقيقة فهذه الخاصية المميزة للإنسان تساعده على ترقية اتجاهه نحو الكمال، من حيث تتيح له اتساعا فى النظر والرؤية، وتكشف له عن كثير من جوانب الموضوع الذي يضعه فى بؤرة تفكيره وهدفا لاستبصاره، فهذا الجدل وذلك الحوار لا ينشأ إلا لوجود الاختلاف فى إدراك الحقائق، ولا يكون إلا لتعدد الرؤية(11).
والاختلاف والمخالفة أن ينهج كل شخص طريقا مغايرا للآخر فى حاله أو فى قوله، والخلاف أعم من “الضد” لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس فى القول قد يفضي إلى التنازع استبعد ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ) (مريم: 37)، و(وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118)، و(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ) (الذاريات: 18).
وعلى ذلك يمكن القول بأن “الخلاف والاختلاف” يُراد به مطلق المغايرة فى القول أو الرأي أو الحال أو الهيئة أو الموقف، وقد قضت مشيئة الله تعالى خلق الناس بعقول ومدارك متباينة إلى جانب اختلاف فى الألسنة والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام وتختلف باختلاف قائليها، وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله تعالى، فإن قدرته، وإن إعجاز الكون وازدهار الوجود وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو أن البشر سواسية فى كل شيء “وكل ميسر لما خلق له”، و(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ)(12).
فالاختلاف بين الناس أمر طبيعي، وهو يساعد على تقدم وازدهار الحياة الفكرية والثقافية، خاصة حين يلتزم بآداب الاختلاف، فهو يتيح إذا صدقت النوايا، التعرف على جميع الحالات التى يمكن أن يكون الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة، وفى الاختلاف رياضة الفكر والذهن، وتلاقح الآراء وتنوع النظر بما يثري التجربة الإنسانية ويساعد على التواصل بين الذات والآخر، على أساس المكاشفة والمعرفة والرؤية الواضحة.
وفى البيئة الإسلامية المواتية، خاصة فى عصر ازدهار الإسلام وانتشار حضارته فى الآفاق توفرت جهود نفر من علماء الأمة وصلحائها، على إرساء قواعد الحرية الفكرية التى تتغذى بالحوار وتنمو بالمراجعة وتصح بالنقاش، فنشطت حركة الاجتهاد، وتنوعت أساليب العمل، وتلاقحت الرؤى ووجهات النظر، فأثمر ذلك فى واقع الحياة قوة فى البنية الفكرية، ووعيا فى التناول والمعالجة، واحتفاء بالرأي، وتلمسا للحق وانقيادا له، وغدت “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها”.
فجاء ذلك المسلك تأصيلا لقيمة حرص عليها النبـي الكريم فى تعامله مع الصحابة الكرام، ذلك أن عصمته عن الخطأ وتسديده بالوحي وعلمه بمصادر الأمور ومواردها لم تجعله يستنكف إدارة دفة الحوار مع من حوله، إقرارا بمبدأ الشورى فى حياة المسلمين من بعده، ودفعا لغوائل الاستئثار بالرأي، ومصادرة حق الآخرين فى الإفصاح عما يخامر أذهانهم، ويتفاعل مع نفوسهم، فكانت المواقف تجاه الأحداث المختلفة تجسيدا لروح الجماعة ومرئياتها المنسجمة والملتزمة بهدي النبوة(13).
وطبيعة الحق أنه يأبى أن يكون وقفا على فرد أو فئة أو جماعة، مهما حقق من أسباب القوة واحتشاد مظاهر الغلبة والسطوع، ولكنه كثيرا ما يتأتى لفرد تزدريه الأعين أو فئة منسية أو جماعة مغمورة، ويكون الظفر به رهن الإحساس الواثق أن فى وسع أي إنسان أن يرشد إلى ما فيه الصلاح والسداد ما دام يشاطرنا الهم، ويسلك معنا الطريق ذاته، ويبتغي الهدف نفسه، متقيدا بتوجيهات الإسلام وضوابطه.
وطبيعة الإسلام أن فهمه واستلهام روحه وتمثل مقاصده لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال السعي الموصل فى مسالك الانتقاء الواعي، والالتقاط المسؤول لما تسفر عنه جهود الأمة،أفرادا وجماعات، فى كل زمان ومكان، وهي تقيم حياتها على نحو ما أراده الله تعالى فى كتابه الكريم، وإرساء رسوله الأمين فى سنته المطهرة قولا وفعلا وتقريرا.
ومن هنا يبدو أن تنوع الأساليب والوسائل وتباين طرق الأخذ والفهم، هي فى الواقع ظاهرة صحية تمكن للإسلام فى واقع الحياة، وتستغرق نشاط الناس على اختلافهم، فيما يحفظ لهم إيمانهم، ويضمن لهم سلامتهم، ويزكي مسيرتهم ويرفدهم بعناصر القوة ويدفع بهم فى مرامي الإحسان(14). وبالتالي فإن استئناف الحياة الإسلامية المثلى، يقتضي الانطلاق من أرضية التفاهم والتنسيق، وهو أمر لا يتحقق إلا بتعزيز الدور الإيجابي للحوار، الذي يمتد عبر مختلف المساحات، ويتوفر على كل الاهتمامات، من خلال تبادل الآراء، واستيفاء التجارب من الخبرات، وهو ما ينبغي أن يتداعى إليه الأفراد وجميع الفعاليات التى تضمها الأمة.
لقد أراد الإسلام أن يخطط للإنسان طريقه إلى الإيمان، من دون أن يفرضه عليه، فعمل على أن يقوده إليه، ويدله عليه من موضع ممارسته لإرادته، واستخدامه لفكره، لينطلق فيه على أساس حرية الإرادة والاختيار، وتحمل المسؤولية باستبصار، وكذلك نهج نفس المنهج وسلك نفس المسلك فى التواصل بين الأفراد والجماعات والشعوب والحضارات، فكان الحوار الذي يتمثل في إدارة الفكرة بين طرفين مختلفين أو أطراف متنافسة، وكان الجدال الذي يتجسد في قوة العناد للفكرة والإصرار عليها، وكانت الحجج والبراهين التى يتجه فيها كل طرف من أطراف الحوار وجهته، وكانت كل هذه الأمور هي الطريق العملي لمواجهة الإنسان بقضايا الحق والباطل، ليؤمن بهذا ويكفر بذاك على بينة من ما يؤمن أو يكفر به، كما جاء في قوله تعالى: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42).
وقد اتخذ الحوار وسيلة المسلمين الأوائل فى مناقشة ومحاورة أصحاب الأديان الأخرى فى عصر النبوة وما بعده، وكان هذا المنهج الفعال يزدهر دائما فى عصور ازدهار الحضارة الإسلامية ويخبو ضوئه فى عصور الانحسار والضعف.
ولقد أصبح الآن ضرورة ملحة للتواصل بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وكذلك للتواصل مع أصحاب الحضارات المعاصرة فى الشرق والغرب، وأصبح هذا النوع من التعاطى الفكري يصطبغ بالمجال الذي يستخدم فيه، والعلم الذي يتداول من خلاله، يقول الدكتور عبد العزيز التويجري(15): “إن مفهوم الحوار فى الفكر السياسي والثقافي المعاصر من المفاهيم الجديدة، حديث العهد بالتداول، ولعل مما يدل على جدة هذا المفهوم وحداثته أن جميع المواثيق والعهود الدولية التى صدرت فى الخمسين سنة الأخيرة، بعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة، تخلو من الإشارة إلى لفظ (الحوار).. فليس الحوار من ألفاظ القانون الدولي.. وعلى هذا الأساس، فإن الحوار مفهوم سياسي إيديولوجي ثقافي حضاري، وليس مفهوما قانونيا”.
ولعل من أسباب شيوع هذا الشعار فى أوساط ممثلي الأديان – فى العصر الحديث خاصة – كونه لا يفصح – بحد ذاته – عن هدف مبيت، أو يوحي بتوجه معين، يمكن أن يُعد ملزما أو محرجا للمنادين به من الطرفين، فالحوار لافتة تخفى وراءها أشكالا متنوعة من المضامين ووعاء يمكن أن يحوي مواد متباينة، مثل الحوار الذي يقصد به التقريب بين الأديان.
وفى نفس الوقت يستعمل مصطلح الحوار خارج نطاق دعوة التقريب بين الأديان، فيما يعرف بقضايا “التعايش”، وحينئذ فالأمر لا يتعلق بالدين من حيث هو دين، عقيدة وشريعة، ولكن بالعلاقات المعيشية البحتة بين معتنقي الأديان، وهو بهذا الاعتبار يهدف إلى تحسين مستوى العلاقة بين شعوب أو طوائف، وربما تكون أقليات دينية، ويعني بالقضايا المجتمعية كالإنماء الاقتصادي والسلام، وأوضاع المهاجرين واللاجئين ونحو ذلك، ومن أمثلة هذا اللون من الحوار (الحوار العربي الأوربي) و(حوار الشمال والجنوب).
وهذا الحوار بحد ذاته – بصرف النظر عما يصاحبه من تأطيرات قد تلحق بالأنواع السابقة – تفرضه الحياة البشرية، وحاجاتها الفطرية المختلفة، ومن ثم فلا غبار على الدخول فى مفاوضات أو مداولات من هذا القبيل حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية لمصلحة الأمة الإسلامية، وقد رافق هذا اللون من حوار التعايش نشأة الأمة الإسلامية منذ عهد النبوة، كما جرى فى المعاهدات النبوية مع يهود المدينة وغيرهم، وزخر الفقه الإسلامي المؤسس على الكتاب والسنة بتراث ضخم فى مجال العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين.
الحوار مع أتباع الأديان الأخرى: أو مفهوم “حوار الأديان”، هو عالم واسع ومتنوع الأهداف والمستويات، والمبادرة إلى رفضه أو قبوله مبدئيا يعتبر مغامرة غير محسوبة تختصر واسعا، وتنتقي وجها واحدا تحكم عليه بالسلب أو بالإيجاب وسط ظاهرة متعددة الوجوه والتنوع، الذي نتحدث عنه يتضمن الأطراف المتحاورة من رجال دين، أو أكاديميين متخصصين فى الأديان أو ناشطين فى العمل الخيري، أو المهتمين بتعظيم دور الأديان فى نواحي الحياة المختلفة، أو خليط من هؤلاء وأولئك.
وأهداف الحوار أيضا تختلف، فهناك حوارات تبحث عن تفاهم متبادل وتعارف أعمق، وهناك أخرى تبحث عن القيم المتفق عليها، وهناك حوارات تبحث عن موقف مشترك من قضية بعينها، وهناك حوارات ذات أغراض سياسية و.. وهكذا.
وأساليب الحوار تختلف، وطريقة “استدعاء الدين” أيضا تختلف ؛ فهو يُستدعى كتجربة روحية أحيانا، ويستدعى كتاريخ وممارسة أحيانا أخرى، ويستدعى كنصوص مقدسة أحيانا ثالثة، أو كقيم مجردة، أو كواقع حي يومي يتحرك على أرض الواقع.
ويختلف الحوار فى نطاقه واتساعه الجغرافي بين المحلي والإقليمي والدولي، وفى تحديده للأديان، فقد يقتصر على الأديان السماوية المسماة بـ”الإبراهيمية”، وقد يتضمن ديانات أخرى مثل: الهندوكية والبوذية وغيرها، وقد يكون داخل دين واحد بين مذاهب وطوائف شتى أو دين ودين آخر، أو بين عدة أديان فى وقت واحد(16).
تجربة الفريق العربي الإسلامي المسيحي للحوار: وهي تجربة تركز على المنطقة العربية، والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين فيها، وأبرز ما فى خبرة هذا الفريق حديث النشأة أنه استند إلى خبرات أعضائه الثرية، فاجتنب الخوض فى المسائل اللاهوتية وتحاشى استهداف محاولات التقريب العقائدي، كما ابتعد عن التسييس، واعتمد أسلوبا للتركيز وصل به إلى إنجاز ميثاق مكتوب لفلسفة وتوجهات الحوار من أجل العيش المشترك.
ولكن من زاوية أخرى يعيب البعض على الفريق محدودية نطاق عمله جغرافيا، ففي لحظة اختلطت الأبعاد الإقليمية المحلية والدولية، قد تكون محاولة إسقاط ما يحدث فى العالم، والاقتصار علي تجلياته على المستوى الإقليمي فقط نوعا من الفصل المتعسف بين أمور هي متداخلة بطبيعتها وطبيعة المرحلة.
وهناك تردد شديد – وبخاصة فى صفوف المسلمين – وتحفظات كثيرة بشأن الاهتمام بحوار الأديان، والدخول في أنشطته ودوائره، وأغلب التحفظات مبنية على أساس إدراك يحتاج إلى إعادة نظر، فهم ينظرون إلى الغربيين مثلا بوصفهم “أهل كتاب” وبأن الحوار معهم لا طائل من ورائه، وأن الإسلام بوصفه الدين الحق لا يحتاج إلى الحوار مع أهل الباطل إلا إذا اعترفوا به وسلموا له…إلخ.
وهذا منطق خاطئ وإدراك معيب أصلا يتجاهل آيات قرآنية تدعو للجدل بالحسنى، ويسقط التاريخ من حساباته، فيتخبط فى رؤية الواقع ويتسرع فى إصدار أحكام على أسس خاطئة، ففي التطور التاريخي الغربي تخلصت أوربا من سلطان الكنيسة الدنيوي/ الزماني، وفصلت بين الكنيسة والدولة، وتدريجيا تخلصت من سلطان الكنيسة الديني نفسه، فذهبت تبحث عن عقيدة دينية خارج أسوار الكنيسة التى رأتها عالية، وخارج عادة القساوسة التى أرتأتها ضيقة(17)، أديان الكنائس التقليدية لا يعتنقها اليوم أغلب الناس، فضلا عن انتشار الفرق والطوائف، والانقسامات التى تقيم كل واحدة لنفسها كنيستها الخاصة بها، أو لا تقيم كنيسة من الأساس، وهناك حركة هجرة وعزوف عن التيارات الكنسية الأساسية تاريخيا إلى أفكار ومعتقدات بعضها يتضمن تركيبا من عقائد تنتمي إلى أديان مختلفة، وقد تسمع عن جماعات دينية تبحث عن حقيقة إبراهيم، أو عقيدة نوح أو غير ذلك.
هناك – كما يقول الباحث أحمد عبد الله(18) – حركة دائبة للبحث والمراجعة والتقليب والنقاش ترتكز على أهمية مبدئية للدين، ولكنها تضرب فى كل اتجاه بحثا عن الحق، وفي نفس الوقت يصر العديد من المسلمين على إدراك ناقص مشوه لكثير من الأفكار ودوائر الحوار بوصفها وجها من وجوه المؤامرة التى تستهدف الإسلام.. ويتعاملون معها من قبيل “الاختراق” و”الدسائس”.
الدين بالمفهوم الذي نعرفه ونعيشه فارق حياة ملايين البشر حول العالم، وهم يبحثون عن روحانية تتجلى فى الفنون، أو علوم النفس، أو الغيبيات، ويبحثون عن طقوس عبادية تريحهم من عناء المادية القاسية التى تسحقهم سحقا، ويبحثون عن اجتماع مع آخرين على حدود معقولة من القيم والمعاني الأخلاقية والسلوكية والترابط الأسري والاجتماعي.. وهذا كله يجد تعبيراته السياسية فى المجتمعات التى تنتخب ممثليها، وتضع فيها الناس برامج أحزابها.
وكثير من المسلمين لا يرى الصورة بمجملها، ولكنه قد يرى موقفا أخلاقيا محافظا – من قضية بعينها – يتبناه فريق أو تقول به جماعة ضغط معينة فيحسب أن هؤلاء أقرب لموقف الإسلام والمسلمين كليا، والأمر أعقد من هذا بكثير، ولكن أغلبنا لا يعلم هذا ولا يستوعبه.
ومن هنا نرى ضرورة الانتقال من”النخبوية” إلى القاعدية، دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية دور النُخب، إلا أن الدخول بالحوار فى قطاعات أخرى، ومستويات متعددة، أصبح ضرورة لازمة لخلق حالة حوارية عامة تنضج عقلية ناقدة مرنة متفاعلة تتجاوز التلقين والتقليد والترديد الشائعة فى تلقى العلم وتداول المعرفة فى المشكلات الواقعية ونمو التعارف والتواصل العميق الذي يحترم التنوع ويستثمره لمصلحة الجماعة الوطنية بدلا من أن يكون هذا التنوع سببا ومقدمة للشقاق والحرب الأهلية المسلحة و(الثقافية).
الانتقال إلى القواعد يعني الانتقال من الطابع الاحتفالي لحوارات الأديان إلى إيقاع يومي نشيط، ومن بين أهم مسارات نقل حركة الحوار من النخب إلى قطاعات الناس يبرز “عالم الدين” بوصفه جسرا يسير فى اتجاه واحد فقط فوق هذا الجسر.
“ثقافة الداعية” سؤال كبير فى هذه المرحلة لأنه لا يكفي أن يُعلِّم الناس شؤون دينهم، بل ينبغي أن يستوعب شؤون دنياهم، ويكون نافذة لهم على العالم، كما يكون بابا من أبوابهم إلى العلم النافع فى يومهم، أي معرفة زمانه واستقامة طريقته. ولا ننسى أن الذي يهمنا فى مجال مسألة الحوار هو التركيز على الدين بوصفه ثقافة وتجليات للحياة المادية، بجانب كونه نظام اعتقادي أو روحي.
لقد أصاب الجانب الثقافي للدين ضمور شديد عند المسلمين، حتى إن أغلبهم لا يعرف تاريخ ما بعد الرسول r أو الفنون الحضارية الإسلامية فى حُقبها المختلفة، وكيف عاشت هذه الحضارة وعمرت الأرض، وقادت دفة توجيه البشرية لعدة قرون، وكيف أثرت وتأثرت بغيرها مما حولها من ثقافات وحضارات.. وغياب هذا الإدراك حّول المسلم المعاصر بلا ذاكرة ثقافية حضارية، وجعله – بالتالي – عاجزا عن التواصل مع عصره أو غيره إلا كفاقد ذاكرة يكاد يكون كاللقيط الذي يبحث عن أصله ونسبه! وانتقال الحوار من العقائد إلى الثقافات سيدفع المتحاورين إلى مراجعة ما انطمس فى وعيهم من ذاكرة العمران البشري بآدابه وفنونه وإنجازاته، فتخرج من المتحف إلى عقول المسلمين وحياتهم ومجالسهم.
