أبحاث

القيم في المنظومة الإسلامية

Values in the Islamic System - العدد 172 /173

مقدمة:

يبدو سؤال القيم من الأسئلة ذات الراهنية المزمنة والدائمة بحكم ارتباطه بعدد من القضايا المستجدة التي تجعله دائماً موضوع الطرح وإعادة الطرح. ومن بين تلك القضايا المستجدة التي يفرزها البحث العلمي في حقل القيم من جهة، وتطور المجتمعات الإنسانية من جهة ثانية: علاقة الدين بالقيم. والمقصود بهذه العلاقة إثارة قضية التأثير والتأثر بين الدين باعتباره منظومة ذات أسس اعتقادية، ومضامين تعبدية، وحمولات أخلاقية وبين القيم باعتبارها مجالاً للنظر العقلي والبحث الفلسفي. ثم يأتي بعد ذلك سؤال الكونية والخصوصية في المجال القيمي، هذا السؤال الذي يمكن صياغته بعبارة أكثر دقة بالقول: هل القيم مطلقة في كل المجتمعات وعبر كل الأزمنة أم أن هناك جانباً من النسبية فيها يستدعي التوقف عند كل نظام قيمي باعتباره منتجاً لتجربة إنسانية خاصة مشروطة بمعطيات الزمان والمكان والإنسان؟

لقد تعددت الأجوبة عن تلك الأسئلة تبعاً لتعدد المرجعيات والمنطلقات الفكرية والإيديولوجية. فبين من يرفع شعار الكونية ويدعو إلى اعتبارها في المجال القيمي والحقوقي، وتبعاً لذلك ينادي بمحو كل ما له علاقة بالخصوصية الثقافية أياً كان مستقرها ومستودعها. وبين من يرفع شعار الخصوصية مبيناً زيف دعوى الكونية وأنها ليست سوى تجل لنموذج ثقافي غربي يسعى لبسط سلطانه واكتساح ثقافات الشعوب المغلوبة.

وأياً ما كان الأمر والموقف فإن هناك إشكالات عدة ينبغي أن تكون موضع اهتمام الباحث وهو يقارب موضوع القيم. ومن أهم تلك الإشكالات: سؤال تأسيس القيم. والمقصود به تحديد المرجعية التي يُستند إليها في تقرير القيم وتحديد معياريتها، هل الأمر يتعلق بالعقل الإنساني أم بالإرادة الإلهية باعتبارها المحددة لما يصلح للإنسان في عالم الغيب والشهادة؟ هذا السؤال الذي يقع في قلب ما يعرف بالمشكلة الأخلاقية، التي تعد أهم المشاكل في فلسفة القيم، يمكن صياغته بشكل أكثر إجرائية عندما نتساءل: على أي معيار نستند عندما نحكم على هذا السلوك أو ذلك بأنه خير أو شر، حسن أو قبيح؟([1]) ويدخل في صلب إشكالات التأسيس الحديث إمكانية التعارض أو التعايش بين مرجعيتي العقل والشرع في الإجابة عن هذا السؤال الذي تتجاذبه المرجعيتان، شأنه في ذلك شأن عدد من الأسئلة المعرفية والاعتقادية التي تَحَدث فيها علماء الإسلام وصاغوا فيها قوانين لدرء التعارض متى كان متصوراً أو موجوداً.

بعد سؤال التأسيس يبرز سؤال المناسبة، والمقصود به: هل القيم الدينية تتناسب وتتلاءم مع القيم الكونية؟ هذا السؤال الذي يطرح بإلحاح وشدة في عصرنا الحاضر كلما تعلق الأمر بأحكام أو قضايا يختلط فيها ما يوصف بأنه كوني بما هو خصوصي يعكس هوية وثقافة المجتمعات بروافدها المختلفة التي يعد الدين من بين مكوناتها الأساسية. ويزيد من أهمية هذا السؤال ما تفرضه الممارسات الاتفاقية التي تقوم بها الدول في إطار القانون الدولي والتي قد تتضمن أحياناً مضامين حقوقية ذات خلفية قيمية يُصرَح بأنها تسمو على التشريعات الوطنية في عدد من الدساتير.

بعد الإجابة عن السؤالين لا بد من تقديم نماذج لبعض الاجتهادات التي حاولت حصر القيم الإسلامية في قيم عليا مرجعية تستند إليها باقي القيم الفرعية التي توجه السلوك وتحدد الاختيار بالنسبة للأفراد والجماعات في الحياة اليومية. وذلك باعتبار القيم بناء يخضع للتراتبية ويستهدف تقديم محددات لرؤية العالم واستشراف المطلق، كما أنها تعكس روح المجتمع وثقافته. وبناء على ما تقدم ستنتظم هذه الورقة في مطلبين اثنين كما هو موضح فيما يلي:

  • المطلب الأول/ منظومة القيم الإسلامية: التأسيس والمناسبة
  • المطلب الثاني/ منظومة القيم المرجعية العليا الإسلامية

 

المطلب الأول: القيم في المنظومة الإسلامية: التأسيس والمناسبة

قبل الشروع في فحص سؤال التأسيس والمناسبة لا بد أولاً من تعريف القيم بصفة عامة ثم القيم الإسلامية بصفة خاصة. لقد عرفت القيم بتعاريف متعددة تبعاً لاختلاف المجالات المعرفية التي تهتم بها. فالقيم موضوع تتقاطع فيه تخصصات أكاديمية متعددة مثل: الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلوم التربية، وعلم السياسة، والدراسات الشرعية… بل وحتى بعض التخصصات العلمية من خلال الحديث عن أخلاقيات المهنة وأدبيات البحث العلمي.

عموماً نجد أن الجانب اللغوي من هذه الكلمة مشتق من فعل قوَّم الذي يشير في اللغة العربية إلى معانٍ منها: قوَّمْتُ الشَّيء تقويماً‏، وأصلُه أنَّك تُقيم هذا مكانَ ذاك‏.‏ ومنه هذا قِوام الدين والحقّ، أي به يقوم‏‏([2]). واصطلاحاً نجد أن من أوفق التعريفات التي تمَكّن صاحبها من ذكر ما تفرق في غيره من التعاريف ما ذكره الدكتور مهدي عبد الحليم حينما قال: “القيم معايير عقلية ووجدانية، تستند إلى مرجعية حضارية، تمكن صاحبها ………

 

——————————————————————————————-

([1]) الجابري، محمد عابد. العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 2001 م، ص 101.

([2]) ابن فارس، أبو الحسين أحمد، مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر، 1399هـ/ 1979م، ج 5 ص 43.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر