أبحاث

نحن والغرب

العدد 11

يغزونا الفكر الغربي في هذا العصر شر غزو، ويدخل إلى وعينا بشتى السبل. فيحل محل الفكر الإسلامي العريق بعد أن يقحمه، لا

يضعف في الفكر الإسلامي، بل يضعف فينا. سببه جهلنا بالإسلام كنظام فكري، وقلة وعينا الحضاري. إلا أن هذا الفكر الغربي الذي يجذبنا مريض فاسد رغم سعة انتشاره في العالم. تعالوا نستعرضه معا، ونتبين الجرم الذي ترتكبه الأمة الإسلامية كل يوم بقذفها بأبنائها إلى الغرب ليستقوا منه العلوم وأسباب الحضارة، فيعرضون أدمغتهم للغسل ويصبحون للغرب الثقافي إن لم يكن للغرب السياسي، (كاريكاتورات) وأتباعا مخربين للوعي الإسلامي داخل الأمة.

تقوم العلاقات الإنسانية في العالم الغربي على أساس واحد هو الشك كمذهب عام. يقول هذا المذهب:

1- لا شيء يعرف حقيقة سوى الظواهر الطبيعية. وفي العلاقات الإنسانية، الظاهرة الطبيعية هي الرغبة.

2- الظواهر الأخلاقية لا تعرف حقيقة. فهي دائما وأبدا مشكوك فيها لا يعرف فيها شر حق ولا خير حق.

3- لا يجوز لإنسان أن يدعي أن سلوكا ما خير من سلوك آخر إلا إذا أدى ذلك السلوك إلى إشباع رغبة من رغباته هو دون الآخرين.

يستنتج الغرب من هذه المبادئ الثلاثة أن العلاقة بين الإنسان والإنسان يجب أن تبنى على احترام رغبات الفرد. فهي وحدها حقيقة. ويعتقد أنه لا جدال في الذوق، ولا في سلوك الفرد والجماعة، لأن هذه الحالات كلها لا تعرف حقيقة فيها. فكل دعوة ادعاء، وكل إقناع غسل دماغ، وكل سلوك اجتماعي قهر وسيطرة، ولكل إنسان ما رأى وما رغب بدون حساب أو عتاب. فالرغبة لا تضبط بمبدأ، بل تسيطر عليها رغبة أخرى، سواء من الشخص ذاته أو من الأشخاص الآخرين. وحياة الفرد حرب دائمة الرحى يشنها الإنسان ضد نفسه، وضد ذويه، وضد قومه. كما أن حياة الجماعة حرب يشنها الحاكم ضد المحكومين. وتشنها الجماعة ضد الجماعات الأخرى.

دعمت مبدأ التشكك الأخلاقي وما استنتجه منه الفكر الغربي من مبادئ سلوكية، حركة كبرى عمرها ألفا سنة. بل لعل هذه الحركات كانت هي مصدره. وهي على كل حال سبب نموه وازدهاره. هذه الحركة هي المسيحية. لقد باركت المسيحية مذهب الشك الأخلاقي ظنا منها بأنه يحقق أغراضها. قالت المسيحية على لسان بولس، وما زالت تردد على لسان كارل بارط وبول تيليش والمجمع الفاتيكاني الثاني: أن الإنسان مخلوق ساقط بنيت جبلته على الإثم والعدوان والمنكر، لا أصل ولا جدوى من اجتهاده وعمله. فحياته كلها كتلة من الخطيئة والفجور، والمجتمع ليس إلا ميدان الشيطان. أرادت المسيحية أن تبرهن على ألوهية المسيح فرأت أنه يلزم للاقتناع بعملية التخليص التي قام بها الإله بتجسمه في المسيح وصلبه: أن يكون الإنسان عاجزا عن تخليص نفسه بفعله. لذلك حطت من قدر الإنسان ونفت الأخلاق من سلوكه. فاتفقت مع مبدأ الشك بأن سلوك الإنسان لا حقيقة معنوية أو قيمية فيه.

عرف الغرب ثلاثة أنظمة أقامها على أساس من مبدأ الشك:

الفوضوية، والليبرالية الأنجلوسكسونية، والشيوعية. ما زالت الأنظمة الثلاثة قائمة وإن غيرت أثوابها من عصر إلى عصر.

الفوضوية: قامت في أول عهدها تحت تأثير المسيحية المباشر. فالمسيحية أبت أن تشرع للسلوك الاجتماعي وتركته للشيطان قصر، لأن الحياة الاجتماعية في نظرها، مقطوع منها. وأبت أن تشرع للسلوك الفردي: لأنه ميدان الرغبة، والرغبة شر في ذاتها. فلا رأي للمسيحية إلا التنكر للرغبة ومحاربتها والانعزال عن الجماعة. وهذه هي الرهبانية التي ابتدعتها مثالا للسلوك البشري. وترك السلوك الإنساني بلا شريعة دعوة إلى الفوضوية.

أما اليوم فالفوضوية المسيحية تقلصت والرهبانية تكاد تنقرض. الرهبان يتزوجون ويحششون، يرتعون ويلهون، يسعون ويرتزقون. والراهبات يلبس الملابس الجذابة ويتحلين ويتزوجن ويخلفن. كلما تقدمت الحضارة الغربية في بلد مسيحي يزاد ابتعادا عن الرهبانية.

حل محل الرهبانية حركة أخرى هي الوجودية. ابتداء من رمي الحياة الإنسانية بالشر والإثم أكدت الوجودية أن لا أمل يرجى من حياة الإنسان لأنها لا خير فيها. بل هي مليئة بالألم والحزن والأسى وتنتهي بموت أكيد. وسعي الإنسان لن يرى لأنه كله غرور. فالوجود مأزق يجب التخلص منه ولا خلاص إلا بالارتماء في أحضان المسيح، الإله المخلص. ويبقى السلوك الفردي والجماعي بلا شريعة، وهي الفوضوية. والتسلسل منطقي: فإذا كان الدين خروجا من مأزق الوجود، فلا حاجة للاعتناء بالمأزق. ليذهب به قياصرته إلى حيث ألقت.

الليبرالية: ولدت عمليا داخل صراع الملكية البريطانية مع الشعب في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وولدت نظريا على يدي طوماس هوبزوجون ستيوارت مل وجون منذ قرنين. تقوم الليبرالية على الشك بأن علاقة الإنسان بالإنسان فيها حقيقة أخلاقية أو قيمية. فابتداء منه، تعارض الليبرالية كل امتداد لتأثير الإنسان في الإنسان الآخر. فالإنسان ذات تحيا في رغباتها، ولا يدخلها مؤثر إلا هتكها. وكون الرغبة، أو الطبيعة، الحقيقة الوحيدة، تأليه للرغبة لأنه ينفي وجود الحقيقة المعنوية أو العتموية التي هي وحدها القادرة على تطويع الحقيقة الطبيعية. فالموجود الذي لا وجود لغيره: اله في ملكوته.

لكن التناقض بين رغبات الإنسان وغيره يؤدي إلى القتل. والقتل انتهاء للذات الراغبة. إذا لا مانع من منع القتل، ويسمح لكل شيء دونه، أي دون العنف المادي الظاهر، أن يأخذ مجراه. فاستمرار النظام الذي لا يؤثر فيه إنسان على إنسان، واستمرار الإنسان نفسه، يتطلب حماية الإنسان من أعدائه. فالمبرر الوحيد لإيجاد نظام وشريعة وحكم سياسي هو المحافظة على سلامة الفرد وحريته في إشباع رغباته. لذلك نشأت الليبرالية، ونشأت معها الدساتير ونظريات حقوق الإنسان، درجات في تقييد الرعاة وشل تسلطهم على الرعايا.

أما الفرد، فإذا أثر فرد آخر في سلوكه فهذا تدخل، بل نقض لشخصية المؤثر فيه. فالمبدأ الأساسي هو عدم شرعية التأثير. فالرغبة وحيدة، وكوحيدة في الوجود، هي الإله الذي يجب أن يحترم. أما التطبيق، فمراده المحافظة على حرية الفرد فقط. لذلك لا تدخل في حرية الفرد إلا لمنعه من تحقيق رغبته بالعنف الظاهر. وإن كان كل تغيير إكراه، إلا أن هنالك إكراه بعنف ظاهر وإكراه خفي. ولا يجوز التشريع إلا لمنع الظاهر فقط. إن تداخل رغبات الأفراد في بعضها البعض يحتم تقييد التشريع. فكل من آنس في نفسه الرغبة للتأثير على الآخرين كان له ذلك بشرط أن لا يلجأ إلى العنف الظاهر. والحكومة المثلى هي التي لا تحكم إلا بالقليل اللازم، أي منع العنف –ولا تتدخل في تحقيق رغبات الأفراد. وذلك أن الرغبات تنسب إلى أصحابها فقط، فلا دعوة ولا سلوك ولا خير ولا شر تعرف حقيقته. الخير والشر متروكان للحكم الفردي.

وإن سألت الليبرالية عن الجماعة، قالت: الجماعة كالفرد تماما. لها رغبات: هي المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية. وهي حقائق “يابسة” أي أولية لا سبيل لإنكارها. وهي وحدها طبيعية وحقيقية. إن تضاربت مع حقيقة يابسة لأمة أخرى، كان لا مناص من إكراه الواحدة للأخرى. فإما أن يكون الإكراه عنيفا –وهي الحرب- وإما أن يكون غير عنيف –وهي المقاومة-.

فالقومية مبنية على هذا الأساس: أن رغبة القوم هي وحدها الحقيقة. لذلك يجب أن تشبع بأي ثمن. فتنافس الأفراد كتنافس الأقوام. كلاهما طبيعي. إن أدى إلى عنف يجب أن تنتصر الجماعة على أعدائها فالحرب سنة، ولا تتجنب إلا لنجاح سبيل آخر يحقق نفس الغرض –أي إشباع رغبة الأمة، بطريق غير ذي عنف- طريق التفاوض. لهذا لم يكن بد للحكومات الليبرالية من محاربة بعضها البعض، ومن استعمار من لا حول له ولا قوة من الأمم الأخرى.

ولم ينشأ عندهم أي فكر عن القانون الدولي إطلاقا قبل جروشس في القرن السابع عشر. إلا أن القانون نفسه لم يوضع إلا بعد الحرب العالمية الأولى. وها هي هيئة الأمم المتحدة نفسها في عصرنا: تقوم أساسا على مبدأ منع العنف الظاهر، وتبيح إشباع الرغبات مهما كانت. فقط في الحقبتين أو الثلاث الأخيرات، قامت هيئة الأمم بإسداء بعض الخدمات في الثقافة والعناية بالأطفال والأغذية، لا على سبيل الفرض الواجب، بل المصلحة المشتركة القائمة على الرغبة. والرغبة ما زالت الإله الأوحد.

الشيوعية: تقوم الشيوعية، كما قامت الليبرالية الأنجلوسكسونية على مبدأ الشك، أي: تأليه الرغبات بجعلها الحقيقة الوحيدة، وبالتالي، باعتبارها الرغبات معيارا نهائيا لكل ما هو خير وشر. إلا أنها تختلف عن الليبرالية بأنها لا تعترف برغبات الفرد بقدر اعترافها برغبات الجماعة. والجماعة عندها ليست القوم بل الطبقة. فالشيوعية نظام تجنيدي Requinentatonial بالضرورة لأن الرغبة الطبقة عندها أولوية كبرى، لا تنسق رغبات الأفراد معا بل تنقض وتنكر. لذلك كان تصور علاقة الإنسان بالإنسان في الشيوعية: أن العامل زميل العامل أنى وجد، وأنهما مجندان لخوض حرب ضرورية مع طبقة الرأسماليين المتسلطة، وأن حالة الصراع هذه حالة دائمة إلى أن تبيد الطبقة الطبقة الأخرى.

النتائج:

أدى مذهب الشك إلى نتائج طيبة وأخرى وخيمة.

أما الطيبة فثلاث:

الأولى: احترام الذات الإنسانية وحمايتها من كل معتد. فالحق يجب أن يقال: وهو أن نظام الشك، حقق للإنسان حقوقا جليلة، وإن كان تعريفهم للإنسان بالمواطن، أي بفرد القوم، لا الإنسان عامة. يتمتع الفرد في البلاد الليبرالية بحرية كبيرة وتحترم الحكومة ذاته أشد الاحترام.

الثانية: أن تأليه الرغبات واحترام الذات شد في أواصر القربى بين المواطن، والمواطن وحث وعيهما بضرورة إشباع رغباتهما على التعاون المنتج الفعال، سواء كان التعاون تطوعي كما يحدث بدافع القربى أو إكراهي كما يحدث بدافع القومية الغاشمة أو تجنيدي بداخل مصلحة الطب وذلك دائما يقصد الانقضاض معا على فريستهما أي فريسة المواطنين حتى يقضيا عليها ويفترسانها ويشبعا رغباتهما.

الثالثة: تأليه الرغبات واحترام الذات جعل من المجتمع الغربي مجتمع نمور. لا يعتدي النمر على النمر، بل على فريسته. فكلاهما موجهان إلى الفريسة بطبيعة تاليه رغباتهما. فالفريسة الأولى هي الطبيعة. لذلك انقض الليبراليون على الطبيعة انقضاضا، ففكوا رموزها وطوعوها لخدمتهم بعد إذ سيطروا عليها. فالطبيعة في نظرهم عدو ضعيف، عدو تمكنوا من افتراسه. وما زال الغربيون ينظرون إلى الطبيعة نظرة المتعطش، المتأهب، المفترس. وقد فجرت هذه النظرة ينابيع المعرفة الطبيعية، فنشأت العلوم وترعرعت، ثم تفننوا في استغلال الطبية –وهو ما يعرف بالتقنية- وقد سبوا المسلمين في هذا المضمار سيقا مقحما.

هذه هي النتائج الطيبة: أما النتائج الخبيثة فهي أيضا ثلاث، تقابل النتائج الطيبة بل تضارعها:

أولا: غلا الغرب في رعاية الذات الإنسانية وحمايتها بأن ألهها وجعلها وحدها الحقيقة، فأصبح إشباع رغباتها هو معيار الخير والشر.

صحيح أن هذا من جهة: هو تأليه الإنسان ورفع شأنه. إلا أنه من جهة أخرى: هو مسخ للإنسان بإقصائه عن الله، وعن ملكوت القيم والأخلاق. فالقيم والأخلاق أيضا فطرة وطبيعة في الإنسان دون أن تكون مادة كالجسم والحركة والرغبة. والله، سبحانه وتعالى: حق، موجود، فعال لما يريد. وكل من الله والقيمة ويجب أن يعرف حقا، يعرف يقينا، يعرف اختباريا، وذلك بطريقين، طريق الوحي المنزل من السماء وطريق التعقل.

فينفي هذا الملكوت من الحقائق، تصور الغربي نفسه: بأنه شبكة من الرغبات المتناقضة، المتصارعة، المتنافسة، الطاغية حينا والمطغي عليها حينا آخر، دون مبدأ أو معيار يرجع إليه في حل خلافاتها. لذلك قسمه صراعها وتطاحنها على نفسه، فأصبح ما رمزت إليه شخصية الدكتور فاوست المسرحية منازعا عليه من قبل الخير و الشر دون أمل في حل أو خلاص Two Souls, alas, dwell within أي روحان، ويا للخسارة، تقيمان في صدري. واقنع الرجل الغربي بأن مصيره كمصير آلهة الإغريق، وآلهة الألمان، لا شك سائر إلى الهلاك. وكان هذا المصير المأساوي نفسه المادة الأولى لفنه في الرسم والنحت والأدب والموسيقى. وأصبحت التراجيديا أو المأساة عنوانا له. وهذا المصير نفسه يناقض الأساس الذي يبنى عليه. فالرغبة لا يمكن أن ترغب عدمها.

ثانيا: غلا الغرب هنا أيضا في تأكيد أواصر القربى بين الجماعات، سواء أكانت جماعة القوم أو جماعة الطبقة. فولى الولاء كله للجماعة واعتبرها قوما أو عنصرا لا يعلو على مصلحته شيء، وإن كان مبدأ الجماعة نفسه مبني على مبدأ رغبة الفرد. فالغلو في القربى يتناقض الغلو في رغبة الفرد. ثم غلا الغرب أيضا في إقصاء علاقات الجماعات بالجماعات الأخرى عن ملكوت الله والقيم والأخلاق، وغلا في حصره الحقيقة في رغبة الجماعة، فكانت الحروب المستمرة نتيجة هذا الغلو واستعمار الأمم لبعضها البعض. وصراع الطبقات. كل هذا دون أي مبدأ أو معيار يعلو على رغبة الجماعة فتقاس به، أو تحل مشكلات الأمم دون قتل أو قهر.

عرف الغرب عصبيتين: عصبية القوم على الفرد وعصبية القوم على القوم. أدت الأولى إلى انحسار الشخصية الفردية بضرورة تطبعها بطابع الجماعة إلى أن أصبحت التربية عندهم لا معنى لها سوى التشبيه الاجتماعي Socialization التثقف الجماعي Acculfuration التوحد الكيفي الاجتماعي Homogeuization التكامل الاجتماعي Adjustment

وأصبح الشذوذ عن الجماعة شر وإن أصاب الفرد وأخطأت الجماعة. وأدت الثانية، أي عصبية القوم، إلى استعمار الإنسان لأخيه الإنسان بالجملة، أي بالملايين. أين من يقيس العذاب الذي ابتلي به ملايين وأجيال من البشر على يد الاستعمار الغربي؟ فكلا العصبيتان كانت بلاء وخروجا على الأخلاق والدين.

ثالثا: غلا الغرب في استغلاله للطبيعة. فبالرغم من ازدهار العلوم الطبيعية على كافة أنواعها وتقدم التقنية في خدمة الإنسان، فإن تأليه الرغبات ومنع العنف ضد الزملاء النمور أدى إلى اغتصاب الإنسان للطبيعة، أي إلى استثمار الطبيعة وتطويع قواها لإشباع الرغبات دون وازع أخلاقي، دون معيار يعلو على الطبيعة والرغبات معا، ويخضعهما لقيمه وأوزانه. فكان تلويث الموارد الطبيعية ونهب الثروة الأرضية بلا حساب مما أدى بدوره إلى قلب توازن الطبيعة في كثير من الحقول. ومن يدري حتى الآن إن هدد الغاز المحبوس في العلب المملوءة تحت الضغط طبقة الأوزون في الجو مما سينتج داء السرطان في جلود البشر أجمع بتعرضهم لأشعة الشمس المكشوفة؟. وكذلك إن هددت السيول الجرارة من الكيماويات التي تلقي بها الصناعة في البحار تكوين البلانكتون مما يؤدي بدوره إلى انعدام الحياة في البحار وانعدام مصدر أكثر من نصف الأوكسجين المتوفر في العالم؟

اخترع الغرب علما جديدا Ecology علم التوازن الطبيعي ولكنه. وضع مقصدا آثما لهذا العلم البريء، هو: كيف يساعد الإنسان في استغلاله لقوى الطبيعة، فالإنسان الغربي مقمح على الاستغلال حتى بالعلم الذي وضعه هو لحمايته من الاستغلال. وهذا هو قمة التناقض.

ومع أننا لا ننكر المثالية التي يوحيها تقدم العلوم في إسعاد الإنسان نحن نعيب الغرب على تنمية الجشع في الإنسان إلى درجة التبذير. وللجشع والتبذير نتائج غير نهب الطبيعة واختلال التوازن، تلك هي اختلال التوازن في الإنسان بين طبيعته المادية وطبيعته المعنوية. أليس مسخا للإنسان أن تحدث الرجل الغربي عن القيم فيسألك عن الثمن؟ وتحدثه عن الآخر، فلا يفقه لها معنى سوى ميزان الأرباح والخسائر الذي سيقدمه في نهاية السنة لمحصل ضريبة الدخل؟

ومع أننا لا ننكر الإنجازات الهائلة التي حققها الغرب في تفجير طاقات بشرية هائلة كانت كامنة غير مستعملة وسيرها لإسعاده، نعيب عليه إشعال نيران الحروب والصراع الطبقي. فحروب الاستعمار شنت لفرض الاستعمار على الشعوب. وما زالت تشن للتخلص منه، لا تعرف لها نهاية. وحروب الطبقات شنت وما زالت إلى أن تبيد الطبقة الواحدة الأخرى. وهي كلها قائمة على التناقض. والتناقض قائم على خطأ المبادئ الأساسية لنظرية العلاقات الإنسانية.

فلا يغرنا أن تطبيق المبادئ الخاطئة أنجز إنجازات كبرى من مفاخرها المساواة بين الأفراد وإخضاع السلطان السياسي لحكمة المحكومين وانتقال السلطة –الخادمة وليست المخدومة- من يد إلى يد دون عنف مادي ظاهر. بل نعترف: بأن إسلامنا لم يحقق لنا خلال القرون الخمسة الماضية ما حققته هذه المبادئ الخاطئة. لكن ذلك لا يعود للإسلام ذاته بل لنقص في إسلام كل منا. على كل حال لا تغرنا إنجازات الغرب لأننا نعرف: أن كل ما أقيم على الفساد فهو فاسد وإن طال أجله. ومصير الحضارة الغربية المبينة على أساس الشك أصبح ظاهرا. الحضارة الغربية متصدعة، مقبلة على انهيار تام كما يقول عظماء مفكريها مثل (طوينبي) (ماكنيل) (فان لفين) لا لضعف قوتها بل الفساد أساسها. وهذا (وليم ماكنيل) رئيس دائرة التاريخ في جامعة شيكاغو وابن العلامة اللاهوتي الشهير يقول في نهاية كتابه The Rise of the West ازدهار الحضارة الغربية: “إن الحضارة الغربية اليوم، وفي الطور الأخير من أطوار حياتها، لأشبه بالضبع الذي بلغ في فراسته وانتهاكه لكل ما هو معنوي، واعتدائه على تراث السلف، على كل مقدس ومحرم، لأشبه بالضبع الذي أغاص مخالبه في أمعائه فانتزعها من مكانها وأخذ يفترسها ويعضها ويلوكها بين فكيه بمنتهى البغض والغيظ والتشفي”.

الإسلام والعلاقات الإنسانية:

سؤال يوجهنا: والآن، أن يصلح لنا الغرب مثالا نقتدي به، فبماذا نقتدي؟

الجواب: نقتدي بإسلامنا، الذي اقتدى به أسلافنا فسعدوا وأسعدوا. نقتدي لا بتطبيق المسلمين خلال قرون الوهن والتأخر، بل بتطبيق المسلمين في صدور الإسلام، في فجره وضحاه.

نقتدي بفحوى الإسلام، التي هي فوق نسبيات كل زمان ومكان نقتدي بالتوحيد، أي بأن: لا إله إلا الله، دينا وثقافة، شرعة ومنهاجا. نقتدي بالتوحيد قانونا معرفيا وجماليا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا.

فما هي المبادئ التي تتفرع من التوحيد والتي تقوم عليها العلاقات بين البشر:

1- الظاهرة الطبيعية حقيقة لا تنكر قط. لكنها ليست كل ما في الوجود. فالوجود ليس كله مادة محسوسة خاضعة لقوانين المعرفة الحسية: هنالك ملكوت واسع من الظواهر المعنوية. فالقيم لا تحس ولكنها موجودة بوجود أقوى وأغنى من وجود الأشياء. فهي فاعلة محركة بينما الأشياء والطبيعة جامدة محركة. وليس صحيحا: أن القيم لا تعرف يقينا. بل إن لها علم لا يقل شأنه عن العلوم الطبيعية: له ضوابطه ومنهجه، وله أحكامه وله تاريخ حافل طويل.

مسخ الغرب الوجود إلى طبيعة محسوسة فحسب على أثر محاربته للكنسية وما فرضه عليه تعسفا من مبادئ لاهوتية مناهضة للعقل ومبادئ أخلاقية مناهضة للطبيعة. فأله الغرب الطبيعة تماما كما ألهت الكنيسة نفسها. أما في التوحيد: فلا كنيسة نحاربها، ولا مناهضة للطبيعة نداويها بدائها. بل تعقل وايجابية وتقدير للطبيعة وإحساس فطري بالحقائق المعنوية والقيم.

2- أن رغبات الإنسان لأحوج ظواهر الطبيعة إلى الانقياد بالقيم المعنوية لأنها أميلها إلى الطغيان، وإفساد نفسها بنفسها كلما تعدت الحدود التي ترسمها لها القيم. لذلك، يوجب التوحيد علينا: أن نلجم رغباتنا بلجام القيم، وأن لا نشبعها إلا بعد التأكد من أن إشباعها المطلوب لا ينتهك قيمة ولا يتعدى حدا. فالشريعة ليست إلا تطبيق القيم على الظواهر الطبيعية. وهي حقة وصادقة مرتين: مرة بالتنزل ومرة بالفعل. فهي تعرف يقينا، ولذلك هي خير معيار لكل شيء.

وليست الطبيعة شرا كما ادعت المسيحية، بل خيرا. فالشر لا يكمن فيها، بل في استعمالها. لذلك بارك الله لنا فيها، وأوصانا بعدم الغلو فيها. وهذه هي فحوى الروحانية: إلا أن يتجرد الإنسان عن المادة، بل أن يطلبها ضمن قوانين وحدود مستمدة من ملكوت القيم. فليست السعادة الإسلامية سعادة إشباع رغبات، بل سعادة تحقيق الذات كلها من رغبة طبيعية، وشوق روحي. وهذا الانقياد للقيم لا ينطبق على الفرد فحسب، بل على الجماعة أيضا. فلا سلطان للجماعة على الفرد إلا بحق، ولا علاقة بين الجماعة والجماعات الأخرى إلا خاضعة لشريعة القيم. فلا حرب ولا سلام ولا استقرار ولا استئمان إلا بحق. فرفاهية الجماعة حق، لكنها لا تحقق على حساب الجماعات الأخرى، ولا تنهب الطبيعة وتغتصب في سبيلها، لأن الله هو خالقها وسيده، وهو سخرها لنا ضمن حدود القيم. فلا سيطرة للإنسان على الطبيعة ولا تنافس عليها مع أخيه الإنسان. إنما استثمار للطبيعة بتعاون الإنسان مع أخيه الإنسان وبالتواصي والتآخي والمعروف.

2- كيف يتصور التوحيد رجله؟

يتصور الغرب رجله كقلعة محاطة بسور ضخم وأبراج مدججة بالمدافع إذا جاءها خارجي، تصدرت له بالمدافع. فإن استسلم لها فتحت له الباب وأدخلته إلى حظيرتها، وإلا أفنته. ذلك أن قانونها لا ينبع إلا من ذاتها. وذاتها هي رغباتها. تحقيقها –أي الرغبات- استقلال وسعادة؛ وتدخل الخارجي فيها اعتداء. والحرية هي تمتع هذه القلعة بانعزالها عن القلعات الأخرى إلا ما انصاع إليها ووقع تحت سيطرتها سواء أكان طبيعة أم بشرا أم جماعة؟ ويتصور التوحيد رجله بأنه حصن مفتوح الجوانب على العالم أجمع. يصدر إشعاعه في كل اتجاه. فمن انتفع به أصبح قريبا له. واجب التعاون معه ومساعدته كي يكون هو حصنا مشعا آخر. ومن لم ينتفع بإشعاعه، لا يعزل بل يلاحق إلى أن ينتفع. ورجل التوحيد مقيد بالقيم الصادرة عن توحيده، يصوم ويفطر، يتزوج وينعم، يصلي ويجاهد، يناجي ربه ويبني مدنا وصناعة، سعيد في الدنيا والآخرة، في ذاته وفي الآخرين، في بني قومه وفي الغرباء عنه.