فإذا توقفنا عند الدعوة الإسلامية، وأسلوب حوارها مع الغرب أو الآخر، فإننا نجد أن الإسلام دين شامل، دين الله الذي لا يقبل دينا سواه، ونبيه، محمد r، رسول الله وخاتم النبيين، وكتابه القرآن مهيمن على الكتب السابقة وناسخا لها، فمن ثم كانت دعوة الإسلام دعوة للناس كافة، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، وليست حكرا على قومية معينة، أو رقعة جغرافية محددة، فليس من شأن الإسلام أن يوصد أبوابه، ويقطع الجسور بينه وبين أمم الأرض إما بدافع الاستعلاء أو بدافع الخوف من الاختراق الخارجي، كلا! بل الأمر على نقيض ذلك تماما، فإن إيمان المؤمن، بحد ذاته، وخيرية الأمة بمجموعها لا يتمان إلا بالانفتاح على الآخرين، والتواصل مع مختلف الأجناس والشعوب، لتحقيق هدف نبيل، وغاية سامية، هي هداية الخلق ونفع البشرية.
إن التقوقع والانكماش والانكفاء على الذات صفات لا تتفق مع طبيعة النفس المؤمنة، ولا مع مشروع الأمة المسلمة ودورها فى إصلاح البشرية، والنصوص الشرعية في بيان فضيلة الدعوة إلى الله وهداية الخلق كثيرة متوافرة، تكشف عن روح الإيجابية والعطاء والمبادرة البناءة.
قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33)، وقال تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف: 108) ، وقال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).
وقال تعالى: (فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: 15)، وقال فى شأن الأمة جميعا: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104) ثم امتدحها بقوله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:101)، فأنى لهذه الأمة التى شهد لها رب العالمين بالخيرية، وقام سوقها على دعوة الخلق إلى سبيل الرشاد من الانغلاق والتقوقع والسلبية؟!
ولكن انفتاح هذه الأمة الراشدة على سائر الملل والنحل انفتاح مبصر، وليس انفتاحا أعمى، انفتاح من يحمل المفتاح، ويرفع شعلة النور أمام الناس، قال تعالى: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (الأنعام: 122) وليس انفتاح البحث المشترك عن الحقيقة، فالحقيقة محفوظة لم تغب (قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي) (الأنعام: 57) ولكنه انفتاح التعريف ومحاولة التواصل على قواسم المشترك والإنساني.
وقد خاطب الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب خطابا صريحا مباشرا بصيغة النداء: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64).
وتعددت نداءاته لأهل الكتاب سبعة عشر خطابا فى كتاب الله، مع ما عطف عليه من آيات أخر، أو جاء على غير صيغة النداء، وذلك يدل على مزيد العناية بأهل الكتاب لأنهم أقرب نسبا وسببا بالمؤمن، فحري بأهل الإسلام فى كل زمان ومكان أن يترسموا هدى القرآن ويدعوا إلى ما دعا إليه، ويعظموا ما عظمه، ويقدموا ما قدمه، وألا يلتفتوا إلى مسالك أخرى ليست من هديه.
وتجسد المنهج الإسلامي فى الحوار مع أصحاب الديانات الأخرى بقوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125) وهي ثلاثة أساليب أو مناهج قرآنية جمعت أمر الحوار برمته، فهذه الجمل الثلاث: الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتى هي أحسن، قد فُصِّلت بأساليب شتى فى مثاني القرآن العظيم، وتنوعت هذه الأساليب تنوعا كثيرا، لتكون منهجا للدعوة إلى الله فى كل زمان ومكان فى مخاطبة أهل الكتاب، ومخاطبة كل مستويات الوعي والإدراك الإنساني ابتداء بالعامة وانتهاء بالمفكرين والحكماء والفلاسفة، مسايرة لروح الخطابة والوعظ والإرشاد، وتدرجا مع مسالك العلم والبرهان والحكمة.
وتعددت أساليب القرآن الكريم فى الدعوة والحوار مع أصحاب الديانات السابقة، وأهم هذه الأساليب(19):
1- أسلوب المبادئة الواضحة: قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64).
إن أخذ زمام المبادرة فى مخاطبة أهل الكتاب ينبغي ان ينشأ من الجانب المسلم، فينادي غيره، ويجمعهم ليلقي عليهم دعوته الواضحة الصادقة، كما يدل النداء فى هذه الآية، ولطالما شكا المشتغلون بالحوار الإسلامي النصراني بصفته المعاصرة من كون المبادئة تأتي غالبا من الجانب النصراني، وان المحاورين المسلمين يساقون دون تخطيط مسبق، وأهداف واضحة من جانبهم، عبر قنوات ومسالك رسمها لهم سلفا محاورهم من أهل الكتاب، وهذا فى الواقع ليس بمستغرب لأن دعاة التقارب من المسلمين جفوا المنهج الشرعي القائم على دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء، فلم يبق لهم ما يدلون به على الآخرين، فأهل الإسلام لا يستقيم أمرهم ولا يعبرون بصدق عن دينهم إلا أن يكونوا أصحاب مبادرة، وغاية واضحة، وخطة بينة، كما دلت عليه هذه الآية العمدة، وإلا تقاذفتهم ألاعيب أهل الكتاب ومبادراتهم العبثية الموسومة بالتقارب والحوار ونحوها.
2- أسلوب العبرة والتذكرة: قال تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 65، 66).
وقد تضمن القرآن الكريم ثلاثا وعشرين واقعة مصدرة بكلمة (وإذا) الظرفية، تذكر أهل الكتاب من يهود ونصارى، بما جرى من أسلافهم مع أنبيائهم، وعواقب ذلك، لا لمجرد القصص، وإنما للتذكير والاعتبار والاستبصار، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه وتحل بهم المُثلات، فينبغي اعتماد هذا الأسلوب القرآني فى مخاطبة أهل الكتاب،لأن الاستشهاد بحقائق التاريخ والتذكير بدروسه وعبره من أقوى وسائل التأثير.
3- أسلوب الإغراء والترغيب: قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) (المائدة: 66) وهناك أمثال هذه الآية كثير فى القرآن، وهذا الأسلوب من أنجع الوسائل والأساليب وأدعاها إلى قبول الحق والاغتباط به، ففيه من الترغيب والإغراء ما يحفز أصحاب الهمم العالية، والنفوس التواقة إلى الكمالات وإلى استشراف الهدى بنفس مستبشرة طامعة بفضل الله ورحمته.
4- أسلوب التحذير والترهيب: قال تعالى: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلاَّ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة: 73) وهناك آيات كثيرة للتهديد والوعيد والتحذير، والتى ترتجف لها القلوب، فتحملها على إعادة النظر فيما تعتقد وتقول وتعمل، فإذا لم يحفزها حافز الترغيب، ردعها رادع الترهيب.
5- أسلوب التوبيخ والنكير: قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (آل عمران آية 70،71) ولا يزال أهل الكتاب مقيمين على ما وبخهم الله وأنكره عليهم من الكفر بآيات الله مع قيام الحجة، ولبس الحق بالباطل، والصد عن سبيل الله، فلابد من استمرار النكير عليهم وتبكيتهم وفضحهم على رؤوس الأشهاد تأسيا بكتاب الله.
6- أسلوب المحاججة والنقض: قال تعالى: (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111)، (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (المائدة: 75، 76).
وهذا فى كتاب الله كثير، ولم يزل نهج المؤمنين بالقرآن الكريم من سلف هذه الأمة، من تصنيف الكتب، وعقد المناظرات، وتدبيج المقالات فى نقض هذا المسلك، قال ابن القيم فى فقه قصة وفد نجران: “ومنها جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه، إذا ظهرت مصلحة من إسلام من يرُجى إسلامه وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليول ذلك إلى أهله”(20).
ويؤكد لنا الدكتور “عمر عبيد حسنة” على كثير من المفاهيم المتصلة بالحوار وضرورته حين يقول أن “الحوار الحضاري أو الحوار مع الآخر، وإتاحة الفرصة لتوسيع دائرة التفاهم، وإبلاغ رسالة الإسلام إلى العالم، التى إنما جاءت لاستنقاذه، وإيصال دين الله إليه بأفضل وسائل المجادلة بالتى هي أحسن مع مراعاة أدلة الحوار وشرائطه.. فهو من الفروض الشرعية الكفائية، التى تعتبر من مسؤولية الأمة جميعها… إن الحوار مع الآخر، وإتاحة الفرصة لتبادل الرأي للوصول إلى قناعات معينة، أو للوصول إلى صيغ مشتركة للتفاهم(21) والتعاون، هو مطلب إسلامي، وإحدى وسائل الدعوة والبلاغ المبين، إذا توافر للحوار شروطه، من إتاحة الفرص المتكافئة، وتحرير موضوع الحوار، والالتزام بآدابه، وأخلاقه، بل هو أكثر من مطلب إسلامي، أو أحد خيارات المسلم، إنه تكليف شرعي، يقع تحت مدلول قوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125) ذلك أن الدعوة إلى دين الله، وسبيله، محلها ابتداء: الآخر”(22).
بل ويضيف الدكتور عمر عبيد حسنة، أبعادا أخرى للحوار حين يقول: “واحسب أن المبادرة بالحوار والدعوة إليه يجب أن تبدأ من عند المسلم، وأن يكون المسلم أكثر حرصا عليها من الآخر، ولعلي أرى فى قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64) تكليفا شرعيا لا يخص عصرا بعينه، ولا حادثة بعينها، ولا يجوز أن يعتبر سبب النـزول قيدا لخلود النص، وتجرده عن حدود الزمان والمكان… فمقتضى خلود النص يعني: أن التكليف جار وقائم فى كل زمان ومكان… والدعوة إلى الحوار واللقاء بالآخر، ومحاجته بالتى هي أحسن وظيفة المسلم، لإلحاق الرحمة بالناس.. وما يمتلك المسلم من قيم سماوية معصومة منـزلة من رب العالمين، وتجربة تاريخية فذة، وشخصية حضارية وثقافية تجعله فى موقع مكين، يدفعه الى الإيجابية، وطلب الحوار، ويجعل مكاسبه من الحوار مقدرة ابتداء، ذلك أن الآخر سوف يتأثر على كل حال.. ولا أرى عذرا أو مصلحة فى إقفال باب الحوار مع الآخر، أو نفيه، أو إلغائه، مهما كانت الأسباب، أو ترك المبادرة له لتنظيم ندوات الحوار، وتحديد أهدافه وموضوعه، فقضية الحوار مع الآخر، وإعادة النظر بمواصفات الخطاب الإسلامي المعاصر وأدوات توصيله، ووسائل إبلاغه على مختلف الأصعدة، لم تعد خيارا للمسلم، فى عصر ثورة المعلومات والاتصالات وتطور وسائل الإعلام، حتى يكاد العالم يصبح قرية إعلامية صغيرة، وحيث امتدت الأصوات فى الدعوة إلى الحضارة الواحدة، والنظام العالمي الجديد.
وأخيرا لابد أن تعمل المؤسسات الدينية الرسمية وأقسامها المهتمة بالحوار جنبا إلى جنب مع الفعاليات الأهلية النشطة فيها.. واحتكار المؤسسات الرسمية يضر الحوار ولا ينفعه، وكذلك فإن التضارب وعدم التنسيق يبدد الطاقات، ويشتت الجهود، وينخفض بالنتائج إلى ما دون مستوى المقدمات والتوقعات، ويستلزم هذا التعاون تنمية وتطوير القطاع الأهلي الذي يعاني من التهميش، وأحيانا الحصار ومحاولات الإلغاء.
ونحن نرى أن دعوة السيد “خاتمي” لحوار الحضارات جاءت متسقة تماما ومتصلة بأطروحة حول “المجتمع المدني”، ويظل الرهان الأهم حول كيفية إدارة عملية التنمية والتطوير للقطاع المدني فى ظل ثقافة ومؤسسات تعودت الاحتكار والاستقلال بالفعل، بدلا من الشراكة، وتقسيم الأدوار، ونحسب أنه لو تحقق نجاح التجربة الإيرانية فى ولادة “مجتمع مدني” قوي ومستقل عن أجهزة الدولة، ومتعاون معها فى الوقت نفسه، فسيكون دافعا وقدوة للآخر، ومقدمة لازمة لتهدئة مخاوف العديد من الأنظمة تجاه أنشطة “المجتمع المدني” فى أفكارها، وسيكون دافعا كذلك للعديد من الناشطين الحركيين من ذوي التوجه الإسلامي للاهتمام بحركة المجتمع المدني، والمشاركة فيها بدلا من موقف التحفظ أو عدم الاكتراث الغالب عليهم حتى الآن(23).
وعلينا توجيه الانتباه من حوار الكتل الحضارية إلى حوار القيم الحضارية، فمقولة “حوار الحضارات” تفترض تجانسا وهميا داخل كل حضارة من الحضارات التى صنفها “هنتجتون” وإذا نظرنا داخل الحضارة الإسلامية – مثلا – ومجالها الجغرافي والسكاني فسنجد أعدادا ليست بالقليلة تنتمي أكثر إلى حضارة المادية والاستهلاك، وفى قلب الحضارة الغربية أعدادا غفيرة ترفض منطق القوة والمادة وأولوية اللذة العاجلة وغيرها من توجهات التيارات الأساسية لتلك الحضارة، وقد بدت المفارقة مدهشة حين خرجت فى أمريكا مظاهرات ضد الحملة الأمريكية على أفغانستان، وجمهور هذه المظاهرات من نُخب المواطنين النشطين فى حركات حقوق الإنسان ومناهضة العولمة ومن أنصار الحريات المدنية، فى حين خلت هذه المظاهرات تقريبا من حشود العرب والمسلمين أول المتضررين من تصرفات الإدارة الأمريكية فى أعقاب هجمات 11سبتمبر، بل إن بعض المنظمات التى تمثل المسلمين هناك أيدت موقف إدارة الرئيس “بوش” وحملته – على الأقل فى بدايتها – دون تحفظات تذكر، حيلة أو خوفا أو “تقية”.
ولذلك يقول الدكتور “أحمد عبد الله”(24) ونحن نرى أن التصنيف الحضاري ينبغي أن يكون على أساس القيم الحاكمة للتصور، والانحياز العملي القائم عليها، فالذين رفضوا الانتقام وحل النـزاعات بالقوة المسلحة والهجوم العسكري دون أدلة.. هم طرف واحد رغم انتمائهم لدوائر جغرافية شتى، ورغم تباين خلفياتهم الثقافية، ولغاتهم المنطوقة.
أما أنصار العنصرية، أو قتل المدنيين بلا تمييز عقابا لحكوماتهم، واستخدام العنف كلغة عالمية بشأن الخلافات والصراعات بغض النظر عن نتائج هذا الاستخدام وتداعياته.. فهؤلاء أيضا يمثلون طرفا آخر هو واحد رغم تباين الشعارات وتنوع الرموز والمظاهر، ونحن نتحدث عن “حوار الحضارات” بين هذين الطرفين بدلا من حوار وهمي بين كتل حضارية غير متجانسة أصلا.
تتسع أجندة مثل هذا الحوار لتشمل الموقف من الأسرة ومن الحريات المختلفة وقضايا العدل والحرية إلى آخره، ولا ندعي أننا سنكون أبدا ضمن كتل متجانسة، ولكننا نطمح إلى تحالفات جزئية أو كلية حول قيم واضحة وهموم مشتركة، واختيارات محددة فى المجالات الاجتماعية والثقافية والتنموية، وهذا فى حقيقة الأمر يفتح الطريق أمام “حوار الأديان” و”حوار الحضارات” على الأفق الطبيعي الهام الذي ينبغي الانفتاح عليه، وهو أفق “حقوق الإنسان” وآفاق ما يسمى بمناهضة العولمة، وهذا الانفتاح هام ونافع، ولن يكون إلا إذا تخلينا عن أسطورة الكتل الحضارية المتجانسة والمتخيلة فى أذهان الكثيرين ممن يتحدثون عن”حوار الحضارات”.
* * *
الهوامش والمصادر
(1) ابن منظور: لسان العرب، تحقيق: أمين محمد عبد الوهاب درا إحياء التراث العربي 3/383- 384 بيروت عام 1996م.
(2) مفردات القرآن 135.
(3) جميل صليبا: المعجم الفلسفي ج1 ص 51 بيروت، دار الكتاب اللبناني 1993م.
(4) أبو البقاء أيوب بن موسى الكفوي: تحقيق: د. عدنان درويش ومحمد المصري ص353 مؤسسة الرسالة، بيروت عام 1993م.
(5) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ط3 دار العلم دمشق.
(6) السابق ص361 .
(7) د. بركات محمد مراد: منهج الجدل والمناظرة فى الفكر الإسلامي، الصدر للنشر، القاهرة 1990م.
(8) د. عبد العزيز الرشيد سالم: مبدأ الحوار فى الإسلام ص63 المجلس الأعلى للشئون الإسلامية مصر 2003م، وانظر محمد حسن فضل الله: الحوار فى القرآن – قسنطينة – الجزائر عام 1396هـ.
(9) انظر د. محمد التومي: الجدل فى القرآن، قسنطينة، الجزائر 1979م.
(10) الشيخ أحمد مصطفى المراغي: التفسير ج5 ص166 ط4 مصر عام 1972م.
(11) انظر د. بركات محمد مراد: ابن حزم ومنهج الجدل والمناظرة، مجلة جذور، العدد16 جدة محرم 1425هـ.
(12) انظر د. طه جابر العلواني: أدلة الاختلاف فى الإسلام ص22- 26 كتاب الأمة العدد9 قطر 1406هـ.
(13) حسن فضل المولى: التأكيد على فاعلية الحوار، مجلة الأمة العدد 59 قطر 1405هـ.
(14) حسن فضل المولى: التأكيد على فاعلية الحوار السابق.
(15) المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (ايسيسكو): الحوار والتفاعل الحضاري من منظور إسلامي ص7 المنظمة الإسلامية عام 1997م.
(16) د. أحمد عبد الله: حوار الأديان.. أسئلة مشروعة وإجابات صعبة ص20 مجلة رؤى العدد16 باريس، المركز الحضاري بباريس عام 2002م.
(17) د. ميلاد حنا: قبول الآخر، ط 4، الإعلامية للنشر، القاهرة عام 2002م.
(18) السابق 24.
(19) انظر د. أحمد عبد الرحمن القاضي: الحوار مع أتباع الأديان الأخرى فى عصر العولمة ص38- 48 المؤتمر الإسلامي الرابع (الأمة الإسلامية والعولمة) عام 2002م.
(20) ابن القيم: زاد المعاد 3/ 639 .
(21) د. نعمان عبدالرزاق السامرائي: نحن والحضارة والشهود، كتاب الأمة العدد80 قطر 1421هـ.
(22) تقديم كتاب الإسلام وصراع الحضارات للدكتور أحمد القديدي، كتاب الأمة العدد 44 قطر عام 1995م.
(23) د. أحمد عبد الله: إشكالية الحوار ص 27 مجلة رؤى العدد16 باريس 2002م.
(24) السابق ص26.