ويتصور الغرب رجله في علاقاته بغيره بأنها شر لازم، لأن الأصل في العلاقة استقلال الذات. لذلك يرى الغرب أن لا بد للإنسان إذا ما فرضت عليه العلاقات مع الآخرين، أن يوازن بين مصلحته ومصالحهم المتضاربة. وهذه هي فلسفة التربية السائدة في الغرب Education as adjustment. فعلى المربي أن يجعل المربي مختبرا لتعديات الآخرين كي يعدل استراتيجيته في تحقيق رغباته بما يحميه من تلك التعديات ويعفيه من التصديات. فالسلام عنده –كما هو عند كسينجر- ليس إلا توازن القوى Balance of Powers

بينما يتصور التوحيد رجله في علاقاته بغيره بأنه يتحرك وينفعل معهم، لا ليحدث لنفسه التعديلات اللازمة (لأن نفسه معدلة بالتوحيد) بل لكي يحدث في غيره ايجابيا. فيقلب أوضاع الغير من جوع إلى شبع، ومن جهل إلى علم ومن عدم أمن إلى طمأنينة، ومن بشاعة إلى جمال. وكذلك الحكومة الإسلامية فخي بخلاف الحكومة الليبرالية التي تؤثر أقل فأقل، تؤثر في رعاياها وفي الأمم الأخرى أكثر فأكثر –لكن إلى الأحسن، إلى الأحسن الذي يحقق القيم أكثر فأكثر. فمفخرة الغرب بالحكومة التي تحرص على عدم التدخل في شئون رعاياها –إلا ما تعرض منها لعنف مادي ظاهر- تقابلها وتعلو عليها مفخرة التوحيد بالحكومة التي تحرص على التدخل لتحمل رعاياها إلى لجنة على أكتافها على حد تعبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخيرا يتصور الغرب رجله بأنه المبدع الذي يصدر الجمال عن ذاته، فما الجمال إلا تعبير الإنسان عن ذاته، عن طبيعته ورغباته وطموحه وآلامه وشقائه وأحلامه. فهي الإلهة، كما عرفها الإغريق القدماء من قبل، وعرفها الغرب منذ عصر النهضة.

بينما يتصور التوحيد رجله بأنه المكتشف، لا المبدع. واكتشافه هو اكتشاف المعاني الكامنة في القيم، الأبعاد المترتبة في أوامر الله، السنن القائمة في المخلوقات كلها، وهو في اكتشافاته لها لا يرجو إلا لقاء ربه. فالرؤيا هي هدفه، لا ذاته. منها ينبع الجمال كله. ولها تصبو نفسه.

يهيج الغربي عند يقينه بأن لا اله إلا هو، بطبيعته ورغباته فيندفع إلى تحقيقها ليؤكد لنفسه أنه ليس ما قالت عنه المسيحية، بل هو القادر على كل شيء لأن كل ما فيه الهي. بهذه الرؤيا يتفجر الغربي نشاطا وعزيمة للسطو على الدنيا. ويبقى هيجان إلى أن يتحطم على صخرة التناقض، على أنغام فاجنر.

ويهيج المسلم الموحد عند يقينه بأن لا اله إلا الله، وبأنه خليفة الله في الأرض ليحقق إرادة الله وأمره في البشر أجمع، لا إكراها وقهرا وسطوا بل إقناعا وفضحا وتعاونا وصبرا. فإذا غاب عنه اليقين أو غطته الغيوم، رقد وجمد وتدهور فأصبح فريسة لغيره.

إلا أنه لن يتحطم أبدا. قد تمضي عليه القرون وهو في سبات عميق لا يرى شمس التوحيد خلف الغشاوة السميكة فوق عينيه. ولكن سرعان ما تنقشع الغيوم، ويشرق التوحيد أمامه. فيعود له يقينه، وتعود له رؤياه. عندئذ ينفض رجل التوحيد من جديد، ويبعث خليفة لله في أرضه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر